شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم13%

شبهات وردود حول القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 578

شبهات وردود حول القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 578 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 297623 / تحميل: 13677
الحجم الحجم الحجم
شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

أساسيّين: ثابتة ومتغيّرة، أمّا الثابتة فهي التي شُرِّعت وِفق مصالح عامّة عُمُوماً يَشمل الأجيال والأزمان مدى الدهر، وهي الأصل في التشريع حسب ظاهره الأَوّلي، إلاّ إذا دلّت القرائن على أنّها مِن المـُتغيِّرات، وهي التي شُرّعت لمصالح وقتيّة تُناط ببقاء تلك المصالح وتَذهب بزوالها، وهذا في جانب الأحكام السياسيّة الصادرة مِن أُولي الأمر نَجده بكثير، وقد فصّلنا الكلام في ذلك وَذَكرنا المعايير التي يُمكن التمييز بين القسمين، والأصل المرجع عند الشكّ (١) .

أمّا القول بالتنازل والمـُداهنة أو المـُجاملة مع القومِ فهي عقيدة باطلة يَرفضُها أصالة التشريع الإسلامي المـُستَنِد إلى وحي السماء، ويأبى الله ورسوله ذلك، ( وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) (٢) .

* * *

وسؤال آخر: هل كان الطلاق والرجوع في العِدّة - بذلك الشكل الفظيع - عادةً جاهليّة ليَكون موضع الإسلام منها تعديلها إلى وجهٍ صحيح؟

قال الشيخ مُحمّد عَبده: كان للعرب في الجاهليّة طلاق ومُراجعة في العدّة، ولم يكن للطلاق حدّ ولا عدد... فكان ذلك ممّا أصلحه الإسلام.

في حين أنّ جواز الرجوع في العدّة - في الطلاق الرَّجعي - وكذا تشريع العدّة للطلاق أمرٌ لم يكن للعرب ولا لسائر الأُمَم عهدٌ بذلك مِن ذي قَبل؛ وإنّما هو مِن مُبدَعات الإسلام وتشريعاته التأسيسيّة الحكيمة، حتّى أنّ الإمام عَبده استشهد بقضيةٍ وقعت في عهدٍ متأخّر في المدينة، حيث جاءت المرأة وشكت عند عائشة لتَرفع أمرَها إلى النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) وَنَزلت آيات مِن أُخريات سورة البقرة، ولعلّها في العام السادس أو السابع للهجرة! وقد صرّح الطبري بأنّه كان على عهد النبيّ، وكان رجلٌ مِن الأنصار (٣) .

____________________

(١) تجد جانباً من ذلك في رسالتنا (ولاية الفقيه) الفارسيّة ص ١٧٢ - ١٧٤.

(٢) البقرة ٢: ١٢٠، وفي آية أخرى: ( وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ ) ، البقرة ٢: ١٤٥، وفي ثالثة: ( وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) ، الأنعام ٦: ١١٦.

(٣) جامع البيان، ج ٢، ص ٢٧٦.

١٤١

هذا، وقد أخرج أبو داود وابن أبي حاتم والبيهقي في سُنَنه عن أسماء بنت يزيد الأنصاريّة، قال: طُلِّقتُ على عهد رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله) ولم يكن للمـُطَلَّقة عدّة، فأنزل الله - حين طُلِّقت - العدّة للطلاق ( وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ) (١) ، فكانت أَوّل مَن أُنزلت فيها العدّة للطلاق.

وأخرج عبد بن حميد عن قتادة قال: كان أهل الجاهليّة يُطلِّق أحدهم ليس لذلك عدّة (٢) ، وأمّا الرواية الأُخرى عن قتادة بأنّ الطَّلاق لم يكن له في الجاهليّة عدد وكانوا يراجعون في العدّة (٣) ، فلعلّ الذيل زيادةٌ مِن الراوي أو بيان للمـُراجعة بعد تشريع العدّة في الإسلام، إذ لا تُقاوِم هذه الرواية ما تقدّمها من روايات مستفيضة.

* * *

وسؤال ثالث: هل الطلاق بيد الرجل ورَهن إرادته على الإطلاق؟

ذهب المشهور إلى ذلك استناداً إلى قوله (صلّى اللّه عليه وآله): (إنّما الطَّلاق لِمَن أَخَذ بالساقِ) (٤) .

والحديث كما رواه ابن ماجة في السُنَن عن ابن عبّاس أنّ رجلاً أتى النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) فقال: يا رسول الله، إنّ سيّدي زوّجني أَمَته وهو يُريد أنْ يُفرّق بيني وبينها، فصعد النبيّ (صلّى الله عليه وآله) المِنبر فقال: (أيّها الناس، ما بالُ أحدِكم يُزوّج عَبدَه أَمَته ثُمّ يُريد أنْ يُفرّق بينهما؟! إنّما الطلاق لمـَن أَخذ بالساق).

والحديث وإنْ كان بِمُختلف طُرقه ضعيف الإسناد إلاّ أنّ الفقهاء تَسالموا على الاستناد إليه، حتّى أنّ صاحب الجواهر عبّر عنه بالنبويّ المـَقبول وَذَكر أنّ الحكم إجماعي، وقد أَرسل المحقّق حُكَمَه باختصاص الطلاق بِمالِك البُضع إرسال المسلّمات (٥) .

____________________

(١) البقرة ٢: ٢٢٨.

(٢) الدرّ المنثور، ج ١، ص ٦٥٦، وسنن أبي داود، ج ٢، ص ٢٨٥، رقم ٢٢٨١، وسنن البيهقي، ج ٧، ص ٤١٤ كتاب العدد.

(٣) جامع البيان، ج ٢، ص ٢٧٦.

(٤) سُنَن ابن ماجة، ج ١، ص ٦٤١، باب ٦٦٧، طلاق العبد، رقم ٢١٠٧، وفي كنز العمّال، ج ٩، ص ٦٤٠، رقم ٢٧٧٧٠ نقله عن الجامع الكبير للطبراني، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد، ج ٤، ص ٣٣٤ وعن عصمة... الخ، وقال: فيه الفضل بن المختار وهو ضعيف. (هامش الكنز)، أمّا عن ابن عباس - كما في سُنَن ابن ماجة والطبراني - ففي طريقه ابن لهيعة، قال في الزوائد: وهو ضعيف. (هامش ابن ماجة).

(٥) جواهر الكلام، ج ٣٢، ص ٥.

١٤٢

وعليه، فلا شأن للمرأة في أمر الطلاق والفِراق، وإنّما هو رَهنُ إرادة الرجل حسبَ مشيئته الخاصّة.

* * *

غير أنّ المسألة بحاجة إلى دقةٍ ونظرةٍ فاحصةٍ:

الطلاق - وهو الفِراق بين المـُتآلِفَين - لابدّ أن يكون عن كراهية مُعقَّدة لا يُمكن حلُّها إلاّ بالمـُفارقة، والكراهية إمّا من الزوج فالطلاق رجعي، إذا كان عن دخولٍ بها ولم تكنْ التطليقةُ الثالثة، ولم تكنْ المرأة يائسةً، وشرائط أُخَر مذكورة في محلّها.

وإمّا مِن الزوجة، فالطلاق خُلعي؛ لأنّها تَبذل مَهرها لتَنخلع أي تتخلّص بنفسها وتنفلت عن قيد الزوجيّة.

وإمّا مِن الطرفين، ويعبّر عن ذلك في مصطلحهم بالمـُباراة، مِن المـُبارَأَة وهي التخلّص والفصل بين الشريكَينِ أو المـُتزاوِجَين. يقال: بَارَأَ شريكَه: فاصَلَه وفارَقَه. وتَبارَأَ الزوجان: تَفارَقا.

فالطلاق في الصورة الأُولى عن رغبةِ الزوج، وفي الصورة الثانية عن رغبة الزوجةِ، وفي الصورة الثالثة عن رغبتهما معاً.

فهل الطلاق في جميع هذه الصور بيد الرجل مَحضاً ورَهن إرادته، إن شاء فارَقَها وخلّى سبيلَها، وإن شاء أمسكَها إضراراً بها؟ ولا شأن للمرأة في ذلك ولا لوليّ الأمر إطلاقاً؟!.

وإليك بعض الكلام حول هذه المسألة الخطيرة الشأن:

جاء في الحديث النبويّ المـُستفيض: (أنّ امرأةً - ولعلّها جميلة بنت أُبيّ بن سلول - تزوّجها رجلٌ دَميمٌ (كريه المنظر) وأَصدَقها حديقة، فلمـّا رآها كَرِهتهُ كَرَاهةً شديدةً، فجاءت إلى رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله) وأَبدت كَراهَتَها له وقالت: إنّي لأَكرَهَهُ لدَمامَته وقُبحِ مَنظره حينما رأيتُه، وزادت: إنّي لولا مخافة الله لبَصَقتُ في وجهِهِ، قالت: إنّي رفعتُ الخِباء فرأيته مُقبِلاً في عدّةٍ، فإذا هو أشدُّهم سواداً وأقصرهم قامةً وأقبحهم وجهاً، قالت: والله، لا يجمع

١٤٣

رأسي ورأسَه شيء. فقال لها رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله): (أَتَرُدّين عليه حديقتَه)؟ قالت: نعم، وأَزيدُه، قال لها النبيّ: (لا، حديقته فقط)، فردّت عليه حديقتَه، فَفَرّق بينهما رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله).

ويَبدو أنّ ذلك كان بمَغيبٍ عن الرجُل وذلك؛ لأنّ الرواية ذكرت أنّه لمـّا بَلَغه قضاء رسول اللّه وحكمُه بالفِراق بينهما قال: قد قَبِلتُ قضاء رسول اللّه، قال ابن عبّاس: وكان أَوّلُ خُلعٍ وَقَع في الإسلام (١) .

وظاهر الحديث: أنّه في صورة كَراهة الزوجة تَرفع أمرَها إلى وليّ الأمر (الحاكم الشرعي) وهو الذي يتولّى شأنَها ويقضي بفِراقها، وليس للزوج الامتناع، ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) (٢) .

والمـُراد بقضاء الله والرسول أنْ يكون قضاء النبيّ وِفق شريعة السماء، ولا يكون إلاّ كذلك، وعليه فقبول الرجُل كان فرضاً عليه ولم يكن له الردّ.

وهكذا جاء في أحاديث أئمّة أهل البيت (عليهم السلام):

روى الشيخ بإسناده إلى زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: (لا يكون الخُلع حتّى تقول: لا أُطيع لك أمراً ولا أَبرّ لك قَسَماً ولا أُقيم لك حدّاً فخذ منّي وطلّقني، فإذا قالت ذلك فقد حلّ له أنْ يَخلعها بما تراضيا عليه من قليلٍ أو كثيرٍ، ولا يكون ذلك إلاّ عند سلطان، فإذا فعلت ذلك فهي أَملك بنفسها من غير أنْ يُسمّى طلاقاً) (٣) .

وروى بإسناده عن ابن بزيع قال: سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن المرأة تُباري زوجَها أو تَختَلع منه بشهادة شاهِدَينِ على غير طُهرٍ مِن غير جُماع، هل تَبينُ منه بذلك؟ أو هي امرأته ما لم يُتبِعُها بطلاقٍ؟ فقال: (تَبينُ منه)، قال: إنّه رَُوي لنا أنّها لا تَبينُ منه حتّى يُتبِعُها بطلاقٍ! قال (عليه السلام): (ليس ذلك إذن خُلع)، فقال: تَبينُ منه؟ قال (عليه السلام): (نعم) (٤) .

وقد أفتى بذلك الشيخ وجماعة مِن كِبار الفقهاء وأوجبوا على الزوج الإجابة على طلبِها مِن غير أنْ يكون له الامتناع.

____________________

(١) راجع: سُنَن البيهقي، ج٧، ص٣١٤، وسُنَن ابن ماجة، ج١، ص٦٣٣، باب ٦٥٨، والدُرّ المنثور، ج١، ص ٦٧٠ - ٦٧٢ وقد نقلنا النصّ بصورة مُلفقة والأكثر للدرّ.

(٢) الأحزاب ٣٣: ٣٦.

(٣) تهذيب الأحكام، ج٨، ص٩٨ - ٩٩، رقم ٣٣١.

(٤) المصدر: رقم ٣٣٢.

١٤٤

قال الشيخ في النهاية: وإنّما يَجب الخُلع إذا قالت المرأة لزوجها: إنّي لا أُطيع لك أَمراً ولا أُقيم لك حدّاً، فمتى سُمِع منها هذا القول أو عُلِم مِن حالِها عصيانَه في شيء مِن ذلك وإنْ لم تَنطق به وَجَب عليه خُلعُها (١) .

قال العلاّمة في المـُختَلف: وتَبِعَه أبو الصلاح الحلبي والقاضي ابن البرّاج في الكامل وعليّ بن زُهرة الحلّي (٢) .

قال أبو الصلاح (ت ٤٤٨): فإذا قالت ذلك فلا يَحِلّ له إذ ذاك إمساكُها (٣) .

وقال ابن زُهرة (ت٥٨٥): وأمّا الخُلع فيكون مع كَراهة الزوجة خاصّةً الرجلَ، وهو مُخيّر في فِراقها إذا دَعَته إليه حتّى تقول له: لئن لم تفعل لأَعصيَنَّ اللّه بِتَرك طاعتِك، أو يَعلم منها العِصيان في شيءٍ مِن ذلك، فيجب عليه والحال هذه طلاقُها (٤) .

فإذا كان ذلك واجباً عليه ولم يكن له الامتناع عند ذلك لَزِمَهُ طلاقُها، أو يُلزِمُه السلطان (وليّ الأمر - الحاكم الشرعي) أو يتولّى الحاكم ذلك بنفسه حسبَما تقدّم في ظاهر الحديث النبوي.

على أنّ ذلك هو لازم اشتراط أنْ يكونَ بمَحضَر السلطان، كما اشترطه أبوعلي ابن جنيد الإسكافي؛ استناداً إلى حديث زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) الآنِف، ولقوله تعالى: ( فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ) (٥) ، وهذا الخطاب للحاكم (٦) .

فإنّ مُقتضى هذا الاشتراط أنْ يقوم الحاكم بتنفيذ الأمر حسبَما يَراه مِن مصلحتِهما، إمّا إلزاماً للزوج أو التولّي بنفسه.

