شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم10%

شبهات وردود حول القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 578

شبهات وردود حول القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 578 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 297572 / تحميل: 13676
الحجم الحجم الحجم
شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

ونتيجةً على ما سبق، كان تفضيل الرجل على المرأة بدرجة ناظراً إلى جهة قِوامته في الأسرة، وهذه القِوامة تعود إلى خصائص في تكوين الرجل ووظيفته التي خوّلها له عرف الحياة الزوجيّة، فنعود نقرأ الآية: ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ) في تكوينه ( وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ) حسب وظيفتهم العائليّة.

قال الشيخ مُحمّد عبده: وأمّا قوله تعالى: ( وَلِلرّجَالِ عَلَيْهِنّ دَرَجَةٌ ) فهو يُوجب على المرأة شيئاً وعلى الرجل أشياء؛ ذلك أنّ هذه الدرجة هي درجة الرئاسة والقيام على المصالح المفسَّرة بقوله تعالى: ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ) فالحياة الزوجيّة حياة اجتماعيّة، ولا تقوم مصلحة هذه الحياة إلاّ برئيس مُطاع، والرجل أَحقُّ بالرئاسة؛ لأنّه أعلم بالمصلحة وأقدر على التنفيذ بقوّته وماله، ومِن ثَمّ كان هو المـُطالب شَرعاً بحماية المرأة والنفقة عليها (١) .

وقد فسّر العلاّمة الطباطبائي ( المعروف ) في الآية (٢) بما عرفه الناس واستأنسوا به وِفق فطرتهم الأصيلة، فكان مِن المعروف أيضاً أنْ يَتفاضل الرجل على المرأة بدرجة، حَسب ما منحت الفطرة لكلٍّ مِنهما من استعدادات وقُوى و صلاحيّات ووظائف في حياتهما الاجتماعيّة... وشرح ذلك شرحاً مستوفىً على أصول متينة، فراجع (٣) .

تفضيل البنين على البنات

قالوا: إنّ في القرآن كثيراً من تعابير جاء فيها التنويه بشأن البنين وتفضيلهم على البنات، الأمر الذي يدلّ على تأثّره بالبيئة العربيّة الجاهلة؛ حيث كانوا يئدون البنات خَشية العار. ( وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) (٤) .

نرى أنّ القرآن الكريم قد شنّع القوم على فكرتهم هذه الجاهلة ووَبَّخَهم في الفَرْقِ بين البنين والبنات أشدّ تشنيع وتوبيخ.

____________________

(١) تفسير المنار، ج ٢، ص ٣٨٠، وج ٥، ص ٦٧.

(٢) في قوله تعالى ( وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) ، البقرة ٢: ٢٢٨.

(٣) تفسير الميزان، ج ٢، ص ٢٤٣ و ٢٧٣ - ٢٩١.

(٤) النحل ١٦: ٥٨ و ٥٩.

١٢١

ولكن مع ذلك قد نجد في القرآن مواضع فيها بعض المـُرافَقة مع القوم؟!

فقد كانت العرب ترى من الملائكة إناثاً وأنّهنّ بنات الله سبحانه: ( فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ * أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ * أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) (١) .

فجاء التشنيع في هذه الآيات من ناحيتين: أوّلاً: زعموا من الملائكة إناثاً، وثانياً: أنّهنّ بناته تعالى من صُلبه وأنّه تعالى وَلَدَهنّ!

وجرياً مع عادة العرب في الازدراء بشأن البنات يستنكر عليهم: كيف اصطفى البنات على البنين؟! ( أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى ) (٢) أي قسمة غير عادلة ( أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ * وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ) (٣) .

وفي هذه الآية جاء الفارق بين الذكر والأنثى ناشئاً من جبلّتهما، لتكون المرأة بدافع من فطرتها الأُنوثيّة تنجذب إلى الزبارج أكثر من اهتمامها بواقعيّات الأُمور، ومن جانب آخر هي ذات طبيعة رقيقة لا تُقاوِم تجاه الكوارث، فتنفعل فورَ اصطدامها بمضطلمات الحوادث، فهي بذات فطرتها ونشأتها غير صالحة لمقابلة شدائد الحياة وعاجزة عن حلّ متشابك المعضلات، فقد جمعت بين الظرافة والضَعف، على عكس الرجل الذي يملك صَلابة وقوّة إرادة.

ومِن ثَمّ تعقّبت الآية بالاستنكار على مزعومتهم في الملائكة أنّهم إناث: ( وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ) (٤) .

وقد عبّر القرآن عن الملائكة بصفة الذُّكور: ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِم ْفَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ

____________________

(١) الصافّات ٣٧: ١٤٩ - ١٥٥.

(٢) النجم ٥٣: ٢١ و ٢٢.

(٣) الزخرف ٤٣: ١٦ - ١٨.

(٤) الزخرف ٤٣: ١٩.

١٢٢

وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا... ) (١) ، والضمائر كلّها جمع ذُكور، وهكذا في سائر مواضع القرآن (٢) .

ومِن ثَمّ وجّه إليهم التوبيخ اللاذع: ( أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً ) (٣).

كلّ ذلك إن دلّ فإنّما يدلّ على ازدراءٍ بشأن الأُنثى، جرى عليه العرب وجاراهم القرآن.

لكن ليس في شيءٍ من هذه التعابير اللاّذعة الموبِّخة للعرب أيّ تعيير أو شائنة بشأن المرأة في ذات نفسها، لا تصريحاً ولا تلويحاً، وإنّما توجّه التشنيع على العرب بالذات في نظرتهم الخاطئة بشأن الملائكة، وأنّهم إناث، وبنات لله سبحانه ( أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ ) (٤) وأنّ وُلْدَه بنات (٥) ، ومِن ثَمّ يُسَمّون الملائكةَ تسمية الأُنثى (٦) ، الأمر الذي يدلّ على سَفاهة عقولهم وغايةِ جَهْلِهم بما وراء سِتار الغيب؛ ذلك مبلغهم مِن العلم وإنْ هم إلاّ يخرصون.

والذي يبدو عليه أثر السفاهة أنّهم نسبوا إلى الله ما يكرهونه لأنفسهم، فجعلوا لأنفسهم المـُفضّل من الوُلْد، وأمّا المـُشنَّع فجعلوه لله سبحانه، وهي قِسمة غير عادلة حتّى في غياهب أوهام الخيال.

فكان موضع التشنيع هو هذا التقسيم غير العادل حتّى في مفروض الأوهام، الأمر الذي ليس فيه أيّ تقرير للتفضيل المزعوم أو اعتراف به في واقع الأمر! فلم تكن هناك مجاراةٌ، وإنّما هي منابذة صريحة على أصول الجَدل في محاورة الكلام.

* * *

____________________

(١) البقرة ٢: ٣٠ - ٣٤.

(٢) وسنتكلّم عن مواضع جاء التعبير فيها بالتأنيث في مثل المدبّرات ونحوها.

(٣) الإسراء ١٧: ٤٠.

(٤) الصافّات ٣٧: ١٥١ و ١٥٢.

(٥) الزخرف ٤٣: ١٦ - ١٨.

(٦) النجم ٥٣: ٢٧.

١٢٣

وأمّا التعبير بجمع المـُؤنث السالم (بالألف والتاء) في قوله تعالى: ( وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً * وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً * فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً * فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً ) (١) ، وكذا قوله: ( وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً ) إلى قوله: ( فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً ) (٢) وقوله: ( لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ) (٣) بناءاً على أنّ المراد هم الملائكة القائمة بهذه الأمور، فتأويل ذلك كلّه أنّه باعتبار كون الموصوف هم الجماعات؛ لأنّ القائم بهذه الأمور هم جماعات الملائكة لا الآحاد، فكما أنّ الجماعة تُجمع على الجماعات، كذلك الجماعة النازعة تُجمع على النازعات، وهلمـّ جرّاً، كما أنّ الشخصيّة أيضاً تُجمع على الشخصيّات، وليس كلّ جمع بالألف والتاء دليلاً على تأنيث المفرد كما في جمع القياس على القياسات، وكلّ اسم مفرد - في المصدر قياساً وفي غيره سماعاً - إذا جاوز ثلاثة حروف يُجمع بالألف والتاء، كالتعريفات والامتيازات، ومن السُّماعي نحو السماوات وسُرادِقات وسِجِلاّت وغير ذلك.

ومِن ثَمّ عاد ضمير الجمع المـُذكّر إلى المعقِّبات ( يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ) ، وهو دليل على عدم تحتّم الجمع بالألف والتاء خاصّاً بالإناث.

ولأبي مسلم محمد بن بحر الأصفهاني هنا كلام - نقله الفخر الرازي - يُرجِّح عدم كون هذه الجُموع أوصافاً للملائكة، وإنّما هي أوصاف للأَيدي والسهام والخيول والإبل في ساحة القتال... (٤) .

للذكر مثل حظّ الأُنثيين

ممّا أثار النقاش حول نظرة الإسلام عن المرأة هي مسألة إرثُها نصف إرث الرجل، وربّما كان الجَدل عنيفاً في أوساط أُمَميّة وفي مؤتمرات عالميّة حول قضية المرأة، وممّا توافق عليه مُمَثِّلو الدول الإسلاميّة مع خصومهم هو أنّ الإسلام أقرّ للمرأة ميراثها إجماليّاً

____________________

(١) النازعات ٧٩: ١ - ٥.

(٢) المرسلات ٧٧: ١ - ٥.

(٣) الرعد ١٣: ١١.

(٤) تفسير الكبير، ج ٣١، ص ٣١، وتفسير أبي مسلم، ص ٣٥١ - ٣٥٢.

١٢٤

تجاه الأَنظمة القديمة وبعض الأنظمة القبائليّة القائلة بحرمانها من الإرث رأساً، واقتنعوا بهذا القَدَر مِن التوافق بشأن إرث المرأة، مع الغضّ - حاليّاً - عن المقدار وسائر الجوانب الّتي يُفصّلها الإسلام.

لكنَّ الإسلام باعتباره شريعة الله الخالدة الجامعة الشاملة قد قال كلمته الأخيرة ولا مجال للمـُحاباة فيما حَكَم به الإسلام حُكمَه الباتّ الصريح الأبدي، ونحن نرى أيَّ تَوافق - يستلزم تنازلاً مّا عن الأُسُس الإسلاميّة - مداهنةً وتراجعاً أمام هجمات العدوّ الجاهل، الأمر الذي يبدو على مُحيّاه الوهن والضَعف المـَقيت.

إنّ البيئة التي يَرسمها الإسلام للحياة الاجتماعيّة - سواء في صورتها الصُغرى (الأُسرة) أو الكبرى العامّة - تجعل من وظائف الرجل أثقل، وإنّ مسؤوليّته في حمل أعباء الحياة أشمل، حسبَما أُوتيَ مِن قدرةٍ وتفكيرٍ أوسع، فكان بطبيعة الحال أنْ يُجعل نصيبُه مِن الميراث أكثر.

إنّه تعالى يرفض أوّلاً تلك العادات الجاهليّة التي كانت تَحرم النساء عن الميراث ( لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً ) (١) وبذلك أَبطَلَ عادةً جاهليّةً كانت مُتحكِّمةً في نفوس أبناء الجزيرة، بل وفي أوساط أُمَميّة كانت سائدةً في أكثر أرجاء العالم المتحضّر يومذاك.

رُوي عن ابن عبّاس أنّه لمـّا نزلت الآية ثَقُلت على نفوسٍ جاهلة، فجعلوا يتخافتون فيما بينهم أنْ اسكتوا عن هذا الحديث فلعلّ رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله) ينساه، أو نقول له فيغيّره، فجاء بعضهم إليه وقال: كيف تُعطى الجاريةُ مِن الميراث وهي لم تركب الفرس ولم تُقاتل؟ وهم لا يُعطونها ولا الأطفال الصِغار إلاّ لمـَن استطاع الركوب والقتال! (٢) .

وبعد ذلك يأتي دور تعيين نصيبها من الميراث: ( يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ ) (٣) ، إنّ الله هو الذي يُوصي، وهو الذي يَفرض، فمِن عند الله ترد التنظيمات

____________________

(١) النساء ٤: ٧.

(٢) جامع البيان، ج ٤، ص ١٨٥.

(٣) النساء ٤: ١١.

