مفهوم البداء في الفكر الاسلامي
0%
مؤلف: السيد هاشم الموسوي
تصنيف: مفاهيم عقائدية
الصفحات: 65
مؤلف: السيد هاشم الموسوي
تصنيف: الصفحات: 65
المشاهدات: 10095
تحميل: 5596
توضيحات:
مؤلف: السيد هاشم الموسوي
تصنيف: مفاهيم عقائدية
الصفحات: 65
مؤلف: السيد هاشم الموسوي
البَداء في تحليل العلماء
وقد تناول علماء أهل البيتعليهمالسلام مفهوم البداء بالدراسة والتحليل فكشفوا غوامضه العقيدية، وأوضحوا محتوى الفكرة ومضمون المصطلح.
نذكر من ذلك البيان حديث الشيخ الصدوق عن البَداء، الذي أوضح لنا معناه كما أوضح أنّ البداء هو رد على الفهم اليهودي المحرّف فقالرحمهالله : «ليس البَداء كما يظنّه جهّال النّاس بأنّه بداء ندامة، تعالى الله عن ذلك، ولكن يجب علينا أن نقرَّ لله (عزّ وجلّ) بأنَّ له البداء، معناه أنَّ له أن يبدأ بشيء من خلقه فيخلقه قبل شيء ثمَّ يعدم ذلك الشيء ويبدأ بخلق غيره، أو يأمر بأمر، ثمَّ ينهى عن مثله، أو ينهى عن شيء ثمَّ
يأمر بمثل ما نهى عنه، وذلك مثل نسخ الشرايع، وتحويل القبلة، وعدَّة المتوفّى عنها زوجها، ولا يأمر الله عباده بأمر في وقت ما إلاّ وهو يعلم أنَّ الصلاح لهم في ذلك الوقت في أن يأمرهم بذلك، ويعلم أنَّ في وقت آخر الصلاح لهم في أن ينهاهم عن مثل ما أمرهم به، فإذا كان ذلك الوقت أمرهم بما يصلحهم، فمن أقرَّ لله (عزّ وجلّ) بأنَّ له أن يفعل ما يشاء، ويعدم ما يشاء، ويخلق مكانه ما يشاء، ويقدِّم ما يشاء، ويؤخّر ما يشاء، ويأمر بما شاء، كيف شاء فقد أقرَّ بالبداء، وما عُظِّم الله (عزّ وجلّ) بشيء أفضل من الإقرار بأنَّ له الخلق والأمر، والتقديم، والتأخير، وإثبات ما لم يكن ومحو ما قد كان.
والبداء هو ردٌّ على اليهود لأنهم قالوا: إنَّ الله قد فرغ من الأمر فقلنا: إنَّ الله كلَّ يوم هو في شأن، يحيي ويميت ويرزق ويفعل ما يشاء. والبداء ليس من ندامة، وإنّما هو ظهور أمر، يقول العرب: بدا لي
شخص في طريقي، أي ظهر، قال الله (عزّ وجلّ):( ... وَبَدا لَهُم مِّنَ اللهِ مَا لَم يَكُونُواْ يَحتَسِبُونَ ) (1) أي ظهر لهم، ومتى ظهر لله (تعالى ذكره) من عبد صلة لرحمه زاد في عمره، ومتى ظهر له منه قطيعة لرحمة نقَّص من عمره، ومتى ظهر له من عبد إتيان الزِّنا نقَّص من رزقه وعمره، ومتى ظهر له منه التعفّف عن الزِّنا زاد في رزقه وعمره»(2) .
وتحدث السيد الداماد في نبراس الضياء، وهو من فلاسفة الشيعة وعلمائهم البارزين في القرن الحادي عشر، تحدث عن البداء فقال: «البداء منزلته في التكوين منزلة النسخ في التشريع، فما في الأمر التشريعي والأحكام التكليفية نسخ فهو في الأمر التكويني والمكوّنات الزمانية بَداء، فالنسخ كأنه بَداء تشريعي، والبداء كأنّه نسخ تكويني.
____________________
(1) سورة الزمر: آية 47.
(2) الشيخ الصدوق / التوحيد: ص 335 «باب البَداء».
ولا بداء في القضاء(1) ، ولا بالنسبة إلى جناب القدس الحق... وإنما البداء في القدر(2) ، وفي امتداد الزمان الذي هو اُفق التقضّي والتجدّد...
