شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم10%

شبهات وردود حول القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 578

شبهات وردود حول القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 578 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 297637 / تحميل: 13678
الحجم الحجم الحجم
شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

الإرادة ويَقظة الرقابة والاستعلاء على الرغبة في مراحلها الأُولى؛ ومِن ثَمّ يُجمع بينهما في آية واحدة، بوَصفِهما سبباً ونتيجةً، أو باعتبارهما خُطوتَين مُتواليتَينِ في عالم الضمير وعالم الواقع، كلتاهما قريب مِن قريب.

قال الإمام علي (عليه السلام): (لكم - أي يُغفر لكم - أَوّل نظرة إلى المرأة فلا تُتْبِعُوها نظرةً أخرى واحذروا الفتنة) (١) .

( ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ ) فهو أَطهر لمشاعرهم وأضمن لعدم تلوّثها بالانفعالات الشهويّة في غير موضعها المشروع النظيف، وعدم ارتكاسها إلى الدَّرَك الحيواني الهابط، وهو أطهر للجماعة وأَصوَن لحُرماتِها وأعراضها وجوّها الذي تتنفّس فيه، قال الإمام الصادق (عليه السلام): (ما يَأمن الذين يَنظرون في أَدبارِ النساء أنْ يُنظر بذلك في نسائهم؟!) (٢) .

والله الذي يأخذهم بهذه الوِقاية، وهو العليم بتركيبهم النفسي وتكوينهم الفطري، الخبير بحركات نفوسهم وحركات جوارحهم ( إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ) (٣) .

روى الإمام جعفر بن مُحمّد الصادق عن آبائه عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: (مَن ملأَ عينَيه مِن حرام ملأ الله عينَيه يوم القيامة مِن النار إلاّ أنْ يَتوب ويرجع... ومَن صَافح امرأةً تَحرم عليه فقد باءَ بسَخطٍ مِن الله عزّ وجلّ، ومَن التزم امرأةً حراماً قُرن في سلسلةٍ مِن نار مَع شيطان فيُقذفان في النار) (٤) .

( وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ) فلا يُرسِلنَ بنظراتهنّ الجائعة المـُتلصِّصة أو الهاتفة المـُثيرة تستثير كوامن الفتنة في صدور الرجال، ولا يُبحنَ فروجَهنّ إلاّ في حلالٍ طيّب، يُلبّي داعيَ الفطرة في جوٍّ نظيف، لا يَخجل الأطفال الذين يجيئون عن طريقه، عن مواجهة المجتمع والحياة!

( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ ) ، والزينة: كلّ ما يُفتَتَن به مِن المرأة ويُثير الرغبة فيها ممّا يوفّر في جمالها؛ وبذلك عمّت الحُلى وغيرها مِن مفاتن جسدها المهيِّجة، كلّ

____________________

(١) المصدر: ص ١٩٤، رقم ١٥.

(٢) المصدر: ص ١٩٩، باب ١٠٨، رقم ١.

(٣) النور ٢٤: ٣٠.

(٤) المصدر: ص ١٩٦، باب ١٠٥، رقم ١.

١٦١

ذلك زينة لها يَجب عليها التستّر عن الأجانب، وحتّى المحارم فيما سِوى الزوج؛ُ ومِن ثَمّ عقّبها بقوله: ( وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ) (١) فتَسدِل الخِمار على صدرِها حتّى يَستر مفاتن جيدها وأطراف صدرها.

نعم سِوى مواضع لا يمكن سَترُها وهي تُزاول التعامل في مَسرح الحياة، كالوجه والكفّين في غير ريبة، وفي صحيحة الفضيل بن يسار عن الإمام الصادق (عليه السلام) سأله عن الذراعَين مِن المرأة، هما مِن الزينة التي قال الله: ( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ... ) ؟ قال: (نعم، وما دون الخِمار مِن الزينة، وما دون السِوارَينِ) (٢) .

وفي حديث عبد الله بن جعفر عن الصادق (عليه السلام) وقد سُئل عن الزينة الظاهرة، قال: (الوجه والكفّان) (٣) .

تعدّد الزوجات

وأيضاً كان الجَدل عَنيفاً حَول مسألة (تعدّد الزوجات)، كانت عادةً جاهليّة ومُهينة بموضع المرأة في الحياة الاجتماعيّة والأُسريّة، حينما نجد الإسلام قد أقرّها ( فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ ) (٤) .

غير أنّ الآية نزلت في ظروف خاصّة وعِلاجاً لمشكلةٍ اجتماعيّة كانت تَقتضيها طبيعة الإسلام الحركيّة ولا تزال، وهو دين كِفاح ونضال مستمرّ مع خُصوم الإنسانيّة عِبر الأجيال.

كان الإسلام مِن أَوّل يومه نهضةً إنسانيّةً؛ دفاعاً عن حريم الإنسان وكسراً لشوكة خُصومه الألدّاء، ( وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ *‏ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ ) (٥) ، ( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) (٦) ، فلا يَزال الإسلام في كِفاح مستمرّ مع المـُستكبرِين في الأرض وفي صالح

____________________

(١) النور ٢٤: ٣١.

(٢) المصدر: ص ٢٠٠ - ٢٠١.

(٣) المصدر: ص ٢٠٢، رقم ٥.

(٤) النساء ٤: ٣.

(٥) القصص ٢٨: ٥ و ٦.

(٦) الأنبياء ٢١: ١٠٥.

١٦٢

المـُستضعفين، حتّى يتحقّق هذا الهدف المقدّس ويتمكّن الصالحون مِن الحُكم على أرجاء العالم المـَعمور.

ولا شكّ أنّ ديناً كان ذلك مَنهجه وهذا دَأَبه كانت المشاكل الاجتماعيّة - التي تَستَعقِبُ هذا المنهج الحركي - حليفَتَه عِبر الأيام، فلابدّ هناك مِن وَضع برامج لمـُعالجتها عِلاجاً حاسماً دون تَعقّد العراقيل.

ومِن المشاكل هذه مشكلة الأيتام القُصَّر وأموالهم إلى جَنب الأرامل الشابّات، التي تُخلِّفُها الحروب وهي تَلتَهم الشبّان مِن الرجال، فلابدّ مِن قَيمُومة بشأن القُصّر وعِلاج مُشكلة الأرامل دون تفشّي الفساد.

كان المسلمون بدورهم آنذاك موظّفين بكفالة الأيتام والقيام بشؤونهم دون ضياعهم وضياع أموالهم، وربّما كان بعضهم يتحرّجون مِن ذلك خَشيَة قصورٍ أو تقصير بشأن اليتامى، وهكذا كانت مشكلة الأرامل حقيقة واقعة لا مَهرب منها سِوى الترخيص في الزواج معهُنّ مِن قِبل رجال أكفاء، وكان في ذلك رعايةً لِكلا الجانبَينِ: عدم التحرّج في التصرّف في أموال اليتامى حسب مصالحهم وهم ربائب، والحَؤول دون تَفشّي الفساد والفحشاء ما دامت المرأة تجد نَفسَها في حماية رجل مؤمن كفؤ، والآية في وقتها نزلت بهذا الشأن.

( وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً * وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً ) (١) .

انظر إلى التناسب القريب بين قوله تعالى: ( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى ) ‏وقوله: ( فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء ) أي الأرامل الشابّات، وهذا التفريع بالفاء ممّا يُنبئك على هذا الترابط بين الأمرين بوضوح.

فلنفرض أنّ مؤسّسات خيريّة قامت بشؤون اليتامى، ولكن ما هو العلاج الحاسم

____________________

(١) النساء ٤: ٢ و٣.

١٦٣

- الدائم مع دوام حركيّة الإسلام - بشأن الأرامل، فيما سِوى ترخيص التعدّد في الزواج، وعلى شَريطة التعادل في حمايتِهنّ وِفق موازين الشريعة بشأن الأزواج؟!

ومِن ثَمّ كانت قضيّة الترخيص في تعدّد الزوجات - مع ملاحظة هذه الشرائط والظروف والملابسات - قضيّةً حاسِمةً لمشكلة اجتماعيّة هي مِن أهمّ المشاكل التي قد تُعرقل في سبيل الحركة الإصلاحيّة، وهي فريضة إسلاميّة عامّة شاملة ودائمة.

هذا بالنظر إلى النصّ القرآني الوارد بشأن تشريع تعدّد الزوجات في حالات اضطراريّة وظروف حَرِجة ومشاكل لا يَحلّها سوى هذا التشريع العادل، وكم مِن مفاسد اجتماعيّة فظيعة قاستها أُمَم إثر حروب عارمة التهمت عامّة الرجال وبقيت النساء الأرامل يَبتَغِينّ حمايةَ رجال أكفاء فلا يَجدَنَ، ثمّ سادت الفحشاء وراج الابتذال الخُلقي لا في النساء فقط بل في الأطفال الضُيَّع الصِغار أيضاً.

وهذه الحرب العالميّة الثانية كم خلَّفت مِن مساوئ ومفاسد عمّت أرجاء البلاد الأُوربيّة ولا سيّما القُطر الألماني الذي تألّب عليه حَشدُ المـُحاربِينَ مِن كلّ الجهات: حلفاء الدول الأُوربيّة وأمريكا والسوفيت في تَحالف ثلاثي ضدّ الألمان المـُنكَسِر بعد ذلك التهاجم العنيف.

ثُمّ مع قطعِ النظر عن شأن نزول الآية نرى إنّ في هذا التشريع إجابةً لواقع الإنسان في فطرته، وصيانةً للمجتمع دون تفشّي الفساد فيه، وتشريعاً في ظروف خاصّة وفي ظلّ شرائط مُحدَّدة، فقد جاء الإسلام ليُحدّد لا لِيُطلق ويترك الأمر لهوى الرجل، فقد قَيّد التعدّد بالعدل وإلاّ امتنعت الرخصة.

ولكن لماذا أباح هذه الرخصة؟ إنّ الإسلام نظام للإنسان، نظام واقعي إيجابي يتوافق مع فطرة الإنسان وتكوينه ويتوافق مع واقعه وضروراته، ويتوافق مع ملابسات حياته المتغيّرة في شتّى البقاع وشتّى الأزمان والأحوال، إنّه نظام واقعي إيجابي يَلتقط الإنسان مِن واقعه الذي هو فيه ومِن موقفه الذي هو عليه، ليَرتفع به في المـُرتَقى الصاعد إلى القمّة السامقة، في غير إنكارٍ لفطرته أو تنكّر، وفي غير إغفالٍ لواقعه أو إهمال، وفي غير عُنفٍ في دفعه أو اعتساف.

١٦٤

إنّه نظام لا يَقوم على الحَذلَقة الجَوفاء، ولا على التظرّف المائع، ولا على المثاليّة الفارغة، ولا على الأُمنيات الحالِمة التي تَصطدم بفطرة الإنسان وواقعه ومُلابسات حياته ثمّ تتبخّر في الهواء.

وهو مع ذلك نظام يرعى خُلق الإنسان ونظافة المجتمع، فلا يسمح بإنشاء واقع مادّي مِن شأنه انحلال الخُلق وتلويث المجتمع تحت مَطارق الضرورة التي تصطدم بذلك الواقع، بل يتوخّى دائماً أن يُنشئ واقعاً يُساعد على صيانة الخُلق ونظافة المجتمع مع أَيسر جهدٍ يَبذله الفرد ويَبذله المجتمع.

فإذا استصحبنا معنا هذه الخصائص الأساسيّة في النظام الإسلامي ونحن ننظر إلى مسألة تعدّد الزوجات فماذا نرى؟ نرى أنّ هناك حالات واقعيّة في مجتمعات كثيرة - تأريخيّة وحاضرة - تبدو فيها زيادة عدد النساء الصالحات للزواج، على عدد الرجال الصالحين للزواج، فيكف نعالج هذا الواقع الذي يقع ويتكرّر وقوعه بِنِسَب مُختلفة؟ هذا الواقع الذي لا يجدي فيه الإنكار، أنعالجُه بهزّ الكَتِفَينِ؟ أو نتركه يعالج نفسَه بنفسه حسب الظروف والمصادفات؟!.