وقد ناقش صاحب الجواهر القولَ بوجوب خُلعِها على الرجل بعدم الدليل على الوجوب؛ إذ ليس في شيءٍ من الروايات أَمرٌ بذلك وبعدم تماميّة كَونه رَدعاً عن المـُنكر، مُضافاً إلى كونه منافياً لأُصول المذهب! (٧) .

____________________

(١) النهاية في مجرد الفقه والفتاوي للطوسي، ص٥٢٩.

(٢) المختلف، ج٧، ص٣٨٣.

(٣) الكافي في الفقه للحلبي، ص٣٠٧.

(٤) غنية النزوع لابن زُهرة، ج١، ص٣٧٤ - ٣٧٥.

(٥) البقرة ٢: ٢٢٩.

(٦) المختلف، ج٧، ص٣٨٨.

(٧) جواهر الكلام، ج٣٣، ص٣ - ٤.

١٤٥

لكن جانب الإضرار بالمرأة - إذا لم تُطِق الصبرَ معه - يَرفع سُلطة الرجل على الطَّلاق حتّى في هذه الصورة؛ إذ (لا ضَرر ولا ضِرار في الإسلام) (١) ، بمعنى: أنّه لم يُشرَّع في الإسلام أيّ تشريع - سواء أكان تكليفاً أم وضعاً - إذا كان موردُه ضَرريّاً، وهذه القاعدة حاكمة على جميع الأحكام الأَوّليّة في الشريعة المقدّسة ( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (٢) ، ولا شكّ في أنّ الحكم باختيار الرجل بشأن الطلاق - حتّى في صورة كون الزوجيّة أو تَداومِها حَرَجاً على المرأة وضارّاً بها - حُكمٌ ضَرريٌّ، فهو مرفوع، فعُموم سُلطة الرجل على أَمر الطلاق مُخَصَّصٌ بغير هذه الصورة.

وهكذا ورد صحيحاً عن الإمام أبي جعفر الباقر (عليه السلام) فيمَن كانت عنده امرأة ولا يقوم بنَفقتِها... قال: (كان حقّاً على الإمام أنْ يُفرّق بينهما) (٣) .

على أنّ دليل عموم سُلطة الرجل على الطلاق ضعيف، بعد كون مُستَنده الحديث النبويّ المعروف (إنّما الطلاق لمن أَخذ بالساق)، وهذا الحديث بِمُختَلف طُرقه ضعيف الإسناد على ما تقدّم عن الهيثمي في مجمع الزوائد (٤) .

وعُمدة ما استَدَلّ به صاحب الجواهر على ذلك هو الإجماع (٥) ، ولم يكنْ دليلاً لفظياً ليكون له إطلاقٌ أو عموم، إذن، فمُستند العُموم ضعيف الشمول.

وبعد، فإذا لم يكن لعُمومِ سُلطة الرجل على الطَّلاق دليل قاطع وشامل وكان أمر الخُلع مَنوطاً بالتَرافع لدى السلطان، كان مُقتضى ذلك هو إمكانُ إلزامِ الزوج بالطلاق إذا كانت المـَصلحة قاضية بذلك، ومُدعَمَاً بحديث (لا ضَرَر ولا ضِرار في الإسلام).

وهناك بعض الشواهد عليه في بعض النصوص، كما في حديث حمران عن الصادق (عليه السلام) وفي آخره: (والطلاق والتخيير مِن قِبل الرجل، والخُلع والمـُباراة يكون مِن قِبل المرأة) (٦) .

____________________

(١) وسائل الشيعة، باب ١ من أبواب موانع الإرث، حديث ١٠، ج١٧، ص١١٨.

(٢) الحجّ ٢٢: ٧٨.

(٣) وسائل الشيعة: باب ١ من أبواب النفقات، ج٢١، ص٥٠٩، رقم ٢ و٦ و١٢.

(٤) راجع: هامش كنز العمّال، ج٩، ص٦٤٠، وهامش ابن ماجة، ج١، ص٦٤١، ومجمع الزوائد، ج٤، ص٣٣٤.

(٥) جواهر الكلام، ج٣٢، ص٥.

(٦) وسائل الشيعة، ج٢٢، ص٢٩٢، رقم ٤، باب ٦ من كتاب الخُلع.

١٤٦

وهذا يعني: أنّ أمر الخُلع مَنوطٌ بِمَصلحة المرأة واختيارها، ولا خِيار للزوج فيه، مضافاً إلى ما فعله النبي (صلّى اللّه عليه وآله) بشأن المـُختَلَعة..

إذن فطريق الخَلاص للمرأة - إذا لم تُطِق الصبر مع زوجها - مُنفَتِح، وليست أسيرةً رَهن إرادة الرجُل مَحضاً.

بقي هنا شيءٌ وهو كلام صاحب الجواهر بالمـُنافاة مع أصول المذهب! ولم نتحقَّقه، كيف وقاعدة لا ضَرر ولا حَرج هُما اللذان يُشكِّلان قواعد المذهب، والعمل عند اللّه.

والسؤال الأخير: ما هو سبب الفَرق بين الرجل والمرأة، حيث كان الرجل مُطلَق السَّراح بشأن طلاق زوجته، وأمّا المرأة فبعد مُراجعة الحاكم الشرعي ورَهن تَصميمِهِ في الأمر؟!

وهذا يعود إلى ما بين الرجل والمرأة مِن فَرق في طبيعتِهما؛ حيث هي مُرهَفَة الطبع، رقيقة النفس، ذات عواطف جيّاشة، تُثار لأيّ مؤشِّر وتنبري لأيّ وَخزَة، وكلّ أمر إذا أُنيط بجانب العاطفة السريعة التأثُّر ربّما أوجد مشاكل ومضاعفات لا يُحمد عُقباها، أمّا الرجل فبطبيعته الهادئة المتريّثة، وهو الذي تحمّل تكاليف هذا الازدِواج، ولا يمكن أنْ يتغافل عن عواقب سُوءٍ سوف تترتّب على الفِراق أحياناً، ويكون أعباء ثقلها على عاتقه في الأغلب؛ فإنّه بذلك ولغيره مِن الجهات لا يتسّرع في الأمر مهما بلغ به الغضب أو ثارت ثائِرتُه في حينه، مادام لم ينظر في عاقبة الأمر وما يترتّب عليه مِن أثر!

ومع ذلك، فإنّ القوانين المدنيّة الحاكمة اليوم في البلاد الإسلاميّة تَفرض على الرجل تريّثَه المـُضاعف ومُراجعة المـَحاكم الصالحة، مِن غير أنْ يكون مُطلق السَّراح.

ونحن الآن - في ظلّ ولاية الفقيه - نرى مشروعيّة هذه القوانين المـُحدِّدَة مِن تَصرّفات الرجل العابثة، وهذا مِن الآثار الإيجابيّة لسيطرة ولاية الفقيه على القوانين الحاكمة في البلاد.

* * *

ونجد هناك بعض المحاولات لسدّ هذه الثغرة عن طريق الاشتراط على الزوج - في عَقد النِّكاح أو ضِمن عقدٍ آخر لازم - بأنْ يُوكِّل الزوج زوجتَه في طَلاق نفسِها متى

١٤٧

شاءت أو مَشروطاً بعدم إمكان المـُؤالَفَة ونحو ذلك، فتقوم المرأة بتطليق نفسِها وَكالةً عن زوجِها.

وبهذا النحو مِن العِلاج أفتى سيّدنا الأستاذ الإمام الخميني - طاب ثراه - إجابةً على استفتاءٍ قدّمته إليه جَماعةُ النِسوَة المـُناضِلة في إيران عام ١٣٥٨ هـ.ش (١) .

وقد كان هذا الاشتراط على الزوج في صالح الزوجة رائجاً في أوساطنا منذ القديم، لكن على النحو المـَشروط، أمّا بصورة الإطلاق ومتى شاءت اختصّ الإمام الراحل (قدس سرّه) بالإفتاء به.

وإليك نصّ العبارة - مُترجمةً - بعد البَسمَلة.

قد سهّل الشارع المقدّس طريقةً معيَّنةً للنساء، كي يَستطعنَ تولّي الطَّلاق بأنفسِهنّ، وذلك بأن تَشترط المرأة في ضِمن عَقد النِّكاح أنْ تكونَ وكيلةً عن الزوج في الطلاق بصورة مُطلقة، أي متى شاءت أنْ تُطلّق نفسَها فَعَلت حَسَب مشيئتِها، أو بصورة مَشروطةٍ ما إذا تخلّف الزوج عن بعض وظائفه الزوجيّة، أو أراد أن يتزوّج امرأةً أُخرى، ونحو ذلك، فهي مُختارة - حسب وكالتِها عن الزوج - في تطليقِ نفسِها، قال: وبهذا النحو مِن العِلاج تنحّل مُشكلة أَمر الطَّلاق، (روح اللّه الموسويّ الخمينيّ)

لكن الظاهر أنّ هذا ليس بالعلاج الحاسم، والمـُشاهَد أنّ الأزواج لا يُوافقون على هذا النحو من الاشتراط ولا سيّما صورة إطلاقه، وليس الرجل - مهما كانت المرأة بالمـُفتَن بها - بهذا النحو مِن الرضوخ لإرادتها الخاصّة - طُول حياتها الزوجيّة - لاسيّما وتضخّم عدد النساء الطالبات للزواج بلا شرط ولا قيد!

إنّ للرجل - في طبيعته الرجوليّة - أَنفَةً وشموخاً لا يستسلم لقيادة المرأة مهما كانت فائقةً، إلاّ إذا بلغ به الذُّلّ والهوان ما يَجعله خاضِعاً لهذا الرضوخ.

على أنّ هنا حديثاً عن الإمام الصادق (عليه السلام) في رَجُلٍ جَعَل أمرَ امرأته بيدها! قال:

____________________

(١) راجع: صحيفة النور، ج١٠، ص٧٨، ومجلّة (نامه مفيد)، العدد ٢١ ص١٦٨.

١٤٨

(وَلّى الأمرَ مَن ليس أهله، وخالف السنّة، ولم يَجز النِّكاح) (١) .

وفي رواية أُخرى في رجُلٍ لامرأته: أَمرُكِ بيدِكِ! قال: (أَنّى يكون هذا، واللّه يقول ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء ) ؟! (٢) ليس هذا بشيء) (٣) .

وأيضاً هنا كلام عن هذه الوَكالة - وهي عَقد جائز، متى شاء المـُوكِّل عَزلَ الوكيل - هل تُصبح لازِمةً باشتراطه في ضِمن عقد النِّكاح أو أيّ عقد لازم؟ وهل الشرط ضِمن عَقدٍ لازم يُغيّر مِن ماهيّة المشروط؟

وأخيراً، فإنّ الشيخ ذَكَر في كتابه (المبسوط) قال: وإن أَراد [ الرجل ] أن يجعلَ الأمر إليها فعندنا لا يجوز على الصحيح مِن المذهب. وفي أصحابنا مَن أجازه (٤) .

ومِن ثَمّ فإنّ المسألة ليست بهيّنة، لا سيّما وخُطورة أمر البُضع المقتضية للاحتياط فيه، كما وقد رجّح صاحب الجواهر جانب الاحتياط، قال: وعلى كلّ حالٍ فالاحتياط لا ينبغي تركه (٥) .

واضربوهنّ!

قال تعالى: ( وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً ) (٦) .

قالوا: في هذه الآية أيضاً مَهانة بشأن المرأة، ممّا يتناسب وذلك العهد الجاهلي الذي كان موضع المرأة فيه موضع الضِّعة والصَّغار!

لكن بأدنى مراجعة لكُتُب التفسير والسِيَر وكلمات الفقهاء في ذلك يتّضح أنّ الأمر ليس بتلك الحدّة التي كانت تُتُصوّر عن العصر الجاهلي المـُظلم وإمكان تأثيره على التشريعات الإسلاميّة الناصعة البيضاء والسهلة السمحاء.

____________________

(١) تهذيب الأحكام، ج٨، ص٨٨، والاستبصار، ج٣، ص٣١٣، والكافي، ج٦، ص١٣٧، رقم ٤.

(٢) النساء ٤: ٣٤.

(٣) وسائل الشيعة، ج٢٢ ص ٩٣ - ٩٤، رقم ٥ و٦، باب ٤١ من أبواب مقدّمات الطلاق.

(٤) المبسوط للطوسي، ج٥، ص٢٩.

(٥) جواهر الكلام، ج٣٢، ص٢٥.

(٦) النساء ٤: ٣٤.

١٤٩

كانت المرأة في العصر الجاهلي في مُستوى هابط جدّاً، وجاء الإسلام ليأخذ بيدها ويَرفَعَها إلى حيث مستواها الإنساني الرفيع، ولكنّ هذا التحوّل الجذري بشأنها هل أمكن حصوله بصورة فجائيّة وبِلا تمهيدِ مُقدّمات؟ أم كان بحاجة إلى مَهَلٍ وبصورة تدريجيّة لِقلب تلك الغِلظة المـُتوهِّجة إلى رقّةٍ ورأفةٍ هادئة؟ الأمر الذي يستدعي المـُسايرة مع القوم بعض الشيء في هذا الطريق الوَعْر؛ ليمكن إيقافهم أو تمهيد أسباب هذا الإيقاف فيمكن إرجاعهم إلى حيث فطرتهم الإنسانيّة الأصيلة!

وهكذا جارى الإسلام العرب في بادئ الأمر في قِسم مِن عاداتهم - كانت متحكِّمة عليهم تَحكّماً وثيقاً - وفي أثناء هذه المـُجاراة والمـُسايرة، أخذ ينفثُ في رَوعِهم رُوح المـُلائَمة، وإبعاد الخشونة لتلين قلوبهم ويَهتدوا إلى وجه الصواب، فيَرتَدِعوا بأنفسهم شيئاً فشيئاً عن الأخطاء التي كانت تَجذبُهم بقوّة ذلك العهد.

وهذا النحو مِن سياسة التدبير نرى الإسلام قد اتّخذها بشأنِ لفيفٍ مِن عاداتٍ جاهليّة لم تكن متحكِّمة على العرب وحدهم، بل على سائر الأُمم على وجه العُموم؛ ومِن ثَمّ كان قَلعُ جذورها بحاجة إلى مُهلة وفرصة زمنيّة، قصيرة أو طويلة، وتمهيد مقدّمات أصوليّة تُمهِّد هذا السبيل.

