سيدة عش آل محمد صلى الله عليه وآله

سيدة عش آل محمد صلى الله عليه وآله0%

سيدة عش آل محمد صلى الله عليه وآله مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 152

سيدة عش آل محمد صلى الله عليه وآله

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد أبو الحسن هاشم
تصنيف: الصفحات: 152
المشاهدات: 40329
تحميل: 6795

توضيحات:

سيدة عش آل محمد صلى الله عليه وآله
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 152 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 40329 / تحميل: 6795
الحجم الحجم الحجم
سيدة عش آل محمد صلى الله عليه وآله

سيدة عش آل محمد صلى الله عليه وآله

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

٣ - هل تزوجت السيدة المعصومةعليها‌السلام ؟

٤١

٤٢

حتى نحصل على إجابة هذا السؤال، لا بدّ لنا من قراءة متأنّية في وصيٌتين لأبيها الإمام الكاظمعليه‌السلام وفي روايات أخرى.

فتعالوا نستطلع الروايات والتأريخ لنحصل على الجواب، ونعرف حقيقة الأمر.

قال اليعقوبي - المؤرِّخ -: (أوصى موسى بن جعفر ألاّ تتزوج بناته، فلم تتزوّج واحدة منهن إلاّ أم سلمة، فإنها تزوجت بمصر، تزوجها القاسم بن محمد بن جعفر بن محمد، فجرى في هذا بينه وبين أهله شيء شديد حتى حَلَف أنّه ما كشف لها كنفاً، وأنّه ما أراد إلاّ أن يحج بها(١) )(٢) .

ولكن عند الرجوع إلى وصية الإمام الكاظمعليه‌السلام التالية نرى أنّ الإمام لم يوص بذلك وإنّما أوصى أن يكون أمر زاجهن بيد أخيهن الإمام الرضاعليه‌السلام حيث إنّه قال:« وإلى علي أمر نسائي دونهم (٣) ... وإن أراد رجل منهم (٤) أن يزّوج أخته فليس له

____________

(١) أي، الظاهر أن يكون لها محرماً فيستطيع أن يحجٌ بها - وليس بواجب عندنا -.

(٢) تاريخ اليعقوبي: ج٢ ص ٤١٥.

(٣) أي دونه بقية إخوته.

(٤) أي من إخوته.

٤٣

أن يزوجها إلاّ بإذنه وأمره، فإنّه أعرف بمناكح قومه » (١) .

ثم إنّهعليه‌السلام يؤكد على ذلك في موضع آخر من نفس الوصية:« ولا يزوّج بناتي أحد من إخوتهن من أمهاتهن، ولا سلطان، ولا عمّ، إلاّ برأيه ومشورته (٢) ، فإن فعلوا غير ذلك فقد خالفوا الله ورسوله، وجاهدوه في ملكه، وهو أعرف بمناكح قومه، فإن أراد أن يزوِّج زوّج، وإن أراد أن يترك ترك » (٣) .

فالإمام - بحسب الوصية - لم يمنع بناته من الزواج - كما ادّعى اليعقوبي - وإنما جعل أمر زواجهن بيد أخيهن الإمام الرضاعليه‌السلام .

وفي وصية أخرى لهعليه‌السلام لتعيين أوقافه وصدقاته وكيفيّة تقسيمها، قال:« يقسِّم في مساكين أهل القرية من ولد موسى بن جعفر للذكر مثل حظ الأنثيين، فإن تزوجت امرأة من ولد موسى بن جعفر فلاحق لها في هذه الصدقة حتى ترجع إليها بغير زوج، فإن رجعت كان لها مثل حظ التي لم تتزوج من بنات موسى » (٤) .

ويبدوا أنّ هذه الوصيّة هي التي جعلت اليعقوبي يقول بأنّ الإمام أوصى أن لا تتزوج بناته من بعده، ولكن الظاهر منها أنّ التي تتزوج تكون في كفالة زوجها، وهو ينفق عليها، فإن مات أو طلقها رجعت وكان لها مثل حظ التي لم تتزوج.