هزّ الكتفين لا يحلّ مشكلة كما أنّ ترك المجتمع ليعالج هذا الواقع حسبما اتّفق لا يقول به إنسان جادّ يحترم نفسه ويحترم الجنس البشري، فلا بدّ إذن مِن نظام، ولابدّ إذن مِن إجراء.

وعندئذٍ نجد أنفسنا أمام احتمال مِن ثلاثة احتمالات:

١ - أنْ يتزوّج كلّ رجل صالح للزواج امرأةً مِن الصالحات للزواج ثمّ تبقى واحدة أو أكثر - حسب درجة الاختلال الواقعة - بدون زواج، تقضي حياتها - أو حياتهنّ - لا تعرف الرجال الأكفاء.

٢ - أنْ يتزوّج كلّ رجل صالح للزواج واحدةً فقط زواجاً شرعيّاً نظيفاً، ثُمّ يُخادن أو يُسافح واحدةً أو أكثر مِن هؤلاء اللواتي ليس لهُنّ مقابل كفؤ مِن الرجال، فيَعرفَنَ الرجل خديناً أو خليلاً في الحرام والظلام (١) .

____________________

(١) وقد عالجت فرنسا هذه المشكلة بإباحة اتخاذ الخليلة قانونيّاً إلى جَنب الزواج الشرعي، ولكن المشكلة لم تقف عند =

١٦٥

٣ - أنْ يتزوّج الرجال الصالِحونَ - كلّهم أو بعضهم - أكثرَ مِن واحدة - وأنْ تَعرف المرأة الأُخرى الرجلَ - زوجةً شريفةً في وَضحِ النور لا خَدينَةً ولا خليلةً في الحرام والظلام.

الاحتمال الأَوّل ضدّ الفطرة وضدّ طبيعة المرأة في شعورها الأُنوثي؛ إذ ليس الاشتغال بالاكتساب والعمل ممّا يسدّ حاجة المرأة في الحياة، فإنّ المسألة أعمق بكثير ممّا يظنّه هؤلاء المـُتَحذلِقون السطحيّون، فكما أنّ الرجل يكتسب ويعمل ولكن هذا لا يَكفيه فيروح يسعى للحصول على العَشير، كذلك فهما من نفسٍ واحدةٍ على سواء.

والاحتمال الثاني ضدّ الاتّجاه الإسلامي النظيف وضدّ قاعدة المجتمع الإسلامي العفيف وضدّ كرامة المرأة الإنسانيّة المترفِّعة عن الابتذال.

والاحتمال الثالث هو الذي يختاره الإسلام، يختاره في إطارٍ محدود وعلى شرائط عادلة، وهو العلاج النافع لمـَن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

وللسيّد قطب هنا بحثٌ مُذيّل ومُستَوفٍ بجوانب الموضوع، وكذلك صاحب تفسير المنار، والعلاّمة الطباطبائي في الميزان، وغيرهم مِن أعلام (١) .

ثمّ لم يكن هذا التشريع تشريعاً مُطلقاً بل مُتقيّداً برعاية العدل وفي رقابة مِن تقوى القلوب، نعم إنّ هذه الأرض لا تَصلح بالتشريعات والتنظيمات ما لم يكن هناك رقابة مِن التقوى في الضمير، وهذه التقوى لا تَجيش إلاّ حين يكون التشريع صادراً مِن الجهة المـُطّلعة على السرائر الرقيبة على الضمائر، عندئذٍ يحسّ الفرد - وهو يَهمّ بانتهاك حرمة القانون - أنّه يَخون اللّه ويَعصي أَمره ويصادم إرادته، وأنّ اللّه مُطّلع على نيّته هذه ومرمى فعله هذا، وعندئذٍ تتزلزل أقدامه وترتجف مفاصله وتخور قواه ( إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ

____________________

= هذا الحدّ، حيث هناك مشكلة أعمق هي مشكلة نِتاج هذه الخليلة مِن أولاد، هل يُعتَبرون أولاداً شرعيّين أم ماذا؟ ولذلك طالبت الحكومة الفرنسيّة أخيراً من الحكومات الإسلاميّة أنْ ترفع إليها أطروحة تعدّد الزوجات، لعلّها تجد فيها حلاً لمشكلتها القانونيّة في هذا الجانب من الحياة العائليّة العويصة.

(١) راجع: في ظِلال القرآن، ج٤، ص٢٤٠ - ٢٤٥، المجلّد الثاني، وتفسير المنار، ج٤، ص٣٥٧ - ٣٦٢، والميزان، ج٤، ص١٩٥ - ٢٠٧.

١٦٦

رَقِيباً ) (١) ، ( وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً ) (٢) ، ( مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) (٣) ، ( وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ) (٤) ، ( وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ) (٥) ، هذه هي الرقابة الداخليّة التي يَحسّ بها كلّ إنسان صاحب ضمير.

إنّ اللّه أَعلم بعباده وأعرف بفطرتهم وأَخبر بتكوينهم النفسي والعاطفي - وهو خَلقهم - ومِن ثَمَّ جَعل التشريع تشريعه والقانون قانونه والنظام نظامه؛ ليكون له في القلوب وزنُه وأثره ومخالفته ومَهابته، وإنّ الناس مهما أطاعوا أمثالهم تحت تأثير البَطش والإرهاب والرقابة الظاهريّة التي لا تَطَّلِع على الأفئدة فإنّهم لابدّ متفلِّتون منها كلّما غافلوا الرقابة وكلّما واتَتَهم الحيلة.

ومِن ثَمّ قال تعالى: ( فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً... ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ ) (٦) أي لا تَعدلوا وتَميلوا على الحقّ إلى الجَور. فهذه المسألة - مسألة إباحة تعدّد الزوجات بذلك التحفّظ الذي قرّره الإسلام - يُحسن أنْ تُؤخذ بيسرٍ ووضوحٍ وحسم، وأنْ تُعرف المـُلابسات الحقيقيّة والواقعيّة التي تُحيط بها، فالإسلام نظامٌ يُراعي خُلق الإنسان ونظافة المجتمع، فلا يسمح بإنشاء واقع مادّي ملوّث من شأنه انحلال الخلق وتلويث المجتمع، تحت مطارق الضرورة التي تصطدم بذلك الواقع، بل يتوخّى دائماً أنْ يُنشئ واقعاً يُساعد على صيانة الخُلق ونظافة المجتمع مع أَيسر جهدٍ يَبذله الفرد ويَبذله المجتمع.

تعدّد زوجات النبيّ

هناك مسألة أُخرى ناسَب التعّرض لها، فيما رَخَّص النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) لنفسه اختيار تعدّد الزوجات فَوق الأربع، الأمر الذي لم يُرخِّصه لأُمّته، وقد أُثير حولها عَجاجٌ عارِمٌ؛ مُحاوَلَةً للنَيل مِن قَداسة مَقامهِ الكريم، لقد قام المـُستشرِقون وقعدوا وصاحوا صيحاتِهم قصداً إلى

____________________

(١) النساء ٤: ١.

(٢) الأحزاب ٣٣: ٥٢.

(٣) ق ٥٠: ١٨.

(٤) ق ٥٠: ٤.

(٥) الكهف ١٨: ٤٩.

(٦) النساء ٤: ٣.

١٦٧

تشويه سُمعة صاحب الرسالة ليُصوِّروه رجلَ شَهوة مُنهمِكاً في غرامه للنساء انهماك المـُلوك المـُترفين، وقد حاكوا أقاصيص حول تزويج النبيّ بعدّة زوجات - بعد تَجاوزه العقد الخامس مِن عُمُره الكريم، السنّ التي تَفتر بعدها رغبةُ الرجال في النساء - وجعل يُكرِّرها ويردِّدها (موْيِرْ) و(إرْفِنْجْ) و(سْبِرِنَجَز) و(فَيْلْ) و(دِرْمِنْجِمْ) و(لاَمَنْسْ) (١) وغيرهم ممّن، تناولوا كتابةَ حياة مُحمّد (صلّى اللّه عليه وآله) لكنّها شهوة التبشير المكشوف تارةً، والتبشير باسم العِلم أُخرى.

والخُصومة القديمة للإسلام خُصومة تأصّلت في النفوس منذ الحروب الصليبيّة التي تُملي على هؤلاء جميعاً ما يكتبون ويُسطّرون، وتَجعلهم في أمر زواج النبي (صلّى اللّه عليه وآله) فيمَن تزوّج، يتجنّون على التأريخ ويحاولون قلب الحقيقة مِن واقعها الناصع النزيه إلى ظاهرةٍ مُشوّهة كريهة.

أمّا الحقيقة فهي تَشهد بوضوح أنّ مُحمّداً (صلّى اللّه عليه وآله) لم يكن رجلاً يَأخذ بعقلِهِ الهوى، وهو لم يتزوّج مَن تزوّج مِن نسائه بدافع مِن شهوةٍ فائضة أو غرامٍ عارم، وإذا كان بعض الكُتّاب المسلمين في بعض العصور قد أباحوا لأنفسهم أنْ يقولوا هذا القول وأنْ يُقدّموا لخُصوم الإسلام - عن حسن نيّة - هذه الحُجّة فذلك؛ لأنّهم انحدر بهم التقليد إلى المادّية، فأرادوا أنْ يُصوّروا مُحمّداً عظيماً في كلّ شيء، عظيماً حتّى في شهوات الدنيا، وهذا تَصوّر خاطئ يُنكره تأريخ حياته الكريمة أشدّ إنكار، وتأبى مشيتُه النزيهة - التي عاشها في ذلك الجوّ الحالك - أنْ تُقرّه وتَشهد به.

فهو قد تزوّج مِن خديجة - وهي أكبر منه بسنين - وهو في الثالثة والعشرين مِن عُمُره، وهو في شَرخِ الصِّبا ورَيعان الفُتوَّة ووَسَامة الطَّلعة وجَمال القَسَمات وكمال الرجوليّة، مع ذلك ظلّت خديجة وحدَها ثمانياً وعشرين عاماً حتّى تخطّى الخمسين، هذا على حين كان تعدّد الزوجات أمراً شائعاً بين العرب ذلك الحين، وعلى حين كان لمـُحمّدٍ مَندوحة في التزويج على خديجة؛ أنْ لم يَعِشْ لَه منها ذَكر، في وقتٍ

____________________

(١) راجع: حياة لمـُحمّد حسين هيكل: ص٢٩٣.

١٦٨

كانت تُوأَدُ فيه البنات وقد ظلّ مُحمّد (صلّى اللّه عليه وآله) مع خديجة (عليها السلام) سبع عشرة قبل بعثته وإحدى عشرة سنة بعدها، وهو لا يُفكِّر قطّ في أنْ يُشرك معها غيرَها في فراشه، كما لم يُعرف عنه في حياة خديجة ولم يُعرف عنه زواجه منها أنّه كان ممّن تُغريهم مَفاتِن النساء في وقتٍ لم يكن فيه على النساء حجاب، وكانت النساء مُتبرّجات، يُبدِينَ مِن زينتَهُنّ ما حرّمهُ الإسلام مِن بعدُ.

فمن غير الطبيعي أنْ نراه - وقد تخطّى الخمسين - يَنقلب فجأةً هذا الانقلاب الذي يَجعله ما يكاد يَرى بنت جحش وعنده نساء خمس حتّى يُفْتَن بها وتَأخذ تفكيرَه ليله ونهاره حسبَما سطّروه.

