مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني

مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني22%

مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني مؤلف:
تصنيف: أديان وفرق
الصفحات: 174

مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني
  • البداية
  • السابق
  • 174 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 65187 / تحميل: 8177
الحجم الحجم الحجم
مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني

مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

في هذه العجالة لتحليل ذلك، نعم نتوقف عند الفرض الثالث، لأنه الفرض المقبول اجمالاً في أذهان كثير من المتأثرين بالداروينية، وذلك لنبحث مدى صحة نظرية دارون الاحيائية.

- ٣ -

ملخص نظر دارون في علم الاحياء:

إن الأنواع الحية بما فيها الانسان ترجع إلى كائن حي وحيد الخلية. حدثت في داخل هذا الكائن تغيرات نوعية بشكل بالطفرات أوجبت انقسامه إلى أنواع بعد أن كان وحيد النوع. وهذه الطفرات لا تتم بتوجيه وقصد، وإنما تتم صدفة يحصل صراع - وفقاً لقانون تنازع البقاء - بين الأنواع التي زودتها الطفرة الصدفة بكفاءات نوعية جديدة، وبين تلك التي لم تحظ بذلك، وبحكم قانون بقاء الأصلح تبيد هذه الأنواع أمام الانواع المزودة بالطفرات. وهذه التغيرات المكتسبة بالطفرات الصدفة لا بد من افتراض أنها قابلة للتوريث إلى الاعقاب، وهكذا ينشأ جيل جديد ورث الخصائص النوعية المميزة عن اسلافه. وتستمر الطفرات في الحدوث صدفة ويستمر قانون الوراثة في عمله. ويستمر قانونا تنازع البقاء وبقاء الأصلح في عملهما وتستمر التطورات من خلال ذلك، حتى يصل بنا المطاف إلى الانواع الحية السائدة الان، ومن بينها الانسان، قمة هذه العملية التطورية.

هذا ملخص لنظرية دارون في اكمل صورها، بعد كثير من الاصلاحات التي اضافها خلفاء دارون إليها. فهل هي علم يقيني تماثل أن ٢ + ٢ = ٤ ؟

٨١

كلا، إنها في غالبها ظنون واحتمالات وفرضيات صنفت لأجل تكوين صورة عن عملية التطور التي لا شك فيها إجمالاً، والتي لا تختص بالأنواع الحية وحدها وإنما تشمل الجماد والنبات والحيوان. فعلينا أن نميز بين أصل مسألة التطور وهي قضية مسلمة إجمالاً وبين تفاصيلها كما شرحها دارون وخلفاؤه وهي لا تعدو أن تكون مجموعة من الظنون والاحتمالات، ولا ترقى الى مرتبة العلم واليقين.

والمناقشات التي تدور حول النظرية تكشف عن ضعفها، وعدم تماسكها:

أولاً: لماذا تحدث الطفرة؟ يجيب الداروينيون: انها تحدث صدفة.

ولكن هذا التعليل غير مقنع. إن الطفرة ظاهرة طبيعية لا بد لها من أسباب، فما هي أسبابها؟ لا ندري!!، إذن تعليلنا للتغير النوعي الذي يحدث بأنه طفرة حدثت صدفة، لا يعني اكثر من أننا نجهل سبب التغيير النوعي. وإلا فإذا كانت الصدفة وحدها كافية - علمياً - لتفسير النوع الحيواني فلماذا لا نفسر الظواهر الطبيعية الاخرى بالصدفة ايضاً؟ وإذا كان التعليل بالصدفة يكفي علمياً فلماذا نرفض فكرة أن السلالة البشرية الموجودة الآن تناسلت من أبوين وجدا صدفة، ولم يتسلسلا من نوع اخر؟.

الحقيقة أن التمسك بالصدفة لا يعني شيئاً اكثر من أننا نجهل السبب في حدوث التنوع الحيواني. وهكذا تختفي السمة العلمية من النظرية لتعوذ بالالفاظ التي تخفي عجزها عن البيان العلمي المقنع ثم ما هي الصدفة؟

٨٢

هل في الكون صدفة؟ إن للصدفة قانوناً معينا يكشف لنا عن استحالة تعليل نشوء جزيء واحد من البروتين من المركبات الاساسية في جميع الخلايا الحية - إن العالم الرياضي السويسري (تشارلز يوجين جاي) قام بحساب الفرصة التي يمكن أن تتاح لتكوين جزيء واحد من البروتين صدفة فوجد أنها بنسبة(١) إلى (١٠ ١٦٠) أي بنسبة رقم واحد إلى عشرة مضروباً في نفسه (١٦٠) مرة، وهو رقم لا يمكن النطق به والتعبير عنه بالكلمات. وينبغي أن تكون كمية المادة اللازمة لحدوث هذا التفاعل لينتج جزيء واحد من البروتين صدفة اكثر مما يتسع له هذا الكون بملايين المرات. ويجب أن يستمر هذا التفاعل بلايين من السنين قدرها العالم المذكور بأنها عشرة مضروبة في نفسها (٢٤٣) (١٠ ٢٤٣) من السنين. كل هذا لانتاج جزيء واحد من البروتين صدفة فإذا قلنا أن التنوع الحيواني في الكون ناشيء عن طريق الصدفة نصل إلى الصفر، أي أن قيمة الاحتمال أو الصدفة تساوي الصفر أي تساوي المحال الرياضي.

ومع ذلك يقول الداروينيون إن النوع الحيواني في الكون وجد صدفة!!

ثم ان هذه التغيرات التي يسميها الداروينيون طفرات، ما الدليل على أنها نقلت كائناً حياً من حالة نوعية إلى حالة نوعية أُخرى؟ لا دليل، إنه مجرد افتراض لا غير، فلم تستطع جميع العلوم التي استعانت بها الداروينية أن تثبت بصورة علمية لا تقبل الشك حلقات الاتصال بين نوع حيواني ونوع آخر.

ان التغيرات موجودة بلا شك، وتدل على تطور في الكفاءات،

٨٣

ولكن في داخل كل نوع، ولاتدل أبداً على الانتقال بسببها من حالة نوعية إلى حالة نوعية أُخرى.

ثانياً - ننتقل إلى مشكلة توريث الصفات المكتسبة بواسطة الطفرات، دون الصفات المكتسبة الاخرى التي ثبت علمياً عدم قابليتها للتوارث. بأي تعليل علمي مقبول نعلل هذا الافتراض الذي يشكل العمود الفقري للنظرية - إلى جانب حكاية الطفرة الصدفة لقد فشل دارون وخلفاؤه في اعداد جواب علمي مقبول وكاف على هذا السؤال. أما علم الوراثة فقد اثبت ان مرد جميع الصفات الوراثية إلى الجينات التي تحويها خلايا التناسل. وقد أوضح العلم أن الجينات لم تشتق من خلايا جسمية بل من «جرمبلازم» الوالدين فالأجداد، وهكذا وعلى هذا الضوء أثبت علم الوراثة بعد التمييز بين الخلايا الجسمية والخلايا التناسلية ان الصفات المكتسبة لاتورث. وهكذا تنهار الداروينية، من هنا لتلجأ إلى فرضية التنوع عن طريق الطفرات، وقد عرفنا قيمة هذه الفرضية آنفاً.

وهكذا تبقى الداروينية - مجرد فرضية لم يحالفها التوفيق.

ثالثاً: نساير الداروينية فنقول: لقد وصل التطور إلى قمته متمثلاً بالعقل الانساني، فكيف حدث ذلك؟ ما هو العقل؟ وما هو سره العجيب؟

إن العلم الحديث لا يعرف شيئاً عن طبيعة العقل. والداروينية كغيرها من الفرضيات عاجزة عن تقديم تفسير لنشأة العقل الانساني المدهش.

هل تفرض الداروينية ان العقل تطور من تطورات المادة نشأ بواسطة

٨٤

الطفرات الصدفة وتنازع البقاء وبقاء الاصلح والتوريث؟..الحق أن أشد مذاهب علم النفس غلواً في المادية «المذهب السلوكي» حاول الجواب وفشل بشكل فاضح.

الخلاصة: إن الداروينية عاجزة عن إثبات دعواها إنها ذات نتائج احتمالية مبنية على مقدمات احتمالية، فهل يصح أن نعتبرها علماً، وان نتخذها سنداً في نقد الافكار الدينية؟ وهل نكون أُمناء حين نسمي الظنون والاحتمالات علماً(١) .

إن الدكتور العظم وقع في الخطأ حين أصدر أحكاماً جازمة مبنية على ما أسماه علماً، وما هو بعلم إن هو إلا ظن واحتمال والظن لا يغني من الحق شيئاً، وندرك مدى خطأه حين يهاجم العقائد مستنداً على هذه النظرية ويهاجم الموفقين بين العلم والدين الذين يرفضون هذه النظرية. انظر ص ٤٢ ، ٤٣ من الكتاب.

