فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد0%

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد مؤلف:
الناشر: دار الأنصار
تصنيف: السيدة الزهراء سلام الله عليها
الصفحات: 568

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد كاظم القزويني
الناشر: دار الأنصار
تصنيف: الصفحات: 568
المشاهدات: 231873
تحميل: 9876

توضيحات:

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 568 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 231873 / تحميل: 9876
الحجم الحجم الحجم
فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

مؤلف:
الناشر: دار الأنصار
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الفيء بشيء لم يعطه أحداً غيره فقال:( وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ، فكانت هذه خالصة لرسول الله... إلى آخره.

إذاً فالمستفاد من مجموع الآيات والروايات أنّ فدكاً كانت لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله خالصة، وأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أعطى فاطمة فدكاً بعنوان النِحْلة والعطيّة بأمر الله تعالى حيث أمره بقوله:( وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ ) .

والجواب على السؤال الرابع يأتيك بعد قليل.

5 - وأمّا الإجابة على السؤال الخامس: فيستفاد من تصريحات المؤرّخين والمحدّثين أنَّ السيدة فاطمة الزهراء كانت تتصرّف في فدك، وأنَّ فدك كانت في يدها.

فمنها تصريح الإمام أمير المؤمنين بن أبي طالبعليه‌السلام في الكتاب الذي أرسله إلى عثمان بن حُنيف وهو عامله على البصرة فإنّه ذكر فيه:... بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلّته السماء، فشحّت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين، ونعم الحَكَم الله... إلى آخره(1) .

وذكر ابن حجر في (الصواعق المحرقة) في الباب الثاني: إنّ أبا بكر انتزع من فاطمة فدكاً... إلى آخر كلامه.

ومعنى كلام ابن حجر أنّ فدكاً كانت في يد الزهراءعليها‌السلام من عهد أبيها الرسول فانتزعها أبو بكر منها.

وقد روى العلاّمة المجلسي عن كتاب (الخرائج): فلمّا دخل رسول

____________________

(1) نهج البلاغة، باب المختار من رسائلهعليه‌السلام .

٢٨١

اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله المدينة - بعد استيلائه على فدك - دخل على فاطمةعليها‌السلام فقال: يا بنية إنّ الله قد أفاء على أبيك بفدك، واختصَّه بها، فهي له خاصة دون المسلمين، أفعل بها ما أشاء، وإنّه قد كان لأُمّك خديجة على أبيك مهر، وإنّ أباك قد جعلها لك بذلك، وأنحلتكها لك ولولدك بعدك.

قال: فدعا بأديم ودعا بعلي بن أبي طالب فقال: اكتب لفاطمة بفدك نِحْلة من رسول الله.

فشهد على ذلك: علي بن أبي طالب، ومولىً لرسول الله، وأُمّ أيمن.

ولمّا توفّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله واستولى أبو بكر على منصّة الحكم ومضت عشرة أيام. واستقام له الأمر بعث إلى فدك مَن أخرج وكيل فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

كانت فدك للسيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام من ثلاثة وجوه:

الوجه الأوّل: أنّها كانت ذات اليد، أي كانت متصرّفة في فدك، فلا يجوز انتزاع فدك من يدها إلاّ بالدليل والبيّنة. كما قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (البيّنة على المدعي، واليمين على مَن أنكر) وما كان على السيدة فاطمة أن تقيم البيّنة؛ لأنّها ذات اليد.

الوجه الثاني: أنّها كانت تملك فدكاً بالنِحْلة والعطيّة والهبة من أبيها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

الوجه الثالث: أنّها كانت تستحق فدكاً بالإرث من أبيها الرسول، ولكنّ القوم خالفوا هذه الوجوه الثلاثة، فقد طالبوها بالبيّنة، وطالبوها بالشهود على النِحْلة، وأنكروا وراثة الأنبياء.

وكان بإمكان السيدة فاطمة أن تطالب بحقّها بكل وجه من هذه الوجوه.