____________

(١) أصول الكافي: ج١ ص ٣١٦، وعيون إخبار الرضا: ج١ ص٣٣.

(٢) أي إلاّ برأي ومشورة الإمام الرضاعليه‌السلام .

(٣) أصول الكافي: ج١ ص ٣١٧.

(٤) عيون أخبار الرضا: ج١ ص٣٧.

٤٤

ومع ذلك كله فإنّه لقائل أن يقول: يُشم من هذه الوصية ومن سابقتها عدم رغبة الإمام في تزويج بناته، بل إنّ الواقع الخارجي يصدّق ذلك، فلا الإمام الكاظم نفسه في زمان حياته زوّج واحدة منهن، ولا الإمام الرضا، بل كان هذا سائراً في بناتهم، وقد أوقف الإمام الجوادعليه‌السلام عشر قرى في المدينة أوقفها على أخواته وبناته اللاتي لم يتزوجن، وكان يرسل نصيب الرضائية(١) من منافع هذه القرى من المدينة إلى قم(٢) .

فيستوقفنا - هنا - سؤال وهو: -

رغّب الشرع المقدس في الزواج المقدس وحثّ عليه ونفّر من العزوبة وحذّر منها، وقد وردت في ذلك روايات كثيرة فكيف أوصى الإمام الكاظمعليه‌السلام بعدم زواج بناته مع العلم أنّ الزواج سُنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن المستحبات الأكيدة؟

قد يجاب عن هذا السؤال بأحد الأوجه التالية:

الوجه الأول:

أنّ العزوبة وإن كانت مكروهة عند الشرع المقدس، لكنها قد ترجح في بعض الأزمنة.

فعن ابن مسعود قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :« ليأتين على الناس زمان لا يسلم لذي دينه إلاّ من يفرّ من شاهق، ومن جُحر إلى جُحر كالثعلب بأشباله » .

قالوا: ومتى ذلك الزمان؟

____________

(١) أي بنات وحفيدات الإمام الرضاعليه‌السلام ، فهنٌ ينسبن إليه فيقال: الرضائية.

(٢) تاريخ قم - المترجم - ص ٢٢١.

٤٥

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :« إذا لم تنل المعيشة إلاّ بمعاصي الله، فعند ذلك حلٌت العزوبة » (١) .

فالعزوبة تحلّ في بعض الأزمنة، وعليه قد يكون الإمامعليه‌السلام قد مرّ بما يماثل تلك الأزمنة، فلا تنافي بين ترغيب الإسلام في الزواج، وبين عدم تزويج الإمامعليه‌السلام لبناته.

فالحكم الأولي للعزوبة هو الكراهة، ولكنّ الحكم الثانوي المستفاد من هذه الرواية هو حليّة العزوبة في بعض الأوقات.

الوجه الثاني:

أنّهعليه‌السلام لم يزوجهن لعدم الكفؤ لهن، فإنّهن ودائع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكريماته، فينبغي أن لا يزوّجن إلاّ بمؤمن تقي يعرف مكانتهن، ويقدّر منزلتهن، فقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :« أنكحوا الأكفّاء وانكحوا فيهم واختاروا لنطفكم » (٢) .

فلو أنّ الإمامعليه‌السلام قد زوّجهن من غير الأكفّاء لما عرفت مكانتهن، ولهدرت حقوقهن، وما في ذلك من المهانة والإذلال لودائع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحاشا الإمام أن يفعل ذلك.

بل قد يكون تزويجهن من غير الأكفَّاء عامل ضغط على الإمامعليه‌السلام تمارسهُ الحكومة العباسيّة لتكبيل أشد للإمام، وتقييد أكثر لحريّته.

____________

(١) بحار الأنوار: ج١٤ ص ٣٥١.

(٢) فروع الكافي: ج٢ ص٥.

٤٦

ولذا نجد أنّ الإمامعليه‌السلام في وصيته قد جعل أمر تزويج بناته بيد الإمام الرضاعليه‌السلام معللاً ذلك بأنّه أعرف بمناكح قومه.

