شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم6%

شبهات وردود حول القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 578

شبهات وردود حول القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 578 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 297618 / تحميل: 13677
الحجم الحجم الحجم
شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

بل وَرَفع مِن مكانتهم حتى أجاز الائتمام بهم في الصلاة - وهي أفضل عبادات الإسلام -، جاء في (قرب الإسناد) للحميري عن الإمام الصادق عن آبائه عن عليّ (عليهم السلام) قال: (لا بأس بأن يَؤمّ المملوك إذا كان قارئاً) (١) .

وليكون ذلك دليلاً على صلاحيّتهم لتصدّي جميع المناصب الرسميّة وغير الرسميّة في النظام الإسلامي وأن لا فَرق بينهم وبين الأحرار في ذات الأمر، وهذا مِن المساواة في أفخم وأضخم شكلها المعقول؛ ولذلك نرى الرسول (صلّى اللّه عليه وآله) قد أَمّر زيداً مولاه على رأس جيش فيه كِبار الأنصار والمهاجرين، فلمـّا قُتل زيد ولّى ابنه أسامة قيادة الجيش وفيهم أبو بكر وعمر فلم يُعطِ الرقيق بذلك مجرّد المساواة الإنسانيّة، بل أعطاه حقّ القيادة والرئاسة على الأحرار، فأعطى العبيد بذلك الحق في أرفع مناصب الدولة كلّها.

وقد وصل الإسلام في حُسن المعاملة وردّ الاعتبار الإنساني للرقيق إلى درجة عجيبة، حتى ولقد آخى الرسول (صلّى اللّه عليه وآله) بين بعض العبيد وبعض أكابر الأصحاب من سادة العرب، فآخى بين بلال بن رباح وأبي رويحة الخثعمي، وبين مولاه زيد وعمّه حمزة (٢) ، وكانت هذه المؤاخاة صلة حقيقيّة تعدل رابطة الدم والنسب.

كما وزوّج بنت عمته زينب بنت جحش مِن مولاه زيد، والزواج مسألة حسّاسة جدّاً وخاصّة من جانب المرأة، فهي تأبى أن يكون زوجها دونها في الحَسب والنَسب والثراء، وتحسّ أنّ هذا يحطّ مِن شأنها ويغضّ من كبريائها، ولكن الرسول كان يهدف إلى

____________________

اذهب، فأنت حرّ لوجه الله)، قال أبو بصير: فقلت له: جُعلت فداك، كان العتق كفّارة الضرب؟ فسكت! البحار، ج ٧١، ص ١٤٢، رقم ١٢.

وكان رجل من بني فهد يَضرب عبداً له وهو يَستعيذ بالله ولم يُقلع عنه حتّى إذا أبصر رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله) استعاذ به فأقلع عنه، فقال له النبي: (يتعوّذ بالله فلا تُعيذه، ويتعوّذ بمُحمّد فتُعيذه؟! والله أحقّ أن يُجار عائذه مِن مُحمّد! فقال الرجل: هو حرّ لوجه الله، فقال النبي (صلّى اللّه عليه وآله): والذي بعثني بالحقّ نبيّاً لو لم تُعتقه لسَفَعَتْ وجهَك حرّ النار)، بحار الأنوار، ج ٧١، ص ١٤٣، رقم ١٥، وإحياء علوم الدين، ج٢، ص ٢٢٠).

وقال الزهري: متى قلتَ لمـَملوكِك: أخزاك الله، فهو حرّ، المصدر: ج ٢، ص ٢٢٠. والآثار من هذا القبيل كثير.

(١) بحار الأنوار، ج ٨٥، ص ٤٣، نقلاً عن قرب الإسناد، ص٩٥، ط نجف، وللمجلسي هنا (٤٥) بيان وافٍ.

(٢) راجع: السيرة لابن هشام، ج ٢، ص ١٥١ - ١٥٣.

١٨١

معنى أسمى من كل ذلك، وهو رفع الرقيق من الوَهدَة التي دفعته إليها البشريّة الظالمة، إلى حيث مستوى أعظم سادة العرب من قريش.

* * *

كلّ ذلك هي خَطرات واسعة لتحرير الرقيق روحيّاً بردّه إلى الإنسانيّة، ومعاملته على أنّه بشر كريم، لا يَفترق عن السادة مِن حيث الأصل، وإنّما هي ظروف عارضة حدَّت مِن الحريّة الخارجيّة للرقيق في التعامل المـُباشر مع المجتمع، وفيما عدا هذه النقطة كانت للرقيق كلّ حقوق الآدميّين.

ولكن الإسلام لم يكن ليَكتفي بهذا المقدار؛ لأنّ قاعدته الأساسيّة العظمى هي المساواة الكاملة بين البشر، وهي التحرير الكامل لكلّ بشرٍ! وكلّ الذي تقدّم كان تمهيداً للبلوغ إلى هذه الغاية، والتي كان النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) يترقّبها، إمّا في حال حياته أو فيما بعد، ترقّباً غير بعيد.

قال (صلّى اللّه عليه وآله): (ما زالَ جبرائيل يُوصيني بالمـَماليك حتّى ظننتُ أنّه سَيجعل لهم وقتاً إذا بلغوا ذلك الوقت أُعتقوا) (١) .

وبالفعل جَعل وسيلتَينِ كبيرتَينِ: هما العِتق والكتابة إلى التحرّر التامّ، هذا فضلاً عن رفضٍ مطلقٍ لأسباب الاسترقاق - والتي كانت متفشّية وعن طُرق معادية - والنهب والأسر والإغارة الغاشمة، كان الإسلام يَرفضها رفضاً باتّاً؛ وبذلك انسدّ - شرعيّاً - باب الاسترقاق نهائياً منذ ذلك الحين.

ويَكفيك نموذجاً عن شناعة نظام الاسترقاق في العصر الجاهلي، حادث استرقاق زيد بن حارثة الذي تبنّاه الرسول الأعظم (صلّى اللّه عليه وآله):

كانت أمّه سُعدى بنت ثعلبة من بني معن مِن طيء، أرادت أنْ تزور قومَها فاصطحبت ابنها زيداً وهو لم يَبلغ الثمانية من عمره، فما أنْ وردت القوم إلاّ وأغارت عليهم خيلُ بني القين، فنهبوا وسلبوا وأسروا، ومِن جملة الأُسارى زيد، فقَدِموا به سوق

____________________

(١) أورده الصدوق في الأمالي، المجلس السادس والستون، ص ٣٨٤، وفي كتابه (مَن لا يحضره الفقيه)، ج ٤، ص ٧.

١٨٢

عكاظ، فاشتراه حكيم بن حزام لعمّته خديجة بنت خويلد، فوهبته خديجة للنبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) بمكّة قبل البعثة، وكان زيد قد بلغ الثمانية.