ويُمكننا التمثيل لذلك بمسألة الرقّية التي جارَاها الإسلام، حيث تَحَكّمُها على العالم كلّه يومذاك، وكانت سلعةً تجاريّة ضَخمة، لا يمكن مُجابَهتُها بِلا تمهيد مقدّمات، فقد قام الإسلام في وجهها، لكن لا بشكلٍ علنيٍّ صريح، ولكن أعلن مخالفته لمنشأ الاسترقاق الذي كان عليه جمهور الأُمَم ذلك العصر، وسدّ طريقه - شرعيّاً - ما عدا حالة الاستيلاء على المـُحاربين في ميدان القتال، الأمر الذي كان يَخصّ الرجال المـُحاربين ضدّ الإسلام دون غيرهم، ولا النساء ولا الأطفال والشيوخ، ورفض رفضاً باتّاً إمكان الاسترقاق بأيّ وجهٍ كان.

ثمّ إنّه مع ذلك جعل الطريق لتَحرُّرِهم فسيحاً وفي أنحاء وأشكال، حسبَما نَذكره.

واتخاذ مثل هذه الإجراءات لقطع جذور عادةٍ جاهليّةٍ ساطية، قد اصطلحنا عليه

١٥٠

بالنَسخ التدريجي المـُسيَّر مع الزمان، ممّا قد مُهدِّت أسبابه مُنذ البدء وعلى عهد صاحب الشريعة.

* * *

ومِن هذا القَبيل مسألة قِوامة الرجل على المرأة بشكلها العامّ، بحيث تَشمل ضربَها ضرباً مُبرِّحاً مُوجِعاً! فلو كان قد نَزَل به الوحي، ولكن جاء تفسيره على لسان صاحب الشريعة بما يَجعله هيّناً في وقته، وتمهيداً لقلع جذوره على مدى الأيّام:

أَوّلاً: جاء تفسير الضَرب بكونه غير مُبرّح، أي غير شديد ولا مُؤلِم، فيكون ضَرباً خفيفاً لا يُؤلم، والضَرب إذا لم يكن مُؤلماً لا يكون ضَرباً في الحقيقة، وإنّما هو مَسحٌ باليد مَسحاً في ظرافة! ومِن ثَمّ جاء تقييده بأن لا يكون بسوطٍ ولا خشبٍ أو آلةٍ غيرهما، ما عدا عُودَة السِّواك التي يستاك بها الرجل!

الأمر الذي يجعل مِن ظاهر دلالة الآية عقيمة، ويَرفض سُلطة الرجل على إيلام زوجته بالضَرب والأذى على كلّ حال.

أخرج ابن جرير عن عكرمة - في الآية - قال: قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله): (اضربوهنّ إذا عصينَكم في المعروف، ضرباً غير مُبرِّح)، ورواه أيضاً بإسناده عن حجّاج مُضيفاً إليه تفسيره (غير مبرّح) بغير مؤثِّر، يعني: لا يؤثِّر في تغيير لون البَشَرة، حتّى الحُمرة.

وعن عطاء قال: قلت لابن عبّاس: ما الضرب غير المبرِّح؟ قال: بالسِّواك ونحوه.

وعن قتادة: ضرباً غير مبرّح أي غير شائن (١) .

والشَين: العيب، أي لا يُوجب عيباً.

ومِن ثَمّ قال الشيخ أبو جعفر الطوسي (قدس سرّه): وأمّا الضرب فإنّه غير مبرّح، بلا خلاف (٢) ، قال الإمام أبو جعفر الباقر (عليه السلام): (هو بالسِّواك) (٣) .

قال القاضي ابن البرّاج الطرابلسي (قدس سرّه): وأمّا الضَرب فهو ضربُ تأديبٍ، كما يُضرب

____________________

(١) جامع البيان، ج٥، ص٤٤، والدرّ المنثور، ج٢، ص٥٢٢ - ٥٢٣.

(٢) وهذا يعني أنّ هذا التفسير (ضرباً غير مبرّح) مُجمَع عليه عند الفقهاء.

(٣) تفسير التبيان، ج٣، ص١٩١.

١٥١

الصبيان على الذَّنب، ولا يَضربُها ضَرباً مُبرّحاً ولا مُزمِناً ولا مُدمِياً ويُفرّقه على بَدنِها ويَتقي وجهَها، وإذا ضربها كذلك فليكن بالمِسواك. وَذَكَر بعض الناس (مِن فقهاء العامّة) أنّه يكون بمِنديل مَلفوف أو دِرّة، ولا يكون بخشبٍ ولا سوطٍ (١) .

المبرِّح: الشديد المـُوجِع. والمـُزمِن: مِن الزَّمانَة، وهي العاهة، أي العيب والنقص، والمـُدمِي: المؤثِّر في ظهور الدمِ على البَشَرة ولو بالخِراش.

والدِرّة: نوع مِن السياط، لا تُوجِع ولا تُؤلم. وتُصنع مِن الخِرَق، وهي تشبه المِنديل المـَلفوف.

وقال في موضع آخر: وإذا نَشَزت المرأة على زوجها، جاز له أنْ يَهجُرَها في المـَضاجع وفي الكلام، ويَضربَها ولا يبلغ بضربها حدّاً ولا يكون ضَرباً مُبرِّحاً، ويتوقّى وجهها، ولا يَهجرها بترك الكلام أكثر مِن ثلاثة أيّام (٢) .

جاء في فقه الرضا: (والضرب بالسواك وشبهه ضرباً رفيقاً) (٣) أي برِفق.

وفي جامع الأخبار للصدوق عن النبي (صلّى اللّه عليه وآله): (إنّي أتعجّب مِمّن يَضرب امرأتَه وهو بالضرب أَولى، لا تضربوا نساءكم بالخَشب فإنّ فيه القِصاص، ولكن اضربوهنّ بالجُوع والعُرْيُ، حتّى تريحوا في الدنيا والآخرة)، وجاء في آخر الحديث: (احفظوا وصيّتي في أمر نسائكم حتّى تنجوا مِن شدّة الحساب، ومَن لم يحفظ وصيّتي فما أسوء حاله بين يدي اللّه) (٤) .

وفي هذا الحديث صراحة بأنّ المـُراد مِن الضَرب في الآية هو التأديب، ولكن لا بالعصا والسوط - كما يُفعل مع البهائم - ولكن بالتضييق في المـَطعم والمـَلبس ونحوهما، وهذا أوفق بتعديل المعيشة معها.

وثانياً: النهي عن ضربهنّ، والتشديد على المنع، منعاً يجعل المـُتخلِّف مِن شِرار الأُمّة وليس مِن خِيارِهم!

____________________

(١) المهذّب، ج٢، ص٢٦٤.

(٢) المصدر: ص٢٣١.

(٣) بحار الأنوار، ج١٠١، ص٥٨، رقم ٧، باب النشوز والشقاق.

(٤) المصدر: ج١٠٠، ص٢٤٩، رقم ٣٨ عن جامع الأخبار، ص١٥٧ - ١٥٨، طبع النجف.

١٥٢

جاء في الحديث: إنّ نساءً كثيراً مِن أزواج أصحاب رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) أطافَن بِبُيوت آل الرسول يَشكينَ أزواجَهنّ - حيث رأَوا إباحة ضربِهنّ - فقال رسول اللّه: (ليس أولئك خِياركم) (١) .

وأخرج ابن سعد والبيهقي بالإسناد إلى أُمّ كلثوم بنت أبي بكر قالت: كان الرجال نُهوا عن ضرب النساء، ثُمّ شَكوهنّ إلى رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله) فأجاز لهم ضربَهنّ، ولكنّه (صلّى اللّه عليه وآله) أضاف قائلاً: (ولن يَضرب خِيارُكم) (٢) .

وفي رواية ابن ماجة:... فلمـّا أصبح رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) قال: (لقد طافَ بآل مُحمّد سبعون امرأة، كلّ امرأة تشتكي زوجها! فلا تجدون أولئك خياركم) (٣) .

وأخرج عبد الرزّاق عن عائشة عن النبي (صلّى اللّه عليه وآله) قال: (أَما يستحي أحدكم أنْ يضرب امرأته كما يَضرب العبد، يضربها أَوّل النهار ثم يُضاجعها آخره) (٤) .

قالت عائشة: ما ضرب رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) خادماً له ولا امرأةً ولا ضرب بيده شيئاً (٥) .

ولم يُؤثَر عن أحد مِن الأئمة المعصومين (عليهم السلام) الأطهار ولا مِن الصحابة الأخيار والتابعين الأبرار أنْ واجهوا نساءهم بغَضَاضَة فضلاً عن الضَرب واللطم، بل كانت شيمتُهم العفو والغفران، كما مرّ في حديث الإمام الصادق عن أبيه الإمام الباقر (عليهما السلام) (٦) .

وثالثاً: التوصيات الأكيدة بشأن المرأة والتحفّظ على كرامتها والأخذ بجانبها في عطفٍ وحنانٍ ورأفةٍ ورحمة، بعيداً عن الغِلظة والشدّة، بل حتّى مؤاخذتها على ما فَرَطَ منها ما سِوى العفو والغفران.

جاء في رسالة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى ابنه الحسن (عليه السلام): (... فإنّ المرأة ريحانة وليست بقهرمانة، ولا تَعْدُ بكرامتها نفسَها...) (٧) ، أي خُذ بكرامتها، ولا تَجعلها بحيث تضطرّ إلى أن تستشفع بآخر، فلتكنْ كرامةُ نفسها لديك هي الشفيعة لها دون غيرها، وجاء في

____________________

(١) الدرّ المنثور، ج٢، ص٥٢٣.                        (٢) المصدر.

(٣) سنن ابن ماجة، ج١، ص٦١٢، باب ٦٢٥، رقم ٢٠١٠.

(٤) الدرّ المنثور، ج٢، ص٥٢٣.                        (٥) أخرجه ابن ماجة، ج١، ص٦١٢، رقم ٢٠٠٩.

(٦) الكافي، ج٥، ص٥١٠، رقم ١.                   (٧) نهج البلاغة، باب الكتب، رقم ٣١، ص٤٠٥.

١٥٣

رواية الكليني: (واغضض بصرَها بسترك، واكفُفها بحجابِك، ولا تُطمِعُها أنْ تشفعَ بغيرها...) (١) .

وروى الكليني بإسناده إلى الإمام أبي عبد اللّه الصادق (عليه السلام) فيما ذَكَر مِن حُقوق المرأة على زوجها قال: (وإنْ جِهلت غَفَر لها) وزاد: (كانت امرأة عند أبي (الإمام الباقر(عليه السلام) تؤذيه فيغفر لها) (٢) .

وفي وصيّة الإمام لابنه مُحمّد ابن الحنفيّة ما يشبه وصيّته لابنه الحسن، وزاد: (فدارِها على كلّ حال وأَحسِن الصُحبة لها ليصفوا عيشُك) (٣) .

وأوصى الإمام الصادق (عليه السلام) يونس بن عمّار بالإحسان إلى زوجته، فسأله: وما الإحسان؟ قال: (... واغفر ذنبَها...) (٤) ، وفي حديث: (داووا عيَّهن بالسكوت) (٥) ، وفي لفظٍ آخر: (استروا العيّ بالسكوت) (٦) .

وقال: قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله): (ما زال جبرائيل يُوصيني بالمرأة، حتّى ظَننتُ أنّه لا يَنبغي طلاقُها إلاّ مِن فاحشة مبيِّنة) (٧) .

وروى الصدوق بإسناده إلى الصادق (عليه السلام) قال: (رحم اللّه عبداً أَحسَن فيما بينه وبين زوجته، فإنّ اللّه عزّ وجلّ قد ملَّكه ناصيتَها وجَعَله القيّم عليها) (٨) ، وجاء في الحديث السابق تفسير الإحسان بالغض ّعنها والسَّتر عليها.

وقد فسّر القاضي ابن البرّاج القَيمُومَة هنا بالقيام بحقوقها التي فَرَض اللّه لها على الزوج، قال: وقال تعالى ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء ) (٩) ، يعني: أنّهم قوّامون بحقوق النساء التي لهُنّ على الأزواج (١٠) .

____________________

(١) الكافي، ج٥، ص٥١٠، رقم ٣ وصحّحناه على النهج.

(٢) المصدر: رقم ١.

(٣) مَن لا يحضره الفقيه، ج٣، ص٣٦٢، رقم ١٣/١٧٢٤، باب ١٧٨ (النوادر).

(٤) الكافي، ج٥، ص٥١١، رقم ٤.

(٥) بحار الأنوار، ج١٠٠، ص٢٥١، رقم ٤٨ عن أمالي الشيخ الطوسي، ج٢، ص١٩٧.

(٦) المصدر: ص٢٥٢، رقم ٥٠ عن الأمالي للطوسي، ج٢، ص٢٧٦.

(٧) المصدر: ص٢٥٣، رقم ٥٨.

(٨) مَن لا يحضره الفقيه، ج٣، ص٢٨١، رقم ١٣٣٨.

(٩) النساء ٤: ٣٤.

(١٠) المـُهذّب، ج٢، ص٢٢٥.

١٥٤

وهذا هو معنى قوله تعالى: ( وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) (١) ، ويتأكّد بقوله تعالى: ( وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) (٢) ، قال ابن البرّاج: يعني أنّ لكلّ واحدٍ منهما ما عليه لصاحبه، يُجمع بينهما من حيث الوجوب (٣) .

وقد لَعَن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) مَن ضيّع حقوق امرأته ولمْ يراعِ جانبها، قال: (ملعون ملعون مَن يضيّع مَن يعول) (٤) ، وفي حديث آخر: (كفى بالمـَرء هلاكاً أنْ يُضيِّع مَن يَعول) (٥) ، وقال (صلّى اللّه عليه وآله) (خَيّرُكم خيّرُكم لأهله، وأنا خيّركم لأهلي) (٦) .

وقال: (خيركم خيركم لنسائه، وأنا خيركم لنسائي) (٧) .

وأخرج الترمذي وصَحّحه والنسائي وابن ماجة عن عمرو بن الأحوص، أنّه شِهد حِجّة الوداع مع رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) قام وخَطب، وفيما قال في خطبته: (أَلا واستوصوا بالنساء خيراً، فإنّما هُنّ عَوان عندكم، ليس تملكون منهنّ شيئاً غير ذلك إلاّ أنْ يأتينَ بفاحشةٍ مبيِّنة، فإنْ فَعَلنَ فاهجروهنّ في المـَضاجع واضربوهنّ ضَرباً غير مبرّح) (٨) .