١٢٥

والشرائع والقوانين، وعن الله يتلقّى الناس في أخصّ شؤونهم في الحياة، وهذا هو الدِّين، فليس هناك دِينٌ للناس إذا لم يتلقّوا في شؤون حياتهم كلِّها مِن الله وحده، وليس هناك إسلام إذا هم تلقّوا في أيّ أمرٍ من هذه الأمور - جلّ أو حَقُر - مِن مصدرٍ آخر، إنّما يكون الشرك أو الكفر، وتكون الجاهليّة التي جاء الإسلام ليَقتلع جُذورها من حياة الناس.

فليس للناس أنْ يقولوا: إنّما نختار لأنفسنا ولذُرّياتنا ونحن أعرف بمصالحنا.. فهذا - فوق أنّه باطل - هو في الوقت ذاته تَوقّح وتَبجّح وتَعالٍ على الله وادّعاء لا يَزعَمُه إلاّ مُتوقِّح جَهول.

وعليه، فليس الأمر في هذا أمر مُحاباة لجنسٍ على حساب جنس؛ إنّما الأمر تَوازُن وعَدل بين أعباء الرجل وأعباء المرأة في التكوين العائلي وفي النظام الاجتماعي الإسلامي، فالرجل يتزوّج امرأةً يُكلَّف إعالتها وإعالة أبنائها منه في كلِّ حالة، وهي معه وهي مُعفاة من هذه التكاليف، أمّا هي، فإمّا أنْ تقوم بنفسها فقط، وإمّا أن يقوم بها رجل قبل الزواج وبعده سواء، وليست مُكلَّفةً نفقة لزوج ولا للأبناء في أيّ حال.

فالرجل مُكلَّف - على الأقلّ - ضعف أعباء المرأة في التكوين العائلي وفي النظام الاجتماعي الإسلامي - أي النظام الذي رسمه لنا الإسلام - ومِن ثَمّ يبدو العَدْل كما يبدو التناسق بين الغُنْم والغُرم في هذا التوزيع الحكيم، فما دامت الحياة التي نَعيشُها في ظلّ الإسلام مُخطَّطَةً وِفق هذه الحِكمة الرشيدة، فهذا التوزيع يتطابق مع هذا المـُخطَّط ما دُمنا نعترف به ونستسلم لقيادته، ويبدو كلّ نقاش في هذا التوزيع جهالةً من ناحيةٍ، وسوءَ أدبٍ مع الله من ناحيةٍ أخرى، وزَعزَعةً للنظام الاجتماعي والأسري، لا تستقيمُ معها حياةٌ حَسب مُعتقدنا ونحن مسلمون، والتجربة العنيفة التي تجرَّعتها سائر الأُمَمِ ولا تزال هي خير شاهِدةٍ على اعتدال هذا النظام وانسجامه مع فطرة الإنسان وتكوينه في الحياة.

محاولات فاشلة

هنا وفي يومنا الحاضر نُجابِهُ محاولاتٍ يبدو الفشل في مُحيّاها، بعد حِيادها عن منهج فهمِ النصّ على ما رسمته طريقة الاستنباط من كتاب الله، فمِن قائل: إنّ النصّ الوارد

١٢٦

في القرآن الكريم جاء بلفظ التَوصية: ( يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ ) (١) ، والإيصاء ترغيب في الأمر وليس فرضاً واجباً؛ ولعلّ الشرائط الزمنيّة حينذاك كانت تستدعي هذا التفاضل المندوب إليه ولكن في وقتها، الأمر الذي لا يُحتِّم الحكم لا بصورةِ فرضٍ ولا بشكلٍ دائم على الإطلاق!

قالوا: واليوم، حيث تغيّرت الشرائط وتبّدلت الأحوال البيئيّة والاجتماعيّة العامّة فلا أرضيّة لهذا التفاضل، ولا هو يتناسب مع الأوضاع الراهنة المتغايرة مع الوضع القديم، لا سيّما والأمر لم يكن فرضاً بل مجرّد نَدبٍ، فلا مُقتضى في الوقت الحاضر للأخذ بهذا الأمر الذي كان راجحاً في ظرفه ولا رجحان له اليوم!

وقائل آخر: إنّه على فَرضِ إرادة الفريضة لكن التداوم لا مجال له بعد ملاحظة رَهنِ أحكام الشريعة - في قسمها المتغيّر - بأوقاتها وظروفها الخاصّة حيث المصالح المـُقتضية حينذاك والمـُنتفية في الحال الحاضر.

هذا القائل يرى مِن أحكام الشريعة على نوعين: ثابتة ومتغيِّرة، فالثابتة هي التي أصدرها صاحب الشريعة بشكلٍ عامّ شامل أبديّ؛ حيث ابتنائها على مصالح هي ثابتة لا تتغيّر مع الأبد وفي جميع الأحوال ومختلف الأوضاع، وذلك في مثل العبادات، الأمر الذي يختلف الحال فيه في مثل المعاملات والانتظامات، المتقيّدة بمصالح هي وقتيّة وفي تحوّل على مسرح الحياة، ففي هذا تكون الأصول ثابتة أمّا الفروع والتفاصيل فهي رَهْنُ شرائط الزمان، فيجوز التصرّف فيها حسب المـُقتَضَيات المؤاتية ولكن في ضوء تلك الأصول ومع الحفاظ عليها جذريّاً فحسب!

قلت: أمّا المـَزعُومة الأُولى فهي مُخالَفَةٌ صَريحةٌ لنصّ الكتاب العزيز؛ حيث تبتدئ آيات المواريث بلفظة الإيصاء، وتنتهي بما يجعل من هذا الإيصاء فرضاً مِن الله لا مجال للتخلّف عنه ( وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ * تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ

____________________

(١) النساء ٤: ١١.

١٢٧

حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ) (١) .

يعني: أنّ هذه الوصيّة من الله نافِذة لا مجال للتخلّف عنها؛ لأنّها تبيين لحدود الله التي مَن تعدّاها فسوف يُدخِله ناراً وله عذابٌ مُهين، والعذاب المـُهين هنا إشارة إلى أنّ المتجاوز لحريم الشريعة قد أطاح بكرامةِ نفسه وسقط حيث مستوى المـَهانة الفظيعة.

أفَبعد هذا التأكيد على الأخذ بما أوصى الله بشأن المِيراث يتجرّأ ذو مُسْكَةٍ على التلاعب بنصّ الكتاب، اللّهمّ إلاّ إذا فَقََدَ وعيه.

ثُمّ الذي يُفضَح مِن مُوضع هذه المـَزعُومة، أنّ لفظة الإيصاء بتصاريفها كلّها جاءت في القرآن بمعنى الإلزام والإيجاب، (٢) قال ابن منظور: وقوله عزّ وجلّ: ( يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ ) معناه: يَفرضُ عليكم؛ لأنّ الوصيّة مِن الله إنّما هي فَرضٌ؛ والدليل على ذلك قوله تعالى: ( قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ ) (٣) وهذا مِن الفَرضِ المـُحكم علينا (٤) .

وأمّا المـَزعومة الأخيرة فهي بمكانِ الوَهن، بعد أنْ كان الأصل في التشريع هي الأبديّة والشمول، أخْذاً بِعموم الخطاب وشمول إطلاقه لجميع الأجيال والأحوال والأزمان، وهي قاعدة أصوليّة مُطّردة، وإلى ذلك ينظر قوله (عليه السلام): (حلال مُحمّدٍ حلال أبداً إلى يوم القيامة، وحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة) (٥) اللّهمّ إلاّ إذا ثبت بدليلٍ خاصّ أنّ الحكم الذي أصدره النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) كان لمصلحةٍ استدعاها سياسة التدبير الحاضرة حينذاك، فيبقى قَيد تلك الشرائط ولا يَعمّ ولا يستديم على الإطلاق، وهذا بحاجة إلى دليل قاطع يُخرجه عن عموم الأصل المتقدّم، على أنّ ذلك خاصّ بالأحكام الصادرة عن مقام السياسة النبويّة وتكون مِن سُنَنِه، لا مِن فرائض الله الناصّ عليها في الكتاب.

____________________

(١) النساء ٤: ١٢ - ١٤.

(٢) راجع: البقرة: ١٣٢، الشورى: ١٣، الأنعام: ١٥١ - ١٥٣، النساء: ١٣١، الأحقاف: ١٥، وغيرها.

(٣) الأنعام ٦: ١٥١.

(٤) لسان العرب لابن منظور، ج ١٥، ص ٣٩٥.

(٥) راجع: الكافي، ج ١، ص ٥٨، رقم ١٩.

١٢٨

فالذي جاء في القرآن من الفرائض والأحكام هي من الثابتات مع الأبد بإجماع الأُمّة وإطباق كلمات العلماء جميعاً، فقد اتّفقت كلمتهم على أنّ ما جاء في القرآن من تشريع وفرائض وأحكام هي أبديّة مسجّلة على كاهل الدهر مع الأبد.

وعليه، فمَن كان يَحمل في طيِّه العقيدة بأنّ القرآن كلام سماويّ نزل من عند اللّه وأنّ ما فيه هي أحكام وفرائض فَرضَها اللّه تعالى للبشريّة جَمعاء على طُول الدهر، فلا مجال له أنْ يُحدِّث نفسه بما شاء، وأمّا إذا لا يعتقد ذلك ويَرى أنّها أحكام صادرة مِن عقليّة بشريّة أرضيّة لفّقتها - والعياذ باللّه - ذهنيّة مُحمّد (صلّى اللّه عليه وآله) حسبَما رآه في وقتهِ - وإنْ كان نَسَبها إلى اللّه في ظاهرِ تعبيره كما يراه هؤلاء المـُتحذلِقون - فليتحدّثوا بما شاءوا إلى مالا نهاية مِن هُراءات، ولا كلام لنا معهم ونَذَرهم في طُغيانهم يَعمَهون.

دية المرأة على النصف!

وإذ قد عرفنا موضع كلّ مِن الرجل والمرأة في الحياة العائليّة وِفق ما رَسَمها الإسلام، نعرف مَبلغ الخسارة التي تتحمّلُها على أَثر فِقدان عضوها من ذكرٍ أو أُنثى، إنّها إذا افتقدت أنثى فقد خَسِرتْ كافِلةَ العائلة ومربِّيتَها التي تفيض عليها بالعطف والحَنان وفي رِفقٍ ومُداراةٍ، أمّا إذا افتقدت ذكراً فقد خَسِرت حاميها وكافلَ مؤونتِها، وخَسِرت أضعافَ ما خَسِرت عند فِقدان أُنثى.

والدية جُبران للخَسارة إلى حدٍّ ممكن ومعقول، ومِن ثَمّ تحاسب على قَدَر ما خَسِره المـُجنى عليه عرفيّاً، وقد قدّره الشارع الحكيم بمقادير هو أعلم بتكافئها مع مقادير الخسارة الواردة، فليس هناك تفضيل وإنّما هو تدبير إلهٍ حكيم.

والمـَزعومة في حديث المواريث جَرَت هنا أيضاً وهي كأُختها مرفوضة ولا سيّما على وجه التنبيه الأخير.

والغريب - هنا - ما شذَّ عن بعض المـُعاصرينَ مِن القول بتساوي دية المرأة مع الرجلِ إطلاقاً، سواء كان في النفس أو الطَّرف؛ نظراً لإطلاق أدلّة الدية وعدم دليل معتبر

١٢٩

على التفريق فيما حَسب، وهكذا زَعْمُ التساوي في القِصاص من غير ردّ التفاضل (١) ، وهو خلاف إجماع الفقهاء عامّتهم وخاصّتهم:

قال ابن رُشْد الأندلسي: واتّفقوا على أنّ دية المرأة نصفُ دية الرجل في النفس، واختلفوا في الشِّجاج وأعضائها، فقال جمهور فقهاء المدينة: تساوي المرأة الرجل في عقلها والشِّجَاج والأعضاء إلى أنْ تبلغ ثُلُث الدية، فإذا بلغت ثُلُث الدية عادت ديتُها إلى النصف مِن دية الرجل، أعني دية أعضائها مِن أعضائه. ومِثال ذلك أنّ في كلّ إصبعٍ مِن أصابعها عشراً مِن الإبل، وفي اثنين منها عشرون، وفي ثلاثة ثلاثون، وفي أربعة عشرون.

وقال بعض الفقهاء: على النصف مطلقاً قياساً، وسأل ربيعة بن أبي عبد الرحمان - المعروف بربيعة الرأي - سعيد بن المـُسيّب: كم في أربعٍ مِن أصابعها؟ قال: عشرون، قال ربيعة: قلت: حين عَظُم جُرحُها واشتدّت بليّتُها نَقَص عقلُها (أي ديتها)! قال سعيد: أَعراقيٌّ أنت؟ [ حيث تقيس ] قلت: بل عالِم متثبِّت أو جاهِل متعلِّم، فقال سعيد: هي السُنّة (٢) .