وكان أبوه قد وَجَدَ لفَقدِه وَجدَاً شديداً، قال فيه:

بكيتُ على زيدٍ ولم أدرِ ما فعل

أحيٌّ يُرجّى أم أتى دونه الأجلُ

فو الله ما أدري وإن كنتُ سائلاً

أَغالَكَ سهلُ الأرضِ أَم غالَك الجبلُ

فيا ليتَ شِعري هل لك الدهر رجعة

فَحسبي مِن الدنيا رُجوعُك لي عللُ

تُذكرنِيه الشمسُ عند طلوعِها

ويَعرض ذِكراه إذا قاربَ الطفلُ

وإنْ هبّتْ الأرواحُ هيّجنّ ذِكره

فياطول ما حزّني عليه ويا وجلُ

سأعملُ نصّ العيش في الأرض جاهدا

ولا أسأم التَطواف أو تسأم الإبلُ

حياتي أو تأتي عليّ منيّتي

وكلّ امرئ فانٍ وإنْ غرّه الأملُ

... إلى آخر أبيات له تُنبؤك عن شديد حُزنه الذي لم يَزل يُكابده...

ثمّ إنّ أُناساً مِن كلب (قوم زيد) حجّوا فرأَوا زيداً فعرفهم وعرفوه وقال لهم: أبلغوا عنّي أهلي هذه الأبيات، فإنّي أعلم أنّهم جَزَعوا عليّ فقال:

أَحنّ إلى قومي وإنْ كنتُ نائياً

فإنّي قعيدُ البيت عندَ المشاعرِ

فكفّوا مِن الوَجد الذي قد شَجاكُمُ

ولا تعملوا في الأرض نصّ الأباعرِ

فإنّي بحمدِ الله في خير أُسرةٍ

كرامٍ معدٍّ كابراً بعد كابرِ

١٨٣

فانطلق الكلبيّون فأَعلَموا أباه ووصفوا له موضَعه وعند مَن هو، فخرج حارثة وأخوه كعب لفدائه فَقَدِما مكّة فدخلا على النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) فقالا: يا ابن عبد المطّلب، يا ابن هاشم، يا ابن سيّد قومه، جئناك في ابننا عندك فامنُن علينا وأَحسِن إلينا في فدائه! فقال: (مَن هو)؟ قالا: زيد بن حارثة، فدعاه وخيّره فاختار البقاء في كَنَف رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله) ورضيا بذلك.

وكان (صلّى اللّه عليه وآله) قد عَزم على تبنّيه، فتبنّاه على ملأ مِن قريش، فأصبح مولاه عن رضا نفسه (١) .

فيا تُرى هل مِن المعقول أنّ شريعةً - كشريعة الإسلام الداعية إلى تحرّر الإنسانيّة - تُقرّر مِن رقّيّةٍ مِثل زيد، بهذا الشكل الفضيع المشجي الذي تَمجّه النفوس الأبيّة فضلاً عن العقول الحكيمة؟!

كلاّ، لا يُقرّره أبداً، ما عرفنا من الإسلام دين الفطرة، دين الإنسانيّة المـُتحرّرة، الذي يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المـُنكر، ويُحلّ لهم الطيّبات ويُحرّم لهم الخبائث ويَضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم (٢) .

قالوا:

وهنا يَخطر السؤال الحائر على الأفكار والضمائر: إذا كان الإسلام قد خطا هذه الخُطوات كلّها نحو تحرير الرقيق، وَسَبق بها العالم كلّها مُتطوِّعاً غير مُضطرّ ولا مضغوط عليه، فلماذا لم يَخطُ الخُطوة الحاسمة الباقية؟ فيُعلن في صراحة كاملة إلغاء الرّقّ مِن حيث المبدأ، وبذلك يكون قد أسدى للبشريّة خدمةً لا تُقدّر، ويكون هو النظام الأكمل الذي لا شُبهةَ فيه، والجدير حقّاً بأن يصدر عن الله الذي كرّم بني آدم، وفضّلهم على كثير ممّن خلق؟! (٣) .

قلت: ليس يخفى على ذوي اللّبّ أنّ الإسلام قد جفّف منابع الرّقّ كلّها - كما

____________________

(١) راجع: تمام القصّة في أسد الغابة لابن الأثير في ترجمة زيد، ج ٢، ص ٢٢٤ - ٢٢٥.

(٢) من الآية (١٥٧) من سورة الأعراف.

(٣) سؤال طرحه سيد قطب و أجاب عليها بما جاء مُلخَّصاً هنا، (شبهات حول الإسلام، ص ٣٩).

١٨٤

ذَكَرنا - فيما عدا مَنبعاً واحداً لم يكن مِن المصلحة تجفيفُه آنذاك، وذلك هو رقّ الحرب؛ لملابسات سوف نَذكُرُها، وعليه فقد أعلن - لكن في غير صراحة - إلغاء نظام الرّقّ مِن حيث المبدأ، وإن كان التشديد عليه بحاجة إلى توفّر شرائط لم تكن مؤاتية حينذاك، كما أشرنا إليه وسنشير.

وينبغي أنْ نُدرك حقائق اجتماعيّة وسيكولوجيّة وسياسيّة أحاطت بموضوع الرّقّ، وأخّرت هذا الإعلان (الصريح) المـُرتَقب، وإن كان يَنبغي أنْ نُدرك أنّه تأخّر في الواقع كثيراً جدّاً عمّا أراد له الإسلام، وعمّا كان يُمكن أنْ يَحدث لو سار الإسلام في طريقه الحقّ، ولم تُفسده الشهوات والانحرافات.

يجب أنْ نذكر أَوّلاً أنّ الإسلام جاء والرّقّ نظام مُعترَف به في جميع أنحاء العالم كما أسلفنا، وكان إبطاله في حاجة إلى زمن، ويكفي الإسلام على أيّ حال أنْ يكون هو الذي بدأ حركة التحرير في العالم، وأنّه في الواقع جفّف منابع الرّقّ القديمة، لولا مَنبع جديد ظلّ يَفيض بالرّقّ من كلّ مكان، ولم يكن بوِسع الإسلام يومئذٍ القضاء عليه؛ لأنّه لا يَتعلّق به وحده، وإنّما يَتعلّق بأعدائه الذين ليس له عليهم سلطان، ذلك هو رقّ الحرب.

فقد كان العرف السائد يومئذٍ هو استرقاق أسرى الحرب أو قَتلَهم، وكان هذا العرف قديماً جدّاً مُوغلاً في ظُلمات التأريخ يَكاد يرجع إلى الإنسان الأَوّل، ولكنّه ظلّ مُلازماً للإنسانيّة في شتّى أطوارها.