قوله: (عَوان عندكم) يعني: أنهنّ قد قَضَين عندكم عُمُراً وفَقَدنَ رَيعَان شبابِهنّ عندكم.

قال رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله): (خِياركم خِياركم لأهله) (٩) ، وقال: (ومَن اتّخذ زوجةً فليُكرمها) (١٠) .

وفي رواية أبي القاسم بن قولويه عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: (مَن اشتدّ لنا حبّاً اشتدّ للنساء حبّاً) (١١) .

____________________

(١) النساء ٤: ١٩.

(٢) البقرة ٢: ٢٢٨.

(٣) المـُهذّب، ج٢، ص٢٢٥.

(٤) مَن لا يحضره الفقيه، ج٣، ص١٠٣، رقم ٤١٧.

(٥) دعائم الإسلام للقاضي نعمان المصري، ج٢، ص١٩٣، رقم ٦٩٩.

(٦) مَن لا يحضره الفقيه، ج٣، ص٣٦٢، رقم ١٧٢١.

(٧) المصدر: ص٢٨١، رقم ١٣٣٩، ووسائل الشيعة، ج٢٠، ص١٦٧ - ١٧١، باب ٨٦ و٨٧ و٨٨ من أبواب مقدّمات النكاح.

(٨) الدرّ المنثور، ج٢، ص٥٢٣.

(٩) بحار الأنوار، ج١٠٠، ص٢٢٦، رقم ١٥ عن كتاب الأمالي للطوسي، ج٢، ص٦.

(١٠) مستدرك الوسائل، ج١٤، ص٢٥٠، رقم ٢، باب٦٦ من أبواب مقدمات النكاح.

(١١) السرائر لابن إدريس، ج٣، ص٦٣٦، وراجع: البحار، ج١٠٠، ص٢٢٧، رقم ٢٠.

١٥٥

وفي كتاب النوادر للرواندي: قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله): (أُعطِينا أهل البيت سبعة لم يُعطَهنّ أحدٌ كان قبلنا - وعدّ منها -: والمحبّة للنساء).

وفيه أيضاً: قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله): (كلّما ازداد العبد إيماناً ازداد حبّاً للنساء) (١) .

والمـُراد بالحبّ في مثل هذه الأحاديث: الإشفاق والإرفاق والموادّة والتحفّظ على كرامة المرأة على مستواها الإنساني الرفيع، وليس النظر إلى جانب الشهوة، كلاّ وحاشا.

وفي حديث الحولاء جاءت إلى النبي (صلّى اللّه عليه وآله) تسأله عن حقّ الرجل على المرأة، وعن حقّ المرأة على الرجل - إلى أنْ قالت: - فما للنساء على الرجال؟ قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله): (أخبرني أخي جبرائيل، ولم يَزل يُوصيني بالنساء حتّى ظَننتُ أنْ لا يَحلّ لزوجها أنْ يقول لها: أفٍّ! يا مُحمّد، اتّقوا اللّه عزّ وجلّ في النساء، فإنّهنّ عَوان بين أيديكم، أخذتموهنّ على أمانات اللّه - إلى أنْ قال - فأشفِقوا عليهنّ وطيّبوا قلوبهنّ حتّى يَقفنَ معكم، ولا تُكرِهوا النساء ولا تُسخِطوا بهنّ) (٢) .

وروى الصدوق في كتابه (علل الشرائع) و(الأمالي) بالإسناد إلى أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: (فداروهنّ على كلّ حال، وأَحسِنوا لهنّ المقال، لعلّهنّ يحسنّ الفعال) (٣) .

وعن الصادق عن أبيه (عليهما السلام): (مَن اتّخذ امرأةً فليُكرِمها، فإنّما امرأةُ أحدكم لُعبة، فمَن اتّخذها فلا يُضيِّعُها) (٤) .

* * *

وبعد، فإنّ المتحصَّل مِن تلكمُ الأحاديث المتوفّرة أنّ للمرأة كرامتها الإنسانيّة الرفيعة، وعلى المـَرء أنْ يحافظ على كرامتها ولا يُشينها ولا يُهينها، ويُحسن المعاشرة معها، ويَجعل نفسه ونفسها شَريكَينِ مُتوازِيَين في إدارة شؤون الحياة العائليّة، بتوزيع

____________________

(١) نوادر الراوندي، ص١١٤.

(٢) مستدرك الوسائل، ج١٤، ص٢٥٢، رقم ٢، باب ٦٨ من أبواب مقدّمات النكاح.

(٣) بحار الأنوار، ج١٠٠، ص٢٢٣، رقم ١. عن علل الشرائع، ص٥١٣، والأمالي للصدوق، ص٢٠٦.

(٤) المصدر: ص٢٢٤، رقم ٥.

١٥٦

المسؤوليات توزيعاً عادلاً، ولا يُكرِهُها على شيء، بل يستميل خاطرَها ويستميح جانبها، ويُعاشرها برِفقٍ ومُداراة، فإنّها ريحانة وليست بقهرَمانة، وإذا رأى منها زلّة غضَّ بصرَه عنها، وإذا أحسّ الشِّقاق واللَّجاج أَحسَنَ المـُداراة معها ليَستميح خاطرَها المـُرهف الرقيق، فلا يَغلظ ولا يَحتدّ معها، فإنّهنّ عَوان (خاضعات) لكم، فأشفِقوا عليهنّ وطيّبوا قلوبَهنّ، حتّى يَقفنَ معكم، ولا تُكرِهوهُنّ ولا تُسخطوا بهنّ - كما مرّ في الحديث النبوي - (فداروهُنّ على كلّ حال، وأحسنوا لهُنّ المـَقال، لعلّهنّ يُحسِنّ الفِعال) - كما مرّ في كلام الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) (فمَن اتّخذ زوجةً فليُكرمها، فإنّما هي لُعبة، فيمَن اتّخذها فلا يُضيّعها) كما قال الإمام الصادق (عليه السلام).

وأمّا الضرب، فقد مُنع منه مَنعاً باتّاً، إلاّ إذا كان غير مبرّح ولا شائن، والأَولى أنْ يكون تأديباً عن طريق التضييق عليها في الإنفاق، لا الضرب باليد ولا بالعصا.

والأَولى مِن ذلك ترك الضرب البتة اقتداءً بالنبيّ الأكرم والأَئمة المعصومين عليهم صلوات المصلّين، ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً ) (١) .

ومن ترك هذه الأُسوة الحَسنة لم يكنْ متّبِعاً لنبيّ الإسلام.) قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ) (٢) .

وخِياركم خِياركم لنسائهم، والنبيّ خيرُ الناس لنسائه أَلا ومَن ضرب امرأته أو لَطَمها فهو أحقّ بالضرب واللطم، ولم يكن مِن خِيار. الأُمّة، ولعلّه مِن شرارهم، والعياذ باللّه.

ذلك أنّها إذا فعلت أمراً فلعلّها مِن جانب غَلَبة العاطفة عليها، وهي جيّاشة، أمّا الرجل فلِماذا يسترسل قيادته لأَحاسيس عابِرة، ولا يستسلم للعقل الرشيد، فهو أَولى بالضرب والتأديب، وعلى أي حال فهو ليس مِن خِيار الأُمّة، ممّن تربّوا على منهج التربيّة الإسلاميّة الرفيعة.

ونتيجة على ذلك: كانت الآية بظاهرها المطلق مَنسوخة نسخاً تمهيديّاً، كان

____________________

(١) الأحزاب ٣٣: ٢١.

(٢) آل عمران ٣: ٣١.

١٥٧

الناسخ لها تلك التوصيات الأكيدة بشأن المرأة، والأخذ بجانبها والحِفاظ على كرامتها، وكذا المنع عن ضربها على أيّ نحوٍ كان إلاّ مالا يُعدّ ضرباً، وهو بالعطف والحنان أَشبه منه إلى الإيلام، وهكذا عَمِلَ الرسولُ وكبراءُ الأُمّة، ممّن أُمِرنا بإتّباعهم على كلّ حال.

إذن، فالأخذ بظاهر إطلاق الآية أخذٌ بظاهر مَنسوخ، ومُخالفة صريحة لمنع الرسول وتوصياته البالغة، وكذا الأَئمة الطاهرين مِن بعده.

وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ (١)

لِحجاب المرأة - في الإسلام - مكانة رفيعة، تَصونُها عن الابتذال وتَحفظ على كرامتها دون الانحطاط، إنّها مُحترَمةٌ احترامَ إنسان كريم، لها عزّها وشرفُها التليد وليس بطارف، ولم يكنْ فَرضُ الحجاب عليها إلاّ صيانةً لهذا الشرف وحِفاظاً على ذاك العزّ، (٢) فلا تسترسل حيث ساقَها أهلُ الاستهواء.

هذا فضلاً عن أنّ الإسلام يَهدف إلى إقامة مجتمع نظيف، لا تُهاج فيه الشهوات في كلّ لحظة ولا تُستثار فيه دفعات البدن في كلّ حين، فعمليّات الاستثارة المـُستمِرّة تنتهي إلى سُعار شهواني لا ينطفئ ولا يرتوي، والنظرة الخائنة، والحركة المثيرة، والزينة المتبرّجة، والجسم العاري... كلّها لا تَصنع شيئاً إلاّ أنْ تُهيّج ذلك السُعار الحيواني المجنون، وإلاّ أنْ يَفلت زِمام الأعصاب والإرادة، فإمّا الإفضاء الفوضوي الذي لا يتقيّد بقيد، وإمّا الأمراض العصبيّة والعُقد النفسيّة الناشئة مِن الكَبح بعد الإثارة! وهي تكاد أنْ تكونَ عملية تعذيب.

وإحدى وسائل الإسلام إلى إنشاء مجتمع نظيف هي الحيلولة دون هذه الاستثارة، وإبقاء الدافع الفطري العميق بين الجنسين سليماً وبقوّته الطبيعيّة، دون استثارةٍ مُصطَنَعة، وإنّما تصريفه في موضعه المأمون النظيف.

____________________

(١) النور ٢٤: ٣١.

(٢) كما يبدو من أحاديث جواز النظر إلى شُعور نساء أهل الذمّة لعدم حرمتهنّ، وسائل الشيعة، ج ٢٠، ص ٢٠٥، باب ١١٢ من أبواب مقدّمات النكاح.

١٥٨

ففي الحديث عن الإمام الرضا (عليه السلام) فيما كَتَبه جواباً عن مسائل مُحمّد بن سنان: (وحرّم النظرَ إلى شُعورِ النساء المـَحجوبات بالأزواج وإلى غيرهنّ مِن النساءِ لِما فيه مِن تَهييج الرجال وما يَدعو إليه التهييج مِن الفَساد والدخول فيما لا يحلّ ولا يَجمُل...) (١) .

قال سيّد قطب: ولقد شَاع: أنّ النظرة المـُباحة، والحديث الطليق، والاختلاط المـَيسور، والدُّعابة المـَرِحة بين الجنسين والاطّلاع على مواضع الفتنة المخبوءة... شاع أنّ كلّ هذا تنفيسٌ وترويح، وإطلاق للرغبات الحبيسة، ووقاية مِن الكَبت، ومِن العُقد النفسيّة، وتخفيف مِن حدّة الضغط الجنسي، وما وراءه مِن اندفاعٍ غير مأمون... إلخ.

شاع هذا على أَثر انتشار بعض النظريّات الماديّة القائمة على تَجريد الإنسان مِن خصائصه التي تُفرِّقه مِن الحيوان، والرجوع به إلى القاعدة الحيوانيّة الغارقة في الطين... ولكن هذا لم يكن سِوى فروض نظريّة، رأيتُ بعيني في أشدّ البلاد إباحيةً وتفلّتاً مِن جميع القيود الاجتماعيّة والأخلاقيّة والدينيّة والإنسانيّة، ما يُكَذِّبها ويَنقضها مِن الأساس.

نعم، شاهدت في البلاد التي ليس فيها قيد واحد على الكشف الجسدي والاختلاط الجنسي بكلّ صوره وأشكاله أنّ هذا كلّه لم ينتِه بتهذيب الدوافع الجنسيّة وترويضها، إنّما انتهى إلى سُعارٍ مجنونٍ لا يرتوي ولا يهدأ إلاّ ريثما يعود إلى الظمأ والاندفاع. وشاهدت الأمراض النفسيّة والعُقد التي كان مفهومها أنّها لا تنشأ إلاّ مِن الحِرمان وإلاّ مِن التلهّف على الجنس الآخر المحجوب. شاهدتُها بوفرةٍ ومعها الشذوذ الجنسي بكلّ أنواعه، ثمرةً مُباشِرة للاختلاط الكامل الذي لا يُقيّده قيد ولا يقفُ عند حدّ، وللصَدَاقات بين الجنسين تلك التي يُباح معها كلّ شيء، وللأجسام العارية في الطريق، وللحركات المـُثيرة والنظرات الجاهرة، واللَفَتات المـُوقِظة... (٢) كلّ ذلك لَممّا يَدلّ بوضوح

____________________

(١) وسائل الشيعة، ج ٢٠، ص ١٩٣ - ١٩٤، رقم ١٢، باب ١٠٤ من أبواب مقدّمات النكاح.

(٢) راجع كتابه (أمريكا التي رأيت) وفيه التفصيل وعرض الحوادث والشواهد، وراجع أيضاً كتاب (الإنسان بين الماديّة والإسلام) لمـُحمّد قطب، فصل (المشكلة - الجنسيّة) فقد توسّع في هذا المجال.

١٥٩

على ضَرورة إعادة النظر في تلك النظريّات التي كَذَّبها الواقع المشهود (١) .

إنّ المـَيل الفطري بين الرجل والمرأة ميلٌ عميق في التكوين الحيوي؛ لأنّ الله قد ناط به امتداد الحياة في هذه الأرض، وتحقيق الخلافة لهذا الإنسان فيها، فهو ميلٌ دائمٌ يَسكن فترة ثمّ يعود، وإثارته في كلّ حين تَزيد مِن عَرَامَته، وتَدفع به إلى الإفضاء المادّي للحصول على الراحة، فإذا لم يَتمّ هذا انهارت الأعصاب المـُستَثارة، وكان هذا بمثابة عملية تعذيب مُستمرّة!...