وكما حقيقة النسخ عند التحقيق انتهاء الحكم التشريعي وانقطاع استمراره، لا رفعه وارتفاعه من وعاء الواقع، فكذا حقيقة البَداء عند الفحص البالغ انبتات(3) استمرار الأمر التكويني وانتهاء اتصال الإفاضة.
ومرجعه إلى تحديد زمان الكون، وتخصيص وقت الإفاضة، لا أنه ارتفاع المعلول الكائن عن وقت كونه وبطلانه في حد حصوله»(4) .
وتحدث العلاّمة المجلسي عن البداء وعن أصالة
____________________
(1) القضاء: ابرام الشيء والحكم بإيجاده.
(2) القدر: هو تقدير الشيء: من الشكل والصورة والبقاء والفناء... الخ.
(3) الانبتات: الانقطاع.
(4) المجلسي / بحار الأنوار 4: 126 - 128.
الفكر الإمامي ودفاعه عن عقيدة التوحيد بتثبيت مفهوم البداء فقال: «فنقول - وبالله التوفيق -: إنهم إنما بالغوا في البداء ردّاً على اليهود الذين يقولون: إنّ الله قد فرغ من الأمر، وعلى النظّام وبعض المعتزلة الذين يقولون: إن الله خلق الموجودات دفعة واحدة على ما هي عليه الآن: معادن ونباتاً وحيواناً وإنساناً، ولم يتقدّم خلق آدم على خلق أولاده، والتقدم إنما يقع في ظهورها، لا في حدوثها ووجودها، وإنما أخذوا هذه المقالة من أصحاب الكمون والظهور من الفلاسفة وعلى بعض الفلاسفة القائلين بالعقول والنفوس الفلكية، وبأن الله تعالى لم يُؤثَّر حقيقةً إلاّ في العقل الأول، فهم يعزلونه تعالى عن ملكه، وينسبون الحوادث إلى هؤلاء، فنفوا ذلك(1) ، وأثبتوا أنه تعالى كل يوم في شأن، من إعدام شيء، وإحداث شيء آخر، وإماتة شخص، وإحياء آخر إلى غير ذلك، لئلا يترك العباد
____________________
(1) يعني الشيعة الإمامية.
التضرع إلى الله ومسألته وطاعته، والتقريب إليه بما يصلح اُمور دنياهم وعقباهم، وليرجوا عند التصدق على الفقراء وصلة الأرحام وبرّ الوالدين والمعروف والإحسان ما وُعدوا عليها من طول العمر وزيادة الرزق وغير ذلك»(1) .
وتحدث المرجع الديني السيد أبو القاسم الخوئيقدسسره عن البداء وعن قدرة الله ومشيئته وعلمه سبحانه فقال: «لا ريب في أنّ العالم بأجمعه تحت سلطان الله وقدرته وأنّ وجود أيّ شيء من الممكنات منوط بمشيئته تعالى، فان شاء أوجده، وإن لم يشأ لم يوجده، ولا ريب أيضاً في أنّ علم الله سبحانه قد تعلق بالأشياء كلها منذ الأزل، وأنّ الأشياء بأجمعها كان لها تعيّن علمي في علم الله الأزلي، وهذا التعين يُعبّر عنه ب (تقدير الله) تارة وب (قضائه) تارة اُخرى... فمعنى
____________________
(1) المصدر السابق ص 129 - 130.
تقدير الله تعالى للأشياء وقضائه بها: أن الأشياء جميعها كانت متعينة في العلم الإلهي مند الأزل على ما هي عليه من أنّ وجودها معلّق على أن تتعلق المشيئة بها، حسب اقتضاء المصالح والمفاسد التي تختلف باختلاف الظروف والتي يحيط بها العلم الإلهي»(1) .
ثمّ أوضح بعد ذلك موقف الفكر اليهودي المنحرف من قدرة الله تعالى فقال: «وذهب اليهود إلى أنّ قلم التقدير والقضاء حينما جرى على الأشياء في الأزل استحال أن تتعلق المشيئة بخلافه، ومن أجل ذلك قالوا: يد الله مغلولة عن القبض والبسط والأخذ والإعطاء، فقد جرى فيها قلم التقدير، ولا يمكن فيها التغيير»(2) .
وهذا القسم هو الّذي يقع فيه البَداء:( يَمحُو اللهُ
____________________
(1) السيد الخوئي / البيان في تفسير القرآن: ص 407 - 408.
(2) المصدر السابق: ص 408.
مَا يَشَآءُ ويُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ ) (1) .
