شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم6%

شبهات وردود حول القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 578

شبهات وردود حول القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 578 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 297577 / تحميل: 13676
الحجم الحجم الحجم
شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

(سيمون) السيرناي تماماً ثم أخفى نفسَه، ومنهم: (السرنتيون) فإنّهم قرّروا أنّ أحدَ الحواريّين صُلِب بدلَ المسيح، وقد عُثِر على فصلٍ من كلام الحواريّين، وإذا كلامه كلام (الباسيليديّين) قد صرّح إنجيل القدّيس (برنابا) باسم الذي صُلِب بدلَ عيسى أنّه (يهوذا).

٢ - وقال (الهرارنست دي بونس) الألماني في كتابهِ (الإسلام أي النصرانيّة الحقّة) في ص١٤٣ ما معناه: إنّ جميعَ ما يختصّ بمسائل الصَلب والفِداء هو من مبتكرات ومخترعات (بولس ومَن شابَهَه مِن الذين لمْ يروا المسيح، وليس من أُصول النصرانيّة الأصيلة.

٣ - قال (ملمن) في الجزء الأَوّل من كتابهِ (تأريخ الديانة النصرانيّة): إنّ تنفيذ الحكم كان في وقتِ الغَلَس وإسدالِ ثوب الظَلام، فسَيَنتُج من ذلك إمكان استبدال المسيح بأحد المجرمين الذين كانوا في سجون القُدُس منتظرين تنفيذ حكم القتل عليهم، كما اعتقد بعض الطوائف المسيحيّة، وصدّقهم القرآن (١) .

* * *

وللشيخ مُحمّد عَبدَه أيضاً بحثٌ مذيّل حولَ مسألةِ الصَلب والفِداء، وأنّها عقيدة وثنيّة، ورِثَتها المسيحيّة من الهنود. ويتعرّض لشبهاتٍ أثارها المسيحيّون بشأنِ إنكار الصَلب. وكانت الشبهة الثانيّة: أنّ قصةَ الصَلب متواترةٌ متّفقٌ عليها بين طوائفِ النصارى.

لكنّها شبهةٌ إنّما تَعبِرُ على مَن يجهل تأريخ المسيحيّة، أمّا مَن يطّلع على تأريخهم فالإجابة على هذه الشُبهة يسيرة عليه؛ حيث هناك فِرَقٌ منهم أنكروا الصَلب، كفرقةِ (السيرنشيّين) و(التاتيانوسيين ّ) أتباع (تاتيانوس) تلميذ (يوستينوس) الشهير، وقال (فوتيوس) أنّه قرأ كتاباً يُسمّى (رحلة الرُسُل) فيه أخبار (بطرس) و(يوحنّا) و(اندراوس) و(توما) و(بولس). وممّا قَرأَهُ فيه: (أنّ المسيح لم يُصلب، ولكن صُلِب غيرُه، وقد ضِحك بذلك مِن صالبيه). وأنّ مجامع المسيحيّين حينذاك قد حرَّمَتْ قراءةَ

____________________

(١) راجع: الفارق بين الخالق والمخلوق، ص ٢٨١ - ٢٨٢، وقصص الأنبياء للنجّار، ص٤٤٧ - ٤٤٩.

١٠١

أمثال هذه الكُتُب التي تخالف الأناجيلَ الأربعة والرسائلَ التي اعتَمَدتْها الكنيسة، فجعلوا يُحرِقون تلك الكُتُب ويُتلِفونها... وقد سَلَمت بعضُ تلك الكُتُب كإنجيل برنابا، وهو يُنكِر الصَلب (١) .

وسنذكر أنّ جماعةً اعتقدوا تَظاهرَ المسيح بالموت، في تواطؤ مع أحد تلاميذه يوسف وساعده الوالي بيلاطس بتحريضٍ من امرأته، حذّرته أنْ يُمسَّ الرجل البارّ بسوءٍ (٢) .

* * *

إذن، ليس الأمرُ كما زَعَمَه النصارى أنّ المسيح قد صُلِب وقُتِل يقيناً، بل الأمرُ كان مشكوكاً لديهم، مُنذ بداية الأمر وإنْ اتفقوا بعد ذلك على عقيدة الصَلب والفِداء، وهي بدعة ورِثوها من عبدةِ الأوثان.

ومِن ثَمّ، فالحقّ ما صرّح به القرآن الكريم الذي ( لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) ، (٣) قال تعالى: ( وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ) (٤) .

مسألة التوفّي

قد عرفتَ تصريحَ القرآن الكريم بأنّ الأمر قد شُبِّهَ لهُم، وما قَتلوه وما صَلبوه، بل رَفَعه اللّهُ إليه.

وكان القوم من أَوّلِ أَمرِهم على شكٍّ من ذلك، وكان هناك أقوامٌ أنكروا وقوعَ القتل على شخصِ المسيح، وكان اختلاف الأناجيل الأربعة في سَردِ القضيّة تأييد لهذا الشكّ والترديد.

____________________

(١) تفسير المنار، ج٦، ص٣٤ - ٣٥.

(٢) قصص الأنبياء للنجّار، ص٤٢٩.

(٣) فصّلت ٤١: ٤٢.

(٤) النساء ٤: ١٥٧ - ١٥٨.

١٠٢

غير أنّ هنا سؤالاً: هل المسيح رُفِع بِرُوحه وجَسدِه إلى السماء وهو حيٌّ يُرزق حتّى يرجع إلى الأرض في آخر الزمان كما في كثير من رواياتٍ إسلاميّة؟ أم رُفع برُوحه دون جَسدِه وأنّ اللّه توفّاه أي أَماتَهُ وقبضَ روحَهُ؟

يقول البعض من علماء الغرب: ليس في القرآن نصٌّ على بقاء المسيح حيّاً يُرزق في السماء، بل التصريح بمُوته، وأنّ اللّه توفّاه: (١)

( إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) (٢) .

وهذا يدلّ على أنّه تعالى أَماتَه ثم رُفِع بروحه إلى السماء...

وهكذا قوله: ( فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ) (٣) .

ولكنّ التوفية: أَخْذُ الشيء أخذاً مستوفياً، أي بكمالِه وتمامِه، ومنه: وفاء الدَّيَن، وليس دليلاً على الموت صِرْفاً، ( اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ) ، (٤) ( وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ) (٥) .

على أنّ الأناجيل متّفقةٌ على أنّ المسيح (عليه السلام) قامَ مِن القبرِ وذهبَ إلى حيث لم يرَه أحد غير تلاميذه، وافتقدوا جسده فلم يجدوه؛ فلعلّه لمْ يَمُتْ حين الصَلب وإنّما ذهب وعيُه، ثُمّ رجع إليه بعد وضعِهِ في القبرِ، حيث لم يُهيلوا عليه التراب - حسبما نصّت عليه الأناجيل - وإنّما وُضِع على القبرِ حجرٌ فوجدوا الحجرَ مُدَحرجاً عن القبرِ.

وجاء في إنجيل (متّى): إنّ مَلاك الربِّ نزلَ من السماءِ وجاء ودَحْرَج الحجر عن الباب، وقال للمرأتَين اللتين جاءتا لتَنظرا القبرَ: لا تَخافا، إنّي أعلمـُ أنّكما تَطلبانِ يسوع المـَصلوب، ليس هو هاهنا؛ لأنّه قام كما قال هلُمّا انظرا الموضعَ الذي كان الربُّ مضطَجِعاً فيه، واذهبا سريعاً وقولا لتلاميذه: إنّه قام من الأَموات، ها هو يَسبِقُكم إلى الجليل، هناك ترونه.

فخَرَجتا سَريعاً مِن القبرِ بخوفٍ وفرحٍ عظيم راكِضَتَين؛ لتُخبِرا تلاميذه، فيما هما

____________________

(١) عيسى والقرآن، ص ٢٠٧، ترجمة وتحقيق الأُستاذ محسن بينا.

(٢) آل عمران ٣: ٥٥.

(٣) المائدة ٥: ١١٧.

(٤) الزمر ٣٩: ٤٢.

(٥) الأنعام ٦: ٦٠.

١٠٣

مُنطَلِقتانِ إذا يسوع قال لهما: سلامٌ لكما، فَتَقدَّمتا وأَمسَكَتا بِقَدَميّه وسَجَدَتا له، فقال لهما يسوع: لا تخافا، اذهَبا قُولا لإخوتي أنْ يَذهبوا إلى الجليل وهناك يرَونَني.

وأمّا التلاميذ فانطَلقوا إلى الجليلِ حيثُ أَمرهم يسوع، ولمـّا رَأَوه سجدوا له ولكنْ بعضُهم شَكّوا، فتقدّمَ يسوع وكلّمهم قائلاً: دُفِع إليّ كلَّ سلطانٍ في السماء وعلى الأرض، فاذهبوا وتلمـّذوا جميعَ الأُمّم. وعلِّمُوهم أنْ يَحفظوا جميعَ ما أَوصيتُكم به، وها أنا معكم كلّ الأيّام إلى انقضاء الدهر، آمين (١) .

وفي إنجيل لوقا: إنّهنّ (٢) دَخَلْنَ القبرَ ولم يَجِدْنَ جسدَ يسوع، وفيما هُنّ مُتحيّرات إذ وقف بِهنّ رَجُلانِ بثيابٍ برّاقةٍ، وقالا لهُنّ: لماذا تَطلُبَنَّ الحيَّ بين الأموات، وإنّه في الجليل.

وإنّ التلاميذ لمـّا وجدوا المسيح نفسَه في وسطهم هناك وقال لهم سلامٌ لكم فجَزعوا وخافوا وظَنّوا أنّهم نظروا روحاً فقال لهم: ما بالَكم مُضطَرِبِينَ؟ انظروا يديَّ ورجليَّ إنّي أنا هو، جسّوني فإنّ الروحَ ليس له لحمٌ وعظام كما تَرَون لي، فطلب منهم طعاماً،فَنَاوَلوه جزءً مِن سمكٍ مشويٍّ وشيئاً مِن شَهْدِ عسلٍ، فأخذ وأكلَ قُدّامهم، ثُمّ أَوصاهم بوصايا، ثمّ رفع يديه إلى السماء وبارَكَهم، وفيما هو يُبارِكُهم انفرد عنهم واُصعِد إلى السماء (٣) .

وقريبٌ مِن ذلك جاء في إنجيل يوحنّا (٤) .

وفي إنجيل (مرقس): ثُمّ أنّ الربّ بعد ما كلَّمَهم ارتفعَ إلى السماء وجلسَ عن يمينِ اللّه... (٥)

ومِن هنا يعتقد البعضُ أنّ قوله تعالى: ( وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ) (٦) بمعنى أنّ صَلبَه لم يؤدِّ إلى قتلِه، ولكن شُبِّه لهم أنّه قُتِل على خَشَبة الصَلب، ولم يكونوا على يقينٍ مِن أنّه ماتَ حقيقةً وذلك معنى ( وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً ) (٧) .

____________________

(١) إنجيل متّى، إصحاح ٢٨ / ١ - ٢٠.

(٢) ذكر مرقس ولوقا: أنّ ثلاث من النساء ذهبنَ ليُفتّشن عنِ القبرِ.

(٣) إنجيل لوقا، إصحاح ٢٤ / ١ - ٥٣.

(٤) إنجيل يوحنّا، إصحاح ٢٠ و٢١.

(٥) إنجيل مرقس، إصحاح ١٦/١٩.

(٦) النساء ٤: ١٥٧.

(٧) النساء ٤: ١٥٧.

١٠٤

وذلك أنّ (بيلاطس) كان يَعتقد براءةَ المسيح مِن كلّ ما يَرميه به اليهود، كما أنّ امرأته أيضاً كانتْ عاطِفَةً على يسوع، مهتمّةً بأمره، حريصةً على أنّه لا يُمَسّ بِسُوء، وقد أوصت زوجها بذلك...

