شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم10%

شبهات وردود حول القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 578

شبهات وردود حول القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 578 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 297565 / تحميل: 13676
الحجم الحجم الحجم
شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

(سيمون) السيرناي تماماً ثم أخفى نفسَه، ومنهم: (السرنتيون) فإنّهم قرّروا أنّ أحدَ الحواريّين صُلِب بدلَ المسيح، وقد عُثِر على فصلٍ من كلام الحواريّين، وإذا كلامه كلام (الباسيليديّين) قد صرّح إنجيل القدّيس (برنابا) باسم الذي صُلِب بدلَ عيسى أنّه (يهوذا).

٢ - وقال (الهرارنست دي بونس) الألماني في كتابهِ (الإسلام أي النصرانيّة الحقّة) في ص١٤٣ ما معناه: إنّ جميعَ ما يختصّ بمسائل الصَلب والفِداء هو من مبتكرات ومخترعات (بولس ومَن شابَهَه مِن الذين لمْ يروا المسيح، وليس من أُصول النصرانيّة الأصيلة.

٣ - قال (ملمن) في الجزء الأَوّل من كتابهِ (تأريخ الديانة النصرانيّة): إنّ تنفيذ الحكم كان في وقتِ الغَلَس وإسدالِ ثوب الظَلام، فسَيَنتُج من ذلك إمكان استبدال المسيح بأحد المجرمين الذين كانوا في سجون القُدُس منتظرين تنفيذ حكم القتل عليهم، كما اعتقد بعض الطوائف المسيحيّة، وصدّقهم القرآن (١) .

* * *

وللشيخ مُحمّد عَبدَه أيضاً بحثٌ مذيّل حولَ مسألةِ الصَلب والفِداء، وأنّها عقيدة وثنيّة، ورِثَتها المسيحيّة من الهنود. ويتعرّض لشبهاتٍ أثارها المسيحيّون بشأنِ إنكار الصَلب. وكانت الشبهة الثانيّة: أنّ قصةَ الصَلب متواترةٌ متّفقٌ عليها بين طوائفِ النصارى.

لكنّها شبهةٌ إنّما تَعبِرُ على مَن يجهل تأريخ المسيحيّة، أمّا مَن يطّلع على تأريخهم فالإجابة على هذه الشُبهة يسيرة عليه؛ حيث هناك فِرَقٌ منهم أنكروا الصَلب، كفرقةِ (السيرنشيّين) و(التاتيانوسيين ّ) أتباع (تاتيانوس) تلميذ (يوستينوس) الشهير، وقال (فوتيوس) أنّه قرأ كتاباً يُسمّى (رحلة الرُسُل) فيه أخبار (بطرس) و(يوحنّا) و(اندراوس) و(توما) و(بولس). وممّا قَرأَهُ فيه: (أنّ المسيح لم يُصلب، ولكن صُلِب غيرُه، وقد ضِحك بذلك مِن صالبيه). وأنّ مجامع المسيحيّين حينذاك قد حرَّمَتْ قراءةَ

____________________

(١) راجع: الفارق بين الخالق والمخلوق، ص ٢٨١ - ٢٨٢، وقصص الأنبياء للنجّار، ص٤٤٧ - ٤٤٩.

١٠١

أمثال هذه الكُتُب التي تخالف الأناجيلَ الأربعة والرسائلَ التي اعتَمَدتْها الكنيسة، فجعلوا يُحرِقون تلك الكُتُب ويُتلِفونها... وقد سَلَمت بعضُ تلك الكُتُب كإنجيل برنابا، وهو يُنكِر الصَلب (١) .

وسنذكر أنّ جماعةً اعتقدوا تَظاهرَ المسيح بالموت، في تواطؤ مع أحد تلاميذه يوسف وساعده الوالي بيلاطس بتحريضٍ من امرأته، حذّرته أنْ يُمسَّ الرجل البارّ بسوءٍ (٢) .

* * *

إذن، ليس الأمرُ كما زَعَمَه النصارى أنّ المسيح قد صُلِب وقُتِل يقيناً، بل الأمرُ كان مشكوكاً لديهم، مُنذ بداية الأمر وإنْ اتفقوا بعد ذلك على عقيدة الصَلب والفِداء، وهي بدعة ورِثوها من عبدةِ الأوثان.

ومِن ثَمّ، فالحقّ ما صرّح به القرآن الكريم الذي ( لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) ، (٣) قال تعالى: ( وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ) (٤) .

مسألة التوفّي

قد عرفتَ تصريحَ القرآن الكريم بأنّ الأمر قد شُبِّهَ لهُم، وما قَتلوه وما صَلبوه، بل رَفَعه اللّهُ إليه.

وكان القوم من أَوّلِ أَمرِهم على شكٍّ من ذلك، وكان هناك أقوامٌ أنكروا وقوعَ القتل على شخصِ المسيح، وكان اختلاف الأناجيل الأربعة في سَردِ القضيّة تأييد لهذا الشكّ والترديد.

____________________

(١) تفسير المنار، ج٦، ص٣٤ - ٣٥.

(٢) قصص الأنبياء للنجّار، ص٤٢٩.

(٣) فصّلت ٤١: ٤٢.

(٤) النساء ٤: ١٥٧ - ١٥٨.

١٠٢

غير أنّ هنا سؤالاً: هل المسيح رُفِع بِرُوحه وجَسدِه إلى السماء وهو حيٌّ يُرزق حتّى يرجع إلى الأرض في آخر الزمان كما في كثير من رواياتٍ إسلاميّة؟ أم رُفع برُوحه دون جَسدِه وأنّ اللّه توفّاه أي أَماتَهُ وقبضَ روحَهُ؟

يقول البعض من علماء الغرب: ليس في القرآن نصٌّ على بقاء المسيح حيّاً يُرزق في السماء، بل التصريح بمُوته، وأنّ اللّه توفّاه: (١)

( إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) (٢) .

وهذا يدلّ على أنّه تعالى أَماتَه ثم رُفِع بروحه إلى السماء...

وهكذا قوله: ( فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ) (٣) .

ولكنّ التوفية: أَخْذُ الشيء أخذاً مستوفياً، أي بكمالِه وتمامِه، ومنه: وفاء الدَّيَن، وليس دليلاً على الموت صِرْفاً، ( اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ) ، (٤) ( وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ) (٥) .

على أنّ الأناجيل متّفقةٌ على أنّ المسيح (عليه السلام) قامَ مِن القبرِ وذهبَ إلى حيث لم يرَه أحد غير تلاميذه، وافتقدوا جسده فلم يجدوه؛ فلعلّه لمْ يَمُتْ حين الصَلب وإنّما ذهب وعيُه، ثُمّ رجع إليه بعد وضعِهِ في القبرِ، حيث لم يُهيلوا عليه التراب - حسبما نصّت عليه الأناجيل - وإنّما وُضِع على القبرِ حجرٌ فوجدوا الحجرَ مُدَحرجاً عن القبرِ.

وجاء في إنجيل (متّى): إنّ مَلاك الربِّ نزلَ من السماءِ وجاء ودَحْرَج الحجر عن الباب، وقال للمرأتَين اللتين جاءتا لتَنظرا القبرَ: لا تَخافا، إنّي أعلمـُ أنّكما تَطلبانِ يسوع المـَصلوب، ليس هو هاهنا؛ لأنّه قام كما قال هلُمّا انظرا الموضعَ الذي كان الربُّ مضطَجِعاً فيه، واذهبا سريعاً وقولا لتلاميذه: إنّه قام من الأَموات، ها هو يَسبِقُكم إلى الجليل، هناك ترونه.

فخَرَجتا سَريعاً مِن القبرِ بخوفٍ وفرحٍ عظيم راكِضَتَين؛ لتُخبِرا تلاميذه، فيما هما

____________________

(١) عيسى والقرآن، ص ٢٠٧، ترجمة وتحقيق الأُستاذ محسن بينا.

(٢) آل عمران ٣: ٥٥.

(٣) المائدة ٥: ١١٧.

(٤) الزمر ٣٩: ٤٢.

(٥) الأنعام ٦: ٦٠.

١٠٣

مُنطَلِقتانِ إذا يسوع قال لهما: سلامٌ لكما، فَتَقدَّمتا وأَمسَكَتا بِقَدَميّه وسَجَدَتا له، فقال لهما يسوع: لا تخافا، اذهَبا قُولا لإخوتي أنْ يَذهبوا إلى الجليل وهناك يرَونَني.

وأمّا التلاميذ فانطَلقوا إلى الجليلِ حيثُ أَمرهم يسوع، ولمـّا رَأَوه سجدوا له ولكنْ بعضُهم شَكّوا، فتقدّمَ يسوع وكلّمهم قائلاً: دُفِع إليّ كلَّ سلطانٍ في السماء وعلى الأرض، فاذهبوا وتلمـّذوا جميعَ الأُمّم. وعلِّمُوهم أنْ يَحفظوا جميعَ ما أَوصيتُكم به، وها أنا معكم كلّ الأيّام إلى انقضاء الدهر، آمين (١) .

وفي إنجيل لوقا: إنّهنّ (٢) دَخَلْنَ القبرَ ولم يَجِدْنَ جسدَ يسوع، وفيما هُنّ مُتحيّرات إذ وقف بِهنّ رَجُلانِ بثيابٍ برّاقةٍ، وقالا لهُنّ: لماذا تَطلُبَنَّ الحيَّ بين الأموات، وإنّه في الجليل.

وإنّ التلاميذ لمـّا وجدوا المسيح نفسَه في وسطهم هناك وقال لهم سلامٌ لكم فجَزعوا وخافوا وظَنّوا أنّهم نظروا روحاً فقال لهم: ما بالَكم مُضطَرِبِينَ؟ انظروا يديَّ ورجليَّ إنّي أنا هو، جسّوني فإنّ الروحَ ليس له لحمٌ وعظام كما تَرَون لي، فطلب منهم طعاماً،فَنَاوَلوه جزءً مِن سمكٍ مشويٍّ وشيئاً مِن شَهْدِ عسلٍ، فأخذ وأكلَ قُدّامهم، ثُمّ أَوصاهم بوصايا، ثمّ رفع يديه إلى السماء وبارَكَهم، وفيما هو يُبارِكُهم انفرد عنهم واُصعِد إلى السماء (٣) .

وقريبٌ مِن ذلك جاء في إنجيل يوحنّا (٤) .

وفي إنجيل (مرقس): ثُمّ أنّ الربّ بعد ما كلَّمَهم ارتفعَ إلى السماء وجلسَ عن يمينِ اللّه... (٥)

ومِن هنا يعتقد البعضُ أنّ قوله تعالى: ( وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ) (٦) بمعنى أنّ صَلبَه لم يؤدِّ إلى قتلِه، ولكن شُبِّه لهم أنّه قُتِل على خَشَبة الصَلب، ولم يكونوا على يقينٍ مِن أنّه ماتَ حقيقةً وذلك معنى ( وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً ) (٧) .

____________________

(١) إنجيل متّى، إصحاح ٢٨ / ١ - ٢٠.

(٢) ذكر مرقس ولوقا: أنّ ثلاث من النساء ذهبنَ ليُفتّشن عنِ القبرِ.

(٣) إنجيل لوقا، إصحاح ٢٤ / ١ - ٥٣.

(٤) إنجيل يوحنّا، إصحاح ٢٠ و٢١.

(٥) إنجيل مرقس، إصحاح ١٦/١٩.

(٦) النساء ٤: ١٥٧.

(٧) النساء ٤: ١٥٧.

١٠٤

وذلك أنّ (بيلاطس) كان يَعتقد براءةَ المسيح مِن كلّ ما يَرميه به اليهود، كما أنّ امرأته أيضاً كانتْ عاطِفَةً على يسوع، مهتمّةً بأمره، حريصةً على أنّه لا يُمَسّ بِسُوء، وقد أوصت زوجها بذلك...

ففي إنجيل متّى: وإذ كان جالساً على كرسيّ الولاية، أرسلت إليه امرأته قائلةً: إيّاك وذلكَ البارّ؛ لأنّي اليوم تألّمتُ كثيراً في حُلُمٍ مِن أجلِه (١) .

ومِن ثَمّ نرى أنّ المسيح لم يَمكُث على خَشَبة الصَلب طويلاً، ولمْ تُكسَر رجلاه كما كُسِرت رِجلا المـَصلوبَينِ الآخَرَينِ، بل جاء يوسف - وهو أحد تلاميذ المسيح - وتسلّم الجسد، وتعجّبوا مِن موتِه سريعاً، فلفّه في كفنٍ ووَضَعَه في قبرٍ له كان هناك.

ولا سبب لذلك إلاّ العناية الخاصّة التي كانت تحوط المسيح من ناحية الوالي بيلاطس وزوجه ويوسف ونيقوديموس...

فلهذه الاعتبارات جَعلوا يقولون: إنّ المسيح تَظاهَرَ بالموتِ وحَسِبَه الناسُ ميّتأً، ولم يكنْ قد مات، والذي تولّى إنزالَه رجلٌ من تلاميذه في الحقيقة، وكان ذلك التَظاهر بإيحاءٍ منه وساعَدَه الوالي على ذلك بأنْ سُلِّم له في إنزالِه عن الخَشَبة، واليهود في غفلةٍ عمّا بينه وبين المسيح من العلاقة، ولفّه في كفنٍ ووضعه في القبر وأجافَ على الباب حجراً (٢) .