الوجه الثالث:

ما أجاب به الإمامعليه‌السلام هارون عندما سأله: قال: فلم لا تزوّج النسوان من بني عمومتهن وأكفائهن؟ قال:« اليد تقصر عن ذلك » .

قال: فما حال الضيعة(١) ؟

قال:« تعطي في وقت، وتمنع في آخر » (٢) .

فالإمامعليه‌السلام علّل عدم تزويجهن لقصر ذات اليد، وضعف الإمكانات الماديّة.

الوجه الرابع:

نتيجة الضغوطات العنيفة، والممارسات التعسفية التي كانت السلطة العبّاسية تنتهجها تجاه الإمامعليه‌السلام وشيعته، ما كان أحد ليجرأ أن يتقدم من الإمام ليطلب كريمته أو أخته.

بل إنّ الشيعة - في فترات مختلفة من الزمن - ما كانوا ليتقربوا من دار المعصومينعليهم‌السلام في إستفتائاتهم، ولذا كان بعضهم يلجأ إلى الحيلة فيلبس ثياب بائع خيار ويحمل سلة الخيار حتى يتمكن من دخول دار الإمام، فيستفتيه ويخرج.

فإذا كان أتباع أهل البيتعليهم‌السلام لا يستطيعون استفتاء

____________

(١) الضيعة: العقار، والأرض ذات الغلة.

(٢) عيون أخبار الرضا: ج١ ص ٨٨ ح١١.

٤٧

الإمام، فما ظنك بمن يريد مصاهرة الإمام؟!

إنّ الراغبين لشرف مصاهرة الإمام - سواء أكانوا من أولاد العمومة أم من خيار الشيعة - كان أمرُهم دائراً بين مقتول بأيدي الغدر والعدوان، وبين معتقل معذّب في قعر السجون، وبين مطارد من جلاوزة السلطة قد استخفى عن أعينهم ...!!

فمن ذا الذي يجرأ - بعد هذا - أن يطلب الوصلة بالإمامعليه‌السلام ؟

النتيجة:

إنّ السيدة المعصومةعليها‌السلام - كسائر أخواتها - لم تتزوج، وعدم تزويج الإمام لهن لا ينافي الترغيب والأمر بالزواج.

وظاهرة عدم تزويج أكثر من إمام لبناته أو أخواته لهي ظاهرة تستحق دراسة أكثر، وبحثاً أعم، للتعرف على أسباب وملابسات هذه الظاهرة وتحليلها، فهي حلقة من حلقات معاناة ومعايشة المعصومينعليهم‌السلام لظروف عصيبة ومختلفة. فعسى الله أن يفيض من يبحثها ويكشف عن غوامضها.

٤٨

٤ - معاناتها

أ - فقد أبيها.

ب - الجلودي يرعب ودائع آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ج - السيدة تعايش ترحيل أخيها.

٤٩

٥٠

(أ) فقد أبيها

سنة ١٨٣ هجرية

في شهر رجب في اليوم الخامس والعشرون(١) في بغداد، على الجسر وضعت جنازة الإمام الكاظمعليه‌السلام بعد أن دسّ له سجّانه السندي بن شاهك السم في طعامه بأمر من هارون العباسي.

المنادي ينادي: هذا إمام الرافضة فاعرفوه.

ونادى جماعة آخرون من أتباع الظلمة بنداء تقشعر منه النفوس الطيبة.

وعندما رأى سليمان بن أبي جعفر(٢) ذلك، خرج من قصره، وأمر غلمانه بأخذ نعش الإمامعليه‌السلام من أيدي الجلاوزة، فاشتبكوا معهم في عراك وضرب، ثم أخذوا النعش الشريف من

____________

(١) مصباح المتهجد: ص ٨١٢. وقيل في اليوم الخامس من رجب، وقيل في اليوم السادس منه.

(٢) سليمان بن أبي جعفر المنصور - عم هارون الرشيد -.