ومِن غير الطبيعي أنْ نراه - وقد تخطّى الخمسين - يَجمع في خمس سنوات أكثر مِن سبع زوجات، وفي سبع سنوات تسع زوجات، وذلك كلّه بدافع مِن الشهوة المـُلِحّة والرغبة العارمة في النساء - والعياذ باللّه - رَغبةً صوّرها بعض الكُتّاب المسلمين وحذا الافرنج حذوهم تصويراً لا يَليق في ضِعته برجل مادّي، بل هو الرجل العظيم الذي استطاعت رسالتُه أنْ تَنقل العالم، وأنْ تُغيّر مجرى التأريخ وما تزال على استعداد لأنْ تَنقل العالم مرّةً أُخرى وتغيّر مجرى التاريخ طوراً جديداً، وهو على وَشَك التحقّق ونحن على طلائعه بحوله تعالى وقوّته إنْ شاء اللّه.

وإذا كان هذا عجيباً وكان غير طبيعي فمن العجيب كذلك أنْ نرى مُحمّداً (صلّى اللّه عليه وآله) تَلِد له خديجة ما وَلَدت وهو ما قبل الخمسين، وأنّ مارية تَلِد له إبراهيم وهو حوالي الستّين، ثُمّ لا تَلِد له نساؤه غير هاتَينِ، وهُنّ بين شابّة في مُقتَبل العُمر وبين مَن كَمُلت أُنوثتها بين الثلاثين والأربعين وبعضهنّ كُنّ ذوات وِلد مِن قبل، فكيف تُفسّر هذه الظاهرة الغريبة في حياة النبيّ؟ هذه الظاهرة التي لا تَخضع للقوانين الطبيعيّة في تسع نِسوة جميعاً! هذا وقد كان مُحمّد (صلّى اللّه عليه وآله) قد كانت نفسه كإنسان تَهفو مِن غير رَيب إلى أنْ يكون له وَلَد!

ثُمّ إنّ التأريخ ومَنطق حوادثِه أصدق شاهد يُكذّب مَزعومة المـُبشّرين والمـُستشرقين في شأن تعدّد زواج النبيّ، فهو لم يُشرك مع خديجة امرأةً مَدى ثمان و عشرين عاماً عاش معها، فلمـّا تُوفّيت لسنتين قبل الهجرة تزوّج سَوْدَة بنت زَمْعَة وكانت

١٦٩

قد تُوفّي عنها زوجها بعد الرجوع مِن هجرة الحَبشة الثانية، ولمْ يروِ راوٍ أنّها كانت ذات جمال أو ثَروة أو مَكانة بما يَجعل لمـَطمع الدنيا أثراً في هذا الزواج، وإنّما كان زوجها مِن الرجال السابقين الأوّلين الذين احتملوا الأذى في سبيل الإسلام، وكان ممّن هاجر إلى الحَبشة بأمر النبيّ عِبر البحر إليها، وكانت سَوْدَة هاجرت معه وعانت مِن المـَشاقّ ما عانى ولَقيَتْ مِن الأذى ما لقيَ.

فإذن تَزوّجها النبيّ بعد ذلك؛ ليَعولها وليَرتفع بمَكانتها إلى أُمومة المؤمنين، وكان زواجه مع عائشة بعد شهر وهي لم تَبلغ مَبلغ النساء (١) ، وبَقيت سنتين قَبل أنْ يبنيَ بها، فليس مِن العقل أو يَرضاه المنطق أنْ يكون قد عَلِق قلبُه بها وهي في هذه السنّ الصغيرة.

قال الأُستاذ هيكل (٢) : يُؤيّد ذلك زواجه مع حفصة بنت عمر - بعد وفاة زوجها خنيس ببدر - في غير حُبّ، بشهادة أبيها عمر، قال لها، عندما آذت هي وعائشة رسول اللّه: واللّه لقد علمتِ أنّ رسول اللّه لا يُحبّكِ: ولولا أنا لطَلّقكِ (٣) .

قال: أفرأيتَ إذن أنّ مُحمّداً (صلّى اللّه عليه وآله) لم يتزوّج مِن عائشة ولم يتزوّج مِن حفصة لحبٍّ أو لرغبة؛ وإنّما تزوّج منهما لِتُمَتِّنّ أواصر هذه الجماعة الإسلاميّة الناشئة، كما تزوّج مِن سَوْدَة؛ ليَعلم المجاهدون مِن المسلمين أنّهم إذا استشهدوا في سبيل اللّه فلن يَتركوا وراءهم نِسوةً وذرّية ضِعافاً يخافون عليهم عَيْلةً، وهكذا في زواجه مِن زينب بنت خُزيمة ومِن أُمّ سلمة.

فقد كانت زينب زوجاً لعبيدة بن الحارث الذي اُستشهد يوم بدر ولم تكن ذات جَمالٍ، وإنّما عُرفت بطيبتها وإحسانها حتّى لقّبت أُمّ المساكين، وكانت قد تَخطّت الشباب، فلم تكُ إلاّ سنة أو سنتين ثُمّ قَبَضَها اللّه، أمّا أُمّ سَلَمة فكانت زوجاً لأبي سَلَمة وكان لها منه أبناء عدّة، فلمـّا تُوفّي زوجُها على أثر جِراحة أصابته في اُحد فنَغِرت عليه، وَلحِقِ بجوار ربّه، وبعد أربعة أشهر وعشرٍ من وفاته طلب النبيّ إلى أُمّ سَلَمة يدها فاعتذرت بكَثرة العيال وبأنّها تخطّت الشباب، فما زال بها حتّى تزوّج منها وحتّى أخذ نفسَه بالعناية لها وتنشِئة أولادها.

____________________

(١) قال ابن هشام: زوّجها مِن رسول اللّه أبوها أبو بكر ولها سبع سنين وبنى بها بالمدينة ولها تسع أو عشر، (سيرة ابن هشام، ج٤، ص٢٩٣).

(٢) حياة مُحمّد، ص٢٨٨.

(٣) الدرّ المنثور: ج٨، ص٢٢١.

١٧٠

أَفيَزعم المـُبشّرون والمـُستشرقون بعد ذلك أنّ أُمّ سَلَمة كانت ذات جمال وهو الذي دعا مُحمّداً إلى التزوّج منها؟! إن يكن ذلك فقد كانت غيرها مِن بنات المهاجرين والأنصار مَن تفوقها جمالاً وشباباً وثروةً ونضرة، ومَن لا يُبهِظُه عبء عيالها؛ لكنّه إنّما تزوّج منها لهذا الاعتبار السامي الذي دعاه ليتزوّج زينب بنت خزيمة (١) نظير الذي دعاه للتزوّج من حفصة بنت عمر حسبما عرفت.

ماذا يَستنبط المـُمَحِص التأريخي النزيه من ذلك؟ يستنبط أنّ محمّداً (صلّى اللّه عليه وآله) نَصح بالزوجة الواحدة في الحياة العادية، وقد دعا إلى ذلك بمثله الذي ضَرَبه في حياته الزوجيّة مع خديجة، وبه نزل القرآن الكريم ( فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً ) (٢) ، ( وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ ) (٣) ، ولقد نزلت هذه الآيات في أُخريات السَّنة الثامنة للهجرة بعد أنْ كان قد بنى بأزواجه جميعاً، ونزلت لتُحدّد عدد الزوجات بأربع وقد كان إلى حين نزولها لا حدّ له، ممّا يَسقط قول القائلين: إنّ محمّداً أباح لنفسه ما حرّم على الناس!

على أنّه رأى في ظروف حياة الجماعة الاستثنائيّة إمكان الحاجة للتعدّد إلى أربع على شرط العّدل، وهو قد دعا إلى ذلك بمثله الذي ضرب أيّام غزوات المسلمين واستشهاد مَن استشهد منهم.

ولعمرك هل تستطيع أن تقطع بأنّ الاقتصار على الزوجة الواحدة حين تحصد الحروب أو الأوبئة أو الثورات أُلوف الرجال وملايينها، خير من هذا التعدّد الذي أُبيح على طريق الاستثناء؟ (٤) .

* * *

أمّا قّصة زينب بنت جحش - وما أضفى بعض الرواة وأضفى المـُستشرقون والمبشِّرون عليها من أستار الخيال حتّى جعلوها قصّة غرامٍ وَوَلَه -. فالتأريخ الصحيح

____________________

(١) حياة مُحمّد، ص٢٨٩.

(٢) النساء ٤: ٣.

(٣) النساء ٤: ١٢٩.

(٤) وقد حصدت الحرب الصدّامية الاستعماريّة ضدّ الجمهورية الإسلاميّة أكثر من مئتي ألف شهيد وهم مِن خِيرة شبّان المسلمين على وجه الأرض.

١٧١

يحكم بأنّها مِن مفاخر نبيّ الإسلام ومواقفه الحاسمة في مكافحة رسوم جاهليّة بائدة، وأنّه - وهو المـَثَل الأعلى للإيمان - قد طبّق فيها حديثه الذي معناه: لا يَكمل إيمان المرء حتّى يُحبّ لأخيه ما يُحبّ لنفسه، وقد جعل نفسه أَوّل مَن يَضرب المثل؛ لِما يَضع من تشريع يمحو به تقاليد الجاهليّة وعاداتها، ويقرّ به النظام الجديد الذي أنزله اللّه هدىً ورحمةً للعالمين.

ويكفي لهدم كلّ القصّة - حسبَما سطّروها - أنْ تعلم أنّ زينب بنت جحش هذه هي ابنة أُمَّيمة بنت عبد المطّلب عمّة رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) وأنّها تربَّت بعينه وعنايته، وكان يَعرفها ويَعرف أهي ذات محاسن أم لا قبل أنْ تتزّوج بزيد، وأنّه هو الذي خَطَبها على زيد مولاه، وكان أخوها يأبى مِن أنْ تتزوّج قرشيّة هاشميّة مِن عبدٍ رقٍّ اشترته خديجة وأعتقته لرسول اللّه، فكان يرى في ذلك عاراً على زينب أُخته، كما هو عارٌ عند العرب.

لكنّ النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) يريد أن تَزول مثل هذه الاعتبارات القائمة في النفوس على العصبيّة الجاهليّة، وأنْ لا فضلَ لعربيٍّ على أعجميٍّ إلاّ بالتقوى، وهو يرى أنْ يُضحِّي مِن قبيله في كسر شوكةٍ جاهليّة، فلتكن زينب بنت عمّته - وهي امرأة صالحة مُطيعة لربّها خاضعة لصالح الإسلام - هي التي تَحتمل هذا الخروج على تقاليد العرب وهذا الهدم لعاداتها الجاهلة، مُضحّية في ذلك بما يقول الناس عنها ممّا تخشى سماعه.

فاستسلمت هي لمـّا فاتَحَها الرسول بشأنِ مُكافَحةٍ عمليّةٍ، ابتغاءَ مرضاة اللّه، وفي ذلك نزلت الآية: ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِيناً ) (١) ، لم يبقَ أمام عبد اللّه وأُخته زينب بعد نزول هذه الآية إلاّ الإذعان والاستسلام، فقالا: رَضِينا يا رسول اللّه، فلمـّا سارت زينب إلى زوجها لم يَتلاءم خُلُقها مع زيد؛ ولعلّه لأسبابٍ ترجع إلى أعرافٍ شبّ عليها كلّ منهما وعادات ورِثاها من أصل نشأتهما. وربّما كانت تَفخر عليه أو تَحتقره حسب فطرتها، فلم يكن زيد يتحمّلها، واشتكى إلى النبيّ غير مرّة من سوء معاملتها إيّاه واستأذنه غير مرّة في تطليقها، فكان النبيّ يُجيبه:

____________________

(١) الأحزاب ٣٣: ٣٦.