والنظرة تثير! والحركة تثير! والضحكة تثير! والدعابة تثير! والنَبرة المـُعبِّرة عن هذا الميل تُثير!... والطريق المأمون هو تقليل هذه المثيرات بحيث يبقى هذا الميل في حدوده الطبيعيّة، ثُمّ يُلبى تَلبيةً طبيعيّة، وهذا هو المـَنهج الذي يَختاره الإسلام، مع تهذيب الطبع، وشَغلِ الطاقة البشريّة بهُموم أُخرى في الحياة، غير تلبية دافع اللحم والدم، فلا تكون هذه التلبية هي المـَنفذ الوحيد.

وفي القرآن إشارة إلى نماذج مِن تقليل فُرَص الاستثارة والغَوَاية والفتنة مِن الجانبَين الرجل والمرأة: قال تعالى: ( قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ) (٢) .

قال سيّد قطب: وغَضُّ البَصر مِن جانب الرجال أدب نفسي، ومحاولة للاستعلاء على الرغبة في الاطّلاع على المحاسن والمفاتن في الوجوه والأجسام، كما أنّ فيه إغلاقاً للنافذة الأُولى مِن نوافذ الفتنة والغَوَاية، ومُحاولة عمليّة للحيلولة دون وصول السهم المسموم!

قال الإمام جعفر بن مُحمّد الصادق (عليه السلام): (النظرة سَهمٌ مِن سِهام إبليس مسموم، وكم مِن نظرةٍ أَورَثتْ حسرةً طويلةً)، قال: (مَن تَركها لله عزّ وجلّ لا لغيره أَعقَبَه الله أَمناً وإيماناً يَجدُ طعمَه)، وقال: (النَظرة بعد النَظرة تَزرع في القلبِ الشهوة، وكفى بها لصاحبها فتنة) (٣) .

وأمّا حِفظُ الفَرج فهو الثَمرة الطبيعيّة لغضّ البصر، أو هو الخُطوة التالية لتحكيم

____________________

(١) راجع: في ظِلال القرآن، تفسير سورة النور، ج ١٨، ص ٩٣، المجلّد السادس.

(٢) النور ٢٤: ٣٠.

(٣) وسائل الشيعة، ج ٢٠، ص ١٩١ - ١٩٢، رقم ١ و ٥ و ٦، باب ١٠٤ من أبواب مقدّمات النكاح.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

فتحصّنوا عنه بالحصون، وتمادى بهم التحصّن قريباً من سنة ونصف حتّى ظهر فيهم القحط والوباء.

وأصرّ بخت نصّر على المحاصرة حتّى فتح الحصون، وذلك في سنة خمسمائة وستّ وثمانين قبل المسيح، وقتل نفوسهم، وخرب ديارهم وخرّبوا بيت الله وأفنوا كلّ آية وعلامة دينيّة وبدّلوا هيكلهم تلّاً من تراب، وفقدت عند ذلك التوراة والتابوت الّذي كانت تجعل فيه.

وبقى الأمر على هذا الحال خمسين سنة تقريباً وهم قاطنون ببابل وليس من كتابهم عين ولا أثر ولا من مسجدهم وديارهم إلّا تلال ورياع.

ثمّ لمّا جلس كورش من ملوك فارس على سرير الملك وكان من أمره مع البابليّين ما كان وفتح بابل ودخله أطلق اُسراء بابل من بني اسرائيل وكان عزرا المعروف من المقرّبين عنده فأمّره عليهم وأجاز له أن يكتب لهم كتابهم التوراة ويبني لهم الهيكل ويعيدهم إلى سيرتهم الاُولى وكان رجوع عزرا بهم إلى بيت المقدس سنة أربعمائة وسبعة وخمسين قبل المسيح وبعد ذلك جمع عزرا كتب العهد العتيق وصحّحها وهي التوراة الدائرة اليوم(١) .

وأنت ترى بعد التدبّر في القصّة أنّ سند التوراة الدائرة اليوم مقطوعة غير متّصلة بموسى (عليه السلام) إلّا بواحد (وهو عزرا) لا نعرفه أوّلاً ولا نعرف كيفيّة اطّلاعه وتعمّقه ثانياً ولا نعرف مقدار أمانته ثالثاً، ولا نعرف من أين أخذ ما جمعه من أسفار التوراة رابعاً، ولا ندري بالاستناد إلى أيّ مستند صحّح الأغلاط الواقعة أو الدائرة خامساً.

وقد أعقبت هذه الحادثة المشئومة أثراً مشئوماً آخر وهو إنكار عدّة من باحثي المورّخين من الغربيّين وجود موسى وما يتبعه، وقولهم: إنّه شخص خياليّ كما قيل

____________________

(١) مأخوذ من قاموس الكتاب المقدّس تأليف مستر هاكس الامريكائي الهمداني ومآخذ اُخرى من التواريخ.

٣٤١

نظيره في المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام. لكنّ ذلك لا يسع لمسلم فإنّ القرآن الشريف يصرّح بوجوده (عليه السلام) وينصّ عليه.

٢ - قصّة المسيح والإنجيل:

اليهود مهتمون بتاريخ قوميّتهم وضبط الحوادث الظاهرة في الأعصار الّتي مرّت بهم، ومع ذلك فإنّك لو تتبّعت كتبهم ومسفوراتهم لم تعثر فيها على ذكر المسيح عيسى بن مريم (عليه السلام): لا على كيفيّة ولادته ولا على ظهوره ودعوته ولا على سيرته والآيات الّتي أظهرها الله على يديه ولا على خاتمة حياته من موت أو قتل أو صلب أو غير ذلك. فما هو السبب في ذلك؟ وما هو الّذي أوجب خفاء أمره عليهم أو إخفائهم أمره؟

والقرآن يذكر عنهم أنّهم قذفوا مريم ورموها بالبهتان في ولادة عيسى، وأنّهم ادّعوا قتل عيسى. قال تعالى:( وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً وقولهم إنّا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم وإنّ الّذين اختلفوا فيه لفي شكّ منه ما لهم به من علم إلّا اتّباع الظنّ وما قتلوه يقيناً ) النساء - ١٥٧.

فهل كانت دعواهم تلك مستندة إلى حديث دائر بينهم كانوا يذكرونه بين قصصهم القوميّة من غير أن يكون مودعاً في كتاب؟ وعند كلّ اُمّة أحاديث دائرة من واقعيّات وأساطير لا اعتبار بها ما لم تنته إلى مآخذ صحيحة قويمة.

أو أنّهم سمعوا من النصارى الذكر المكرّر من المسيح وولادته وظهوره ودعوته فأخذوا ذلك من أفواههم وباهتوا مريم، وادّعوا قتل المسيح؟ لا طريق إلى استبانة شئ من ذلك غير أنّ القرآن - كما يظهر بالتدبّر في الآية السابقة - لا ينسب إليهم صريحاً إلّا دعوى القتل دون الصلب، ويذكر أنّهم على ريب من الأمر وأنّ هناك اختلافاً.

وأمّا حقيقة ما عند النصارى من قصّة المسيح وأمر الإنجيل والبشارة فهي أنّ قصّته (عليه السلام) وما يتعلّق بها تنتهي عندهم إلى الكتب المقدّسة عندهم وهي الأناجيل الأربعة الّتي هي أناجيل متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا، وكتاب أعمال الرسل للوقا،

٣٤٢

وعدّة رسائل لبولس وبطرس ويعقوب ويوحنّا ويهودا. واعتبار الجميع ينتهي إلى اعتبار الأناجيل فلنشتغل بها:

أمّا إنجيل متّى فهو أقدم الأناجيل في تصنيفه وانتشاره ذكر بعضهم أنّه صنّف سنة ٣٨ الميلاديّة، وذكر آخرون أنّه كتب ما بين سنة ٥٠ إلى سنة ٦٠(١) فهو مؤلّف بعد المسيح.

والمحقّقون من قدمائهم ومتأخّريّهم على أنّه كان أصله مكتوباً بالعبرانيّة ثمّ ترجم إلى اليونانيّة وغيرها أمّا النسخة الأصليّة العبرانيّة فمفقودة، وأمّا الترجمة فلا يدري حالها، ولا يعرف مترجمها(٢) .

وأمّا إنجيل مرقس: فمرقس هذا كان تلميذاً لبطرس، ولم يكن من الحواريّين وربّما ذكروا أنّه إنّما كتب إنجيله بإشارة بطرس وأمره، وكان لا يرى إلهيّة المسيح(٣) ولذلك ذكر بعضهم أنّه إنّما كتب إنجيله للعشائر وأهل القرى فعرّف المسيح تعريف رسول إلهيّ مبلّغ لشرائع الله(٤) وكيف كان فقد كتب إنجيله سنة ٦١ ميلاديّة.

وأما إنجيل لوقا: فلوقا هذا لم يكن حواريّاً ولا رأى المسيح وإنّما تلقّن النصرانيّة من بولس، وبولس كان يهوديّاً متعصّباً على النصرانيّة يوذي المؤمنين بالمسيح ويقلّب الاُمور عليهم ثمّ اتّفق مفاجأة أن ادّعى أنّه صرع وفي حال الصرع لمسه المسيح ولامه وزجره عن الإساءة إلى متّبعيه وأنّه آمن بالمسيح وأرسله المسيح ليبشّر بإنجيله.

____________________

(١) قاموس الكتاب المقدّس للمستر هاكس مادّة - متى.

 (٢) كتاب ميزان الحقّ واعتراف به على تردّد في قاموس الكتاب المقدّس.

 (٣) نقل ذلك عبد الوهّاب النجّار في قصص الأنبياء عن كتاب مروج الاخبار في تراجم الاخبار لبطرس قرماج.

(٤) ذكره في قاموس الكتاب المقدّس. يقول فيه: إن نصّ تواتر السلف على أن مرقس كتب إنجيله برومية وانتشر بعد وفاة بطرس وبولس لكنّه ليس له كثير اعتبار لأن ظاهر إنجيله أنّه كتبه لأهل القبائل والقرويين لا لأهل البلاد وخاصّة الروميّة. فتدبّر في كلامه !

٣٤٣

وبولس هذا هو الّذي شيّد أركان النصرانيّة الحاضرة على ما هي عليها(١) فبني التعليم على أنّ الإيمان بالمسيح كاف في النجاة من دون عمل وأباح لهم أكل الميتة ولحم الخنزير ونهى عن الختنة وكثير ممّا في التوراة(٢) مع أنّ الإنجيل لم يأت إلّا مصدّقاً لما بين يديه من التوراة، ولم يحلّل إلّا أشياء معدودة. وبالجملة إنّما جاء عيسى ليقوّم شريعة التوراة ويردّ إليها المنحرفين والفاسقين لا ليبطل العمل ويقصر السعادة على الإيمان الخالي.

وقد كتب لوقا إنجيله بعد إنجيل مرقس. وذلك بعد موت بطرس وبولس. وقد صرّح جمع بأنّ إنجيله ليس كتاباً إلهاميّاً كسائر الأناجيل(٣) كما يدلّ عليه ما وقع في مبتدء إنجيله.

وأمّا إنجيل يوحنّا فقد ذكر كثير من النصارى أنّ يوحنّا هذا هو يوحنّا بن زبديّ الصيّاد أحد التلاميذ الإثنى عشر (الحواريّين) الّذي كان يحبّه المسيح حبّاً شديداً(٤) .

وذكروا أنّ (شيرينطوس) و(أبيسون) وجماعتهما لمّا كانوا يرون أنّ المسيح ليس إلّا إنساناً مخلوقاً لا يسبق وجوده وجود اُمّه اجتمعت أساقفة آسيا وغيرهم في سنة ٩٦

____________________

(١) راجع مادّة بولس من قاموس الكتاب المقدّس.

(٢) راجع كتاب أعمال الرسل ورسائل بولس.

(٣) قال في أوّل إنجيل لوقا:( لأجل أن كثيرين راموا كتب قصص الاُمور الّتي نحن بها عارفون كما عهد الينا اولئك الأوّلون الّذين كانوا من قبل معاينين وكانوا خداما للكلمة رأيت أنا أيضاً إذ كنت تابعا لكلّ شئ بتحقيق أن أكتب اليك أيّها العزيز ثاوفيلا) ودلالته على كون الكتاب نظريا غير إلهامي ظاهرة وقد نقل ذلك أيضاً عن مستر كدل في رسالة اللّهمّ وصرح جيروم أن بعض القدماء كانوا يشكون في البابين الأوّلين من إنجيل لوقا وأنّهما ما كانا في نسخة فرقة مارسيوني وجزم إكهارن في كتابه ص ٩٥ أن من ف ٤٣ إلى ٤٧ من الباب ٢٢ من إنجيل لوقا الحاقية وذكر إكهارن أيضاً في ص ٦١ من كتابه: قد اختلط الكذب الروائي ببيان المعجزات الّتي نقلها لوقا والكاتب ضمه على طريق المبالغة الشاعرية لكن تمييز الصدق عن الكذب في هذا الزمان عسير وقول:( كلي مي شيس أن متّى ومرقس يتخالفان في التحرير وإذا اتفقا ترجح قولهما على قول لوقا) نقل عن قصص الأنبياء للنجّار - ص ٤٧٧.

(٤) راجع قاموس الكتاب المقدّس مادّة يوحنّا.

٣٤٤

ميلاديّة عند يوحنّا والتمسوا منه أن يكتب ما لم يكتبه الآخرون في أناجيلهم ويبيّن بنوع خصوصيّ لاهوت المسيح فلم يسعه أن ينكر إجابة طلبهم(١) .

وقد اختلفت كلماتهم في السنة الّتي اُلّف فيها هذا الإنجيل فمن قائل أنّها سنة ٦٥ وقائل أنّها سنة ٩٦ وقائل أنّها سند ٩٨.