رَوَوْا عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (أنّ دية المرأة على النصف من دية الرجل).

ورَوَوا عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (المرأة تُعاقِل الرجل إلى ثُلُث الدية) (٣) .

قال عَميد الطائفة الشيخ المفيد أبو عبد اللّه مُحمّد بن مُحمّد بن النعمان: والمرأة تُساوي الرجل في دِيات الأعضاء والجوارح حتّى تَبلغ ثُلُث الدية، فإذا بلغته رجعت إلى النصف من دِيات الرجال، مثال ذلك: أنّ في إصبعِ الرَّجُل إذا قُطعت عشراً من الإبل، وكذلك في إصبع المرأة سواء، وفي الإصبعين منهما عشرون، وفي ثلاث أصابع منهما ثلاثون، وفي أربع أصابع الرجل أربعون من الإبل، وفي المرأة عشرون؛ لأنّها زادت على الثُلُث فرجعت بعد الزيادة إلى أصل دية المرأة - وهي النصف من دِيات الرجال - ثُمّ على الحساب كلّما زادت أصابِعُها وجوارحها وأعضاؤها على الثُلُث رجعت إلى النصف... قال:

____________________

(١) منتخب الأحكام ليوسف الصانعي، ص٢٤٩، م٧٩٧.

(٢) بداية المجتهد لابن رُشد، ج٢، ص٤٦٠.

(٣) الفقه على المذاهب الأربعة للجزيري، ج٥، ص٣٧١.

١٣٠

وبذلك ثَبَتت السُنّة عن نبيّ الهدى (صلّى اللّه عليه وآله) وبه تواترت الأخبار عن الأئمة مِن آله (عليهم السلام) (١) .

وبذلك صرّحت صحيحة أبان عن الصادق (عليه السلام) وقد أجاب الإمام في دفع استغراب أبان ما أجابَ سعيد بن المسيّب لربيعة الرأي، قال (عليه السلام): (يا أبان، إنّك أخذتني بالقياس، والسُنّة إذا قِيست مُحِق الدِّين) (٢) .

وقال شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي: دية المرأة نصف دية الرجل، وبه قال جميع الفقهاء، وقال ابن عليّة والأصم - مِن العامّة -: هما سواء في الدية، قال: دليلنا إجماع الفِرقة. وأيضاً رُوي عن النبي (صلّى اللّه عليه وآله) ذلك، وروى معاذ نحوَ هذا عن رسول اللّه، وهو إجماع الأُمّة، وروى ذلك عن عليّ عليه الصلاة والسلام.

قال: المرأة تُعاقل الرجل إلى ثُلُث ديتها في الأَرُوش المـُقدَّرة، فإذا بلغته فعلى النصف... قال: دليلنا إجماع الفِرقة وأخبارهم. وفسّر السُنّة في كلام سعيد بسُنّة النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) وإجماع الصحابة والتابعين (٣) .

وقال السيّد العاملي: وإجماعنا محصّل ومحكّي في كلام جماعة، وفي الرياض: أنّ حكايتَه مستفيضة حدّ الاستفاضة مضافاً إلى الصِّحاح المستفيضة وغيرها مِن المـُعتَبَرة التي كادت تكون مُتواترةً، ولم يُنقل الخلاف عن أحدٍ مِن علماء المسلمين سِوى ما عن ابن عليّة والأصمّ على ما حكاه الشيخ (٤) .

أمّا الروايات عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) فبالغة حدّ التواتر وفيها الصِّحاح وذوات الاعتبار على حدّ الاستفاضة كما ذكره السيّد الطباطبائي صاحب الرياض.

روى محمّد بن يعقوب الكُليني بإسناده الصحيح عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (ودية المرأة نصف دية الرجل) (٥) .

وأيضاً بإسناده الصحيح عنه (عليه السلام) في رجلٍ قَتَل امرأةً متعمِّداً، قال: (إنْ شاء أهلُها أنْ

____________________

(١) المقنعة للمفيد، ص٧٦٤، ووسائل الشيعة، ج٢٩، ص٣٥٣.

(٢) وسائل الشيعة، ج٢٩، ص٣٥٢، باب ٤٤ من أبواب دِيات الأعضاء.

(٣) كتاب الخلاف للطوسي، ج٢، ص٣٩٠ - ٣٩١، مسألة ٦٣ و٦٤.

(٤) مفتاح الكرامة للسيّد العالمي، ج١٠، ٣٦٨.

(٥) الكافي، ج٧، ص٢٩٨، رقم ١، ووسائل الشيعة، ج٢٩، ص٢٠٥، باب ٥ من أبواب الديات.

١٣١

يَقتُلوه ويؤَدُّوا إلى أهلِه نصفَ الدية، وإنْ شاءوا أخذوا نصفَ الدية: خمسة آلاف درهم) (١) .

وفي الصحيح أيضاً: سُئل عن رجلٍ قتل امرأةً خطأً، قال: (عليه الدية خمسة آلاف درهم) (٢) .

وروى الشيخ بإسنادٍ صحيح عن الإمام أبي جعفر الباقر (عليه السلام) في الرجل يَقتل المرأة، قال: (إنْ شاءَ أولياؤُها قَتَلوه وغَرِموا خمسةَ آلاف درهم لأولياء المقتول، وإن شاءوا أخذوا خمسة آلاف درهم من القاتل) (٣) .

وأَورَد الحرّ العاملي في الباب ٥ من أبواب الديات (٤) والباب ٣٣ من أبواب القِصاص في النفس (٥) أحاديث متضافرة جلّها صِحاح في أنّ دية المرأة نصفُ دية الرجل سواء في الخطأ أو العَمْد، وكذلك في ردِّ التفاضل إذا كان القاتل رجلاً.

وأورد في الباب ٤٤ من أبواب دِيات الأعضاء (٦) والباب ٣ من أبواب دِيات الشِّجَاج والجِراحات (٧) أنّ المرأة تُعاقل الرجل إلى أن تبلغ ثُلُث الدية فإذا جاوزت الثُلُث رجعت إلى النصف، حديثٌ متضافر بل متواتر.

وعليه، فلا مجال للتشكيك في المسألة من الناحية الفقهيّة حَسَب ضوابط الأُصول.

المرأة في مجال الشهادة

قال تعالى: ( وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى ) (٨) .

كانت شهادةُ رجلٍ واحدٍ تعادل شهادة امرأتين، ولماذا؟

وجاء التعليل في الآية بأنّ إحداهما قد تَضِلّ فيما تَحمّلته حين الأداء، فكانت

____________________

(١) الكافي، ص٢٩٩، رقم ٤.

(٢) المصدر: رقم ٥.

(٣) تهذيب الأحكام للطوسي، ج١٠، ص١٨٢، رقم ٧١٣.

(٤) وسائل الشيعة، ج٢٩، ص٢٠٥ - ٢٠٦ وفيه أربعة أحاديث، ط آل البيت.

(٥) المصدر: ص٨٠ - ٨٧ وفيه ٢١ حديثاً.

(٦) المصدر: ص٣٥٢ - ٣٥٣ وفيه ثلاثة أحاديث.

(٧) المصدر: ص٣٨٣ - ٣٨٤ وفيه حديثان.

(٨) البقرة ٢: ٢٨٢.

١٣٢

الأُخرى هي التي تذكِّرُها ما غاب عنها، فكانت شهادة المرأتين بتذكّر إحداهما للأُخرى، بمَنزلة شهادةِ رجلٍ واحد.

وذلك أنّ المرأة أكثر عُرضَةٍ للنسيان فيما لا يعود إلى إلى شؤون نفسها بالذات ممّا لا يُهمُّها في حياتها الأُنوثيّة، فربّما لا تضبط تفاصيل ما تحمّلته بجميع خصوصيّاته وجزئيّاته ولا سيّما إذا بَعُد عهد الأداء عن عهد التحمّل، فكانت كلّ واحدةٍ منهما تُذَكِّر الأُخرى ما ضلَّ عنها، وبذلك تَكمُل شهادتُهما معاً كشهادةٍ واحدة بتلفيقِ بعضها مع بعض وضمِّ بعضِها إلى بعض، بتفاعل الذاكِرَتَينِ وتعاملِهما بعضاً إلى بعض، الأمر الذي لا يجوز في شهادة الرجال، فلو اختلفت الشهادات ولو في بعض الخصوصيّات فَقَدت اعتبارُها؛ ومِن ثَمّ جاز التفريق في شهادة الشهود لغرض الاستيثاق.

قال الشيخ مُحمّد عَبدَه: إنّ اللّه تعالى جَعَلَ شهادة المرأتين شهادةً واحدة، فإذا تَرَكَت إحداهما شيئاً مِن الشهادة كأن نَسَيتْه أو ضلَّ عنها تُذَكِّرُها الأُخرى وتَتمّ شهادتُها، وللقاضي بلْ عليه أنْ يسأل إحداهما بحضور الأُخرى ويعتدّ بجُزءِ الشهادة مِن إحداهما وبباقيها مِن الأُخرى، قال: هذا هو الواجب وإنْ كان القُضاة لا يَعمَلون بِه جَهلاً منهم.

وأمّا الرجال فلا يجوز له أنْ يُعامِلَهم بذلك، بل عليه أنْ يُفرّق بينهم، فإن قصّر أحد الشاهِدَينِ أو نسيَ فليس للآخر أنْ يُذكِّره، وإذا ترك شيئاً تكون الشهادة باطلة، يعني إذا تَرك شيئاً ممّا يُبيِّن الحقَّ فكانت شهادته وحده غير كافية لبيانه فإنّه لا يعتدّ بها ولا بشهادة الآخر وإنْ بُيّنت (١) .

وقالوا في سبب ذلك: إنّ المرأة ليس من شأنها الاهتمام بالأُمور الماليّة ونحوها مِن المـُعاوضَات؛ فلذلك تكون ذاكرتُها فيها ضعيفةً، ولا تكون كذلك في الأُمور المنزليّة التي هي شُغلُها فإنّها فيها أقوى ذاكِرةً مِن الرجُل، يعني أنّ مِن طَبْعِ البشر - ذُكراناً وإناثاً - أنْ يَقوى تذكّرُهم للأُمور التي تُهمّهم ويَكثُر اشتغالهم بها، ولا ينافي ذلك اشتغال بعض نساء الأجانب في هذا العصر بالأعمال الماليّة، فإنّه قليل لا يعوَّل عليه، والأحكام العامّة إنّما تُناط بالأكثر في الأشياء وبالأصل فيها (٢) .

____________________

(١) تفسير المنار، ج٣، ص١٢٥.

(٢) المصدر: ص١٢٤.

١٣٣

نعم، المرأة إنّما تَهتمّ اهتمامها البالغ بما يَعود إلى ذات نفسها وإلى ما يرتبط وشؤونها الأُنوثيّة وزبارج الحياة، ولا تُعير بشؤون خارج حياتها الأُنوثيّة الزُخرفيّة ذلك الاهتمام، وتبعاً لذلك يكون عَمَلُ ذاكِرتِها - على غِرار سائر قُواها العقلانيّة والجسمانيّة - في هذا الجانب ينمو ويشتد، وبنفس النسبة يأخذ في الضَعف والوَهن في الجانب الآخر.

وفي دراسة عميقة بشأن حالة المرأة النفسيّة جاءت في آية أُخرى: ( أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ) (١) ، وهو مِن أدقِّ التعابير في معرفة النفس بشأن المرأة: إنّما تَرى كمالَها في جمالِها، وترى جمالَها في زبارج حُليِّها مِن ذهبٍ وفضةٍ وأحجارٍ كريمةٍ، ومِن ثَمّ في مظطلمات الحياة ومُصطَدَماتها تظلّ حائرةً، وربّما تضيق عليها الحال فلا يمكنها الإعراب عمّا في ضميرها أو تَتَلجلجُ ويَضطرِبُ لها المـَقال.

ولذلك نَرى الشريعة قد أفسحت لها المجال واكتفت بشهادتِهنّ لوحدِهنّ في أُمور تخصُّ شؤون النساء - في مثل الولادة والحَمل والحيض وما شابه - ممّا ليس للرجال فيها شأن.