٢٨٢

ولهذا طالبت بفدك عن طريق النِحْلة أوّلاً، ثم طالبت بها عن طريق الإرث ثانياً كما صرّح بذلك الحلبي في سيرته ج 3 ص39 قال: إنّ فاطمة أتت أبا بكر بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقالت: إنّ فدكاً نحلة أبي، أعطانيها حال حياته. وأنكر عليها أبو بكر وقال: أُريد بذلك شهوداً، فشهد لها علي، فطلب شاهداً آخر فشهدت لها أُم أيمن، فقال لها: أبِرَجُلٍ وامرأة تستحقينها؟؟

وذكر الطبرسي في الاحتجاج: فجاءت فاطمةعليها‌السلام إلى أبي بكر ثم قالت: لِمَ تمنعني ميراثي من أبي رسول الله؟ وأخرجت وكيلي من فدك وقد جعلها لي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بأمر الله تعالى؟

فقال: هاتي على ذلك بشهود، فجاءت أُم أيمن فقالت: لا أشهد يا أبا بكر حتى أحتجّ عليك بما قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنشدك بالله ألست تعلم أنّ رسول الله قال: أم أيمن امرأة من أهل الجنّة؟ فقال: بلى. قالت: فاشهد أن الله عز وجل أوحى إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ( وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ ... ) . فجعل فدك لها طعمة بأمر الله تعالى. فجاء عليّعليه‌السلام فشهد بمثل ذلك، فكتب لها كتاباً ودفعه إليها فدخل عمر فقال: ما هذا الكتاب؟ فقال: إنّ فاطمة ادَّعت في فدك وشهدت لها أُم أيمن وعليّ، فكتبته لها. فأخذ عمر الكتاب من فاطمة، فتفل فيه فمزَّقه، فخرجت فاطمةعليها‌السلام تبكي.

وفي سيرة الحلبي ج3 ص391 أنّ عمر أخذ الكتاب فشقّه.

٢٨٣

وروي عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّ السيدة فاطمةعليها‌السلام جاءت إلى أبي بكر - بأمرٍ من الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام - وقالت له: ادّعيتَ مجلس أبي وأنّك خليفته، وجلست مجلسه، ولو كانت فدك لك واستوهبتُها منك لوجب عليك ردّها عليَّ.

فقال: صدقتِ.

ودعا بكتاب فكتب فيه بإرجاع فدك، فخرجت والكتاب معها، فلقيها عمر فقال: يا بنت محمد ما هذا الكتاب الذي معك؟

قالت: كتاب كتب لي أبو بكر بردّ فدك.

فقال: هلمّيه إليّ.

فأبت أن تدفعه إليه، فرفسها برجله... ثم لطمها، ثم أخذ الكتاب فحرقه(1) .

فقالت: بقرتَ كتابي بَقر الله بطنك(2) .

حوار ساخن بين الإمام علي وأبي بكر

نعود إلى ما ذكره الطبرسي قال: فلمّا كان بعد ذلك جاء عليّعليه‌السلام إلى أبي بكر وهو في المسجد وحوله المهاجرون والأنصار فقال: يا أبا بكر لِمَ منعت فاطمة ميراثها من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد مَلَكته في حياة رسول الله؟

فقال أبو بكر: هذا فيء للمسلمين، فإن أقامت شهوداً أنّ رسول الله جعله لها وإلاّ فلا حق لها فيه!

____________________

(1) الاختصاص للشيخ المفيد، الشافي للسيد المرتضى ص 236 / تلخيص الشافي للطوسي ص 48، وذكر ابن حجر العسقلاني - في لسان الميزان ج 1 ص 268، والذهبي في ميزان الاعتدال ج 1 ص 139: إنّ عمر رفس فاطمة...

(2) وفاة الصِدّيقة الزهراء للمقرّم ص 78.

٢٨٤

فقال عليّعليه‌السلام : يا أبا بكر تحكم بيننا بخلاف حكم الله في المسلمين؟

قال: لا.