١٧٢

( أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ ) (١) ، ولعلّه أيضاً كان يُسيء إليها في معاشرته معها غير المـُتناسبة لشأنها، الأمر الذي يُسيء إليه الأمر بتقوى اللّه، لكنّ زيداً لم يُطق الصبر معها، حيث بَعُدت الشُقّة بين خُلقهما، فطلّقها.

وكان النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) وأنّ وراءها حكمة أُخرى يَجب تنفيذها لإبطال عادة جاهليّة أُخرى كان عليها العرب، كانوا يُدينون بشأن الأدعياء أنّ لهم اتّصالاً بالأنساب مِن إعطائهم جميع حقوق الأبناء، وإجراء أحكامهم عليهم حتّى في الميراث، وحرمة النسب، أمّا الإسلام فلم يكن يَرى للمتبنّي واللصيق سِوى حقّ المولى والأخ في الدِّين لا أكثر ( وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ * ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ ) (٢) .

فهنا يأتي دور إبطال هذه العادة الجاهليّة إبطالاً عمليّاً، والمـُترشِّح لهذه التَفدية أو التضحية هو نفس النبيّ الكريم عليه وعلى آله أفضل صلوات المـُصلّين؛ إذ لم يكن من العرب مَن يستطيع أن يقوم بهذه التضحية وينقض بها تقاليد الأجيال السالفة! سِوى مُحمّدٍ نفسه، الذي كان على قوّةِ عزيمةٍ وعميقِ إدراكٍ لحكمة اللّه.

هذا ما كان النبيّ يَعرِفُه بقوّةِ فطنته، وأنْ سَيؤول إلى ذلك، ولكن كان كلّما يُراجعه زيد بشأن تطليق زينب يُوصيه بالإمساك بزوجه، وهو يدري في قرارة نفسه أنّه يُطلّقها لا محالة، وأنْ سوف يُؤمر بالتزوّج منها، وكان يُخفي ذلك في نفسه وما كان يُبديه ( وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ ) أي سوف يَبدو أنّ وراء هذه التطليقة حِكمة أُخرى يجب إجراؤها ( وَتَخْشَى النَّاسَ ) ، في إبداء ما يكنّه صدرك مِن معرفة حِكمة اللّه، ( وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً ) (٣) .

____________________

(١) الأحزاب ٣٣: ٣٧.

(٢) الأحزاب ٣٣: ٤ و٥.

(٣) الأحزاب ٣٣: ٣٧.

١٧٣

والآيات التالية لها تُوضّح مِن هذه الحِكمة أكثر توضيحاً:

( مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً * الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً * مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ) (١) .

ونُلفِت النظر هنا نُكتتان: الأُولى: أنّ الذي كان يُخفيه النبيّ في نفسه وأبداه اللّه، كان عِلمـُه (صلّى اللّه عليه وآله) بمآل الأمر - وأنّ هذا الزواج سينتهي إلى الفِراق - تمهيداً لتحقيق حِكمة أُخرى دبّرها اللّه تعالى في تحكيم شريعته في الأرض.

والنكتة الثانية: كانت خشيتُه (صلّى اللّه عليه وآله) هي خوف أنْ تثور ثائرة الجاهليّة الأُولى، فلا تتحمّل العرب نقض عاداتها الموروثة واحدةً تلو أُخرى، وكانت ضربةً قاضيةً على عاداتها التي جرت عليها آباؤهم الأَوّلون؛ ومِن ثَمَّ طمأَنه تعالى ووعده بظهور دينه وهيمنته على كلّ طريقة أو عادة تكاد تُعرقل سبيله إلى شريعة اللّه ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) (٢) ، ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (٣) ، ( وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ ) (٤) ، ( وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) (٥) .

تحرير الرقيق تدريجيّاً

وهكذا الأمر بشأن مِلك اليمين، أقرّة الإسلام في ظاهر الحال، ولكن قريناً مع تمهيدات تُزَعزع مِن دعائمه وتَجعله على شُرَف الانهيار.

جاء الإسلام، والرّقّ نظام مُعترَف به في جميع أنحاء العالم، بل كان عُملةً اقتصاديّةً واجتماعيّةً مُتَداوَلة، لا يَستنكرها أحد، ولا يُفكّر في إمكان تغييرها أحد؛ لذلك كان تغيير هذا النظام أو مَحوه أمراً يحتاج إلى تَدرّج شديد وزمن طويل، وقد احتاج إبطال الخمر إلى بضع سنوات.

____________________

(١) الأحزاب ٣٣: ٣٨ - ٤٠.

(٢) التوبة ٩: ٣٣، الصفّ ٦١: ٩، الفتح ٤٨: ٢٨، والسور الثلاث مدنيّات، وفي الأخيرة: ( وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً ) .

(٣) الحجر ١٥: ٩.

(٤) النحل ١٦: ١٢٧، وفي سورة النمل ٢٧: ٧٠: ( وَلا تَكُن... ) .

(٥) المائدة ٥: ٦٧.

١٧٤

والخمر عادة شخصيّة قبل كلّ شيء، وإنْ كانت ذات مظاهر اجتماعيّة، وكان بعضُ العرب أنفسهم في الجاهليّة يتعفّفون عنها، ويَرون فيها شرّاً لا يَليق بذوي النفوس العالية.

والرّقّ كان أعمق في كيان المجتمع ونفوس الأفراد؛ لاشتماله على عوامل شخصيّة واجتماعيّة واقتصاديّة، ولم يكن أحد يَستنكره كما أسلفنا، كذلك كان إبطاله في حاجة إلى زمن أطول ممّا تتَّسع له حياة الرسول، وهي الفترة التي كان ينزل فيه الوحي بالتنظيم والتشريع، فلو كان اللّه يعلم أنّ إبطال الخمر يكفي فيه إصدار تشريع ينفذ لساعته لَمَا حرّمها في بِضع سنوات، ولو كان يعلم أنّ إبطال الرّقّ يكفي له مجرّد إصدار (مرسوم) بإلغائه لَمَا كان هناك سبب لتأخّر هذا المرسوم!

كان الرقيق في عُرف الرومان - وهم الأصل في استرقاق الأناسي - يُعدّ (شيئاً) لا (بشراً) (شخصاً إنسانيّاً)! شيئاً لا حقوق له البتّة - كالبهائم والأمتعة - وإن كان عليه كلُّ ثقيل من الواجبات.

ولِنَعلم أوّلاً: مِن أين كان يأتي هذا الرقيق؟ كان يأتي مِن طريق الغزو والنَهب والأسر، ولم يكن الغزو لفكرة ولا لمبدأ؛ وإنّما كان سببه الوحيد شَهوة الاستيلاء والاستثمار واستعباد الآخرين وتسخيرهم لمصلحة المترفين، فلكي يعيش الروماني عِيشة البَذَخ والترف، يَسْتمتع بالحمّامات الباردة والساخنة، والثياب الفاخرة، وأطايب الطعام مِن كلّ لون، ويَغرق في المـَتاع الفاجر مِن خمر ونساء ورقص وحفلات ومَهرجانات، كان لابدّ لكلّ هذا من استعباد الشعوب الأُخرى وامتصاص دمائها في سبيل هذه الشهوة الفاجرة، كان الاستعمار الروماني، وكان الرّقّ الذي نشأ من ذلك الاستعمار.

أمّا الرقيق فقد كانوا - كما ذكرنا - أشياء ليس لها كيان البشر ولا حقوق البشر، كانوا يَعملون في الحقول وهم مصفَّدون في الأغلال الثقيلة التي تكفي لمنعهم مِن الفِرار، ولم يكونوا يُطعَمون إلاّ إبقاءً على وجودهم؛ ليعملوا، لا لأنّ مِن حقّهم - حتّى كالبهائم والأشجار - أن يأخذوا حاجتهم من الغذاء، وكانوا - في أثناء العمل - يُساقون بالسوط، لغير شيء إلاّ اللذّة الفاجرة التي يَحسبها السيّد أو وكيله في تعذيب المخلوقات، ثُمَّ كانوا ينامون في (زنزانات) مُظلمة كريهة الرائحة

١٧٥

تَعيث فيها الحشرات والفئران، فيُلقَون فيها عشرات عشرات قد يَبلغون خمسين في الزنزانة الواحدة - بأصفادهم - فلا يُتاح لهم حتّى الفراغ الذي يتاح بين بقرة وبقرة في حظيرة الحيوانات.

ذلك كان الرقيق في العالم الروماني، ولا نحتاج أنْ نقول شيئاً عن الوضع القانوني للرقيق عندئذ، وعن حق السيّد المطلق في قتله وتعذيبه واستغلاله دون أنْ يكون له حقّ الشكوى، ودون أن تكون هناك جِهة تنظر في هذه الشكوى أو تعترف بها، فذلك لغو بعد كلّ الذي سردناه.

ولم تكن معاملة الرقيق في فارس والهند وغيرها تختلف كثيراً عمّا ذكرنا، من حيث إهدار إنسانيّة الرقيق إهداراً كاملاً، وتحميله بأثقل الواجبات دون إعطائه حقّاً مقابلها، وإنْ كانت تختلف فيما بينها (الرومان والفرس والهند) قليلاً أو كثيراً في مدى قَسوتها وبَشاعتها.

وإذا كان هذا شأن الرقيق في بلاد متحضّرة، فكيف يا تُرى شأنه في أوساط متأخّرة، في مثل الجزيرة المتوغّلة في جهالة العَماء والغيّ والفساد، كان يعيش أحدهم على حساب دمار الآخرين وكان ذلك مَفخراً لهم، يقول أحدهم:

أَبحنا حيَّهم قتلاً وأسراً

عدى الشَّمطاء والطفل الصغير!

وكفى لشناعة حالتهم الاجتماعيّة، وأد البنات (١) وقتل الأولاد مخافةَ الإملاق (٢) ، وأشنع من الجميع: التعيّش على حساب بِغَاء الفتيات (٣) .

ففي مثل هذا المجتمع الذي يعيش الأسياد على حساب إكراه الفتيات (الأرقّاء) على البِغَاء وارتكاب الفحشاء، جاء الإسلام ليُكافح، فمن أين يُكافح، وكيف يكافح؟

جاء الإسلام ليرّد لهؤلاء البشر إنسانيّتهم المـُغتَصَبة مُنذ عهد سحيق!

جاء ليقول للسّادة عن الرقيق: أنتم وهم سواء ( بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ) (٤) ، وقال يوم الفتح

____________________

(١) التكوير ٨١: ٨.

(٢) الأنعام ٦: ١٥١، الإسراء ١٧: ٣١.

(٣) النور ٢٤: ٣٣.

(٤) وردت الآية بشأن نكاح الإماء في عرض نكاح: الحرائر. (النساء ٤: ٢٥)

١٧٦

بمكّة: (أيّها النّاس، إنّ اللّه قد أذهب عنكم عُبْيَةَ الجاهليّة (١) وتعاظمها بآبائها، فالناس رجلان: بَرٌّ تقيٌّ، كريم على اللّه، وفاجر شقيٌّ، هيّن على اللّه، والناسُ بنو آدم، وخَلَق اللّه آدم من تراب، قال اللّه)، ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) (٢) .

ومعنى ذلك أنّ الناس كلّهم - الأسياد والعبيد - إخوة مِن وِلد أبٍ واحد وأُمّ واحدة، ولا فضل فيمَن أصله مِن تُراب إلاّ بالأحساب.

جاء في رسالة الحقوق التي بعثها الإمام زين العابدين (عليه السلام) إلى بعض أصحابه: (وأمّا حقّ مَملوكك فأنْ تَعلم أنّه خَلقُ ربّك وابنُ أبيك وأُمّك ولحمك ودمك...) (٣) .