____________________

(١) نشرت صحيفة الأهرام القاهرية في عددها الصادر يوم الاربعاء ٢ شوال سنة ١٣٩٢ هجري - ٨ نوفمبر (تشرين الثاني) ١٩٧٢ م ، الخبر التالي:

واشنطن، في ٧ - ١ - ٧٢ وكالات الانباء:

أعلن ريتشار دليكي، أحد علماء الانثروبولوجيا - علم الانسان - في كينيا، أنه تم اكتشاف بقايا جمجمة يرجع تاريخها الى مليونين ونصف مليون عام، ويعد أقدم أثر من نوعه للانسان الأول. وقال العالم: ان هذا الاكتشاف يمتد في أثره مليوناً ونصف مليون عام عن أقدم أثر يمكن العثور عليه حتى الآن. وقد تم اكتشاف عظام الجمجمة مع عظام لساق بشرية ترجع إلى نفس الحقبة من التاريخ في جبل حجري بصحراء تقع شرق بحيرة رودلفا في كينيا.

وقال العالم: ان هذا الأثريمكن أن يقلب النظريات القائمة بشأن تطور الانسان عن أجداده فيما قبل التاريخ، وكيف ومتى تم. =

٨٥

____________________

= وقد قدم ريتشارد، (وهو مدير المتحف البريطاني في كينيا) تقريراً عن اكتشافه إلى الجمعية الجغرافية في واشنطن، وقال فيه:

إن نظريات التطور الحالية - وعلى رأسها نظرية دارون - تفيد أن الانسان تطور من مخلوق بدائي كانت له سمات بدنية شبيهة بسمات القرود. وان اقدم اثر للانسان كمخلوق منتصب يسير على رجليه وله مخ كبير يرجع الى نحو مليون سنة، في حين ان الاكتشاف الجديد يدل على أن المخلوق الانساني المنتصب في الساقين لم يتطور عن المخلوق البدائي الذي يشبه القرد، بل كان يعاصره منذ أكثر من مليون ونصف مليون عام، وإنه يمكن على هذا الاعتبار استبعاد المخلوق البدائي الأول على اساس ان الانسان انحدر من سلالته وذكرت الجمعية الجغرافية في تعليقها:

«ان نظرية ليكي تقوم على أساس أن المخلوق البدائي الأول، واسمه العلمي (أوسترالو بيتشيكوس) - وكان اساساً من أكلة النباتات - قد وصل الى مرحلة تطورية مسدودة، بينما استطاع الانسان الذي استعمل اللحم في غذائه، وتمكن من صناعة الادوات الحجرية أن يبقى على قيد الحياة.

وأكد ليكي في تقريره أنه أمكن إعادة بناء جمجمة من شظايا العظام التي عثر عليها، وأنه بالرغم من أن هذه الجمجمة لا تشبه جماجم الجنس البشري المعروف حالياً إلا أنها تختلف كذلك عن جميع اشكال الجماجم التي عثر عليها للانسان الأول، ولذلك لا تتفق مع أي نظرية حالية من تطور الانسان»

وفي ١١ - ٣ - ١٩٧٣ نشرت جريدة الأخبار القاهرية في صفحتها الثالثة تحت عنوان «انتكاسة نظرية الارتقاء» ما يأتي للاستاذ ظفر الاسلام خان - الهندي: «تعرضت نظرية الارتقاء لهزة عنيفة في اوائل الشهر الحالي حين قرر المجلس التعليمي الحكومي بولاية كاليفورنيا الامريكية بأن تشير جميع الكتب المدرسية للعلوم الى نظرية الارتقاء الداروينية بأنها «نظرية افتراضية وليست حقيقية» وجاء في قرار المجلس التعليمي للولاية: «ان ما يمكن معرفته عن اصول الحياة لا يعدو أن يكون مجرد افتراض ذكي - على اكثر تقدير -» وأمر المجلس «باستخدام تعديل على العقائد النظرية المسلم بها الى بيانات قابلة للتعديل وفقاً للظروف».

أوردت هذا الخبر مجلة (الايكونومست) الاسبوعية البريطانية في عددها الصادر في ١٠ مارس سنة ١٩٧٣ نقلنا هذين الخبرين عن الاستاذ الدكتور عبد اللنعم النمر مدير البحوث الاسلامية في الازهر الشريف (خواطر من الدين والحياة) الطبعة الاولى ١٩٧٣ م - دار الكتاب اللبناني - بيروت - لبنان ص ٢١٠ - ٢١٢.

٨٦

الجن والملائكة وابحاث أخرى (الجن والملائكة)

ثمة حقائق أثبتها الوحي ولا سبيل إلى العلم بها عن طريق الحس والتجربة، وهي الحقائق الغيبية. إن الملائكة والجن وابليس والجنة والنار وما إليها ليست أساطير كما يقول المؤلف.

هل النظرة العلمية التجريبية الحسية تنفي وجود هذه الكائنات؟ أو ان الحس والتجربة لم تكتشف هذه الكائنات؟ إن التعبير الصحيح هو الثاني، ولم يقل أحد ان هذه الأشياء يمكن اكتشافها في المختبر، لسبب بسيط جداً، وهو انها خارجة عن نطاق التجربة الحسية. فالرجوع إلى النظرة العلمية الحسية للحكم على ما هو خارج عن نطاقها مسلك غير علمي، ولا ينفي عدم قدرة الحس والتجربة على ملامسة هذه الأشياء ان تكون هذه الأشياء حقيقة أيضاً كالأشياء الحسية.

إن الوحي الصادق الذي ثبت بالبرهان القاطع هو طريقنا إلى العلم بهذه الامور، فاننا إذا آمنا بالعلة الاولى للكون، وهي اللّه. وآمنا بالنبوة والوحي فلا بد لنا من الايمان بالحقائق الغيبية التي اخبرنا الوحي عنها.

٨٧

إننا حين نؤمن بأن شيئاً ما مصدر للمعرفة، فلا بد لنا من الايمان بالمعرفة التي تأتينا من هذا المصدر.

وإذن فالايمان بهذه الامور فرع للايمان بظاهرة الوحي، ومن لا يؤمن بالوحي لا معنى للكلام معه في الفرع وهو ينكر الأصل، وإذا آمنا بالوحي فمن المنطقي حينئذٍ الايمان بالغيب الذي جاء عن طريق الوحي.

والدكتور العظم وامثاله من الماديين الماركسيين وغيرهم حين يردون الكون وظواهره إلى اصل غير معروف وغير معقول، وحين يلوذون بحكاية الصدفة إذا حوصروا واعوزتهم الحجة المقنعة - هؤلاء ايضاً يؤمنون بالغيب الذي يعتقد بمثله المؤمنون بالاديان، فلماذا يكون غيب الماديين حقاً وغيب المؤمنين بالاديان باطلاً؟ مع أن غيب المؤمنين اكثر عقلانية وانسجاماً مع المنطق السليم.

***

من هنا يتضح لنا أن سخرية المؤلف في (٣٧ - ٣٨) لامعنى لها فليس المراد من النص الذي اختاره المؤلف أن بالامكان اكتشاف موجات ضوئية جنِّية وملائكية، وإنما المراد هو أن ثمة عوالم غير منظورة كثيرة وراء عالمنا، فعدم اطلاعنا على تلك العوالم وتركيبها لا ينفي وجود كائنات غير منظورة وذات طبيعة غير إنسانية فيها - وهذا معنى معقول صحيح لا وجه للسخرية منه.

***

النظرة الغائية

وهذا ينقلنا إلى مناقشة المؤلف للنظرة الغائية إلى الكون. إن المؤلف ينفي القصد والغاية من النظام الكوني. إنه نظام وجد صدفة، نعم صدفة، ووجد بهذا الشكل من النظام الدقيق المحكم المتناسق صدفة.

لا يأبى عقل الدكتور «العلمي» أن يؤمن بالصدفة في كل النظام الدقيق الشامل الذي يسيطر على كل ظواهر الطبيعة ويأبى عقله التصديق بالوحي وبالحقائق الغيبية الآتية عن طريق الوحي.

نعود إلى النظرة الغائية. إن النظام الدقيق المحكم الذي يسيطر على الكون يكشف عن القصد والغاية التي تقود الكون نحو النمو والتكامل. إن المؤلف قد نفى هذه النظرة بكلام خطابي عن العلم وعدم إدراكه للغاية والقصد مع قائمة بأسماء علماء الطبيعة والرياضيات (ص - ٣٨ ٣٩).

٨٨

وقد فات الدكتور انه لا منافاة بين النظرة الغائية وبين العلم. إن وظيفة العلم وظيفة وصفية، العلم لا يفسر ولا يفلسف، العلم يحلل ويصف فقط، أما التفسير، اما إدراك المعنى الكامن ولاء الظاهرة الطبيعية، فهو من شأن الفلسفة، من شأن العقل المفكر الواعي، وليس من شأن أنابيب الاختبار وأفران الصهر. إن العلم يستطيع أن يحلل التفاحة إلى عناصرها الأساسية، ويصفها، ولكنه لا يستطيع أن يقول لنا انها جملية أو غير جميلة، لذيذة أو غير لذيذة، فلذلك شأن يتعلق بقوى إدراكية لدى الانسان لا علاقة للعلم التجريبي بها.

***

تدخل القدرة الإلهية في عمل الطبيعة

اعترض المؤلف على قوله تعالى في سورة المؤمن:

( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسانَ من سُلالَةٍ من طين. ثم جَعَلْنَاه نُطْفَةً في قرارٍ مَكين. ثم خَلَقْنَا النّطْفةَ عَلَقَةً. فخَلَقْنا العَلَقَةَ مُضْغَةً فخَلَقْنا المضغة عظاماً. فكسوْنا العظام لحماً. ثم انشأناهُ خلقاً آخر فتباركَ اللّه أحسَنُ الخالقين ) (١) .

