فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد0%

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد مؤلف:
الناشر: دار الأنصار
تصنيف: السيدة الزهراء سلام الله عليها
الصفحات: 568

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد كاظم القزويني
الناشر: دار الأنصار
تصنيف: الصفحات: 568
المشاهدات: 232305
تحميل: 9881

توضيحات:

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 568 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 232305 / تحميل: 9881
الحجم الحجم الحجم
فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

مؤلف:
الناشر: دار الأنصار
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

العبّاس يحاول عيادة السيّدة فاطمة

اشتدّ المرض بسيّدة نساء العالمين، وثقلت، فجاءها العباس بن عبد المطلب عائداً، فقيل له، إنّها ثقيلة، وليس يدخل عليها أحد، فانصرف إلى داره وأرسل إلى عليعليه‌السلام فقال لرسوله: قل له: يا ابن أخ! عمُّك يقرئك السلام ويقول لك: لله قد فاجأني من الغمّ بشكاة حبيبة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقرّة عينه وعيني فاطمة ما هدّني، وإنّي لأظنّها أوّلنا لحوقاً برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يختار لها ويحبوها ويزلفها لربّه.

فإن كان من أمرها ما لا بدَّ منه فاجمع - أنا لك الفداء - المهاجرين والأنصار حتى يصيبوا الأجر في حضورها والصلاة عليها، وفي ذلك جمال للدين.

فقال عليعليه‌السلام لرسوله: أبلغ عمّي السلام وقل: لا عدمتُ إشفاقك وتحيّتك، وقد عرفت مشورتك، ولرأيك فضله، إنّ فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم تزل مظلومة، من حقّها ممنوعة، وعن ميراثها مدفوعة، ولم تُحفظ فيها وصيّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ولا رُعي فيها حقّه ولا حق الله عزّ وجل، وكفى بالله حاكماً ومن الظالمين منتقماً، وأنا أسألك يا عمّ أن تسمح لي بترك ما أشرت به، فإنّها وصّتني بستر أمرها.

فلما بلّغ الرسول كلام علي إلى العباس قال: يغفر الله لابن أخي فإنّه

٥٠١

لمغفور له، إنَّ رأْي ابن أخي لا يُطعن فيه، إنّه لم يولد لعبد المطلب مولود أعظم بركة من علي إلاَّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إنّ علياً لم يزل أسبقهم إلى كل مكرمة، وأعلمهم بكل فضيلة، وأشجعهم في الكريهة، وأشدَّهم جهاداً للأعداء في نصرة الحنيفية، وأوّل مَن آمن بالله ورسوله(1) .

____________________

(1) بحار الأنوار ج43.

٥٠٢

فاطمة الزهراء على أعتاب الآخرة

كانت السيدة فاطمة الزهراء في ذلك اليوم، اليوم الأخير من حياتها طريحة على فراشها المتواضع، وقد أخذ الهزال منها كل مأخذ، وما بقي منها سوى الهيكل العظمي فقط.

نامت السيدة فاطمة في ساعة من ساعات ذلك اليوم، وإذا بها ترى أباها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في المنام، ولعلّ تلك المرَّة هي الأُولى والأخيرة التي رأت أباها الرسول في المنام.

رأت أباها في قصر من الدر الأبيض، فلمّا رآها قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : هلمِّي إليَّ يا بُنَيَّة، فإنِّي إليكِ مشتاق!!

فقالت: والله إنّي لأشد شوقاً منك إلى لقائك.

فقال لها: أنت الليلة عندي!!

انتبهت من غفوتها، واستعدّت للرحيل إلى الآخرة، فقد سمعت من أبيها الصادق المصدَّق الذي قال: (مَن رآني فقد رآني) سمعت منه نبأ ارتحالها فلا مجال للشك والتردّد في صدق الخبر.

فتحت عينها، واستعادت نشاطها، ولعلّها كانت في صحوة الموت وقامت لاتخاذ التدابير اللازمة، واغتنمت تلك السويعات الأخيرة من حياتها.

ويعلم الله مدى انشغال قلبها وتشتّت فكرها في تلك اللحظات، فهي مسرورة بالموت الذي سوف يحلُّ بها، فإنّها تستريح من هموم الدنيا

٥٠٣

وغمومها، وتلتحق بأبيها الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله حيث الرفيق الأعلى والدرجات العلا في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وتتحقق في حقّها البُشرى التي زفّها إليها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم قال لها: أنتِ أوّل أهل بيتي لحوقاً بي.