وجاء الإسلام والناس على هذا الحال، ووقعت بينه وبين أعدائه الحروب، فكان الأسرى المسلمون يُستَرَقَّون عند أعداء الإسلام، فتُسلب حرّياتهم، ويُعامل الرجال منهم بالعَسْفِ والظلم الذي كان يومئذٍ يجري على الرقيق، وتُنتَهك أعراض النساء... عندئذٍ لم يكن في وِسع الإسلام أنْ يُطلق سَراح مَن يقع في يده مِن أسرى الأعداء، فليس مِن حُسن السياسة أنْ تُشجّع عدوّك عليك بإطلاق أَسراه، بينما أهلك وعشيرتك وأتباع دينك يُسامُون الخَسف والعذاب عند هؤلاء الأعداء، والمعاملة بالمِثل هنا هي أعدل قانون تستطيع استخدامه، أو هي القانون الوحيد.

وممّا هو جدير بالإشارة هنا أنّ الآية الوحيدة الّتي تعرّضت لأَسرى الحرب، ( فَإِمَّا

١٨٥

مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ) (١) ، لم تَذكر الاسترقاق للأسرى، حتّى لا يكون هذا تشريعاً دائماً للبشريّة، وإنّما ذَكرت الفِداء أو إطلاق السَّراح بلا مقابل؛ لأنّ هذا وذاك هما القانونان الدائمان، اللّذان يريد القرآن للبشريّة أن تَقصُر عليها معاملتها للأسرى في المستقبل القريب أو البعيد؛ وإنّما أخذ المسلمون بمبدأ الاسترقاق، خضوعاً لضَرورة قاهرة لا فكاك منها، وليس خضوعاً لنصٍّ في التشريع الإسلامي.

إذن فلم يَلجأ الإسلام إلى هذا الطريق، ولم يَسترقّ الأسرى لمـُجرّد اعتبارِهِ أنّهم ناقصون في آدميّتهم؛ وإنّما لجأ إلى المعاملة بالمِثل فَحَسب، فعلّق استرقاقه للأسرى على اتّفاق الدول المـُتحاربة على مبدأ آخر غير الاسترقاق، ليَضمن فقط ألاّ يقع الأسرى المسلمون في ذلّ الرّقّ بغير مقابل.

ومع هذا فلم يَكن تقليد الإسلام الدائم هو استرقاق الأسرى، فحيثما أَمِن لم يسترقّهم، وقد أطلق الرسول بعضَ الأسرى بِلا فِداء، كما وأخذ مِن نصارى نجران جزيةً وردّ إليهم أسراهم ولم يَعهد أنّه (صلّى اللّه عليه وآله) استرقّ الأسرى - كما كان عليه عُرف ذلك اليوم - وليَضرب بذلك المـَثل لما يُريد أن تهتدي إليه البشريّة في مستقبلها، حين تتخلّص مِن وراثاتها الكريهة، وتستطيع أنْ تستعيد إلى حظيرتها أصالتها الكريمة.

خرافات جاهليّة بائدة

قالوا: هناك خُرافات جاهليّة بائدة جاءت في القرآن جرياً مع ثقافة العصر الذي عاشه، ومتأثِّراً بها ممّا يتنافى وكونه كلام عليمٍ خبير، من ذلك الكلام عن الجنّ والسحر وإصابة العين ومسّ الجنّ!

غير أنّ هذه النسبة الظالمة نشأت عن مزائغ الفهم لمعاني القرآن ومزالق الوهم عند مواجهة تعابيره القويمة.

أمّا الجنّ فحقيقة ثابتة لا تُنكر، وقد بَدت طلائعُها مُنذ عهدٍ غير بعيد، وليس كلّ ما

____________________

(١) محمّد ٤٧: ٤.

١٨٦

لا يُدرَك بالحواسّ الظاهرة مَحكوماً عليه بالرفض وعدم الوجود، بعد أنْ لم تكن الحواسّ الظاهرة هي لوحدها المقياس للردّ والقبول - كما نبّهنا - ولم يكن العِلم يوماً ما مُعترِفاً بهذه الكلّية المنهارة الأساس، فهناك الكثير مِن أمورٍ لا تقع تحت معيار الحسّ ولكنّها ثابتة بدليل الوجدان الذاتي وببرهان العقل الحكيم.

وأمّا السحر فلم يَعترف به القرآن في شيء بل رفض إمكان تحقّقه بمعنى تأثيره في قلب الحقائق، وإنّما هي شعوذة وَحيل ووساوس خبيثة لا أكثر.

وأمّا إصابة العين فلم يتعرّض لها القرآن في شيء من تعابيره، سواء أكانت لها حقيقة أم لم تكن، وكذا مَسّ الجنّ وما أشبه ممّا نَعرضه بتفصيل:

الجنّ في تعابير القرآن (١)

مِن الغريب أنْ نَرى بعض الكُتّاب الإسلاميّين يلهجون بما لاكَه المستشرقون الأجانب مِن فرض التعابير الواردة في القرآن بشأن الجنّ، تعابير مُستعارة من العرب تَوافقاً معهم جدلاً كعامل تنفيذ في أوساطهم على سبيل المـُماشاة، لا على سبيل الحقيقة المـُعترف بها؛ إذ يَبعد اعتراف القرآن بما لا يعترف العلم التجربي بوجوده أو سوف ينتهي إلى إنكاره رأساً، لكن ذلك لا يُوهن شأن القرآن بعد أن كان تعبيره بذلك ظاهريّاً ومُجاراةً مع القوم، وهكذا تعبيره عن السحر وإصابة العين تعبير ظاهري وليس على حقيقته.

قالوا: وهذا نظير تأثّره ظاهراً بالنظام الفلكي البطلميوسي والطبّ الجالينوسي القديمَينِ، وقد رفضهما العلم الحديث.

قلت: أمّا اعتراف القرآن بوجود الجنّ إلى جنب الإنس واشتراكهما في الخَلق والتكليف وفي نهاية المطاف، فممّا لا يعتريه شكّ، ولا يسوغ لمسلم يَرى من القرآن وحياً من السماء أن يرتاب في ذلك، فإنّ هناك وراء عالم الشهود كائناتٍ مَلكوتيّة أعلى تُسمّى بالملائكة، وأخرى أدنى تُسمّى بالجنّ، الأمر الّذي صرّح به القرآن الكريم بما لا يدع

____________________

(١) جاء التعبير بالجنّ في ٢٢ موضعاً، والجانّ (جمع الجنّ) في ٧ مواضع. والجنّة في ٥ مواضع.

١٨٧

مجالاً للريب فيه أو احتمال التأويل، ( وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ ) (١) ، ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ ) (٢) ، ويبدو أنّ خَلق الجنّ كان قبل الإنس؛ حيث أُمر إبليس وكان من الجنّ (٣) أن يَسجد مع الملائكة لآدم، بعد أنْ خَلَقه من طين فأبى واستكبر وكان من الكافرين (٤) .