اعترض بأن ما تدل عليه الآيات من تدخل الارادة الإلهية في عملية تكون الجنين ينافي ما يقرره علم الأجنة.

ونقول للمؤلف اننا بينا عند الحديث عن المسألة الإلهية ان إيماننا باللّه علةً أُولى للكون لا يعني أننا ننفي العلل الطبيعية من التأثير، كيف ذلك ونحن نشاهد بحسنا وندرك بعقولنا تدخل العلل الطبيعية وعملها؟ وانما يعني ان العلل المتصاعدة لا بد ان تنتهي إلى علة أُولى هي اللّه تعالى.

ونزيد البيان هنا فنقول:

إن الظاهرة تارة تكون خارقة للطبيعية «معجزة» وأُخرى تكون طبيعية. حين تكون الظاهرة خارقة للطبيعة ففي هذه الحالة تكون نتيجة للتدخل الإلهي المباشر. وأما حين تكون الظاهرة طبيعية فهي تتبع بصورة مباشرة أسبابها الطبيعية، ومن ذلك نمو الجنين في الرحم، فإنه تابع

____________________

(١) سورة المؤمن، الآيات: ١٢ - ١٤

٨٩

لأسبابه الطبيعية المباشرة، وإسناد عملية الخلق إلى اللّه في هذه الآيات، إنما هو باعتبار أن اللّه تعالى هو العلة الاولى والنهائية في سلسلة العلل المتصاعدة. فهو سبحانه وتعالى خلق الأسباب وجعل العلل وفقاً لهذا النظام الذي يحكم الكون كله.

***

تزوير وتناقض

يهاجم المؤلف (ص - ٤٢ - ٤٣) المسلمين الذين يرفضون نظرية دارون، ونظرية الحريات العامة في التاريخ كما بشرت بها الثورة الفرنسية، ونظرية فرويد والماركسية ويهاجمهم لأنهم يرفضون العلم في الوقت الذي يدعون ان الاسلام ينسجم مع العلم.

ونقول للمؤلف اننا قد بينا مدى «علمية» نظرية دارون آنفاً فهي ليست علماً بل ظن واحتمال لا يغني عن الحق شيئاً.

ونقول للمؤلف الماركسي: هل تقر عقيدتك الماركسية نظرية الحريات كما بشرت بها الثورة الفرنسية او ان الماركسية تستغل الحريات إلى أن يستولى اتباعها على السلطة فتخنق كل الحريات. هل يتاح لمسلم أن يهاجم الماركسية في دولة شيوعية كما هاجمت أنت الاسلام والمسيحية في كتابك موضوع البحث. هل توجد حريات في المجتمع الشيوعي؟

ونقول للمؤلف الماركسي هل تعترف الماركسية بنظرية فرويد التي قلت عنها (ص - ٤٣) «انها من أهم النتائج التي توصلت إليها البحوث العلمية

٩٠

في مجال الدراسات النفسية». نقول له: هل تقر الماركسية نظرية فرويد في أن المحرك الأساسي للانسان هو الغريزة الجنسية، وتنخلى الماركسية عن مبدئها الاساسي في ان العامل الاقتصادي هو العامل الوحيد في حركة الفرد والمجتمع؟

إن الماركسية ترفض نظرية فرويد فلماذا لا يجوز للمسلم أن يرفضها؟ أو إنها بالنسبة إلى الماركسي تكون سخافة وبالنسبة إلى المسلم تصير علماً..

وأما مدى ما في الماركسية من «علم» فنرجو ان تتاح لنا فرصة الحديث عنه مع المؤلف في الفصل الأخير من كتابه.

***

التوفيق التبريري

في الصفحات (٤٥ - ٥١) انتقد المؤلف المحاولات التي تبذل في الدول الإسلامية لتبرير اشكال الحكم القائمة في كل دولة. ونحن نقول للمؤلف إن الإسلام كدين ليس مسؤولاً عن هذه المحاولات، وإنما المسؤول هو الحكام الذين يريدون أن يبرروا أنفسهم، ومسؤولية المبررين.

وقد عرضنا لهذه المسألة في قسم سابق من حديثنا مع المؤلف، ونبهنا على تناقض المؤلف مع نفسه بين ما ذكره هنا وبين ما ذكره عن هذا الموضوع في ص - ٢٣ - ٢٤.

التوفيق التعسفي

في الصفحات (٥١ - ٥٧) ندد المؤلف بقسوة وسخرية عن

٩١

المحاولات الرامية إلى تقرير أن بعض المكتشفات العلمية الحديثة قد وردت في القرآن.

ونقول للمؤلف: ان المبدأ العام بالنسبة إلى هذه المسألة هو أن القرآن ليس كتاباً في العلوم، ولذا فليس المطلوب منه ان يتضمن مبادئ علوم الطبيعة وغيرها، وإنما هو كتاب هدى ونور، يقوّم السلوك الإنساني ويهديه سواء السبيل.

ولكن هذا المبدأ لا ينفي أبداً أن في القرآن آيات كثيرة تتضمن إشارات واضحة جداً إلى حقائق علمية كشف العلم عنها بصورة نهائية. ان الآيات التي أتحدث عنها لم تسق للتعبير عن الحقيقة العلمية بصورة مباشرة، وإنما سيقت للتعبير عن أغراض أُخرى تتعلق بالانسان وسلوكه، وقدرة اللّه الكلية ولكنها في طيات ذلك تومئ إلى الحقيقة العلمية. والملاحظة الأمينة المحايدة الواعية تكشف عن ذلك بوضوح. ولو كان المقام يتسع لذكر بعض الأمثلة لذكرتها.

إن السخرية التي يلجأ إليها المؤلف لنفي الآراء التي لا تعجبه لا تقوى على دفع هذه الحقيقة. لسنا مع أولئك المتحمسين الذين يريدون أن يجعلوا من القرآن موسوعة علمية، ولكننا أيضاً لانوافق المؤلف على نفيه القاطع.

التوفيق على الطريقة اللبنانية

في الصفحات (٥٧ - ٦٩) استعراض المؤلف المحاولات المبذولة لانشاء حوار إسلامي مسيحي في لبنان والعالم، واعتبرها ظاهرة من ظواهر

٩٢

التفكير المجامل في اذهان المسؤولين عن شؤون الفكر الديني عامة واهتماماتهم».

ونقول: لسنا مع الأب يواكيم مبارك وغيره ممن يرون ان يحصروا الحوار في «المقابلة اللاهوتية البحت» فذلك لا يجدي ولا يفيد.

المفروض انه يوجد إسلام ويوجد مسيحية، وانهما دينان متميزان فلا معنى للمطالبة بوحدتهما في كل شيء، وإلا لكانا ديناً واحداً. إن الحوار ينبغي أن يستهدف اكتشاف المبادئ الكبرى التي تجمعها، المبادئ الكبرى في السلوك وفي احترام الانسان، وفي تيسير حركة التقدم الانساني، والتعايش بين الامم والجماعات الثقافية والدينية المختلفة.

إن الاسلام منذ ظهوره منفتح على المسيحية والمسيحيين، وتاريخه خلال العصور أعظم شاهد على انفتاحه، والمسيحية من خلال تطور الكنيسة تحاول الانفتاح على الاسلام، ونأمل أن يترجم هذا الانفتاح إلى دعم جهود العالمين الاسلامي والعربي بصورة واضحة وصريحة في المسألة الفلسطينية(١) .

تناقض

بعد أن حارب المؤلف الدين من كل الوجوه، ونفى أُسسه على جميع المستويات، ابتداء من اكبر قضاياه «وجود اللّه» إلى أبسط قضية

____________________

(١) لاحظ بحثنا عن الحوار الاسلامي المسيحي الذي نشر بعد كتابة هذه المطارحات في جريدة السفير البيروتية في حلقتين الاولى في العدد ٧٠٨ الاثنين ١٤ ربيع الأول ١٣٩٦ هجري = ١٥ / ٣ / ١٩٧٦ بعنوان (تأملات في صيغة الحوار الاسلامي المسيحي - ازمة الحضارة ومشروع جديد للحوار والثانية في العدد ٧٠٩ الثلاثاء ١٦ / ٣ / ١٩٧٦ بعنوان (تأملات في صيغة الحوار الاسلامي المسيحي - آفاق جديدة لعلاقات الحوار بين الديانتين).

٩٣

دينية، بعد كل هذا عاد في ص ٧٨ إلى القول بأنه «لا يريد نسخ الشعور الديني في تجارب الانسان من الوجود».

ونتساءل: كيف لايعترف بوجود إله، ويرفض وجود عالم غيبي، ومع ذلك يريد بقاء الشعور الديني، من أين يأتي الشعور الديني اذا لم يكن ثمة إله؟

وهذا التناقض شبيه بما ذكره في أول كتابه في (ص ١٧) حيث فرق بين ظاهرتين للدين:

١ - كونه «ظاهرة روحية نقية وخالصة على نحو ما نجدها في حياة قلة ضئيلة من الناس» والدين بهذا الاعتبار ليس موضوعاً لنقد المؤلف.

٢ - كون الدين «قوة هائلة تدخل في صميم حياتنا، وتؤثر في جوهر بنياننا الفكري والنفسي» وهو بهذا الإعتبار موضوع لنقد المؤلف.