* * *

هذا، ولم يُصرِّح القرآن بنوعية الشُبهة، وقِصّة إلقاء الشَبَه على (يهوذا الأسخر يوطى). جاءت في إنجيل برنابا وبعض المصادر النصرانيّة ؛ ولعلّه الأصلُ في شيوع ذلك بين مفسّري العامّة، وعمدتُهم: وهب بن منبّه (٤) الذي اشتهر بِكَثرَةِ النقل عن أهل الكتاب (٣) ولا سيّما نصارى نجران (٥) ولم يُؤثَر عن أئمّةِ أهل البيت (عليهم السلام) شيء من ذلك في تفاسيرنا القديمة المعتمدة (٦) سِوى ما جاء في التفسير المنسوب إلى عليّ بن إبراهيم

____________________

(١) إنجيل متّى، إصحاح ٢٧/١٩.

(٢) راجع: قصص الأنبياء للنجّار، ص ٤٢٨ - ٤٢٩.

(٣) المصدر: ص٤٤٨ - ٤٤٩.

(٤) راجع: جامع البيان، ج٦، ص١٠ - ١٢، ومجمع البيان، ج٣، ص١٣٦.

(٥) راجع: الإسرائيليّات والموضوعات لأبي شُهبة، ص١٠٥، ومعجم البلدان، ج٥، ص٢٦٧.

(٦) راجع: تفسير العيّاشي، ج١، ص١٧٥ و٢٨٣، وتفسير التبيان، ج٢، ص٤٧٨ وج٣، ومجمع البيان، ج٢، ص٤٤٩ وج٣، ص١٣٥، وتفسير أبو الفتح الرازي، ج٣، ص٥٥ وج٤، ص٦١.

١٠٥

القمي (١) ولم يَثبُت انتسابُ هذا التفسير إلى عليّ بن إبراهيم، وإنّما هو من صُنْع أحد تلامذته المجهولين (٢) ، ومِنْ ثَمّ لا يُعتَمد بما تفرّد به هذا التفسير ما لمْ يدعَمْه شواهد تُوجب الاطمئنان.

والمهمّ: أنّ الأناجيل وإنْ ذَكَرَتْ قصّة الصَلب لكن ليس فيها تصريح بموت المسيح بذلك. وقد عرفتَ عبارة (لوقا): (لماذا تَطلُبَنّ الحيَّ بين الأموات) (٣) الأمر الذي يلتئم واشتباه اليهود في زَعمِهم أنّهم قتلوا المسيح بالصَّلب.

والقرآن مصرّح بأنّ الأمر قد اشتبه عليهم ( وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ... وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً ) (٤) .

وأيضاً فإنّ الأناجيل متّفقة على أنّ المسيح رُفع بجسمه ورُوحِه، وهذا هو ظاهر تعبير القرآن الكريم أيضاً: ( بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ... ) .

ومِن ثَمّ لم يُعهَد للمسيح (عليه السلام) قبرٌ لا عند المسيحيّين ولا عند غيرهم.

نعم زَعَمَ (غلام أحمد القادياني) أنّ المسيح أنجاهُ اللّه مِن كيد اليهود، فذهب إلى بلاد الهند، واستقرّ في بلاد كشمير - شمال الهند - بِسَفحِ الجبلِ (جبال هملايا) وأقام هناك إلى أن وافاه أجله، ودُفن في تلك البلاد قُرب بلدة (سرنجار) وقبره معروف هناك.

قال الأُستاذ النجّار: كنت مسافراً في رحلةٍ إلى (اسطنبول) في سنة ١٩٢٤م وكان في السفينة الأُستاذ الشيخ أبو الوفاء الشرقاوي، فسألته: هل سمع حين كان في (سرنجار) بكشمير عن قبرٍ بقربِها يقال له: قبر النبيّ الأمير - حسب تعبير القادياني - يعني المسيح؟ فقال: نعم، سمعتُ بذلك وأنّه في الصحراء.

والقادياني في زَعمه هذا حاولَ إثبات كونه هو المسيح الموعود بمجيئه في آخر الزمان، ولكن كيف يكون هو المسيح وهو معروف النَسب بين قومه؟! فذهب إلى تأويل الأمر على أنّ المسيح مات ولا يمكن أن يعود بشخصه، ولكنّه يعود في شخصيةٍ أُخرى.

____________________

(١) تفسير القمي، ج١، ص١٠٣.

(٢) راجع: صيانة القرآن من التحريف، ص٢٢٩، طبع ١٤١٨.

(٣) إنجيل لوقا، إصحاح ٢٤/٥.

(٤) النساء ٤: ١٥٧.

١٠٦

فقال: إنّي أنا هو المسيح. آتٍ بِهديهِ وتعاليمهِ مِن بثّ السلام والرحمة والتعاطف والمحبّة... وله كلام طويل في كتبه ومجلّته التي كان يُصدرها في حياته، ولا يزال جماعته في نشاط من التبشير بمسيحيّته... والدولة الإنكليزيّة - في وقته - كانت تؤيّدُهم؛ لأنّهم كانوا يقولون أنّ مسيحهم أبطلَ الجهاد، وكان مُغرماً بالكافر المـُستعمِر، ويمدح حكمهم في البلاد ويراه نعمةً على أهل الهند (١) .

بقي الكلام حول قوله تعالى: ( وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ) (٢) إلى مَ يعود الضمير من قوله (قبل موته)؟ فيه قولان:

أحدهما: أنّه يعود إلى المسيح، ويكون دليلاً على أنّه (عليه السلام) لم يَمت، وتضافرت الروايات بأنّه ينزل في آخر الزمان ليكون مؤيِّداً للمهديّ المنتظر عجّل اللّه تعالى فرجه الشريف، فهناك يبدو الحقّ وتتجلّى الحقيقة لدى أبناء كلّ مِن اليهود والنصارى، أمّا اليهود فيبدو لهم خطأهم في إنكار نبوّته، وأمّا النصارى ففي زَعمهم أنّه إله.

قال عليّ بن إبراهيم القمي: حدّثني أبي عن القاسم بن مُحمّد عن سليمان بن داوود المنقري عن أبي حمزة عن شهر بن حوشب، قال: قال لي الحجّاج: إنّ آية في كتاب اللّه قد أعيتني! قلتُ: أيّة آية هي؟ قال: قوله تعالى: ( وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ) وإنّي لآمر باليهودي والنصراني فيُضرب عنقُه، ثم أرمقُه بعيني فما أراه يحرّك شَفتيه حتّى يخمد! فقلتُ: ليس على ما تأوّلتَ، قال: كيف هو؟ قلت: إنّ عيسى يَنزل قبل يوم القيامة إلى الدنيا، فلا يبقى أهلُ ملّةٍ يهودي ولا نصراني إلاّ آمن به قبل موته، ويصلّي خلف المهديّ، قال: ويحك أنّى لكَ هذا؟ ومن أين جئتَ به؟ فقلت: حدّثني به مُحمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب (عليهم السلام) فقال: جئتَ بها واللّه من عينٍ صافية (٣) .

وأخرج ابن المنذر عن شهر بن حوشب مثَلَه، فقال الحجّاج: من أين أخذتها؟ فقلتُ: مِن مُحمّد بن عليّ قال: لقد أخذتَها مِن معدنها. وفي رواية أُخرى: يعنى

____________________

(١) راجع: قصص الأنبياء للنجّار، ص٤٢٧.

(٢) النساء ٤: ١٥٩.

(٣) تفسير القمي، ج١، ص١٥٨.

١٠٧

ابن الحنفيّة (١) .

وأَخرجه كبارُ المفسّرين، قال الشيخ أبو جعفر الطوسي: ذهب إلى هذا القول ابن عبّاس وأبو مالك والحسن وقُتادة وابن زيد، واختاره الطبري، قال: والآية خاصّة لمـَن يكون في ذلك الزمان (٢) وهو الذي ذكره عليّ بن إبراهيم في تفسير أصحابنا. وذكر الحديث عن شهر بن حوشب عن محمّد بن عليّ ابن الحنفيّة، وذكر البلخي مثل ذلك.

قال: وضَعَّف هذا الوجه الزجّاج وقال: الذين يَبقون إلى زمنِ نزول عيسى من أهل الكتاب قليل، والآية تقتضي عموم إيمان أهل الكتاب أجمع (٣) .

وهكذا الطبرسي في مجمع البيان (٤) .

وذكر الإمام الرازي حديث شهر بن حوشب، قال: فاستوى الحجّاج جالساً - حين ذكرتُ له ذلك - وقال: عمّن نقلتَ هذا؟ فقلتُ: حدّثني به مُحمّد به عليّ ابن الحفنيّة. فأخذ ينكتُ في الأرض بقضيب، ثم قال: لقد أخذتَها من عينٍ صافيةٍ (٥) .

والقول الثاني: أنْ يعود الضمير إلى الكتابي، ومعناه: لا يكون أحد من أهل الكتاب حين يخرج مِن الدنيا عند الموت إلاّ ويؤمن بالمسيح، وذلك عند زوال التكليف ومعاينة الموت؛ حيث الحقيقة تنكشف لدى حضور الموت.

قال الطبرسي: وذهب إليه ابن عبّاس في روايةٍ أُخرى ومجاهد والضحّاك وابن سيرين وجويبر، قال: ولو ضربتُ رقبته لم تخرج نفسه حتّى يؤمن (٦) .

قال الشيخ مُحمّد عبده: ( قَبْلَ مَوْتِهِ ) أي قبل موت ذلك الأحد، الذي هو نكرة في سياق النفي فيفيد العموم، وحاصل المعنى: أنّ كلّ أحدٍ من أهل الكتاب عندما يُدرِكُه الموت ينكشف له الحقّ في أمر عيسى وغيره مِن أمر الإيمان فيؤمن بعيسى إيماناً صحيحاً، فاليهودي يعلم أنّه رسولٌ صادق غير دعيّ ولا كذّاب. والنصراني يعلم أنّه عبد اللّه ورسوله فلا هو إله ولا ابن اللّه.

____________________

(١) الدرّ المنثور، ج٢، ص٧٣٤.

(٢) راجع: جامع البيان، ج٦، ص١٦.

(٣) تفسير التبيان، ج٣، ص٣٨٦.

(٤) مجمع البيان، ج٣، ص١٣٧.

(٥) التفسير الكبير، ج١١، ص١٠٤.

(٦) مجمع البيان، ج٣، ص١٣٧.

١٠٨

ورجّح هذا المعنى على المعنى الأَوّل باحتياج ذلك إلى تأويلِ النفي العامّ هنا بتخصيصه بمَن يكون منهم حيّاً عند نزول عيسى، قال: والمـُتبادر من الآية هو المعنى الذي أختاره، وهذا التخصيص لا دليل عليه، وهو مبنيّ على شيءٍ لا نصّ عليه في القرآن حتّى يكون قرينةً له.

قال: والأخبار التي وردت فيه لم ترد مفسِّرةً للآية، أمّا المعنى المـُختار الذي هو الظاهر المـُتبادر من النَظم البليغ فيؤيِّده ما ورد من اطّلاع الناس قبل موتهم على منازلهم في الآخرة، قال: وممّا يؤيِّد هذه الحقيقة النصّ في سورة يونس على تصريح فرعون بالإيمان حين أدركه الغرق (١) .

غير أنّ سياق الآية يُرجّح القولَ الأَوّل؛ حيث وقع هذا التعبير عقيب ردِّ مزعومةِ اليهود: أنّهم صلبوه وقتلوه، بل شُبِّه لهم الأمر وما قتلوه يقيناً، فمعناه: أنّه لم يُقتل ولم يَمُت وأنّه حيٌّ يرزق، وما مِن أحدٍ من أبناء اليهود والنصارى ليؤمنَنَّ به إيماناً بنبوّته الصادقة قبل أن يموت المسيح، فالكلام هنا كلام عن موت المسيح، وأنّه مات بالصَلب وقُتل أم لا، فالآية تَنكر ذلك، وتنصّ على أنّه لم يَمُت، فكان قوله تعالى إشارةً إلى موت المسيح (عليه السلام).

ولسيّدنا العلاّمة الطباطبائي (قدس سرّه) هنا نظرة دقيقة في دلالة سياق الآية على عود الضمير في ( قَبْلَ مَوْتِهِ ) إلى المسيح؛ وذلك حيث قوله تعالى - عقيب ذلك -: ( وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ) . فإنّه يدلّ على أنّه (عليه السلام) يشهد يوم القيامة بشأن مَن آمن به في حياته قبل موته، أمّا فترة التوفّي ورَفعه إلى السماء فكان الشاهد عليهم هو اللّه سبحانه، كما جاءت في سورة المائدة: ١١٧ (٢) .

وأمّا مسألة تخصيص العموم فليس من التخصيص حقيقة، وإنّما هو من باب التسامح والتوسعة في التعبير، فخوطب الآباء بما يفعله الأبناء، كما عوتب الأبناء بما فعله الآباء في كثير من مواضع القرآن.

____________________

(١) تفسير المنار، ج٦، ص٢١ - ٢٢.

(٢) راجع: تفسير الميزان، ج٥، ص١٤٢.

١٠٩

الباب الثاني

القرآن وثقافات عصره!

هل تاثّر القرآن بثقافات كانت ساطية على البيئة العربيّة آنذاك؟

القرآن جاء ليؤثّر ويظهر على الأعراف كلّها لا ليتأثّر ويخضع لرغبات الطواغيت!

( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ )

١١٠

التأثّر بالبيئة!