وأمّا العلم التجربي فلا مُتّسع له في هذا المجال، بعد أن كان سلطانه مُهيمِناً على عالم الحسّ، ومَحدوداً بآفاقه من غير أنْ يُمكنه لَمَس ما وراء سِتار الغيب، فكيف يجوز له بالنسبة إلى أمرٍ خارجٍ عن سلطانه أن يَحكم عليه بنفي أو إثبات أو يجعله موضع رفض أو قبول؟!

نعم، هناك لأصحاب المذاهب العقليّة من علماء المسلمين وغيرهم مِن المعتنقين بوحي السماء كلام عن مَدى مَقدرة هذا الكائن الغيبي، وهل له سلطان على التدخّل في شؤون الإنس أو يَمسّه بسوء؟ الأمر الذي أنكروه أشدّ الإنكار، على خلاف أصحاب التزمّت في الرأي ممّن ركضوا وراء أهل البَداوة في التفكير، واتّبعوا خرافاتهم الأساطيريّة البائدة.

فالاعتراف بوجود الجنّ شيء، ورفض مقدرتهم على التدخّل في شؤون الإنس شيء آخر، والرفض في هذا الأخير لا يَستدعي رفضاً في أصل الوجود.

ذهب أصحاب القول بالعَدل (٥) ، إلى أنّه لا يجوز في حِكمته تعالى أن يَتسلّط كائن غيبي على كائن عيني فيتلاعب بنفسه وبمُقدّراته وهو لا يستطيع الذبّ عن نفسه؛ حيث لا يراه، وكلّ ما قيل في مَسّ جُنون وما شابه فهو حديث خُرافة ومِن مَزاعم باطلة تُفنّده الحِكمة الرشيدة، نعم سِوى بعض الوساوس (إيحاءات مُغرية) يُلقيها شياطين الجنّ على شاكلتها من الإنس ( يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً ) (٦) ، ( وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ

____________________

(١) الرحمان ٥٥: ١٥.

(٢) الذاريات ٥١: ٥٦.

(٣) الكهف ١٨: ٥٠.

(٤) البقرة ٢: ٣٤.

(٥) راجع في ذلك: التفسير الكبير، ج ٧، ص ٨٨.

(٦) الأنعام ٦: ١١٢.

١٨٨

إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ ) (١) ، ويقول الشيطان لمـّا قُضي الأمر: ( وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم ) (٢) .

وزعم الإمام الرازي أنّ ظاهر المـَنقول عن أكثر الفلاسفة إنكار وجود الجنّ؛ استناداً إلى كلام الشيخ الرئيس ابن سينا في رسالته في حدود الأشياء، حيث يقول: الجنّ حيوان هوائي مُتشكّل بأشكال مختلفة، ويُعقبّه بقوله: وهذا شرح للاسم، قال الرازي: وهذا يدلّ على أنّ هذا الحدّ شرح للمراد من هذا اللفظ، وليس لهذه الحقيقة وجود في الخارج (٣) .

وقد أخذت دائرة المعارف الإسلاميّة المـُترجمة إلى العربيّة هذا الاستظهار مِن الرازي مُستَنَدَاً لتَنسب إلى الشيخ الرئيس إنكاره الباتّ لحقيقة الجنّ، جاء فيها: ولكنّ ابن سينا عند تعريفه لكلمة (جنّ) أكّد في غير مؤاربة أنّه ليست هناك حقيقة واقعة وراء هذه الكلمة (٤) .

غير أنّ ذاك الاستظهار من الرازي خطأ، وكانت عبارة الشيخ الرئيس تعني: أنّ هذا التعريف للجنّ ليس حدّاً تامّاً - حسب مُصطلحهم - وإنّما هو رسم ناقص لا يَعدو شرح الاسم، كما في قولهم: سعدانة نبت، إذ ليس فيه ذِكرٌ لذاتيّات المـُعرَّف (الجنس القريب والفصل القريب)، ومِن ثَمّ فهو تعريف ببعض اللوازم والآثار وليس بالجنس والفصل القريبَينِ.

إذن، فنسبة إنكار حقيقة الجنّ إلى مثل الشيخ الرئيس - كبير الفلاسفة الإسلاميّين ومِن ذوي العقول الراجحة المـُعتَقِدة بالإسلام والقرآن - جفاءٌ يشبه الافتراء، ومِن الغريب أنّ الإمام الرازي يُعقّب ذلك، بقوله: وأمّا جمهور أرباب المِلَل والمـُصدّقين للأنبياء فقد اعترفوا بوجود الجنّ: يا تُرى أليس شيخ الفلاسفة الإسلاميّين من المـُصدّقين للأنبياء ولا سيما نبيّ الإسلام والقرآن العظيم؟!

وبعد، فإذ لم يَعد البحث عن حقيقة الجنّ إلى مسألة فلسفيّة بحتة ولا إلى فَرَضية

____________________

(١) الأنعام ٦: ١٢١.

(٢) إبراهيم ١٤: ٢٢.

(٣) التفسير الكبير، ج ٣٠، ص ١٤٨.

(٤) دائرة المعارف الإسلاميّة، ج ٧، ص ١١٣.

١٨٩

علميّة مَحضة، وإنّما هو إخبار غيبي لا مصدر له سِوى وحي السماء، وقد أكّدت عليه جميع الكُتُب السماويّة واعتقدته أصحاب المِلَل ممّن صدّق برسالات الله في الأرض، من غير خلافٍ بينهم في أصل وجوده، إذن فلا مجال للتراجع تجاه إيهام أنْ سوف يَرفضه العِلم، مع فرض أنْ لا مُتّسع للعلم في هكذا مجالات هي وراء سِتار الغيوب!

وللشيخ مُحمّد عَبدَه كلام تفصيلي حول الملائكة والجنّ والشياطين، له وجه وجيه لمن تَدبّره بإمعان، وعبثاً حاول بعضهم الإنكار عليه وربّما رَميه بالخروج عن مظاهر الدِّين، وما هذه الهجمة إلاّ جفاء بشأن عالِم مُجاهد في سبيل الإسلام خبير (١) .

كلام عن مَسّ الجنّ

وأمّا الكلام عن مَسّ الجنّ وأنّ الجنون داءٌ عارض مِن مسّه فيُعالج باللجوء إلى الرُقى والتعويذات ودَمدَمة الكَهَنة وأصحاب التسخيرات وما إلى ذلك من خُرافات بائدة، فالذي يُمكننا القول فيه: أن ليس في القرآن شيء من ذلك، حتّى ولا إشارة إليه، إذ لا شكّ أنّ الجنون داءٌ عصبيّ وله أنحاء، بعضها صالح للعلاج بأسباب عادية ذَكَرها الأطبّاء في كتبهم قديماً وحديثاً، وهناك مراكز لمـُعالجة هذه الأمراض أو التخفيف مِن وطئتها بالأساليب العلاجيّة الطبيعيّة المتعارفة وليست بالأساليب الغريبة.