نتساءل أولاً:

لماذا أعفى الدين بالاعتبار الأول من نقده، هل ينسجم فكر المؤلف - وهو الماركسي اللينيني - مع الظاهرة التي يمثلها هؤلاء «القديسون والمتصوفون وبعض الفلاسفة» وهل تسير الحياة الروحية لهؤلاء الذين اعفاهم المؤلف من نقده إلا على أساس المفهوم الإلهي والروحي للكون؟ وهو مفهوم يرفضه المؤلف جملة وتفصيلاً.

ونتساءل ثانياً:

هل الدين بالاعتبار الثاني الذي جعله المؤلف موضوعاً لنقده إلا نتيجة لكونه ظاهرة روحية؟ وهل هو باعتباره ظاهرة روحية تبدو في حياة

٩٤

قلة ضئيلة إلا السبب الفاعل في الحياة الاجتماعية والفكرية لجماهير المعتنقين للدين؟

أَليست هذه القلة الضئيلة من الناس التي اعفاها المؤلف من نقده هي التي أغنت الدين بأفكارها وتأملاتها، وتَقَبّل المجتمع المتدين هذه الأفكار والتأملات فجعلها خميرة لثقافته وروحاً لحضارته.

ان هذه الملاحظة، وأمثالها كثير، تكشف لنا عن مدى تناقضات المؤلف.

وإلى اللقاء مع قصة المؤلف في قصة ابليس

قصة ابليس

يجب أن يكون القرآن هو المادة الأساسية للبحث في قصة إبليس الاسلامية، لأن القرآن الكريم هو المصدر الأصيل الذي لا يرقى إليه الشك حول ملامح هذه القصة من وجهة النظر الإسلامية.

وعلى هذا فيجب أن يكون القرآن هو المادة الأساسية للمؤلف في بحثه الذي كتبه عن إبليس. ولا يجوز - في منطق المنهج العلمي - اعتماد مصادر أُخرى غير موثوقة لهذه القصة، كما هو الشأن في كل بحث يتناول أية مسألة من مسائل المعرفة.

وإذن، فللبحث في قصة إبليس صلة بعلم التفسير، وعلم الفقه، وعلم أُصول الفقه: صلته بعلم التفسير من حيث انه يتناول نصاً قرآنياً، وصلته بعلم الفقه من حيث انه يتناول - في النص القرآني - تكليفاً شرعياً بالسجود، تعلق بمخلوق معين هو إبليس، وصلته بعلم اصول الفقه من حيث أنه (بحث المؤلف) يحتاج إلى معرفة بالمصطلحات الخاصة بعلم الفقه والأدلة الشرعية ليستطاع التوصل إلى فهمٍ صحيح للنص.

٩٥

الأمر التشريعي والأمر التكويني «كما سنبينه في الفقرة الثالثة» «وثانياً» انها تعبر عن افكار وتصورات متأثرة بعقائد غريبة عن الاسلام مستمدء من الافلاطونية الحديثة وغيرها. وعلى أي حال فهي ذات منابع غير إسلامية.

وأما الاحاديث المسماة «الاحاديث القدسية» فاغلبها غير اسلامي، وانما تسرب إلى التراث الاسلامي من مصادر هندية وفارسية ويونانية واسرائيلية ونصرانية، ولذا فلا يمكن اعتبارها معبرة عن وجهة النظر الاسلامية الصافية.

إن الذي يعبر عن النظرة الاسلامية - بعد القرآن - هو السنة النبوية الصحيحة التي تثبت للدراسة النقدية فيما يتعلق بالسند والمتن، والشكل والمضمون، أي لما نصطلح عليه بالنقد الخارجي والنقد الداخلي.

والعجيب من المؤلف، وهو يدعي في اكثر من موضع من كتابه تقديس العلم، ويشحن كتابه بالعبارات التي ينعى فيها على مخالفيه في الرأي أنهم لا يتبعون «المنهج العلمي» في كلامهم - من العجيب أنه هو بالذات يترك ابسط مقتضيات المنهج العلمي، وهو التأكد من المصادر التي يعتمد عليها.

مثلاً: من الصحيح أن نعتبر كتاب الطواسين معبراً عن وجهة نظر الحلاج بالذات في قصة ابليس، وذلك فيما إذا أردنا أن نكتب عن شخصية الحلاج وآرائه، وأما نعتبر آراء الحلاج هي آراء الاسلام، وفهم الحلاج هو وجهة النظر الاسلامية، فهذا خطأ كبير يدركه حتى

٩٦

الطلاب الذين يحضرون اطروحة الليسانس حين يرشدهم استاذهم المشرف إلى نوعية المصادر التي تصلح أن تكون مادة للدراسة المنوي انجازها.

٢ - الحرية الداخلية:

إن البحث الذي أداره المؤلف حول قصة ابليس يبتني على نظرية الجبر، وهي فكرة باطلة، وغير إسلامية. في الاسلام: المخلوق العاقل حر، وهو الذي يقرر بحريته واختياره التام موقفه من الاشياء والأحداث. وإرادة اللّه تأتي في مرحلة متأخرة عن اختيار العبد.

إن الفعل الانساني يتم انجازه نتيجة لاختيار المخلوق وحريته الداخلية مضافاً إليها - في مرحلة تالية إرادة اللّه، وذلك وفقاً للمعادلة التالية:

إرادة الانسان + إرادة اللّه - الفعل.

فالفعل مخلوق لارادة اللّه، ولكن ليس ابتداء‍ً، وإنما بعد أن يريده الانسان ويقرره بتمام حريته، فهو - الفعل - نتيجة لعامل الحرية - يتلوه تدخل الاراد ة الالهية في خلق الموقف الذي قرر الانسان اتخاذه.

هذا تبسيط لنظرية أهل البيت (ع) في مسألة حرية الانسان وعلاقتها بالارادة الالهية، وذلك في النص الوارد عنهم «لا جبر ولا تفويض ولكن امر بين الأمرين»، فالمخلوق ليس مجبراً، لاننا بوجداننا ندرك ما نتمتع به من حرية داخلية مطلقة، والمخلوق ليس مفوضاً لا دخل لارادة اللّه في خلق افعاله، وفي تسيير الكون، بل إرادة اللّه حاضرة دائماً، ولكن في مرحلة لاحقة على قرار العبد الذي يتخذه.

٩٧

إن الأمر التشريعي (أو النهي التشريعي) هما الأمر والنهي المتعلقان بأفعال العباد (الانسان والملائكة، الجن، ومنهم إبليس) وفعل العبد (أو تركه) منسوب إلي العبد حقيقة، فهو الذي يفعل، وهو الذي يترك، ويتمتع بالحرية المطلقة في إطاعة الأمر الإلهي والنهي الإلهي وعصيانهما. ولكن العبد عاجز عن خلق أفعاله بنفسه، فهو يمارس حريته بمعونة الارادة الإلهية، فاذا قرر العبد موقفاً معيناً من شيء (والعبد يمارس حرية مطلقة في اتخاذ قراره بدون تدخل للارادة الالهية) حينئذٍ - وبعد أن يتخذ العبد قراره يأتي دور الارادة الالهية في تحقيق قرار العبد باعانته على جعل قراره النظري نافذاً في الواقع. وبهذا يتأكد مبدأ الحرية، اذ بدون تحقيق ارادة العبد تبقى حريته نظرية لا قيمة لها.

وقد بينا هذه الحقيقة في مطلع هذا البحث عند حديثنا عن الحرية الداخلية ان اللّه كلف العباد، وأمرهم بالطاعة، واعطاء الحرية، وجعلهم مسؤولين عن كيفية ممارستهم لحريتهم، فاذا قرروا الطاعة فهم احرار في اتخاذ هذا القرار، وإذا قرروا المعصية فهم احرار في اتخاذ هذا القرار، ويتحملون مسؤوليته، ولأجل أن تتحقق لهم حريتهم الكاملة تتدخل الارادة الإلهية في تنفيذ قراراتهم التي اتخذوها.

على هذا الضوء نصل إلى النتائج التالية:

١ - الارادة التكوينية (يسميها المؤلف «المشيئة») مجال عملها عالم الأشياء.

٢ - الارادة التشريعية (الأمر التشريعي) مجاله أفعال العباد، ولا

٩٨

دخل للارادة التكوينية فيه إلا بالنحو الذي بيناه، وهو كما قلنا لا يتعارض مع مبدأ الحرية، بل يؤكد مبدأ الحرية، ويجعله واقعاً عملياً معاشاً.

٣ - لأن اللّه جعل الانسان حراً، فلا يمكن أن يأمره بشيء تشريعاً، ويريد منه خلافه تكويناً، بل اذا أمره بشيء تشريعاً يترك له حرية اتخاذ قراره، وينفذ له قراره الذي اتخذه.

ومن هنا يتضح مدى الخطأ الذي وقع فيه المؤلف حين قال (في ص ٨٩) «.... لقد شاء اللّه وجود أشياء كثيرة غير انه أمر عباده بالابتعاد عنها، كما انه أمرهم باشياء ولكنه أرادهم ان يحققوا أشياء أُخرى».

***

على ضوء هذه الملاحظات نشرح بإيجاز قصة إبليس من وجهة النظر الاسلامية مستهدين في ذلك بالنص القرآني، وبعد ذلك نوضح أخطاء المؤلف في آرائه وأحكامه الني أطلقها فيما يتعلق بقصة ابليس:

٩٩

( ...فَسَجَدُوا إلا إبْليسَ أبَى واسْتَكْبَر، وكَانَ منَ الكَافرين ) (١) .