قالعليه‌السلام : فإن كان في يد المسلمين شيء يملكونه فادَّعيت أنا فيه مَن تسأل البيّنة؟

قال: إيّاك أسأل.

قالعليه‌السلام : فما بال فاطمة سألتها البيّنة على ما في يديها، وقد مَلَكته في حياة رسول الله وبعده، ولم تسأل المسلمين البيّنة على ما ادَّعوها شهوداً كما سألتني على ما ادَّعيت عليهم؟؟

فسكت أبو بكر فقال: يا علي دعنا من كلامك، فإنّا لا نقوى على حجّتك، فإن أتيت بشهود عدول، وإلاّ فهي فيء للمسلمين، لا حقَّ لك ولا لفاطمة فيه!!.

فقال عليّعليه‌السلام : يا أبا بكر تقرأ كتاب الله؟ قال: نعم. قال: أخبرني عن قول الله عزّ وجلّ:( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّـهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) . فيمن نزلت؟ فينا أو في غيرنا؟ قال: بل فيكم! قال: فلو أن شهوداً شهدوا على فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) بفاحشة ما كنت صانعاً بها؟ قال: كنت أُقيم عليها الحد كما أُقيم على نساء المسلمين!!! قال عليّ: كنت إذن عند الله من الكافرين! قال: ولِمَ؟ قال: لأنّك رددت شهادة الله بالطهارة وقبلت شهادة الناس عليها،

٢٨٥

كما رددت حكم الله وحكم رسوله أن جعل لها فدك، وزعمت أنّها فيء للمسلمين، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): البينة على المدّعي، واليمين على من ادُّعي عليه.

قال: فدمدم الناس، وأنكر بعضهم بعضاً، وقالوا: صدق - والله - عليّ.

وقد روى العلاّمة في كشكوله عن المفضَّل بن عمر، عن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام رواية لا تخلو من فائدة نذكرها بصورة موجزة قال:

لمّا قام أبو بكر بن أبي قحافة بالأمر نادى مناديه: مَن كان له عند رسول الله دين أو عدّة فليأتني حتى أقضيه.

وجاء جابر بن عبد الله وجرير بن عبد الله البجلي، وادَّعى كلٌّ منهما على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأنجز أبو بكر لهما.

فجاءت فاطمة إلى أبي بكر تطالب بفدك والخمس والفيء فقال: هاتي بيّنة يا بنت رسول الله، فاحتجّت فاطمةعليها‌السلام بالآيات وقالت: قد صدّقتم جابر بن عبد الله وجرير بن عبد الله البجلي ولم تسألوهما البيّنة، وبَيّنتي في كتاب الله، وأخيراً طالبوها بالشهود، فبعثت إلى عليّ والحسن والحسين وأُم أيمن وأسماء بنت عميس وكانت تحت أبي بكر - أي زوجة أبي بكر - وشهدوا لها بجميع ما قالت.

فقالوا: أمّا علي فزوجها، وأمّا الحسن والحسين فابناها وأمّا أُم أيمن فمولاتها، وأمّا أسماء بنت عميس فقد كانت تحت جعفر بن أبي طالب فهي تشهد لبني هاشم، وقد كانت تخدم فاطمة وكل هؤلاء يجرّون إلى أنفسهم.

٢٨٦

فقال عليّ: أمّا فاطمة فبضعة من رسول الله، ومَن آذاها فقد آذى رسول الله، ومَن كذَّبها فقد كذَّب رسول الله.

وأمّا الحسن والحسين فابنا رسول الله وسيّدا شباب أهل الجنّة، مَن كذَّبهما فقد كذّب رسول الله، إذ كان أهل الجنّة صادقين.

وأمّا أنا فقد قال رسول الله: أنت منّي وأنا منك، وأنت أخي في الدنيا والآخرة، والراد عليك هو الراد عليَّ، مَن أطاعك فقد أطاعني ومَن عصاك فقد عصاني.

وأمّا أُم أيمن فقد شهد لها رسول الله بالجنّة، ودعا لأسماء بنت عميس وذرّيّتها.