وليس في القرآن ما يبدو منه أنّ صاحب هذا الداء إنّما يُصاب على أثر مَسّ الجنّ له، نعم سِوى استعماله لهذه اللفظة (المجنون) في أحد عشر موضعاً (٢) ، وكذا التعبير بمَن به جِنّة في خمسة مواضع (٣) .

وهذا مِن باب المـُجاراة في الاستعمال (٤) - كما نبّهنا - حيث كان التفاهم بلسان

____________________

(١) راجع ما كتبه بهذا الشأن في تفسير المنار، ج ١، ص ٢٦٧ - ٢٧٣، وج ٣، ص ٩٦، وراجع أيضاً: الميزان، للسيد الطباطبائي، ج ٢، ص ٤٣٣ - ٤٣٩.

(٢) الحجر ١٥: ٦، الشعراء ٢٦: ٢٧، الصافّات ٣٧: ٣٦، الدخان ٤٤: ١٤، الذاريات ٥١: ٣٩ و ٥٢، الطور ٥٢: ٢٩، القمر ٥٤: ٩؛ القلم ٦٨: ٢ و ٥١، التكوير ٨١: ٢٢.

(٣) الأعراف ٧: ١٨٤، المؤمنون ٢٣: ٢٥ و ٧٠، سبأ ٣٤: ٨ و ٤٦.

(٤) أي مَن تُسمّونه بهذا الاسم، أو تَسِمونه بهذه السِّمة في استعمالكم المتعارف عندكم.

١٩٠

القوم، وليس عن اعترافٍ بمنشأ هذه التسمية اللغويّة، ولا يزال الأطبّاء المـُعالجون - قديماً وحديثاً - يُعبّرون عن المـُصاب بهذا الداء بالمـَجنون وعن نفس الداء بالجنون، مُجاراةً مع لُغة العامّة، ولا يعني ذلك اعتقادهم بمسّ الجنّ إيّاه حتميّاً، وتلك دُور المجانين مُعدّة لمعالجة المـُصابين بهذا الداء أو للحراسة عنهم مرسومٌ عليها نفس العنوان؛ وليس إلاّ لأجل التفاهم مع العرف الدارج لا غير.

وأمّا قوله تعالى: ( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ) (١) فالمـُراد من المـَساس هنا هو مَسّ وساوسه الخبيثة المـُغرية، والتي هي عبارة عن استحواذه على عقلية أهل المطامع؛ ليَتيه بهم الدرب ويجعلهم في السعي وراء مطامعهم يَتخبّطون خبط عشواء وفي غياهب غيّهم يعمهون، وهذا إنّما يعني استيلاء الشيطان على شراشر وجودهم فعموا وصمّوا ( كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ ) (٢) ، ( اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) (٣) .

قال تعالى - حكايةً عن نبيّ اللّه أيّوب (عليه السلام) -: ( إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ) (٤) ، أي مسّني ضرّ وساوسه ودسائسه الخبيثة في سبيل إيقاع أولياء اللّه في النصب ومكابدة الآلام، كما في قوله: ( إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) (٥) ، فمَسُّ الشيطان هو مَسّ ضرّه على أثر دسائسه الخبيثة، لا الإضرار مباشرةً (٦) .

التشبيه في رؤوس الشياطين

قال تعالى: ( أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ) (٧) .

وهذا أيضاً أَخذوه على القرآن، حيث التعبير برؤوس الشياطين جاء على

____________________

(١) البقرة ٢: ٢٧٥.

(٢) الأنعام ٦: ٧١.

(٣) المجادلة ٥٨: ١٩.

(٤) ص ٣٨: ٤١.

(٥) الأنبياء ٢١: ٨٣.

(٦) راجع: التفسير الكبير، ج ٧، ص ٨٩، والميزان، ج٢، ص٤٣٦.

(٧) الصافّات ٣٧ ٦٢ - ٦٦.

١٩١

ما تَوهّمته العرب أنّ للشياطين رؤوساً على غِرار ما تَوهّموه في الغُول، جاء في شعر امرئ القيس: (وَمَسنونَةٌ زُرقٌ كأَنيابِ أَغوالِ).

غير أنّ الشيطان في اللغة مِن أوصاف المـُبالغة مأخوذ مِن شاط يَشيط إذا اشتدّ غيظاً وغَضباً، يُقال: تَشيّط إذا احترق غيظاً واشتاط اشتياطاً عليه إذا التهب غضباً، وكذا قولهم: استشاط عليه أي احتدّ عليه غضباً، واستشاط الحَمامُ: نَشط، واستشاط مِن الأمر: خفّ له، واستشاط فلان أي استقتل وعرّض نفسه للقتل، وأصله مِن شاط الشيء إذا احترق.

قال ابن فارس: الشَّيط مِن شاطَ الشيء إذا احترق، ومنه استشاطَ الرجلُ إذا احتدّ غضباً، قال ومِن هذا الباب الشيطان (١) ، ويُطلق على كلّ مُتمرّدٍ عاتٍ مِن الجنّ والإنس والدّوابّ، فهو فَعلان، لتكون الألف والنون زائدتَين، كما في عطشان وغضبان و رحمان، أمّا القول، بأنّه مِن شَطَن ليكون على وِزان فيعال فهو غريب؛ إذ لم يُعهد مِثلُ هذا الوزن في صيّغ المبالغة، وإنْ قال به الخليل.

وهكذا الراغب رجّح كون النون أصليّة بدليل جمعه على شياطين! (٢)

وعلى أيّ حالٍ فهو وصفٌ يُطلق على كلّ متمرّدٍ عاتٍ بالَغَ في شَطَطِه كالمـُستشيط غَضَباً أو المـُلتهب غيظاً، قال جرير:

أيّام يَدعونَني الشيطانَ من غَزَلي

وهُنَّ يَهْوَيْنَني إذ كنتُ شيطاناً

وقال آخر: لو أنّ شيطان الذِّئاب العُسَّل... قال الراغب: جمع العاسِل وهو الذي يَضطرب في عدوه، واختصّ به عَسَلان الذئب، قال: وسُمّي كل خُلُق ذميم للإنسان شيطاناً، فقال (عليه السلام): (الحَسَد شيطان والغَضَب شيطان)، فليس الشيطان اسماً لإبليس ولا خاصّاً بجنوده الأبالسة، وإنّما أُطلق عليه كإطلاقه على سائر ذوي الشرور، قال تعالى: ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ ) (٣) .

____________________

(١) معجم مقاييس اللغة، ج٣، ص٢٣٤ - ٢٣٥ و١٨٥.