( ... للهِ الأمرُ مِنْ قَبلُ وَمِنْ بَعدُ... ) (2) .
ثمّ أوضح رأي الشيعة الإمامية في البداء بقوله: «ثمّ إنّ البداء الذي تقول به الشيعة الإمامية إنما يقع في القضاء غير المحتوم، أما المحتوم منه فلا يتخلّف، ولابد من أن تتعلق المشيئة بما تعلق به القضاء»(3) .
ثمّ استدل لذلك بتفسير أئمة أهل البيت الباقر والصادق والكاظمعليهمالسلام لقول الله (عزّ وجلّ):( فِيَها يُفرَقُ كُلُّ أمرٍ حَكِيمٍ ) (4) «أي يقدِّر الله كلّ أمر من الحق ومن الباطل، وما يكون في تلك السنةً، وله فيه البداء والمشيئة، يقدّم ما يشاء، ويؤخّر ما يشاء من الآجال والأرزاق والبلايا والأعراض والأمراض،
____________________
(1) سورة الرعد: آية 39.
(2) سورة الروم: آية 4.
(3) السيد الخوئي / البيان في تفسير القرآن: ص 409.
(4) سورة الدخان: آية 4.
ويزيد فيها ما يشاء وينقص ما يشاء...»(1) .
ثمّ يلخص رأي الشيعة الإمامية بقوله: «وخلاصة القول: إنّ القضاء الحتمي المعبّر عنه باللوح المحفوظ وبأُمّ الكتاب، والعلم المخزون عند الله يستحيل أن يقع فيه البداء، وكيف يتصوّر فيه البداء؟ وأن الله سبحانه عالم بجميع الأشياء منذ الأزل، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.
روى الصدوق في (كمال الدين) بإسناده عن أبي بصير وسماعة عن أبي عبد اللهعليهالسلام قال:
«من زعم أنّ الله (عزّ وجلّ) يبدو له في شيء لم يعلمه فابرؤوا منه».
وروى العياشي عن ابن سنان عن أبي عبد اللهعليهالسلام : أنّ الله يقدّم ما يشاء ويؤخّر ما يشاء، ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء وعنده اُمّ الكتاب. وقال: فكلّ أمر
____________________
(1) السيد الخوئي / البيان في تفسير القرآن: ص 411.
يريده الله فهو في علمه قبل أن يصنعه، ليس شيء يبدو له إلاّ وقد كان في علمه. إنّ الله لا يبدو له من جهل»(1) .
ثمّ أوضح بعد ذلك سبب البحث في مسألة البداء فقال: «فالقول في بالبداء: هو الاعتراف الصريح بأنّ العالم تحت سلطانه وقدرته في حدوثه وبقائه، وأنّ إرداة الله نافذة في الأشياء أزلاً وأبداً...
والقول بالبداء يوجب انقطاع العبد إلى الله وطلبه إجابة دعائه منه، وكفاية مهماته وتوفيقه للطاعة وإبعاده عن المعصية، فإن إنكار البداء والالتزام بأنّ ما جرى به قلم التقدير كائن لا محالة - دون استثناء - يلزمه يأس المُعتِقد بهذه العقيدة عن اجابة دعائه...
والسِّر في هذا الاهتمام: أنّ إنكار البداء يشترك بالنتيجة مع القول بأنّ الله غير قادر على أن يغيِّر ما
____________________
(1) السيد الخوئي / البيان في تفسير القرآن: ص 412 - 413.
جرى عليه قلم التقدير. تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً»(1) .
وجرياً على هذه القاعدة ناقش الخواجة نصير الدين الطوسي الفلاسفة الّذين نفوا علم الله بالجزئيات بقوله: «وتغيّر الإضافات ممكن».
وعلّق الشارح العلاّمة الحلّي على ذلك بقوله:
«أقول: هذا جواب عن اعتراض الحكماء القائلين بنفي علمه تعالى بالجزئيات الزمانية وتقرير الاعتراض: ان العلم يجب تغيّره عند تغيّر المعلوم وإلاّ لانتفت المطابقة، لكن الجزئيات الزمانية متغيّرة، فلو كانت معلومة عند الله تعالى لزم تغيّر علمه تعالى، والتغيّر في علم الله تعالى محال، وتقرير الجواب أنّ التغيّر هذا إنما هو في الإضافات لا في الذات، ولا في الصفات الحقيقية...»(2) .
____________________
(1) المصدر السابق: ص 414 - 415.