هل تأثّر القرآن بثقافات عصره؟

جاء القرآن ليؤثِّر ويكافح عادات جاهليّة بائدة لا ليتأثَّر ويخضع لأعرافٍ كانت جافية إلى حدٍّ بعيد ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) (١) ، ومَن أمعن النظر في تعاليم القرآن الرشيدة - يَجدها بحقٍّ نابيةً عن التشابه لأعرافٍ كانت نائيةً، فكيف بالتأثّر بها؟!.

ولكن هناك مَن زعم أنّ في القرآن كثيراً من تعابير تُوائِم أعراف العرب يومذاك ممّا ينبو عنها أعرافٌ متحضّرة اليوم، وأخذوا مِن وصفِ نعيم الآخرة والحُور والقصور ممّا يلتئم وعِيشَة العرب القاحلة حينذاك، شاهداً على ذلك، وكذا الإشارة إلى أُمورٍ خُرافَةٍ كانت تعتنقها العرب ولا واقع لها اليوم دليل آخر، والعُمدة أنّ التكلّم بلسانِ قومٍ لَيستدعي الاعتراف بما تحمله الكلمات من معاني عندهم لاحَظُوها عند الوضع فلابدّ أنّها مَلحوظةٌ أيضاً لدى الاستعمال.

هكذا زعم القوم ولكنّه وهمٌ توهّموه محضاً، وإليك التفصيل.

ولنُمّهد قبل ذلك مقدّمات تَنفعنا في صميم البحث:

____________________

(١) تكرّر هذا المقطع من الآية في القرآن ثلاث مرّات (التوبة ٩: ٣٣، الفتح ٤٨، ٢٨، الصفّ ٦١: ٩) دليلاً على التأكيد البالغ.

١١١

١ - مُجاراة في الاستعمال

هل كان التكلّم بلسان قومٍ يستدعي الاعتراف بما تحمله لغتهم من ثقافات؟ أم كان لا يعدو سِوى المجاراة معهم في الاستعمال؟

الثاني هو الصحيح الواقع؛ ذلك أنّ المحاورة لأجل التفاهم في أيّ لغةٍ لا يستدعي سِوى العلم بمعاني الكَلِم الإفراديّة والجُمليّة في الاستعمال الدارج فعليّاً لدى القوم، فكان ينبغي المـُماشاة معهم ومُجاراتهم في تبادل المفاهيم حسبما يتعاهدونه الآن، من غير نظرٍ إلى أصل الوضع والدواعي التي دعت إلى وضع كلّ لفظةٍ لمعنىً خاصّ، فإنّ هذه الدواعي كانت ملحوظةً لدى الوضع ولا تُلحظ حين الاستعمال، وربّما كان مستعملو اللفظة في ذُهولٍ عن الأسباب الداعية للأوضاع الخاصّة الأَوّليّة.

خُذ مثلاً لفظة (المجنون) وُضِعت للمـُصاب بداء توتّر الأعصاب، وكان السبب الداعي لهذا الوضع في حينه اعتقاد أنّه أُصيب بِمَساسِ الجنّ؛ ومِن ثَمّ كانوا في العهد القديم يعالجون المصابين بهذا الداء بالرُّقَى والتعاويذ لغرض إبعاد الجنّ عنهم فيما زعموا، واليوم أصبحت هذه العقيدة خُرافة، غير أنّ أبناء اللغة لا يزالون يتداولون اللفظة لغرض التفاهم مع بعضهم، حيث اللفظة أصبحت مجرّد علامة للدلالة على هذا المعنى بمفهومه الجديد لا الخُرافة البائدة، وإن كانت هي السبب للوضع في وقته، غير أنّه غير ملحوظ بل مرفوض في الاستعمال حاليّاً.

والصحراء القاحلة سمّيت (مَفازَة) تفاؤلاً، وتَتَداولُ التسمية من غير أنْ تُلحظ فيها ذاك التفاؤل الملحوظ عند الوضع، أو مَن سَمّى ابنه جميلاً لِما يرى عليه مسحةَ جمالٍ، وغيره ممّن يستعمل اللفظة إنّما يستعملها لأنّها عَلَمٌ عليه رُغم عدم لحاظ جمالٍ فيه، أو كان يرى العكس؛ ذلك لأنّ التسمية تحقّقت وأصبح الاسم عَلَماً له من غير أنْ يُحمل مفهومه المـَلحوظ عند التسمية.

وعليه، فالاستعمالات الدارجة تابعة لمداليلِ الألفاظ كعلائمٍ على المعاني محضاً، ولا تُلحظ الدواعي والمناسبة الأَوّليّة التي لاحظها الواضع حين الوضع.

١١٢

فلنفرض أنّ لفظة (الخُلُق) إنّما وُضِعت للصفات والمـَلَكات النفسيّة؛ لِما كانت جاهليّة العرب تعتقد أنّ للصفات النفسيّة مَنشَأً في الخَليقة الأُولى، والإنسان مجبول عليها ومسيَّرٌ في حياته وِفق ما فُطِر عليه، تلك عقيدة جاهليّة بادت ولكنّ التسمية دامت، والمستعملون اليوم لا يريدون هذا المعنى قطعيّاً، وهكذا فيما جاء استعماله في القرآن، فإنّها مُجاراة في الاستعمال وليس اعترافاً بما تحمله اللفظة من مفهومها الأَوّلي البائد.

٢ - خطاب القرآن عامّ

القرآن وإنْ كان واجه العرب في وقته لكنّه خاطب النّاس عامّة عِبر الأجيال، فقد واجه العرب وخاطبهم بلسانهم وعلى أساليب كلامهم المعهودة لديهم وذلك لغرض التفاهم معهم حينذاك ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ) (١) لكن هذا لا يعني الاختصاص بعد أن كانت الرسالة عامّة والخطابات شاملة.

جاءت في القرآن تعابير قد يبدو من ظاهرها الاختصاص لكنْ في طيّها مفاهيم عامّة تشمل جميع الناس في جميع الأزمان، الأمر الذي جعل من القرآن دستوراً عامّاً لكافّة الأُمَم وفي كلّ الأدوار، وكذا الأمثال والحِكم الواردة في القرآن لا تَتَركّز على ذهنيّات العرب خاصّة وإنّما على ذهنيّات يتعاهدها جميع الأُمَم عِبر الأيّام، حتّى في مثل (الإبل) جُعِلت عِبرةً لا للعرب خاصّة وإنّما هي للعموم بعد أن كانت منبثّةً على وجه الأرض يَعرف عجائبها كلُّ الناس.

وهكذا جاءت أوصاف نعيم الآخرة وشديد عقوباتها على معايير يتعاهدها الجميع وليس عند العرب خاصّة، حسبما نبيّن.

قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله): (ما من آيةٍ في القرآن إلاّ ولها ظهرٌ وبطن). سُئل الإمام الباقر(عليه السلام) عن ذلك، فقال: (ظَهرَهُ تنزيلُه وبطنُه تأويلُه) (٢) . وعنى بالتنزيل: ظاهر الآية؛ حيث

____________________

(١) إبراهيم ١٤: ٤.

(٢) تفيسر العيّاشي، ج١، ص١١.

١١٣

نزلتْ بشأنٍ خاصّ، وبالتأويل: المفهوم العامّ المـُنتَزع مِن الآية وهو شامل يجاري الأيّام والليالي أبداً.

وأضاف (عليه السلام): أنّ العِبرة بهذا المفهوم العامّ الذي ضَمن خلود القرآن، وإلاّ فلو كانت العِبرة بظاهر التعبير الخاصّ إذن لكان القرآن قيدَ التأريخ في حَقلِه القصير، وذهب بهلاك تلكُم الأقوام!

وسنفصّل الكلام عن ذلك في مجالات متناسبة.

٣ - حقيقة لا تخييل

ما يأتي به القرآن من عِبَر وضَرْب الأمثال فإنّها جميعاً حكايةٌ عن أمرٍ واقع، إمّا حقيقة ثابتة في الأعيان، أو تصوير لحالةٍ راسخةٍ في القلوب، وهكذا فيما أَخبر عن عالَمٍ وراءَ عالَم الشهود، ليست تصوّرات وهميّة وإنّما هي حقائق راهنة في أصقاعها المتناسبة.

فعِبَرُ التأريخ يتمثّل بها القرآن لها واقعيّة يأخذها القرآن عِبْرَةً - وإلاّ فلا عِبْرَة بالأوهام! وكذلك الصوَر التخييليّة لحالاتٍ وهواجس نفسيّة - يَضرب بها الأمثال، لها واقع مُرّ صوَّرها القرآن وألبسها ثوبَ الحياة في أبدعِ تصويرٍ.

أمّا الحكاية عن مغيّبات ما وراء السِتار فهي حقائق ثابتة مَثَّلها القرآن في قالب الاستعارة والتشبيه، فيتنبّه النابه لوجه الاستعارة والتشبيه ولا مجال للإنكار بعد عدم الدليل على الامتناع.

فهؤلاء ملائكة الرحمان لها أجنحة مَثنى وثُلاث ورُباع (١) ، ذَكَرها القرآن تعبيراً عن مُختَلف مدارج القُوى والطاقات تَملِكُها ملائكة السماء المـُدبِّرات أمراً حَسب وظائفها في التدبير المخوّل إليها، والتعبير عن القُدَر والقُوى بالأَجنحة شائع وليس المراد أجنحةً كأجنحة الطيور.

وهكذا في سائر الموارد عَمَدَ القرآن إلى التشبيه والتمثيل حكايةً عن أمرٍ واقع وليس مجرّد تصوير وتخييل.

____________________

(١) وهو قوله تعالى: ( جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ... ) فاطر ٣٥: ١.

١١٤

ثقافات جاهليّة كافَحَها الإسلام

كان المجتمع العربي إبّان ظهور الإسلام آهِلاً بثقافاتٍ هي ضلالات وجهالات، وكان الفساد والفحشاء قد غطَّ البلاد، وكفى شاهداً على ضَخامة هذا الظلام ما رَسَمه القرآن عن مُنكَرات كانت قد عمّت الجزيرة هي مِن الفظاعة بمكانٍ، فجاء الإسلام ليُنقِذَهم من الجَهالة وَحَيرَة الضلالة، وليضعَ عنهم إصرَهم والأغلال التي كانت عليهم، وقد نجح بالفعل في خُطوات واسعة؛ حيث جاء الحقّ وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقاً.

إذن، جاء القرآن ليُتحِف البشريّة جَمعاء والعرب خاصّةً بِمَعالم حضارة زاهية ( وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ) (١) فقد جاء ليؤثِّر لا ليتأثَّر، ومن الجَفاء زَعْمُ العكس فيما حَسِبه المـُتشاكِسون.

ودليلاً على ذلك نأتي بعادات ورسوم جاهليّة خاطئة عارضها الإسلام وغلب عليها ( وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ ) (٢) ( وكَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ) (٣) .

ولنبدأ بشؤون المرأة وقد سُحِقت كرامتها الإنسانيّة في ذلك الجوّ الحالِك، فجاء الإسلام وأخذ بيدها ليَرفعَها إلى حيث مستواها الكريم.

المرأة وكرامتها في القرآن

للمرأةِ كرامتها الإنسانيّة في القرآن، وقد جَعلها الله في مستوى الرجل في الحَظوة الإنسانيّة الرفيعة، حينما كانت في كلّ الأوساط المتحضّرة والجاهلة مُهانةً وَضيْعَةَ القَدْرِ، لا شأن لها في الحياة سِوى كونها لُعبةَ الرجل وبُلغتَه في الحياة، فجاء الإسلام وأخذ بيدها وصَعد بها إلى حيث مستواها الرفيع الموازي لمستوى الرجل في المجال الإنساني الكريم ( لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ ) (٤) ، ( وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) (٥) .

____________________

(١) يوسف ١٢: ٢١.

(٢) الصافّات ٣٧: ١١٦.

(٣) المجالة ٥٨: ٢١.

(٤) النساء ٤: ٣٢.

(٥) البقرة ٢: ٢٢٨.

١١٥

القرآن عندما يتحدّث عن الإنسان - وليس في حقيقة الإنسانيّة ذكورةٌ ولا أُنوثةٌ - إنّما يتحدّث عن الجنس ذكراً وأنثى على سواء، وعندما يتحدّث عن كرامةِ الإنسان وتفضيلِه على كثير ممَّن خلق (١) وعن الودائع التي أَودَعَها هذا الإنسان َ (٢) وعن نَفخِ روحه فيه (٣) وعندما يباركُ نفسَه في خَلقِه لهذا الإنسان (٤) إنّما يتحدّث عن الذات الإنسانيّة الرفيعة المشتركة بين الذَّكر والأُنثى من غير فرقٍ.

هو عندما يقول: ( وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاّ مَا سَعَى ) (٥) وعندما يقول: ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) (٦) وإلى أمثالها من تعابير لا يُفرِّق بين ذكرٍ وأُنثى: ( أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ) (٧) ، ولا مَيْزَ بينهما ولا تَفارُق فيما يَمتاز به الإنسان في أصل وجوده وفي سعيه وفي البلوغ إلى مراتب كماله، ( إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ) (٨) .

وقد جاء قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى ‏ ) (٩) دليلاً قاطعاً على موازاة الأُنثى مع الذكر في أصالة النوع البشري، ولا تزال هذه الأصالة مُحتَفَظاً بها عِبر تناسل الأجيال.