(٢) المفردات، ص٢٦١، ولسان العرب، ج١٣، ص ٢٣٨.

(٣) الأنعام ٦: ١١٢.

١٩٢

والشيطان - أيضاً - اسم لِحَيّة لها عُرْف، وهي لحَمة مُستطيلة فوق رأسها شبه عُرْف الديك قال الزجّاج: تُسمّي العرب بعض الحيّات شيطاناً، قيل: هو حيّة لها عُرف قبيح المنظر (١) ، وأنشد الرجل (هو الراجز) (٢) ، يَذمّ امرأةً له كانت سَليطَة:

عَنْجَرِدٌ تَحلف حين أَحلف

كمثل شيطانِ الحَماط أعرَفُ (٣)

وقال آخر يصف ناقته في المسير:

تُلاعبُ مَثنى حَضْرميّ كأنَّه

تَعَمُّجُ شيطانٍ بذي خِرْوَعٍ قَفر (٤)

والشيطان في هذينِ البيتَين هي الحَيّة المـَهيبة يُتَنَفَّر منها، لها عُرف كتاج الديك قبيح المـَنظر، فقد شَبَّه الشاعر في البيت الأَوّل امرأته العجوز السَليطَة بشيطان الحَماط القبيح المهيب، وهي الحيّة ذات عُرف يَكثُر وجودها تحت شجر الحَماط في الصحراء القاحلة.

وفي البيت الثاني شَبَّه الشاعر زِمام ناقتِه في تَلوّيه بسبب مشية الناقة بتلوّي حيّةٍ قبيحةِ الهيئة تلتوي في بيداء قَفر (٥) .

وعليه، فالتشبيه في الآية الكريمة وَقَع على الواقع المشهود، هي رؤوس الحيّات القبيحة المنظر الهائلة على حدّ تعبير الزمخشري في الكشّاف، ووافقه اللغة والعُرف العامّ حسبما عرفتَ، وليس مجرّد تخييل أو تقليد تَوهّمته العرب كما زَعَمه الزاعِمون!

وهكذا جاء في (تأويل مشكل القرآن) لابن قتبية قال: والعرب تقول إذا رأت مَنظراً قبيحاً: كأنّه شيطان الحَماط، يريدون حيّة تأوي في الحَماط، كما تقول: أيمُ الضالّ،

____________________

(١) قال الزمخشري: قيل: الشيطان، حيّة عرفاء لها صورة قبيحة المنظر هائلة جدّاً الكشّاف، ج٤، ص٤٦.

(٢) راجع: تفسير أبي الفتوح الرازي، ج٩، ص٣١٣.

(٣) العَنجَرد: المرأة السليطة الطويلة اللسان الصَخَّابة، وجاء البيت في تأويل مشكل القرآن، ص٣٨٩: (عُجيَّز) بدل (عَنجَرد)، والحَماط - جمعُ حَماطة - شجر تَنبُت في البراري شبيهة التينة، تكثر حولها الحيّات، والأعرف: ذو العُرف، هي اللحمة شبه التاج تكون في أعلى رأس بعض الحيّات مثل تاج الديك، وهي من أشدّ الحيّات تنفّراً.

(٤) المـَثنى: زِمام الناقة، والحضرمي منسوب إلى حضرموت، والخِرْوَع: شوك لا يُرعى لغلظته يَنبُت في الفلوات القفر، راجع: لسان العرب، ج١٣، ص٢٣٨ - ٢٣٩، وراجع أيضاً: معاني القرآن للفرّاء، ج٢، ص٣٨٧.

(٥) تفسير أبي الفتوح الرازي، ج٩، ص٣١٣.

١٩٣

وذِئب الغَضى، وأَرنبُ خُلّة، وتيسُ حُلَّب، وقنفذُ بُرقَة (١) .

قال الشيخ أبو الفتوح الرازي: وهذا كتشبيهه تعالى عصا موسى (عليه السلام) التي انقلبت حيّة تسعى بالجانّ، وهو أيضاً اسم للحيّة السريعة التَلوّي في حركتها (٢) .

قال ابن منظور: والجانّ، ضَربٌ من الحيّات أكحل العينَين يَضرب إلى الصُفرة لا يُؤذي، وهو كثير في البيوت، قال سيبويه: والجمع جِنّان، وأنشد بيت الخطفي جدّ جرير يصف إبلاً:

أعناقَ جِنّانٍ وهاماً رُجَّفا

وعَنَقاً بعد الرسيم خَيْطَفا

وفي الحديث: أنّه نهى عن قتل الجِنّان، قال: هي الحيّات تكون في البيوت، واحدها جانّ، وهو الدقيق الخفيف.

قال الأزهري في التهذيب في قوله تعالى: ( تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ ) : (٣) ، الجانّ حيّة بيضاء، قال أبو عمرو: الجانّ حيّة، وجمعه جوانّ.

قال الزجّاج: المعنى أنّ العصا صارت تتحرّك كما يَتحرّك الجانّ حركةً خفيفةً، قال: وكانت في صورة ثُعبان، وهو العظيم من الحيّات، ونحو ذلك قال أبو العباس المبرّد، قال: شبّهها في عِظَمِها بالثُعبان وفي خفّتها (خفّة حركتها) بالجانّ. ولذلك قال تعالى مرّةً ( فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ ) (٤) ومرّةً ( كَأَنَّهَا جَانٌّ ) (٥) .

قال الشيخ أبو الفتوح الرازي - في وجه التشبيه بالجانّ مرّة وبالثعبان أُخرى -: إنّ التشبيه الأَوّل وَقَع في بدء بعثته (عليه السلام) عند الشجرة، قال تعالى في سورة النمل: ( يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لا تَخَفْ

____________________

(١) تأويل مشكل القرآن، ص٣٨٩، والأيّم - بسكون الياء وتشديدها -: الحيّة الأبيض اللطيف، والضالّ: نوع من الشجر يَنبت في السهول والوعور له شوك، ويقال: هو السِّدر من شجر الشوك، وألفه مُنقلبة عن الياء، والغَضى: نوع من الشجر يأوي إليه أخبث الذئاب، والخُلّة: نبات فيه حلاوة، والحُلّب: بقلة جَعدة غبراء في خضرة تنبسط على الأرض، يسيل منها اللبن إذا قُطع منها شيء، يقال: أسرع الظباء تيسٌ حُلَّب؛ لأنّه قد رعى الربيع، والبُرقة: أرض غليظة مُختلطة بحجارة ورمل، ويقال: قنفذ برقة كما يقال: ضبّ كُدية، وهي الأرض الصُلبة الغليظة.

(٢) تفسير أبي الفتوح الرازي، ج٩، ص٣١٣.

(٣) النمل ٢٧: ١٠.

(٤) الأعراف ٧: ١٠٧.

(٥) راجع: لسان العرب، ج١٣، ص٩٧.