ففي إنجيل متّى: وإذ كان جالساً على كرسيّ الولاية، أرسلت إليه امرأته قائلةً: إيّاك وذلكَ البارّ؛ لأنّي اليوم تألّمتُ كثيراً في حُلُمٍ مِن أجلِه (١) .

ومِن ثَمّ نرى أنّ المسيح لم يَمكُث على خَشَبة الصَلب طويلاً، ولمْ تُكسَر رجلاه كما كُسِرت رِجلا المـَصلوبَينِ الآخَرَينِ، بل جاء يوسف - وهو أحد تلاميذ المسيح - وتسلّم الجسد، وتعجّبوا مِن موتِه سريعاً، فلفّه في كفنٍ ووَضَعَه في قبرٍ له كان هناك.

ولا سبب لذلك إلاّ العناية الخاصّة التي كانت تحوط المسيح من ناحية الوالي بيلاطس وزوجه ويوسف ونيقوديموس...

فلهذه الاعتبارات جَعلوا يقولون: إنّ المسيح تَظاهَرَ بالموتِ وحَسِبَه الناسُ ميّتأً، ولم يكنْ قد مات، والذي تولّى إنزالَه رجلٌ من تلاميذه في الحقيقة، وكان ذلك التَظاهر بإيحاءٍ منه وساعَدَه الوالي على ذلك بأنْ سُلِّم له في إنزالِه عن الخَشَبة، واليهود في غفلةٍ عمّا بينه وبين المسيح من العلاقة، ولفّه في كفنٍ ووضعه في القبر وأجافَ على الباب حجراً (٢) .

* * *

هذا، ولم يُصرِّح القرآن بنوعية الشُبهة، وقِصّة إلقاء الشَبَه على (يهوذا الأسخر يوطى). جاءت في إنجيل برنابا وبعض المصادر النصرانيّة ؛ ولعلّه الأصلُ في شيوع ذلك بين مفسّري العامّة، وعمدتُهم: وهب بن منبّه (٤) الذي اشتهر بِكَثرَةِ النقل عن أهل الكتاب (٣) ولا سيّما نصارى نجران (٥) ولم يُؤثَر عن أئمّةِ أهل البيت (عليهم السلام) شيء من ذلك في تفاسيرنا القديمة المعتمدة (٦) سِوى ما جاء في التفسير المنسوب إلى عليّ بن إبراهيم

____________________

(١) إنجيل متّى، إصحاح ٢٧/١٩.

(٢) راجع: قصص الأنبياء للنجّار، ص ٤٢٨ - ٤٢٩.

(٣) المصدر: ص٤٤٨ - ٤٤٩.

(٤) راجع: جامع البيان، ج٦، ص١٠ - ١٢، ومجمع البيان، ج٣، ص١٣٦.

(٥) راجع: الإسرائيليّات والموضوعات لأبي شُهبة، ص١٠٥، ومعجم البلدان، ج٥، ص٢٦٧.

(٦) راجع: تفسير العيّاشي، ج١، ص١٧٥ و٢٨٣، وتفسير التبيان، ج٢، ص٤٧٨ وج٣، ومجمع البيان، ج٢، ص٤٤٩ وج٣، ص١٣٥، وتفسير أبو الفتح الرازي، ج٣، ص٥٥ وج٤، ص٦١.

١٠٥

القمي (١) ولم يَثبُت انتسابُ هذا التفسير إلى عليّ بن إبراهيم، وإنّما هو من صُنْع أحد تلامذته المجهولين (٢) ، ومِنْ ثَمّ لا يُعتَمد بما تفرّد به هذا التفسير ما لمْ يدعَمْه شواهد تُوجب الاطمئنان.

والمهمّ: أنّ الأناجيل وإنْ ذَكَرَتْ قصّة الصَلب لكن ليس فيها تصريح بموت المسيح بذلك. وقد عرفتَ عبارة (لوقا): (لماذا تَطلُبَنّ الحيَّ بين الأموات) (٣) الأمر الذي يلتئم واشتباه اليهود في زَعمِهم أنّهم قتلوا المسيح بالصَّلب.

والقرآن مصرّح بأنّ الأمر قد اشتبه عليهم ( وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ... وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً ) (٤) .

وأيضاً فإنّ الأناجيل متّفقة على أنّ المسيح رُفع بجسمه ورُوحِه، وهذا هو ظاهر تعبير القرآن الكريم أيضاً: ( بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ... ) .

ومِن ثَمّ لم يُعهَد للمسيح (عليه السلام) قبرٌ لا عند المسيحيّين ولا عند غيرهم.

نعم زَعَمَ (غلام أحمد القادياني) أنّ المسيح أنجاهُ اللّه مِن كيد اليهود، فذهب إلى بلاد الهند، واستقرّ في بلاد كشمير - شمال الهند - بِسَفحِ الجبلِ (جبال هملايا) وأقام هناك إلى أن وافاه أجله، ودُفن في تلك البلاد قُرب بلدة (سرنجار) وقبره معروف هناك.

قال الأُستاذ النجّار: كنت مسافراً في رحلةٍ إلى (اسطنبول) في سنة ١٩٢٤م وكان في السفينة الأُستاذ الشيخ أبو الوفاء الشرقاوي، فسألته: هل سمع حين كان في (سرنجار) بكشمير عن قبرٍ بقربِها يقال له: قبر النبيّ الأمير - حسب تعبير القادياني - يعني المسيح؟ فقال: نعم، سمعتُ بذلك وأنّه في الصحراء.

والقادياني في زَعمه هذا حاولَ إثبات كونه هو المسيح الموعود بمجيئه في آخر الزمان، ولكن كيف يكون هو المسيح وهو معروف النَسب بين قومه؟! فذهب إلى تأويل الأمر على أنّ المسيح مات ولا يمكن أن يعود بشخصه، ولكنّه يعود في شخصيةٍ أُخرى.

____________________

(١) تفسير القمي، ج١، ص١٠٣.

(٢) راجع: صيانة القرآن من التحريف، ص٢٢٩، طبع ١٤١٨.

(٣) إنجيل لوقا، إصحاح ٢٤/٥.

(٤) النساء ٤: ١٥٧.

١٠٦

فقال: إنّي أنا هو المسيح. آتٍ بِهديهِ وتعاليمهِ مِن بثّ السلام والرحمة والتعاطف والمحبّة... وله كلام طويل في كتبه ومجلّته التي كان يُصدرها في حياته، ولا يزال جماعته في نشاط من التبشير بمسيحيّته... والدولة الإنكليزيّة - في وقته - كانت تؤيّدُهم؛ لأنّهم كانوا يقولون أنّ مسيحهم أبطلَ الجهاد، وكان مُغرماً بالكافر المـُستعمِر، ويمدح حكمهم في البلاد ويراه نعمةً على أهل الهند (١) .

بقي الكلام حول قوله تعالى: ( وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ) (٢) إلى مَ يعود الضمير من قوله (قبل موته)؟ فيه قولان:

أحدهما: أنّه يعود إلى المسيح، ويكون دليلاً على أنّه (عليه السلام) لم يَمت، وتضافرت الروايات بأنّه ينزل في آخر الزمان ليكون مؤيِّداً للمهديّ المنتظر عجّل اللّه تعالى فرجه الشريف، فهناك يبدو الحقّ وتتجلّى الحقيقة لدى أبناء كلّ مِن اليهود والنصارى، أمّا اليهود فيبدو لهم خطأهم في إنكار نبوّته، وأمّا النصارى ففي زَعمهم أنّه إله.

قال عليّ بن إبراهيم القمي: حدّثني أبي عن القاسم بن مُحمّد عن سليمان بن داوود المنقري عن أبي حمزة عن شهر بن حوشب، قال: قال لي الحجّاج: إنّ آية في كتاب اللّه قد أعيتني! قلتُ: أيّة آية هي؟ قال: قوله تعالى: ( وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ) وإنّي لآمر باليهودي والنصراني فيُضرب عنقُه، ثم أرمقُه بعيني فما أراه يحرّك شَفتيه حتّى يخمد! فقلتُ: ليس على ما تأوّلتَ، قال: كيف هو؟ قلت: إنّ عيسى يَنزل قبل يوم القيامة إلى الدنيا، فلا يبقى أهلُ ملّةٍ يهودي ولا نصراني إلاّ آمن به قبل موته، ويصلّي خلف المهديّ، قال: ويحك أنّى لكَ هذا؟ ومن أين جئتَ به؟ فقلت: حدّثني به مُحمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب (عليهم السلام) فقال: جئتَ بها واللّه من عينٍ صافية (٣) .

وأخرج ابن المنذر عن شهر بن حوشب مثَلَه، فقال الحجّاج: من أين أخذتها؟ فقلتُ: مِن مُحمّد بن عليّ قال: لقد أخذتَها مِن معدنها. وفي رواية أُخرى: يعنى

____________________

(١) راجع: قصص الأنبياء للنجّار، ص٤٢٧.

(٢) النساء ٤: ١٥٩.

(٣) تفسير القمي، ج١، ص١٥٨.

١٠٧

ابن الحنفيّة (١) .

وأَخرجه كبارُ المفسّرين، قال الشيخ أبو جعفر الطوسي: ذهب إلى هذا القول ابن عبّاس وأبو مالك والحسن وقُتادة وابن زيد، واختاره الطبري، قال: والآية خاصّة لمـَن يكون في ذلك الزمان (٢) وهو الذي ذكره عليّ بن إبراهيم في تفسير أصحابنا. وذكر الحديث عن شهر بن حوشب عن محمّد بن عليّ ابن الحنفيّة، وذكر البلخي مثل ذلك.

قال: وضَعَّف هذا الوجه الزجّاج وقال: الذين يَبقون إلى زمنِ نزول عيسى من أهل الكتاب قليل، والآية تقتضي عموم إيمان أهل الكتاب أجمع (٣) .

وهكذا الطبرسي في مجمع البيان (٤) .

وذكر الإمام الرازي حديث شهر بن حوشب، قال: فاستوى الحجّاج جالساً - حين ذكرتُ له ذلك - وقال: عمّن نقلتَ هذا؟ فقلتُ: حدّثني به مُحمّد به عليّ ابن الحفنيّة. فأخذ ينكتُ في الأرض بقضيب، ثم قال: لقد أخذتَها من عينٍ صافيةٍ (٥) .

والقول الثاني: أنْ يعود الضمير إلى الكتابي، ومعناه: لا يكون أحد من أهل الكتاب حين يخرج مِن الدنيا عند الموت إلاّ ويؤمن بالمسيح، وذلك عند زوال التكليف ومعاينة الموت؛ حيث الحقيقة تنكشف لدى حضور الموت.

قال الطبرسي: وذهب إليه ابن عبّاس في روايةٍ أُخرى ومجاهد والضحّاك وابن سيرين وجويبر، قال: ولو ضربتُ رقبته لم تخرج نفسه حتّى يؤمن (٦) .

قال الشيخ مُحمّد عبده: ( قَبْلَ مَوْتِهِ ) أي قبل موت ذلك الأحد، الذي هو نكرة في سياق النفي فيفيد العموم، وحاصل المعنى: أنّ كلّ أحدٍ من أهل الكتاب عندما يُدرِكُه الموت ينكشف له الحقّ في أمر عيسى وغيره مِن أمر الإيمان فيؤمن بعيسى إيماناً صحيحاً، فاليهودي يعلم أنّه رسولٌ صادق غير دعيّ ولا كذّاب. والنصراني يعلم أنّه عبد اللّه ورسوله فلا هو إله ولا ابن اللّه.

____________________

(١) الدرّ المنثور، ج٢، ص٧٣٤.

(٢) راجع: جامع البيان، ج٦، ص١٦.

(٣) تفسير التبيان، ج٣، ص٣٨٦.

(٤) مجمع البيان، ج٣، ص١٣٧.

(٥) التفسير الكبير، ج١١، ص١٠٤.

(٦) مجمع البيان، ج٣، ص١٣٧.