فقال عمر: أنتم كما وصفتم به أنفسكم، ولكنّ شهادة الجارّ إلى نفسه لا تقبل!

فقال عليّ: إذا كنّا نحن كما تعرفون ولا تنكرون وشهادتنا لأنفسنا لا تُقبل وشهادة رسول الله لا تُقبل فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، إذا ادَّعينا لأنفسنا تسألنا البيّنة فما من معين يعين، وقد وثبتم على سلطان الله وسلطان رسوله فأخرجتموه من بيته إلى بيت غيره من غير بيّنة ولا حجّة، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون.‍

ثم قال لفاطمة: انصرفي حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين.

ولما رأت السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام أنّ القوم أبطلوا شهودها الذين شهدوا لها بالنِحْلة ولم تنجح مساعيها، جاءت تطالب حقّها عن طريق الإرث، واتخذت التدابير اللازمة لتقوم بأكبر حملة دعائية واسعة النطاق وهي تعلم أنّ السلطة لا يخضعون للدليل الواضح والبرهان القاطع، فقد قال الشاعر:وآية السيف تمحو آية القلم .

٢٨٧

وكل قوم تحكم فيهم الدكتاتورية فإنّ المنطق فاشل ولا يجدي فائدة.

وعلى كلٍّ، فللسيّدة فاطمة هدف آخر، وهو يتحقّق قطعاً، وهدفها تسجيل مظلوميّتها في سجلّ التاريخ، وكشف الغطاء عن أعمال القوم ونواياهم، فقرّرت أن تذهب إلى المسجد وتخطب خطبة تتحقّق بها أهدافها الحكيمة.

٢٨٨

السرُّ في مطالبة فاطمة الزهراءعليها‌السلام بفدك

من الممكن أن يقال: إنّ السيدة فاطمة الزهراء الزاهدة عن الدنيا وزخارفها، والتي كانت بمعزل عن الدنيا ومغريات الحياة ما الذي دعاها إلى هذه النهضة، وإلى هذا السعي المتواصل والجهود المستمرّة في طلب حقوقها؟

وما سبب هذا الإصرار والمتابعة بطلب فدك والاهتمام بتلك الأراضي والنخيل مع ما كانت تتمتّع به السيدة فاطمة من علوِّ النفس وسموّ المقام؟

وما الداعي إلى طلب الدنيا التي كانت أزهد عندهم من عفطة عنز، وأحقر من عظم خنزير في فم مجذوم، وأهون من جناح بعوضة؟

وما الدافع بسيّدة نساء العالمين أن تتكلّف هذا التكلّف، وتتجشم هذه الصعوبات المجهدة للمطالبة بأراضيها، وهي تعلم أنّ مساعيها تبوء بالفشل وأنّها لا تستطيع التغلّب على الموقف، ولا تتمكّن من انتزاع تلك الأراضي من المغتصبين؟؟

هذه أسئلة يمكن أن تتبادر إلى الأذهان حول الموضوع.

الجواب: أوّلاً: إنّ السلطة حينما صادرت أموال السيدة فاطمة الزهراء وجعلتها في ميزانية الدولة (بالاصطلاح الحديث) كان هدفهم تضعيف جانب أهل البيت، أرادوا أن يحاربوا عليّاً محاربة اقتصادية، أرادوا أن يكون علي فقيراً حتى لا يلتف الناس حوله، ولا يكون له شأن على الصعيد الاقتصادي، وهذه سياسة أراد المنافقون تنفيذها في حق رسول الله

٢٨٩

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين قالوا:( لَا تُنفِقُوا عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّـهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّوا ) (1) .

ثانياً: لم تكن أراضي فدك قليلة الإنتاج، ضئيلة الغلاّت بل كان لها وارد كثير يعبأ به، بل ذكر ابن أبي الحديد أنّ نخيلها كانت مثل نخيل الكوفة في زمان بن أبي الحديد.