٥١

أيديهم، ووضعوه على مفترق أربع طرق، أمر سليمان المنادي بأن ينادي: ألا ومن أراد أن يرى الطيب بن الطيب موسى بن جعفرعليهما‌السلام فليخرج

ودفن الإمامعليه‌السلام في مقابر قريش حيث مرقده الآن في بغداد، رزقنا الله تعالى وإياكم زيارته.

وهكذا انطوت حياة ذلك الإمام العظيم بعد أن عانى ما عانى من ظلم واضطهاد، ونقل من سجن إلى سجن، ومن سجّان إلى آخر حتى قبضه الله تعالى إليه(١) .

وكان ذلك أوّل ما كابدته وعانته السيدة المعصومة في مقتبل حياتها، فقد حرمت عطف ورعاية أبيها وهي بعد في سن السادسة حيث أخرجه هارون من المدينة إلى بغداد وسجنه. وفي سن السادسة حيث أخرجه هارون من المدينة إلى بغداد وسجنه. وفي سن العاشرة صارت (سلام الله عليها) يتيمة الأب(٢) .

____________

(١) راجع عيون أخبار الرضا: ج١ ص ٩٩، والإرشاد ج٢ ص ٢٤٢.

(٢) وهذا بناء على أنّ ولادتها كان في سنة ١٧٣ هـ.

٥٢

(ب) الجلودي يرعب ودائع آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

سنة ١٩٩ هجرية

المدينة المنوّرة

بعض العلويين يعلنون الخروج على حكم بني العباس في المدينة، وفي مكة، وفي اليمن.

وكان محمد بن جعفر قد خرج عليهم في مكة أيام حكومة المأمون، فأرسل إليه المأمون جيشاً للقضاء عليه بقيادة الجلودي، وأمره بضرب عنقه إن ظفر به.

ولم يقف أمر المأمون عند هذا الحد، بل أوعز إليه يغيّر ويهجم على دور آل أبي طالب في المدينة، ويسلب ما على نسائهم من ثياب وحلل، ولا يدع على واحدة منهن إلاّ ثوباً واحداً.

وحاول الجلودي أن ينفّذ الأمر بنفسه، فهجم على دار الإمام الرضاعليه‌السلام بخيله، فلمّا نظر إليه الإمام جعل النساء كلهنٌ في

٥٣

بيت(١) واحد، وكانت السيدة المعصومةعليها‌السلام إحداهن(٢) . ووقف الإمام على باب البيت يمنع الجلودي وجنده من اقتحامه.

فقال الجلودي: لا بد من أن أدخل البيت فأسلبهنّ كما أمرني أمير المؤمنين.

فقالعليه‌السلام :« أنا أسلبهنّ لك، وأحلف أن لا أدع عليهنّ شيئاً إلاّ أخذته » .

وعلى نفس نهج أسياده العباسيين ظلّ الجلودي مصراً على سلب عقائل آل بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد آثر الجلودي أن يكون ناصبياً(٣) من القَرن الأول الهجري يعيش على مشارف القرن الثالث، يحمل حقد وكراهية وحسد أولئك الذين هاجموا بيت الوحي والرسالة، واقتحموا على السيدة الزهراءعليها‌السلام دارها، وأسقطوا جنينها، وصنعوا مع ابنة صاحب الوحي ما تقشعرّ منه الأبدان، ويندى له جبين التأريخ(٤) .

____________

(١) أي في غرفة واحدة، وهذا يعني أنّ الجلودي دخل على الإمام بخيله في ساحة الدار، وما يواكب ذلك من إرعاب عقائل آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

(٢) حيث إنّ هذه الحادثة كانت قبيل وفاتها بعامين - كما سيأتي -.

(٣) الناصبي: هو من نصب العداوة لآل بيت محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتظاهر ببغضهم. بل قالوا: إنّ الناصبي هو الذي نصب العداوة لشيعتهم وتظاهر بالوقوع فيهم، وممن ذهب إلى ذلك الشهيد الثاني (قدّس سره) في مبحث الأسآر: ص ١٥٧ من كتابه روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان.