نعم، هناك خصائص نفسيّة وعقليّة ميّزت أحدهما عن الآخر في تكوينِهما الذاتي ممّا أوجب تَفارقاً في توزيع الوظائف التي يقوم بها كلٌّ منهما في حقل الحياة، توزيعاً عادلاً يتناسب مع معطيات ومؤهّلات كلّ من الذكر والأنثى، الأمر الذي يؤكِّد شمول العدل في التكليف والاختيار، ولنَنَظر في هذه الفوارق الناشئة من مقام حكمته تعالى في الخلق والتدبير.

____________________

(١) الإسراء ١٧: ٧٠.

(٢) الأحزاب ٣٣: ٧٢.

(٣) السجدة ٣٢: ٩.

(٤) المؤمنون ٢٣: ١٤.

(٥) النجم ٥٣: ٣٩.

(٦) الحجرات ٤٩: ١٣.

(٧) آل عمران ٣: ١٩٥.

(٨) الأحزاب ٣٣: ٣٥.

(٩) الحجرات ٤٩: ١٣.

١١٦

وللرجال عليهنّ درجة

هنا وقفة قصيرة عندما نَلحظ أنّ القرآن فضّل الرجال على النساء بدرجة!

فهل في ذلك حطٌّ من قَدْر المرأة؟ أو كمال حُظي به الرجل دونها؟

ليس من هذا أو ذاك في شيء؛ وإنّما هي مُرافقة مع ذات الفطرة التي جُبِل عليها كلٌّ من الرجل والمرأة.

إنّ معطيات الرجل النفسيّة والخُلُقيّة تختلف عن معطيات المرأة، كما تختلف طبيعتها الأُنوثيّة المـُرْهَفَة الرقيقة عن طبيعة الرجل الصُّلبة الشديدة، كما قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (المرأة ريحانة وليست بقهرمانة) (١) ، فنُعومة طبعها وظرافة خُلُقها تجعلها سريعة الانفعال تجاه مُصطَدمات الأُمور، على خلاف الرجل في تريّثِه ومقاومته عند مقابلة الحوادث.

فالمرأة في حقوقها ومَزاياها الإنسانيّة تُعادِل الرجل ( وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) (٢) ، هذا في أصل خلقتها لتكونَ للرجل زوجاً مِن نفسه أي نظيرَه في الجنس، فيتكافلان ويتعاونان معاً في الحياة الزوجيّة على سواء، فلها مثلُ الذي عليها من الحقّ المشترك، وهذا هو التماثل بالمعروف أي التساوي فيما يعترف به العقل ولا يَستَنكِرُه.

لكنّ الشطر الذي يتحمّله الرجل في الحياة الزوجيّة هو الشطر الأثقل الأشقّ، فضلاً عن القِوامة والحماية التي تُثقل عبء الرَجُل في مزاولة الحياة، الأمر الذي استدعى شيئاً من التَمايز في نفس الحقوق الزوجيّة، ممّا أوجب للرَجُل امتيازاً بدرجة ( وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ) (٣) .

وهذا التفاضل في الذات والمـُعطيات هو الذي جعل من موضع الرَجُل في الأُسرة موضع القِوامة، ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ) (٤) .

____________________

(١) نهج البلاغة، الكتاب رقم ٣١، ص٤٠٥.

(٢) البقرة ٢: ٢٢٨.

(٣) البقرة ٢: ٢٢٨.

(٤) النساء ٤: ٣٤.

١١٧

إنّ الأسرة هي المؤسَّسة الأُولى في الحياة الإنسانيّة، وهي نقطة البدء التي تؤثِّر في كلّ مراحل الطريق، والتي تُزاول إنشاء وتنشئة العنصر الإنساني، وهو أكرم عناصر هذا الكون في التصوّر الإسلامي، وإذا كانت المؤسّسات - التي هي أقلّ شأناً وأرخص سعراً كالمؤسّسات الماليّة والصناعيّة والتجاريّة وما إليها - لا تُوكِل أمرَها عادةً إلاّ للأكفاء من المرشّحين لها ممّن تخصّصوا في هذا الفرع علمياً، وتدرّبوا عليه عمليّاً فوق ما وِهبوا مِن استعدادات طبيعيّة للإدارة والقِوامة، فالأًولى أن تُتَّبّع هذه القاعدة في مؤسّسة الأُسرة التي تُنشِئ وتُنشِّئ أثمن عناصر الكون، ذلك هو العنصر الإنساني.

والمنهج الربّاني يراعي هذا، ويراعي به الفطرة والاستعدادات الموهَبة لشطري النفس - العقلاني والجسماني - لأداء الوظائف المـَنوطة بهما معاً، كما يراعي به العدالة في توزيع الأعباء على شطري الأُسرة الواحدة، والعدالة في اختصاص كلٍّ منهما بنوع الأعباء المهيَّأ لها، المـُعان عليها مِن فطرته واستعداداته المتميّزة المتفرّدة.

والمسلَّم به ابتداءً أنّ الرجل والمرأة كلاهما مِن خَلْقِ اللّه، وأنّه تعالى لا يريد ظلماً بأحدٍ من خَلقه، وهو يُهيِّئه ويُعدّه لوظيفة خاصّة، ويمنحه الاستعدادات اللازمة لإحسان هذه الوظيفة، وقد خلق اللّه الناس ذكراً وأنثى زوجين على أساسِ القاعدة الكلّيّة في بناء هذا الكون، وجعل من وظائف المرأة أن تَحمل وتَضَع وتَرضع، وتَكفُل ثمرةَ الاتّصال بينها وبين الرجل، وهي وظائف ضَخمة وخطيرة وليست هيّنة ولا يسيرة، بحيث يمكن أنْ تؤدّى بدون إعداد عضويٍّ ونفسيٍّ وعقليٍّ عميق غائر في كيان الأنثى.

فكان جديراً أنْ يَنوط بالشطر الآخر - الرجل - توفير الحاجات الضروريّة، وتوفير الحماية كذلك للأُنثى كي تتفرّغ لأداء وظيفتها الخطيرة، ولا يُحمَل عليها أن تَحمل وتَضع وتَرضع وتكفل ثُمّ هي التي تعمل وتكدّ وتسهر ليلاً وتَجهد نهاراً لحماية نفسها وكفالة ولدها في آنٍ واحد! فكان عدلاً كذلك أن يُمنح الرجل من الخصائص في تكوينه العضويّ والعصبيّ والعقليّ والنفسيّ ما يُعينه على أداء وظائفه هذه الخطيرة أيضاً، وكان هذا فعلاً ( وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ) (١) .

____________________

(١) الكهف ١٨: ٤٩.

١١٨

ومِن ثَمَّ زُوِّدت المرأة - فيما زُوِّدت به من الخصائص - بالرقّة والعطف والحنان، وسرعة الانفعال والاستجابة العاجلة لمطالب الطفولة بغير وعي ولا سابق تفكير؛ لأنّ الضرورات الإنسانيّة العميقة كلّها والمـُلِحّة أحياناً - حتّى في الفرد الواحد - قد لا تَتَركُ لأَرجَحة الوعي والتفكير وبطئه مجالاً، بل فرضت الاستجابة لها غير إراديّة، لتَسهُل تلبيتها فوراً وفيما يشبه أنْ تكون قسراً، ولكنّه قسرٌ داخلي غير مفروض من خارج النفس، ويكون لذيذاً ومستحبّاً في مُعظم الأحيان؛ لتكون الاستجابة سريعةً من جهةٍ ومريحةً من جهةٍ أُخرى، مهما يكن فيها من المشقّة والتضحية ( صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ) (١) .

قال سيّد قطب: وهذه الخصائص ليست سطحيّة، بل هي غائرة في التكوين العضويّ والعصبيّ والعقليّ والنفسيّ للمرأة، بل يقول كبار العلماء المختصّين: إنّها غائرة في تكوين كلّ خليّة؛ لأنّها عميقة في تكوين الخليّة الأُولى التي يكون من انقسامها وتكاثرها الجنين، بكلّ خصائصه الأساسيّة (٢) .

وكذلك زُوِّد الرجل - فيما زُوِّد به من الخصائص - بالمـُقاومة والصَلابة، وبطء الانفعال والاستجابة، والتروّي واستخدام الوعي والتفكير قبل الحركة والاستجابة؛ لأنّ وظائفه كلّها منذ بدء الحياة وممارسة التنازع في البقاء كانت تحتاج إلى قَدَرٍ من التروّي قبل الإقدام، وإعمال الفكر والبطء في الاستجابة بوجهٍ عامّ (٣) ، وكلّها عميقة في تكوينه عمقَ خصائص المرأة في تكوينها، وهذه الخصائص تَجعله أقدر على القِوامة وأفضل في مجالها، كما أنّ تكليفه بالإنفاق - وهو فرع مِن توزيع الاختصاصات - يجعله بدوره أولى بالقِوامة.

وهذان العنصران هما اللذان أبرزهما النصّ القرآني، وهو يقرّر قِوامة الرجال على النساء في المجتمع الإسلامي.

____________________

(١) النمل ٢٧: ٨٨.

(٢) تفسير في ظِلال القرآن، ج ٥، ص ٥٨ - ٥٩، المجلّد الثاني، ص ٣٥٤ - ٣٥٥.

(٣) إنّ معدّل سِعة الدماغ في الرجال ١٤٨٠ سم مكعّب وفي النساء ١٣٠٠ سم مكعّب، ووزن دماغ الرجل ١٣٦٠ غم بينما وزن دماغ المرأة ١٢١٠ غم، إنّ هذا المعدّل يمثّل كافّة شعوب البشر بصورة عامّة، كتاب الحيوان للدراسة الجامعيّة، ص ٣٨٨.

١١٩

قِوامة لها أسبابها وعِللها من التكوين والاستعداد، إلى جنب أسبابها من توزيع الوظائف والاختصاصات، الأمر الذي جعل من مرتبة الرجل أعلى من مرتبة المرأة بدرجة!

قال سيّد قطب: إنّها مسائل خطيرة، أخطر من أنْ تتحكّم فيها أهواء البشر، وأخطر من أنْ تُترك لهم يَخبطون فيها خَبْطَ عشواء، وحين تُركت لهم ولأهوائهم في الجاهليّات القديمة والجاهليّات الحديثة هدّدت البشريّة تهديداً خطيراً في وجودها ذاته، وفي بقاء الخصائص الإنسانيّة التي تقوم بها الحياة الإنسانيّة وتتميّز.

ولعلّ مِن الدلائل التي تُشير بها الفطرة إلى وجودها وتحكّمها، ووجود قوانينها المتحكِّمة في بني الإنسان، حتّى وهم يُنكرونها ويرفضونها ويتفكّرون لها، لعلّ من هذه الدلائل ما أصاب الحياة البشريّة من تَخبُّطٍ وفسادٍ، ومن تدهورٍ وانهيارٍ، ومن تهديدٍ بالدمار والبَوار في كلّ مرّةٍ خُولفت فيها هذه القاعدة، فاهتزّت سُلطة القِوامة في الأُسرة، أو اختلطت معالمها، أو شذّت عن قاعدتها الفطريّة الأصيلة.

ولعلّ من هذه الدلائل تَوَقان نفس المرأة ذاتها إلى قيام هذه القِوامة على أصلها الفطري في الأسرة، وشعورها بالحرمان والنقص والقلق وقلّة السعادة، عندما تعيش مع رجلٍ لا يزاول مهامّ القِوامة وتُنقِصُه صفاتها اللازمة، فيَكِل إليها هي أمرَ القِوامة! وهي حقيقة مَلحوظة تسلِّم بها حتّى المنحرفات الخابطات في الظلام.

ولعلّ من هذه الدلائل أنّ الأطفال الذين يَنشّأون في عائلة ليست القِوامة فيها للأب؛ إمّا لأنّه ضعيف الشخصيّة بحيث تَبرُز عليه شخصيّة الأُمّ وتسيطر، وإمّا لأنّه مفقود لوفاته أو لعدم وجود أبٍ شرعي، فلمـّا يَنشّأون أسوياء وقلّ أنْ لا ينحرفوا إلى شذوذٍ مّا، في تكوينهم العصبيّ والنفسيّ، وفي سلوكهم العمليّ والخُلقيّ.

فهذه كلّها بعض الدلائل التي تشير بها الفطرة إلى وجودها وتحكّمها، ووجود قوانينها المتحكّمة في بني الإنسان، حتّى وهم ينكرونها ويرفضونها ويتنكّرون لها (١) .

____________________

(١) في ظِلال القرآن، ج ٥، ص ٦٠، المجلّد الثاني، ص ٣٥٦.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

فتحصّنوا عنه بالحصون، وتمادى بهم التحصّن قريباً من سنة ونصف حتّى ظهر فيهم القحط والوباء.

وأصرّ بخت نصّر على المحاصرة حتّى فتح الحصون، وذلك في سنة خمسمائة وستّ وثمانين قبل المسيح، وقتل نفوسهم، وخرب ديارهم وخرّبوا بيت الله وأفنوا كلّ آية وعلامة دينيّة وبدّلوا هيكلهم تلّاً من تراب، وفقدت عند ذلك التوراة والتابوت الّذي كانت تجعل فيه.

وبقى الأمر على هذا الحال خمسين سنة تقريباً وهم قاطنون ببابل وليس من كتابهم عين ولا أثر ولا من مسجدهم وديارهم إلّا تلال ورياع.