وذكر الشيخ المجلسي عن كشف المحجّة أنّ وارد فدك كان أربعة وعشرين ألف دينار في كل سنة، وفي رواية أُخرى سبعين ألف دينار، ولعلّ هذا الاختلاف في واردها بسبب اختلاف السنين.

وعلى كل تقدير فهذه ثروة طائلة واسعة، لا يصح التغاضي عنها.

ثالثاً: إنّها كانت تطالب، من وراء المطالبة بفدك، الخلافة والسلطة لزوجها علي بن أبي طالب، تلك السلطة العامّة والولاية الكبرى التي كانت لأبيها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فقد ذكر ابن أبي الحديد في شرحه قال: سألت علي بن الفارقي، مدرّس المدرسة الغربية ببغداد فقلت له: أكانت فاطمة صادقة؟

قال: نعم.

قلت: فلمـَ لم يدفع إليها أبو بكر فدك وهي عنده صادقة؟

فتبسّم، ثم، قال كلاماً لطيفاً مستحسناً مع ناموسه وحرمته وقلة دعابته قال: لو أعطاها اليوم فدك، بمجرّد دعواها لجاءت إليه غداً وادعت لزوجها الخلافة وزحزحته عن مقامه، ولم يكن يمكنه الاعتذار، والموافقة بشيء؛ لأنّه يكون قد سجّل على نفسه بأنّها صادقة فيما تدّعي، كائناً ما كان من غير حاجة إلى بيّنة وشهود.

____________________

(1) المنافقون: 7.

٢٩٠

رابعاً: الحق يُطلب ولا يُعطى، فلابدَّ للإنسان المغصوب منه ماله أن يطالب بحقّه؛ لأنّه حقّه، حتى وإن كان مستغنياً عن ذلك المال وزاهداً فيه؛ وذلك لا ينافي الزهد وترك الدنيا، ولا ينبغي السكوت عن الحق.

خامساً: إنّ الإنسان وإن كان زاهداً في الدنيا راغباً في الآخرة فإنّه مع ذلك يحتاج إلى المال ليصلح به شأنه، ويحفظ به ماء وجهه ويصل به رحمه، ويصرفه في سبيل الله كما تقتضيه الحكمة.

أما ترى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - وهو أزهد الزهّاد - كيف انتفع بأموال خديجة في سبيل تقوية الإسلام؟ كما مرَّ كلامهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حول أموال خديجة.

سادساً: قد تقتضي الحكمة أن يطالب الإنسان بحقّه المغصوب، فإنّ الأمر لا يخلو من أحد وجهين:

إمّا أن يفوز الإنسان ويظفر بما يريد وهو المطلوب وبه يتحقق هدفه من المطالبة.

وإمّا أن لا يفوز في مطالبته فلن يظفر بالمال، فهو إذ ذاك قد أبدى ظلامته، وأعلن للناس أنّه مظلوم، وأنّ أمواله غصبت منه.

هذا وخاصة إذا كان الغاصب ممّن يدّعي الصلاح والفلاح، ويتظاهر بالديانة والتقوى، فإنّ المظلوم يعرّفه للأجيال أنّه غير صادق في دعواه.

سابعاً: إنّ حملة المبادئ يتشبّثون بشتّى الوسائل الصحيحة لجلب القلوب إليهم، فهناك مَن يجلب القلوب بالمال أو بالأخلاق أو بالوعود وأشباه ذلك.

ولكن أفضل الوسائل لجلب القلوب، قلوب كافة الطبقات، هو التظلّم وإظهار المظلوميّة فإنّ القلوب تعطف على المظلوم كائناً مَن كان، وتشمئزّ من الظالم كائناً مَن كان.

٢٩١

وهذه خطّة ناجحة وناجعة لتحقيق أهداف حملة المبادئ الذين يريدون إيجاد الوعي في النفوس عن طريق جلب القلوب إليهم.

وهناك أسباب ودواع أُخرى لا مجال لذكرها.

لهذه الأسباب قامت السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام وتوجّهت نحو مسجد أبيها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأجل المطالبة بحقّها.