ولكنّها من ناحية أُخرى: يضطرم قلبها لأنّها سوف تترك زوجها العظيم وكفؤها الكريم وحيداً غريباً في هذه الحياة القاسية، بلا ناصر ولا معين سوى الله تعالى، فلقد كانت الزهراء خير محامية ومدافعة لزوجها في تلك الأحداث، فمَن الذي يقوم مقامها إذا هي فارقت الحياة؟!

وممّا كان يؤلمها في تلك السويعات أكثر وأكثر وكان يضغط على قلبها أنّها تفارق أطفالها الصغار، وكأنّهم أفراخ لم تنبت أجنحتهم بعد، وقد ذكرنا - فيما مضى - أنّ من جملة أسمائها: الحانية؛ لأنّها ضربت الرقم القياسي في الحنان والعطف على أولادها، وكانت أكثر أُمّهات العالم حبّاً وشفقةً على أطفالها الأعزّاء.

إنّها ستترك أفلاذ كبدها أهدافاً لسهام هذا الدهر الخؤون الذي لا يرحم كبيراً ولا صغيراً، ولا وضيعاً ولا شريفاً، وخاصة وأنّها قد سمعت من أبيها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّات عديدة: أنّ آل رسول الله هم المستضعفون وأنّهم سوف يرون أنواع الاضطهاد وألوان المصائب والذلّ والهوان، كما شاهدت هي ذلك بعد وفاة أبيها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ويعلم الله كيف كانت هذه الهواجس والأفكار تهاجم قلبها المنكسر المتألّم.

وعلى كل حال: فالحزن هنا لا يجدي ولا ينفع، ولا بدّ من الاستسلام للواقع المر، والتسليم لأمر الله وقضائه ولا بدّ من انتهاز هذه الفرصة القصيرة

٥٠٤

التي تمر مرّ السحاب.

أقبلت الزهراء تزحف أو تمشي مُتّكئة على الجدار نحو الموضع الذي يوجد فيه الماء من بيتها، وشرعت تغسل أطفالها بيديها المرتعشتين، ثم دعت أطفالها وطفقت تغسل رُؤوسهم بالماء والطين؛ لأنّها لم تجد غسيلاً غير الطين.

قف بنا لحظة! لنبكي على هذه السيدة التي قد اقترب أجلها، وهي تلمس رُؤوس أطفالها وأبدانهم النحيفة، وكأنّها تودّعهم، وما يدريك أنّها - حينذاك - كانت تبكي بصوت خافت، وتتقاطر الدموع من جوانب عينيها الغائرتين، وتسيل على وجهها المنكسف لتغسل الذبول المستولي عليه.

ودخل الإمام عليعليه‌السلام البيت، وإذا به يرى عزيزته قد غادرت فراش العلّة وهي تمارس أعمالها المنزلية.

رقَّ لها قلب الإِمام حين نظر إليها وقد عادت إلى أعمالها المتعبة التي كانت تجهدها أيام صحّتها، فلا عجب إذا سألها من سبب قيامها بتلك الأعمال بالرغم من انحراف صحّتها.

أجابته بكل صراحة: لأنّ هذا اليوم آخر يوم من أيام حياتي، قمت لأغسل رُؤوس أطفالي لأنّهم سيصبحون بلا أُم!!

سألها الإِمام عن مصدر هذا النبأْ فأخبرته بالرؤْيا، فهي بذلك قد نعت نفسها إلى زوجها بما لا يقبل الشك.

وصايا فاطمة الزهراء

إذن، فالسيدة فاطمة في أواخر ساعات الحياة، وقد حان لها أن تكاشف زوجها بما أضمرته في صدرها - طيلة هذه المدّة - من الوصايا التي يجب

٥٠٥

تنفيذها ولو بأغلى الأثمان ولا يمكن التسامح فيها أبداً؛ لأنَّ لها غاية الأهمّية.

كأنّها قد فرغت من أعمالها المنزلية وعادت إلى فراشها وقالت:

يا ابن عم!! إنّه قد نُعيت إليَّ نفسي، وإنّني لا أرى ما بي إلاَّ أنّني لاحقة بأبي بعد ساعة، وأنا أُوصيك بأشياء في قلبي.