وفي بعض آخر من الآيات يقول اللّه على لسان ابليس:

( ....قَالَ يا إبْليسُ مَا لكَ ألا تَكُونَ مَعَ السّاجدين؟ قَالَ: لم أكُنْ لأسْجُدَ لِبَشَر خَلَقْتَه منْ صَلْصَالٍ منْ حمأٍ مَسْنوُن ) (٢) .

( وَإذْ قُلْنَا للمَلائكَةَ اسْجُدوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إلا إبْليسَ قَالَ: أَ أَسْجُدُ لمَنْ خَلَقْتَ طيناً ) (٣)

وفي بعض ثالث من الآيات تبرز «الأنا» عند ابليس في مقابل الذات الالهية:

( قَالَ: مَا مَنَعكَ ألا تَسْجُدَ إذْ أمَرْتُكَ؟ قَالَ أنَا خَيْز منْه خَلَقتْنَي منْ نَارٍ وَخَلَقْتَه منْ طين ) (٤) .

( فَسَجَدَ الملائكَةُ كُلّهم أجْمعَوُن إلا إبْليسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ منَ الكَافرين. قَالَ يَا إبْليس مَا مَنَعَكَ أنْ تَسْجُدَ لما خَلَقتُ بيَدي أسْتكبرت أمْ كُنْتَ منَ العَالين؟ قَالَ: أنَا خَيْر منْهُ خَلَقْتَني منْ نَارٍ وَخَلَقْتَه من طين ) (٥) .

____________________

(١) سورة البقرة الآية ٣٤ ٠

(٢) سورة الحجر الآية ٣٢ - ٣٣.

(٣) سورة الاسراء الآية ٦١.

(٤) سورة الاعراف الآية ١٢.

(٥) سورة الاعراف الآية ٧٥ - ٧٦.

١٠٠

موقفان:

وإذن، فثمة موقفان لابليس نتجا عن هذه التجربة، وكلاهما سلبيان:

احدهما موقفه من آدم، وهو موقف احتقار، لأنه لاحظ أن آدم - في نظره من عنصر منحط: «طين، صلصال من حمأٍ «مسنون»

وثانيهما موقفه من اللّه تعالى، وهو موقف التكبر، فقد رفض امتثال الأمر الإلهي تكبراً منه: «لم أكُنْ لأسْجُدَ لبشرٍ... انا خير منه».

الحرية وشبهة الإغواء:

وهذان الموقفان قد اتخذهما ابليس بحريته، ولم تتدخل الارادة الإلهية التكوينية في حمله على اتخاذ موقف اتخذه.

يدلنا على ذلك - مضافاً إلى المبدأ العام الذي قدمناه في مطلع هذا الحديث - يدلنا على ذلك أيضاً أن ابليس علل موقفه السلبي من السجود بانه خير من آدم، فهو لأنه خير من آدم - في زعمه - يكن عاطفة الاحتقار له، من هنا تكبر على اللّه فرفض امتثال أمره القاضي بالسجود لآدم.

قد يقال هنا استناداً إلى النص القرآني: أن ابليس كان مسيراً في موقفه، وأنه لم يتخذ قرار الرفض بحرية. والنص القرآني هو قوله تعالى:

( ...قَالَ: رَبّ بما أَغْوَيْتنَي لأُزَيِنَنّ لَهُمْ في الأرضِ وَلأُغْوِيَنّهُم أجْمعَين ) (١) .

____________________

(١) سورة الحجر الآية ٣٩.

١٠١

1 ( صراطكَ المُسْتَقيم. ثُمّ لآتيَنّهُم من بين أيْديهم وَمِنْ خلِفْهِم وَعَنْ أيمَانِهم وَعَن شَمَائلهم وَلا تَجِدُ أكثَرهُم شَاكرين ) (١) .

٢( ... قَالَ: فَأخرُج منها فَانّك رَجيم. وأنّ عليَكَ اللعْنَةَ إلى يومِ الدّين. قَالَ: رَبّ فَأنظرني إلى يَومِ يِبُعَثونَ. قَالَ: فإنّكَ منَ المُنظرين. إلى يومِ الوَقتِ المَعلُوم. قَال: رَبّ بمَا أَغَوَيتنَي لأُزيّنَنّ لَهُم في الأرْضِ وَلأغوينّهم أجمَعين إلاّ عِبَادكَ منهم المُخلصين ) (٢) .

٣( قَالَ: فَبعزّتك لأغوِيَنّهُم أجمَعين. إلاّ عبَادَكَ منهُم المُخلَصين ) (٣) .

٤( قال: أَرأَيتَكَ هَذا الذي كرَّمتَ عَليَّ لئن أَخرتَنِ إلى يوم الِقيامَة لأحتِنكنَّ ذُرِّيِّتَه إلا قليلاً ) (٤) .

تُعلِّمنا هذه الآيات كيف أن ابليس غدا عاملاً شريراً في العالم الانساني، ومن خلال الصراع مع إغوائه وإضلاله يمارس الانسان حرية الاختيار بين الحق والباطل وبين الهدى والضلال.

ولم يترك الانسان معزولاً أمام قوّة الشر الجديدة التي نشأت بسبب موقف ابليس. وإنما عزز موقف الانسان في مقابل قوة الشر: عزز بالفطرة المستقيمة التي فطر عليها والتي بها يدرك وبها يميز بين الحق

____________________

(١) سورة الاعراف الآية ١٣ - ١٧.

(٢) سورة الحجر الآية ٣٤ - ٤٠.

(٣) ص ٨٢ - ٨٣.

(٤) سورة الاسراء الآية ٦٢.

١٠٢

والباطل٧ وهذه الفطرة قوة داخلية تعين الانسان الذي يختار طريق الحق على التمييز وعلى إدراك المواقف الصالحة. وعزز بعامل خارجي هو قوى خيّرة سخرها اللّه تعالى لتعزز موقف الانسان أمام اغراءات الشر وتثبته، وقد عبر اللّه عنها في قوله تعالى:

( إنَّ الذيَن قَالوا ربُّنا اللّهُ ثُمّ استَقاموا تَتَنزَّلُ عَلَيهم المَلائكَةُ أن لا تَخاَفُوا وَلا تَحزنُوا وابشروا بالجِنّةِ التي كُنتُم تُوعدُون. نَحنُ أولياءكُم في الحيَاةِ الدُنيا ) .(١)

واللّه سبحانه وتعالى قبل كل شيء وفوق كل شيء يمنح المعونة والتسديد والهداية والتوفيق لمن يؤثر الاستقامة والصلاح. قال تعالى:

( والّذينَ جَاهَدُوا فينا لَنَهديَنّهم سُبُلنَا وإنّ اللّه لمَعَ المُحسنين ) (٢) .

***

بقي علينا - قبل انهاء هذا الموجز عن قصة ابليس القرآنية - أن نبحث عن أُمور: الأول إن ابليس أُمر بالسجود فلمن السجود؟. والثاني أن معنى السجود ما هو؟ والثالث عن مغزى السجود ما هو؟

١ - لمن السجود؟

إن الآيات التي ورد فيها أمر الملائكة وابليس بالسجود في سورة

____________________

(١) سورة حم السجدة الآية ٣٠ - ٣١.

(٢) سورة العنكبوت الآية ٦٩.

١٠٣

البقرة (آية ٣٤) وسورة الاعراف (آية ١٠) وسورة الاسراء (آية ٦١) وسورة الكهف (آية ٥١) وسورة طه (آية ١١٦) ورد فيها الأمر بالسجود لآدم، ففي هذه الآيات يرد هذا النص:( قُلنَا للمَلائكةِ اسجُدُوا لآدَمَ.. ) . ولكن الأمر بالسجود ورد في سورة ص (آية ٧١ - ٧٢) بالصورة التالية:( ... إنّي خَالق بَشَراً من طينٍ، فإذا سَوّيتهُ وَنَفختُ فيهِ من روُحي فَقَعُوا له سَاجدين ) وفي سورة الحجر (آية ٢٨ - ٢٩):( ... إنّي خَالق بَشَراً من صَلصَالٍ من حمأٍ مَسنُون. فإذا سَوّيتُه وَنفَختُ فيهِ من روُحي فقعوا لهُ سَاجدين ) .

والظاهر أن المراد بالبشر في الآيتين الآخيرين هو آدم. والتعبير عنه بالبشر في الآيتين ربما يكون المراد منه الاشارة إلى معنى سننبه عليه فيها بعد.

وهنا يواجهنا سؤال: هل السجود كان لآدم بما هو شخص أو أن السجود للنوع الانساني، وآدم رمز للنوع؟

يبدو أن الهدف من السجود كان تعظيم النوع الانساني كله، ولاظهار فضل الخليقة الانسانية على الخلائق الاخرى كلها، ولم يكن آدم إلا رمزاً ومثالاً للنوع الانساني.

تدلنا على ذلك الآية الحادية عشرة من سورة الاعراف:( وَلقَد خلقَنَاكُم، ثُمّ صَوّرنَاكُم، ثُم قُلنا للمَلائكةِ اسجدُوُا لآدَمَ... )

١٠٤

فان الخطاب: «وَلَقَد خلَقنَاكُم ثُمّ صَورنَاكُم...» لجميع النوع الانساني، ومن بعد هذا الخطاب جاء قوله تعالى: «..ثم قلنا للملائكة اسجدوا..» فالسجود لآدم بما هو ممثل للنوع الذي خلقه اللّه وصوره.