إنّها لم تذهب إلى دار أبي بكر ليقع الحوار بينها وبينه فقط، بل اختارت المكان الأنسب وهو المركز الإسلامي يومذاك، ومجمع المسلمين حينذاك، وهو مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

كما وأنّها اختارت الزمان المناسب أيضاً ليكون المسجد غاصّاً بالناس، على اختلاف طبقاتهم من المهاجرين والأنصار، ولم تخرج وحدها إلى المسجد، بل خرجت في جماعة من النساء، وكأنّها في مسيرة نسائية، وقبل ذلك تقرّر اختيار موضع من المسجد لجلوس بضعة رسول الله وحبيبته، وعلّقوا ستراً لتجلس السيدة فاطمة خلف الستر، إذ هي فخر المخدّرات وسيّدة المحجّبات.

كانت هذه النقاط مهمّة جدّاً، واستعد أبو بكر لاستماع احتجاج سيّدة نساء العالمين، وابنة أفصح مَن نطق بالضاد وأعلم امرأة في العالم كلّه.

خطبت السيدة فاطمة الزهراء خطبة ارتجاليّة، منظّمة، منسّقة، بعيدة عن الاضطراب في الكلام، ومنزَّهة عن المغالطة والمراوغة، والتهريج والتشنيع.

بل وعن كل ما لا يلائم عظمتها وشخصيتها الفذَّة، ومكانتها السامية.

وتُعتبر هذه الخطبة معجزة خالدة للسيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام

٢٩٢

وآية باهرة تدل على جانب عظيم من الثقافة الدينية التي كانت تتمتّع بها هذه الصدّيقة.

وأمّا الفصاحة والبلاغة، وحلاوة البيان، وعذوبة المنطق، وقوّة الحجة، ومتانة الدليل، وتنسيق الكلام، وإيراد أنواع الاستعارة بالكناية، وعلو المستوى، والتركيز على الهدف، وتنوّع البحث، فالقلم وحده لا يستطيع استيعاب الوصف، بل لابدَّ من الاستعانة بذهن القارئ.

كانت السيدة فاطمة مسلّحة بسلاح الحجّة الواضحة والبرهان القاطع، والدليل القوي المقنع، وكان المسلمون الحاضرون في المسجد ينتظرون كلامها، ويتلهّفون إلى نتيجة ذلك الحوار والاحتجاج الذي لم يسبق له مثيل إلى ذلك اليوم.

جلست السيدة في المكان المـُعدّ لها خلف الستر، ولعلّ دخولها يومذاك كان لأوّل مرة بعد وفاة أبيها الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فلا عجب إذا هاجت بها الأحزان، وأنَّت أنَّة.

إنّني أعجز عن التعبير عن تحليل تلك الأنَّة، ومدى تأثيرها في النفوس.

أنَّة واحدة فقط - بلا كلام - يهيّج عواطف الناس، فيجهش القوم بالبكاء.

أنا ما أدري ما كانت تحمل تلك الأنة من المعاني؟

ولماذا أجهش الناس بالبكاء؟

وهل الأنَّة الواحدة تُبكي العيون، وتُجري الدموع وتُحرق القلوب؟

هذه ألغازٌ لا أعرف حلّها، ولعلّ غيري يستطيع حلّ هذه الألغاز!!

٢٩٣

مصادر خطبة الزهراءعليها‌السلام

قبل أن نذكر الخطبة لا بأس بذكر رواة الخطبة ومصادرها من كتب الفريقين: الشيعة والسنّة؛ لنعلم مدى أهمّيّة هذه الخطبة لدى أهل البيت، باعتبارها وثيقة تاريخية تثبت مظلوميّة أهل البيت، ومدى الاضطهاد والعنف والكبت الذي قام به بعض الأفراد تجاه أُسرة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولا ندّعي أنّنا استوعبنا جميع المصادر، بل ذكرنا ما عثرنا عليه من الوثائق التاريخية:

1 - السيد المرتضى علم الهدى، المتوفّي 436 في كتاب (الشافي) يروي هذه الخطبة بإسناده عن عروة عن عائشة.