وقال جمع منهم إنّه ليس تأليف يوحنّا التلميذ: فبعضهم على أنّه تأليف طالب من طلبة المدرسة الاسكندريّة(٢) وبعضهم على أنّ هذا الإنجيل كلّه وكذا رسائل يوحنّا ليست من تصنيفه بل إنّما صنّفه بعضهم في ابتداء القرن الثاني، ونسبه إلى يوحنّا ليعتربه الناس(٣) وبعضهم على أنّ إنجيل يوحنّا كان في الأصل عشرين باباً فألحقت كنيسة (أفاس) الباب الحادي والعشرين بعد موت يوحنّا(٤) فهذه حال هذه الأناجيل الأربعة وإذا أخذنا بالقدر المتيقّن من هذه الطرق انتهت إلى سبعة رجال هم: متّى، مرقس، لوقا، يوحنّا، بطرس، بولس، يهوذا، ينتهي ركونهم كلّه إلى هذه الأناجيل الأربعة وينتهي الأربعة إلى واحد هو أقدمها وأسبقها وهو إنجيل متّى وقد مرّ أنّه ترجمة مفقود الأصل لا يدري من الّذي ترجمه؟ وكيف كان أصله. وعلى ما ذا كان يبني تعليمه أبرسالة المسيح أم باُلوهيّته.

وهذا الإنجيل الموجود يترجم أنّه ظهر في بني إسرائيل رجل يدعى عيسى بن يوسف النجّار وأقام الدعوة إلى الله، وكان يدّعي أنّه ابن الله مولود من غير أب بشريّ وأنّ أباه أرسله ليفدي به الناس عن ذنوبهم بالصلب والقتل، وأنّه أحيى الميّت وأبرء الأكمه والأبرص وشفى المجانين بإخراج الجنّ من أبدانهم، وأنّه كان له إثنا عشر تلميذاً: أحدهم متّى صاحب الإنجيل بارك لهم وأرسلهم للدعوة وتبليغ الدين المسيحيّ إلخ.

____________________

(١) نقله في قصص الأنبياء عند جرجس زوين الفتوحي اللبناني في كتابه.

 (٢) نقل ذلك من كتاب (كاتلك هر الد) في المجلد السابع المطبوع سنة ١٨٤٤ ص ٢٠٥ نقله عن استادلن (عن القصص) وأشار إليه في القاموس في مادّة يوحنّا.

 (٣) قال ذلك (بر طشنيدر) على ما نقل عن كتاب الفاروق المجلد الأوّل (عن القصص).

(٤) المدرك السابق.

٣٤٥

 فهذا ملخّص ما تنتهى إليه الدعوة المسيحيّة على انبساطها على شرق الأرض وغربها، وهو لا يزيد على خبر واحد مجهول الاسم والرسم، مبهم العين والوصف.

وهذا الوهن العجيب في مبدء القصّة هو الّذي أوجب لبعض أحرار الباحثين من اُروبه أن أدّعى أنّ المسيح عيسى بن مريم شخص خياليّ صوّره بعض النزعات الدينيّة على حكومات الوقت أو لها وتأيّد ذلك بموضوع خرافيّ آخر يشبهه كلّ الشبه في جميع شئون القصّة وهو موضوع (كرشنا) الّذي تدّعي وثنيّة الهند القديمة أنّه ابن الله نزل عن لاهوته، وفدى الناس بنفسه صلباً ليخلّصهم من الأوزار والخطايا كما يدّعى في عيسى المسيح حذو النعل بالنعل (كما سيجئ ذكره).

وأوجب لآخرين من منتقدي الباحثين أن يذهبوا إلى أنّ هناك شخصين مسمّيين بالمسيح: المسيح غير المصلوب، والمسيح المصلوب. وبينهما من الزمان ما يزيد على خمسة قرون.

وأنّ التاريخ الميلاديّ الّذي سنتنا هذه سنة الف وتسعمائة وستّة وخمسين منه لا ينطبق على واحد منهما بل المسيح الأوّل غير المصلوب يتقدّم عليه بما يزيد على مأتين وخمسين سنة وقد عاش نحواً من ستّين سنة والمسيح الثاني المصلوب يتأخّر عنه بما يزيد على مأتين وتسعين سنة وقد عاش نحواً من ثلاث وثلاثين سنة(١)

على أنّ عدم انطباق التاريخ الميلاديّ على ميلاد المسيح في الجملة ممّا لم يسع للنصارى إنكاره(٢) وهو سكتة تاريخيّة.

على أنّ هيهنا اُموراً مريبة موهمة اُخرى فقد ذكروا أنّه كتب في القرنين الأوّلين من الميلاد أناجيل كثيرة اُخرى ربّما أنهوها إلى نيّف ومائة من الأناجيل والأناجيل الأربعة منها ثمّ حرّمت الكنيسة جميع تلك الأناجيل إلّا الأناجيل الأربعة

____________________

(١) وقد فصل القول في ذلك الزعيم الفاضل (بهروز) في كتاب ألفه جديداً في البشارات النبوّية وأرجو أن أوفق لايداع شذرة منه في تفسير آخر سورة النساء من هذا الكتاب والقدر المتيقن (الّذي يهمنا منه) اختلال التاريخ المسيحي.

(٢) راجع مادّة مسيح من قاموس الكتاب المقدس.

٣٤٦

الّتي عرفت قانونيّة لموافقة متونها تعليم الكنيسة(١) .

ومن جملة الأناجيل المتروكة إنجيل برنابا الّذي ظهرت نسخة منها منذ سنين فترجمت إلى العربيّة والفارسيّة، وهو يوافق في عامّة قصصه ما قصّه القرآن في المسيح عيسى بن مريم(٢) .

ومن العجيب أنّ الموادّ التاريخيّة المأثورة عن غير اليهود أيضاً ساكتة عن تفاصيل ما ينسبه الإنجيل إلى الدعوة المسيحيّة من حديث البنوّة والفداء وغيرهما. ذكر المورّخ الإمريكيّ الشهير (هندريك ويلم وان لون) في تأليفه في تاريخ البشر كتاباً كتبه الطبيب (إسكولابيوس كولتلوس) الروميّ سنة ٦٢ الميلاديّة إلى ابن أخيه (جلاديوس أنسا) وكان جنديّاً في عسكر الروم بفلسطين، يذكر فيه أنّه عاد مريضاً بروميّة يسمّى بولس فأعجبه كلامه وقد كان بولس كلّمه بالدعوة المسيحيّة، وذكر له طرفاً من أخبار المسيح ودعوته.

ثمّ يذكر أنّه ترك بولس ولم يره حتّى سمع بعد حين أنّه قتل في طريق (أوستى) ثمّ يسأل ابن أخيه أن يبحث عن أخبار هذا النبيّ الاسرائيليّ الّذي كان يذكره بولس وعن أخبار بولس نفسه ويكتب إليه ما بلغه من ذلك.

____________________

(١) ولقد لام (شيلسوس) الفيلسوف في القرن الثاني النصارى في كتابه (الخطاب الحقيقي) على تلاعبهم بالاناجيل، ومحوهم بالغد ما أدرجوه بالامس، وفي سنة ٣٨٤ م أمر البابا داماسيوس أن تحرر ترجمة لاتينية جديدة من العهدين القديم والحديث تعتبر قانونيّة في الكنائس وكان تيودوسيس الملك قد ضجر من المخاصمات الجدلية بين الاساقفة، وتمت تلك الترجمة الّتي تسمى (فولكانا) وكان ذلك خاصّا بالاناجيل الاربعة: متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا وقد قال مرتب تلك الاناجيل: (بعد أن قابلنا عددا من النسخ اليونانية القديمة رتبناها بمعنى أننا نقحنا ماكان فيها مغايرا للمعنى، وأبقينا الباقي على ماكان عليه) ثمّ إن هذه الترجمة قد ثبتها المجمع (التريدنتيني) سنة ١٥٤٦ أي بعدها بأحد عشر قرنا، ثمّ خطأها سيستوس الخامس سنة ١٥٩٠ وأمر بطبع نسخ جديدة ثمّ خطأ كليمنضوس الثامن هذه النسخة الثانية أيضاً، وأمر بطبعة جديدة منقحة هي الدارجة اليوم عند الكاثوليكيين (تفسير الجواهر - الجزء الثاني - ص ١٢١ الطبعة الثانية).

(٢) وقد وجد هذا الانجيل بالخط الايطالي منذ سنين وترجمه إلى العربيّة الدكتور خليل سعاده بمصر وترجمه إلى الفارسيّة الحبر الفاضل (سردار كابلي) بإيران.

٣٤٧

فكتب إليه (جلاديوس أنسا) بعد ستّة أسابيع من معسكر الروم باُورشليم: أنّي سألت عدّة من شيوخ البلد ومعمّريهم عن عيسى المسيح فوجدتهم لا يحسنون مجاوبتي فيما أسألهم( هذا والسنة سنة ٦٢ ميلاديّة وهم شيوخ !) .

حتّى لقيت بيّاع زيتون فسألته هل يعرفه؟ فأنعم لي في الجواب ثمّ دلّني على رجل اسمه يوسف، و ذكر أنّه كان من أتباعه ومحبّيه وأنّه خبير بقصصه بصير بأخباره يستطيع أن يجيبك فيما تسأله عنه.

فلقيت يوسف اليوم بعد ما تفحّصت أيّاماً فوجدته شيخاً هرماً وقد كان قديماً يصطاد السمك في بعض البحيرات من هذه الناحية.

كان الرجل على كبر سنّه صحيح المشاعر جيّد الحافظة وقصّ لي جميع الأخبار والقضايا الحادثة في ذلك الأوان، أوان الاغتشاش والفتنة.

ذكر أنّ فونتيوس فيلاطوس كان حاكماً على سامرا ويهوديّه في عهد القيصر (تي بريوس).

فاتّفق أن وقع أيّام حكومته فتنة في اُورشليم فسافر فونتيوس فيلاطوس إليه لإخماد ما فيه من نار الفتنة وكانت الفتنة هي ما شاع يومئذ أنّ ابن نجّار من أهل الناصرة يدعو الناس ويستنهضهم على الحكومة.

فلمّا تحقّقوا أمره تبيّن أنّ ابن النجّار المتّهم شابّ عاقل متين لم يرتكب ما يوجب عليه سياسة غير أنّ رؤساء المذهب من اليهود كانوا يخالفونه ويباغضونه بأشدّ ما يكون وقد قالوا لفيلاطوس إنّ هذا الشابّ الناصريّ يقول: لو أنّ يونانيّاً أو روميّاً أو فلسطينيّاً عامل الناس وعاشرهم بالعدالة والشفقة كان عند الله كمن صرف عمره في مطّلعة كتاب الله وتلاوة آياته.

وكأنّ هذه التعرّضات والاقتراحات لم تؤثّر في فيلاطوس أثرها لكنّه لما سمع ازدحام الناس قبال المعبد وهم يريدون أن يقبضوا على عيسى وأصحابه ويقطّعوهم إرباً إرباً رأى أنّ الأصلح أن يقبض هو على هذا الشابّ النجّار ويسجنة حتّى لا يقتل بأيدي الناس في غوغائهم.

٣٤٨

وكان فيلاطوس لم يتّضح له سبب ما ينقمه الناس من عيسى كلّ الاتّضاح وكلّما كلّم الناس في أمره وسألهم واستوضحهم علت أصواتهم وتنادوا (هو كافر) (هو ملحد) (هو خائن) فلم ينته الأمر إلى طائل.

حتّى استقرّ رأي فيلاطوس أن يكلّم عيسى بنفسه فأشخصه وكلّمه وسأله عمّا يقصده بما يبلّغه من الدين فأجابه عيسى أنّه لا يهتمّ بأمر الحكومة والسياسة ولا له في ذلك غرض وأنّه يهتمّ بالحياة الروحانيّة أكثر ممّا يهتمّ بأمر الحياة الجسمانيّة وأنّه يعتقد أنّ الإنسان يجب أن يحسن إلى الناس ويعبد الله الفرد الواحد وحده الّذي هو في حكم الأب لجميع أرباب الحياة من المخلوقات.

وكان فيلاطوس ذا خبرة في مذاهب الرواقيّين وسائر فلاسفة يونان فكأنّه لم ير في ما كلّمه به عيسى موضع غمضة ولا محلّ مؤاخذة ولذلك عزم ثانياً أن يخلّص هذا النبيّ السليم المتين من شرّ اليهود وسوّف في حكم قتله وإنجازه.

لكنّ اليهود لم يرضوا بذلك ولم يتركوه على حاله بل أشاعوا عليه أنّه فتن بأكاذيب عيسى وأقاويله وأنّ فيلاطوس يريد الخيانة على قيصر، وأخذوا يستشهدون عليه ويسجّلون الطوامير على ذلك يريدون به عزله من الحكومة، وقد كان برز قبل ذلك فتن وانقلابات في فلسطين. والقوى المؤمّنة القيصريّة قليلة العدّة لا تقوى على إسكات الناس فيها كلّ القوّة.

وكان على الحكّام وسائر المأمورين من ناحية قيصر أن لا يعاملوا الناس بما يجلب شكواهم وعدم رضايتهم.

فلهذه الأسباب لم ير فيلاطوس بدّاً من أن يفدي هذا الشابّ المسجون للأمن العامّ، ويجيب الناس فيما سألوه من قتله.

وأمّا عيسى فإنّه لم يجزع من الموت بل استقبله على شهامة من نفسه وقد عفى قبل موته عمّن تسبّب إلى قتله من اليهود ثمّ قضى به على الصليب و الناس يسخرون منه ويشتمونه ويسبّونه.

٣٤٩

قال (جلاديوس أنسا) هذا ما قصّ لي يوسف من قصّة عيسى ودموعه تجري على خدّيه وحين ودّعني للمفارقة قدّمت إليه شيئاً من المسكوك الذهبيّ لكنّه أبى أن يأخذه، وقال لي يوجد هيهنا من هو أفقر منّي فأعطه إيّاه.

وسألته عن بولس رفيقك المعهود فما كان يعرفه معرفة تامّة. والقدر الّذي تبيّن من أمره أنّه كان رجلاً خيّاماً ثمّ ترك شغله واشتغل بالتبليغ لهذا المذهب الجديد مذهب الربّ الرؤوف الرحيم الإله الّذي بينه وبين (يهوّه) إله يهود الّذي لا نزال نسمعه من علماء اليهود من الفرق ما هو أبعد ممّا بين السماء والأرض.

والظاهر أنّ بولس سافر أوّلاً إلى آسيا الصغرى ثمّ إلى يونان وأنّه كان يقول للعبيد والأرقّاء إنّهم جميعاً أبناء لأب يحبّهم ويرأف بهم وأنّ السعادة ليست تخصّ بعض الناس دون بعض بل تعمّ جميع الناس من فقير وغنيّ بشرط أن يعاشروا على المواخاة ويعيشوا على الطهارة والصداقة انتهى ملخّصاً.