١٠٨

ورجّح هذا المعنى على المعنى الأَوّل باحتياج ذلك إلى تأويلِ النفي العامّ هنا بتخصيصه بمَن يكون منهم حيّاً عند نزول عيسى، قال: والمـُتبادر من الآية هو المعنى الذي أختاره، وهذا التخصيص لا دليل عليه، وهو مبنيّ على شيءٍ لا نصّ عليه في القرآن حتّى يكون قرينةً له.

قال: والأخبار التي وردت فيه لم ترد مفسِّرةً للآية، أمّا المعنى المـُختار الذي هو الظاهر المـُتبادر من النَظم البليغ فيؤيِّده ما ورد من اطّلاع الناس قبل موتهم على منازلهم في الآخرة، قال: وممّا يؤيِّد هذه الحقيقة النصّ في سورة يونس على تصريح فرعون بالإيمان حين أدركه الغرق (١) .

غير أنّ سياق الآية يُرجّح القولَ الأَوّل؛ حيث وقع هذا التعبير عقيب ردِّ مزعومةِ اليهود: أنّهم صلبوه وقتلوه، بل شُبِّه لهم الأمر وما قتلوه يقيناً، فمعناه: أنّه لم يُقتل ولم يَمُت وأنّه حيٌّ يرزق، وما مِن أحدٍ من أبناء اليهود والنصارى ليؤمنَنَّ به إيماناً بنبوّته الصادقة قبل أن يموت المسيح، فالكلام هنا كلام عن موت المسيح، وأنّه مات بالصَلب وقُتل أم لا، فالآية تَنكر ذلك، وتنصّ على أنّه لم يَمُت، فكان قوله تعالى إشارةً إلى موت المسيح (عليه السلام).

ولسيّدنا العلاّمة الطباطبائي (قدس سرّه) هنا نظرة دقيقة في دلالة سياق الآية على عود الضمير في ( قَبْلَ مَوْتِهِ ) إلى المسيح؛ وذلك حيث قوله تعالى - عقيب ذلك -: ( وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ) . فإنّه يدلّ على أنّه (عليه السلام) يشهد يوم القيامة بشأن مَن آمن به في حياته قبل موته، أمّا فترة التوفّي ورَفعه إلى السماء فكان الشاهد عليهم هو اللّه سبحانه، كما جاءت في سورة المائدة: ١١٧ (٢) .

وأمّا مسألة تخصيص العموم فليس من التخصيص حقيقة، وإنّما هو من باب التسامح والتوسعة في التعبير، فخوطب الآباء بما يفعله الأبناء، كما عوتب الأبناء بما فعله الآباء في كثير من مواضع القرآن.

____________________

(١) تفسير المنار، ج٦، ص٢١ - ٢٢.

(٢) راجع: تفسير الميزان، ج٥، ص١٤٢.

١٠٩

الباب الثاني

القرآن وثقافات عصره!

هل تاثّر القرآن بثقافات كانت ساطية على البيئة العربيّة آنذاك؟

القرآن جاء ليؤثّر ويظهر على الأعراف كلّها لا ليتأثّر ويخضع لرغبات الطواغيت!

( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ )

١١٠

التأثّر بالبيئة!

هل تأثّر القرآن بثقافات عصره؟

جاء القرآن ليؤثِّر ويكافح عادات جاهليّة بائدة لا ليتأثَّر ويخضع لأعرافٍ كانت جافية إلى حدٍّ بعيد ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) (١) ، ومَن أمعن النظر في تعاليم القرآن الرشيدة - يَجدها بحقٍّ نابيةً عن التشابه لأعرافٍ كانت نائيةً، فكيف بالتأثّر بها؟!.

ولكن هناك مَن زعم أنّ في القرآن كثيراً من تعابير تُوائِم أعراف العرب يومذاك ممّا ينبو عنها أعرافٌ متحضّرة اليوم، وأخذوا مِن وصفِ نعيم الآخرة والحُور والقصور ممّا يلتئم وعِيشَة العرب القاحلة حينذاك، شاهداً على ذلك، وكذا الإشارة إلى أُمورٍ خُرافَةٍ كانت تعتنقها العرب ولا واقع لها اليوم دليل آخر، والعُمدة أنّ التكلّم بلسانِ قومٍ لَيستدعي الاعتراف بما تحمله الكلمات من معاني عندهم لاحَظُوها عند الوضع فلابدّ أنّها مَلحوظةٌ أيضاً لدى الاستعمال.

هكذا زعم القوم ولكنّه وهمٌ توهّموه محضاً، وإليك التفصيل.

ولنُمّهد قبل ذلك مقدّمات تَنفعنا في صميم البحث:

____________________

(١) تكرّر هذا المقطع من الآية في القرآن ثلاث مرّات (التوبة ٩: ٣٣، الفتح ٤٨، ٢٨، الصفّ ٦١: ٩) دليلاً على التأكيد البالغ.

١١١

١ - مُجاراة في الاستعمال

هل كان التكلّم بلسان قومٍ يستدعي الاعتراف بما تحمله لغتهم من ثقافات؟ أم كان لا يعدو سِوى المجاراة معهم في الاستعمال؟

الثاني هو الصحيح الواقع؛ ذلك أنّ المحاورة لأجل التفاهم في أيّ لغةٍ لا يستدعي سِوى العلم بمعاني الكَلِم الإفراديّة والجُمليّة في الاستعمال الدارج فعليّاً لدى القوم، فكان ينبغي المـُماشاة معهم ومُجاراتهم في تبادل المفاهيم حسبما يتعاهدونه الآن، من غير نظرٍ إلى أصل الوضع والدواعي التي دعت إلى وضع كلّ لفظةٍ لمعنىً خاصّ، فإنّ هذه الدواعي كانت ملحوظةً لدى الوضع ولا تُلحظ حين الاستعمال، وربّما كان مستعملو اللفظة في ذُهولٍ عن الأسباب الداعية للأوضاع الخاصّة الأَوّليّة.

خُذ مثلاً لفظة (المجنون) وُضِعت للمـُصاب بداء توتّر الأعصاب، وكان السبب الداعي لهذا الوضع في حينه اعتقاد أنّه أُصيب بِمَساسِ الجنّ؛ ومِن ثَمّ كانوا في العهد القديم يعالجون المصابين بهذا الداء بالرُّقَى والتعاويذ لغرض إبعاد الجنّ عنهم فيما زعموا، واليوم أصبحت هذه العقيدة خُرافة، غير أنّ أبناء اللغة لا يزالون يتداولون اللفظة لغرض التفاهم مع بعضهم، حيث اللفظة أصبحت مجرّد علامة للدلالة على هذا المعنى بمفهومه الجديد لا الخُرافة البائدة، وإن كانت هي السبب للوضع في وقته، غير أنّه غير ملحوظ بل مرفوض في الاستعمال حاليّاً.

والصحراء القاحلة سمّيت (مَفازَة) تفاؤلاً، وتَتَداولُ التسمية من غير أنْ تُلحظ فيها ذاك التفاؤل الملحوظ عند الوضع، أو مَن سَمّى ابنه جميلاً لِما يرى عليه مسحةَ جمالٍ، وغيره ممّن يستعمل اللفظة إنّما يستعملها لأنّها عَلَمٌ عليه رُغم عدم لحاظ جمالٍ فيه، أو كان يرى العكس؛ ذلك لأنّ التسمية تحقّقت وأصبح الاسم عَلَماً له من غير أنْ يُحمل مفهومه المـَلحوظ عند التسمية.

وعليه، فالاستعمالات الدارجة تابعة لمداليلِ الألفاظ كعلائمٍ على المعاني محضاً، ولا تُلحظ الدواعي والمناسبة الأَوّليّة التي لاحظها الواضع حين الوضع.

١١٢

فلنفرض أنّ لفظة (الخُلُق) إنّما وُضِعت للصفات والمـَلَكات النفسيّة؛ لِما كانت جاهليّة العرب تعتقد أنّ للصفات النفسيّة مَنشَأً في الخَليقة الأُولى، والإنسان مجبول عليها ومسيَّرٌ في حياته وِفق ما فُطِر عليه، تلك عقيدة جاهليّة بادت ولكنّ التسمية دامت، والمستعملون اليوم لا يريدون هذا المعنى قطعيّاً، وهكذا فيما جاء استعماله في القرآن، فإنّها مُجاراة في الاستعمال وليس اعترافاً بما تحمله اللفظة من مفهومها الأَوّلي البائد.

٢ - خطاب القرآن عامّ

القرآن وإنْ كان واجه العرب في وقته لكنّه خاطب النّاس عامّة عِبر الأجيال، فقد واجه العرب وخاطبهم بلسانهم وعلى أساليب كلامهم المعهودة لديهم وذلك لغرض التفاهم معهم حينذاك ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ) (١) لكن هذا لا يعني الاختصاص بعد أن كانت الرسالة عامّة والخطابات شاملة.

جاءت في القرآن تعابير قد يبدو من ظاهرها الاختصاص لكنْ في طيّها مفاهيم عامّة تشمل جميع الناس في جميع الأزمان، الأمر الذي جعل من القرآن دستوراً عامّاً لكافّة الأُمَم وفي كلّ الأدوار، وكذا الأمثال والحِكم الواردة في القرآن لا تَتَركّز على ذهنيّات العرب خاصّة وإنّما على ذهنيّات يتعاهدها جميع الأُمَم عِبر الأيّام، حتّى في مثل (الإبل) جُعِلت عِبرةً لا للعرب خاصّة وإنّما هي للعموم بعد أن كانت منبثّةً على وجه الأرض يَعرف عجائبها كلُّ الناس.

وهكذا جاءت أوصاف نعيم الآخرة وشديد عقوباتها على معايير يتعاهدها الجميع وليس عند العرب خاصّة، حسبما نبيّن.

قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله): (ما من آيةٍ في القرآن إلاّ ولها ظهرٌ وبطن). سُئل الإمام الباقر(عليه السلام) عن ذلك، فقال: (ظَهرَهُ تنزيلُه وبطنُه تأويلُه) (٢) . وعنى بالتنزيل: ظاهر الآية؛ حيث

____________________

(١) إبراهيم ١٤: ٤.

(٢) تفيسر العيّاشي، ج١، ص١١.

١١٣

نزلتْ بشأنٍ خاصّ، وبالتأويل: المفهوم العامّ المـُنتَزع مِن الآية وهو شامل يجاري الأيّام والليالي أبداً.

وأضاف (عليه السلام): أنّ العِبرة بهذا المفهوم العامّ الذي ضَمن خلود القرآن، وإلاّ فلو كانت العِبرة بظاهر التعبير الخاصّ إذن لكان القرآن قيدَ التأريخ في حَقلِه القصير، وذهب بهلاك تلكُم الأقوام!

وسنفصّل الكلام عن ذلك في مجالات متناسبة.

٣ - حقيقة لا تخييل

ما يأتي به القرآن من عِبَر وضَرْب الأمثال فإنّها جميعاً حكايةٌ عن أمرٍ واقع، إمّا حقيقة ثابتة في الأعيان، أو تصوير لحالةٍ راسخةٍ في القلوب، وهكذا فيما أَخبر عن عالَمٍ وراءَ عالَم الشهود، ليست تصوّرات وهميّة وإنّما هي حقائق راهنة في أصقاعها المتناسبة.

فعِبَرُ التأريخ يتمثّل بها القرآن لها واقعيّة يأخذها القرآن عِبْرَةً - وإلاّ فلا عِبْرَة بالأوهام! وكذلك الصوَر التخييليّة لحالاتٍ وهواجس نفسيّة - يَضرب بها الأمثال، لها واقع مُرّ صوَّرها القرآن وألبسها ثوبَ الحياة في أبدعِ تصويرٍ.

أمّا الحكاية عن مغيّبات ما وراء السِتار فهي حقائق ثابتة مَثَّلها القرآن في قالب الاستعارة والتشبيه، فيتنبّه النابه لوجه الاستعارة والتشبيه ولا مجال للإنكار بعد عدم الدليل على الامتناع.