(٤) راجع إثبات الوصية: ص ١٢٤، وتاريخ اليعقوبي: ج٢ ص ١٢٦، والإمامة والسياسة: ص ٣٠ و٣١، كما وتراجع المصادر التالية: لسان الميزان، الملل والنحل، أنساب الأشراف، العقد الفريد، أعلام النساء، الوافي بالوفيّات، تاريخ أبو الفداء.

٥٤

بهذه النفسية الحاقدة، وبهذه الروح الشريرة هاجم الجلودي دار الإمامعليه‌السلام ، فحقده على أهل البيت كان الهواء الذي يتنفّسه، ويحفظ عليه حياته ومقامه عند أسياده العباسيين.

ولكنّ الإمامعليه‌السلام يمنعه من اقتحام البيت. وليس الجلودي - وأشباهُهُ - جديراً ليستجيب للعواطف والتوسلات، أو ليخضع للمنطق والبرهان، فهو ممن ملئت قلوبهم بغضاً وحنقاً وحسداً لأهل بيت النبوة، ولا يعرفون إلاّ لغة السلاح ومنطق القوة والظلم والاضطهاد.

فلم يزل الإمام يطلب إليه ويحلف له، حتى سكن الجلودي ووافق على طلب الإمام.

فدخل الإمام فلم يدع عليهن شيئاً إلاّ أخذه منهن حتى أقراطهن وخلاخيلهن وأُزرهن، وجميع ما كان في الدار من قليل وكثير.

ويظهر أنّ هذه الحادثة هي من مسلسل ضغوط المأمون لإرغام الإمامعليه‌السلام وإخراجه من المدينة إلى خراسان حيث يكون تحت منظار المأمون ورقابته، إذ أنّ الحادثة كانت بعد سنة من تولّي المأمون للحكم، فقد خلص الأمر له سنة ١٩٨ هـ، وتوصّل تفكيره الشيطاني إلى القضاء على الإمامعليه‌السلام وتشويه سمعته بجلبه إلى خراسان، وتسليمه الخلافة أو ولاية العهد، وللضغط عليه لاستقدامه أنفذ إلى الجلودي بالإغارة على دار الإمام، وسلب عقائل آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإرعابهنٌ.

ولمّا رحل الإمام إلى خراسان واُدخل على المأمون قام فرحّب به واظهر المحبة والإخلاص له، وعرض عليه الخلافة فأبى الإمامعليه‌السلام ،

٥٥

فعرض عليه ولاية العهد، فقبلها الإمام مرغماً بعد تهديد المأمون له(١) . عندها أمر المأمون القوّاد والحجّاب والقضاة وسائر الطبقات بمبايعة الإمامعليه‌السلام بولاية العهد، ولكن بعض قادة المأمون نقموا البيعة ولم يرضوا بها، فاعتقلهم المأمون. ثم أمر بإدخالهم عليه منفردين.

وكان الجلودي أحدهم، فلما اُدخل على المأمون ووقع نظر الإمام عليه قالعليه‌السلام للمأمون:« هب لي هذا الشيخ » (٢) !!

فقال المأمون: يا سيدي! هذا الذي فعل ببنات محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما فعل من سلبهنّ!!

فنظر الجلودي إلى الإمامعليه‌السلام وهو يكلّم المأمون ويسأله أن يعفو عنه ويهبه له، فظنّ أنّ الإمام يعين عليه لمّا كان قد فعله من اقتحامه دار الإمام وإرعابه أهل بيته.

فقال الجلودي: يا أمير المؤمنين! أسألك بالله وبخدمتي للرشيد أن لا تقبل قول هذا فيّ!!

فقال المأمون: يا أبا الحسن! قد استعفى، ونحن نبر قسمه.

ثم قال: لا والله لا أقبل فيك قوله. ألحقوه بصاحبيه(٣) .

____________

(١) راجع تفصيل مسألة ولاية العهد في كل مما يلي:

أصول الكافي: ج١ ص٤٨٨، الحديث السابع.

عيون أخبار الرضا: ج٢ ص ١٣٨.