قال لها عليعليه‌السلام : أوصيني بما أحببت يا بنت رسول الله، فجلس عند رأسها، وأخرج مَن كان في البيت، ثم قالت:

يا بن عم!! ما عهدتني كاذبة ولا خائنة.

وما خالفتك منذ عاشرتني.

قال عليعليه‌السلام : معاذ الله!! أنتِ أعلم باللهِ، وأَبرُّ وأتقى وأكرم، وأشدُّ خوفاً من الله من أن أُوبِّخك بمخالفتي.

وقد عزَّ عليَّ مفارقتك وفقدكِ.

إلاَّ أنَّه أمر لا بدَّ منه.

والله لقد جدّدتِ عليَّ مصيبة رسول الله، وقد عظمت وفاتك وفقدك فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

من مصيبة ما أفجعها وآلمها، وأمضَّها وأحزنها.

هذه مصيبة لا عزاء منها، ورزيّة لا خلف لها.

ثم بكيا جميعاً ساعة، وأخذ الإِمام رأْسها وضمها إلى صدره ثم قال:

أوصيني بما شئت، فإنّك تجدينني وفياً أُمضي كل ما أمرتني به، وأختار أمرك على أمري.

فقالت: جزاك الله عني خير الجزاء.

يا بن عم! أوُصيك أولاً:

أن تتزوج بعدي بابنة أُختي أُمامة، فإنّها تكون لُولدي مثلي، فإنّ الرجال لا بدَّ لهم من النساء.

٥٠٦

ثم قالت: أُوصيك أن لا يشهد أحد جنازتي من هؤلاء الذين ظلموني، فإنّهم عدوّي وعدو رسول الله، ولا تترك أن يصلّي عليَّ أحد منهم ولا من أتباعهم، وادفني في الليل إذا هدأت العيون ونامت الأبصار(1) .

الوصيّة بصورة أُخرى:

قالت: يا بن العم! إذا قضيت نحبي فغسِّلني ولا تكشف عنّي، فإنّي طاهرة مطهّرة، وحنِّطني بفاضل حنوط أبي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وصَلِّ عليِّ، وليصلِّ معك الأدنى فالأدنى من أهل بيتي وادفني ليلاً لا نهاراً، وسرّاً لا جهاراً، وعَفِّ موضع قبري، ولا تُشهد جنازتي أحداً ممّن ظلمني.

يا بن العم! أنا أعلم أنّك لا تقدر على عدم التزويج من بعدي فإن أنت تزوَّجت امرأة اجعل لها يوماً وليلة، واجعل لأولادي يوماً وليلة.

يا أبا الحسن! ولا تُصح في وجههما فيصبحْان يتيمين غريبين منكسرين، فإنّهما بالأمس فقدا جدَّهما واليوم يفقدان أُمَّهما، فالويل لأُمَّة تقتلهما وتبغضهما، ثم أنشأتْ تقول:

ابكني إن بكيت يا خير هادي

واسبل الدمع فهو يوم الفراقِ

يا قرين البتول أوصيك با

لنسل فقد أصبح حليف اشتياقِ

ابكني وابك لليتامى، ولا

تنس قتيل العدى بطَفّ العراقِ

وعن الإمام الباقرعليه‌السلام إنّ فاطمةعليها‌السلام - لما أرادت الوصيَّة - قالت لأمير المؤمنينعليه‌السلام :

يا أبا الحسن: إنّ رسول الله عهِد إليّ وحدَّثني أنّي أوّل أهله لحوقاً به،

____________________

(1) روضة الواعظين / بحار الأنوار ج 43.

٥٠٧

ولابدّ ممّا لابدّ منه، فاصبر لأمر الله وأرض بقضائه (1).

ورُوي عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال: لما حضرت فاطمة الوفاة، بكت، فقال لها أمير المؤمنين: يا سيّدتي ما يبكيك؟

قالت: أبكي لما تلقى بعدي.

قال لها: لا تبكي، فو الله ان ذلك لصغير عندي في ذات الله(2) .

وفي رواية: قالت لأمير المؤمنينعليه‌السلام : إنّ لي إليك حاجة يا أبا الحسن؟

قال: تُقضى يا بنت رسول الله.