فهؤلاء ملائكة الرحمان لها أجنحة مَثنى وثُلاث ورُباع (١) ، ذَكَرها القرآن تعبيراً عن مُختَلف مدارج القُوى والطاقات تَملِكُها ملائكة السماء المـُدبِّرات أمراً حَسب وظائفها في التدبير المخوّل إليها، والتعبير عن القُدَر والقُوى بالأَجنحة شائع وليس المراد أجنحةً كأجنحة الطيور.

وهكذا في سائر الموارد عَمَدَ القرآن إلى التشبيه والتمثيل حكايةً عن أمرٍ واقع وليس مجرّد تصوير وتخييل.

____________________

(١) وهو قوله تعالى: ( جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ... ) فاطر ٣٥: ١.

١١٤

ثقافات جاهليّة كافَحَها الإسلام

كان المجتمع العربي إبّان ظهور الإسلام آهِلاً بثقافاتٍ هي ضلالات وجهالات، وكان الفساد والفحشاء قد غطَّ البلاد، وكفى شاهداً على ضَخامة هذا الظلام ما رَسَمه القرآن عن مُنكَرات كانت قد عمّت الجزيرة هي مِن الفظاعة بمكانٍ، فجاء الإسلام ليُنقِذَهم من الجَهالة وَحَيرَة الضلالة، وليضعَ عنهم إصرَهم والأغلال التي كانت عليهم، وقد نجح بالفعل في خُطوات واسعة؛ حيث جاء الحقّ وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقاً.

إذن، جاء القرآن ليُتحِف البشريّة جَمعاء والعرب خاصّةً بِمَعالم حضارة زاهية ( وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ) (١) فقد جاء ليؤثِّر لا ليتأثَّر، ومن الجَفاء زَعْمُ العكس فيما حَسِبه المـُتشاكِسون.

ودليلاً على ذلك نأتي بعادات ورسوم جاهليّة خاطئة عارضها الإسلام وغلب عليها ( وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ ) (٢) ( وكَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ) (٣) .

ولنبدأ بشؤون المرأة وقد سُحِقت كرامتها الإنسانيّة في ذلك الجوّ الحالِك، فجاء الإسلام وأخذ بيدها ليَرفعَها إلى حيث مستواها الكريم.

المرأة وكرامتها في القرآن

للمرأةِ كرامتها الإنسانيّة في القرآن، وقد جَعلها الله في مستوى الرجل في الحَظوة الإنسانيّة الرفيعة، حينما كانت في كلّ الأوساط المتحضّرة والجاهلة مُهانةً وَضيْعَةَ القَدْرِ، لا شأن لها في الحياة سِوى كونها لُعبةَ الرجل وبُلغتَه في الحياة، فجاء الإسلام وأخذ بيدها وصَعد بها إلى حيث مستواها الرفيع الموازي لمستوى الرجل في المجال الإنساني الكريم ( لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ ) (٤) ، ( وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) (٥) .

____________________

(١) يوسف ١٢: ٢١.

(٢) الصافّات ٣٧: ١١٦.

(٣) المجالة ٥٨: ٢١.

(٤) النساء ٤: ٣٢.

(٥) البقرة ٢: ٢٢٨.

١١٥

القرآن عندما يتحدّث عن الإنسان - وليس في حقيقة الإنسانيّة ذكورةٌ ولا أُنوثةٌ - إنّما يتحدّث عن الجنس ذكراً وأنثى على سواء، وعندما يتحدّث عن كرامةِ الإنسان وتفضيلِه على كثير ممَّن خلق (١) وعن الودائع التي أَودَعَها هذا الإنسان َ (٢) وعن نَفخِ روحه فيه (٣) وعندما يباركُ نفسَه في خَلقِه لهذا الإنسان (٤) إنّما يتحدّث عن الذات الإنسانيّة الرفيعة المشتركة بين الذَّكر والأُنثى من غير فرقٍ.

هو عندما يقول: ( وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاّ مَا سَعَى ) (٥) وعندما يقول: ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) (٦) وإلى أمثالها من تعابير لا يُفرِّق بين ذكرٍ وأُنثى: ( أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ) (٧) ، ولا مَيْزَ بينهما ولا تَفارُق فيما يَمتاز به الإنسان في أصل وجوده وفي سعيه وفي البلوغ إلى مراتب كماله، ( إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ) (٨) .

وقد جاء قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى ‏ ) (٩) دليلاً قاطعاً على موازاة الأُنثى مع الذكر في أصالة النوع البشري، ولا تزال هذه الأصالة مُحتَفَظاً بها عِبر تناسل الأجيال.

نعم، هناك خصائص نفسيّة وعقليّة ميّزت أحدهما عن الآخر في تكوينِهما الذاتي ممّا أوجب تَفارقاً في توزيع الوظائف التي يقوم بها كلٌّ منهما في حقل الحياة، توزيعاً عادلاً يتناسب مع معطيات ومؤهّلات كلّ من الذكر والأنثى، الأمر الذي يؤكِّد شمول العدل في التكليف والاختيار، ولنَنَظر في هذه الفوارق الناشئة من مقام حكمته تعالى في الخلق والتدبير.

____________________

(١) الإسراء ١٧: ٧٠.

(٢) الأحزاب ٣٣: ٧٢.

(٣) السجدة ٣٢: ٩.

(٤) المؤمنون ٢٣: ١٤.

(٥) النجم ٥٣: ٣٩.

(٦) الحجرات ٤٩: ١٣.

(٧) آل عمران ٣: ١٩٥.

(٨) الأحزاب ٣٣: ٣٥.

(٩) الحجرات ٤٩: ١٣.

١١٦

وللرجال عليهنّ درجة

هنا وقفة قصيرة عندما نَلحظ أنّ القرآن فضّل الرجال على النساء بدرجة!

فهل في ذلك حطٌّ من قَدْر المرأة؟ أو كمال حُظي به الرجل دونها؟

ليس من هذا أو ذاك في شيء؛ وإنّما هي مُرافقة مع ذات الفطرة التي جُبِل عليها كلٌّ من الرجل والمرأة.

إنّ معطيات الرجل النفسيّة والخُلُقيّة تختلف عن معطيات المرأة، كما تختلف طبيعتها الأُنوثيّة المـُرْهَفَة الرقيقة عن طبيعة الرجل الصُّلبة الشديدة، كما قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (المرأة ريحانة وليست بقهرمانة) (١) ، فنُعومة طبعها وظرافة خُلُقها تجعلها سريعة الانفعال تجاه مُصطَدمات الأُمور، على خلاف الرجل في تريّثِه ومقاومته عند مقابلة الحوادث.

فالمرأة في حقوقها ومَزاياها الإنسانيّة تُعادِل الرجل ( وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) (٢) ، هذا في أصل خلقتها لتكونَ للرجل زوجاً مِن نفسه أي نظيرَه في الجنس، فيتكافلان ويتعاونان معاً في الحياة الزوجيّة على سواء، فلها مثلُ الذي عليها من الحقّ المشترك، وهذا هو التماثل بالمعروف أي التساوي فيما يعترف به العقل ولا يَستَنكِرُه.

لكنّ الشطر الذي يتحمّله الرجل في الحياة الزوجيّة هو الشطر الأثقل الأشقّ، فضلاً عن القِوامة والحماية التي تُثقل عبء الرَجُل في مزاولة الحياة، الأمر الذي استدعى شيئاً من التَمايز في نفس الحقوق الزوجيّة، ممّا أوجب للرَجُل امتيازاً بدرجة ( وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ) (٣) .

وهذا التفاضل في الذات والمـُعطيات هو الذي جعل من موضع الرَجُل في الأُسرة موضع القِوامة، ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ) (٤) .

____________________

(١) نهج البلاغة، الكتاب رقم ٣١، ص٤٠٥.

(٢) البقرة ٢: ٢٢٨.

(٣) البقرة ٢: ٢٢٨.

(٤) النساء ٤: ٣٤.

١١٧

إنّ الأسرة هي المؤسَّسة الأُولى في الحياة الإنسانيّة، وهي نقطة البدء التي تؤثِّر في كلّ مراحل الطريق، والتي تُزاول إنشاء وتنشئة العنصر الإنساني، وهو أكرم عناصر هذا الكون في التصوّر الإسلامي، وإذا كانت المؤسّسات - التي هي أقلّ شأناً وأرخص سعراً كالمؤسّسات الماليّة والصناعيّة والتجاريّة وما إليها - لا تُوكِل أمرَها عادةً إلاّ للأكفاء من المرشّحين لها ممّن تخصّصوا في هذا الفرع علمياً، وتدرّبوا عليه عمليّاً فوق ما وِهبوا مِن استعدادات طبيعيّة للإدارة والقِوامة، فالأًولى أن تُتَّبّع هذه القاعدة في مؤسّسة الأُسرة التي تُنشِئ وتُنشِّئ أثمن عناصر الكون، ذلك هو العنصر الإنساني.

والمنهج الربّاني يراعي هذا، ويراعي به الفطرة والاستعدادات الموهَبة لشطري النفس - العقلاني والجسماني - لأداء الوظائف المـَنوطة بهما معاً، كما يراعي به العدالة في توزيع الأعباء على شطري الأُسرة الواحدة، والعدالة في اختصاص كلٍّ منهما بنوع الأعباء المهيَّأ لها، المـُعان عليها مِن فطرته واستعداداته المتميّزة المتفرّدة.

والمسلَّم به ابتداءً أنّ الرجل والمرأة كلاهما مِن خَلْقِ اللّه، وأنّه تعالى لا يريد ظلماً بأحدٍ من خَلقه، وهو يُهيِّئه ويُعدّه لوظيفة خاصّة، ويمنحه الاستعدادات اللازمة لإحسان هذه الوظيفة، وقد خلق اللّه الناس ذكراً وأنثى زوجين على أساسِ القاعدة الكلّيّة في بناء هذا الكون، وجعل من وظائف المرأة أن تَحمل وتَضَع وتَرضع، وتَكفُل ثمرةَ الاتّصال بينها وبين الرجل، وهي وظائف ضَخمة وخطيرة وليست هيّنة ولا يسيرة، بحيث يمكن أنْ تؤدّى بدون إعداد عضويٍّ ونفسيٍّ وعقليٍّ عميق غائر في كيان الأنثى.

فكان جديراً أنْ يَنوط بالشطر الآخر - الرجل - توفير الحاجات الضروريّة، وتوفير الحماية كذلك للأُنثى كي تتفرّغ لأداء وظيفتها الخطيرة، ولا يُحمَل عليها أن تَحمل وتَضع وتَرضع وتكفل ثُمّ هي التي تعمل وتكدّ وتسهر ليلاً وتَجهد نهاراً لحماية نفسها وكفالة ولدها في آنٍ واحد! فكان عدلاً كذلك أن يُمنح الرجل من الخصائص في تكوينه العضويّ والعصبيّ والعقليّ والنفسيّ ما يُعينه على أداء وظائفه هذه الخطيرة أيضاً، وكان هذا فعلاً ( وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ) (١) .

____________________

(١) الكهف ١٨: ٤٩.

١١٨

ومِن ثَمَّ زُوِّدت المرأة - فيما زُوِّدت به من الخصائص - بالرقّة والعطف والحنان، وسرعة الانفعال والاستجابة العاجلة لمطالب الطفولة بغير وعي ولا سابق تفكير؛ لأنّ الضرورات الإنسانيّة العميقة كلّها والمـُلِحّة أحياناً - حتّى في الفرد الواحد - قد لا تَتَركُ لأَرجَحة الوعي والتفكير وبطئه مجالاً، بل فرضت الاستجابة لها غير إراديّة، لتَسهُل تلبيتها فوراً وفيما يشبه أنْ تكون قسراً، ولكنّه قسرٌ داخلي غير مفروض من خارج النفس، ويكون لذيذاً ومستحبّاً في مُعظم الأحيان؛ لتكون الاستجابة سريعةً من جهةٍ ومريحةً من جهةٍ أُخرى، مهما يكن فيها من المشقّة والتضحية ( صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ) (١) .