وهذا المعني - وهو أن السجود ليس لآدم باعتباره شخصاً، وإنما السجود للنوع الانساني وآدم رمز ممثل لهذا النوع - هذا المعنى يظهر بصورة جلية في الآيات المتعلقة بالموضوع في سورة البقرة (٣٠ - ٣٤) ففي الآيات بين اللّه انه سيجعل في الأرض خليفة، ومن المعلوم أن خلافة اللّه في الأرض ليست مختصة بآدم، وانما هي ثابتة لجميع افراد النوع الانساني. وبعد أن بين اللّه في تلك الآيات هذه الحقيقة - الخلافة في الأرض - امر الملائكة بالسجود لآدم، فالسجود لآدم باعتبار الخلافة، ولما لم يكن هذا الاعتبار مختصاً به، بل هو شامل لجميع ذريته، فالسجود إذن لجميع ذرية آدم أي للنوع الانساني كله، لأن مقياس عظمة هذا النوع وكرامته وهو خلافة اللّه في الارض موجود في جميع الافراد.

٢ - معنى السجود:

العبادة هي ان يجعل الانسان نفسه في مقام العبودية للّه تعالى، وحقيقة العبودية هي التسليم المطلق والاستسلام الكامل لارادته تعالى. فالعابد هو الذي يجعل نفسه في مقام الطاعة المطلقة والانقياد التام لأوامر اللّه ونواهيه.

ويعبر عن العبادة باشكال شتى من جملتها الحركات الجسدية، ومن جملة الحركات الجسدية السجود.

١٠٥

فالسجود في بعض الحالات يكون تعبيراً جسدياً عن العبادة، كالسجود في الصلاة الاسلامية، وهو في هذه الحالة وضع الجبهة على الأرض تذللاً وتخشعاً للّه تعالى.

ويمكن أن يكون السجود تعبيراً عن الاحترام والتعظيم فقط، وحينئذٍ يتجرد من معنى العبادة، ومثال ذلك ما ورد في قصة يوسف:( ...وَرَفَع أبَوَيهِ عَلى العَرشِ وَخَرّوا لَه سُجّداً ) (١) . فان يعقوب وابناءه لم يسجدوا ليوسف سجود عبادة، كيف ويعقوب نبي؟، بل سجدوا شكراً للّه وتعظيماً وتكريماً ليوسف على منزلته التي بلغها في مصر.

ويمكن أن يكون السجود تعبيراً عن السخرية والاستهزاء بالمسجود له.

وإذن فالسجود بما هو حركة جسدية معينة لا يلازم معنى العبادة دائماً، بل قد يفارقه كما رأينا. فيمكن أن تكون عبادة ويمكن أن لا تكون عبادة، وذلك بحسب المعنى الذي تتضمنه وترمز إليه.

إلا أنه ينبغي التنبيه على أن السجود في الذوق الاسلامي المستفاد من الكتاب والسنة لا يكون إلا للّه تعالى بنحو العبادة، ولا يجوز السجود لغير اللّه تعالى: بقصد التعظيم والتكريم الا بأمر إلهي خاص.

وهنا نصل إلى بحث مشكلة سجود الملائكة لآدم.

فسجود الملائكة لآدم باعتباره ممثلاً للنوع الانساني ثم وفقاً لأمر إلهي خاص، وهو بهذا الاعتبار ينطوي على جهتين: الاولى أنه عبادة للّه تعالى من حيث كونه طاعة لأمره بالسجود. والثانية انه تعظيم للنوع الانساني.

____________________

(١) سورة يوسف الآية ١٠٠.

١٠٦

لاعبادة - وإقرار بسيادته وافضليته من حيث اختيار اللّه له للخلافة في الأرض.

***

بهذا البيان يتضح لنا خطأ المؤلف (في ص ٩٠، وغيرها) حين يكرر في اكثر من موضع ما يفيد ان السجود لا يكون إلا عبادة، وأن ابليس لم يسجد، لأنه لم يرد ان يشرك بعبادته للّه احداً، وسنعالج هذه النقطة في موضعآخر أيضاً.

٣ - مغزى السجود:

إن الغاية من أمر الملائكة وإبليس بالسجود للحقيقة الانسانية ممثلة في آدم هي اظهار ان جميع القوى الكونية مسخرة لأجل الانسان وتقدمه، وذلك لأن الملائكة أسباب إلهية وأعوان للانسان على تقدمه الروحي والمادي، وسعادته الاخروية والدنيوية. وذلك لأجل تأكيد معنى خلافته في الأرض.

ومن هنا فرفض إبليس للسجود - وهذه هي الغاية من السجود - تعبير منه عن رفضه الاعتراف بالمنزلة التي أعطاها اللّه للانسان، ورفضه لأن يجعل نفسه حيث أراده اللّه أن يكون: عاملاً في سبيل تقدم الانسان وسعادته الروحية والمادية.

وقد أدرك إبليس المنزلة العالية التي جعلها اللّه للانسان، وأدرك أن الأمر بالسجود نتيجة لذلك، فرفض الاعتراف بهذه الحقيقة، وبدلاً

١٠٧

من أن يجعل نفسه عاملاً في سبيل تقدم الانسان جعل نفسه - على الضد من ذلك - عاملاً في سبيل تأخر الانسان وشتاته قال تعالى على لسان إبليس يوضح موقفه:( قَالَ: أرَأيتَكَ هَذا الّذي كَرّمتَ عَليّ لَئن أخّرتَنِ إلى يَومِ القيَامَةِ لأحتَنِكَنِّ ذُرّيَتَه إلا قليلاً ) (١) .

***

بعد هذا الاستعراض السريع لأبعاد مسألة إبليس من وجهة النظر الإسلامية نعود إلى المؤلف، فنقف معه على بعض الأخطاء التي تورط فيها في فهمه لهذه القصة وذلك نتيجة لعدم اطلاعه على المصطلحات وعدم معاناته للمصادر الأساسية التي يجب أن تعتمد في هذه الدراسة.

***

قال المؤلف (في ص ٨٩):

«تبدو قصة إبليس كما وردت في هذه الآيات (القرآنية) بسيطة في ظاهرها. ولقد أمره اللّه أن يقع ساجداً لآدم فرفض، وكان ما كان من شأنه. غير أنا لو أردنا أن نتجاوز هذه النظرة السطحية الى مشكلة إبليس لرجعنا إلى فكرة هامة قال بها بعض العلماء المسلمين، وهي التمييز بين الأمر الإلهي وبين المشيئة والارادة الإلهية، فالأمر بطبيعة الحال اما أن يطاع وينفذ

____________________

(١) سورة الاسراء الآية ٦٢.

١٠٨

واما أن يعصي وللمأمور الخيار في ذلك. اما المشيئة الإلهية فلا تنطبق عليها مثل هذه الاعتبارات لأنها بطبيعتها لا ترد... لقد شاء اللّه وجود أشياء كثيرة غير انه أمر عباده بالابتعاد عنها، كما أنه أمرهم بأشياء ولكنه أرادهم ان يحققوا أشياء اخرى، لذلك باستطاعتنا القول بأن اللّه أمر إبليس بالسجود لآدم، ولكنه شاء له أن يعصى الأمر، ولو شاء اللّه لإبليس أن يقع ساجداً لوقع ساجداً لتوه، إذ لا حول ولا قوة للعبد على رد المشيئة الإلهية».

هذا النص هو العمود الفقري في نظرية المؤلف عن قصة إبليس من وجهة النظر الإسلامية، وسيتضح لنا مدى خطأ المؤلف في فهمه لهذه القصة، وسيتضح لنا أن نتيجة انكشاف خطأه هو تساقط جميع النتائج التي رتبها على هذا الأساس:

١ - يعترف المؤلف بأن قصة إبليس - من خلال النصوص القرآنية - تبدو واضحة وبسيطة، ولا تشكل أي مأساة، وليس فيها أي تعقيد ولا غموض. ولكن بما أن المؤلف يريد أن يحصل على «بطولة فكرية» فهو يستعين ب‍ «بعض العلماء المسلمين» لينظر إلى القصة من زاوية أُخرى ونسأل المؤلف أولاً: من هم هؤلاء العلماء المسلمون (لا بد أن الحلاج منهم!! ‍‍‍)؟ وثانياً: ماذا يقول هؤلاء العلماء المسلمون؟ انه لم يبين لنا قولهم لنرى ما إذا كان قد فهم نصوصهم إذا كانوا من العلماء المسلمين حقاً. وثالثاً: فلنفترض انه يوجد علماء مسلمون أخطأوا في الفهم، فخلطوا بين مجال عمل الارادة التشريعية، ومجال عمل الارادة

١٠٩

التكوينية، فهل من العلم وهل من المنهج العلمي أن نصدر أحكاماً حاسمة اعتماداً على قول بعض العلماء ونترك فهم أكثر العلماء، مع اعترافنا بأن القصة في مصدرها الأساسي (القرآن) تبدو واضحة وبسيطة، ليس فيها أي عنصر مأساوي. ولكن عفواً، لقد غفلت عن ان المؤلف يريد أن يحصل على «بطولة فكرية» باكتشافه لعنصر المأساة في قصة إبليس، وستفوته هذه الفرصة لو انه سلك في بحثه مسلك العلماء الامناء للمنهج العلمي، فلنترك المنهج العلمي، ولنلفق، ولنصرف النصوص عن دلالاتها، ولنستعين بمصادر أجنبية عن طبيعة بحثنا، كل ذلك من أجل أن نحصل - بهذه الأساليب - على بطولة فكرية.