هذه عامّة فقرات هذا الكتاب ممّا يرتبط بما نحن فيه من البحث.

وبالتأمّل في جمل مضامين هذا الكتاب يتحصّل للمتأمّل أنّ ظهور الدعوة المسيحيّة كيف كان في بني إسرائيل بعيد عيسى (عليه السلام). وأنّه لم يكن إلّا ظهور دعوة نبويّة بالرسالة من عند الله لا ظهور دعوة إلهيّة بظهور اللاهوت ونزولها إليهم وتخليصهم بالفداء!

ثمّ إنّ عدّة من تلامذة عيسى أو المنتسبين إليه كبولس وتلامذة تلامذتهم سافروا بعد وقعة الصلب إلى مختلف أقطار الأرض من الهند وإفريقيّة وروميّة وغيرها وبسطوا الدعوة المسيحيّة لكنّهم لم يلبثوا دون أن اختلفوا في مسائل أصليّة من التعليم كلاهوت المسيح وكفاية الإيمان بالمسيح عن العمل بشريعة موسى وكون دين الإنجيل ديناً أصيلاً ناسخاً لدين موسى أو كونه تابعاً لشريعة التوراة مكمّلاً إيّاها(١) فافترقوا عند ذلك فرقاً.

____________________

(١) يشير إليه كتاب الرسل ووسائل بولس، وقد اعترضت به النصارى

٣٥٠

والّذي يجب الإمعان فيه أنّ الاُمم الّتي بسطت الدعوة المسيحيّة وظهرت فيها أوّل ظهورها كالروم والهند وغيرهما كانوا قبلها منتحلين بالوثنيّة الصابئة أو البرهمنيّة أو البوذائيّة وفيها اُصول من مذاق التصوّف من جهة والفلسفة البرهمنيّة من جهة وفيها جميعاً شطر وافر من ظهور اللاهوت في مظهر الناسوت. على أنّ القول بتثليث الوحدة ونزول اللاهوت في لباس الناسوت وتحمّلها الصلب(١) والعذاب فدائا كان دائراً بين القدماء من وثنيّة الهند والصين ومصر وكلدان والآشور والفرس وكذا قدماء وثنيّة الغرب كالرومان والاسكندناويّين وغيرهم على ما يوجد في الكتب المؤلّفة في الاديان والمذاهب القديمة.

ذكر (دوان) في كتابه (خرافات التوراة وما يماثلها في الأديان الاُخرى): إذا رجعنا البصر إلى الهند نرى أنّ أعظم وأشهر عبادتهم اللاهوتيّة هو التثليث ويسمّون هذا التعليم بلغتهم (ترى مورتى) وهي عبارة مركّبة من كلمتين بلغتهم السنسكريتيّة (ترى) ومعناها الثلاثة و(مورتى) ومعناها هيآت أو أقانيم وهي (برهما، وفشنو، وسيفا) ثلاثة أقانيم متّحدة لا ينفكّ عن الوحدة فهي إله واحد بزعمهم.

ثمّ ذكر: أنّ برهما عندهم هو الأب وفشنو هو الابن، وسيفا هو روح القدس.

ثمّ ذكر أنّهم يدعون سيفا (كرشنا)(٢) الربّ المخلّص والروح العظيم الّذي ولد منه (فشنو) الإله الّذي ظهر بالناسوت على الأرض ليخلّص الناس فهو أحد الأقانيم الثلاثة الّتي هي الإله الواحد.

____________________

(١) القتل بالصلب على الصليب من القواعد القديمة جدّاً فقد كانوا يقتلون من اشتدّ جرمه وفظع دنبه بالصلب الّذي هو من أشدّ أسباب القتل عذاباً وأسوئها ذكراً، وكانت الطريقة فيه أن يصنع من خشبتين تقاطع إحديهما الاُخرى ما هو على شكل الصليب المعروف بحيث ينطبق عليه إنسان لو حمل عليه ثمّ يوضع المجرم عليه مبسوط اليدين ويدق من باطن راحتيه على طرفي الخشبة المعترضة بالمسامير، وكذا تدق قدماه على الخشبة وربّما شدتا من غير دقّ ثمّ تقام الخشبة بنصب طرفها على الأرض بحيث يكون ما بين قدمه إلى الأرض ما يقرب من ذراعين فيبقى الصليب على ذلك يوماً أو أيّاماً ثمّ تكسر قدماه من الساقين ويقتل على الصليب أو ينزل فيقتل بعد الانزال، وكان المصلوب يعذب قبل الصلب بالجلد أو المثلة وكان من العار الشنيع على قوم أن يقتل واحد منهم بالصلب.

(٢) وهو المعبر عنه ابلانكليزية (كرس) وهو المسيح المخلص.

٣٥١

 وذكر أيضاً: أنّهم يرمزون للاُقنوم الثالث بصورة حمامة كما يقوله النصارى.

وقال مستر (فابر) في كتابه (أصل الوثنيّة) كما نجد عند الهنود ثالوثاً مؤلّفاً من (برهما) و(فشنو) و(سيفا) نجد عند البوذيّين ثالوثاً فإنّهم يقولون: إنّ (بوذ) إله له ثلاثة أقانيم. وكذلك بوذيو (جينست) يقولون: إنّ (جيفا) مثلّث الأقانيم.

قال: والصينيّون يعبدون بوذه ويسمّونه (فو) ويقولون إنّه ثلاثة أقانيم كما تقول الهنود.

وقال دوان في كتابه المتقدّم ذكره: وكان قسّيسوا هيكل منفيس بمصر يعبّرون عن الثالوث المقدّس للمبتدئين بتعلّم الدين بقولهم: إنّ الأوّل خلق الثاني والثاني خلق الثالث وبذلك تمّ الثالوث المقدّس.

وسأل توليسو ملك مصر الكاهن تنيشوكي أن يخبره: هل كان قبله أحد أعظم منه؟ وهل يكون بعده أحد أعظم منه فأجابه الكاهن: نعم يوجد من هو أعظم وهو الله قبل كلّ شئ ثمّ الكلمة ومعهما روح القدس ولهذه الثلاثة طبيعة واحدة، وهم واحد بالذات وعنهم صدرت القوّة الأبديّة فاذهب يا فاني يا صاحب الحياه القصيرة.

وقال بونويك في كتابه (عقائد قدماء المصريّين) أغرب كلمة عمّ انتشارها في ديانة المصريّين هي قولهم بلاهوت الكلمة، وأنّ كلّ شئ حصل بواسطتها، وأنّها منبثقة من الله، وأنّها هي الله انتهى. وهذا عين العبارة الّتي يبتدي بها إنجيل يوحنّا.

وقال (هيجين) في كتاب (الإنكلوساكسون) كان الفرس يدعون متروساً الكلمة والوسيط ومخلّص الفرس.

ونقل عن كتاب سكّان اُوروبة الأوّلين: أنّه كان الوثنيّون القدماء يقولون: إنّ الإله مثلّث الأقانيم.

ونقل عن اليونان والرومان والفنلنديّين والاسكندناويّين قضيّة الثالوث السابق الذكر وكذا القول بالكلمة عن الكلدانيّين والآشوريّين والفينيقيّين.

وقال دوان في كتابه (خرافات التوراة وما يقابلها من الديانات الاُخرى) (ص ١٨١ - ١٨٢) ما ترجمته بالتلخيص:

٣٥٢

(إنّ تصوّر الخلاص بواسطة تقديم أحد الآلهة ذبيحة فدائا عن الخطيئة قديم العهد جدّاً عند الهنود الوثنيّين وغيرهم) وذكر شواهد على ذلك:

منها قوله: يعتقد الهنود أنّ كرشنا المولود البكر - الّذي هو نفس الإلهة فشنو الّذى لا ابتداء له ولا انتهاء على رأيهم - تحرّك حنوّاً كي يخلّص الأرض من ثقل حملها فأتاها وخلّص الإنسان بتقديم ذبيحة عنه.

وذكر أنّ (مسترمور) قد صوّر كرشنا مصلوباً كما هو مصوّر في كتب الهنود مثقوب اليدين والرجلين، وعلى قميصه صورة قلب الإنسان معلّقاً، ووجدت له صورة مصلوباً وعلى رأسه إكليل من الذهب. والنصارى تقول: إن يسوع صلب وعلى رأسه إكليل من الشوك.

وقال (هوك) في ص ٣٢٦ من المجلد الأوّل من رحلته: ويعتقد الهنود الوثنيّون بتجسّد بعض الآلهة وتقديم ذبيحة فداء للناس من الخطيئة.

وقال (موريفور ليمس) في ص ٢٦ من كتابه (الهنود) ويعتقد الهنود الوثنيّون بالخطيئة الأصليّة وممّا يدلّ على ذلك ما جاء في مناجاتهم وتوسّلاتهم الّتي يتوسّلون بها بعد (الكياتري) وهو إنّي مذنب ومرتكب الخطيئة، وطبيعتي شريرة، وحملتني اُمّي بالإثم فخلّصني يا ذا العين الحندقوقيّة يا مخلّص الخاطئين من الآثام والذنوب.

وقال القسّ (جورج كوكس) في كتابه (الديانات القديمة) في سياق الكلام عن الهنود: ويصفون كرشنا بالبطل الوديع المملوء لاهوتاً لأنّه قدّم شخصه ذبيحة.

ونقل (هيجين) عن (اندارا دا الكروزوبوس) وهو أوّل اُوروبيّ دخل بلاد التيبال والتبّت: أنّه قال في الإله (اندرا) الّذي يعبدونه: أنّه سفك دمه بالصلب وثقب المسامير لكي يخلّص البشر من ذنوبهم وأنّ صورة الصلب موجودة في كتبهم.

وفي كتاب (جورجيوس) الراهب صورة الإله (اندرا) هذا مصلوباً، وهو بشكل صليب أضلاعه متساوية العرض متفاوتة الطول فالرأسيّ اقصرها - وفيه صورة وجهه - والسفلى أطولها ولو لا صورة الوجه لما خطر لمن يرى الصورة أنّها تمثّل شخصاً هذا.

٣٥٣

وأمّا ما يروى عن البوذيّين في بوذا فهو أكثر انطباقاً على ما يرويه النصارى عن المسيح من جميع الوجوه حتّى أنّهم يسمّونه المسيح، والمولود الوحيد، ومخلّص العالم ويقولون إنّه إنسان كامل وإله كامل تجسّد بالناسوت، وأنّه قدّم نفسه ذبيحة ليكفّر ذنوب البشر ويخلّصهم من ذنوبهم فلا يعاقبوا عليها، ويجعلهم وارثين لملكوت السماوات بيّن ذلك كثير من علماء الغرب: منهم (بيل) في كتابه و(هوك) في رحلته و(موالر) في كتابه تاريخ الآداب السنسكريتيّة وغيرهم.(١)

فهذه نبذة أو اُنموذجة من عقيدة تلبّس اللاهوت بالناسوت، وحديث الصلب والفداء في الديانات القديمة الّتي كانت الاُمم متمسّكين بها منكبّين عليها يوم شرعت الديانة النصرانيّة تنبسط على الأرض وأخذت الدعوة المسيحيّة تأخذ بمجامع القلوب في المناطق الّتي جال الدعاة المسيحيّون فيها فهل هذا إلّا أنّ الدعاة المسيحيّين أخذوا اُصول المسيحيّة وأفرغوها في قالب الوثنيّة واستمالوا بذلك قلوب الناس في تقبّل دعوتهم وهضم تعليمهم؟

ويؤيّد ذلك ما ترى في كلمات بولس وغيره من الطعن في حكمة الحكماء وفلسفتهم والإزراء بطرق الاستدلالات العقليّة وأنّ الإله الربّ يرجّح بلاهة الأبله على عقل العاقل.

وليس ذلك إلّا لأنّهم قابلوا بتعليمهم مكاتب التعقّل والاستدلال فردّه أهله بأنّه لا طريق إلى قبوله بل إلى تعقّله الصحيح من جهة الاستدلال فوضعوا الأساس على المكاشفة والامتلاء بالروح المقدّس فشاكلوا بذلك ما يصرّ به جهلة المتصوّفة أنّ طريقتهم طور وراء طور العقل.

ثمّ إنّ الدعاة منهم ترهبوا وجالوا في البلاد (على ما يحكيه كتاب أعمال الرسل والتواريخ) وبسطوا الدعوة المسيحيّة واستقبلتهم في ذلك العامّة في شتات البلاد، كان من سرّ موفّقيّتهم وخاصّة في إمبراطوريّة الروم هي الضغطة الروحيّة الّتي عمّت

____________________

(١) يجد القارئ هذه المنقولات في تفسير المنار - الجزء السادس في تفسير النساء وفي دوائر المعارف وفي كتاب العقائد الوثنيّة في الديانة النصرانيّة وغيرها.

٣٥٤

البلاد من فشوّ الظلم والتعدّي، وشمول أحكام الاسترقاق والاستعباد، والبون البعيد في حياة الطبقة الحاكمة والمحكومة والآمرة والمأمورة والفصل الشاسع بين عيشة الاغنياء وأهل الإتراف والفقراء والمساكين والأرقّاء.

وقد كانت الدعاة تدعو إلى المواخاة والمحابّة و التساوي والمعاشرة الجميلة بين الناس ورفض الدنيا وعيشتها الكدرة الفانية والاقبال على الحياة الصافية السعيدة الّتي في ملكوت السماء ولهذا بعينه ما كان يعني بحالهم الطبقة الحاكمة من الملوك والقياصرة كلّ العناية، ولا يقصدونهم بالأذى والسياسة والطرد.

فلم يزالوا يزيدون عدداً من غير تظاهر وتنافس وينمون قوّة وشدّة حتّى حصل لهم جمّ غفير في إمبراطوريّة الروم وإفريقيّة والهند وغيرها من البلاد. ولم يزالوا كلّما بنوا كنيسة وفتحوا بابها على وجوه الناس هدموا بذلك واحداً من بيوت الأوثان وأغلقوا بابه.