ثمّ لمّا جلس كورش من ملوك فارس على سرير الملك وكان من أمره مع البابليّين ما كان وفتح بابل ودخله أطلق اُسراء بابل من بني اسرائيل وكان عزرا المعروف من المقرّبين عنده فأمّره عليهم وأجاز له أن يكتب لهم كتابهم التوراة ويبني لهم الهيكل ويعيدهم إلى سيرتهم الاُولى وكان رجوع عزرا بهم إلى بيت المقدس سنة أربعمائة وسبعة وخمسين قبل المسيح وبعد ذلك جمع عزرا كتب العهد العتيق وصحّحها وهي التوراة الدائرة اليوم(١) .

وأنت ترى بعد التدبّر في القصّة أنّ سند التوراة الدائرة اليوم مقطوعة غير متّصلة بموسى (عليه السلام) إلّا بواحد (وهو عزرا) لا نعرفه أوّلاً ولا نعرف كيفيّة اطّلاعه وتعمّقه ثانياً ولا نعرف مقدار أمانته ثالثاً، ولا نعرف من أين أخذ ما جمعه من أسفار التوراة رابعاً، ولا ندري بالاستناد إلى أيّ مستند صحّح الأغلاط الواقعة أو الدائرة خامساً.

وقد أعقبت هذه الحادثة المشئومة أثراً مشئوماً آخر وهو إنكار عدّة من باحثي المورّخين من الغربيّين وجود موسى وما يتبعه، وقولهم: إنّه شخص خياليّ كما قيل

____________________

(١) مأخوذ من قاموس الكتاب المقدّس تأليف مستر هاكس الامريكائي الهمداني ومآخذ اُخرى من التواريخ.

٣٤١

نظيره في المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام. لكنّ ذلك لا يسع لمسلم فإنّ القرآن الشريف يصرّح بوجوده (عليه السلام) وينصّ عليه.

٢ - قصّة المسيح والإنجيل:

اليهود مهتمون بتاريخ قوميّتهم وضبط الحوادث الظاهرة في الأعصار الّتي مرّت بهم، ومع ذلك فإنّك لو تتبّعت كتبهم ومسفوراتهم لم تعثر فيها على ذكر المسيح عيسى بن مريم (عليه السلام): لا على كيفيّة ولادته ولا على ظهوره ودعوته ولا على سيرته والآيات الّتي أظهرها الله على يديه ولا على خاتمة حياته من موت أو قتل أو صلب أو غير ذلك. فما هو السبب في ذلك؟ وما هو الّذي أوجب خفاء أمره عليهم أو إخفائهم أمره؟

والقرآن يذكر عنهم أنّهم قذفوا مريم ورموها بالبهتان في ولادة عيسى، وأنّهم ادّعوا قتل عيسى. قال تعالى:( وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً وقولهم إنّا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم وإنّ الّذين اختلفوا فيه لفي شكّ منه ما لهم به من علم إلّا اتّباع الظنّ وما قتلوه يقيناً ) النساء - ١٥٧.

فهل كانت دعواهم تلك مستندة إلى حديث دائر بينهم كانوا يذكرونه بين قصصهم القوميّة من غير أن يكون مودعاً في كتاب؟ وعند كلّ اُمّة أحاديث دائرة من واقعيّات وأساطير لا اعتبار بها ما لم تنته إلى مآخذ صحيحة قويمة.

أو أنّهم سمعوا من النصارى الذكر المكرّر من المسيح وولادته وظهوره ودعوته فأخذوا ذلك من أفواههم وباهتوا مريم، وادّعوا قتل المسيح؟ لا طريق إلى استبانة شئ من ذلك غير أنّ القرآن - كما يظهر بالتدبّر في الآية السابقة - لا ينسب إليهم صريحاً إلّا دعوى القتل دون الصلب، ويذكر أنّهم على ريب من الأمر وأنّ هناك اختلافاً.

وأمّا حقيقة ما عند النصارى من قصّة المسيح وأمر الإنجيل والبشارة فهي أنّ قصّته (عليه السلام) وما يتعلّق بها تنتهي عندهم إلى الكتب المقدّسة عندهم وهي الأناجيل الأربعة الّتي هي أناجيل متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا، وكتاب أعمال الرسل للوقا،

٣٤٢

وعدّة رسائل لبولس وبطرس ويعقوب ويوحنّا ويهودا. واعتبار الجميع ينتهي إلى اعتبار الأناجيل فلنشتغل بها:

أمّا إنجيل متّى فهو أقدم الأناجيل في تصنيفه وانتشاره ذكر بعضهم أنّه صنّف سنة ٣٨ الميلاديّة، وذكر آخرون أنّه كتب ما بين سنة ٥٠ إلى سنة ٦٠(١) فهو مؤلّف بعد المسيح.

والمحقّقون من قدمائهم ومتأخّريّهم على أنّه كان أصله مكتوباً بالعبرانيّة ثمّ ترجم إلى اليونانيّة وغيرها أمّا النسخة الأصليّة العبرانيّة فمفقودة، وأمّا الترجمة فلا يدري حالها، ولا يعرف مترجمها(٢) .

وأمّا إنجيل مرقس: فمرقس هذا كان تلميذاً لبطرس، ولم يكن من الحواريّين وربّما ذكروا أنّه إنّما كتب إنجيله بإشارة بطرس وأمره، وكان لا يرى إلهيّة المسيح(٣) ولذلك ذكر بعضهم أنّه إنّما كتب إنجيله للعشائر وأهل القرى فعرّف المسيح تعريف رسول إلهيّ مبلّغ لشرائع الله(٤) وكيف كان فقد كتب إنجيله سنة ٦١ ميلاديّة.

وأما إنجيل لوقا: فلوقا هذا لم يكن حواريّاً ولا رأى المسيح وإنّما تلقّن النصرانيّة من بولس، وبولس كان يهوديّاً متعصّباً على النصرانيّة يوذي المؤمنين بالمسيح ويقلّب الاُمور عليهم ثمّ اتّفق مفاجأة أن ادّعى أنّه صرع وفي حال الصرع لمسه المسيح ولامه وزجره عن الإساءة إلى متّبعيه وأنّه آمن بالمسيح وأرسله المسيح ليبشّر بإنجيله.

____________________

(١) قاموس الكتاب المقدّس للمستر هاكس مادّة - متى.

 (٢) كتاب ميزان الحقّ واعتراف به على تردّد في قاموس الكتاب المقدّس.

 (٣) نقل ذلك عبد الوهّاب النجّار في قصص الأنبياء عن كتاب مروج الاخبار في تراجم الاخبار لبطرس قرماج.

(٤) ذكره في قاموس الكتاب المقدّس. يقول فيه: إن نصّ تواتر السلف على أن مرقس كتب إنجيله برومية وانتشر بعد وفاة بطرس وبولس لكنّه ليس له كثير اعتبار لأن ظاهر إنجيله أنّه كتبه لأهل القبائل والقرويين لا لأهل البلاد وخاصّة الروميّة. فتدبّر في كلامه !

٣٤٣

وبولس هذا هو الّذي شيّد أركان النصرانيّة الحاضرة على ما هي عليها(١) فبني التعليم على أنّ الإيمان بالمسيح كاف في النجاة من دون عمل وأباح لهم أكل الميتة ولحم الخنزير ونهى عن الختنة وكثير ممّا في التوراة(٢) مع أنّ الإنجيل لم يأت إلّا مصدّقاً لما بين يديه من التوراة، ولم يحلّل إلّا أشياء معدودة. وبالجملة إنّما جاء عيسى ليقوّم شريعة التوراة ويردّ إليها المنحرفين والفاسقين لا ليبطل العمل ويقصر السعادة على الإيمان الخالي.

وقد كتب لوقا إنجيله بعد إنجيل مرقس. وذلك بعد موت بطرس وبولس. وقد صرّح جمع بأنّ إنجيله ليس كتاباً إلهاميّاً كسائر الأناجيل(٣) كما يدلّ عليه ما وقع في مبتدء إنجيله.

وأمّا إنجيل يوحنّا فقد ذكر كثير من النصارى أنّ يوحنّا هذا هو يوحنّا بن زبديّ الصيّاد أحد التلاميذ الإثنى عشر (الحواريّين) الّذي كان يحبّه المسيح حبّاً شديداً(٤) .

وذكروا أنّ (شيرينطوس) و(أبيسون) وجماعتهما لمّا كانوا يرون أنّ المسيح ليس إلّا إنساناً مخلوقاً لا يسبق وجوده وجود اُمّه اجتمعت أساقفة آسيا وغيرهم في سنة ٩٦

____________________

(١) راجع مادّة بولس من قاموس الكتاب المقدّس.

(٢) راجع كتاب أعمال الرسل ورسائل بولس.

(٣) قال في أوّل إنجيل لوقا:( لأجل أن كثيرين راموا كتب قصص الاُمور الّتي نحن بها عارفون كما عهد الينا اولئك الأوّلون الّذين كانوا من قبل معاينين وكانوا خداما للكلمة رأيت أنا أيضاً إذ كنت تابعا لكلّ شئ بتحقيق أن أكتب اليك أيّها العزيز ثاوفيلا) ودلالته على كون الكتاب نظريا غير إلهامي ظاهرة وقد نقل ذلك أيضاً عن مستر كدل في رسالة اللّهمّ وصرح جيروم أن بعض القدماء كانوا يشكون في البابين الأوّلين من إنجيل لوقا وأنّهما ما كانا في نسخة فرقة مارسيوني وجزم إكهارن في كتابه ص ٩٥ أن من ف ٤٣ إلى ٤٧ من الباب ٢٢ من إنجيل لوقا الحاقية وذكر إكهارن أيضاً في ص ٦١ من كتابه: قد اختلط الكذب الروائي ببيان المعجزات الّتي نقلها لوقا والكاتب ضمه على طريق المبالغة الشاعرية لكن تمييز الصدق عن الكذب في هذا الزمان عسير وقول:( كلي مي شيس أن متّى ومرقس يتخالفان في التحرير وإذا اتفقا ترجح قولهما على قول لوقا) نقل عن قصص الأنبياء للنجّار - ص ٤٧٧.

(٤) راجع قاموس الكتاب المقدّس مادّة يوحنّا.

٣٤٤

ميلاديّة عند يوحنّا والتمسوا منه أن يكتب ما لم يكتبه الآخرون في أناجيلهم ويبيّن بنوع خصوصيّ لاهوت المسيح فلم يسعه أن ينكر إجابة طلبهم(١) .

وقد اختلفت كلماتهم في السنة الّتي اُلّف فيها هذا الإنجيل فمن قائل أنّها سنة ٦٥ وقائل أنّها سنة ٩٦ وقائل أنّها سند ٩٨.

وقال جمع منهم إنّه ليس تأليف يوحنّا التلميذ: فبعضهم على أنّه تأليف طالب من طلبة المدرسة الاسكندريّة(٢) وبعضهم على أنّ هذا الإنجيل كلّه وكذا رسائل يوحنّا ليست من تصنيفه بل إنّما صنّفه بعضهم في ابتداء القرن الثاني، ونسبه إلى يوحنّا ليعتربه الناس(٣) وبعضهم على أنّ إنجيل يوحنّا كان في الأصل عشرين باباً فألحقت كنيسة (أفاس) الباب الحادي والعشرين بعد موت يوحنّا(٤) فهذه حال هذه الأناجيل الأربعة وإذا أخذنا بالقدر المتيقّن من هذه الطرق انتهت إلى سبعة رجال هم: متّى، مرقس، لوقا، يوحنّا، بطرس، بولس، يهوذا، ينتهي ركونهم كلّه إلى هذه الأناجيل الأربعة وينتهي الأربعة إلى واحد هو أقدمها وأسبقها وهو إنجيل متّى وقد مرّ أنّه ترجمة مفقود الأصل لا يدري من الّذي ترجمه؟ وكيف كان أصله. وعلى ما ذا كان يبني تعليمه أبرسالة المسيح أم باُلوهيّته.

وهذا الإنجيل الموجود يترجم أنّه ظهر في بني إسرائيل رجل يدعى عيسى بن يوسف النجّار وأقام الدعوة إلى الله، وكان يدّعي أنّه ابن الله مولود من غير أب بشريّ وأنّ أباه أرسله ليفدي به الناس عن ذنوبهم بالصلب والقتل، وأنّه أحيى الميّت وأبرء الأكمه والأبرص وشفى المجانين بإخراج الجنّ من أبدانهم، وأنّه كان له إثنا عشر تلميذاً: أحدهم متّى صاحب الإنجيل بارك لهم وأرسلهم للدعوة وتبليغ الدين المسيحيّ إلخ.

____________________

(١) نقله في قصص الأنبياء عند جرجس زوين الفتوحي اللبناني في كتابه.

 (٢) نقل ذلك من كتاب (كاتلك هر الد) في المجلد السابع المطبوع سنة ١٨٤٤ ص ٢٠٥ نقله عن استادلن (عن القصص) وأشار إليه في القاموس في مادّة يوحنّا.

 (٣) قال ذلك (بر طشنيدر) على ما نقل عن كتاب الفاروق المجلد الأوّل (عن القصص).

(٤) المدرك السابق.

٣٤٥

 فهذا ملخّص ما تنتهى إليه الدعوة المسيحيّة على انبساطها على شرق الأرض وغربها، وهو لا يزيد على خبر واحد مجهول الاسم والرسم، مبهم العين والوصف.