2 - السيد ابن طاووس في كتاب (الطرائف) بإسناده عن الزهري عن عائشة.

3 - الشيخ الصدوق بإسناده عن زينب بنت عليّعليه‌السلام .

4 - ويروي بطريق آخر بإسناده عن زيد بن علي الشهيد، عن عمّته زينت بنت عليّ، عن أُمّها فاطمة الزهراءعليها‌السلام .

5 - وهكذا يروي بإسناده، عن أحمد بن محمد بن جابر، عن زينب بنت عليّعليها‌السلام .

6 - ابن أبي الحديد في شرحه على نهج البلاغة يروي عن كتاب (السقيفة) تأليف أحمد بن عبد العزيز الجوهري بأربعة طرق:

٢٩٤

أ - بإسناده عن رجال من أهل البيت عن زينب بنت عليّعليها‌السلام .

ب - بإسناده عن الإمام الصادق جعفر بن محمدعليهما‌السلام .

ج - بإسناده عن الإمام الباقر بن عليّعليهما‌السلام .

د - بإسناده عن عبد الله بن الحسنعليهما‌السلام .

7 - عليّ بن عيسى الإربلي في كتابه (كشف الغمّة) يروي عن كتاب (السقيفة) للجوهري.

8 - المسعودي في (مروج الذهب) يشير إلى هذه الخطبة.

9 - الطبرسي في كتاب (الاحتجاج).

10 - أحمد بن أبي طاهر في كتاب (بلاغات النساء).

إلى غير هؤلاء ممّن يطول الكلام بذكرهم، وإسناد هذه الخطبة إلى السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام من الأمور المسلّمة عند أهل العلم من المؤرّخين وغيرهم.

ونقل ابن أبي الحديد في شرحه على نهج البلاغة عن السيد المرتضى أنّه قال: وأخبرنا أبو عبد الله المرزباني، عن علي بن هارون، عن عبيد الله بن أحمد، عن أبيه قال ذكرت لأبي الحسين زيد (الشهيد) بن عليّ بن الحسين بن علي بن أبي طالبعليهم‌السلام كلام فاطمة عند منع أبي بكر إيّاها فدك وقلت له: إنّ هؤلاء يزعمون أنّه مصنوع وأنّه من كلام أبي العيناء؛ لأنّ الكلام منسوق البلاغة.

فقال لي: رأيت مشايخ آل أبي طالب يروونه عن آبائهم ويعلّمونه أولادهم، وقد حدّثني أبي عن جدّي يبلغ بها فاطمة على هذه الحكاية، وقد رواه مشايخ الشيعة وتدارسوه قبل أن يوجد جدُّ أبي العيناء.

وقد حدّث الحسين بن علوان عن عطيّة العوفي أنّه سمع عبد الله بن

٢٩٥

الحسن بن الحسين يذكر عن أبيه هذا الكلام، ثم قال أبو الحسين زيد: وكيف ينكرون هذا من كلام فاطمة وهم يروون من كلام عائشة عند موت أبيها ما هو أعجب من كلام فاطمة ويحقّقونه؟ لولا عداوتهم لنا أهل البيت!!.

هذا بعض ما ظفرنا به من المصادر لخطبة سيّدة النساء، ولعلّ غيرنا من الباحثين يجدون المزيد من المصادر لهذه الخطبة.

٢٩٦

رؤوس نُقَاط الخطْبَة

اختارت السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام لخطبتها هذا الأُسلوب للبداية والنهاية، إنّها لم تكتف بالتركيز على مطالبة حقّها فقط، بل انتهزت الفرصة لتفجّر للمسلمين عيون المعارف الإلهيّة، وتكشف لهم محاسن الدين الإسلامي، وتبيِّن لهم علل الشرائع والأحكام، وضمناً تهيّئ الجوّ لكلامها المقصود وهدفها المطلوب.