قال سيّد قطب: وهذه الخصائص ليست سطحيّة، بل هي غائرة في التكوين العضويّ والعصبيّ والعقليّ والنفسيّ للمرأة، بل يقول كبار العلماء المختصّين: إنّها غائرة في تكوين كلّ خليّة؛ لأنّها عميقة في تكوين الخليّة الأُولى التي يكون من انقسامها وتكاثرها الجنين، بكلّ خصائصه الأساسيّة (٢) .

وكذلك زُوِّد الرجل - فيما زُوِّد به من الخصائص - بالمـُقاومة والصَلابة، وبطء الانفعال والاستجابة، والتروّي واستخدام الوعي والتفكير قبل الحركة والاستجابة؛ لأنّ وظائفه كلّها منذ بدء الحياة وممارسة التنازع في البقاء كانت تحتاج إلى قَدَرٍ من التروّي قبل الإقدام، وإعمال الفكر والبطء في الاستجابة بوجهٍ عامّ (٣) ، وكلّها عميقة في تكوينه عمقَ خصائص المرأة في تكوينها، وهذه الخصائص تَجعله أقدر على القِوامة وأفضل في مجالها، كما أنّ تكليفه بالإنفاق - وهو فرع مِن توزيع الاختصاصات - يجعله بدوره أولى بالقِوامة.

وهذان العنصران هما اللذان أبرزهما النصّ القرآني، وهو يقرّر قِوامة الرجال على النساء في المجتمع الإسلامي.

____________________

(١) النمل ٢٧: ٨٨.

(٢) تفسير في ظِلال القرآن، ج ٥، ص ٥٨ - ٥٩، المجلّد الثاني، ص ٣٥٤ - ٣٥٥.

(٣) إنّ معدّل سِعة الدماغ في الرجال ١٤٨٠ سم مكعّب وفي النساء ١٣٠٠ سم مكعّب، ووزن دماغ الرجل ١٣٦٠ غم بينما وزن دماغ المرأة ١٢١٠ غم، إنّ هذا المعدّل يمثّل كافّة شعوب البشر بصورة عامّة، كتاب الحيوان للدراسة الجامعيّة، ص ٣٨٨.

١١٩

قِوامة لها أسبابها وعِللها من التكوين والاستعداد، إلى جنب أسبابها من توزيع الوظائف والاختصاصات، الأمر الذي جعل من مرتبة الرجل أعلى من مرتبة المرأة بدرجة!

قال سيّد قطب: إنّها مسائل خطيرة، أخطر من أنْ تتحكّم فيها أهواء البشر، وأخطر من أنْ تُترك لهم يَخبطون فيها خَبْطَ عشواء، وحين تُركت لهم ولأهوائهم في الجاهليّات القديمة والجاهليّات الحديثة هدّدت البشريّة تهديداً خطيراً في وجودها ذاته، وفي بقاء الخصائص الإنسانيّة التي تقوم بها الحياة الإنسانيّة وتتميّز.

ولعلّ مِن الدلائل التي تُشير بها الفطرة إلى وجودها وتحكّمها، ووجود قوانينها المتحكِّمة في بني الإنسان، حتّى وهم يُنكرونها ويرفضونها ويتفكّرون لها، لعلّ من هذه الدلائل ما أصاب الحياة البشريّة من تَخبُّطٍ وفسادٍ، ومن تدهورٍ وانهيارٍ، ومن تهديدٍ بالدمار والبَوار في كلّ مرّةٍ خُولفت فيها هذه القاعدة، فاهتزّت سُلطة القِوامة في الأُسرة، أو اختلطت معالمها، أو شذّت عن قاعدتها الفطريّة الأصيلة.

ولعلّ من هذه الدلائل تَوَقان نفس المرأة ذاتها إلى قيام هذه القِوامة على أصلها الفطري في الأسرة، وشعورها بالحرمان والنقص والقلق وقلّة السعادة، عندما تعيش مع رجلٍ لا يزاول مهامّ القِوامة وتُنقِصُه صفاتها اللازمة، فيَكِل إليها هي أمرَ القِوامة! وهي حقيقة مَلحوظة تسلِّم بها حتّى المنحرفات الخابطات في الظلام.

ولعلّ من هذه الدلائل أنّ الأطفال الذين يَنشّأون في عائلة ليست القِوامة فيها للأب؛ إمّا لأنّه ضعيف الشخصيّة بحيث تَبرُز عليه شخصيّة الأُمّ وتسيطر، وإمّا لأنّه مفقود لوفاته أو لعدم وجود أبٍ شرعي، فلمـّا يَنشّأون أسوياء وقلّ أنْ لا ينحرفوا إلى شذوذٍ مّا، في تكوينهم العصبيّ والنفسيّ، وفي سلوكهم العمليّ والخُلقيّ.

فهذه كلّها بعض الدلائل التي تشير بها الفطرة إلى وجودها وتحكّمها، ووجود قوانينها المتحكّمة في بني الإنسان، حتّى وهم ينكرونها ويرفضونها ويتنكّرون لها (١) .

____________________

(١) في ظِلال القرآن، ج ٥، ص ٦٠، المجلّد الثاني، ص ٣٥٦.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

قوله تعالى: ( إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَ كَفَرَ ) استثناء من المفعول المحذوف لقوله السابق:( فَذَكِّرْ ) و التقدير فذكّر الناس إلّا من تولّى منهم عن التذكرة و كفر إذ تذكرته لغو لا فائدة فيها، و معلوم أنّ التولّي و الكفر إنّما يكون بعد التذكرة فالمنفيّ بالاستثناء هو التذكرة بعد التذكرة كأنّه قيل: ذكّرهم و أدم التذكرة إلّا لمن ذكّرته فتولّى عنها و كفر، فليس عليك إدامة تذكرته بل أعرض عنه فيعذّبه الله العذاب الأكبر.

فقوله:( فَذَكِّرْ - إلى أن قال -إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَ كَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ ) في معنى قوله:( فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى‏ - إلى أن قال -وَ يَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى) الأعلى: 12 و قد تقدّم بيانه.

و قيل: الاستثناء من ضمير( عَلَيْهِمْ ) في قوله:( لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) و المعنى لست عليهم بمتسلّط إلّا على من تولّى منهم عن التذكرة و أقام على الكفر فسيُسلّطك الله عليه و يأمرك بالجهاد فتقاتله فتقتله.

و قيل: الاستثناء منقطع و المعنى لست عليهم بمتسلّط لكنّ من تولّى و كفر منهم يعذّبه الله العذاب الأكبر، و ما قدّمناه من الوجه أرجح و أقرب.

قوله تعالى: ( فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ ) هو عذاب جهنّم فالآية كما تقدّم محاذية لقوله في سورة الأعلى( الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى‏ ) .

قوله تعالى: ( إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ) الإياب الرجوع و( إِلَيْنا ) خبر إنّ و إنّما قدّم للتأكيد و لرعاية الفواصل دون الحصر إذ لا قائل برجوع الناس إلى غير الله سبحانه و الآية في مقام التعليل للتعذيب المذكور في الآية السابقة.

قوله تعالى: ( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ ) الكلام فيه كالكلام في الآية السابقة.

٤٠١

( بحث روائي‏)

في المجمع، و قال أبوعبداللهعليه‌السلام : كلّ ناصب و إن تعبّد و اجتهد يصير إلى هذه الآية( عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تَصْلى‏ ناراً حامِيَةً ) .

أقول: و رواه في ثواب الأعمال، مسنداً و لفظه: كلّ ناصب و إن تعبّد و اجتهد يصير إلى هذه الغاية( عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تَصْلى‏ ناراً حامِيَةً ) .

و فيه، عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الضريع شي‏ء في النار يشبه الشوك أمرّ من الصبر و أنتن من الجيفة و أشدّ حرّاً من النار سمّاه الله الضريع.

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً ) قال: الهزل و الكذب.

و فيه،: في قوله تعالى:( لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) قال: بحافظ و لا كاتب عليهم.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و عبد بن حميد و مسلم و الترمذيّ و النسائيّ و ابن ماجة و ابن جرير و الحاكم و ابن مردويه و البيهقيّ في الأسماء و الصفات عن جابر قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اُمرت أن اُقاتل الناس حتّى يقولوا: لا إله إلّا الله فإذا قالوها عصموا منيّ دماءهم و أموالهم إلّا بحقّها و حسابهم على الله ثمّ قرأ( فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) .

أقول: لا دلالة في الرواية على كون الاستثناء من ضمير( عَلَيْهِمْ ) و هو ظاهر.

و فيه، و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَ كَفَرَ ) يريد من لم يتّعظ و لم يصدّقك و جحد ربوبيّتي و كفر نعمتي( فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ ) يريد الغليظ الشديد الدائم( إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ) يريد مصيرهم( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ ) يريد جزاءهم.

و في النهج: و سئلعليه‌السلام : كيف يحاسب الله الخلق على كثرتهم؟ قال: كما يرزقهم على كثرتهم. قيل: فكيف يحاسبهم و لا يرونه؟ قال: كما يرزقهم و لا يرونه.

٤٠٢

و فيه، قال الصادقعليه‌السلام : كلّ اُمّة يحاسبها إمام زمانها، و يعرف الأئمّة أولياءهم و أعداءهم بسيماهم و هو قوله:( وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ‏ ) الحديث.

أقول: قد تقدّم توضيح معنى الحديث في تفسير الآية من سورة الأعراف، و روي هذا المعنى في البصائر، عن الصادقعليه‌السلام مسنداً و في الكافي، عن الباقر و الكاظمعليهما‌السلام و في الفقيه، عن الهاديعليه‌السلام في الزيارة الجامعة.

٤٠٣

( سورة الفجر مكّيّة و هي ثلاثون آية)

( سورة الفجر الآيات 1 - 30)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالْفَجْرِ ( 1 ) وَلَيَالٍ عَشْرٍ ( 2 ) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ( 3 ) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ( 4 ) هَلْ فِي ذَٰلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ ( 5 ) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ( 6 ) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ ( 7 ) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ( 8 ) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ ( 9 ) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ ( 10 ) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ ( 11 ) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ ( 12 ) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ( 13 ) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ( 14 ) فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ( 15 ) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ( 16 ) كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ( 17 ) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ ( 18 ) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا ( 19 ) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ( 20 ) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ( 21 ) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ( 22 ) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ ( 23 ) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ( 24 ) فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ ( 25 ) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ( 26 ) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ( 27 ) ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ( 28 ) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ( 29 ) وَادْخُلِي جَنَّتِي ( 30 )

٤٠٤

( بيان‏)

في السورة ذمّ التعلّق بالدنيا المتعقّب للطغيان و الكفران و إيعاد أهله بأشدّ عذاب الله في الدنيا و الآخرة فتبيّن أنّ الإنسان لقصور نظره و سوء فكره يرى أنّ ما آتاه الله من نعمه من كرامته على الله و أنّ ما يتلبّس به من الفقر و العدم من هوانه فيطغى و يفسد في الأرض إذا وجد و يكفر إذا فقد و قد اشتبه عليه الأمر فما يصيبه من القدرة و الثروة و من الفقر و ضيق المعاش امتحان و ابتلاء إلهيّ ليظهر به ما ذا يقدّم من دنياه لاُخراه.

فليس الأمر على ما يتوهّمه الإنسان و يقوله بل الأمر كما سيتذكره إذا وقع الحساب و حضر العذاب أنّ ما أصابه من فقر أو غنى أو قوّة أو ضعف كان امتحاناً إلهيّاً و كان يمكنه أن يقدّم من يومه لغده فلم يفعل و آثر العقاب على الثواب فليس ينال الحياة السعيدة في الآخرة إلّا النفس المطمئنّة إلى ربّها المسلمة لأمره الّتي لا تتزلزل بعواصف الابتلاءات و لا يطغيه الوجدان و لا يكفره الفقدان.