وهذا الوهن العجيب في مبدء القصّة هو الّذي أوجب لبعض أحرار الباحثين من اُروبه أن أدّعى أنّ المسيح عيسى بن مريم شخص خياليّ صوّره بعض النزعات الدينيّة على حكومات الوقت أو لها وتأيّد ذلك بموضوع خرافيّ آخر يشبهه كلّ الشبه في جميع شئون القصّة وهو موضوع (كرشنا) الّذي تدّعي وثنيّة الهند القديمة أنّه ابن الله نزل عن لاهوته، وفدى الناس بنفسه صلباً ليخلّصهم من الأوزار والخطايا كما يدّعى في عيسى المسيح حذو النعل بالنعل (كما سيجئ ذكره).

وأوجب لآخرين من منتقدي الباحثين أن يذهبوا إلى أنّ هناك شخصين مسمّيين بالمسيح: المسيح غير المصلوب، والمسيح المصلوب. وبينهما من الزمان ما يزيد على خمسة قرون.

وأنّ التاريخ الميلاديّ الّذي سنتنا هذه سنة الف وتسعمائة وستّة وخمسين منه لا ينطبق على واحد منهما بل المسيح الأوّل غير المصلوب يتقدّم عليه بما يزيد على مأتين وخمسين سنة وقد عاش نحواً من ستّين سنة والمسيح الثاني المصلوب يتأخّر عنه بما يزيد على مأتين وتسعين سنة وقد عاش نحواً من ثلاث وثلاثين سنة(١)

على أنّ عدم انطباق التاريخ الميلاديّ على ميلاد المسيح في الجملة ممّا لم يسع للنصارى إنكاره(٢) وهو سكتة تاريخيّة.

على أنّ هيهنا اُموراً مريبة موهمة اُخرى فقد ذكروا أنّه كتب في القرنين الأوّلين من الميلاد أناجيل كثيرة اُخرى ربّما أنهوها إلى نيّف ومائة من الأناجيل والأناجيل الأربعة منها ثمّ حرّمت الكنيسة جميع تلك الأناجيل إلّا الأناجيل الأربعة

____________________

(١) وقد فصل القول في ذلك الزعيم الفاضل (بهروز) في كتاب ألفه جديداً في البشارات النبوّية وأرجو أن أوفق لايداع شذرة منه في تفسير آخر سورة النساء من هذا الكتاب والقدر المتيقن (الّذي يهمنا منه) اختلال التاريخ المسيحي.

(٢) راجع مادّة مسيح من قاموس الكتاب المقدس.

٣٤٦

الّتي عرفت قانونيّة لموافقة متونها تعليم الكنيسة(١) .

ومن جملة الأناجيل المتروكة إنجيل برنابا الّذي ظهرت نسخة منها منذ سنين فترجمت إلى العربيّة والفارسيّة، وهو يوافق في عامّة قصصه ما قصّه القرآن في المسيح عيسى بن مريم(٢) .

ومن العجيب أنّ الموادّ التاريخيّة المأثورة عن غير اليهود أيضاً ساكتة عن تفاصيل ما ينسبه الإنجيل إلى الدعوة المسيحيّة من حديث البنوّة والفداء وغيرهما. ذكر المورّخ الإمريكيّ الشهير (هندريك ويلم وان لون) في تأليفه في تاريخ البشر كتاباً كتبه الطبيب (إسكولابيوس كولتلوس) الروميّ سنة ٦٢ الميلاديّة إلى ابن أخيه (جلاديوس أنسا) وكان جنديّاً في عسكر الروم بفلسطين، يذكر فيه أنّه عاد مريضاً بروميّة يسمّى بولس فأعجبه كلامه وقد كان بولس كلّمه بالدعوة المسيحيّة، وذكر له طرفاً من أخبار المسيح ودعوته.

ثمّ يذكر أنّه ترك بولس ولم يره حتّى سمع بعد حين أنّه قتل في طريق (أوستى) ثمّ يسأل ابن أخيه أن يبحث عن أخبار هذا النبيّ الاسرائيليّ الّذي كان يذكره بولس وعن أخبار بولس نفسه ويكتب إليه ما بلغه من ذلك.

____________________

(١) ولقد لام (شيلسوس) الفيلسوف في القرن الثاني النصارى في كتابه (الخطاب الحقيقي) على تلاعبهم بالاناجيل، ومحوهم بالغد ما أدرجوه بالامس، وفي سنة ٣٨٤ م أمر البابا داماسيوس أن تحرر ترجمة لاتينية جديدة من العهدين القديم والحديث تعتبر قانونيّة في الكنائس وكان تيودوسيس الملك قد ضجر من المخاصمات الجدلية بين الاساقفة، وتمت تلك الترجمة الّتي تسمى (فولكانا) وكان ذلك خاصّا بالاناجيل الاربعة: متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا وقد قال مرتب تلك الاناجيل: (بعد أن قابلنا عددا من النسخ اليونانية القديمة رتبناها بمعنى أننا نقحنا ماكان فيها مغايرا للمعنى، وأبقينا الباقي على ماكان عليه) ثمّ إن هذه الترجمة قد ثبتها المجمع (التريدنتيني) سنة ١٥٤٦ أي بعدها بأحد عشر قرنا، ثمّ خطأها سيستوس الخامس سنة ١٥٩٠ وأمر بطبع نسخ جديدة ثمّ خطأ كليمنضوس الثامن هذه النسخة الثانية أيضاً، وأمر بطبعة جديدة منقحة هي الدارجة اليوم عند الكاثوليكيين (تفسير الجواهر - الجزء الثاني - ص ١٢١ الطبعة الثانية).

(٢) وقد وجد هذا الانجيل بالخط الايطالي منذ سنين وترجمه إلى العربيّة الدكتور خليل سعاده بمصر وترجمه إلى الفارسيّة الحبر الفاضل (سردار كابلي) بإيران.

٣٤٧

فكتب إليه (جلاديوس أنسا) بعد ستّة أسابيع من معسكر الروم باُورشليم: أنّي سألت عدّة من شيوخ البلد ومعمّريهم عن عيسى المسيح فوجدتهم لا يحسنون مجاوبتي فيما أسألهم( هذا والسنة سنة ٦٢ ميلاديّة وهم شيوخ !) .

حتّى لقيت بيّاع زيتون فسألته هل يعرفه؟ فأنعم لي في الجواب ثمّ دلّني على رجل اسمه يوسف، و ذكر أنّه كان من أتباعه ومحبّيه وأنّه خبير بقصصه بصير بأخباره يستطيع أن يجيبك فيما تسأله عنه.

فلقيت يوسف اليوم بعد ما تفحّصت أيّاماً فوجدته شيخاً هرماً وقد كان قديماً يصطاد السمك في بعض البحيرات من هذه الناحية.

كان الرجل على كبر سنّه صحيح المشاعر جيّد الحافظة وقصّ لي جميع الأخبار والقضايا الحادثة في ذلك الأوان، أوان الاغتشاش والفتنة.

ذكر أنّ فونتيوس فيلاطوس كان حاكماً على سامرا ويهوديّه في عهد القيصر (تي بريوس).

فاتّفق أن وقع أيّام حكومته فتنة في اُورشليم فسافر فونتيوس فيلاطوس إليه لإخماد ما فيه من نار الفتنة وكانت الفتنة هي ما شاع يومئذ أنّ ابن نجّار من أهل الناصرة يدعو الناس ويستنهضهم على الحكومة.

فلمّا تحقّقوا أمره تبيّن أنّ ابن النجّار المتّهم شابّ عاقل متين لم يرتكب ما يوجب عليه سياسة غير أنّ رؤساء المذهب من اليهود كانوا يخالفونه ويباغضونه بأشدّ ما يكون وقد قالوا لفيلاطوس إنّ هذا الشابّ الناصريّ يقول: لو أنّ يونانيّاً أو روميّاً أو فلسطينيّاً عامل الناس وعاشرهم بالعدالة والشفقة كان عند الله كمن صرف عمره في مطّلعة كتاب الله وتلاوة آياته.

وكأنّ هذه التعرّضات والاقتراحات لم تؤثّر في فيلاطوس أثرها لكنّه لما سمع ازدحام الناس قبال المعبد وهم يريدون أن يقبضوا على عيسى وأصحابه ويقطّعوهم إرباً إرباً رأى أنّ الأصلح أن يقبض هو على هذا الشابّ النجّار ويسجنة حتّى لا يقتل بأيدي الناس في غوغائهم.

٣٤٨

وكان فيلاطوس لم يتّضح له سبب ما ينقمه الناس من عيسى كلّ الاتّضاح وكلّما كلّم الناس في أمره وسألهم واستوضحهم علت أصواتهم وتنادوا (هو كافر) (هو ملحد) (هو خائن) فلم ينته الأمر إلى طائل.

حتّى استقرّ رأي فيلاطوس أن يكلّم عيسى بنفسه فأشخصه وكلّمه وسأله عمّا يقصده بما يبلّغه من الدين فأجابه عيسى أنّه لا يهتمّ بأمر الحكومة والسياسة ولا له في ذلك غرض وأنّه يهتمّ بالحياة الروحانيّة أكثر ممّا يهتمّ بأمر الحياة الجسمانيّة وأنّه يعتقد أنّ الإنسان يجب أن يحسن إلى الناس ويعبد الله الفرد الواحد وحده الّذي هو في حكم الأب لجميع أرباب الحياة من المخلوقات.

وكان فيلاطوس ذا خبرة في مذاهب الرواقيّين وسائر فلاسفة يونان فكأنّه لم ير في ما كلّمه به عيسى موضع غمضة ولا محلّ مؤاخذة ولذلك عزم ثانياً أن يخلّص هذا النبيّ السليم المتين من شرّ اليهود وسوّف في حكم قتله وإنجازه.

لكنّ اليهود لم يرضوا بذلك ولم يتركوه على حاله بل أشاعوا عليه أنّه فتن بأكاذيب عيسى وأقاويله وأنّ فيلاطوس يريد الخيانة على قيصر، وأخذوا يستشهدون عليه ويسجّلون الطوامير على ذلك يريدون به عزله من الحكومة، وقد كان برز قبل ذلك فتن وانقلابات في فلسطين. والقوى المؤمّنة القيصريّة قليلة العدّة لا تقوى على إسكات الناس فيها كلّ القوّة.

وكان على الحكّام وسائر المأمورين من ناحية قيصر أن لا يعاملوا الناس بما يجلب شكواهم وعدم رضايتهم.

فلهذه الأسباب لم ير فيلاطوس بدّاً من أن يفدي هذا الشابّ المسجون للأمن العامّ، ويجيب الناس فيما سألوه من قتله.

وأمّا عيسى فإنّه لم يجزع من الموت بل استقبله على شهامة من نفسه وقد عفى قبل موته عمّن تسبّب إلى قتله من اليهود ثمّ قضى به على الصليب و الناس يسخرون منه ويشتمونه ويسبّونه.

٣٤٩

قال (جلاديوس أنسا) هذا ما قصّ لي يوسف من قصّة عيسى ودموعه تجري على خدّيه وحين ودّعني للمفارقة قدّمت إليه شيئاً من المسكوك الذهبيّ لكنّه أبى أن يأخذه، وقال لي يوجد هيهنا من هو أفقر منّي فأعطه إيّاه.

وسألته عن بولس رفيقك المعهود فما كان يعرفه معرفة تامّة. والقدر الّذي تبيّن من أمره أنّه كان رجلاً خيّاماً ثمّ ترك شغله واشتغل بالتبليغ لهذا المذهب الجديد مذهب الربّ الرؤوف الرحيم الإله الّذي بينه وبين (يهوّه) إله يهود الّذي لا نزال نسمعه من علماء اليهود من الفرق ما هو أبعد ممّا بين السماء والأرض.

والظاهر أنّ بولس سافر أوّلاً إلى آسيا الصغرى ثمّ إلى يونان وأنّه كان يقول للعبيد والأرقّاء إنّهم جميعاً أبناء لأب يحبّهم ويرأف بهم وأنّ السعادة ليست تخصّ بعض الناس دون بعض بل تعمّ جميع الناس من فقير وغنيّ بشرط أن يعاشروا على المواخاة ويعيشوا على الطهارة والصداقة انتهى ملخّصاً.

هذه عامّة فقرات هذا الكتاب ممّا يرتبط بما نحن فيه من البحث.

وبالتأمّل في جمل مضامين هذا الكتاب يتحصّل للمتأمّل أنّ ظهور الدعوة المسيحيّة كيف كان في بني إسرائيل بعيد عيسى (عليه السلام). وأنّه لم يكن إلّا ظهور دعوة نبويّة بالرسالة من عند الله لا ظهور دعوة إلهيّة بظهور اللاهوت ونزولها إليهم وتخليصهم بالفداء!

ثمّ إنّ عدّة من تلامذة عيسى أو المنتسبين إليه كبولس وتلامذة تلامذتهم سافروا بعد وقعة الصلب إلى مختلف أقطار الأرض من الهند وإفريقيّة وروميّة وغيرها وبسطوا الدعوة المسيحيّة لكنّهم لم يلبثوا دون أن اختلفوا في مسائل أصليّة من التعليم كلاهوت المسيح وكفاية الإيمان بالمسيح عن العمل بشريعة موسى وكون دين الإنجيل ديناً أصيلاً ناسخاً لدين موسى أو كونه تابعاً لشريعة التوراة مكمّلاً إيّاها(١) فافترقوا عند ذلك فرقاً.