قالت: نشدتك بالله وبحقّ محمد رسول الله أن لا يُصلّي عليَّ أبو بكر وعمر(3) .

وفي رواية عن عليعليه‌السلام قال: (إنّ فاطمةعليها‌السلام أوصت إليَّ وقالت:

إن هما صلَّيا عليَّ، شكوتك إلى أبي، بمثل الذي أشكوهما (4).

هذه بعض وصايا السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام التي يتجلّى فيها مدى تألّمها من ذلك المجتمع، ومدى تذمُّرها من الجفاة القساة.

إنّها اختارت أن تسجِّل اسمها في طليعة أسماء المضطهدين المحرومين وأن تدوِّن اسمها في سجلِّ المظلومين، حتى يكون اسمها رمزاً للمظلومية

____________________

(1) بيت الأحزان للقمّي ص 142.

(2) بحار الأنوار ج 43.

(3) بيت الأحزان للقمّي ص 142.

(4) كتاب كامل البهائي لعماد الدين الطبري ص 313، هو من علماء القرن السابع الهجري وله مؤلّفات كثيرة في أُصول الدين وفروعه وفضائل الأئمّة الطاهرينعليهم‌السلام وكان معاصراً للعلاّمة الحلّي والمحقّق الحلّي (رضوان الله عليهم أجمعين).

٥٠٨

والحرمان، وليكون تشييع جثمانها تعبيراً عن سخطها على السلطة وعلى كل مَن أيَّد تلك السلطة واعترف بها وتعاون معها.

وإعلاناً عن غضبها على كل مَن وقف من الزهراء موقفاً سلبيّاً.

أوصَت أن يُشيَّع جثمانها ليلاً وتجري مراسيم التشييع من التغسيل والتكفين والصلاة والدفن في جوٍّ من الكتمان.

وأن لا يشترك في تشييع جنازتها إلاَّ أفراد لم تتلوَّث ضمائرهم بالانحراف ولم تسوّد صفحاتهم بالانجراف.

أفراد كان موقفهم تجاه السيدة فاطمة - خلال فترة الانقلاب - موقفاً إيجابياً مشرفاً.

٥٠٩

حنوطُ الجَنّة

ولها وصايا أُخرى لزوجها بأن يتعهّد قبرها، ويقرأ القرآن عند مرقدها وغير ذلك ممّا ليست لها أهمّية كالبنود السابقة من وصاياها.

ثم طلبت السيدة فاطمة من أسماء بنت عميس الحنوط الذي جاء به جبرائيل من الجنّة، وقالت: يا أسماء ائتني ببقيّة حنوط والدي من موضع كذا وكذا، فضعيه عند رأْسي(1) .

وأمّا الحنوط وهو السدر والكافور فقد رُوي عن عليعليه‌السلام أنّه قال: كان في الوصية أن يدفع إليَّ الحنوط فدعاني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قبل وفاته بقليل: فقال: يا علي ويا فاطمة هذا حنوطي من الجنّة دفعه إليَّ جبرئيل وهو يقرئكما السلام ويقول لكما: أقسماه، واعزلا منه لي ولكما.

فقالت فاطمةعليها‌السلام : يا أبتاه لك ثُلثه. وليكن الناظر في الباقي علي بن أبي طالب.

فبكى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وضمَّها إليه وقال: موفَّقة، رشيدة، مهدية، ملهَمة.

يا علي قل لي في الباقي.

قال: نصف ما بقي لها، والنصف الآخر لمن ترى يا رسول الله!! قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : هو لك(2) .

____________________

(1) بحار الأنوار ج 43.

(2) مستدرك الوسائل في أحكام الكفن.

٥١٠

ثم دعت السيدة فاطمة سلمى امرأة أبي رافع وقالت لها: هيئي لي ماءً،

وفي رواية: (اسكبي لي غسلاً) ثم دعت بثيابها الجدد فاغتسلت أحسن ما يكون، ثم قالت: افرشي فراشي وسط البيت(1) .

أقول: لا أعرف السبب في اغتسال السيدة فاطمة وتبديل ثيابها وهي في أواخر ساعات الحياة، بل على أعتاب المنية.