و السورة مكّيّة بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: ( وَ الْفَجْرِ وَ لَيالٍ عَشْرٍ وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ وَ اللَّيْلِ إِذا يَسْرِ هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ) الفجر الصبح و الشفع الزوج، قال الراغب: الشفع ضمّ الشي‏ء إلى مثله و يقال للمشفوع شفع. انتهى. و سري الليل مضيّه و إدباره، و الحجر العقل فقوله:( وَ الْفَجْرِ ) إقسام بالصبح و كذا الحال فيما عطف عليه من ليال و الشفع و الوتر و اللّيل.

و لعلّ ظاهر قوله:( وَ الْفَجْرِ ) أنّ المراد به مطلق الفجر و لا يبعد أيضاً أن يراد به فجر يوم النحر و هو عاشر ذي الحجّة.

و قيل: المراد فجر ذي الحجّة، و قيل: فجر المحرّم أوّل السنة و قيل: فجر يوم الجمعة، و قيل فجر ليلة جمع، و قيل: المراد به صلاة الفجر، و قيل: النهار كلّه

٤٠٥

و قيل: فجر العيون من الصخور و غيرها و هي وجوه رديّة.

و قوله:( وَ لَيالٍ عَشْرٍ ) لعلّ المراد بها الليالي العشر من أوّل ذي الحجّة إلى عاشرها و التنكير للتفخيم.

و قيل: المراد بها الليالي العشر من آخر شهر رمضان، و قيل: الليالي العشر من أوّله، و قيل الليالي العشر من أوّل المحرّم، و قيل: المراد عبادة ليال عشر على تقدير أن يراد بالفجر صلاة الفجر.

و قوله( وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ ) يقبل الانطباق على يوم التروية و يوم عرفة و هو الأنسب على تقدير أن يراد بالفجر و ليال عشر فجر ذي الحجّة و العشر الأوّل من لياليها.

و قيل: المراد صلاتاً الشفع و الوتر في آخر الليل، و قيل: مطلق الصلاة فمنها شفع و منها وتر، و قيل: الشفع يوم النحر و الوتر يوم عرفة، و قيل: الشفع جميع الخلق لأنّه قال:( وَ خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً ) النبأ: 8 و الوتر هو الله تعالى، و على هذه الأقوال روايات ستوافيك في البحث الروائيّ الآتي إن شاء الله.

و قيل: المراد الزوج و الفرد من العدد، و في الإقسام بهما تذكير بالعدد لما في ضبط المقادير به من عظيم النعمة من الله سبحانه، و قيل: الشفع و الوتر جميع المخلوقات لأنّ الأشياء إمّا زوج و إمّا فرد، و قيل: الوتر آدم شفع بزوجته، و قيل: الشفع الأيّام و الليالي و الوتر اليوم الّذي لا ليل بعده و هو يوم القيامة، و قيل: الشفع الصفا و المروة و الوتر البيت الحرام، و قيل: الشفع أيّام عاد و الوتر لياليها، و قيل: الشفع أبواب الجنّة و هي ثمانية و الوتر أبواب جهنّم و هي سبعة إلى غير ذلك و هي كثيرة أنّهاها بعضهم إلى ستّة و ثلاثين قولاً و لا يخلو أكثرها من تحكّم.

و قوله:( وَ اللَّيْلِ إِذا يَسْرِ ) أي يمضي فهو كقوله:( وَ اللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ) المدّثر: 33 و ظاهره أنّ اللّام للجنس فالمراد به مطلق آخر الليل، و قيل: المراد به ليلة المزدلفة و هي ليلة النحر الّتي يسري فيها الحاجّ من عرفات إلى المزدلفة فيجتمع فيها على طاعة الله ثمّ يغدوا منها إلى منى و هو كما ترى و خاصّة على القول بكون المراد بليال

٤٠٦

عشر هو الليالي العشر الأوائل منها.

و قوله:( هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ) الإشارة بذلك إلى ما تقدّم من القسم، و الاستفهام للتقرير، و المعنى أنّ في ذلك الّذي قدّمناه قسماً كافياً لمن له عقل يفقه به القول و يميّز الحقّ من الباطل، و إذا أقسم الله سبحانه بأمر - و لا يقسم إلّا بما له شرف و منزلة - كان من القول الحقّ المؤكّد الّذي لا ريب في صدقه.

و جواب الأقسام المذكورة محذوف يدلّ عليه ما سيذكر من عذاب أهل الطغيان و الكفران في الدنيا و الآخرة و ثواب النفوس المطمئنّة، و أنّ إنعامه تعالى على من أنعم عليه و إمساكه عنه فيمن أمسك إنّما هو ابتلاء و امتحان.

و حذف الجواب و الإشارة إليه على طريق التكنية أوقع و آكد في باب الإنذار و التبشير.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ ) هم عاد الاُولى قوم هود تكرّرت قصّتهم في القرآن الكريم و اُشير إلى أنّهم كانوا بالأحقاف، و قد قدّمنا ما يتحصّل من قصصهم في القرآن الكريم في تفسير سورة هود.

قوله تعالى: ( إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ ) العماد و جمعه عمد ما يعتمد عليه الأبنية، و ظاهر الآيتين أنّ إرم كانت مدينة لهم معمورة عديمة النظير ذات قصور عالية و عمد ممدّدة، و قد انقطعت أخبار القوم عهدهم و انمحت آثارهم، فلا سبيل إلى الحصول على تفصيل حالهم تطمئنّ إليها النفس إلّا ما قصّة القرآن الكريم من إجمال قصّتهم أنّهم كانوا بعد قوم نوح قاطنين بالأحقاف و كانوا ذوي بسطة في الخلق اُولي قوّة و بطش شديد، و كان لهم تقدّم و رقي في المدنيّة و الحضارة لهم بلاد عامرة و أراض خصبة ذات جنّات و نخيل و زروع و مقام كريم و قد تقدّمت القصّة.

و قيل: المراد بإرم قوم عاد - و هو في الأصل اسم أبيهم سمّوا باسم أبيهم كما يقال: قريش و يراد به القرشيّون و يطلق إسرائيل و يراد به بنو إسرائيل - و المراد بكونهم ذات عماد كونهم اُولي قوّة و سطوة.

٤٠٧

و المعنى: أ لم تر كيف فعل ربّك بقوم عاد الّذين هم قوم إرم ذوو القوّة و الشدّة الّذين لم يخلق مثلهم في بسطة الجسم و القوّة و البطش في البلاد أو في أقطار الأرض و لا يخلو من بعد من ظاهر اللفظ.

و أبعد منه ما قيل: إنّ المراد بكونهم ذات العماد أنّهم كانوا أهل عمد سيّارة في الربيع فإذا هاج النبت رجعوا إلى منازلهم.

و من الأساطير قصّة جنّة إرم المشهورة المرويّة عن وهب بن منبّه و كعب الأحبار.

قوله تعالى: ( وَ ثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ ) الجوب القطع أي قطعوا صخر الجبال بنحتها بيوتاً فهو في معنى قوله:( وَ تَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً ) الشعراء: 149.

قوله تعالى: ( وَ فِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ ) هو فرعون موسى، و سمّي ذا الأوتاد - على ما في بعض الروايات - لأنّه كان إذا أراد أن يعذّب رجلاً بسطه على الأرض و وتد يديه و رجليه بأربعة أوتاد في الأرض و ربّما بسطه على خشب و فعل به ذلك، و يؤيّده ما حكاه الله من قوله يهدّد السحرة إذ آمنوا بموسى:( وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ) طه: 71 فإنّهم كانوا يوتّدون يدي المصلوب و رجليه على خشبة الصليب.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ ) صفة للمذكورين من عاد و ثمود و فرعون، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ ) صبّ الماء معروف و صبّ سوط العذاب كناية عن التعذيب المتتابع المتواتر الشديد، و تنكير عذاب للتفخيم.

و المعنى فأنزل ربّك على كلّ من هؤلاء الطاغين المكثرين للفساد إثر طغيانهم و إكثارهم الفساد عذاباً شديداً متتابعاً متوالياً لا يوصف.

قوله تعالى: ( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ ) المرصاد المكان الّذي يرصد منه و يرقب و كونه تعالى على المرصاد استعارة تمثيليّة شبّه فيها حفظه تعالى لأعمال عباده بمن

٤٠٨

يقعد على المرصاد يرقب من يراد رقوبه فيأخذه حين يمرّ به و هو لا يشعر فالله سبحانه رقيب يرقب أعمال عباده حتّى إذا طغوا و أكثروا الفساد أخذهم بأشدّ العذاب.

و في الآية تعليل ما تقدّم من حديث تعذيب الطغاة المكثرين للفساد من الماضين و في قوله:( رَبَّكَ ) بإضافة الربّ إلى ضمير الخطاب تلويح إلى أنّ سنّة العذاب جارية في اُمّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما جرت عليه في الاُمم الماضين.

قوله تعالى: ( فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ) متفرّع على ما قبله، فيه تفصيل حال الإنسان إذا اُوتي من نعم الدنيا أو حرم كأنّه قيل: إنّ الإنسان تحت رقوب إلهيّ يرصده ربّه هل يصلح أو يفسد؟ و يبتليه و يمتحنه فيما آتاه من نعمة أو حرمة هذا هو الأمر في نفسه و أمّا الإنسان فإنّه إذا أنعم الله عليه بنعمة حسب أنّ ذلك إكرام إلهيّ له أن يفعل بها ما يشاء فيطغى و يكثر الفساد، و إذا أمسك و قدر عليه رزقه حسب أنّه إهانة إلهيّة فيكفر و يجزع.

فقوله:( فَأَمَّا الْإِنْسانُ ) المراد به النوع بحسب الطبع الأوّليّ فاللّام للجنس دون الاستغراق.

و قوله:( إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ ) أي امتحنه و اختبره، و العامل في الظرف محذوف تقديره كائنا إذا إلخ و قيل: العامل فيه( فَيَقُولُ ) .

و قوله:( فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ ) تفسير للابتلاء، و المراد بالإكرام و التنعيم الصوريّان و إن شئت فقل: الإكرام و التنعيم حدوثاً لا بقاء أي إنّه تعالى أكرمه و آتاه النعمة ليشكره و يعبده لكنّه جعلها نقمة على نفسه تستتبع العذاب.

و قوله:( فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ) أي جعلني على كرامة منه بالنعم الّتي آتانيها و إن شئت فقل: القدرة و الجدة الموهوبتان إكرام و تنعيم حدوثاً و بقاء فلي أن أفعل ما أشاء.

و الجملة أعني قوله:( فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ) حكاية ما يراه الإنسان بحسب الطبع، و قول الإنسان:( رَبِّي أَكْرَمَنِ ) الظاهر في نسبة التدبير إلى الله سبحانه

٤٠٩

- و لا يقول به الوثنيّة و المنكرون للصانع - مبنيّ على اعترافه بحسب الفطرة به تعالى و إن استنكف عنه لساناً، و أيضاً لرعاية المقابلة مع قوله:( إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ ) .

قوله تعالى: ( وَ أَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ ) أي و أمّا إذا ما امتحنه و اختبره فضيق عليه رزقه فيقول ربّي أذلّني و استخفّ بي.

و يظهر من مجموع الآيتين أوّلاً حيث كرّر الابتلاء و أثبته في صورتي التنعيم و الإمساك عنه أنّ إيتاء النعم و الإمساك عنه جميعاً من الابتلاء و الامتحان الإلهيّ كما قال:( وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً ) الأنبياء: 35 لا كما يراه الإنسان.

و ثانياً أنّ إيتاء النعم بما أنّه فضل و رحمة إكرام إن لم يبدّلها الإنسان نقما على نفسه.

و ثالثاً أنّ الآيتين معاً تفيدان أنّ الإنسان يرى سعادته في الحياة هي التنعّم في الدنيا بنعم الله تعالى و هو الكرامة عنده و الحرمان منه شقاء عنده و الحال أنّ الكرامة هي في التقرّب إليه تعالى بالإيمان و العمل الصالح سواء في ذلك الغنى و الفقر و أي وجدان و فقدان فإنّما ذلك بلاء و امتحان.