(2) العلاّمة الحلي / كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: ص 312.
الخلاصة
وهكذا يتضح الرأي الإمامي في مفهوم البداء وتتحدّد معالمه الأساسية من خلال ما بيّنه أئمة أهل البيتعليهمالسلام ، وعرضه وناقشه علماء ومتكلّمو الإمامية.
فهو لا يعني تغيّر علم الله تعالى ولا نقض إرادته، بل إنّ علمه سابق لما سيكون وسيحدث من تغيير موقوف على تغيير المصالح والأوضاع البشرية، كأن يغيّر الإنسان ما بنفسه من سوء أو خير فيغيّر الله ويحدث له وضعاً آخر، أو يحدث الإنسان طاعة كالدعاء أو الصدقة أو البر والإحسان فيدفع الله عنه السوء والمكروه وينجز له طلبته.
فإنَّ الأمر لا يخرج من يد الله ومشيئته، واستدلوا لذلك بقوله تعالى:( يَمحُواْ الله مَا يَشَآءُ وَيُثِبتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَاب ) (1) ،( ما ننسخْ من ءَآيَةٍ أو نُنسِهَا نَأتِ بخَيرٍ مِّنهَا أو مِثلِهَا... ) (2) .
وبقوله:( ... للهِ الأمرُ مِنْ قَبلُ وَمِنْ بَعدُ... ) (3) ، ( ... إنَّ اللهَ لاَ يُغيّرُ مَا بِقَومٍ حَتَّى يُغيِّرواْ مَا بِأنفُسِهِمْ... ) (4) .
وبعد قراءة بيان الفكر الإمامي لمفهوم البَداء في العقيدة الإسلامية نلخّص أبرز ما جاء في هذا الفهم والبيان، هو:
1 - إنّ أول من استعمل مصطلح البَداء هو الرسول الكريم محمدصلىاللهعليهوآله .
____________________
(1) سورة الرعد: آية 39.
(2) سورة البقرة: آية 106.
(3) سورة الروم: آية 4.
(4) سورة الرعد: آية 11.
2 - إنّ البَداء في عالم التكوين كالنسخ في عالم التشريع.
3 - إنّ المسلمين جميعاً يقولون بالبَداء كمعنى، ويختلفون في إطلاق المصطلح على هذا المعنى، وبعد أن ثبت استعمال الرسول لهذا اللفظ، يكون الإشكال اللفظي قد حُلّ، ولم تعد هناك مشكلة عقيدية في استعمال المصطلح.
4 - إنّ إبراز عقيدة البَداء من جانب الفكر الشيعي بهذا الشكل المكثف جاء ردّاً على الفكر اليهودي المنحرف الذي ادّعى بأنّ الله سبحانه قد خلق الخلق، وفرغ منه، وهو غير قادر على أنْ يُحدث فيه شيئاً آخر، أو يغيّر في الخلق ما يشاء.
كما جاء ردّاً على أصحاب الفكر المنحرف من الفلاسفة المتأثرين بالفكر اليوناني وبعض متكلمي المعتزلة الذين شطّ بهم الفهم عن الرؤية التوحيدية الأصيلة.
5 - إنّ البَداء لا يعني تغيّر علم الله سبحانه، بل إنّ الله عالم بما يحدث ويتغيّر في الخلق علماً أزلياً.
6 - إنّ ما جاء في القرآن الكريم من إجابة دعاء الأنبياء والمضطرّين وتغيير ما بهم، وما تحدثت به السنّة المطهّرة من حثٍّ على الصدقة والبرّ وصلة الأرحام، وتأثير ذلك في إطالة العمر، ورفع البلاء، وتغيير ما بالإنسان، إنْ هو إلاّ مصداق لمفهوم البداء. ولا يُقصد بالبداء إلاّ هذا التغيير وأمثاله.
7 - إنّ ما يثبت في اُمّ الكتاب - اللوح المحفوظ - أي العلم المخزون الذي لم يطلع الله سبحانه عليه أحداً من ملائكته أو رسله، هو الأصل الثابت الذي لا تغيير فيه ولا تبديل، إنما يقع التبديل والتغيير فيما يجري تنفيذه في عالم الخلائق الّذي عبّر عنه القرآن الكريم بقوله:( إنّا أنزَلْناه في لَيلَةِ القَدرِ * وَمَا أدرَاكَ مَا لَيلَةُ القَدرِ* لَيلَةُ القَدرِ خَيرٌ مِّنْ ألْفِ