* * *

وهكذا ذَكَر سيّد قطب في تفسير الآية، قال: إنّما دعا الرجال؛ لأنّهم هم الذين يُزاوِلون الأعمال عادةً في المجتمع المسلم السويّ الذي لا تحتاج المرأة فيه أنْ تَعمل لتعيش، وتهدر جانب أُمومتِها وأُنوثتِها وواجبها في رعاية أثمن الأرصدة الإنسانيّة - وهي الطُفولة الناشِئة المـُمثِّلة لجيل المستقبل - في مقابل لقُيمات أو دُرَيهِمَات تنالها مِن العملِ، كما تَضطرُّ إلى ذلك المرأةُ في المجتمع النَّكِد المـُنحَرِف الذي نعيش فيه اليوم!

ولكن لماذا امرأتان؟ إنّ النصّ لا يَدَعَنا نَحدِس، ففي مجال التشريع يكون النصّ محدَّداً واضحاً مُعلَّلاً ( أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى ) ، والضَّلال هنا يَنشأ مِن أسباب كثيرة، فقد ينشأ مِن قلّةِ خُبرة المرأة بموضوع التعاقد، ممّا يجعلها لا تستوعب كلّ دقائقه وملابساته بحيث تؤدي عنه شهادتَها دقيقة عند الاقتضاء، فتُذكِّرها الأُخرى بالتعاون معاً على تَذَكُّر ملابسات الموضوع كلّه، وقد ينشأ من طبيعة المرأة الانفعاليّة،

____________________

(١) الزخرف ٤٣: ١٨.

١٣٤

فإنّها بوظيفتها الأُموميّة شديدةُ الاستجابة الوجدانيّة الانفعاليّة لتلبية مطالب طفلها بسرعةٍ وحيويّةٍ لا تَرجع فيهما إلى تفكير بطيء، وهذه الطبيعة لا تتجزّأ، فالمرأة شخصيّة موحَّدة، هذا طابعها حين تكون امرأة سَويّة، بينما الشهادة على التعاقد بحاجة إلى تجرّد كبير من الانفعال، ووقوف عند الوقائع بلا تأثّر ولا إيحاء، ووجود امرأتين فيه ضَمانة أنْ تُذكِّر أحداهما الأُخرى - إذا جَرَفها الانفعال - فتتذكّر وتفي إلى الوقائع المجرّدة (١) .

ويعود السرّ في ذلك كلّه، إلى نقص الضبط فيهنّ، لأسبابٍ تَرجع إلى طبيعتها الأُنوثيّة، قال الطبرسي: لأنّ النسيان يَغلب على النساء أكثر ممّا يَغلب على الرجال (٢) ، أي في مثل الأُمور التي لا تَمسّ شؤونها البيتيّة وتربية الأولاد.

نكتة أدبيّة في الآية

أمّا لماذا تكرّرت لفظة (إحداهما)؟ أَما كان يكفي أن يقول: ( أنْ تَضِلَّ إحداهما فتذكّرها الأُخرى ) ؟

لكن نظراً لفَحوى الآية كان هذا التعبير غير وافٍ بمفادها؛ إذ هذا التعبير إنّما يعني: أنّ إحداهما إذا نسيت شيئاً ممّا تحمّلته فإنّ الأُخرى تُذكِّرها، وهذا ليس مقصود الآية، بل المقصود: أنّ كلتيهما عُرضةٌ للخطأ والنسيان، فتقوم كلّ واحدة منهما بتَتميم أو تكميل ما نَقُص مِن شهادة صاحبتها، فهذا التعامل والتفاعل في شهادتِهما، وتكامل شهادة كلّ منهما بشهادة الأُخرى تُعدّ شهادةً واحدةً كاملةً في مقابل شهادة الرجل الكاملة بوحدتها.

ومِن ثَمَّ وَجَب إعادة (إحداهما) - بلفظه لا بضميره - لإفادة هذا المعنى (٣) .

وذكر الطبرسي وجهاً آخر نقله عن الوزير الأديب الحسين بن علي المغربي وهو أنّ المعنى: أنْ تضِلَّ إحدى الشهادَتَين عن إحدى المرأتين فتُذكِّرها بها المرأة الأُخرى، فجعل (إحدى الأُولى للشهادة والثانية للمرأة، قال: معناه أنْ تضِلَّ إحدى الشهادتين أي تضيع بالنسيان، فتذكّر إحدى المرأتين الأُخرى)، وبذلك لم يتكرّر اللفظ.

____________________

(١) راجع: في ظِلال القرآن لسيّد قطب، المجلّد الأوّل، ص٤٩٣ مع اختزالٍ يسير.

(٢) راجع: مجمع البيان، ج١، ص٣٩٨، وتفسير القاسمي، ج١، ص٦٣٥.

(٣) راجع: تفسير المنار لمـُحمّد عبده، ج٣، ص١٢٣.

١٣٥

وأيّده الطبرسي بأنّ نسيان الشهادة لا يُسمّى ضَلالاً، ولا يُسمّى ناسي الشهادة ضالاًّ؛ لأنّ الضَّلال معناه الضَّياع، والمرأة لا تضيع، ويقال للشهادة ضَلّت إذا ضاعت، كما قال سبحانه: ( قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا ) (١) أي ضاعوا منّا (٢) ، ومثله ( لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى ) (٣) .

لكن الزمخشري فسرّ الآية على ظاهرها، قال: ( أنْ تَضِلَّ إحداهما ) أنْ لا تهتدي إحداهما للشهادة بأنْ تنساها، مِن قولهم: ضلّ الطريقَ، إذا لم يهتد إليه (٤) ، فيكون الضَّلال هنا بمعنى عدم الاهتداء.

وقوله تعالى: ( ضَلُّوا عَنَّا ) أي ذهبوا عنّا وافتقدناهم، فلا يَقْدِرون على الدفع عنّا وبَطَلت عبادتنا إيّاهم (٥) ، وقوله: أي لا يذهب عليه شيء (٦) ، بمعنى: لا يَفقده ولا يَغيب عنه.

وقد فسّر الراغب (الضَّلال) في الآية بمعنى النسيان (٧) .

المرأة في مجال القضاء

القضاء باعتباره مَنصِباً رسميّاً لفصل الخصومات في النظام الإسلامي الحاكم وهو مَنصِب خطير وذو مسؤوليّة جسيمة فإنّه لا يَصلح للمرأة - وهي ذات نفسيّة مُرهَفة - أنْ تتصدّى له، على غِرار سائر المسؤوليّات الخطيرة ممّا هو مِن شؤون الولاية العامّة، الخاصّة بوليّ أمر المسلمين.

وبذلك اتّفقت كلمة الفقهاء على أنّ القضاء مِن شؤون الولاية الكبرى الخاصّة بإمام المسلمين (٨) ، وكلّ شان مِن شؤون الولاية الكبرى في الحُكم الإسلامي لا يجوز إيكالُه إلى

____________________

(١) الأعراف ٧: ٣٧.

(٢) مجمع البيان، ج٢، ص٣٩٨.

(٣) طه ٢٠: ٥٢، والآية ذَكرها الشيخ مُحمّد عبده تأييداً للطبرسي حسب الظاهر.

(٤) الكشّاف، ج١، ص٣٢٦.

(٥) مجمع البيان، ج٤، ٤١٦.

(٦) المصدر: ج٧، ص١٣.

(٧) أي في قوله تعالى: البقرة ٢: ٢٨٢.

(٨) قال الشهيد السعيد أبو عبد اللّه مُحمّد بن مكي العاملي: وهو (القضاء) ولاية شرعيّة على الحُكم في المصالح العامّة مِن قِبل الإمام، الدروس الشرعيّة، ص١٦٨.

١٣٦

امرأة ولا تَصلح لحمل عِبئِه الثقيل، وقد أَنكر النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) على قومٍ (يُريد بهم الفُرس يومذاك) (١) وَلّوا أمرَهم امرأةً وأنذرهم بعدم الفَلاح، قال: (لن يُفلِح قومٌ وَلّوا أمرَهم امرأةً) (٢) .

وقد أوصى النبيُّ إلى علي (عليهما السلام) ومِن جملتها ما جاء بشأن النساء: (ولا تُوَلّى القضاء) (٣) ، وفي حديث عن الإمام أبي جعفر الباقر (عليه السلام): (ولا تُوَلّى المرأةُ القضاء ولا تُوَلّى الإمارة) (٤) ، والعُمدة إجماع الفقهاء على ذلك لم يخالف فيه أحد (٥) .

وعُلِّل ذلك بما ورد في القرآن في وَصفِ شأنهنّ بأنّهنّ مُرهَفات الحال، رقيقات البال، فاقِدات تلك الصَّلابة التي تتناسب ومَنصِب القضاء، قال تعالى: ( أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ) (٦) ؛ إنّها لنُعومَة بالِها ورقّة خاطرها سريعةُ الانفعال، تحنّ إلى العطف والحنان أكثر ممّا تحنّ إلى الحزم والعقل الرشيد؛ ولذلك قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) فيما كَتَبه إلى ابنه الحسن(عليه السلام): (ولا تُمَلِّكِ المرأةَ مِن أمرِها ما جَاوَز نفسها، فإنّ المرأة ريحانة وليست بقَهرمانة) (٧) ، إشارة إلى ما جاء في الآية الكريمة مِن نُعومة حال المرأة بما يُفقِدُها صلاحيّة التصَلّب أمام فَصل الخُصومات.

وللبحث هنا جوانب حقّقناها في دراساتنا الفقهيّة بشكلٍ مُستَوعَب، فليراجع هناك.

المرأة في مجال الحضانة

اشتَهَر القول بأنّ حقَّ حضانتِها بشأن وِلْدِها البنين ينتهي بانتهاء أَمَدِ الرَّضّاعة وهي السَّنتان، أمّا في البنات فبانقضاء سبع سنين.

لكنَّ أبا جعفر الصدُوق جعل أَمَد حضانتِها ما لم تتزوّج، مِن غير فَرقٍ بين البنين

____________________

(١) حيث وَلّوا أمرَهم حينذاك امرأةً (بوراندخت) هي ابنة خسرو برويز.

(٢) سُنَن البيهقي، ج١٠، ص١١٨، ومسند أحمد بن حنبل، ج٥، ص٣٨ و٤٣ و٤٧ و٥١ بألفاظ وتعابير متقاربة.

(٣) مَن لا يحضره الفقيه للصدوق، ج٤، ص٢٦٣.

(٤) بحار الأنوار، ج١٠٠، باب جوامع أحكام النساء، ص٢٥٤، رقم ١.

(٥) لذلك شرح طويل عرضناه في مجال الفقه.

(٦) الزخرف ٤٣: ١٨.

(٧) نهج البلاغة، كتاب رقم ٣١، ص٤٠٥.

١٣٧

والبنات (١) ، وذَكَر في جامِعِه حديثاً عن الإمام الصادق (عليه السلام) سُئل عن رجُلٍ طلّق امرأته وبينهما وَلَد، أيّهما أحقّ به؟ قال: (المرأة ما لم تتزوّج) (٢) ، والوَلَد يُطلق على الذكر والأنثى.

وذكر ابن الجُنيد الإسكافي (ت ٣٨١) - وكان مُعاصراً للصدوق -: أنّ الأُمّ أحقّ بالصبيّ إلى سبع سنين، فلو جاوَزها ولم يَبلُغ رُشْدَ عقله بَقيَ على حضانة الأُمّ حتّى يَرشُد، وأمّا البنت فالأُمّ أحقّ بها مِن غير تحديد بالسنّ، ما لم تتزوج الأُمّ (٣) .

وقال شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي (ت٤٦٠) في المبسوط: الطفل ما لم يُميِّز يكون في حضانة الأُمّ والنفقة على أبيه، فإذا مَيّز فيما إذا بَلَغ سبع أو ثماني سنين فما فوقها إلى البلوغ، فإنْ كان ذكراً فالأب أحقّ به، وإنْ كانت أنثى فالأُمّ أحقّ بها أيضاً ما لم تتزوّج الأُمّ، واستند في ذلك إلى روايات الأصحاب، وهكذا ذَكَر في كتاب الخلاف (٤) .

وذَكَر قريباً منه القاضي ابن البرّاج الطرابلسي (ت ٤٨١) (٥) ، وهو مِن أعلام فقهاء الإماميّة المـَرمُوقين.

والرواية الوحيدة ذات السند الصحيح في الباب وقد عَمِل بها الأصحاب هي ما رواه الصدوق بإسناده إلى عبد اللّه بن جعفر الحميري عن أيّوب بن نوح - كوفيّ ثقة - قال: كَتَب إليه (الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام)) بعضُ أصحابه: أنّه كانت لي امرأة ولي منها وَلَد وَخَلَّيتُ سبيلَها، فَكَتب (عليه السلام) في جوابه: (المرأة أحقّ بالوَلَد إلى أنْ يَبلغ سبع سنين، إلاّ أنْ تشاء المرأة) (٦) .