و لهم في معنى الآيتين وجوه اُخر تركنا التعرّض لها لقلّة الجدوى.

قوله تعالى: ( كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَ لا تَحَاضُّونَ عَلى‏ طَعامِ الْمِسْكِينِ ) ردع لقولهم: إنّ الكرامة هي في الغنى و التنعّم، و في الفقر و الفقدان هوان و مذلّة، و المعنى ليس كما تقولون و إنّما إيتاؤه تعالى النعمة و إمساكه عنه كلّ ذلك ابتلاء و امتحان يختبر به حال الإنسان من حيث عبوديّته.

و في قوله:( بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ) إلخ إضراب يؤكّد الردع بذكر بعض التنعّم الّذي لا يجامع الكرامة البتّة كعدم إكرامهم اليتيم بأكل تراثه و منعه منه و عدم التحريض على إطعام المسكين حبّاً للمال فالفطرة الإنسانيّة لا يرتاب في أن لا كرامة في غنى هذا شأنه.

و في الإضراب مضافاً إلى أصل الردع تقريع و لتشديد هذا التقريع وقع الالتفات من الغيبة إلى الخطاب.

٤١٠

فقوله:( بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ) عدم إكرامه حرمانه من تراث أبيه - كما كانوا يحرمون صغار الأولاد من الإرث - و تركه صفر الكفّ بلغ به الجهد ما بلغ كما تؤيّده الآية التالية( وَ تَأْكُلُونَ التُّراثَ ) إلخ.

و قوله:( وَ لا تَحَاضُّونَ عَلى‏ طَعامِ الْمِسْكِينِ ) أصله و لا تتحاضّون، و هو تحريض بعضهم بعضاً على التصدّق على المساكين المعدمين، و منشأه حبّ المال كما في الآية الآتية( وَ تُحِبُّونَ الْمالَ ) إلخ.

قوله تعالى: ( وَ تَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا ) اللمّ أكل الإنسان نصيب نفسه و غيره و أكله ما يجده من دون أن يميّز الطيّب من الخبيث، و الآية تفسير لعدم إكرامهم اليتيم كما تقدّم.

قوله تعالى: ( وَ تُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا ) الجمّ الكثير العظيم، و الآية تفسّر عدم تحاضّهم على طعام المسكين كما تقدّم.

قوله تعالى: ( كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ) الدكّ هو الدقّ الشديد، و المراد بالظرف حضور يوم القيامة.

ردع ثان عمّا يقوله الإنسان في حالي الغنى و الفقر، و قوله:( إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ ) إلخ في مقام التعليل للردع، و محصّل المعنى ليس كما يقوله الإنسان فإنّه سيتذكّر إذا قامت القيامة إنّ الحياة الدنيا و ما فيها من الغنى و الفقر و أضرابهما لم تكن مقصودة بالذات بل كانت ابتلاء و امتحاناً من الله تعالى يميّز به السعيد من الشقيّ و يهيّئ الإنسان فيها ما يعيش به في الآخرة و قد التبس عليه الأمر فحسبها كرامة مقصودة بالذات فاشتغل بها و لم يقدّم لحياته الآخرة شيئاً فيتمنّى عند ذلك و يقول: يا ليتني قدّمت لحياتي و لن يصرف التمنّي عنه شيئاً من العذاب.

قوله تعالى: ( وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ) نسبة المجي‏ء إليه تعالى من المتشابه الّذي يحكمه قوله تعالى:( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ ) الشورى: 11 و ما ورد في آيات القيامة من خواصّ اليوم كتقطّع الأسباب و ارتفاع الحجب عنهم و ظهور أنّ الله هو الحقّ المبين.

٤١١

و إلى ذلك يرجع ما ورد في الروايات أنّ المراد بمجيئه تعالى مجي‏ء أمره قال تعالى:( وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ) الانفطار: 19، و يؤيّد هذا الوجه بعض التأييد قوله تعالى( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَ الْمَلائِكَةُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ ) البقرة: 210 إذا انضمّ إلى قوله:( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ ) النحل: 33 و عليه فهناك مضاف محذوف و التقدير جاء أمر ربّك أو نسبة المجي‏ء إليه تعالى من المجاز العقليّ.

و الكلام في نسبة المجي‏ء إلى الملائكة و كونهم صفّا صفّا كما مرّ.

قوله تعالى: ( وَ جِي‏ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ) إلى آخر الآية لا يبعد أن يكون المراد بالمجي‏ء بجهنّم إبرازها لهم كما في قوله تعالى:( وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى‏ ) النازعات: 36 و قوله:( وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ ) الشعراء: 91، و قوله:( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ق: 22.

و قوله:( يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ) أي يتذكّر أجلى التذكّر أنّ ما كان يؤتاه في الحياة الدنيا من خير أو شرّ كان من ابتلاء الله و امتحانه و أنّه قصر في أمره، هذا ما يفيده السياق.

و قوله:( وَ أَنَّى لَهُ الذِّكْرى) أي و من أين له الذكرى كناية عن عدم انتفاعه بها فإنّ الذكرى إنّما تنفع فيما أمكنه أن يتدارك ما فرّط فيه بتوبة و عمل صالح و اليوم يوم الجزاء لا يوم الرجوع و العمل.

قوله تعالى: ( يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي ) أي لحياتي هذه و هي الحياة الآخرة أو المراد الحياة الحقيقيّة و هي الحياة الآخرة على ما نبّه تعالى عليه بقوله:( وَ ما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) العنكبوت: 64.

و المراد بالتقديم للحياة تقديم العمل الصالح للحياة الآخرة و ما في الآية تمنّ يتمنّاه الإنسان عند ما يتذكّر يوم القيامة و يشاهد أنّه لا ينفعه.

قوله تعالى: ( فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ وَ لا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ ) ضميراً عذابه

٤١٢

و وثاقه لله تعالى و المعنى فيومئذ لا يعذّب عذاب الله أحد من الخلق و لا يوثق وثاق الله أحد من الخلق أي إنّ عذابه و وثاقه تعالى يومئذ فوق عذاب الخلق و وثاقهم، تشديد في الوعيد.

و قرئ( لا يُعَذِّبُ ) بفتح الذال و( وَ لا يُوثِقُ ) بفتح الثاء بالبناء للمفعول و ضميراً عذابه و وثاقه على هذا للإنسان و المعنى لا يعذّب أحد يومئذ مثل عذاب الإنسان و لا يوثق أحد يومئذ مثل وثاقه.

قوله تعالى: ( يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ) الّذي يعطيه سياق المقابلة بين هذه النفس بما ذكر لها من الأوصاف و عيّن لها من حسن المنقلب و بين الإنسان المذكور قبل بما ذكر له من وصف التعلّق بالدنيا و الطغيان و الفساد و الكفران، و ما اُوعد من سوء المصير هو أنّ النفس المطمئنّة هي الّتي تسكن إلى ربّها و ترضى بما رضي به فترى نفسها عبداً لا يملك لنفسه شيئاً من خير أو شرّ أو نفع أو ضرّ و يرى الدنيا دار مجاز و ما يستقبله فيها من غنى أو فقر أو أيّ نفع و ضرّ ابتلاء و امتحاناً إلهيّاً فلا يدعوه تواتر النعم عليه إلى الطغيان و إكثار الفساد و العلوّ و الاستكبار، و لا يوقعه الفقر و الفقدان في الكفر و ترك الشكر بل هو في مستقرّ من العبوديّة لا ينحرف عن مستقيم صراطه بإفراط أو تفريط.

قوله تعالى: ( ارْجِعِي إِلى‏ رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً ) خطاب ظرفه جميع يوم القيامة من لدن إحيائها إلى استقرارها في الجنّة بل من حين نزول الموت إلى دخول جنّة الخلد و ليس خطاباً واقعاً بعد الحساب كما ذكره بعضهم.

و توصيفها بالراضية لأنّ اطمئنانها إلى ربّها يستلزم رضاها بما قدّر و قضى تكويناً أو حكم به تشريعاً فلا تسخطها سانحة و لا تزيغها معصية، و إذا رضي العبد من ربّه رضي الربّ منه إذ لا يسخطه تعالى إلّا خروج العبد من زيّ العبوديّة فإذا لزم طريق العبوديّة استوجب ذلك رضى ربّه و لذا عقّب قوله( راضِيَةً ) بقوله:( مَرْضِيَّةً ) .

قوله تعالى: ( فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَ ادْخُلِي جَنَّتِي ) تفريع على قوله:( ارْجِعِي

٤١٣

إِلى‏ رَبِّكِ ) و فيه دلالة على أنّ صاحب النفس المطمئنّة في زمرة عباد الله حائز مقام العبوديّة.

و ذلك أنّه لمّا اطمأنّ إلى ربّه انقطع عن دعوى الاستقلال و رضي بما هو الحقّ من ربّه فرأى ذاته و صفاته و أفعاله ملكاً طلقاً لربّه فلم يرد فيما قدّر و قضى و لا فيما أمر و نهي إلّا ما أراده ربّه، و هذا ظهور العبوديّة التامّة في العبد ففي قوله:( فَادْخُلِي فِي عِبادِي ) تقرير لمقام عبوديّتها.

و في قوله:( وَ ادْخُلِي جَنَّتِي ) تعيين لمستقرّها، و في إضافة الجنّة إلى ضمير التكلّم تشريف خاصّ، و لا يوجد في كلامه تعالى إضافة الجنّة إلى نفسه تعالى و تقدّس إلّا في هذه الآية.

( بحث روائي‏)

في المجمع: في قوله تعالى:( وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ ) ، و قيل: الشفع الخلق لأنّه قال:( وَ خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً ) و الوتر الله تعالى: عن عطيّة العوفيّ و أبي صالح و ابن عبّاس و مجاهد و هي رواية أبي سعيد الخدريّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و قيل: الشفع و الوتر الصلاة منها شفع و منها وتر: و هي رواية عن ابن حصين عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و قيل: الشفع يوم النحر و الوتر يوم عرفة: عن ابن عبّاس و عكرمة و الضحّاك، و هي رواية جابر عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الوجه فيه أنّ يوم النحر يشفّع بيوم نفر بعده و يتفرّد يوم عرفة بالموقف، و قيل: الشفع يوم التروية و الوتر يوم عرفة: و روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام .

أقول: الروايات الثلاث المشار إليها مرويّة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من طرق أهل السنّة و يمكن الجمع بينها بأنّ المراد مطلق الشفع و الوتر و الروايات من قبيل الإشارة إلى بعض المصاديق.

و في تفسير القمّيّ:( وَ لَيالٍ عَشْرٍ ) قال: عشر ذي الحجّة( وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ ) قال: الشفع ركعتان و الوتر ركعة، و في حديث: الشفع الحسن و الحسين و الوتر أمير

٤١٤

المؤمنينعليهم‌السلام ( وَ اللَّيْلِ إِذا يَسْرِ ) قال: هي ليلة جمع.

و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله:( لِذِي حِجْرٍ ) يقول: لذي عقل.

و في العلل، بإسناده إلى أبان الأحمر قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( وَ فِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ ) لأيّ شي‏ء سمّي ذا الأوتاد؟ فقال: لأنّه كان إذا عذّب رجلاً بسطه على الأرض على وجهه و مدّ يديه و رجليه فأوتدها بأربعة أوتاد في الأرض. و ربّما بسطه على خشب منبسط فوتّد رجليه و يديه بأربعة أوتاد ثمّ تركه على حاله حتّى يموت فسمّاه الله عزّوجلّ فرعون ذا الأوتاد.

و في المجمع: في قوله تعالى:( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ ) وروي عن عليّعليه‌السلام أنّه قال: إنّ معناه أنّ ربّك قادر أن يجزي أهل المعاصي جزاءهم.

أقول: بناء الرواية على أخذ الجملة استعارة تمثيليّة.