١٩٤

إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ) (١) وفي سورة القصص: ( فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ ) (٢) .

أمّا التشبيه بالثعبان فكان عند لقاء فرعون ومَلَئِه، وقوله لهم: إنّي قد جئتكم ببيّنة، قالوا: فائتِ بها إن كنت مِن الصادقين ( فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ ) (٣) .

ولعلّ عندما ألقى عصاه لأَوّل مرّة عند الشجرة كان لَفَت نظره وأرهبه أنّ العصا - وهي عودة - تتحرّك وتهتزّ كما تسعى الحيّة، فولّى مُدبراً ولم يُعقّب.

أمّا الذي أتى به مُعجِزاً وبيّنة من ربّه فهو قَلْبُ العصا ثعباناً وهي حيّة عظيمة هائلة، فاسترهبوه وحاولوا مقابلته بالمِثل فجمعوا السَحَرة وجاءوا بسحرٍ عظيم، فألقى موسى عصاه ( فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) (٤) .

فالتشبيه بالجانّ مرّة وبالثعبان أُخرى كان باعتبارَينِ وفي موقفَين مُختلفَين، قال الشيخ الرازي: لا يَمتنع أنْ تنقلب العصا إلى صورتَين مختلفتَين باختلاف الموردَين (٥) .

* * *

وختاماً، فقد جاء في المـُعجم الزوولوجي الحديث تأليف الأُستاذ مُحمّد كاظم الملكي النجفي: أنّ الشيطان أيضاً اسمٌ لنوع من السَّمك الضخم يبلغ وزنه نحو طنَّين يُوجد في المياه المـُحيطة في الشمال الغربي لاستراليا، له وجهٌ كَريه كأنّه صنم من الأصنام القديمة وعلى رأسه قرنان يَزيدان في كَراهة منظره (٦) .

أوصاف جاءت على مقاييس عامّة

هناك أوصاف عن نعيم الآخرة أو عن جحيمها جاءت على مقاييس عامّة، لا على مقاييس العرب خاصّة! وقد وَهِم مَن زَعمها أنّها أوصاف تَعرفها العرب لوحدهم أو هي

____________________

(١) النمل ٢٧: ٩ و١٠.

(٢) القصص ٢٨: ٣٠ و٣١.

(٣) الأعراف ٧: ١٠٧، الشعراء ٢٦: ٣٢.

(٤) الأعراف ٧: ١١٧ و١١٨.

(٥) تفسير أبي الفتوح الرازي، ج٨، ص٣٧٨.

(٦) المعجم الزوولوجي، ج٤، ص٧١ - ٧٢.

١٩٥

عند رغباتهم المـُلِحّة التي تَستدعيها عِيشتُهم تلك الجافية وفي وسط تلك الصحراء القاحلة، ممّا لا يَستلفت رغبات العائشِين في أوساط خَصِبَة فارهِين، وذلك في مثل وصف الجنان بظلّ الأشجار ومجاري الأنهار والحور والقصور، ومثلها نعوت هي أوصاف جمال عند العرب وليس عند غيرهم.

لكنّه وَهمٌ نشأ مِن سوء التدبّر وعدم الإحاطة بدقائق اللغة التي خاطب بها القرآن العرب وسائر العالمِينَ جميعاً.

ولنأتِ بأمثلة ممّا أوقعهم في هذا الوهم:

الحُور العين

عِيْن جمع عيناء وهي المرأة ذات الأَعيُن الوسيعة والمتناسبة مع تقاسيم وجهها الوسيم، كما يقال للبقر الوحش: عِيْن، لحُسن عينها في سعةٍ متناسبة.

حُور: جمع حوراء. زعموا أنّها المرأة ذات الأَعين السود في حدقتها، وهو وصف جمال عند العرب بالذات ممّا قد يُخالف الجمال في بنات الروم في عيونهنّ الزُرق! ويُعدّ ذلك عيباً عند العرب؛ ومِن ثَمّ جاء وصف المجرمين بأنّهم يُحشرون يوم القيامة زُرقاً (١) .

فجاء كلا الوصفَين - جمالاً وعيباً - على مقاييس العرب محضاً.

غير أنّ الخطأ هنا جاء مِن قِبَل تفسير الحَوَر بالسواد، في حين أنّه البياض اللاّمع لشدّة ابيضاضه، فالحَوَر شدّة بياض العين بما يُوجب شدة بريق سواد حَدَقَتِها.

والحواريّات: النساء البيض، قال الأزهري: لا تُسمّى المرأة حوراء حتّى تكون مع حَوَر عينَيها بيضاء لون الجسد، قال الكميت:

ودامت قُدورُك للساغبِينَ

في المـَحْلِ غَرْغَرةً واحوِرارا

قال ابن منظور: أراد بالغَرْغَرة صوت الغَلَيان، وبالاحوِرار بياض الإهالة والشحم.

والأعراب تُسمّي نساء الأمصار حواريّات لبياضهنّ وتَباعدِهنّ عن قشف

____________________

(١) وذلك في قوله تعالى: ( يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً ) ، طه ٢٠: ١٠٢.

١٩٦

الأعراب بنظافتِهنّ، قال شاعرهم:

فقلتُ إنّ الحواريّات مُعطِبَةٌ

إذا تفَتّلنَ مِن تحت الجلابيبِ

وقال أبو جِلّدة:

فقل للحواريّات يَبكِينَ غيرَنا

ولا تَبكِنا إلاّ الكلابُ النوابح

أراد: النساء النقيّات الألوان والجلود لبياضهنّ.

والحُوّارى: الدقيق الأبيض جصّ أبيض تُبيَّض به الجدران، كلّ ما حُوِّر به أي بُيِّض؛ ومِن ثَمّ يقال للقصّار (غسّال الثياب) حواريّ، لتحويره الثياب أي تبييضها وإزالة أوساخها، يقال: حوّر الثوب: غَسَله وبَالغ في غَسله حتّى بَرَق، ومنه سُمّي الحواريّون أي الخُلّص من أصحاب المسيح (عليه السلام).

والأحوري: الأبيض الناعم.

إذن، فالحوراء هي المرأة البيضاء ذات الأَعين اللامعة في شدّة بياضها، فإن كانت حَدَقَة عينها سوداء فهي أيضاً تلمع لحُسن جوارها، وهكذا إذا كانت زرقاء.

فالجمال في هذا الوصف إنّما هو في جانب بياض مُقلَة العين أي شَحمَتُها اللامعة مع بياض لون البدن، الأمر الذي يكون وصف جمال عند الجميع، كما في العيناء.