ولعلّ السبب في ذلك - والله العالم - أنّهاعليها‌السلام أرادت أن تغسل آثار الجروح الموجودة على عضدها وعلى ضلعها، تلك الجروح التي حدثت لها عند باب بيتها من الضرب، كما تقدّم الكلام عنه.

وهكذا نزعت الثياب الملطّخة بالدماء والقيح، ولعلّهاعليها‌السلام أرادت أن تخفي ذلك عن ذويها الذين يحضرون ساعة تغسيلها.

وزعم البعض أنّها اغتسلت عوضاً عن غسل الميت الواجب بعد الموت، وأنّها أوصت أن لا تُغسل بعد الموت.

وهذا عجيب من المحدِّثين كيف يذكرون هذه الأُسطورة أو الأُكذوبة؟ مع العلم أنّ غسل الميت إنّما يجب بعد الموت لا قبل الموت.

نعم، بالنسبة للمحكوم عليهم بالقتل يغتسلون قبل تنفيذ حكم الإعدام عليهم، وليس هذا المورد من تلك الموارد.

ثم إنّ الفقهاء إنّما استدلّوا على جواز تغسيل الزوج زوجته بعد الموت بتغسيل الإِمام أمير المؤمنين زوجته السيدة فاطمةعليها‌السلام بعد وفاتها بحيث صار هذا الأمر أوضح من الشمس، وأشهر من أمس، فما فائدة ذكر هذا القول الشاذ الذي لا يعبأْ به أحد؟

____________________

(1) بحار الأنوار ج43.

٥١١

فاطمة الزهراءعليها‌السلام تفارق الحياة

انتقلت السيدة فاطمةعليها‌السلام إلى فراشها المفروش قي وسط البيت، واضطجعت مستقبلة القبلة، واضعة يدها تحت خدِّها بعد أن هيّأت طعاماً لأطفالها.

وقيل: إنّها أرسلت ابنتيها: زينب وأُم كلثوم إلى بيوت بعض الهاشميات لئلاّ تشاهدا موت أُمّهما، كل ذلك من باب الشفقة والرأْفة، والتحفّظ عليهما من صدمة مشاهدة المصيبة.

ويستفاد من بعض الأحاديث أنّ الإِمام عليّاً والحسن والحسينعليهم‌السلام كانوا خارج البيت في تلك الساعة، ولعلّ خروجهم كان لأسباب قاهرة وظروف معيّنة.

وعلى كلٍّ حال... فإنّهم لم يحضروا تلك الدقائق الأخيرة من حياة أُمِّهم، وإنّما كانت أسماء حاضرة وملازمة لها، ويُستفاد من بعض الأحاديث أنّ خادمتها فضّة أيضاً حاضرة.

حانت ساعة الاحتضار وحالة النزع، وانكشف الغطاء، ونظرت السيدة فاطمة نظراً حادّاً ثم قالت:

السلام على جبرائيل.

السلام على رسول الله.

اللّهمّ مع رسولك.

اللّهمّ في رضوانك وجوارك ودارك دار السلام.

٥١٢

ثم قالت: أترون ما أرى؟

فقيل لها: ما ترين؟

قالت: هذه مواكب أهل السماوات وهذا جبرئيل، وهذا رسول الله يقول: يا بنية أقدمي، فما أمامك خير لك.

وفتحت عينيها... ثم قالت: وعليك السلام يا قابضْ الأرواح عجِّل بي ولا تعذّبني، ثم قالت: إليك ربّي لا إلى النار.

ثم أغمضت عينيها، ومدّت يديها ورجليها وفارقت الحياة.

فشقّت أسماء جيبها، ووقعت عليها تقبِّلها وهي تقول: يا فاطمة إذا أقدمت على أبيك رسول الله فأقرئيه عن أسماء بنت عميس السلام.

ودخل الحسن والحسين فوجدوا أُمّهما مسجّاة فقالا: يا أسماء ما يُنيم أُمَّنا في هذه الساعة؟

قالت: يا ابني رسول الله ليست أُمُّكما نائمة، قد فارقت الدنيا.

فألقى الحسن نفسه عليها يقبِّل رجلها ويقول: يا أُمّاه كلّميني قبل أن تفارق روحي بدني.

وهكذا الحسين كان يقبّل رجلها ويقول: يا أُمّاه! أنا ابنك الحسين!! كلِّميني قبل أن يتصدَّع قلبي فأموت.