وكانوا لا يعتنون بمزاحمة رؤساء الوثنيّة في هدم أساسهم، ولا بملوك الوقت وحكّامه في التعالي عن خضوعهم وفي مخالفة أحكامهم ودساتيرهم وربّما كان ذلك يؤدّيهم إلى الهلاك والقتل والحبس والعذاب فكان لا تزال تقتل طائفة وتسجن اُخرى وتشرّد ثالثة.

وكان الأمر على هذه الصفة إلى أوان ملك القيصر (كنستانتين) فآمن بالملّة المسيحيّة وأعلن بها فأخذ التنصّر بالرسميّة وبنيت الكنائس في الروم وما يتبع إمبراطوريّته من الممالك وذلك في النصف الأخير من القرن الرابع الميلاديّ.

تمركزت النصرانيّة يومئذ في كنيسة الروم وأخذت تبعث القسّيسين إلى أكناف الأرض من البلاد التابعة يبنون الكنائس والديرات ومدارس يدرسون بها التعليم الإنجيليّ.

والّذي يجب إلتفات النظر إليه أنّهم وضعوا البحث على اُصول مسلّمة إنجيليّة فأخذوا التعاليم الإنجيليّة كمسألة الأب والابن والروح، ومسألة الصلب والفداء وغير ذلك اُصولاً مسلّمة وبنوا البحث والتنقير عليها.

٣٥٥

وهذا أوّل ما ورد على أبحاثهم الدينيّة من الوهن والوهي فإنّ استحكام البناء المبنيّ وإن بلغ ما بلغ واستقامته لا يغني عن وهن الأساس المبنيّ عليه شيئاً وما بنوا عليه من مسألة تثليث الوحدة والصلب والفداء أمر غير معقول.

وقد اعترف عدّة من باحثيهم في التثليث بأنّه أمر غير معقول لكنّهم اعتذروا عنه بأنّه من المسائل الدينيّة الّتي يجب أن تقبل تعبّداً فكم في الأديان من مسألة تعبديّة تحيلها العقول.

وهو من الظنون الفاسدة المتفرّعة على أصلهم الفاسد، وكيف يتصوّر وقوع مسألة مستحيلة في دين حقّ؟ ونحن إنّما نقبل الدين ونميّز كونه دين حقّ بالعقل وكيف يمكن عند العقل أن تشتمل العقيدة الحقّة على أمر يبطله العقل ويحيله؟ وهل هذا إلّا تناقض صريح؟

نعم يمكن أن يشتمل الدين على ممكن يخرق العادة الجارية، والسنّة الطبيعيّة القائمة، وأمّا المحال الذاتيّ فلا البتّة.

وهذا الطريق المذكور من البحث هو الّذي أوجب وقوع الخلاف والمشاجرة بين الباحثين المتفكّرين منهم في أوائل انتشار صيت النصرانيّة وانكباب المحصّلين على الأبحاث المذهبيّة في مدارس الروم والإسكندريّة وغيرهما.

فكانت الكنيسة تزيد كلّ يوم في مراقبتها لوحدة الكلمة وتهيّئ مجمعاً مشكّلاً عند ظهور كلّ قول حديث وبدعة جديدة من البطارقة والأساقفة لإقناعهم بالمذهب العامّ وتكفيرهم ونفيهم وطردهم وقتلهم إذا لم يقنعوا.

وأوّل مجمع عقدوه مجمع نيقيه لمّا قال أريوس: إنّ اُقنوم الابن غير مساو لاُقنوم الأب وإنّ القديم هو الله والمسيح مخلوق.

اجتمعت البطارقة والمطارنة والأساقفة في قسطنطينيّة بمحضر من القيصر كنستانتين وكانوا ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلاً واتّفقوا على هذه الكلمة( نؤمن بالله الواحد الأب مالك كلّ شئ وصانع ما يرى وما لا يرى وبالابن الواحد يسوع المسيح

٣٥٦

ابن الله الواحد، بكر الخلائق كلّها، وليس بمصنوع، إله حقّ من إله حقّ، من جوهر أبيه الّذي بيده اُتقنت العوالم وكلّ شئ، الّذي من أجلنا ومن أجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسّد من روح القدس، وولد من مريم البتول، وصلب أيّام فيلاطوس، ودفن، ثمّ قام في اليوم الثالث، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين أبيه، وهو مستعدّ للمجئ تارة اُخرى للقضاء بين الأموات والأحياء ونؤمن بروح القدس الواحد، روح الحقّ الّذي يخرج من أبيه، وبمعموديّة(١) واحدة لغفران الخطايا، وبجماعة واحدة قدسيّة مسيحيّة - جاثليقيّة وبقيام أبداننا(٢) والحياة أبد الآبدين(٣) ) .

هذا هو المجمع الأوّل، وكم من مجمع بعد ذلك عقدوه للتبرّي عن المذاهب المستحدثة كمذهب النسطوريّة واليعقوبيّة والأليانيّة واليليارسيّة و المقدانوسيّة والسباليوسيّة والنوئتوسيّة والبولسيّة وغيرها.

ومع هذا كانت الكنيسة تقوم بالواجب من مراقبتها، ولا تتوانى ولا تهن في دعوتها وتزيد كلّ يوم في قوّتها وسيطرتها حتّى وفّقت لجلب سائر دول اُوروبه إلى التنصّر كفرنسا و الإنجليز والنمسا والبروس والإسبانيا والبرتغال والبلجيك وهولاندا وغيرهم إلّا الروسيا أواخر القرن الخامس الميلاديّ سنة ٤٩٦.

ولم تزل تتقدّم وترتقي الكنيسة من جانب، ومن جانب آخر كانت تهاجم الاُمم الشماليّة والعشائر البدويّة على الروم، والحروب والفتن تضعّف سلطنة القياصرة،

____________________

(١) المراد بالمعمودية طهارة الباطن وقداسته.

(٢) أورد عليه أنّه يستلزم القول بالمعاد الجسمانيّ والنصارى تقول بالمعاد الروحانيّ كما يدلّ عليه الانجيل وأظنّ أنّ الانجيل إنّما يدلّ على عدم وجود اللذائذ الجسمانيّة الدنيويّة في القيامة وأمّا كون الإنسان روحاً مجرّداً من غير جسم فلا دلالة فيه عليه بل يدلّ على أنّ الإنسان يصير في المعاد كالملائكة لا ازدواج بينهم وظاهر العهدين أنّ الله سبحانه وملائكته جميعاً أجسام فضلا عن الإنسان يوم القيامة.

(٣) الملل والنجل للشهرستاني.

٣٥٧

وآل الأمر إلى أن أجمعت أهل الروم والاُمم المتغلّبة على إلقاء زمام اُمور المملكة إلى الكنيسة كما كانت زمام اُمور الدين بيدها فاجتمعت السلطنة الروحانيّة والجسمانيّة لرئيس الكنيسة اليوم وهو (البابا جريجوار) وكان ذلك سنة ٥٩٠ الميلاديّة.

وضارت كنيسة الروم لها الرئاسة المطلقة للعالم المسيحيّ غير أنّ الروم لمّا كانت انشعبت إمبراطوريّته إلى الروم الغربيّ الّذي عاصمتها رومة، والروم الشرقيّ الّذي عاصمتها قسطنطينيّة كانت قياصرة الروم الشرقيّ يعدّون أنفسهم رؤساء دينيّين لمملكتهم من غير أن يتّبعوا كنيسة روما وهذا مبدأ انشعاب المسيحيّة إلى الكاثوليك، أتباع كنيسة روما والأرثوذوكس وهم غيرهم.

وكان الأمر على ذلك حتّى إذا فتحت قسطنطينيّة بيد آل عثمان، وقتل القيصر (بالي اُولوكوس) وهو آخر قياصرة الروم الشرقيّ وقسّيس الكنيسة اليوم (قتل في كنيسة(أياصوفيا)).

وادّعى وراثة هذا المنصب الدينيّ أعني رئاسة الكنيسة قياصرة روسيا لقرابة سببيّة كانت بينهم وبين قياصرة الروم، وكانت الروس تنصّرت في القرن العاشر الميلاديّ فصارت ملوك روسيا قسّيسي كنيسة أرضهم غير تابعة لكنيسة رومة، وكان ذلك سنة ١٤٥٤ الميلاديّة.

وبقي الأمر على هذا الحال نحواً من خمسة قرون حتّى قتل (تزار نيكولا) وهو آخر قياصرة الروسيا قتل هو وجميع أهل بيته سنة ١٩١٨ الميلاديّة بيد الشيوعيّين فعادت كنيسة رومة تقريباً إلى حالها قبل الانشعاب.

لكنّ الكنيسة في أثر ما كانت تحاول رؤسائها السلطة على جميع جهات حياة الناس في القرون الوسطى الّتي كانت الكنيسة فيها في أوج ارتقائها وإرتفاعها ثار عليها جماهير من المتديّنين تخلّصاً من القيود الّتي كانت تحملها عليهم الكنيسة.

فخرجت طائفة عن تبعيّة أحكام رؤساء الكنيسة والباباوات وطاعتهم مع البقاء على طاعة التعليم الإنجيليّ على ما يفهمه مجامعهم، ويقرّره اتّفاق علمائهم وقسّيسهم وهؤلاء هم الأرثوذكس.

٣٥٨

 وطائفة خرجت عن متابعة كنيسة رومة أصلاً فليسوا بتابعين في التعليم الإنجيليّ لكنيسة رومة ولا معتنين للأوامر الصادرة منها وهؤلاء هم البروتستانت.

فأنشعب العالم المسيحيّ اليوم إلى ثلاث فرق: الكاثوليك وهي التابعة لكنيسة رومة وتعليمها والاُورثوذكس وهي التابعة لتعليم الكنيسة دون نفسها وقد حدثت شعبتهم بحدوث الانشعاب في الكنيسة وخاصّة بعد انتقال كنيسة قسطنطينيّة إلى مسكو بالروسيا (كما تقدّم) والبروتستانت وهي الخارجة عن تبعيّة الكنيسة وتعليمها جميعاً. وقد استقلّت طريقتهم وتظاهرت في القرن الخامس عشر الميلاديّ.

هذا إجمال ما جرى عليه الدعوة المسيحيّة في زمان يقرب من عشرين قرناً والبصير بالغرض الموضوع له هذا الكتاب يعلم أنّ القصد من ذكر جمل تاريخهم:

أوّلا: أن يكون الباحث على بصيرة من التحوّلات التاريخيّة في مذهبهم والمعاني الّتي يمكن أن تنتقل إلى عقائدهم الدينيّة بنحو التوارث أو السراية أو الانفعال بالامتزاج أو الإلف والعادة من عقائد الوثنيّة والأفكار الموروثة منهم أو المأخوذة عنهم.

وثانياً: أنّ اقتدار الكنيسة وخاصّة كنيسة رومة بلغ بالتدريج في القرون الوسطى الميلاديّة إلى نهاية أوجه حتّى كانت لهم سيطرة الدين والدنيا وانقادت لهم كراسيّ الملك بأوربه فكان لهم عزل من شاءوا ونصب من شاءوا(١) .

يروى أنّ البابا مرّة أمر إمبراطور آلمانيا أن يقف ثلاثة أيّام حافياً على باب قصره في فصل الشتاء لزلّة صدرت منه يريد ان يغفرها له(٢) .

ورفس البابا مرّة تاج الملك برجله حيث جائه جاثياً يطلب المغفرة(٣) .

وقد كانوا وصفوا المسلمين لأتباعهم وصفاً لم يدعهم إلّا أن يروا دين الإسلام دين الوثنيّة يستفاد ذلك من الشعارات والأشعار الّتي نظموها في استنهاض النصارى و

____________________

(١) الفتوحات الإسلاميّة.

(٢) المدرك السابق.

(٣) المدرك السابق.

٣٥٩

تهييجهم على المسلمين في الحروب الصليبيّة الّتي نشبت بينهم وبين المسلمين سنين متطاولة.

فإنّهم كانوا(١) يرون أنّ المسلمين يعبدون الأصنام وأنّ لهم آلهة ثلاثة أسماؤها على الترتيب (ماهوم) ويسمّى بافوميد وماهومند وهو أوّل الآلهة وهو (محمّد) وبعده (ايلين) وهو الثاني وبعده (ترفاجان) وهو الثالث وربّما يظهر من بعض كلماتهم أنّ للمسلمين إلهين آخرين وهما (مارتوان) و(جوبين) ولكنّهما بعد الثلاثة المتقدّمة رتبة وكانوا يقولون: إنّ محمّداً بنى دعوته على دعوى الاُلوهيّة وربّما قالوا: إنّه كان اتّخذ لنفسه صنماً من ذهب.

وفي أشعار ريشار الّتي قالها لاستنهاض الإفرنج على المسلمين: (قوموا وقلّبوا ماهومند وترفاجان وألقوهما في النار تقرّباً من إلهكم).

وفي أشعار رولان في وصف (ماهوم) إله المسلمين: (إنّه مصنوع تامّاً من الذهب والفضّة ولو رأيته أيقنت أنّه لا يمكن لصانع أن يصوّر في خياله أجمل منه ثمّ يصنعه عظيمة جثّته جيّدة صنعته وفي سيمائه آثار الجلالة ظاهرة ماهوم مصنوع من الذهب والفضّة يكاد سنا برقه يذهب بالبصر. وقد اُقعد على فيل هو من أحسن المصنوعات وأجودها بطنه خال وربّما أحسّ الناظر من بطنه ضوءاً هو مرصّعة بالأحجار الثمينة المتلالئة، يرى باطنه من ظاهره ولا يوجد له في جودة الصنعة نظير.

ولمّا كانت آلهة المسلمين يوحون إليهم في مواقع الشدّة وقد انهزم المسلمون في بعض حروبهم بعث قائد القوم واحداً في طلب إلههم الّذي كان بمكّة (يعني محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم)). يروي بعض من شاهد الواقعة: أنّ الإله (يعني محمّداً) جائهم وقد أحاط به جمّ غفير من أتباعه وهم يضربون الطبول والعيدان والمزامير والبوقات المعمولة من فضّة ويتغنّون ويرقصون حتّى أتوا به إلى المعسكر بسرور وترح ومرح، وقد كان خليفته منتظراً لقدومه فلمّا رآه قام على ساقه، واشتغل بعبادته بخضوع وخشوع.

____________________

(١) هذا وما بعده إلى آخر الفصل منقول عن ترجمة كتاب (هنري دوكاستري) في الديانة الإسلاميّة الفصل الأوّل منه.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578