وهكذا ابن إدريس في المـُستطرفات بالإسناد إلى أيوب، قال: كَتبتُ إليه: جُعِلتُ فِداك، رجل تزوّج امرأةً فوَلَدت مِنه ثُمّ فارَقَها، متى يجب له أنْ يأخذ وَلَدَه؟ فكتب (عليه السلام) (إذا صَار له سبع سنين، فإنْ أَخَذَه فَلَه وإنْ تَرَكه فَلَه) (٧) .

هاتان روايتان صحيحتا الإسناد، جَعَلتا حقَّ الحضانة للأُمّ بشأن وَلَدها إلى سبع

____________________

(١) ذكره العلاّمة في المختلف، ج٧، ص٣٠٦.

(٢) من لا يحضره الفقيه، ج٣، ص٢٧٥، باب ١٢٧، رقم ٢.

(٣) المختلف للعلاّمة، ج٧، ص٣٠٧.

(٤) المبسوط للطوسي، ج٦، ص٣٩، والخلاف، كتاب النفقات، ج٢، ص٣٣٥، مسألة ٣٦.

(٥) راجع: كتابه المهذب، ج٢، ص٣٥٢.

(٦) وسائل الشيعة، ج٢١، ص٤٧٢، رقم ٦ و٧.

(٧) المصدر: رقم ٦ و٧.

١٣٨

سنين، ذكراً أو أُنثى. ولا معارض لهما ولا تقييد، فالعمل بهما متعيّن.

ولذلك قال السيّد مُحمّد العاملي صاحب المدارك: والذي يقتضيه الوقوف مع الرواية الصحيحة أنّ الأُمّ أحقّ بالوَلَد إلى أنْ يَبلُغ سبع سنين مطلقاً (١) .

ومِن الفقهاء المعاصرين سيّدنا الأستاذ الإمام الخوئي طاب ثراه اختار هذا الرأي وجَعَل حقّ الحضانة للأُمّ إلى سبع سنين سواء في البنين والبنات (٢) .

وهذا هو أيضاً مُقتضى قوله تعالى: ( لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا ) (٣) ، بعد أن كان ذلك حُكماً عامّاً يشمل جميع أنحاء الإضرار بها مِن جانب وَلَدِها، إذا فُصِل عنها بعد الفِطام. وقد فصّلنا الكلام عن ذلك في مجال الفقه.

الطلاق والعِدّة والعدد

ممّا أُخِذ على الإسلام وعلى القرآن بالذات إطلاق سَراح الرجُل بشأن المرأة، في الطلاق والإمساك، وإعضالِها عن أنْ تَملُك نفسها إلاّ حيث شاء الزوج، حقّاً قانونياً له دونَها، الأمر الذي يَجعلُها مُهانةً لا وزن لها في الحياة الزوجيّة ما دامت لا تَعدو مُتعةً للرجل يَعبث بها حسبَما شاء!

وهذا مِن الأثر المتبقي مِن أعرافٍ جاهليّةٍ أُولى، قام الإسلام بتعديلها وربّما آخِذاً بجانبها ولكن في شيءٍ يسيرٍ لم يرفعْها إلى حيثُ كرامتها الإنسانيّة العليا!

قال الشيخ مُحمّد عَبده: كان للعرب في الجاهليّة طَلاق ومُراجعة في العِدّة، ولم يكن للطلاق حدّ ولا عدد، فإن كان لمـُغاضَبَةٍ عارِضَةٍ عاد الزوج واستقامت عشرته، وإنْ كان لمـُضارّة المرأة رَاجَعَ قبل انقضاء العِدّة واستأنف طلاقاً، ثُمّ يعود إلى ذلك المرّة بعد المرّة أو يفيء ويَسكُن غضبُه، فكأنّ المرأة اُلعوبة بيد الرجل يُضارُّها بالطَلاق ما شاء أنْ يضارَّها، فكان ذلك ممّا أصلحه الإسلام مْن أمور الاجتماع (٤) .

____________________

(١) نهاية المرام للعاملي، ج ١، ص ٤٦٨.

(٢) منهاج الصالحين، ج ٢، ص ٣٢١، مسألة ٩، فصل ٩ في أحكام الأولاد.

(٣) البقرة ٢: ٢٣٣.

(٤) راجع: تفسير المنار، ج ٢، ص ٣٨١.

١٣٩

وذَكَر في سبب نزول الآيات ٢٢٨ - ٢٣٢ من سورة البقرة بهذا الشأن: أنّ الرجل كان يُطلِّق امرأته ما شاء أنْ يُطلّقها وهي امرأته إذا ارتَجَعَها وهي في العِدّة وإنْ طلّقها مِئة مرّة وأكثر، حتّى قال رجل لامرأته: والله لا أُطلِّقك فَتَبيني، ولا آويك أبداً! قالت: وكيف ذلك؟ قال: أُطلِّقك، فكلّما همّتْ عِدّتُك أنْ تنقضي راجعتُكِ، فذهبت المرأة حتّى دخلت على عائشة فأخبرتها، فصبرت عائشة حتّى جاء النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) فأخبرته بذلك، فسكت النبيّ هُنيئة حتّى نزل القرآن: ( الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ... ) إلى آخر الآيات (١) .

حاوَلَ بعضُ الكُتّاب العصريّين أنْ يجعل من التشريعات الإسلاميّة متأثِّرةً بعض التأثّر بتقاليدٍ كانت سائدة ذلك العهد، فهو وإنْ كان قام بتعديلات خطيرة في تقاليد العرب لكنّه مع ذلك اضطرّ إلى الرضوخ لبعض تقاليدهم جرياً مع مُقتضيات الزمان، ومنها أَمر الطلاق حيث جَعَله بيد الرجل وِفْقاً مع عُرف القوم السائد! قال: ولا سيّما إذا ما لا حظنا أنّ التشريعات الإسلاميّة في مثل هذه الشؤون إمضائيّة وليست تأسيسيّة كما هو معروف (٢) .

* * *

ولنا أنْ نتساءل: هل تَنازل الإسلام في تشريعاته الأُولى - ولو في جوانبٍ منها - إلى حيث مستوى ثقافة ذلك العهد وتلاؤماً مع مُقتضيات عصره حتّى تُصبح صالحةً للتغيير مع تطوّر الزمان؟

الجواب: كلاّ، ولا سيّما التشريعات التي جاءت نصّاً في القرآن الكريم.

الإسلام جاء بثقافة جديدة شاملة ليَرفض كلّ تقاليد جاهليّة كانت سائدة ذلك اليوم، وأَلبَسها ثوب الخلود (حلال مُحمّدٍ حلال أبداً إلى يوم القيامة وحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة) (٣) ، إلاّ ما كان من قبيل التدبير في الشؤون السياسيّة لإدارة البلاد وِفق شرائط الزمان على ما أسلفنا؛ ومِن ثَمّ كانت التشريعات الإسلاميّة مُنذ البدء تنقسم إلى قسمين

____________________

(١) الدرّ المنثور، ج ١، ص ٦٦٢، ومجمع البيان، ج ٢، ص ٣٢٩.

(٢) الدكتور حسين مهربور أخصّائي في الحقوق، مجلّة (نامه مفيد)، العدد ٢١، ص ١٦١.

(٣) راجع: صحيحة زرارة في الكافي، ج ١، ص ٥٨، رقم ١٩.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

قوله تعالى: ( إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَ كَفَرَ ) استثناء من المفعول المحذوف لقوله السابق:( فَذَكِّرْ ) و التقدير فذكّر الناس إلّا من تولّى منهم عن التذكرة و كفر إذ تذكرته لغو لا فائدة فيها، و معلوم أنّ التولّي و الكفر إنّما يكون بعد التذكرة فالمنفيّ بالاستثناء هو التذكرة بعد التذكرة كأنّه قيل: ذكّرهم و أدم التذكرة إلّا لمن ذكّرته فتولّى عنها و كفر، فليس عليك إدامة تذكرته بل أعرض عنه فيعذّبه الله العذاب الأكبر.

فقوله:( فَذَكِّرْ - إلى أن قال -إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَ كَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ ) في معنى قوله:( فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى‏ - إلى أن قال -وَ يَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى) الأعلى: 12 و قد تقدّم بيانه.

و قيل: الاستثناء من ضمير( عَلَيْهِمْ ) في قوله:( لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) و المعنى لست عليهم بمتسلّط إلّا على من تولّى منهم عن التذكرة و أقام على الكفر فسيُسلّطك الله عليه و يأمرك بالجهاد فتقاتله فتقتله.

و قيل: الاستثناء منقطع و المعنى لست عليهم بمتسلّط لكنّ من تولّى و كفر منهم يعذّبه الله العذاب الأكبر، و ما قدّمناه من الوجه أرجح و أقرب.

قوله تعالى: ( فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ ) هو عذاب جهنّم فالآية كما تقدّم محاذية لقوله في سورة الأعلى( الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى‏ ) .

قوله تعالى: ( إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ) الإياب الرجوع و( إِلَيْنا ) خبر إنّ و إنّما قدّم للتأكيد و لرعاية الفواصل دون الحصر إذ لا قائل برجوع الناس إلى غير الله سبحانه و الآية في مقام التعليل للتعذيب المذكور في الآية السابقة.

قوله تعالى: ( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ ) الكلام فيه كالكلام في الآية السابقة.

٤٠١

( بحث روائي‏)

في المجمع، و قال أبوعبداللهعليه‌السلام : كلّ ناصب و إن تعبّد و اجتهد يصير إلى هذه الآية( عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تَصْلى‏ ناراً حامِيَةً ) .

أقول: و رواه في ثواب الأعمال، مسنداً و لفظه: كلّ ناصب و إن تعبّد و اجتهد يصير إلى هذه الغاية( عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تَصْلى‏ ناراً حامِيَةً ) .

و فيه، عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الضريع شي‏ء في النار يشبه الشوك أمرّ من الصبر و أنتن من الجيفة و أشدّ حرّاً من النار سمّاه الله الضريع.

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً ) قال: الهزل و الكذب.

و فيه،: في قوله تعالى:( لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) قال: بحافظ و لا كاتب عليهم.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و عبد بن حميد و مسلم و الترمذيّ و النسائيّ و ابن ماجة و ابن جرير و الحاكم و ابن مردويه و البيهقيّ في الأسماء و الصفات عن جابر قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اُمرت أن اُقاتل الناس حتّى يقولوا: لا إله إلّا الله فإذا قالوها عصموا منيّ دماءهم و أموالهم إلّا بحقّها و حسابهم على الله ثمّ قرأ( فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) .

أقول: لا دلالة في الرواية على كون الاستثناء من ضمير( عَلَيْهِمْ ) و هو ظاهر.

و فيه، و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَ كَفَرَ ) يريد من لم يتّعظ و لم يصدّقك و جحد ربوبيّتي و كفر نعمتي( فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ ) يريد الغليظ الشديد الدائم( إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ) يريد مصيرهم( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ ) يريد جزاءهم.

و في النهج: و سئلعليه‌السلام : كيف يحاسب الله الخلق على كثرتهم؟ قال: كما يرزقهم على كثرتهم. قيل: فكيف يحاسبهم و لا يرونه؟ قال: كما يرزقهم و لا يرونه.

٤٠٢

و فيه، قال الصادقعليه‌السلام : كلّ اُمّة يحاسبها إمام زمانها، و يعرف الأئمّة أولياءهم و أعداءهم بسيماهم و هو قوله:( وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ‏ ) الحديث.

أقول: قد تقدّم توضيح معنى الحديث في تفسير الآية من سورة الأعراف، و روي هذا المعنى في البصائر، عن الصادقعليه‌السلام مسنداً و في الكافي، عن الباقر و الكاظمعليهما‌السلام و في الفقيه، عن الهاديعليه‌السلام في الزيارة الجامعة.