٢ - ان اللّه لم يأمر عباده بأشياء أراد عدم وجودها، ولم ينه عن أشياء أراد وجودها. وهذا الفهم من المؤلف فهم خاطئ نتيجة لخلطه بين مجال الارادة التشريعية ومجال الارادة التكوينية. ان اللّه أمر عباده ونهاهم وأعطاهم حرية الاختيار، وحقق لهم أقصى الحرية حين يسر لهم أن يحققوا ارادتهم وينتقلوا بها من المجال النظري المحض إلى مرحلة التنفيذ في عالم الواقع، أما الأشياء التي يريدها اللّه بالارادة التكوينية فهي ليست أفعال العباد كما رأينا.

وإذن، فقد أمر اللّه إبليس بالسجود لآدم بالأمر التشريعي، وترك له حرية اختيار قراره باطاعة هذا الأمر او عصيانه، وحينما اختار إبليس المعصية وعدم السجود مارس حريه المطلقة، وترتب على ذلك نتيجة المعصية، وهي الطرد واللعنة، وذلك لأن الحرية تلازمها المسؤولية.

٣ - لقد رتب المؤلف (في ص ٩٠ وما بعدها) ثلاث نتائج على

١١٠

تحليله السابق الذي بينا وجه الخطأ فيه:

النتيجة الأولى : ان إبليس وان خالف الأمر الإلهي إلا انه كان منسجماً مع المشيئة الالهية.

ونقول : هذا خطأ، فقد بينا أن المشيئة (الارادة التكوينية) لا دخل لها في أفعال العباد، وإنما أمر اللّه إبليس بالسجود، وترك له حرية الاختيار، وقد اختار العصيان.

النتيجة الثانية : ان إبليس لو وقع ساجداً لآدم لخرج عن حقيقة التوحيد (...) إذ أن السجود لغير اللّه لا يجوز على الاطلاق لأنه شرك به (...) نستنتج إذن أن موقف إبليس يمثل «الاصرار المطلق على التوحيد».

هذا خطأ: لما بيناه من أن الخروج عن حقيقة التوحيد بالسجود لغير اللّه إنما يكون لو كان السجود لغير اللّه بنحو العبادة، وأما إذا كان بنحو التعظيم والتكريم فلا يعد عبادة، ومن ثم فلا يكون خروجاً عن حقيقة الوحيد، وقد أطاع الملائكة الأمر الإلهي بالسجود فلم يخرجوا عن حقيقة التوحيد، بل أكدوا إخلاصهم في التوحيد بخضوعهم للأمر الإلهي، أما إبليس فقد واجه الأمر الإلهي بالكبرياء، واظهار «الأنا» كما بينا ونبين فيما يأتي. موقف إبليس لا يمثل «الاصرار المطلق على التوحيد» وإنما يمثل خلق التكبر والكفر بأجلى صوره، وأحط معانيه. ولو كان موقف إبليس ناجماً عن اصراره على الوحيد لعلل موقفه بالتزام خط التوحيد المطلق، ولكنه لم يعلل موقفه بذلك، وإنما علله بأنه خير من آدم لأن آدم من طين أو من صلصال،( .. قال: أرَأيتَكَ هَذا الذي كَرّمتَ عَليّ، لَئن أخرّتَنِ إلى يَومِ القيامَة

١١١

لأحتَنكَنّ ذُرّيتَه إلا قَليلاً ) (١) .

تناقض:

ومن تناقضات المؤلف انه يقول في هذه الفقرة عن ابليس انه مثل الاصرار المطلق على الوحيد، بينما يصرح في الفقرة التي بعدها أن إبليس برر موقفه - لا بالتوحيد - وإنما بالعنصرية، وانه حلق من نار بينما خلق آدم من طين.

النتيجة الثالثة : ذكر المؤلف حجتين استند إليهما إبليس في رفض السجود.

الاولى : ان إبليس مخلوق من عنصر أعلى في مرتبة الكمال من عنصر آدم.

الثانية : أن آدم وذريته سيعيثون في الأرض فساداً.

والمؤلف مخطئ في تحليله المذكور.

اما بالنسبة إلى الحجة الاولى نقول للمؤلف: انه ليس في الإسلام - ولا في أي دين آخر فيما أعلم - سلم تقييمي للعناصر والأجسام يجعل أحدها أفضل من الآخر، وليس لدينا في الإسلام نصوص توحي بذلك فضلاً عن أن تدل عليه. ليست النار أفضل من الطين، ولا الطين أحط من النار، ولا لأي عنصر فضل على أي عنصر آخر. ولكن ما العمل إذا كان المؤلف يتعسف ليختلق خيالات تجعل فكرته منسجمة.

وأما بالنسبة إلى الحجة الثانية: فإن الاعتراض هو من الملائكة، وإبليس

____________________

(١) سورة الاسراء الآية ٦٢.

١١٢

كما بينا ليس منهم، فقد قالوا عندما علموا بخلق آدم وخلافته في الأرض، وسيادته عليهم: «أتَجعَلُ فيها مَن يُفسدُ فيها وَيَسفكُ الدّماء...» وقد بين اللّه لهم السر في تفضيل النوع الانساني:

( ... وَعَلّم آدَمَ الأسمَاء كُلّها ثُم عَرَضَهم عَلى المَلائكةِ فَقَالَ أنبئُوني بأسماءِ هَؤُلاءِ إن كُنتم صَادقين. قَالُوا سُبحانَكَ لا علم لَنَا إلا ما عَلّمتَنَا إنّكَ أنتَ العَليم الحكيم. قَالَ يَا آدَمُ أنبئَهُم بأسمَائهم فَلمَا أنبَأَهُم بأسمَائهم، قَالَ ألم أقُل لَكُم إني أعلَمُ غَيبَ السّموات والأرض وَأعلَمُ ما تُبدونَ ومَا كنتم تَكتُمون ) (١) .

ثم انه كان على إبليس أن يطيع الأمر الإلهي كما اطاعه الملائكة بعد أن بين اللّه لهم، فكان عصيانه إستكباراً موجباً للعقاب.

***

قال المؤلف (في ص ٩٢):

«لذلك سنرى فيما بعد أن أمر السجود لم يكن أمر مشيئة، وإنما كان أمر ابتلاء».

هنا يكشف المؤلف - كما في كثير من كتابه - عن عدم وضوح المفاهيم لديه.

____________________

(١) سورة البقرة الآية ٣٠ - ٣٣.

١١٣

إن أمر الابتلاء (الأمر الامتحاني) قسم من الأمر الشريعي وهو أمر صوري المقصود منه في الحقيقة تربية الارادة الانسانية على الاذعان المطلق لارادة اللّه. وكشف حقيقة العبد لمجتمعه، ومدى ثباته على الطاعة وتحمله لكل شيء في سبيلها. (ومن نماذج هذا الأمر الامتحاني أمر ابراهيم بذبح ولده).

هذا هو الأمر الامتحاني أو أمر الابتلاء كما يسميه المؤلف.

بينما نلاحظ أن الأمر بالسجود لآدم ليس أمراً ابتلائياً صورياً وإنما هو أمر حقيقي المطلوب تنفيذه وجعله حقيقة معاشه، ولو كان امراً ابتلائياً لما تم سجود الملائكة لآدم، ولاكتفى منهم باظهار استعدادهم للسجود كما اكتفى من ابراهيم باظهار عزمه تنفيذ أمر الذبح.

ولم يختص إبليس - دون الملائكة - بأمر مستقل حتى يقال انه وحده أُمر ابتلائي، بل ثمة أمر واحد، وجه إلى الملائكة وإبليس معاً: أطاعه الملائكة، وعصاه إبليس.

***

على هذا الضوء:

خلاصة المؤلف الي ذكرها (في ص ٩٢ - ٩٣ ) غير صحيحة.

ان قصة إبليس هي قصة كل مخلوق عاقل مدرك يوضع امام الاختيار بين الخير والشر، فيختار الشر والجريمة. وقد اتضح مما ذكرنا أيضاً أن مناقشة المؤلف للعقاد (ص ٩٤ - ٩٦) غير صحيحة أيضاً، فإنها مبنية على المقدمات والنائج التي بينا بطلانها سابقاً.

***

١١٤

في (ص ١٠٥ - ١٠٦ ) يصور المؤلف إبليس وهو مسوق إلى قدر محتوم لا فكاك منه، ويستشهد على ذلك بحديث قدسي، وكلام للحلاج، وبآية «انا كل شيء خلقناه بقدر» وقد بينا رأينا في مستهل هذا الحديث في قيمة ما يسمى بالأحاديث القدسية، وكذلك في فهم الحلاج لقصة إبليس. أما الآية فهي بعيدة جداً عن الدلالة على مقصد المؤلف. ان القدر في الآية من المقدار - وتعني النظام وعدم الفوضى والعبث، ولا تعني الجبر، وقد بحثنا هذا الموضوع في موضع سابق من هذا الحديث، وبينا أن إرادة اللّه التكوينية لا دخل لها بأفعال العباد.