وفي ذلك فَرضُ الأُخوّة - الأصيلة - بين السيّد وعبده المملوك له، الأمر الذي له يكن يُطيقه مَنطق البشريّة آنذاك، لكن الإسلام فرضه فرضَ حتمٍ.

جاء في مسائل على بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام): الرجل يقول لمملوكه: يا أخي و يا بني، أيَصلح ذلك؟ قال (عليه السلام): (لا بأس) (٤) ، أي لا حَزازَة بعد فرض المساواة في أصل النسب!

وزيادة في رعاية مشاعر الرقيق يقول الرسول الكريم: (لا يَقل أحدكم: هذا عبدي وهذه أَمَتي، وليقل: فتاي وفتاتي) (٥) ، وعلى ذلك يستند أبو هريرة فيقول لرجل ركب وخلفه عبده يَجري: (احمله خلفك، فإنّه أخوك وروحه مثل روحك) (٦) .

وقد فرض الإسلام على السّادة أن يُساووا بين أنفسهم والعبيد من غير أنْ يتفاضلوا عليهم.

____________________

(١) العُبْيَة، النخوة والكبر والمـُفاخرة بالأنساب.

(٢) الحجرات ٤٩: ١٣، راجع: جامع الترمذي، ج ٥، ص ٣٨٩، رقم ٣٢٧٠، ومسند احمد، ج ٢، ص ٣٦١.

(٣) بحار الأنوار، ج ٧١، ص ٥ و ١٤ - ١٥، والخصال للصدوق (أبواب الخمسين وما فوقه، رقم: ١) ص ٥٦٧ - ٥٦٨.

(٤) بحار الأنوار، ج ١٠، ص ٢٨٦، ومسائل علي بن جعفر، ص ١٨٨، برقم ٣٧٩، ووسائل الشيعة، الحديث ٧، من الباب ٥، من أبواب التدبير، ج ٢٣، ص ١٢٤.

(٥) رواه أحمد في مسنده، ج ٢، ص ٤٢٣ و في غير موضع، والبخاري ومسلم وغيرهما.

(٦) إحياء علوم الدين، للغزالي، ج ٢، ص ٢٢٠.

١٧٧

قال المعرور بن سويد الأسدي الكوفي - من كبار التابعين -: دخلنا على أبي ذرّ بالرّبذة، فإذا عليه بُرد، وعلى غلامه مثله، فقلنا: لو أخذت بُرد غلامِك إلى بُردك، كانت حلّةً، وكسوتَه ثوباً غيره! قال: سمعت رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله) يقول: (إخوانكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمَن كان أخوه تحت يده، فليُطعمه ممّا يأكل، وليُكسِه ممّا يلبس، ولا يُكلّفه ما يَغلبه، فإن كلّفه ما يَغلبه فليُعِنه) (١) .

وروى إبراهيم بن مُحمّد الثقفي في كتاب الغارات بإسناده إلى مختار التمّار قال: أتى أميرُ المؤمنين (عليه السلام) سُوقَ الكرابيس، فاشترى ثوبَينِ أحدهما بثلاثة دراهم، والآخر بدرهمين، فقال: (يا قنبر، خُذ الذي بثلاثة! قال: أنت أولى به يا أميرَ المؤمنين، تَصعد المِنبر وتَخطب الناس، قال: يا قنبر، أنت شابّ ولك شَرَه الشباب، وأنا أستحيي مِن ربّي أنْ أتفضّل عليك، لأنّي سمعت رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله) يقول: أَلبسوهم ممّا تلبسون، وأطعموهم ممّا تأكلون) (٢) .

وكان مِن مكارم أخلاقه (صلّى اللّه عليه وآله) الأكل مع العبيد، وليكون سُنّة مِن بعده، أي التنازل مع الأرقّاء، لغرض الترفّع بهم (٣) ، وكان يُجيب دعوة المملوك على خُبز الشعير، ولا يترفّع عليه (٤) .

وفي كتاب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى ابنه الحسن: (وأُحسِن للمماليك الأدبَ...) (٥) .

وهكذا كان يفعل ذرّيّته الأطياب: كان الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) إذا خلا جَمَعَ حشمَه كلَّهم الصغير والكبير، فيحدّثهم ويأنس بهم ويُؤنِسُهم، وكان إذا جَلس على المائدة لا يَدع صغيراً ولا كبيراً حتّى السائس والحجّام إلاّ أقعده معه على مائدته (٦) .

وفي حديث آخر: كان إذا خلا و نُصبت مائدته، أجلس معه على مائدته مماليكه

____________________

(١) بحار الأنوار، ج ٧١، ص ١٤١، رقم ١١.

(٢) المصدر: ص ١٤٣ - ١٤٤، رقم ١٩.

(٣) المصدر: ص ١٤٠.

(٤) المصدر: ج ١٦، ص ١٩٩ و ٢٢٢، رقم ١٩.

(٥) المصدر: ج ٧٤، ص ٢١٦ و ٢٣٣.

(٦) عيون أخبار الرضا للصدوق، ج ٢، ص ١٥٧، باب ٤٠، رقم ٢٤.

١٧٨

ومواليه، حتّى البوّاب والسائس (١) .

ومِن هنالك لم يَعد الرقيق شيئاً - كما حَسبه الرومان - وإنّما صار بشراً له روح كروح السّادة، وقد رفعه الإسلام إلى مستوى الأُخوّة الكريمة، لا في عالم المثال والأحلام فحسب، بل في عالم الواقع كذلك.

* * *

وكان (صلّى اللّه عليه وآله) يُشدّد النكير على مَن أساء بعبده ويُؤكّد على وجوب الرِفق معهم، قال رسول الله: (أَلا أُنبِّئكم بشرِّ الناس: مَن سَافَر وَحَده، وَمَنع رِفَده، وضَرَب عبدَه) (٢) .

قال أبو مسعود الأنصاري: كنتُ أضرب غلاماً، فسَمَّعني مَن خلفي صوتاً: (اعلم أبا مسعود، اعلم أبا مسعود، إنّ الله أَقدرُ عليك مِنكَ عليه)، فالتفتُّ فإذا هو النبي (صلّى اللّه عليه وآله) فقلتُ: يا رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله) هو حرّ لوجه الله، (أَما لو لم تَفعل لَلَفَعَتكَ النارُ) (٣) .

قال الصادق (عليه السلام): (مَن افترى على مَملوكٍ عُزّر، لحُرمة الإسلام) (٤) .

وروى قتادة عن الحسن عن سمرة بن جندب، قال: قال رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله): (مَن قَتل عبدَه قتلناه، ومَن جَدع عبدَه جدعناه، ومَن أخصى عبدَه أخصيناه) (٥) .

وروى الشيخ بإسناده الصحيح إلى السكوني عن الصادق عن آبائه عن علي (عليهم السلام) (أنّه قتل حرّاً بعبدٍ قتله عمداً) (٦) .

____________________

(١) المصدر: ج ٢، ص ١٨٣، باب ٤٤، رقم ٧.

(٢) بحار الأنوار، ج ٧١، ص ١٤١.

(٣) المصدر: ص ١٤٢.

(٤) المصدر: ج ٧٦، ص ١١٩، رقم ١٥.

(٥) رواه النسائي في باب القَوَد بين الأحرار والمماليك (المجتبى، ج ٨، ص ١٩)، وابن ماجة في الباب ٩٢٢ (ج٢، ص ١٤٦)، وأبو داود في السنن في كتاب الديات، رقم ٤٥١٥ (ج ٤، ص ١٧٦) والدارمي في سُنَنه (ج ٢، ص ١٩١)، وأحمد في مسنده (ج ٥، ص ١٠ و ١١ و ١٢ و ١٨)، والترمذي في الجامع، رقم ١٤١٤ (ج ٤، ص ٢٦) قال: هذا حديث حَسن غريب؛ لأنّه برواية سمرة وحده وهو مَطعون فيه عندنا؛ ومِن ثَمّ لم يُخرجه الشيخان، وأخرجه الحاكم في المستدرك (ج ٤، ص ٣٦٧ - ٣٦٨) وصحّحه على شرط البخاري.

وقالوا: إنّ الحسن نفسه لم يَأخذ بهذا الحديث وَذَهب إلى أنّ الحرّ لا يُقاد بالعبد.

ومِن الأئمّة الأربعة ذهب أبو حنيفة لوحده إلى الاقتصاص؛ للعموم ولأنّ المسلمين تتكافأ دماؤهم، النسائي، ج ٨، ص ١٨، والفقه على المذاهب الأربعة ج ٥، ص ٢٨٧ - ٢٨٨.

(٦) تهذيب الأحكام، ج ١٠، ص ١٩٢، رقم ٧٥٧، والاستبصار، ج ٤، ص ٢٧٣، رقم ١٠٣٥، ووسائل الشيعة، ج ٢٩، ص ٩٨، رقم ٩، وحمله الشيخ على مُتعوّد القتل، وفي الخلاف (ج ٢، ص ٣٤٢) كتاب الجنايات، مسألة ٤: لا يُقتل حرّ بعبد، وذلك إجماع الأصحاب.

١٧٩

وروى أنّ علي بن الحسين (عليه السلام) ضَرَب مَملوكاً ثُمّ دخل إلى مَنزله فأخرج السوطَ، ثُمّ تجرّد له، قال: (اجلد عليَّ بن الحسين فأبى، فأعطاه خمسين ديناراً) (١) .

وبذلك قد أصبح الرقيق كائناً إنسانيّاً له كرامة يَحميها القانون، ولا يجوز الاعتداء عليها بالقول ولا بالفعل، فأمّا القول فقد نهى الرسول السّادة عن تذكير أرقّائهم بأنّهم أرقّاء وأمرهم أنْ يُخاطبوهم بما يُشعرهم بمودّة الأهل، وينفي عنهم صفة العبوديّة، وقال لهم في معرض هذا التوجيه: (إنّ الله ملّككم إيّاهم، ولو شاء لملّكهم إيّاكم) (٢) ، فهي إذن مجرّد مُلابسات عارضة جعلت هؤلاء رقيقاً، وكان من الممكن أن يكونوا سادةً لمـَن هم اليوم سادة! وبذلك يَغضّ من كبرياء هؤلاء، ويَردّهم إلى الآصرة البشريّة التي تربطهم جميعاً، والمودّة التي ينبغي أن تسود علاقات بعضهم ببعض.

وأمّا الاعتداء الجسدي فعقوبته الصريحة هي المعاملة بالمثل، (مَن افترى على مَملوك عزّر..) و (مَن جَدَع عبدَه جدعناه...)، وهو مبدأ صريح الدلالة على المساواة الإنسانيّة الكاملة بين الرقيق والسّادة، وصريح في بيان الضمانات التي يحيط بها حياة هذه الطائفة مِن البشر - التي لا يُخرجها وضعُها العارض عن صفتها البشريّة الأصيلة - وهي ضمانات كاملة ووافية، تبلغ حدّاً عجيباً لم يصل إليه قطّ تشريع آخر من تشريعات الرقيق في التأريخ كلّه، لا قبل الإسلام ولا بعده، إذ جعل مجرّد ضرب العبد - في غير التأديب - (٣) مُبرِّراً قانونيّاً لتحرير الرقيق!! (٤) .

____________________

(١) بحار الأنوار، ج ٧١، ص ١٤٣، رقم ١٦.

(٢) ذكره أبو حامد الغزالي في كتاب (إحياء علوم الدين) (ج ٢، ص ٢١٩) في الكلام عن حقوق المـَملوك، وراجع: المحجّة البيضاء للفيض الكاشاني، ج ٣، ص ٤٤٤.

(٣) وللتأديب حدود مَرسومة لا يتعدّاها، ولا يتجاوز على أيّ حالٍ ما يؤدّب السيّد أبناءه.