٤٠٣

( سورة الفجر مكّيّة و هي ثلاثون آية)

( سورة الفجر الآيات 1 - 30)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالْفَجْرِ ( 1 ) وَلَيَالٍ عَشْرٍ ( 2 ) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ( 3 ) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ( 4 ) هَلْ فِي ذَٰلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ ( 5 ) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ( 6 ) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ ( 7 ) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ( 8 ) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ ( 9 ) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ ( 10 ) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ ( 11 ) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ ( 12 ) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ( 13 ) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ( 14 ) فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ( 15 ) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ( 16 ) كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ( 17 ) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ ( 18 ) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا ( 19 ) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ( 20 ) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ( 21 ) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ( 22 ) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ ( 23 ) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ( 24 ) فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ ( 25 ) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ( 26 ) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ( 27 ) ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ( 28 ) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ( 29 ) وَادْخُلِي جَنَّتِي ( 30 )

٤٠٤

( بيان‏)

في السورة ذمّ التعلّق بالدنيا المتعقّب للطغيان و الكفران و إيعاد أهله بأشدّ عذاب الله في الدنيا و الآخرة فتبيّن أنّ الإنسان لقصور نظره و سوء فكره يرى أنّ ما آتاه الله من نعمه من كرامته على الله و أنّ ما يتلبّس به من الفقر و العدم من هوانه فيطغى و يفسد في الأرض إذا وجد و يكفر إذا فقد و قد اشتبه عليه الأمر فما يصيبه من القدرة و الثروة و من الفقر و ضيق المعاش امتحان و ابتلاء إلهيّ ليظهر به ما ذا يقدّم من دنياه لاُخراه.

فليس الأمر على ما يتوهّمه الإنسان و يقوله بل الأمر كما سيتذكره إذا وقع الحساب و حضر العذاب أنّ ما أصابه من فقر أو غنى أو قوّة أو ضعف كان امتحاناً إلهيّاً و كان يمكنه أن يقدّم من يومه لغده فلم يفعل و آثر العقاب على الثواب فليس ينال الحياة السعيدة في الآخرة إلّا النفس المطمئنّة إلى ربّها المسلمة لأمره الّتي لا تتزلزل بعواصف الابتلاءات و لا يطغيه الوجدان و لا يكفره الفقدان.

و السورة مكّيّة بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: ( وَ الْفَجْرِ وَ لَيالٍ عَشْرٍ وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ وَ اللَّيْلِ إِذا يَسْرِ هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ) الفجر الصبح و الشفع الزوج، قال الراغب: الشفع ضمّ الشي‏ء إلى مثله و يقال للمشفوع شفع. انتهى. و سري الليل مضيّه و إدباره، و الحجر العقل فقوله:( وَ الْفَجْرِ ) إقسام بالصبح و كذا الحال فيما عطف عليه من ليال و الشفع و الوتر و اللّيل.

و لعلّ ظاهر قوله:( وَ الْفَجْرِ ) أنّ المراد به مطلق الفجر و لا يبعد أيضاً أن يراد به فجر يوم النحر و هو عاشر ذي الحجّة.

و قيل: المراد فجر ذي الحجّة، و قيل: فجر المحرّم أوّل السنة و قيل: فجر يوم الجمعة، و قيل فجر ليلة جمع، و قيل: المراد به صلاة الفجر، و قيل: النهار كلّه

٤٠٥

و قيل: فجر العيون من الصخور و غيرها و هي وجوه رديّة.

و قوله:( وَ لَيالٍ عَشْرٍ ) لعلّ المراد بها الليالي العشر من أوّل ذي الحجّة إلى عاشرها و التنكير للتفخيم.

و قيل: المراد بها الليالي العشر من آخر شهر رمضان، و قيل: الليالي العشر من أوّله، و قيل الليالي العشر من أوّل المحرّم، و قيل: المراد عبادة ليال عشر على تقدير أن يراد بالفجر صلاة الفجر.

و قوله( وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ ) يقبل الانطباق على يوم التروية و يوم عرفة و هو الأنسب على تقدير أن يراد بالفجر و ليال عشر فجر ذي الحجّة و العشر الأوّل من لياليها.

و قيل: المراد صلاتاً الشفع و الوتر في آخر الليل، و قيل: مطلق الصلاة فمنها شفع و منها وتر، و قيل: الشفع يوم النحر و الوتر يوم عرفة، و قيل: الشفع جميع الخلق لأنّه قال:( وَ خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً ) النبأ: 8 و الوتر هو الله تعالى، و على هذه الأقوال روايات ستوافيك في البحث الروائيّ الآتي إن شاء الله.

و قيل: المراد الزوج و الفرد من العدد، و في الإقسام بهما تذكير بالعدد لما في ضبط المقادير به من عظيم النعمة من الله سبحانه، و قيل: الشفع و الوتر جميع المخلوقات لأنّ الأشياء إمّا زوج و إمّا فرد، و قيل: الوتر آدم شفع بزوجته، و قيل: الشفع الأيّام و الليالي و الوتر اليوم الّذي لا ليل بعده و هو يوم القيامة، و قيل: الشفع الصفا و المروة و الوتر البيت الحرام، و قيل: الشفع أيّام عاد و الوتر لياليها، و قيل: الشفع أبواب الجنّة و هي ثمانية و الوتر أبواب جهنّم و هي سبعة إلى غير ذلك و هي كثيرة أنّهاها بعضهم إلى ستّة و ثلاثين قولاً و لا يخلو أكثرها من تحكّم.

و قوله:( وَ اللَّيْلِ إِذا يَسْرِ ) أي يمضي فهو كقوله:( وَ اللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ) المدّثر: 33 و ظاهره أنّ اللّام للجنس فالمراد به مطلق آخر الليل، و قيل: المراد به ليلة المزدلفة و هي ليلة النحر الّتي يسري فيها الحاجّ من عرفات إلى المزدلفة فيجتمع فيها على طاعة الله ثمّ يغدوا منها إلى منى و هو كما ترى و خاصّة على القول بكون المراد بليال

٤٠٦

عشر هو الليالي العشر الأوائل منها.

و قوله:( هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ) الإشارة بذلك إلى ما تقدّم من القسم، و الاستفهام للتقرير، و المعنى أنّ في ذلك الّذي قدّمناه قسماً كافياً لمن له عقل يفقه به القول و يميّز الحقّ من الباطل، و إذا أقسم الله سبحانه بأمر - و لا يقسم إلّا بما له شرف و منزلة - كان من القول الحقّ المؤكّد الّذي لا ريب في صدقه.

و جواب الأقسام المذكورة محذوف يدلّ عليه ما سيذكر من عذاب أهل الطغيان و الكفران في الدنيا و الآخرة و ثواب النفوس المطمئنّة، و أنّ إنعامه تعالى على من أنعم عليه و إمساكه عنه فيمن أمسك إنّما هو ابتلاء و امتحان.

و حذف الجواب و الإشارة إليه على طريق التكنية أوقع و آكد في باب الإنذار و التبشير.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ ) هم عاد الاُولى قوم هود تكرّرت قصّتهم في القرآن الكريم و اُشير إلى أنّهم كانوا بالأحقاف، و قد قدّمنا ما يتحصّل من قصصهم في القرآن الكريم في تفسير سورة هود.

قوله تعالى: ( إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ ) العماد و جمعه عمد ما يعتمد عليه الأبنية، و ظاهر الآيتين أنّ إرم كانت مدينة لهم معمورة عديمة النظير ذات قصور عالية و عمد ممدّدة، و قد انقطعت أخبار القوم عهدهم و انمحت آثارهم، فلا سبيل إلى الحصول على تفصيل حالهم تطمئنّ إليها النفس إلّا ما قصّة القرآن الكريم من إجمال قصّتهم أنّهم كانوا بعد قوم نوح قاطنين بالأحقاف و كانوا ذوي بسطة في الخلق اُولي قوّة و بطش شديد، و كان لهم تقدّم و رقي في المدنيّة و الحضارة لهم بلاد عامرة و أراض خصبة ذات جنّات و نخيل و زروع و مقام كريم و قد تقدّمت القصّة.

و قيل: المراد بإرم قوم عاد - و هو في الأصل اسم أبيهم سمّوا باسم أبيهم كما يقال: قريش و يراد به القرشيّون و يطلق إسرائيل و يراد به بنو إسرائيل - و المراد بكونهم ذات عماد كونهم اُولي قوّة و سطوة.

٤٠٧

و المعنى: أ لم تر كيف فعل ربّك بقوم عاد الّذين هم قوم إرم ذوو القوّة و الشدّة الّذين لم يخلق مثلهم في بسطة الجسم و القوّة و البطش في البلاد أو في أقطار الأرض و لا يخلو من بعد من ظاهر اللفظ.

و أبعد منه ما قيل: إنّ المراد بكونهم ذات العماد أنّهم كانوا أهل عمد سيّارة في الربيع فإذا هاج النبت رجعوا إلى منازلهم.

و من الأساطير قصّة جنّة إرم المشهورة المرويّة عن وهب بن منبّه و كعب الأحبار.

قوله تعالى: ( وَ ثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ ) الجوب القطع أي قطعوا صخر الجبال بنحتها بيوتاً فهو في معنى قوله:( وَ تَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً ) الشعراء: 149.

قوله تعالى: ( وَ فِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ ) هو فرعون موسى، و سمّي ذا الأوتاد - على ما في بعض الروايات - لأنّه كان إذا أراد أن يعذّب رجلاً بسطه على الأرض و وتد يديه و رجليه بأربعة أوتاد في الأرض و ربّما بسطه على خشب و فعل به ذلك، و يؤيّده ما حكاه الله من قوله يهدّد السحرة إذ آمنوا بموسى:( وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ) طه: 71 فإنّهم كانوا يوتّدون يدي المصلوب و رجليه على خشبة الصليب.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ ) صفة للمذكورين من عاد و ثمود و فرعون، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ ) صبّ الماء معروف و صبّ سوط العذاب كناية عن التعذيب المتتابع المتواتر الشديد، و تنكير عذاب للتفخيم.

و المعنى فأنزل ربّك على كلّ من هؤلاء الطاغين المكثرين للفساد إثر طغيانهم و إكثارهم الفساد عذاباً شديداً متتابعاً متوالياً لا يوصف.

قوله تعالى: ( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ ) المرصاد المكان الّذي يرصد منه و يرقب و كونه تعالى على المرصاد استعارة تمثيليّة شبّه فيها حفظه تعالى لأعمال عباده بمن

٤٠٨

يقعد على المرصاد يرقب من يراد رقوبه فيأخذه حين يمرّ به و هو لا يشعر فالله سبحانه رقيب يرقب أعمال عباده حتّى إذا طغوا و أكثروا الفساد أخذهم بأشدّ العذاب.

و في الآية تعليل ما تقدّم من حديث تعذيب الطغاة المكثرين للفساد من الماضين و في قوله:( رَبَّكَ ) بإضافة الربّ إلى ضمير الخطاب تلويح إلى أنّ سنّة العذاب جارية في اُمّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما جرت عليه في الاُمم الماضين.

قوله تعالى: ( فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ) متفرّع على ما قبله، فيه تفصيل حال الإنسان إذا اُوتي من نعم الدنيا أو حرم كأنّه قيل: إنّ الإنسان تحت رقوب إلهيّ يرصده ربّه هل يصلح أو يفسد؟ و يبتليه و يمتحنه فيما آتاه من نعمة أو حرمة هذا هو الأمر في نفسه و أمّا الإنسان فإنّه إذا أنعم الله عليه بنعمة حسب أنّ ذلك إكرام إلهيّ له أن يفعل بها ما يشاء فيطغى و يكثر الفساد، و إذا أمسك و قدر عليه رزقه حسب أنّه إهانة إلهيّة فيكفر و يجزع.

فقوله:( فَأَمَّا الْإِنْسانُ ) المراد به النوع بحسب الطبع الأوّليّ فاللّام للجنس دون الاستغراق.

و قوله:( إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ ) أي امتحنه و اختبره، و العامل في الظرف محذوف تقديره كائنا إذا إلخ و قيل: العامل فيه( فَيَقُولُ ) .

و قوله:( فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ ) تفسير للابتلاء، و المراد بالإكرام و التنعيم الصوريّان و إن شئت فقل: الإكرام و التنعيم حدوثاً لا بقاء أي إنّه تعالى أكرمه و آتاه النعمة ليشكره و يعبده لكنّه جعلها نقمة على نفسه تستتبع العذاب.

و قوله:( فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ) أي جعلني على كرامة منه بالنعم الّتي آتانيها و إن شئت فقل: القدرة و الجدة الموهوبتان إكرام و تنعيم حدوثاً و بقاء فلي أن أفعل ما أشاء.

و الجملة أعني قوله:( فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ) حكاية ما يراه الإنسان بحسب الطبع، و قول الإنسان:( رَبِّي أَكْرَمَنِ ) الظاهر في نسبة التدبير إلى الله سبحانه

٤٠٩

- و لا يقول به الوثنيّة و المنكرون للصانع - مبنيّ على اعترافه بحسب الفطرة به تعالى و إن استنكف عنه لساناً، و أيضاً لرعاية المقابلة مع قوله:( إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ ) .