الإرشاد: ج٢ ص٢٥٩.

(٢) أراد الإمام - مع كل ما أدخَلَهُ الجلوديّ من رعب على العقائل - أراد أن يكافئه على استجابته له وعدم سلبه لهن بنفسه.

(٣) أي علي بن أبي عمران وأبو يونس، اللذان ضربت عنقاهما قبل الجلودي.

٥٦

فقدِّم فضربت عنقه(١) .

***

هذه الحادثة - أي حادثة اقتحام دار الإمام الرضاعليه‌السلام - انفرد بذكرها الشيخ الصدوق في كتابه (عيون أخبار الرضا) حيث يقول:

(وكان الجلودي في خلافة الرشيد لمّا خرج محمد بن جعفر بن محمد بالمدينة(٢) ، بعثه الرشيد وأمره إن ظفر به أن يضرب عنقه، وأن يغير على دور آل أبي طالب، وأن يسلب نساءهم، ولا يدع على واحدة منهن إلاّ ثوباً واحداً. ففعل الجلودي ذلك، وقد كان مضى أبو الحسن موسى بن جعفرعليه‌السلام ...)(٣) .

قد تتساءل - أيها القارئ الكريم -:

إذا كان الشيخ الصدوق قد انفرد بذكر الحادثة وأنّها كانت في عهد الرشيد، فكيف تنسب القضية إلى المأمون؟

استميح القارئ عذراً، وأرجوه أن يمهلني أسطراً حتى تتضح له حقيقة الأمر.

١ - أنّ الحادثة وقعت في زمان هارون.

٢ - أنّ الحادثة تزامنت مع خروج محمد بن جعفر.

____________

(١) لاحظ عيون أخبار الرضا: ج٢ ص ١٦١.

(٢) سيأتي من الشيخ الصدوق أنّ خروج محمد بن جعفر كان بمكة، وهذا ما ذكره غيره أيضاً.

(٣) عيون أخبار الرضا: ج٢ ص ١٦١.

٥٧

ولكنّ أرباب السير والتاريخ من الفريقين اتفقوا على أنّ خروج محمد بن جعفر كان في عصر المأمون في سنة ١٩٩ هـ أو ٢٠٠ هـ.

فالشيخ المفيد (قدس سره) يقول في الإرشاد:

(وكان محمد بن جعفر شجاعاً سخياً، وخرج على المأمون في سنة تسع وتسعين ومائة بمكة، واتبعته الزيدية الجارودية، فخرج لقتاله عيسى الجلودي، ففرّق جمعه وأخذه وأنفذه إلى المأمون)(١) .

كما أنّ الطبري في تاريخه(٢) وابن الأثير في الكامل(٣) ذكرا خروج محمد بن جعفر في ضمن حوادث عام ١٩٩ - ٢٠٠ هـ، فراجع.

والجدير بالذكر أنّ نفس الشيخ الصدوق ذكر ما يوافق ذلك في كتابه (عيون أخبار الرضا) حيث نقل الرواية التالية:

الورّاق، عن سعد، عن ابن أبي الخطّاب، عن إسحاق بن موسى(٤) .

قال: (لمّا خرج عمي محمد بن جعفر بمكة، ودعا إلى نفسه، ودعي بـ (أمير المؤمنين)، وبويع له بالخلافة، دخل عليه الرضاعليه‌السلام وأنا معه.

فقال له:« يا عم، لا تُكذب أباك ولا أخاك، فإنّ هذا الأمر لا يتمّ » .

ثم خرج وخرجت معه(٥) إلى المدينة، فلم يلبث إلاّ قليلاً حتى

____________

(١) الإرشاد: ج ٢ ص ٢١١.

(٢) تاريخ الطبري: ج ٥ ص ١٢٩ في حوادث سنة ٢٠٠ هـ.

(٣) الكامل في التاريخ: ج ٤ ص ١٥٤ في حوادث سنة ٢٠٠ هـ.

(٤) ابن الإمام الكاظمعليه‌السلام .