و فيه، عن الصادقعليه‌السلام أنّه قال: المرصاد قنطرة على الصراط لا يجوزها عبد بمظلمة عبد.

و عن الغوالي، عن الصادقعليه‌السلام في حديث في تفسير قوله تعالى:( وَ ذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ) إنّما ظنّ بمعنى استيقن أنّ الله تعالى لن يضيّق عليه رزقه أ لا تسمع قول الله تعالى:( وَ أَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ ) أي ضيّق عليه.

و في تفسير القمّيّ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله:( كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ) قال: هي الزلزلة.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن عليّ بن أبي طالب قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هل تدرون ما تفسير هذه الآية( كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ - إلى قوله -وَ جِي‏ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ) قال: إذا كان يوم القيامة تقاد جهنّم بسبعين ألف زمام بيد سبعين ألف ملك فتشرد شردة لو لا أنّ الله حبسها لأحرقت السماوات و الأرض.

أقول: و هو مرويّ أيضاً عن أبي سعيد و ابن مسعود و من طرق الشيعة في أمالي

٤١٥

الشيخ، بإسناده عن داود بن سليمان عن الرضا عن آبائه عن عليّعليه‌السلام عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في العيون، في باب ما جاء عن الرضا من أخبار التوحيد بإسناده عن عليّ بن فضال عن أبيه قال: سألت الرضاعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ) فقال: إنّ الله سبحانه لا يوصف بالمجي‏ء و الذهاب تعالى عن الانتقال إنّما يعني بذلك و جاء أمر ربّك.

و في الكافي، بإسناده عن سدير الصيرفيّ قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام : جعلت فداك يا ابن رسول الله هل يكره المؤمن على قبض روحه؟ قال: لا و الله إنّه إذا أتاه ملك الموت ليقبض روحه جزع عند ذلك فيقول ملك الموت: يا وليّ الله لا تجزع فوالّذي بعث محمّداً لأنّي أبرّ بك و أشفق عليك من والد رحيم لو حضرك، افتح عينيك فانظر.

قال: و يمثّل له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أميرالمؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسين و الأئمّة من ذرّيّتهمعليهم‌السلام فيقال له: هذا رسول الله و أميرالمؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسين و الأئمّةعليهم‌السلام رفقاؤك.

قال: فيفتح عينيه فينظر فينادي روحه مناد من قبل ربّ العزّة فيقول: يا أيّتها النفس المطمئنّة إلى محمّد و أهل بيته ارجعي إلى ربّك راضية بالولاية مرضيّة بالثواب فادخلي في عبادي يعني محمّداً و أهل بيته و ادخلي جنّتي فما من شي‏ء أحبّ إليه من استلال روحه و اللحوق بالمنادي.

أقول: و روى هذا المعنى القمّيّ في تفسيره و البرقيّ في المحاسن.

٤١٦

( سورة البلد مكّيّة و هي عشرون آية)

( سورة البلد الآيات 1 - 20)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ( 1 ) وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ( 2 ) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ( 3 ) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ( 4 ) أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ( 5 ) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا ( 6 ) أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ ( 7 ) أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ ( 8 ) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ ( 9 ) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ( 10 ) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ( 11 ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ( 12 ) فَكُّ رَقَبَةٍ ( 13 ) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ( 14 ) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ ( 15 ) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ( 16 ) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ ( 17 ) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ( 18 ) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ( 19 ) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ ( 20 )

( بيان‏)

تذكر السورة أنّ خلقة الإنسان مبنيّة على التعب و المشقّة فلا تجد شأناً من شؤن الحياة إلّا مقروناً بمرارة الكدّ و التعب من حين يلج في جثمانه الروح إلى أن يموت فلا راحة له عارية من التعب و المشقّة و لا سعادة له خالصة من الشقاء و المشأمة إلّا في الدار الآخرة عند الله.

فليتحمّل ثقل التكاليف الإلهيّة بالصبر على الطاعة و عن المعصية و ليجدّ في نشر الرحمة على المبتلين بنوائب الدهر كاليتم و الفقر و المرض و أضرابها حتّى يكون

٤١٧

من أصحاب الميمنة و إلّا فآخرته كاُولاه و هو من أصحاب المشأمة عليهم نار مؤصدة.

و سياق آيات السورة، يشبه السياق المكّيّ فيؤيّد به كون السورة مكّيّة و قد ادّعى بعضهم عليه الإجماع، و قيل: السورة مدنيّة و السياق لا يساعد عليه، و قيل: مدنيّة إلّا أربع آيات من أوّلها و سيأتي في البحث الروائيّ التالي إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ( لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ ) ذكروا أنّ المراد بهذا البلد مكّة و تؤيّده مكّيّة سياق السورة و قوله:( وَ والِدٍ وَ ما وَلَدَ ) خاصّة بناء على كون المراد بوالد هو إبراهيمعليه‌السلام على ما سيجي‏ء.

قوله تعالى: ( وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ ) حال من هذا البلد، و وضع الظاهر موضع الضمير في قوله:( بِهذَا الْبَلَدِ ) للدلالة على عظم شأنه و الاعتناء بأمره و هو البلد الحرام، و الحلّ مصدر كالحلول بمعنى الإقامة و الاستقرار في مكان و المصدر بمعنى الفاعل.

و المعنى اُقسم بهذا البلد و الحال أنك حالٌ به مقيم فيه و في ذلك تنبيه على تشرّف مكّة بحلولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها و كونها مولده و مقامه.

و قيل: الجملة معترضة بين القسم و المقسم به و المراد بالحلّ المستحلّ الّذي لا حرمة له قال في الكشاف: و اعترض بين القسم و المقسم عليه بقوله:( وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ ) يعني و من المكابدة أنّ مثلك على عظم حرمتك يستحلّ بهذا البلد الحرام كما يستحلّ الصيد في غير الحرم - عن شرحبيل - يحرّمون أن يقتلوا بها صيداً و يعضدوا(1) بها شجرة و يستحلّون إخراجك و قتلك، و فيه تثبيت من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بعث على‏ احتمال ما كان يكابد من أهل مكّة و تعجيب من حالهم في عداوته انتهى.

ثمّ قال: أو سلّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقسم ببلده أنّ الإنسان لا يخلو من مقاساة الشدائد و اعترض بأن وعده فتح مكّة تتميماً للتسلية و التنفيس عنه فقال:( وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ ) يعني و أنت حلّ به في المستقبل تصنع فيه ما تريد من القتل و الأسر إلى آخر ما قال، و محصّله تفسير الحلّ بمعنى المحلّ ضدّ المحرم، و المعنى و سنحلّ لك يوم فتح مكّة حيناً فنقاتل و تقتل فيه من شئت.

____________________

(1) عضد الشجرة: قطعها و نثر ورقها للإبل. و شرحبيل راوي الحديث.

٤١٨

قوله تعالى: ( وَ والِدٍ وَ ما وَلَدَ ) لزوم نوع من التناسب و الارتباط بين القسم و المقسم عليه يستدعي أن يكون المراد بوالد و ما ولد من بينه و بين البلد المقسم به نسبة ظاهرة و ينطبق على إبراهيم و ولده إسماعيلعليهما‌السلام و هما السببان الأصليّان لبناء بلدة مكّة و البانيان للبيت الحرام قال تعالى:( وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ ) البقرة: 127 و إبراهيمعليه‌السلام هو الّذي سأل الله أن يجعل مكّة بلداً آمنا قال تعالى:( وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً ) إبراهيم: 35. و تنكير( والِدٍ ) للتعظيم و التفخيم، و التعبير بقوله( وَ ما وَلَدَ ) دون أن يقال: و من ولد، للدلالة على التعجيب من أمره مدحاً كما في قوله:( وَ اللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ ) آل عمران: 36.

و المعنى و اُقسم بوالد عظيم الشأن هو إبراهيم و ما ولد من ولد عجيب أمره مبارك أثره و هو إسماعيل ابنه و هما البانيان لهذا البلد فمفاد الآيات الثلاث الإقسام بمكّة المشرّفة و بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذي هو حلّ فيها و بإبراهيم و إسماعيل اللّذين بنياها.

و قيل: المراد بالوالد إبراهيم و بما ولد جميع أولاده من العرب.

و فيه أنّ من البعيد أن يقارن الله سبحانه بين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و إبراهيمعليه‌السلام و بين أمثال أبي لهب و أبي جهل و غيرهم من أئمّة الكفر فيقسم بهم جميعاً في سياق، و قد تبرّأ إبراهيمعليه‌السلام ممّن لم يتّبعه من بنيه على التوحيد إذ قال فيما حكاه الله:( وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) إبراهيم: 36.

فعلى من يفسّر ما ولد بأولاد إبراهيم أن يخصّهم بالمسلمين من ذرّيّته كما في دعاء إبراهيم و إسماعيل عند بنائهما الكعبة على ما حكاه الله:( رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَ أَرِنا مَناسِكَنا وَ تُبْ عَلَيْنا ) البقرة: 128.

و قيل: المراد بوالد و ما ولد، آدمعليه‌السلام و ذرّيّته جميعاً بتقريب أنّ المقسم عليه بهذه الأقسام خلق الإنسان في كبد و قد سنّ الله في خلق هذا النوع و إبقاء وجوده سنّة الولادة فقد أقسم في هذه الآيات بمحصول هذه السنّة و هو الوالد و ما ولد على أنّ الإنسان في كدّ و تعب بحسب نوع خلقته من حين يحيى إلى حين يموت.

٤١٩

و هذا الوجه في نفسه لا بأس به لكن يبقى عليه بيان المناسبة بين بلدة مكّة و بين والد و كلّ مولود في الجمع بينهما في الأقسام.

و قيل: المراد بهما آدم و الصالحون من ذرّيّته، و كأنّ الوجه فيه تنزيهه تعالى من أن يقسم بأعدائه الطغاة و المفسدين من الكفّار و الفسّاق.

و قيل: المراد بهما كلّ والد و كلّ مولود و قيل: من يلد و من لا يلد منهم بأخذ( ما ) في( ما وَلَدَ ) نافية لا موصولة.

و قيل: المراد بوالد هو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بما ولد اُمّته لأنّه بمنزلة الأب لاُمّته و هي وجوه بعيدة.

قوله تعالى: ( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ ) الكبد الكدّ و التعب، و الجملة جواب القسم فاشتمال الكبد على خلق الإنسان و إحاطة الكدّ و التعب به في جميع شؤن حياته ممّا لا يخفى على ذي لبّ فليس يقصد نعمة من نعم الدنيا إلّا خالصة في طيبها محضة في هنائها و لا ينال شيئاً منها إلّا مشوبة بما ينغّص العيش مقرونة بمقاساة و مكابدة مضافاً إلى ما يصيبه من نوائب الدهر و يفاجئه من طوارق الحدثان.

قوله تعالى: ( أَ يَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ) بمنزلة النتيجة لحجّة الآية السابقة تقريرها أنّ الإنسان لمّا كانت خلقته مبنيّة على كبد مظروفة له لا ينال قطّ شيئاً ممّا يريد إلّا دون ما يريد أو غير ما يريد فهو محاط في خلقه مغلوب في إرادته مقهور فيما قدّر له من الأمر و الّذي يغلبه في إرادته و يقهره على التلبّس بما قدّر له و هو الله سبحانه يقدر عليه من كلّ جهة فله أن يتصرّف فيه بما شاء و يأخذه إذا أراد.

فليس للإنسان أن يحسب أن لن يقدر عليه أحد فيدعوه ذلك إلى أن يعلو على الله و يستكبر عن عبادته أو يعطيه في بعض ما أمر به كالإنفاق في سبيله فيستكثره و يمتنّ به على الله أو يمكر به تعالى بعد ما عمله رياء و سمعة عملاً لوجه الكريم فيقول: أهلكت مالاً لبدا.

قوله تعالى: ( يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً ) اللبد الكثير، سياق الآية و ما يتلوها من الآيات إلى آخر السورة مشعر بأنه كان هناك بعض من أظهر الإسلام أو مال إليه

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578