وهذه رؤوس أقلام الخطبة ومواضيعها:

الحمد والثناء على الله.

التوحيد الاستدلالي.

النبوّة.

التحدّث عن العهد الجاهلي.

إنجازات الرسول.

توجيه الخطاب إلى الحاضرين.

التحدّث عن القرآن.

بيان علل الشرائع وفلسفة الإسلام.

الدخول في صميم الموضوع.

حوادث فترة الرسالة.

موقف زوجها العظيم من تلك الأحداث.

٢٩٧

بيان انقلاب الحكم ضد آل الرسول.

بيان تخاذل المسلمين تجاه أهل البيت.

توجيه الخطاب إلى رئيس الدولة حول الإرث.

إقامة الأدلّة والبراهين.

توجيه العتاب إلى الأنصار وتوبيخهم.

جواب رئيس الدولة.

تزييف كلامه وتفنيد مغالطاته.

اعتذار رئيس الدولة.

توجيه الخطاب إلى الحاضرين.

شكوى إلى رسول الله.

وسوف نذكر الخطبة في حَلقات يتخلّلها شرح موجز لها.

٢٩٨

الخطبة الخالدة

روى عبد الله بن الحسن بإسناده عن آبائه: أنّه لما أجمع أبو بكر على منع فاطمة فدك، وبلغها ذلك.

لاثت خمارها على رأسها(1) .

واشتملت بجلبابها.

وأقبلت في لمّةٍ من حفدتها ونساء قومها(2) .

تطأُ ذيولها(3) .

ما تخرم مشيتها مشية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (4) .

حتى دخلت على أبي بكر.

وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم(5) .

فنيطت دونها ملاءة(6) .

فجلست ثم أنَّت أنَّةً أجهش القوم بالبكاء فارتجَّ المجلس

ثم أمهلت هنيئة(7) ، حتى إذا سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم(8) .

__________

(1) لاثت: شدّت. والخمار: ثوب يغطى به الرأس.

(2) اللّمة - بضم اللام وتخفيف الميم -: الجماعة، الحفدة، الخدم.

(3) كناية عن شدّة التستّر.

(4) ما تنقص مشيتها عن مشية أبيها من حيث الوقار والكيفيّة.

(5) الحشد: الجماعة.

(6) نيطت: علّقت. والملاءة: الإزار والثوب اللّين الرقيق.

(7) وفي شرح النهج لابن أبي الحديد ج 16 ص 211: ثم أمهلت طويلاً.

(8) النشيج: صوت البكاء مع التوجّع. والفورة: الشدّة.

٢٩٩

افتتحت الكلام بحمد الله والثناء عليه، والصلاة على رسوله، فعاد القوم في بكائهم، فلمّا أمسكوا عادت في كلامها.

فقالتعليها‌السلام :

الحمد لله على ما أنعم.

وله الشكر على ما ألهمْ.

والثناء بما قدّم.

من عموم نعمٍ ابتداها.

وسبوغ آلاءٍ أسداها (1) .

وتمام مننٍ والاها.

جمَّ عن الإحصاء عددُها (2) .

ونأى عن الجزاء أمدها (3) .

وتفاوت عن الإدراك أبدها.

وندبهم لاستزادتها بالشكر لاتصالها (4) .

واستحمد إلى الخلائق بإجزالها.

وثنّى بالندب إلى أمثالها (5).

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.

كلمةٌ جعل الإخلاص تأويلها.

وضمَّن القلوب موصولها (6) .

__________

(1) سبوغ النعم: اتساعها.

(2) جم: كثر.

(3) نأى: بَعُد. وهكذا تفاوت.

(4) ندبهم: دعاهم والاستزادة: طلب زيادة الشكر. وهكذا استحمد.

(5) ثنى بالندب: أي كما أنّه ندبهم لاستزادتها كذلك ندبهم إلى أمثالها من موجبات الثواب.

(6) جعل القلوب محتوية لمعنى كلمة التوحيد.

٣٠٠