قالت لهما أسماء: يا ابني رسول الله انطلقا إلى أبيكما فأخبراه بموت أُمّكما. فخرجا يناديان: يا محمّداه!

يا أحمداه!

اليوم جُدِّد لنا موتك إذ ماتت أُمُّنا.

حتى إذا كانا قرب المسجد رفعا أصواتهما بالبكاء.

٥١٣

فابتدر إليهما جمع من الصحابة وسألوهما عن سبب بكائهما؟

فقالا: أو ليس قد ماتت أُمّنا فاطمة!

فوقع الإِمام علي على وجهه يقول: بمَن العزاء يا بنت محمد؟ كنتُ بكِ اتعزّى ففيم العزاء من بعدكِ؟.

قال الراوي: ثم حمل عليعليه‌السلام الحسنين، حتى ادخلهما بيت فاطمةعليها‌السلام وعند رأسها أسماء تبكي وتقول: وا يتامى محمد!

فلمّا نظرعليه‌السلام إلى سيّدة النساء ميتة، مدَّ يده ورمى العمامة من على رأسه، والرداء من على منكبيه، وبكى بكاءً شديداً.

ثم كشفعليه‌السلام عن وجهها، فإذا برقعة عند رأسها، جاء فيها:

(... يا علي أنا فاطمة بنت محمد، زوَّجني الله منك، لأكون لك في الدنيا والآخرة.

أنت أولى بي من غيري.

حنّطني وغسّلني وكفّني بالليل، وصلِّ عليّ، وادفّني بالليل، ولا تُعلم أحداً.

وأستودعك الله واقرأ على ولديَّ السلام إلى يوم القيامة)(1) .

____________________

(1) بيت الأحزان ص 152 عن بحار الأنوار ج43.

٥١٤

ما بعد الوفاة

ارتجّت المدينة بالبكاء من الرجال والنساء، ودهش الناس كيوم قُبض فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وصاح أهل المدينة صيحة واحدة، واجتمعت نساء أهل المدينة في دار السيدة فاطمة، فرأينها مسجّاة في حجرتها، وحولها أيتامها يبكون على أُمهم التي فقدوها في عنفوان شبابها، صرخت النساء صرخة كادت المدينة أن تتزعزع من صراخهن وهن يصحن: يا سيدتاه، يا بنت رسول الله(1) .

وأقبل الناس مسرعين وازدحموا مثل عُرف الفرس على باب البيت، وعلي جالس، والحسن والحسين بين يديه يبكيان، فبكى الناس لبكائهما.

وكانت أم كلثوم تبكي وتقول: يا أبتاه يا رسول الله!

الآن حقّاً فقدناك.

فقداً لا لقاء بعده أبداً.

وجاءت عائشة لتدخل فقالت أسماء: لا تدخلي. فكلَّمت عائشة أبا بكر فقالت: إنّ الخثعمية تحول بيننا وبين ابنة رسول الله وقد جعلت لها هودج العروس.

فجاء أبو بكر فوقف على الباب فقال: يا أسماء ما حملك على أن منعت أزواج النبي أن يدخلن على بنت رسول الله؟ وجعلتِ لها مثل

____________________

(1) المجالس السنية ج 5.

٥١٥

هودج العروس؟

فقالت أسماء: إنّ فاطمة أمرتني أن لا يدخل عليها أحد، وأريتُها هذا الذي صنعت وهي حيّة، فأمرتني أن أصنع لها ذلك.

قال أبو بكر: فاصنعي ما أَمَرَتْكِ. ثم انصرف.

وأقبل الشيخان إلى علي يعزّيانه، ويقولان له: يا أبا الحسن لا تسبقنا بالصلاة على ابنة رسول الله.

فلم يجبهما عليعليه‌السلام .

فقال عمر لأبي بكر: إنّ عليّاً لا يُجيبنا لشدَّة حزنه(1) .

كان الناس ينتظرون خروج الجنازة فأمر عليعليه‌السلام أبا ذر وقيل: سلمان، فنادى: انصرفوا، فإنّ ابنة رسول الله قد أُخِّر إخراجها في هذه العشيّة(2) .

فقال عمر لأبي بكر: إنّهم يريدون دفنها سرّاً، حتى لا نشهد جنازتها(3) .