وكلام المؤلف (في ص ١٠٧) عن المقارنة بين آدم وإبليس خطأ أيضاً، فقد نهى اللّه آدم عن الأكل من الشجرة وتركه حراً، وحين خالف آدم الآمر الإلهي وتلقى نتيجة مخالفته تاب، فتاب اللّه عليه. وكذلك الحال بالنسبة إلى إبليس لقد أمر اللّه إبليس بالسجود لآدم وتركه حراً، فعصى وتلقى نتيجة عصيانه، ولم يتب وإنما أصر على موقفه فتحمل مسؤولية هذا الموقف.

كبرياء ابليس:

في (ص ١٠٨ - ١١٠) عالج المؤلف عاطفة الكبرياء عند إبليس باعتباره بطلاً مأساوياً. ويميز بين نوعين من الكبرياء: أحدهما الكبرياء التي تعني التعجرف وثانيهما الكبرياء المأساوية. ويرى المؤلف أن كبرياء إبليس من النوع الثاني.

أما نحن فنرى ان كبرياء إبليس من النوع الأول. يتضح ذلك حين

١١٥

نحلل عاطفة الكبرياء. ان الكبرياء تعني رفض الواقع والتعالي عليه. ولكن تارة يكون حقاً فتكون الكبرياء عجرفة، وأُخرى يكون الواقع فاسداً وظالماً وباطلاً وحينئذٍ تكون الكبرياء بطولة وتكون تعبيراً عن الكرامة.

على هذا الضوء تبدو لنا كبرياء إبليس عجرفة لا مبرر لها. انه أُمر بالسجود لآدم من قبل السلطة التي لها حق الأمر وهي اللّه، فهذا اذن واقع، وهو واقع حق، فإن آدم جعله اللّه خليفه في الأرض وسخر جميع القوى الكونية ومنها الملائكة وابليس لخدمته ومعونته على بلوغ الكمال في تحقيق هذه الغاية، ولكن إبليس غروراً منه، رفض الانصياع إلى هذا الواقع، ولم يستجب له، فكان تكبره عجرفة سخيفة، بينما كان اعتراف آدم بواقعه فضيلة خلصته من الذنب والمعصية.

بين قصة ابراهيم وقصة ابليس

في الصفحات (٩٩ - ١٠٠ و ١٠٢ - ١٠٣ و ١١٢ وما بعدها) قارن المؤلف بين قصة إبراهيم في أمره بذبح ولده، وبين قصة إبليس في أمره بالسجود. وخرج من هذه المقارنة بأن قصني إبليس وابراهيم متشابهتان في ان كل واحدة منهما مأساة، إلا أن العنصر المأساوي في قصة ابليس أبلغ وأعظم.

ونحن نرى أن المؤلف مخطئ في المقارنة، وبالتالي فهو مخطئ في الاستنتاج، لأنه ليس ثمة أية علاقة بين قصة ابراهيم وبين قصة ابليس، بل نلاحظ أن بينهما جملة من الفوارق:

الأول : ان امر ابراهيم بذبح ولده اسماعيل كان امراً امتحانياً (كما انكشف فيها بعد - «وفديناه بذبح عظيم» والأمر الامتحاني يراد منه - كما ذكرنا آنفاً - تربية إرادة ابراهيم واسماعيل على الطاعة المطلقة والاذعان التام للارادة الالهية من جهة، واظهار فضلهما للمجتمع بانقيادهما التام لارادة اللّه تعالى من جهة أُخرى.

١١٦

وأما أمر ابليس والملائكة بالسجود لآدم فكان تكليفاً حقيقياً يراد منه تحقيق مضمونه في الخارج، وتحويله إلى عمل معاش.

الثاني : ان ابراهيم حين تلقى الأمر الالهي بذبح ولده ( ولم يكن يعلم انه امر امتحاني بطبيعة الحال) سرعان ما عزم على تنفيذ هذا الأمر. قال اللّه تعالى في حكاية حال ابراهيم في موقفه ذاك:

( .. فَلَمّا بَلَغَ مَعَهُ السّعيَ قَالَ يَا بُنَيّ إنّي أرَى في المَنَامِ أنّي أذبَحُك فَانظُر مَاذَا تَرى. قَالَ: يَا أبَتِ افعَل مَا تُؤمَر سَتَجُدني إنشَاء اللّه منَ الصّابرين. فَلَمّا أسلَما وَتَلّهُ للجَبين )

اما ابليس فحين تلقى الأمر الالهي بالسجود، رفض اطاعة هذا الأمر، ولم يرفض لأنه حريص على الوحيد المطلق - كما يكرر المؤلف الذي بينا خطأ نظريته هذه - أولاً: لأن السجود المأمور به لا ينافي التوحيد، ولذلك بقي الملائكة موحدين بعد أن سجدوا. وثانياً: لأن ابليس لم يعلل موقفه السلبي بهذه العلة، وانما علل موقفه بالعنصرية، والتكبر، واحتقار آدم.

الثالث : ان عاقبة انقياد ابراهيم لتنفيذ الأمر الالهي هي الكرامة والسعادة، قال اللّه تعالى:( ... فَلَمّا أسلَما وَتَلّهُ للجبَين. وَنادينَاهُ أن يَا إبراهيم قَد صَدَّقت الرّؤيا إنّا كَذَلك نَجزِي المُحسنين. إنّ هَذا لَهُوَ البَلاءُ

____________________

(١) سورة الصافات الآية ١٠٢ - ١٠٣.

١١٧

المُبين* وَفَديناهَ بذبحٍ عَظيم*وَتَرَكنَا عَلَيه في الآخرين*سَلام عَلى إبراهيم*إنا كَذَلك نَجزي الُمحسنين*إنّهُ من عبَادِنا المؤمنين ) (١)

هذه هي عاقبة ابراهيم. اما عاقبة ابليس فكانت على العكس من ذلك: لعنة، وطرداً ورجماً.

واختلاف النتيجتين ليس إلا لاختلاف الموقفين: موقف ابراهيم موقف الطاعة، وموقف ابليس موقف الجحود والطغيان.

اذن لا علاقة بين قصة ابراهيم التي هي قصة القداسة والطاعة المطلقة، وبين قصة ابليس التي هي قصة الجحود والعصيان والجريمة.

وإلى اللقاء مع المؤلف في الحديث عن «المكر الإلهي».

____________________

(١) سورة الصافات الآية ١٠٣ - ١١١.

١١٨

المكر الالهي

- ١ -

حاول المؤلف (في ص ١١٩ - ١٢٨) «إيجاد تعليل ديني مقبول» لما فهمه - خطأً - من قصة إبليس. وبعد أن استعرض في (ص ١١٩ - ١٢٠) ما سماه «المفارقات» في قصة إبليس، وعلاقته باللّه، قال: «أعتقد أن الصفة الإلهية التي نبحث عنها للاجابة على هذه الأسئلة هي صفة المكر».

ثم عرض بعض الآيات التي ورد فيها لفظ المكر والاستهزاء والاملاء والخديعة. واستخلص منها أن اللّه يمكر بعباده و«لم يكن أمر الابتلاء اذن سوى أداة المكر الإلهي، غايتها نفيذ أحكام المشيئة، وتبريرها أمام مخلوقاته، فتصبح بذلك مقبولة في أعينهم (...) ولكن المكر الإلهي يتدخل ليجعل الأُمور تبدو للعباد على غير ما هي عليه، أي ليجعل المشيئة وكأن لها غايات ومبررات وأسباباً (...) رددنا مراراً أن اللّه هو صانع الخير والشر (...) ولكن من مكره أراد للعباد أن يعتقدوا غير ذلك..» (ص ١٢٣ - ١٢٥).

١١٩

وقد عزز المؤلف هذه الأحكام الإعتباطية التي لا أساس لها من الصحة اطلاقاً بالاستشهاد بالنصوص الصوفية وما يسمى بالأحاديث القدسية، وقد نبهنا فيما سبق على أن هذه الشواهد عديمة القيمة من حيث كونها مصدر لفهم القصة القرآنية.

يبدو اللّه في الإسلام من خلال استنتاجات المؤلف بعد «اكتشافه» للمكر الإلهي - يبدو اللّه كائناً شريراً، مخادعاً، عابثاً، لاعباً، يبدو اللّه وكأنه أحد آلهة اليونان القديمة في أن فيه كثيراً من نقائص البشر، وليس فيه الكثير من كمالاتهم.

والمؤلف مخطئ في بحثه، وفي فهمه لما أسماه «المكر الإلهي»، وفي استنتاجاته أخيراً بطبيعة الحال.

ولكن من أين جاء الخطأ؟.

لقد قلت أكثر من مرة في الحلقات المتقدمة من هذا البحث أن المؤلف جاهل بموضوع نقده، وهو الدين الإسلامي، وأُضيف هنا إلى ما تقدم أن المؤلف غير متمكن - بصورة باعثة على الأسف - من لغة القرآن وأساليبه البلاغية.

هو غير متمكن من اللغة العربية، ودليلي على ذلك كثرة الأخطاء التي يقع فيها باستمرار. ولو كان المؤلف يكتب بلغة غير لغته لما اغتفر له ذلك، لأنه يكتب في موضوع من أخطر موضوعات الفكر الانساني، فكيف وهو يكتب بلغته هو، لغة بلده وقومه، ويتناول بكتابته نقد نصوص مكتوبة باللغة نفسها.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174