قوله تعالى: ( وَ أَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ ) أي و أمّا إذا ما امتحنه و اختبره فضيق عليه رزقه فيقول ربّي أذلّني و استخفّ بي.

و يظهر من مجموع الآيتين أوّلاً حيث كرّر الابتلاء و أثبته في صورتي التنعيم و الإمساك عنه أنّ إيتاء النعم و الإمساك عنه جميعاً من الابتلاء و الامتحان الإلهيّ كما قال:( وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً ) الأنبياء: 35 لا كما يراه الإنسان.

و ثانياً أنّ إيتاء النعم بما أنّه فضل و رحمة إكرام إن لم يبدّلها الإنسان نقما على نفسه.

و ثالثاً أنّ الآيتين معاً تفيدان أنّ الإنسان يرى سعادته في الحياة هي التنعّم في الدنيا بنعم الله تعالى و هو الكرامة عنده و الحرمان منه شقاء عنده و الحال أنّ الكرامة هي في التقرّب إليه تعالى بالإيمان و العمل الصالح سواء في ذلك الغنى و الفقر و أي وجدان و فقدان فإنّما ذلك بلاء و امتحان.

و لهم في معنى الآيتين وجوه اُخر تركنا التعرّض لها لقلّة الجدوى.

قوله تعالى: ( كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَ لا تَحَاضُّونَ عَلى‏ طَعامِ الْمِسْكِينِ ) ردع لقولهم: إنّ الكرامة هي في الغنى و التنعّم، و في الفقر و الفقدان هوان و مذلّة، و المعنى ليس كما تقولون و إنّما إيتاؤه تعالى النعمة و إمساكه عنه كلّ ذلك ابتلاء و امتحان يختبر به حال الإنسان من حيث عبوديّته.

و في قوله:( بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ) إلخ إضراب يؤكّد الردع بذكر بعض التنعّم الّذي لا يجامع الكرامة البتّة كعدم إكرامهم اليتيم بأكل تراثه و منعه منه و عدم التحريض على إطعام المسكين حبّاً للمال فالفطرة الإنسانيّة لا يرتاب في أن لا كرامة في غنى هذا شأنه.

و في الإضراب مضافاً إلى أصل الردع تقريع و لتشديد هذا التقريع وقع الالتفات من الغيبة إلى الخطاب.

٤١٠

فقوله:( بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ) عدم إكرامه حرمانه من تراث أبيه - كما كانوا يحرمون صغار الأولاد من الإرث - و تركه صفر الكفّ بلغ به الجهد ما بلغ كما تؤيّده الآية التالية( وَ تَأْكُلُونَ التُّراثَ ) إلخ.

و قوله:( وَ لا تَحَاضُّونَ عَلى‏ طَعامِ الْمِسْكِينِ ) أصله و لا تتحاضّون، و هو تحريض بعضهم بعضاً على التصدّق على المساكين المعدمين، و منشأه حبّ المال كما في الآية الآتية( وَ تُحِبُّونَ الْمالَ ) إلخ.

قوله تعالى: ( وَ تَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا ) اللمّ أكل الإنسان نصيب نفسه و غيره و أكله ما يجده من دون أن يميّز الطيّب من الخبيث، و الآية تفسير لعدم إكرامهم اليتيم كما تقدّم.

قوله تعالى: ( وَ تُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا ) الجمّ الكثير العظيم، و الآية تفسّر عدم تحاضّهم على طعام المسكين كما تقدّم.

قوله تعالى: ( كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ) الدكّ هو الدقّ الشديد، و المراد بالظرف حضور يوم القيامة.

ردع ثان عمّا يقوله الإنسان في حالي الغنى و الفقر، و قوله:( إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ ) إلخ في مقام التعليل للردع، و محصّل المعنى ليس كما يقوله الإنسان فإنّه سيتذكّر إذا قامت القيامة إنّ الحياة الدنيا و ما فيها من الغنى و الفقر و أضرابهما لم تكن مقصودة بالذات بل كانت ابتلاء و امتحاناً من الله تعالى يميّز به السعيد من الشقيّ و يهيّئ الإنسان فيها ما يعيش به في الآخرة و قد التبس عليه الأمر فحسبها كرامة مقصودة بالذات فاشتغل بها و لم يقدّم لحياته الآخرة شيئاً فيتمنّى عند ذلك و يقول: يا ليتني قدّمت لحياتي و لن يصرف التمنّي عنه شيئاً من العذاب.

قوله تعالى: ( وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ) نسبة المجي‏ء إليه تعالى من المتشابه الّذي يحكمه قوله تعالى:( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ ) الشورى: 11 و ما ورد في آيات القيامة من خواصّ اليوم كتقطّع الأسباب و ارتفاع الحجب عنهم و ظهور أنّ الله هو الحقّ المبين.

٤١١

و إلى ذلك يرجع ما ورد في الروايات أنّ المراد بمجيئه تعالى مجي‏ء أمره قال تعالى:( وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ) الانفطار: 19، و يؤيّد هذا الوجه بعض التأييد قوله تعالى( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَ الْمَلائِكَةُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ ) البقرة: 210 إذا انضمّ إلى قوله:( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ ) النحل: 33 و عليه فهناك مضاف محذوف و التقدير جاء أمر ربّك أو نسبة المجي‏ء إليه تعالى من المجاز العقليّ.

و الكلام في نسبة المجي‏ء إلى الملائكة و كونهم صفّا صفّا كما مرّ.

قوله تعالى: ( وَ جِي‏ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ) إلى آخر الآية لا يبعد أن يكون المراد بالمجي‏ء بجهنّم إبرازها لهم كما في قوله تعالى:( وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى‏ ) النازعات: 36 و قوله:( وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ ) الشعراء: 91، و قوله:( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ق: 22.

و قوله:( يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ) أي يتذكّر أجلى التذكّر أنّ ما كان يؤتاه في الحياة الدنيا من خير أو شرّ كان من ابتلاء الله و امتحانه و أنّه قصر في أمره، هذا ما يفيده السياق.

و قوله:( وَ أَنَّى لَهُ الذِّكْرى) أي و من أين له الذكرى كناية عن عدم انتفاعه بها فإنّ الذكرى إنّما تنفع فيما أمكنه أن يتدارك ما فرّط فيه بتوبة و عمل صالح و اليوم يوم الجزاء لا يوم الرجوع و العمل.

قوله تعالى: ( يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي ) أي لحياتي هذه و هي الحياة الآخرة أو المراد الحياة الحقيقيّة و هي الحياة الآخرة على ما نبّه تعالى عليه بقوله:( وَ ما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) العنكبوت: 64.

و المراد بالتقديم للحياة تقديم العمل الصالح للحياة الآخرة و ما في الآية تمنّ يتمنّاه الإنسان عند ما يتذكّر يوم القيامة و يشاهد أنّه لا ينفعه.

قوله تعالى: ( فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ وَ لا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ ) ضميراً عذابه

٤١٢

و وثاقه لله تعالى و المعنى فيومئذ لا يعذّب عذاب الله أحد من الخلق و لا يوثق وثاق الله أحد من الخلق أي إنّ عذابه و وثاقه تعالى يومئذ فوق عذاب الخلق و وثاقهم، تشديد في الوعيد.

و قرئ( لا يُعَذِّبُ ) بفتح الذال و( وَ لا يُوثِقُ ) بفتح الثاء بالبناء للمفعول و ضميراً عذابه و وثاقه على هذا للإنسان و المعنى لا يعذّب أحد يومئذ مثل عذاب الإنسان و لا يوثق أحد يومئذ مثل وثاقه.

قوله تعالى: ( يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ) الّذي يعطيه سياق المقابلة بين هذه النفس بما ذكر لها من الأوصاف و عيّن لها من حسن المنقلب و بين الإنسان المذكور قبل بما ذكر له من وصف التعلّق بالدنيا و الطغيان و الفساد و الكفران، و ما اُوعد من سوء المصير هو أنّ النفس المطمئنّة هي الّتي تسكن إلى ربّها و ترضى بما رضي به فترى نفسها عبداً لا يملك لنفسه شيئاً من خير أو شرّ أو نفع أو ضرّ و يرى الدنيا دار مجاز و ما يستقبله فيها من غنى أو فقر أو أيّ نفع و ضرّ ابتلاء و امتحاناً إلهيّاً فلا يدعوه تواتر النعم عليه إلى الطغيان و إكثار الفساد و العلوّ و الاستكبار، و لا يوقعه الفقر و الفقدان في الكفر و ترك الشكر بل هو في مستقرّ من العبوديّة لا ينحرف عن مستقيم صراطه بإفراط أو تفريط.

قوله تعالى: ( ارْجِعِي إِلى‏ رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً ) خطاب ظرفه جميع يوم القيامة من لدن إحيائها إلى استقرارها في الجنّة بل من حين نزول الموت إلى دخول جنّة الخلد و ليس خطاباً واقعاً بعد الحساب كما ذكره بعضهم.

و توصيفها بالراضية لأنّ اطمئنانها إلى ربّها يستلزم رضاها بما قدّر و قضى تكويناً أو حكم به تشريعاً فلا تسخطها سانحة و لا تزيغها معصية، و إذا رضي العبد من ربّه رضي الربّ منه إذ لا يسخطه تعالى إلّا خروج العبد من زيّ العبوديّة فإذا لزم طريق العبوديّة استوجب ذلك رضى ربّه و لذا عقّب قوله( راضِيَةً ) بقوله:( مَرْضِيَّةً ) .

قوله تعالى: ( فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَ ادْخُلِي جَنَّتِي ) تفريع على قوله:( ارْجِعِي

٤١٣

إِلى‏ رَبِّكِ ) و فيه دلالة على أنّ صاحب النفس المطمئنّة في زمرة عباد الله حائز مقام العبوديّة.

و ذلك أنّه لمّا اطمأنّ إلى ربّه انقطع عن دعوى الاستقلال و رضي بما هو الحقّ من ربّه فرأى ذاته و صفاته و أفعاله ملكاً طلقاً لربّه فلم يرد فيما قدّر و قضى و لا فيما أمر و نهي إلّا ما أراده ربّه، و هذا ظهور العبوديّة التامّة في العبد ففي قوله:( فَادْخُلِي فِي عِبادِي ) تقرير لمقام عبوديّتها.

و في قوله:( وَ ادْخُلِي جَنَّتِي ) تعيين لمستقرّها، و في إضافة الجنّة إلى ضمير التكلّم تشريف خاصّ، و لا يوجد في كلامه تعالى إضافة الجنّة إلى نفسه تعالى و تقدّس إلّا في هذه الآية.

( بحث روائي‏)

في المجمع: في قوله تعالى:( وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ ) ، و قيل: الشفع الخلق لأنّه قال:( وَ خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً ) و الوتر الله تعالى: عن عطيّة العوفيّ و أبي صالح و ابن عبّاس و مجاهد و هي رواية أبي سعيد الخدريّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و قيل: الشفع و الوتر الصلاة منها شفع و منها وتر: و هي رواية عن ابن حصين عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و قيل: الشفع يوم النحر و الوتر يوم عرفة: عن ابن عبّاس و عكرمة و الضحّاك، و هي رواية جابر عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الوجه فيه أنّ يوم النحر يشفّع بيوم نفر بعده و يتفرّد يوم عرفة بالموقف، و قيل: الشفع يوم التروية و الوتر يوم عرفة: و روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام .

أقول: الروايات الثلاث المشار إليها مرويّة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من طرق أهل السنّة و يمكن الجمع بينها بأنّ المراد مطلق الشفع و الوتر و الروايات من قبيل الإشارة إلى بعض المصاديق.

و في تفسير القمّيّ:( وَ لَيالٍ عَشْرٍ ) قال: عشر ذي الحجّة( وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ ) قال: الشفع ركعتان و الوتر ركعة، و في حديث: الشفع الحسن و الحسين و الوتر أمير

٤١٤

المؤمنينعليهم‌السلام ( وَ اللَّيْلِ إِذا يَسْرِ ) قال: هي ليلة جمع.

و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله:( لِذِي حِجْرٍ ) يقول: لذي عقل.

و في العلل، بإسناده إلى أبان الأحمر قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( وَ فِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ ) لأيّ شي‏ء سمّي ذا الأوتاد؟ فقال: لأنّه كان إذا عذّب رجلاً بسطه على الأرض على وجهه و مدّ يديه و رجليه فأوتدها بأربعة أوتاد في الأرض. و ربّما بسطه على خشب منبسط فوتّد رجليه و يديه بأربعة أوتاد ثمّ تركه على حاله حتّى يموت فسمّاه الله عزّوجلّ فرعون ذا الأوتاد.