قال زرارة بن أعين: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أصلحك الله، ما ترى في ضَرب المـَملوك؟ قال: (ما أتى فيه على يديه - أي من غير تقصير - فلا شيء عليه، وأمّا ما عصاك فيه فلا بأس)، فقلت: كم أضربه؟ قال: (ثلاثة، أربعة، خمسة)، رواه البرقي في المحاسن، ج ٢، ص ٤٦٥، باب ١١، رقم ٢٦١٣/ ٨٦، والبحار، ج ٧١، ص ١٤١، رقم ١٠.

(٤) قال أبو جعفر الباقر (عليه السلام): (إنّ أبي (علي بن الحسين (عليه السلام) ضَرب غُلاماً له قَرعةً واحدةً بسوطٍ وكان بَعثه في حاجة فأبطأ عليه، فبكى الغلام وقال: الله يا علي بن الحسين، تَبعثني في حاجتك ثُمّ تضربني؟ قال: فبكى أبي وقال [ لي ]: يا بُنيّ، اذهب إلى قبر رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله) فصل ركعتين ثمّ قل: اللّهم اغفر لعليّ بن الحسين خطيئته يوم الدين. ثمّ قال للغلام:

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

وأمّا عن سبب عمى ابن عباس ، فقد ذكرت في الجزء الرابع من الحلقة الأولى ما يغني عن إعادته.

وأمّا عن مشاورته عائشة وأم سلمة وأبا هريرة وجماعة من الصحابة فلم يرخصوا له في إجراء العملية ، وقالوا له : أرأيت إن متّ في هذه الأيام كيف تصنع بصلاتك؟

وبهذا أثبت الراوي جهل ابن عباس بوظيفته الشرعية ، فهو لا يعلم كيف يعمل فيستفتي عائشة وأبا هريرة وبعض الصحابة!!

فأين أثر دعاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم له بأن يفقهه في الدين ويعلّمه الحكمة؟!

وأين صارت شهادة عائشة في سنة ( 35 هـ ) فسألت : من ولي أمارة الموسم؟ فقيل لها : ابن عباس ، قالت : أنّه أعلم الناس بالحج! فكيف صار الآن لا يعرف تكليفه الشرعي؟!

وهو الذي قال عنه طاووس : ( رأيت سبعين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا تدارؤا صاروا إلى قول ابن عباس ).

وقد مرّت بنا هذه الأقوال وغيرها في الجزء الثاني من هذه الحلقة فراجعها تجدها مع مصادرها.

وقد قرأنا شواهد ومشاهد في أعقاب حرب الجمل فيها مواقف متشنجة بين ابن عباس وعائشة ، فكيف نستغفل عقولنا ونقبل ما رواه الرواة ممن طُبعوا على حبّ أم المؤمنين ، فصارا يبنون لها أهرامات من الفضائل تفوق أهرامات مصر الفرعونية!

٣٠١

( الحديث الرابع ) :

ما رواه الزركشي عن ابن عباس في بدعية صلاة ركعتين بعد العصر ، حيث روي : ( أنّ معاوية صلى صلاة العصر ثم قام ابن الزبير فصلى بعدها ، فقال معاوية : يا بن عباس ما هاتان الركعتان؟ فقال : بدعة وصاحبها صاحب بدعة ، ولمّا فرغ ابن الزبير سألهما عما قالاه فأخبراه ، قال : ما ابتدعت ، ولكن حدثتني خالتي عائشة. فأرسل معاوية إليها ، فقالت : صدق ، حدثتني أم سلمة ، فأرسل إلى أم سلمة : أنّ عائشة حدثتنا عنكِ بكذا ، فذكرت أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم صلى ذات يوم بعد العصر ( فقمت وراءه فصليت ) فلما أنفتل قال : ما شأنك؟ قلت : رأيتك يا نبيّ الله صليت وصليت معك ، فقال : إنّ عاملاً لي على الصدقات قدم عليَّ فجمعت عليه ).

ثم روى الزركشي عن الصحيحين ، عن كريب : أنّ ابن عباس وابن أزهر والمسور أرسلوا إلى عائشة لأنّهم أخبروا أنّها تصليها والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم نهى عنها ، فقالت : سلوا أم سلمة ثم ذكر نحو ما سبق.

فهذا الحديث يدلّ على مخالفة عائشة لنهي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عن الإتيان بهما ، وأنّ ابن عباس كان هو وعمر يضربان الناس عنها. فالأحرى أن يعدّ الزركشي هذا الحديث ممّا إستدركه ابن عباس على عائشة لا العكس! لكن الزركشي شغوف بلملمة أخبار عائشة مع الصحابة وإن إستلزم ذلك توهيناً لها من حيث يدري ولا يدري.

٣٠٢

( الحديث الخامس ) :

ما رواه الزركشي عن ابن عباس فهو لا يستبطن كذبه متناً فقط ، بل تكفي آفة سنده ، فقد أعلّه المنذري بيزيد بن أبي زياد ، وقال غير واحد من الأئمة أنّه لا يحتج بحديثه ، ومهما يكن حال السند ، فإنّ ما رواه ابن عباس كما في المتن هو أولى بالقبول لحضوره مع أهل البيت مراسيم الدفن.

ولكن هلّم الخطب فيما روته عائشة فهو محلّ الشك في صدقه ، إذ لم تكن حاضرة حين التكفين! أليس هي التي كانت مع النساء اللواتي يلتدمن كما تقول هي فيما رواه أحمد في مسنده عنها ، قالت : ( مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين سحري ونحري ، وفي دولتي لم أظلم فيه أحداً ، فمن سفهي وحداثة سني أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبض وهو في حجري ، ثم وضعت رأسه على وسادة وقمت التدم مع النساء وأضرب وجهي )(1) ، وقد قالت أيضاً : ( ما علمنا بدفن رسول الله حتى سمعنا صوت المساحي من جوف الليل ( ليلة الأربعاء )(2) .

فمتى حضرت التكفين ورأت ثياب الكفن؟!

فكلّ ما ورد عنها في هذا الشأن مشكوك في صحته ، لأنّها تريد إستبعاد عليّ عليه السلام وأهل البيت عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

____________________

(1) مسند أحمد 6 / 274.

(2) الإستيعاب 1 / 47.

٣٠٣

وأنكى من ذلك إستبدالهم بآل أبي بكر! فهلمّ وأقرأ ما روته من خبر الحلّة التي أشتريت ليكفن فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأدرجوه فيها ثم نزعت عنه.

فلنقرأ الخبر برواية ابن قدامة المقدسي الحنبلي في كتابه ( المغني ) وهو غير متهم عليها ، فقال في الخبر : ( وهو أصح حديث روي في كفن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وعائشة أقرب إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأعرف بأحواله ، ولهذا لما ذكر لها قول الناس أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كُفن في برد ، قالت : قد أتي بالبُرد ولكنهم لم يكفنوه فيه ، فحفظت ما أغفله غيرها. وقالت أيضاً : أدرج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في حلّة يمنية كانت لعبد الله بن أبي بكر ، ثم نزعت عنه ، فرفع عبد الله بن أبي بكر الحلّة وقال : أكفن فيها ، ثم قال : لم يكفن فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتصدق بها ). قال ابن قدامة : رواه مسلم(1) .

أقول : فهل تطلب أثراً بعد عين ، وتريد سخفاً بعد ميَن؟

فعائشة وعبد الله بن أبي بكر بطلا الحضور في الإحتضار والتكفين! وليذهب أهل البيت عليهم السلام جميعاً في غيابات الحقد الدفين ، كما تريد أم المؤمنين ، وليكتب الزركشي ما يزركش به أخبارها ولو على حساب الآخرين.

على أن ابن شهاب الزهري ـ وهو غير متهم على عائشة ـ قال : ولم يله إلاّ أقاربه(2) .

____________________

(1) المغني 2 / 329.

(2) أنظر دلائل النبوة للبيهقي 7 / 234 ، عن هامش ، التمهيد لابن عبد البر 9 / 358 ط الإحياء للتراث العربي.

٣٠٤

( الحديث السادس ) :

ما رواه الزركشي عن عكرمة عن ابن عباس في حديث ( رأى ربّه مرتين ) ، وإنكار عائشة عليه الرؤية ، والخبر الذي رواه في سنده من قال فيه ابن المبارك : أرم به ، لكن الزركشي لم يرم به ، بل أطال في جميع ما يتعلق بالموضوع وحكى قول ابن خزيمة : أنّ الخطاب وقع لعائشة على قدر عقلها.

وحكى قول أحمد : ما زلت منكراً لهذا الحديث وما أدري ما وجهه.

ثم الحديث في متنه : ( قال ابن عباس : ( رأى محمد ربّه ) ، وابن عباس لم يكن يقول بالرؤية البصرية كما هو واضح من لفظ الحديث الذي ذكره الزركشي نقلا ًعن الترمذي في التفسير ، وهو مخالف لقول الله تعالى :( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) (1) .

وفي سنده من هو مخدوش ، ورواية مسلم له في الصحيح لا تضفي عليه شرعية أبداً ـ فكم في كتابي الصحيح من حديث غير صحيح ـ وسيأتي عن ابن عباس في جواب نجدة بن عامر ـ عويمر ـ الخارجي وقد سأله : ( كيف معرفتك بربّك؟ فأجابه أعرفه بما عرّف به نفسه تبارك وتعالى من غير رؤية ، وأصفه بما وصف به نفسه ، لا يدرك بالحواس ، ولا يقاس بالناس ) ، فهذا ينفي صحة نسبة القول بالرؤية البصرية إليه ، وسيأتي خبره مع نجدة فيما يأتي.

____________________

(1) الأنعام / 103.

٣٠٥

ومجرد رواية الترمذي عن عكرمة ذلك ، لا يضفي عليه الصحة.

ولم لا يكون الخبر من بعض أكاذيب عكرمة على مولاه ، وقد مرّت بعض الشواهد على ذلك ، كما سيأتي غيرها.

( الحديث السابع ) :

ما ذكره الزركشي في إحالة ابن عباس معرفة الوتر عليها ـ في حديث رواه مسلم في صحيحه ـ وأنّ سعد بن هشام سأل ابن عباس عن الوتر ، فقال : ( ألا أنبئك بأعلم أهل الأرض بوتر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال : نعم ، قال عائشة )(1) .

أقول : إنّ هذا الحديث الذي ذكره لا يصح الإعتماد عليه! لإختلاف النقل عن عائشة ، فقيل : الإختلاف منها ، وقيل : هو من الرواة عنها ، كما ذكره الزركشي نفسه.

وكيف نصدّق نحن بالخبر ، وابن عباس الذي كان يبيت في بيت خالته ميمونة ليحفظ ما يأتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من صلاة وأذكار ـ وقد مرّت في الحلقة الأولى في الجزء الأوّل عدّة شواهد على هذا ـ فكيف صار لا يعلم عن صلاة الوتر شيئاً حتى أحال على أعلم أهل الأرض؟ يا لها من دعوى عريضة مريضة!!

لكن زوامل الأسفار يكتبون ما راق لهم ، أو يملى عليهم من السلطات الحاكمة من رفعهم عائشة إلى مقام لم تكن فيه عالمة ولا حالمة.

____________________

(1) صحيح مسلم 2 / 269 ط صبيح.

٣٠٦

( الحديث الثامن ) :

ما ذكره الزركشي من حديث عائشة وقد ردت على ابن عباس قراءته قوله تعالى :( وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ) بالتخفيف ، فذكر الزركشي ما أخرجه البخاري في صحيحه في التفيسر عن ابن أبي مليكة قال ابن عباس :( حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ) (1) الخ بالتخفيف إلى آخر الخبر ، بينما كانت عائشة تقرؤها( كُذّبُوا ) مثقلة.