____________________

(١) يشير إليه كتاب الرسل ووسائل بولس، وقد اعترضت به النصارى

٣٥٠

والّذي يجب الإمعان فيه أنّ الاُمم الّتي بسطت الدعوة المسيحيّة وظهرت فيها أوّل ظهورها كالروم والهند وغيرهما كانوا قبلها منتحلين بالوثنيّة الصابئة أو البرهمنيّة أو البوذائيّة وفيها اُصول من مذاق التصوّف من جهة والفلسفة البرهمنيّة من جهة وفيها جميعاً شطر وافر من ظهور اللاهوت في مظهر الناسوت. على أنّ القول بتثليث الوحدة ونزول اللاهوت في لباس الناسوت وتحمّلها الصلب(١) والعذاب فدائا كان دائراً بين القدماء من وثنيّة الهند والصين ومصر وكلدان والآشور والفرس وكذا قدماء وثنيّة الغرب كالرومان والاسكندناويّين وغيرهم على ما يوجد في الكتب المؤلّفة في الاديان والمذاهب القديمة.

ذكر (دوان) في كتابه (خرافات التوراة وما يماثلها في الأديان الاُخرى): إذا رجعنا البصر إلى الهند نرى أنّ أعظم وأشهر عبادتهم اللاهوتيّة هو التثليث ويسمّون هذا التعليم بلغتهم (ترى مورتى) وهي عبارة مركّبة من كلمتين بلغتهم السنسكريتيّة (ترى) ومعناها الثلاثة و(مورتى) ومعناها هيآت أو أقانيم وهي (برهما، وفشنو، وسيفا) ثلاثة أقانيم متّحدة لا ينفكّ عن الوحدة فهي إله واحد بزعمهم.

ثمّ ذكر: أنّ برهما عندهم هو الأب وفشنو هو الابن، وسيفا هو روح القدس.

ثمّ ذكر أنّهم يدعون سيفا (كرشنا)(٢) الربّ المخلّص والروح العظيم الّذي ولد منه (فشنو) الإله الّذي ظهر بالناسوت على الأرض ليخلّص الناس فهو أحد الأقانيم الثلاثة الّتي هي الإله الواحد.

____________________

(١) القتل بالصلب على الصليب من القواعد القديمة جدّاً فقد كانوا يقتلون من اشتدّ جرمه وفظع دنبه بالصلب الّذي هو من أشدّ أسباب القتل عذاباً وأسوئها ذكراً، وكانت الطريقة فيه أن يصنع من خشبتين تقاطع إحديهما الاُخرى ما هو على شكل الصليب المعروف بحيث ينطبق عليه إنسان لو حمل عليه ثمّ يوضع المجرم عليه مبسوط اليدين ويدق من باطن راحتيه على طرفي الخشبة المعترضة بالمسامير، وكذا تدق قدماه على الخشبة وربّما شدتا من غير دقّ ثمّ تقام الخشبة بنصب طرفها على الأرض بحيث يكون ما بين قدمه إلى الأرض ما يقرب من ذراعين فيبقى الصليب على ذلك يوماً أو أيّاماً ثمّ تكسر قدماه من الساقين ويقتل على الصليب أو ينزل فيقتل بعد الانزال، وكان المصلوب يعذب قبل الصلب بالجلد أو المثلة وكان من العار الشنيع على قوم أن يقتل واحد منهم بالصلب.

(٢) وهو المعبر عنه ابلانكليزية (كرس) وهو المسيح المخلص.

٣٥١

 وذكر أيضاً: أنّهم يرمزون للاُقنوم الثالث بصورة حمامة كما يقوله النصارى.

وقال مستر (فابر) في كتابه (أصل الوثنيّة) كما نجد عند الهنود ثالوثاً مؤلّفاً من (برهما) و(فشنو) و(سيفا) نجد عند البوذيّين ثالوثاً فإنّهم يقولون: إنّ (بوذ) إله له ثلاثة أقانيم. وكذلك بوذيو (جينست) يقولون: إنّ (جيفا) مثلّث الأقانيم.

قال: والصينيّون يعبدون بوذه ويسمّونه (فو) ويقولون إنّه ثلاثة أقانيم كما تقول الهنود.

وقال دوان في كتابه المتقدّم ذكره: وكان قسّيسوا هيكل منفيس بمصر يعبّرون عن الثالوث المقدّس للمبتدئين بتعلّم الدين بقولهم: إنّ الأوّل خلق الثاني والثاني خلق الثالث وبذلك تمّ الثالوث المقدّس.

وسأل توليسو ملك مصر الكاهن تنيشوكي أن يخبره: هل كان قبله أحد أعظم منه؟ وهل يكون بعده أحد أعظم منه فأجابه الكاهن: نعم يوجد من هو أعظم وهو الله قبل كلّ شئ ثمّ الكلمة ومعهما روح القدس ولهذه الثلاثة طبيعة واحدة، وهم واحد بالذات وعنهم صدرت القوّة الأبديّة فاذهب يا فاني يا صاحب الحياه القصيرة.

وقال بونويك في كتابه (عقائد قدماء المصريّين) أغرب كلمة عمّ انتشارها في ديانة المصريّين هي قولهم بلاهوت الكلمة، وأنّ كلّ شئ حصل بواسطتها، وأنّها منبثقة من الله، وأنّها هي الله انتهى. وهذا عين العبارة الّتي يبتدي بها إنجيل يوحنّا.

وقال (هيجين) في كتاب (الإنكلوساكسون) كان الفرس يدعون متروساً الكلمة والوسيط ومخلّص الفرس.

ونقل عن كتاب سكّان اُوروبة الأوّلين: أنّه كان الوثنيّون القدماء يقولون: إنّ الإله مثلّث الأقانيم.

ونقل عن اليونان والرومان والفنلنديّين والاسكندناويّين قضيّة الثالوث السابق الذكر وكذا القول بالكلمة عن الكلدانيّين والآشوريّين والفينيقيّين.

وقال دوان في كتابه (خرافات التوراة وما يقابلها من الديانات الاُخرى) (ص ١٨١ - ١٨٢) ما ترجمته بالتلخيص:

٣٥٢

(إنّ تصوّر الخلاص بواسطة تقديم أحد الآلهة ذبيحة فدائا عن الخطيئة قديم العهد جدّاً عند الهنود الوثنيّين وغيرهم) وذكر شواهد على ذلك:

منها قوله: يعتقد الهنود أنّ كرشنا المولود البكر - الّذي هو نفس الإلهة فشنو الّذى لا ابتداء له ولا انتهاء على رأيهم - تحرّك حنوّاً كي يخلّص الأرض من ثقل حملها فأتاها وخلّص الإنسان بتقديم ذبيحة عنه.

وذكر أنّ (مسترمور) قد صوّر كرشنا مصلوباً كما هو مصوّر في كتب الهنود مثقوب اليدين والرجلين، وعلى قميصه صورة قلب الإنسان معلّقاً، ووجدت له صورة مصلوباً وعلى رأسه إكليل من الذهب. والنصارى تقول: إن يسوع صلب وعلى رأسه إكليل من الشوك.

وقال (هوك) في ص ٣٢٦ من المجلد الأوّل من رحلته: ويعتقد الهنود الوثنيّون بتجسّد بعض الآلهة وتقديم ذبيحة فداء للناس من الخطيئة.

وقال (موريفور ليمس) في ص ٢٦ من كتابه (الهنود) ويعتقد الهنود الوثنيّون بالخطيئة الأصليّة وممّا يدلّ على ذلك ما جاء في مناجاتهم وتوسّلاتهم الّتي يتوسّلون بها بعد (الكياتري) وهو إنّي مذنب ومرتكب الخطيئة، وطبيعتي شريرة، وحملتني اُمّي بالإثم فخلّصني يا ذا العين الحندقوقيّة يا مخلّص الخاطئين من الآثام والذنوب.

وقال القسّ (جورج كوكس) في كتابه (الديانات القديمة) في سياق الكلام عن الهنود: ويصفون كرشنا بالبطل الوديع المملوء لاهوتاً لأنّه قدّم شخصه ذبيحة.

ونقل (هيجين) عن (اندارا دا الكروزوبوس) وهو أوّل اُوروبيّ دخل بلاد التيبال والتبّت: أنّه قال في الإله (اندرا) الّذي يعبدونه: أنّه سفك دمه بالصلب وثقب المسامير لكي يخلّص البشر من ذنوبهم وأنّ صورة الصلب موجودة في كتبهم.

وفي كتاب (جورجيوس) الراهب صورة الإله (اندرا) هذا مصلوباً، وهو بشكل صليب أضلاعه متساوية العرض متفاوتة الطول فالرأسيّ اقصرها - وفيه صورة وجهه - والسفلى أطولها ولو لا صورة الوجه لما خطر لمن يرى الصورة أنّها تمثّل شخصاً هذا.

٣٥٣

وأمّا ما يروى عن البوذيّين في بوذا فهو أكثر انطباقاً على ما يرويه النصارى عن المسيح من جميع الوجوه حتّى أنّهم يسمّونه المسيح، والمولود الوحيد، ومخلّص العالم ويقولون إنّه إنسان كامل وإله كامل تجسّد بالناسوت، وأنّه قدّم نفسه ذبيحة ليكفّر ذنوب البشر ويخلّصهم من ذنوبهم فلا يعاقبوا عليها، ويجعلهم وارثين لملكوت السماوات بيّن ذلك كثير من علماء الغرب: منهم (بيل) في كتابه و(هوك) في رحلته و(موالر) في كتابه تاريخ الآداب السنسكريتيّة وغيرهم.(١)

فهذه نبذة أو اُنموذجة من عقيدة تلبّس اللاهوت بالناسوت، وحديث الصلب والفداء في الديانات القديمة الّتي كانت الاُمم متمسّكين بها منكبّين عليها يوم شرعت الديانة النصرانيّة تنبسط على الأرض وأخذت الدعوة المسيحيّة تأخذ بمجامع القلوب في المناطق الّتي جال الدعاة المسيحيّون فيها فهل هذا إلّا أنّ الدعاة المسيحيّين أخذوا اُصول المسيحيّة وأفرغوها في قالب الوثنيّة واستمالوا بذلك قلوب الناس في تقبّل دعوتهم وهضم تعليمهم؟

ويؤيّد ذلك ما ترى في كلمات بولس وغيره من الطعن في حكمة الحكماء وفلسفتهم والإزراء بطرق الاستدلالات العقليّة وأنّ الإله الربّ يرجّح بلاهة الأبله على عقل العاقل.

وليس ذلك إلّا لأنّهم قابلوا بتعليمهم مكاتب التعقّل والاستدلال فردّه أهله بأنّه لا طريق إلى قبوله بل إلى تعقّله الصحيح من جهة الاستدلال فوضعوا الأساس على المكاشفة والامتلاء بالروح المقدّس فشاكلوا بذلك ما يصرّ به جهلة المتصوّفة أنّ طريقتهم طور وراء طور العقل.

ثمّ إنّ الدعاة منهم ترهبوا وجالوا في البلاد (على ما يحكيه كتاب أعمال الرسل والتواريخ) وبسطوا الدعوة المسيحيّة واستقبلتهم في ذلك العامّة في شتات البلاد، كان من سرّ موفّقيّتهم وخاصّة في إمبراطوريّة الروم هي الضغطة الروحيّة الّتي عمّت

____________________

(١) يجد القارئ هذه المنقولات في تفسير المنار - الجزء السادس في تفسير النساء وفي دوائر المعارف وفي كتاب العقائد الوثنيّة في الديانة النصرانيّة وغيرها.

٣٥٤

البلاد من فشوّ الظلم والتعدّي، وشمول أحكام الاسترقاق والاستعباد، والبون البعيد في حياة الطبقة الحاكمة والمحكومة والآمرة والمأمورة والفصل الشاسع بين عيشة الاغنياء وأهل الإتراف والفقراء والمساكين والأرقّاء.

وقد كانت الدعاة تدعو إلى المواخاة والمحابّة و التساوي والمعاشرة الجميلة بين الناس ورفض الدنيا وعيشتها الكدرة الفانية والاقبال على الحياة الصافية السعيدة الّتي في ملكوت السماء ولهذا بعينه ما كان يعني بحالهم الطبقة الحاكمة من الملوك والقياصرة كلّ العناية، ولا يقصدونهم بالأذى والسياسة والطرد.

فلم يزالوا يزيدون عدداً من غير تظاهر وتنافس وينمون قوّة وشدّة حتّى حصل لهم جمّ غفير في إمبراطوريّة الروم وإفريقيّة والهند وغيرها من البلاد. ولم يزالوا كلّما بنوا كنيسة وفتحوا بابها على وجوه الناس هدموا بذلك واحداً من بيوت الأوثان وأغلقوا بابه.

وكانوا لا يعتنون بمزاحمة رؤساء الوثنيّة في هدم أساسهم، ولا بملوك الوقت وحكّامه في التعالي عن خضوعهم وفي مخالفة أحكامهم ودساتيرهم وربّما كان ذلك يؤدّيهم إلى الهلاك والقتل والحبس والعذاب فكان لا تزال تقتل طائفة وتسجن اُخرى وتشرّد ثالثة.

وكان الأمر على هذه الصفة إلى أوان ملك القيصر (كنستانتين) فآمن بالملّة المسيحيّة وأعلن بها فأخذ التنصّر بالرسميّة وبنيت الكنائس في الروم وما يتبع إمبراطوريّته من الممالك وذلك في النصف الأخير من القرن الرابع الميلاديّ.

تمركزت النصرانيّة يومئذ في كنيسة الروم وأخذت تبعث القسّيسين إلى أكناف الأرض من البلاد التابعة يبنون الكنائس والديرات ومدارس يدرسون بها التعليم الإنجيليّ.