وهكذا تفرّق الناس، وهم يظنّون أنّ الجنازة تشيّع صباح غدٍ، إذ إنّ السيدة فاطمة الزهراء فارقت الحياة بعد صلاة العصر، أو أوائل الليل(4) .

مراسم التغسيل والتكفين

مضى من الليل شطره، وهدأت الأصوات، ونامت العيون، ثم قام

____________________

(1) كامل البهائي لعماد الدين الطبري ج 1 ص 311.

(2) أي: إنّ تشييع الجنازة سيتم في وقت متأخّر من الليل؛ ولهذا قال: قد أُخّر إخراجها في هذه العشيّة، ولم يقل: عن هذه العشيّة. إلاّ أنّ الناس فهموا من كلامه غير ما قصده.

(3) كامل البهائي لعماد الدين الطبري ج 1 ص 311.

(4) بحار الأنوار ج 43.

٥١٦

الإِمام لينفِّذ وصايا السيدة فاطمة.

حمل ذلك الجسد النحيف الذي أذابته المصائب حتى صار كالهلال.

حمل ذلك البدن الطاهر كي يُجري عليه مراسم السُّنة الإِسلامية.

وضع ذلك الجثمان المطهّر على المغتسل، ولم يجرّد فاطمة من ثيابها تلبيةً لطلبها، إذ لا حاجة إلى نزع الثوب عن ذلك البدن الذي طهّره الله تطهيراً، ويكفي صبّ الماء على البدن، كما صنع ذلك في تغسيل النبي الطاهر.

وهناك أسماء بنت عميس، تلك السيدة الوفيّة الطيّبة التي استقامت على علاقاتها الحسنة مع أهل البيت، فهي تناول عليّاً الماء لتغسيل السيدة فاطمة.

يقول الإِمام الحسينعليه‌السلام : غسَّلها ثلاثاً وخمساً، وجعل في الغسلة الأخيرة شيئاً من الكافور، وأشعرها مئزراً سابغاً دون الكفن(1) ، وهو يقول:

اللّهمّ إنّها أَمَتك، وابنة رسولك وصفيّك، وخيرتك من خلقك اللّهمّ لقِّنها حجّتها، وأعظم برهانها، وأعل درجتها، واجمع بينها وبين أبيها محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله (2) .

وبعد الفراغ من التغسيل حملها ووضعها على أكفانها، ثم نشّفها بالبردة التي نشف بها رسول الله(3) وحنَّطها بحنوط السماء الذي يمتاز عن حنوط الدنيا.

ثم لفَّها في أكفانها، وكفَّنها في سبعة أثواب(4) .

____________________

(1) الشعار: ما ولي شعر جسد الإنسان دون ما سواه / لسان العرب ج 4 ص 412.

(2 و 3) مستدرك الوسائل باب تغسيل الميّت ج 2 ص 199 الطبعة الحديثة.

(4) مستدرك الوسائل، باب تغسيل الميت.

٥١٧

وإنّما قام عليعليه‌السلام بتغسيلها، ولم يكلّف أحداً من النساء بذلك لأسباب:

1- تلبية لطلبها، وتنفيذاً لوصيتها.

2- إثباتاً لعصمتها وطهارتها، فإنّ تغسيل الميت يعتبر تطهيراً له، وأمّا بالنسبة للمعصومين فلا يسمح للأيدي الخاطئة أن تمدّ لتغسيلهم، وإنّما هو من واجبات المعصوم الخاصة أن يقوم بعملية التطهير، وقد مرّ عليك الحديث عن الإِمام الصادقعليه‌السلام حول كونها صدّيقة، وأن الصدّيقة لا يغسلها إلاَّ صدّيق.

فكان الغرض من تلك الوصيّة وتنفيذها إثبات عصمتها، والتنويه بذلك في شتّى المجالات وكافّة المناسبات.

ويصرّح الإِمامعليه‌السلام بذلك حيث يقول: فغسّلتها في قميصها ولم أكشفه عنها فو الله لقد كانت ميمونة طاهرة مطهّرة... الخ(1) .

وهناك أحاديث شاذّة بلغت القمّة في الشذوذ، فمنها الحديث الذي يذكره الدولابي وغيره أنّ الزهراءعليها‌السلام اغتسلت قبل وفاتها، وأوصت أن لا يغسّلها أحد بعد موتها، وأنّها دُفنت بلا تغسيل!!