(٥) أي خرج الإمام الرضاعليه‌السلام وخرج معه أخوه إسحق.

٥٨

قدم الجلودي، فلقيه فهزمه، ثم استأمن إليه، فلبس السواد، وصعد المنبر فخلع نفسه.

وقال: إنّ هذا الأمر للمأمون، وليس لي فيه حق)(١) .

وهذه العبارة الأخيرة تدل بكل وضوح أنّ خروج محمد بن جعفر كان في عهد المأمون، فالشيخ الصدوق يذكر هنا بأنّ محمد بن جعفر قد خرج في زمان المأمون لا الرشيد(٢) .

فلماذا ذكر الشيخ الصدوق في رواية الاقتحام أنّ خروجه كان في زمان الرشيد؟

إنّ منشأ هذا الاشتباه قد يكون أحد أمرين:

الأمر الأول: الخلط بين هارون الرشيد وبين هارون بن المسيّب أحد قادة المأمون زمن حادثة الجلودي.

ففي الكافي: (لمّا أراد هارون بن المسيّب أن يواقع محمد بن جعفر )(٣) .

____________

(١) عيون أخبار الرضا: ج٢ ص ٢٠٧ ح٨.

(٢) قد يقال: إنّه لا مانع من كون خروج محمد بن جعفر في زمان الرشيد، وكون إلقاء القبض عليه في زمان المأمون.

والجواب:

أولاً: هذا مناف لما ذكره أهل السير والتاريخ من أنّ محمد بن جعفر خرج في حكومة المأمون.

ثانياً: هذا لا يتناسب مع نفس الحديث الأخير الذي ذكره الصدوق، إذ فيه: (فلم يلبث إلاّ قليلاً حتى قدم الجلودي)، وقد مات الرشيد في عام ١٩٣ هـ، وتولى المأمون الحكم في عام ١٩٨ هـ أي بعد ست سنوات، وهذا لا ينسجم مع قوله: (فلم يلبث إلاّ قليلاً).

(٣) أصول الكافي: ج١ ص ٤٩١ ح ٩.

٥٩

وفي مقاتل الطالبيين: (أنّ جماعة من الطالبيين اجتمعوا مع محمد بن جعفر فقاتلوا هارون بن المسيّب بمكّة قتالاً شديداً )(١) .

وقال ابن قتيبة: (ووجّه الحسن بن سهل هارون بن المسيّب إلى الحجاز لقتال العَلوية، فاقتتلوا، فهزمهم هارون بن المسيّب، وظفر بمحمد بن جعفر، فحمله إلى المأمون مع عدة من أهل بيته ...)(٢) .

وقد مرّ علينا أيضاً(٣) أنّ الذي قاتل محمد بن جعفر هو الجلودي، والظاهر أنّه لا تنافي في ذلك، فالجلودي يكون قد نفّذ أمر المأمون بتوجيه من هارون بن المسيّب وتحت قيادته.

بل في شرح الأخبار ما يوضّح ذلك ويرفع التنافي: فقد جاء فيه:

(وقام جماعة من العلويين في سنة المائتين على المأمون، وكان من قام منهم عليه محمد بن جعفر بن محمد، قام بمكّة، فبايعه أهل الحجاز وتهامة على الخلافة فأنفذ (المأمون) إليه الحسن بن سهل، وهارون بن موسى المسيّب، وعيسى بن يزيد الجلودي، ورقا بن محمد الشيباني وهم من جملة قوّاد المأمون، وأوقعوا على أصحابه بالمدينة ومكّة وقتلوا منهم خلقاً كثيراً، وتفرّق عامتهم واستأمن (محمد بن جعفر)، واكذب نفسه فيما ادّعاه من الإمامة، فأومن وحمل إلى المأمون إلى خراسان، فمات بها)(٤) .

____________

(١) مقاتل الطالبيين: ص ٣٥٩.

(٢) المعارف: ص ٣٨٩.

(٣) من الإرشاد وتاريخ الطبري وتاريخ ابن الأثير.

(٤) شرح الأخبار: ج٣ ص ٣٣٦.

٦٠