والّذي يجب إلتفات النظر إليه أنّهم وضعوا البحث على اُصول مسلّمة إنجيليّة فأخذوا التعاليم الإنجيليّة كمسألة الأب والابن والروح، ومسألة الصلب والفداء وغير ذلك اُصولاً مسلّمة وبنوا البحث والتنقير عليها.

٣٥٥

وهذا أوّل ما ورد على أبحاثهم الدينيّة من الوهن والوهي فإنّ استحكام البناء المبنيّ وإن بلغ ما بلغ واستقامته لا يغني عن وهن الأساس المبنيّ عليه شيئاً وما بنوا عليه من مسألة تثليث الوحدة والصلب والفداء أمر غير معقول.

وقد اعترف عدّة من باحثيهم في التثليث بأنّه أمر غير معقول لكنّهم اعتذروا عنه بأنّه من المسائل الدينيّة الّتي يجب أن تقبل تعبّداً فكم في الأديان من مسألة تعبديّة تحيلها العقول.

وهو من الظنون الفاسدة المتفرّعة على أصلهم الفاسد، وكيف يتصوّر وقوع مسألة مستحيلة في دين حقّ؟ ونحن إنّما نقبل الدين ونميّز كونه دين حقّ بالعقل وكيف يمكن عند العقل أن تشتمل العقيدة الحقّة على أمر يبطله العقل ويحيله؟ وهل هذا إلّا تناقض صريح؟

نعم يمكن أن يشتمل الدين على ممكن يخرق العادة الجارية، والسنّة الطبيعيّة القائمة، وأمّا المحال الذاتيّ فلا البتّة.

وهذا الطريق المذكور من البحث هو الّذي أوجب وقوع الخلاف والمشاجرة بين الباحثين المتفكّرين منهم في أوائل انتشار صيت النصرانيّة وانكباب المحصّلين على الأبحاث المذهبيّة في مدارس الروم والإسكندريّة وغيرهما.

فكانت الكنيسة تزيد كلّ يوم في مراقبتها لوحدة الكلمة وتهيّئ مجمعاً مشكّلاً عند ظهور كلّ قول حديث وبدعة جديدة من البطارقة والأساقفة لإقناعهم بالمذهب العامّ وتكفيرهم ونفيهم وطردهم وقتلهم إذا لم يقنعوا.

وأوّل مجمع عقدوه مجمع نيقيه لمّا قال أريوس: إنّ اُقنوم الابن غير مساو لاُقنوم الأب وإنّ القديم هو الله والمسيح مخلوق.

اجتمعت البطارقة والمطارنة والأساقفة في قسطنطينيّة بمحضر من القيصر كنستانتين وكانوا ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلاً واتّفقوا على هذه الكلمة( نؤمن بالله الواحد الأب مالك كلّ شئ وصانع ما يرى وما لا يرى وبالابن الواحد يسوع المسيح

٣٥٦

ابن الله الواحد، بكر الخلائق كلّها، وليس بمصنوع، إله حقّ من إله حقّ، من جوهر أبيه الّذي بيده اُتقنت العوالم وكلّ شئ، الّذي من أجلنا ومن أجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسّد من روح القدس، وولد من مريم البتول، وصلب أيّام فيلاطوس، ودفن، ثمّ قام في اليوم الثالث، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين أبيه، وهو مستعدّ للمجئ تارة اُخرى للقضاء بين الأموات والأحياء ونؤمن بروح القدس الواحد، روح الحقّ الّذي يخرج من أبيه، وبمعموديّة(١) واحدة لغفران الخطايا، وبجماعة واحدة قدسيّة مسيحيّة - جاثليقيّة وبقيام أبداننا(٢) والحياة أبد الآبدين(٣) ) .

هذا هو المجمع الأوّل، وكم من مجمع بعد ذلك عقدوه للتبرّي عن المذاهب المستحدثة كمذهب النسطوريّة واليعقوبيّة والأليانيّة واليليارسيّة و المقدانوسيّة والسباليوسيّة والنوئتوسيّة والبولسيّة وغيرها.

ومع هذا كانت الكنيسة تقوم بالواجب من مراقبتها، ولا تتوانى ولا تهن في دعوتها وتزيد كلّ يوم في قوّتها وسيطرتها حتّى وفّقت لجلب سائر دول اُوروبه إلى التنصّر كفرنسا و الإنجليز والنمسا والبروس والإسبانيا والبرتغال والبلجيك وهولاندا وغيرهم إلّا الروسيا أواخر القرن الخامس الميلاديّ سنة ٤٩٦.

ولم تزل تتقدّم وترتقي الكنيسة من جانب، ومن جانب آخر كانت تهاجم الاُمم الشماليّة والعشائر البدويّة على الروم، والحروب والفتن تضعّف سلطنة القياصرة،

____________________

(١) المراد بالمعمودية طهارة الباطن وقداسته.

(٢) أورد عليه أنّه يستلزم القول بالمعاد الجسمانيّ والنصارى تقول بالمعاد الروحانيّ كما يدلّ عليه الانجيل وأظنّ أنّ الانجيل إنّما يدلّ على عدم وجود اللذائذ الجسمانيّة الدنيويّة في القيامة وأمّا كون الإنسان روحاً مجرّداً من غير جسم فلا دلالة فيه عليه بل يدلّ على أنّ الإنسان يصير في المعاد كالملائكة لا ازدواج بينهم وظاهر العهدين أنّ الله سبحانه وملائكته جميعاً أجسام فضلا عن الإنسان يوم القيامة.

(٣) الملل والنجل للشهرستاني.

٣٥٧

وآل الأمر إلى أن أجمعت أهل الروم والاُمم المتغلّبة على إلقاء زمام اُمور المملكة إلى الكنيسة كما كانت زمام اُمور الدين بيدها فاجتمعت السلطنة الروحانيّة والجسمانيّة لرئيس الكنيسة اليوم وهو (البابا جريجوار) وكان ذلك سنة ٥٩٠ الميلاديّة.

وضارت كنيسة الروم لها الرئاسة المطلقة للعالم المسيحيّ غير أنّ الروم لمّا كانت انشعبت إمبراطوريّته إلى الروم الغربيّ الّذي عاصمتها رومة، والروم الشرقيّ الّذي عاصمتها قسطنطينيّة كانت قياصرة الروم الشرقيّ يعدّون أنفسهم رؤساء دينيّين لمملكتهم من غير أن يتّبعوا كنيسة روما وهذا مبدأ انشعاب المسيحيّة إلى الكاثوليك، أتباع كنيسة روما والأرثوذوكس وهم غيرهم.

وكان الأمر على ذلك حتّى إذا فتحت قسطنطينيّة بيد آل عثمان، وقتل القيصر (بالي اُولوكوس) وهو آخر قياصرة الروم الشرقيّ وقسّيس الكنيسة اليوم (قتل في كنيسة(أياصوفيا)).

وادّعى وراثة هذا المنصب الدينيّ أعني رئاسة الكنيسة قياصرة روسيا لقرابة سببيّة كانت بينهم وبين قياصرة الروم، وكانت الروس تنصّرت في القرن العاشر الميلاديّ فصارت ملوك روسيا قسّيسي كنيسة أرضهم غير تابعة لكنيسة رومة، وكان ذلك سنة ١٤٥٤ الميلاديّة.

وبقي الأمر على هذا الحال نحواً من خمسة قرون حتّى قتل (تزار نيكولا) وهو آخر قياصرة الروسيا قتل هو وجميع أهل بيته سنة ١٩١٨ الميلاديّة بيد الشيوعيّين فعادت كنيسة رومة تقريباً إلى حالها قبل الانشعاب.

لكنّ الكنيسة في أثر ما كانت تحاول رؤسائها السلطة على جميع جهات حياة الناس في القرون الوسطى الّتي كانت الكنيسة فيها في أوج ارتقائها وإرتفاعها ثار عليها جماهير من المتديّنين تخلّصاً من القيود الّتي كانت تحملها عليهم الكنيسة.

فخرجت طائفة عن تبعيّة أحكام رؤساء الكنيسة والباباوات وطاعتهم مع البقاء على طاعة التعليم الإنجيليّ على ما يفهمه مجامعهم، ويقرّره اتّفاق علمائهم وقسّيسهم وهؤلاء هم الأرثوذكس.

٣٥٨

 وطائفة خرجت عن متابعة كنيسة رومة أصلاً فليسوا بتابعين في التعليم الإنجيليّ لكنيسة رومة ولا معتنين للأوامر الصادرة منها وهؤلاء هم البروتستانت.

فأنشعب العالم المسيحيّ اليوم إلى ثلاث فرق: الكاثوليك وهي التابعة لكنيسة رومة وتعليمها والاُورثوذكس وهي التابعة لتعليم الكنيسة دون نفسها وقد حدثت شعبتهم بحدوث الانشعاب في الكنيسة وخاصّة بعد انتقال كنيسة قسطنطينيّة إلى مسكو بالروسيا (كما تقدّم) والبروتستانت وهي الخارجة عن تبعيّة الكنيسة وتعليمها جميعاً. وقد استقلّت طريقتهم وتظاهرت في القرن الخامس عشر الميلاديّ.

هذا إجمال ما جرى عليه الدعوة المسيحيّة في زمان يقرب من عشرين قرناً والبصير بالغرض الموضوع له هذا الكتاب يعلم أنّ القصد من ذكر جمل تاريخهم:

أوّلا: أن يكون الباحث على بصيرة من التحوّلات التاريخيّة في مذهبهم والمعاني الّتي يمكن أن تنتقل إلى عقائدهم الدينيّة بنحو التوارث أو السراية أو الانفعال بالامتزاج أو الإلف والعادة من عقائد الوثنيّة والأفكار الموروثة منهم أو المأخوذة عنهم.

وثانياً: أنّ اقتدار الكنيسة وخاصّة كنيسة رومة بلغ بالتدريج في القرون الوسطى الميلاديّة إلى نهاية أوجه حتّى كانت لهم سيطرة الدين والدنيا وانقادت لهم كراسيّ الملك بأوربه فكان لهم عزل من شاءوا ونصب من شاءوا(١) .

يروى أنّ البابا مرّة أمر إمبراطور آلمانيا أن يقف ثلاثة أيّام حافياً على باب قصره في فصل الشتاء لزلّة صدرت منه يريد ان يغفرها له(٢) .

ورفس البابا مرّة تاج الملك برجله حيث جائه جاثياً يطلب المغفرة(٣) .

وقد كانوا وصفوا المسلمين لأتباعهم وصفاً لم يدعهم إلّا أن يروا دين الإسلام دين الوثنيّة يستفاد ذلك من الشعارات والأشعار الّتي نظموها في استنهاض النصارى و

____________________

(١) الفتوحات الإسلاميّة.

(٢) المدرك السابق.

(٣) المدرك السابق.

٣٥٩

تهييجهم على المسلمين في الحروب الصليبيّة الّتي نشبت بينهم وبين المسلمين سنين متطاولة.

فإنّهم كانوا(١) يرون أنّ المسلمين يعبدون الأصنام وأنّ لهم آلهة ثلاثة أسماؤها على الترتيب (ماهوم) ويسمّى بافوميد وماهومند وهو أوّل الآلهة وهو (محمّد) وبعده (ايلين) وهو الثاني وبعده (ترفاجان) وهو الثالث وربّما يظهر من بعض كلماتهم أنّ للمسلمين إلهين آخرين وهما (مارتوان) و(جوبين) ولكنّهما بعد الثلاثة المتقدّمة رتبة وكانوا يقولون: إنّ محمّداً بنى دعوته على دعوى الاُلوهيّة وربّما قالوا: إنّه كان اتّخذ لنفسه صنماً من ذهب.

وفي أشعار ريشار الّتي قالها لاستنهاض الإفرنج على المسلمين: (قوموا وقلّبوا ماهومند وترفاجان وألقوهما في النار تقرّباً من إلهكم).

وفي أشعار رولان في وصف (ماهوم) إله المسلمين: (إنّه مصنوع تامّاً من الذهب والفضّة ولو رأيته أيقنت أنّه لا يمكن لصانع أن يصوّر في خياله أجمل منه ثمّ يصنعه عظيمة جثّته جيّدة صنعته وفي سيمائه آثار الجلالة ظاهرة ماهوم مصنوع من الذهب والفضّة يكاد سنا برقه يذهب بالبصر. وقد اُقعد على فيل هو من أحسن المصنوعات وأجودها بطنه خال وربّما أحسّ الناظر من بطنه ضوءاً هو مرصّعة بالأحجار الثمينة المتلالئة، يرى باطنه من ظاهره ولا يوجد له في جودة الصنعة نظير.

ولمّا كانت آلهة المسلمين يوحون إليهم في مواقع الشدّة وقد انهزم المسلمون في بعض حروبهم بعث قائد القوم واحداً في طلب إلههم الّذي كان بمكّة (يعني محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم)). يروي بعض من شاهد الواقعة: أنّ الإله (يعني محمّداً) جائهم وقد أحاط به جمّ غفير من أتباعه وهم يضربون الطبول والعيدان والمزامير والبوقات المعمولة من فضّة ويتغنّون ويرقصون حتّى أتوا به إلى المعسكر بسرور وترح ومرح، وقد كان خليفته منتظراً لقدومه فلمّا رآه قام على ساقه، واشتغل بعبادته بخضوع وخشوع.

____________________

(١) هذا وما بعده إلى آخر الفصل منقول عن ترجمة كتاب (هنري دوكاستري) في الديانة الإسلاميّة الفصل الأوّل منه.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578