ويأْتي بعض علمائنا القدامى ليصحّح هذا الخطأْ فيقول: فلعلّ ذلك كان من خصائصهاعليها‌السلام .

أقول: وهل تثبت أمثال هذه الأمور بـ (لعلّ) و(ليت) وخاصة مع تصريح الروايات المعتبرة وتواتر الأحاديث الصحيحة: أنّ عليّاً هو الذي تولّى تغسيلها؟

____________________

(1) بحار الأنوار ج43.

٥١٨

أضف إلى ذلك: أنّ تغسيل الميت المسلم واجب شرعاً.

وداعاً يا امّاه

رأى الإِمام أنّ يتامى فاطمة ينظرون إلى أُمّهم البارّة الحانية، وهي تُلفّ في أثواب الكفن، إنّها لحظة فريدة في الحياة، لا يستطيع القلم وصفها، إنها لحظة يهيج فيها الشوق الممزوج بالحزن، إنّه الوداع الأخير الأخير!!

هاجت عواطف الأب العطوف على أطفاله المنكسرة قلوبهم، فلم يعقد الخيوط على الكفن، بل نادى - بصوت مختنق بالبكاء -: يا حسن يا حسين يا زينب يا أُم كلثوم هلمّوا وتزوّدوا من أُمّكم، فهذا الفراق، واللقاء في الجنة!!

كان الأطفال ينتظرون هذه الفرصة وهذا السماح لهم لكي يودّعوا تلك الحوراء، ويعبّروا عن آلامهم وأصواتهم ودموعهم المكبوتة المحبوسة، فأقبلوا مسرعين، وجعلوا يتساقطون على ذلك الجثمان الطاهر كما يتساقط الفَراش على السراج.

ونادى الحسنان: وا حسرةً لا تنطفئ أبداً، من فقد جدّنا محمد المصطفى وأُمّنا فاطمة الزهراء، يا أُمّ الحسن يا أُمّ الحسين إذا لقيت جدَّنا محمداً المصطفى فاقرأيه منّا السلام وقولي له: إنّا بقينا بعدك يتيمين في دار الدنيا.

كانوا يبكون بأصوات خافتة، ويغسلون كفن أُمّهم الحانية بالدموع، فتجفّفها الآهات والزفرات.

٥١٩

كان المنظر مشجياً مثيراً للحزن، فالقلوب ملتهبة، والأحاسيس مشتعلة والعواطف هائجة، والأحزان ثائرة.

وهنا حدث شيء يعجز القلم عن تحليله وشرحه، وينهار أمامه قانون الطبيعة، ويأْتي دور ما وراء الطبيعة، فالقضية عجيبة في حدّ ذاتها؛ لأنّها تحدّت الطبيعة والعادة:

يقول عليعليه‌السلام وهو إذ ذاك يشاطر أيتام فاطمة في بكائهم وآلامهم.

يقول: (أُشهد الله أنّها حنَّت وأنَّت وأخرجت يديها من الكفن، وضمَّتهما إلى صدرها مليّاً).

إن كانت حياة السيدة فاطمة الزهراء قد تعطّلت فإنّ أحاسيسها وإدراكها لم تتعطّل، وإن كانت روحها الطاهرة قد فارقت جسدها المطهّر فإنّ علاقة الروح لم تنقطع عن البدن بعد، فلروحها القويّة أن تتصرّف في جسمها في ظروف خاصة وموارد معيّنة.

كان ذلك المنظر العجيب مثيراً لأهل السماوات الذين كانت أبصارهم شاخصة نحو تلك النقطة من بيت عليعليه‌السلام فلا عجب إذا ضجّت الملائكة وشاركت أهل البيت في بكائهم، فلا غرو إذا سمع الإِمام علي صوت أحدهم يهتف قائلاً: يا علي! ارفعهما فلقد أبكيا ملائكة السماوات وقد اشتاق الحبيب إلى حبيبه.

يتقدّم الإِمام ليرفع طفليه عن صدر أُمهما، وعيناه تذرفان بالدموع.

الصلاة على الجنازة

وانتهت مراسيم التكفين والتحنيط، وجاء دور الصلاة عليها ثم الدفن.

لقد حضر الأفراد الذين تقرّر أن يشتركوا في تشييع الجثمان ومراسم

٥٢٠