و في المجمع: في قوله تعالى:( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ ) وروي عن عليّعليه‌السلام أنّه قال: إنّ معناه أنّ ربّك قادر أن يجزي أهل المعاصي جزاءهم.

أقول: بناء الرواية على أخذ الجملة استعارة تمثيليّة.

و فيه، عن الصادقعليه‌السلام أنّه قال: المرصاد قنطرة على الصراط لا يجوزها عبد بمظلمة عبد.

و عن الغوالي، عن الصادقعليه‌السلام في حديث في تفسير قوله تعالى:( وَ ذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ) إنّما ظنّ بمعنى استيقن أنّ الله تعالى لن يضيّق عليه رزقه أ لا تسمع قول الله تعالى:( وَ أَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ ) أي ضيّق عليه.

و في تفسير القمّيّ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله:( كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ) قال: هي الزلزلة.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن عليّ بن أبي طالب قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هل تدرون ما تفسير هذه الآية( كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ - إلى قوله -وَ جِي‏ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ) قال: إذا كان يوم القيامة تقاد جهنّم بسبعين ألف زمام بيد سبعين ألف ملك فتشرد شردة لو لا أنّ الله حبسها لأحرقت السماوات و الأرض.

أقول: و هو مرويّ أيضاً عن أبي سعيد و ابن مسعود و من طرق الشيعة في أمالي

٤١٥

الشيخ، بإسناده عن داود بن سليمان عن الرضا عن آبائه عن عليّعليه‌السلام عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في العيون، في باب ما جاء عن الرضا من أخبار التوحيد بإسناده عن عليّ بن فضال عن أبيه قال: سألت الرضاعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ) فقال: إنّ الله سبحانه لا يوصف بالمجي‏ء و الذهاب تعالى عن الانتقال إنّما يعني بذلك و جاء أمر ربّك.

و في الكافي، بإسناده عن سدير الصيرفيّ قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام : جعلت فداك يا ابن رسول الله هل يكره المؤمن على قبض روحه؟ قال: لا و الله إنّه إذا أتاه ملك الموت ليقبض روحه جزع عند ذلك فيقول ملك الموت: يا وليّ الله لا تجزع فوالّذي بعث محمّداً لأنّي أبرّ بك و أشفق عليك من والد رحيم لو حضرك، افتح عينيك فانظر.

قال: و يمثّل له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أميرالمؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسين و الأئمّة من ذرّيّتهمعليهم‌السلام فيقال له: هذا رسول الله و أميرالمؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسين و الأئمّةعليهم‌السلام رفقاؤك.

قال: فيفتح عينيه فينظر فينادي روحه مناد من قبل ربّ العزّة فيقول: يا أيّتها النفس المطمئنّة إلى محمّد و أهل بيته ارجعي إلى ربّك راضية بالولاية مرضيّة بالثواب فادخلي في عبادي يعني محمّداً و أهل بيته و ادخلي جنّتي فما من شي‏ء أحبّ إليه من استلال روحه و اللحوق بالمنادي.

أقول: و روى هذا المعنى القمّيّ في تفسيره و البرقيّ في المحاسن.

٤١٦

( سورة البلد مكّيّة و هي عشرون آية)

( سورة البلد الآيات 1 - 20)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ( 1 ) وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ( 2 ) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ( 3 ) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ( 4 ) أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ( 5 ) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا ( 6 ) أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ ( 7 ) أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ ( 8 ) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ ( 9 ) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ( 10 ) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ( 11 ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ( 12 ) فَكُّ رَقَبَةٍ ( 13 ) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ( 14 ) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ ( 15 ) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ( 16 ) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ ( 17 ) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ( 18 ) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ( 19 ) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ ( 20 )

( بيان‏)

تذكر السورة أنّ خلقة الإنسان مبنيّة على التعب و المشقّة فلا تجد شأناً من شؤن الحياة إلّا مقروناً بمرارة الكدّ و التعب من حين يلج في جثمانه الروح إلى أن يموت فلا راحة له عارية من التعب و المشقّة و لا سعادة له خالصة من الشقاء و المشأمة إلّا في الدار الآخرة عند الله.

فليتحمّل ثقل التكاليف الإلهيّة بالصبر على الطاعة و عن المعصية و ليجدّ في نشر الرحمة على المبتلين بنوائب الدهر كاليتم و الفقر و المرض و أضرابها حتّى يكون

٤١٧

من أصحاب الميمنة و إلّا فآخرته كاُولاه و هو من أصحاب المشأمة عليهم نار مؤصدة.

و سياق آيات السورة، يشبه السياق المكّيّ فيؤيّد به كون السورة مكّيّة و قد ادّعى بعضهم عليه الإجماع، و قيل: السورة مدنيّة و السياق لا يساعد عليه، و قيل: مدنيّة إلّا أربع آيات من أوّلها و سيأتي في البحث الروائيّ التالي إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ( لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ ) ذكروا أنّ المراد بهذا البلد مكّة و تؤيّده مكّيّة سياق السورة و قوله:( وَ والِدٍ وَ ما وَلَدَ ) خاصّة بناء على كون المراد بوالد هو إبراهيمعليه‌السلام على ما سيجي‏ء.

قوله تعالى: ( وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ ) حال من هذا البلد، و وضع الظاهر موضع الضمير في قوله:( بِهذَا الْبَلَدِ ) للدلالة على عظم شأنه و الاعتناء بأمره و هو البلد الحرام، و الحلّ مصدر كالحلول بمعنى الإقامة و الاستقرار في مكان و المصدر بمعنى الفاعل.

و المعنى اُقسم بهذا البلد و الحال أنك حالٌ به مقيم فيه و في ذلك تنبيه على تشرّف مكّة بحلولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها و كونها مولده و مقامه.

و قيل: الجملة معترضة بين القسم و المقسم به و المراد بالحلّ المستحلّ الّذي لا حرمة له قال في الكشاف: و اعترض بين القسم و المقسم عليه بقوله:( وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ ) يعني و من المكابدة أنّ مثلك على عظم حرمتك يستحلّ بهذا البلد الحرام كما يستحلّ الصيد في غير الحرم - عن شرحبيل - يحرّمون أن يقتلوا بها صيداً و يعضدوا(1) بها شجرة و يستحلّون إخراجك و قتلك، و فيه تثبيت من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بعث على‏ احتمال ما كان يكابد من أهل مكّة و تعجيب من حالهم في عداوته انتهى.

ثمّ قال: أو سلّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقسم ببلده أنّ الإنسان لا يخلو من مقاساة الشدائد و اعترض بأن وعده فتح مكّة تتميماً للتسلية و التنفيس عنه فقال:( وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ ) يعني و أنت حلّ به في المستقبل تصنع فيه ما تريد من القتل و الأسر إلى آخر ما قال، و محصّله تفسير الحلّ بمعنى المحلّ ضدّ المحرم، و المعنى و سنحلّ لك يوم فتح مكّة حيناً فنقاتل و تقتل فيه من شئت.

____________________

(1) عضد الشجرة: قطعها و نثر ورقها للإبل. و شرحبيل راوي الحديث.

٤١٨

قوله تعالى: ( وَ والِدٍ وَ ما وَلَدَ ) لزوم نوع من التناسب و الارتباط بين القسم و المقسم عليه يستدعي أن يكون المراد بوالد و ما ولد من بينه و بين البلد المقسم به نسبة ظاهرة و ينطبق على إبراهيم و ولده إسماعيلعليهما‌السلام و هما السببان الأصليّان لبناء بلدة مكّة و البانيان للبيت الحرام قال تعالى:( وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ ) البقرة: 127 و إبراهيمعليه‌السلام هو الّذي سأل الله أن يجعل مكّة بلداً آمنا قال تعالى:( وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً ) إبراهيم: 35. و تنكير( والِدٍ ) للتعظيم و التفخيم، و التعبير بقوله( وَ ما وَلَدَ ) دون أن يقال: و من ولد، للدلالة على التعجيب من أمره مدحاً كما في قوله:( وَ اللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ ) آل عمران: 36.

و المعنى و اُقسم بوالد عظيم الشأن هو إبراهيم و ما ولد من ولد عجيب أمره مبارك أثره و هو إسماعيل ابنه و هما البانيان لهذا البلد فمفاد الآيات الثلاث الإقسام بمكّة المشرّفة و بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذي هو حلّ فيها و بإبراهيم و إسماعيل اللّذين بنياها.

و قيل: المراد بالوالد إبراهيم و بما ولد جميع أولاده من العرب.

و فيه أنّ من البعيد أن يقارن الله سبحانه بين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و إبراهيمعليه‌السلام و بين أمثال أبي لهب و أبي جهل و غيرهم من أئمّة الكفر فيقسم بهم جميعاً في سياق، و قد تبرّأ إبراهيمعليه‌السلام ممّن لم يتّبعه من بنيه على التوحيد إذ قال فيما حكاه الله:( وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) إبراهيم: 36.

فعلى من يفسّر ما ولد بأولاد إبراهيم أن يخصّهم بالمسلمين من ذرّيّته كما في دعاء إبراهيم و إسماعيل عند بنائهما الكعبة على ما حكاه الله:( رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَ أَرِنا مَناسِكَنا وَ تُبْ عَلَيْنا ) البقرة: 128.

و قيل: المراد بوالد و ما ولد، آدمعليه‌السلام و ذرّيّته جميعاً بتقريب أنّ المقسم عليه بهذه الأقسام خلق الإنسان في كبد و قد سنّ الله في خلق هذا النوع و إبقاء وجوده سنّة الولادة فقد أقسم في هذه الآيات بمحصول هذه السنّة و هو الوالد و ما ولد على أنّ الإنسان في كدّ و تعب بحسب نوع خلقته من حين يحيى إلى حين يموت.

٤١٩

و هذا الوجه في نفسه لا بأس به لكن يبقى عليه بيان المناسبة بين بلدة مكّة و بين والد و كلّ مولود في الجمع بينهما في الأقسام.

و قيل: المراد بهما آدم و الصالحون من ذرّيّته، و كأنّ الوجه فيه تنزيهه تعالى من أن يقسم بأعدائه الطغاة و المفسدين من الكفّار و الفسّاق.

و قيل: المراد بهما كلّ والد و كلّ مولود و قيل: من يلد و من لا يلد منهم بأخذ( ما ) في( ما وَلَدَ ) نافية لا موصولة.

و قيل: المراد بوالد هو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بما ولد اُمّته لأنّه بمنزلة الأب لاُمّته و هي وجوه بعيدة.

قوله تعالى: ( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ ) الكبد الكدّ و التعب، و الجملة جواب القسم فاشتمال الكبد على خلق الإنسان و إحاطة الكدّ و التعب به في جميع شؤن حياته ممّا لا يخفى على ذي لبّ فليس يقصد نعمة من نعم الدنيا إلّا خالصة في طيبها محضة في هنائها و لا ينال شيئاً منها إلّا مشوبة بما ينغّص العيش مقرونة بمقاساة و مكابدة مضافاً إلى ما يصيبه من نوائب الدهر و يفاجئه من طوارق الحدثان.

قوله تعالى: ( أَ يَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ) بمنزلة النتيجة لحجّة الآية السابقة تقريرها أنّ الإنسان لمّا كانت خلقته مبنيّة على كبد مظروفة له لا ينال قطّ شيئاً ممّا يريد إلّا دون ما يريد أو غير ما يريد فهو محاط في خلقه مغلوب في إرادته مقهور فيما قدّر له من الأمر و الّذي يغلبه في إرادته و يقهره على التلبّس بما قدّر له و هو الله سبحانه يقدر عليه من كلّ جهة فله أن يتصرّف فيه بما شاء و يأخذه إذا أراد.

فليس للإنسان أن يحسب أن لن يقدر عليه أحد فيدعوه ذلك إلى أن يعلو على الله و يستكبر عن عبادته أو يعطيه في بعض ما أمر به كالإنفاق في سبيله فيستكثره و يمتنّ به على الله أو يمكر به تعالى بعد ما عمله رياء و سمعة عملاً لوجه الكريم فيقول: أهلكت مالاً لبدا.

قوله تعالى: ( يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً ) اللبد الكثير، سياق الآية و ما يتلوها من الآيات إلى آخر السورة مشعر بأنه كان هناك بعض من أظهر الإسلام أو مال إليه

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578