أقول : ما مرّ من إختلاف القراءة فيه نظر! فإنّ القراءة بالتخفيف هي قراءة أهل البيت عليهم السلام عليّ وزين العابدين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وزيد بن علي وابن عباس ، وهي أيضاً قراءة ابن مسعود وسعيد بن جبير وعكرمة والضحاك والأعمش وغيرهم ، وهي قراءة أهل الكوفة(2) .

وقد أطنب الطبري في تفسيره ، فساق ثماني عشرة رواية عن ابن عباس مؤداها متفق عليه بين الرواة عن ابن عباس ، وأوّلها بسند الطبري ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن ابن عباس ، في قوله :( حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ) (3) ، قال : ( لمّا أُيست الرسل أن يستجيب لهم قومهم ، وظنّ قومهم أنّ الرسل قد كذبوهم جاءهم النصر على ذلك ، فننجي من نشاء )(4) .

____________________

(1) يوسف / 110.

(2) مجمع البيان 5 / 465 ط الأعلمي.

(3) يوسف / 110.

(4) تفسير الطبري 13 / 82 ـ 83.

٣٠٧

وما جاء في بعضها أنّ ابن عباس قال : إنّهم ـ أي الأنبياء ـ بشر ، أي أنّهم هم الذين ظنوا ، فهذا وهم في الفهم ، فابن عباس لم يقل ذلك.

وقد ورد في ( عيون أخبار الرضا عليه السلام ) للشيخ الصدوق ، بسنده : عن علي بن محمد بن الجهم : أنّ المأمون قال لأبي الحسن ـ الرضا عليه السلام ـ : فأخبرني عن قول الله تعالى :( حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا ) (1) ؟ قال الرضا عليه السلام : يقول الله : حتى إذا استيأس الرسل من قومهم فظن قومهم أنّ الرسل قد كذبوا ، جاء الرسل نصرُنا.

وهذا هو عين ما رواه ثلاثة من تلاميذ ابن عباس ، كما في ( الدر المنثور ) للسيوطي في تفسير الآية ، قال : ( أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابراهيم ، عن أبي حمزة الجزري ، قال : صنعت طعاماً فدعوت ناساً من أصحابنا منهم : سعيد بن جبير ، والضحاك بن مزاحم ، فسأل فتى من قريش سعيد بن جبير ، فقال : يا أبا عبد الله كيف تقرأ هذا الحرف ، فإنّي إذا أتيت عليه تمنيت أنّي لا أقرأ هذه السورة( حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا ) ؟ قال : نعم ، حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يصدّقوهم وظنّ المرسَل إليهم أنّ الرسل قد كُذبوا فقال الضحاك : لو رحلت في هذه إلى اليمن لكان قليلاً )(2) .

ومهما يكن فحسب القارئ من فقاهة السيدة عائشة أنّها لم تكن ترى

____________________

(1) يوسف / 110.

(2) الدر المنثور 4 / 41.

٣٠٨

نفسها أم المؤمنين رجالاً ونساءً! بينما كانت أم المؤمنين أم سلمة ترى أنّها أم المؤمنين رجالاً ونساءاً. أخرج ابن سعد في ( الطبقات ) بسنده : ( عن مسروق ، عن عائشة في قوله :( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ) (1) . قال : فقالت لها أمرأة : يا أمه ، فقالت عائشة : أنا أم رجالكم ولست أم نسائكم ، قال : فذكرت هذا الحديث لعبد الله بن موسى المخزومي ، فقال : أخبرني مصعب بن عبد الله بن أبي أمية عن أم سلمة ، أنّها قالت : أنا أم الرجال منكم والنساء )(2) .

أقول : وأحسب أنّ عائشة قالتها في ساعة غضب على النساء اللاتي كنّ يسألنها عن شرعية خروجها في حرب الجمل كأم جميع وأضرابها.

وإلى هنا فلنترك الأفغاني ونبعده قصياً ، بعد أن قرأناه نَسِيّاً وفَرِيّاً. ولنبصّر القارئ بأنّ الزركشي لم يكن دقيقاً في إختياره اسم كتابه ، إذ تبيّن أنّ ما ذكره تحت عنوان ( استدراكها على ابن عباس ) لم يكن خالياً من الإلباس ، وما ذكره لو يصح ولا يَصح ـ لا يعني أنّ بين عائشة وابن عباس من الوئام ما يصح معه زعم التواصل والتساؤل في الأحكام ، بل أنّ ابن عباس وعائشة عاشا بعد حرب الجمل متهاجرَيْن تقريباً ، وبقيا على حالهما كذلك حتى ماتت عائشة ، ولعلّه اشتدت المهاجرة والمخاصمة في عهد معاوية حين تناصرت هي وإياه على عداوة أهل البيت عليهم السلام. وكان ابن

____________________

(1) الأحزاب / 6.

(2) الطبقات الكبرى 8 / 128.

٣٠٩

عباس رجل الساعة والساحة المناصر لأهل البيت عليهم السلام ، كما يظهر بوضوح من مواقفه مع الأمويين وشيعتهم ، كما كانت عائشة تدعمهم فيما ترويه لهم من أحاديث ، والشواهد على ذلك متوفرة.

فقد أخرج الحافظ الكنجي الشافعي في ( كفاية الطالب ) وعنه الأربلي في ( كشف الغمة ) قال : ( روى الكنجي بسنده المنتهى إلى أبي صالح قال : ذكر عليّ بن أبي طالب عليه السلام عند عائشة وابن عباس حاضر ، فقالت عائشة : كان من أكرم رجالنا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فقال ابن عباس : وأيّ شيء يمنعه عن ذاك؟ اصطفاه الله لنصرة رسوله ، وارتضاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأخوّته ، واختاره لكريمته ، وجعله أبا ذريته ووصيّه من بعده ، فإن ابتغيتِ شرفاً فهو في أكرم منبت وأورق عود ، وإن أردتِ إسلاماً فأوفر بحظه وأجزل بنصيبه ، وإن أردتِ شجاعته فبَهمة حرب وقاضية حتم ، يصافح السيوف أنساً ، لا يجد لوقعها حسّاً ، ولا ينهنه نعنعة ، ولا تفله الجموع ، الله ينجده ، وجبرئيل يرفده ، ودعوة الرسول تعضده ، أحدّ الناس لساناً ، وأظهرهم بياناً ، وأصدعهم بالصواب في أسرع جواب ، عظته أقلّ من عمله ، وعمله يعجز عنه أهل دهره ، فعليه رضوان الله ، وعلى مبغضيه لعائن الله )(1) .

وإنّما قال ابن عباس رضي الله عنه هذا لأنّه كان يعلم من عائشة موقفها المتشنج إزاء أهل البيت عليهم السلام خصوصاً الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وحتى

____________________

(1) كشف الغمة 1 / 363 ، كما في البحار 40 / 51 ط الجديدة.

٣١٠

الحسن والحسين عليهما السلام ، فلم تكن تأذن لهما بالدخول عليها ، وإذا أذنت احتجبت منهما ، وكان ابن عباس يشجب موقفها هذا ، فقد أخرج ابن سعد في ( الطبقات الكبير ) بسنده عن عكرمة قال : ( سمعت ابن عباس يقول ـ وبلغه أنّ عائشة احتجبت من الحسن بن علي ـ فقال : إنّ رؤيته لها لحلّ )(1) .

وقد مرّت بنا في الجزء الخامس من الحلقة الأولى محاورة ابن عباس مع عائشة عند موت الحسن عليه السلام فليرجع القارئ إليها. فهي محاورة تكشف عن مبلغ التشنج عند الطرفين المتباعدين المتباغضين.

وقد إستدام حقد عائشة حتى عند موتها ، فقد أخرج أحمد بن حنبل في مسنده بسنده عن ذكوان مولى عائشة : ( أنّه استأذن لابن عباس على عائشة وهي تموت وعندها ابن أخيها عبد الله بن عبد الرحمن ، فقال : هذا ابن عباس يستأذن عليك وهو من خير بنيك.

فقالت : دعني من ابن عباس ومن تزكيته.

فقال لها عبد الله بن عبد الرحمن : إنّه قارئ لكتاب الله فقيه في دين الله ، فأئذني له فليسلّم عليك وليودّعك.

قالت : فأئذن له إن شئت.

قال : فإذن له ، فدخل ابن عباس ثم سلّم وجلس ، وقال : أبشري أم المؤمنين

____________________

(1) الطبقات الكبرى8 / 128ط ليدن.

٣١١

فقالت : دعني يا بن عباس من هذا ، فو الله لوددت أنّي كنت نسياً منسيّاً(1) (2) . فقد جزعت حين احتضرت. فقيل لها ، فقالت : أعترض في حلقي يوم الجمل )(3) .

وإلى هنا ننهي الحديث عن ابن عباس مع عائشة ، ونستقبل بقية محاوراته مع معاوية وأشياعه.

____________________

(1) مسند أحمد 1 / 349 ط الأولى و 5 / 90 برقم ( 3262 ) ط شاكر.

(2) قال شاكر : في هامش الحديث برقم ( 2496 ) إسناده صحيح وهو مطول 1905 ، ورواه البخاري 8 / 371 ـ 372 مختصرا.

(3) ربيع الأبرار للزمخشري 3 / 345.

٣١٢

محاورات ابن عباس مع معاوية

قميصّ عثمان أضحى مضربَ المثل

لكلّ ثائرة من أخبث الحيل

في كلّ واقعة كذباً مخادعةً

صار الشعار لعيّابين في الدوَل

لو ينشر اليوم عثمانٌ لطالبهم

مع القصاص له بالغُنم من نفَل

فليته لو وعى نصحاً لجنّبه

تلك المآسي ولكن شاب عن عَذَل

فكان ما كان من أمرٍ تخيّره

شيخٌ ضعيفٌ هوى في حمأة الزَلَل

فأورث الناس آلاماً بمقتله

زلّت به النعل فالتاثته بالوَحَل

فأوّل القوم من نادوا بمقتله

ثاروا له اليوم يا للقلب الحَوِل

هم ناقموا الأمس قد جاؤا بأمّهمُ

وسيرّوا عسكراً في وقعة الجَمَل

وعاهل الشام أدلى في قليبهم

فقد رأى فرصة وافت لمهتبل

فحرب صفين قد أورى شرارتها

في النهروان فأورت كُلِّ ذي شُعلِ

حتى الطفوف وقتل السبط من ذَحل

حرق الخيام بتلك النار لم يَزل

ما ثأر عثمان أحماهم وأغضبهم

لولا الخلافة عادت للإمام عليّ

تلكم قريشُ لتأبى أن ترى رجلا

بالأمس قاتلهم واليوم فيه يلي

٣١٣

فأعصبوا قتل عثمان بحيدرة

أبناءُ من سجدوا دهراً إلى هُبل

هذا عليّ وهذي بعضُ محنته

أن يعصبوه دماً من خاتم الرّسُل

قال الزمخشري : قميص عثمان الذي قتل فيه ، مَثَلٌ فيما يهيّج الحزن ويجدّد الحسرة والبكاء ، وعن عمرو بن العاص : أنّه لمّا أحسّ من العسكر فتوراً أشار على معاوية بأن يبرز لهم قميص عثمان ، فلمّا وقعت عيونهم عليه ، ارتفعت صيحتهم بالبكاء والنحيب ، وجدّوا في الحرب فعندها قال حرّك لها حوارها تحنّ(1) .

مَن هم قتلة عثمان؟ هل هم بنو هاشم؟ أم هم بنو أمية؟

هذا سؤال قد يثير استغراباً لدى القارئ إذ لم يرد في التاريخ أنّ واحداً من هؤلاء قد شارك في قتل عثمان ، مباشرة ، فلماذا إذن السؤال؟

والجواب يُعرف من الأبيات المتقدمة ، وعلى هذا الوتر كانت أصابع معاوية تضرب وأبواقه تعزف بأنّ عليّاً قتل عثمان! وإذا حوقق قال : آوى قتلته!

ولم يكن ابن عباس بعيداً عن مرمى معاوية في حجارته لعداوته ، وسنقرأ في كثير من محارواته ما يدلّ على ذلك. وإذا بحثنا عن جذور تلك العداوات نجدها متأصلة في فرعي عبد مناف بني هاشم وبني أمية منذ عهد بعيد ، فلنقرأ بعض ما جاء في ذلك :

____________________

(1) ربيع الأبرار 4 / 32 ط أوقاف بغداد.

٣١٤

إنّ من راجع كتاب ( السفيانية ) للجاحظ ، و ( النزاع والتخاصم ) للمقريزي وأضرابهما ، يجد جذور العداوة بين بني أمية وبين بني هاشم وهم من قريش ، ضاربة في أصولها متنامية في فروعها ، ولم يخف ذلك على الباحثين من قدامى ومحدثين.

فإلى ما قاله واحد منهم وهو محمّد بن سليمان حاجب الحجاب ، وهذا الرجل لم يكن يتعصب لمذهب بعينه كما قال ابن أبي الحديد وقد رآه(1) ، فلنقرأ ما يقول وقد سأله جعفر بن مكي الحاجب عما عنده في أمر عليّ وعثمان ، فقال : ( هذه عداوة قديمة النسب بين عبد شمس وبين بني هاشم ، وقد كان حرب بن اُمية نافر عبد المطلب بن هاشم ، وكان أبو سفيان يحسد محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم وحاربه ، ولم تزل الثنتان متباغضتين وإن جمعتهما المنافية ، ثمّ إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زوّج عليّاً بابنته ، وزوّج عثمان بابنته الاُخرى ، وكان إختصاص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة أكثر من إختصاصه للبنت الأخرى ، وللثانية التي تزوجها عثمان بعد وفاة الأولى. وإختصاصه أيضاً لعليّ وزيادة قربه منه وامتزاجه به وإستخلاصه إياه لنفسه ، أكثر وأعظم من إختصاصه لعثمان ، فَنَفَس عثمان ذلك عليه فتباعد ما بين قلبيهما ).

إلى أن قال : ( ثمّ أتفق أنّ عليّاً عليه السلام قتل جماعة كثيرة من بني عبد

____________________

(1) وصفه ابن أبي الحديد بأنه حاجب الحجاب وقال : وكان ظريفاً أديباً وقد أشتغل بالرياضيات من الفلسفة ولم يكن يتعصب لمذهب بعينه.

٣١٥

شمس في حروب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فتأكد الشنآن ، وإذا أستوحش الإنسان من صاحبه أستوحش صاحبه منه.

ثمّ مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فصبا إلى عليّ جماعة يسيرة لم يكن عثمان منهم ، ولا حضر في دار فاطمة مع مَن حضر من المتخلّفين عن البيعة ، وكانت في نفس عليّ عليه السلام أمور من الخلافة لم يمكنه إظهارها في أيام أبي بكر وعمر لقوّة عمر وشدّته ، وانبساط يده ولسانه.

فلمّا قتل عمر وجعل الأمر شورى بين الستة ، وعدل بها عبد الرحمن عن عليّ إلى عثمان ، لم يملك عليّ نفسه فأظهر ما كان كامناً ، وأبدى ما كان مستوراً ، ولم يزل الأمر يتزايد بينهما حتى شرف وتفاقم.

ومع ذلك فلم يكن عليّ عليه السلام لينكر من أمره إلاّ منكراً ، ولا ينهاه إلاّ عما تقتضي الشريعة نهيه عنه.

وكان عثمان مستضعفاً في نفسه ، رخواً ، قليل الحزم ، واهي العقدة ، وسلّم عنانه إلى مروان يصرّفه كيف شاء ، فالخلافة له في المعنى ولعثمان في الإسم ، فلمّا انتقض على عثمان أمره استصرخ عليّاً ولاذ به ، وألقى زمام أمره إليه ، فدافع عنه حيث لا ينفع الدفاع ، وذبّ عنه حين لا يغني الذبّ ، فقد كان الأمر فسد فساداً لا يرجى صلاحه )(1) .

ومع هذه العداوة المتأصلة في جذورها كيف يبرئ معاوية وبنو أُمية الإمام عليه السلام وبني هاشم ، مع أنّهم وأعوانهم كانوا يشهدون ببراءته وبراءتهم ،

____________________

(1) أنظر شرح النهج لابن أبي الحديد 2 / 401 ط مصر الأولى.

٣١٦

ولكنها الأحقاد الأموية.

فاقرأ ما قاله عبد الله بن عمر لمن سأله : هل شرك عليّ في دم عثمان؟

فقال : ( لا والله ما علمت ذلك في سر ولا علانية ، ولكنّه كان رأساً يفزع إليه فألحق به ما لم يكن )(1) .

واقرأ لابن عمر كلمته الأُخرى في حقّ ابن عباس وبراءته من دم عثمان.

قال : ( ما زال ابن عباس ينهى عن قتل عثمان ويعظّم شأنه حتى جعلت ألوم نفسي على أن لا أكون قلت مثل ما قال )(2) .

وليس عروة بن الزبير بدون ابن عمر في نصبه ، ومع ذلك فقد كان يقول : ( كان عليّ أتقى لله من أن يعين في قتل عثمان ، وكان عثمان أتقى لله من أن يعين في قتله عليّ )(3) .

وقال ابن سيرين : ( لقد قتل عثمان يوم قتل وما أحد يتهم عليّاً في قتله )(4) .

ولكن معاوية قال لابن عباس في كتاب كتبه إليه بعد صلح الإمام الحسن عليه السلام ، جاء فيه : ( لعمري لو قتلتك بعثمان رجوت أن يكون ذلك لله رضا ، وأن يكون رأياً صواباً ، فإنّك من الساعين عليه ، والخاذلين له ، والسافكين دمه ، وما جرى بيني وبينك صلح فيمنعك منّي ولا بيدك أمان ).

____________________

(1) أنساب الأشراف 1 ق 4 / 593.

(2) نفس المصدر 4 / 595.

(3) ربيع الأبرار للزمخشري 3 / 355 ط اوقاف بغداد.

(4) أنساب الأشراف 1 ق 4 / 594.

٣١٧

فأجابه بجواب طويل جاء فيه : ( وأمّا قولك أنّي من الساعين على عثمان والخاذلين والسافكين له وما جرى بيني وبينك صلح فيمنعك منّي ، فأقسم بالله لأنت المتربّص بقتله والمحبّ لهلاكه ، والحابس الناس قبلك عنه على بصيرة من أمره ، ولقد أتاك كتابه وصريخه يستغيث بك ويستصرخ ، فما حفلت به حتى بعثت إليه معذراً بأمر أنت تعلم أنّهم لن يتركوه حتى يقتل ، فقتل كما كنت أردت ، ثمّ علمت عند ذلك أنّ الناس لن يعدلوا بيننا وبينك فطفقت تنعى عثمان وتلزمنا دمه ، وتقول قتل مظلوماً ، فإن يك قتل مظلوماً فأنت أظلم الظالمين ، ثمّ لم تزل مصوّباً ومصعّداً وجاثماً ورابضاً تستغوي الجهّال ، وتنازعنا حقنا بالسفهاء حتى أدركت ما طلبت ،( وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ) (1) (2) .

نعم ، إنّ بني هاشم كانوا من الكارهين لولاية عثمان هذا أوّلاً ، لأنّهم يرون أنّ الحقّ لهم ، وكانوا أيضاً من الساخطين على سيرته ثانياً حين أسخط المسلمين عمالُه ، ولم يكونوا وحدهم قد سخطوا سيرته ، بل جميع الصحابة في المدينة وخارجها كانوا كذلك.

فقد روى شعبة بن الحجاج عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ، قال : ( قلت له : كيف لم يمنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن عثمان؟ فقال : إنّما قتله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم )(3) .

____________________

(1) الأنبياء / 111.

(2) شرح النهج لابن أبي الحديد 4 / 58.

(3) نفس المصدر 1 / 231.

٣١٨

وروى عن أبي سعيد الخدري أنّه سئل عن مقتل عثمان هل شهده أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال : ( نعم شهده ثمانمائة )(1) .

فهذان القولان وإن لم يعيّنا بالاسم مَن هم أولئك الصحابة الذين قتلوا عثمان ، ومن هم الذين شهدوا مقتل عثمان ولم يمنعوا عنه ، لكن من تولى كبر قتله ، لم يكن عليّ ولا ابن عباس ولا بقية بني هاشم مع أولئك الصحابة القاتلين لعثمان ، وإذ لم يكونوا معهم ، فما بال بني أمية عصبوا قتله بهم؟ إنّهم لم يكونوا مع القاتلين ولا مع المحرّضين عليه ، بل كانوا من المدافعين عنه ، وقد ردّوا عنه كثيراً حتى أعجزهم هو حين لم يأخذ بنصائحهم ، وكان يتّهمهم لما في نفسه من جذور العداوة المتأصلة بين بيتي عبد مناف ـ بني هاشم وبني أمية ـ.

والآن إلى ما رواه البلاذري ، والطبري ، وابن الأثير ، وابن كثير ، والنويري ، نقلاً عن الواقدي من نصائح الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لعثمان ، ننقلها بلفظ الطبري :

قال ـ بعد ذكر نقمة الناس وتداعي الأمصار بالنكير على سيرة عثمان ـ : ( فاجتمع الناس وكلّموا عليّ بن أبي طالب ، فدخل على عثمان ، فقال : الناس ورائي وقد كلّموني فيك ، والله ما أدري ما أقول لك ، وما أعرف شيئاً تجهله ، ولا أدلّك على أمر لا تعرفه ، إنّك لتعلم ما علمنا ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه ، ولا خلونا بشيء فنبلّغكه ، وما خصصنا بأمر دونك ، وقد رأيتَ

____________________

(1) نفس المصدر.

٣١٩

وسمعتَ وصحبتَ رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم ونلتَ صهره.

وما ابن أبي قحافة بأولى بعمل الحقّ منك ، ولا ابن الخطاب بأولى بشيء من الخير منك ، وإنّك أقرب إلى رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم رَحِماً ، ولقد نلتَ من صهر رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم ما لم ينالا. ولا سبقاك إلى شيء ، فالله الله في نفسك ، فإنّك والله ما تُبصّر من عَمى ، ولا تعلّم من جهل ، وإنّ الطريق لواضح بيّن ، وإنّ أعلام الدين لقائمة ، تعلم يا عثمان أنّ أفضل عباد الله عند الله إمام عادل ، هُدي وهَدىَ ، فأقام سنة معلومة ، وأمات بدعة متروكة ، فوالله إن كلاً لبيّن وإنّ السنن لقائمة لها أعلام ، وإنّ البدع لقائمة لها أعلام ، وإنّ شرّ الناس عند الله إمام جائر ضلَّ وضُلّ به ، فأمات سنّة معلومة ، وأحيا بدعة متروكة. وإنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم يقول : ( يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر ، فيلقى في جهنم ، فيدور في جهنم كما تدور الرحا ، ثمّ يرتطم في غمرة جهنم ).

وإنّي أحذّرك الله ، وأحذّرك سطوته ونقماته ، فإنّ عذابه شديد أليم. وأحذّرك أن تكون إمام هذه الأمة المقتول ، فإنّه يقال : يقتل في هذه الأمة إمام ، فيفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة ، وتُلّبس أمورُها عليها ، ويتركهم شيعاً ، فلا يبصرون الحقّ لعلوّ الباطل ، يموجون فيها موجاً ، ويمرجون فيها مرجاً. فلا تكونن لمروان سيّقة يسوقك حيث شاء بعد جلال السنّ وتقضّي العمر.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578