أمّا زُرقة العين - على ما جاءت في الآية وَصْفاً لحالة المـُجرمِين يوم الحشر - فالمـُراد بها العَمى وذهاب نور العين من شدّة الظمأ؛ إذ الظمأ الشديد يُذهب بنور العين ويَحول العطش بينه وبين السماء كالدخان، فيرى الأشياء زَرقاء؛ لأجل الدخان الحائل، لا لزُرقة في حَدَقة عينه.

وقال الفرّاء: يُقال: نَحشرهم عطاشاً، ويقال: نَحشرهم عُمياً (١) ، قال الأزهري: عطاشاً يظهر أثره في أَعينهم كالزُرقة، قال: وهو مِثل قوله: ( وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً ) (٢) أي عطاشاً، كالإبل تَرِد الشريعة عطاشاً، مَشياً على أرجلهم، وعن ابن عبّاس:

____________________

(١) معاني القرآن، ج٢، ص١٩١.

(٢) مريم ١٩: ٨٦.

١٩٧

سُمّي العِطَاش وِرداً؛ لأنّهم يَردون الشريعة لطلب الماء (١) .

ملحوظة

قد يَحسب البعض - باعتبار كون الحُور جمعاً للأحور والحوراء معاً، وكذا العِين جمعاً للأعين والعيناء - أن يكون هناك في الجنّة حورٌ عِينٌ، ذكورٌ وإناثٌ!

غير أنّ القرآن وَصَفَهنّ بوصف الإناث مَحضاً، في مثل قوله تعالى: ( وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً ) (٢) والكَواعب: الناهِدات الثدي، وقوله: ( فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ ) (٣) ، والجمع بالألف والتاء يَخصّ الإناث دون الذكور. وكذا ضمير الجمع المؤنّث، والطَمْث: افتضاض بِكارة المرأة؛ لأنّه يُوجب الطَمْث وهو الدم الخارج مِن فَرجها، وقوله: ( فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً * عُرُباً أَتْرَاباً ) (٤) ، والمرأة العروبة هي العفيفة تُحبّ زوجها لا تهوى سِواه، إلى غيرها مِن آياتٍ جاء فيها وصفُ الحُور بخِيار أوصاف النساء المـُترفِّعات دون المـُبتذلات.

ولعلّك تتساءل: فما حظّ النساء المؤمنات من هذا النعيم في الآخرة؟

وإجابة على هذا السؤال جاء في أحاديث مأثورة: أنّ اللّه سوف يَجعلهنّ حوريّات، ويَكُنّ ألذّ على أزواجهنّ مِن حوريّات الجِنان فعن ابن عبّاس - في تفسير قوله تعالى: ( إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً ) (٥) -: أنّ الآية بشأن الإنسيّات يُبدِّلُهُنّ اللّه حُوراً عِيناً في الجِنان (٦) .

قال تعالى: ( جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ) (٧) ، ( ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ ) (٨) ، وهناك كلام عن نعيم الآخرة (ما سنخُها؟) لعلّنا نفصّل القول فيه إن شاء اللّه.

____________________

(١) مجمع البيان، ج٧، ص٢٩ وج٦، ص٥٣١.

(٢) النبأ ٧٨: ٣٣.

(٣) الرحمان ٥٥: ٥٦.

(٤) الواقعة ٥٦: ٣٦ و٣٧.

(٥) الواقعة ٥٦: ٣٥ و٣٦.

(٦) مجمع البيان، ج٩، ص٢١٩.

(٧) الرعد ١٣: ٢٣.

(٨) الزخرف ٤٣: ٧٠.

١٩٨

الأشجار والأنهار

ليس وصفُ النعيم بظِلال الأشجار ومجاري الأنهار ممّا يَستلفت رغبةَ العائشِين في البوادي الجرداء والصحاري القِفار فحَسب، وإنّما هي رَغَبات عامّة حتّى للمـُنعَّمين بخُصوبة البلاد وخُضرة الهضبات والوِهاد.

الناس في كافّة بقاع الأرض يرتادون لمـُنتزهاتهم أماكن أشجار وتُبلّها أنهار، على ما جاء في وصف القرآن الكريم:

( مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ ) سُرُر مزيّنة فاخرة.

( لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً ) لا يَحسّون لدغ حرارةٍ لافحة، ولا لَذعَ برودةٍ قارصة، مُرتاحِين في مهبّ ولطف نعيم.

( وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا ) أشجار بسطت أغصانها المـُتدانية، مستديرة الأطراف شبه مَظلاّت مُخيِّمة برَوْح أظلّتها.

( وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا ) (١) ، ثِمار متدنّية يَسهل قطوفُها ( وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ ) (٢) .

وألذّ المـُنتزه وأطيبه ما كان على ضِفاف الأَنهر ومُتفجّرات العيون، على حدّ تعبير القرآن:

( عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً ) (٣) ، ( تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) (٤) .

نعم، إنّها رغباتٌ عامّة يَبتغيها كلّ مُنعَّم ومُعدَم وفي كلّ بِقاع الأرض، مشارق الأرض ومغاربها، العامرة منها والبائرة. وليست ممّا تهفو إليها نُفوس مَكدودة فَحَسب، وتلك قصور شامخات ومصايف زاهرات تزدحم بأصحاب النِعَم ومُرفّهي الأحوال، أُنشئت على شواطئ البحار وضِفاف الأنهار في كلّ أرجاء المعمورة، وحسبُك شواهد على أنّها رغبات تَهفو إليها نُفوس جميع أبناء البشر في كلّ البلاد، ولدى جميع الأجيال والأُمم، وليس العرب وحدهم.

____________________

(١) الإنسان ٧٦: ١٣ و١٤.

(٢) الدخان ٤٤: ٢٧.

(٣) الإنسان ٧٦: ٦.

(٤) يونس ١٠: ٩.

١٩٩

ابيضاض الوجوه واسودادها

قال تعالى: ( يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) (١) .

قالوا: إنّ في هكذا تعابير إزراء بشأن مُلوَّني البَشَرة؛ حيث أصبح ابيضاض الوجه رمزاً للفوز والسعادة، واسوداده رمزاً للحرمان والشقاء! في حين أنّ اللون مهما كان فهو أمرٌ طبيعي لا غَضاضة في لونٍ دون آخر، كما لا مَساس له بمسألة السعادة والشقاء ولا استيجاب مَدح أو قدح، الأمر الذي اُخِذَ على القرآن، حيث استجوابه لمـَزاعم كانت عند العرب في أمثال هذه التعابير!

لكنّ السواد - في هكذا تعابير قرآنية أو في غيرها - لا يُراد به ذات اللون الخاصّ، وإنّما المـُراد هو كُدْرة الظَلام المـُعبَّر عنه بالسواد في الاستعمال الدارج، في مقابلة فِلقَة الضياء المـُعبّر عنه بالبياض، كما في قوله تعالى: ( حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ) (٢) ، أي حتّى يبدو فلق الصباح عن ظُلمة الليل.

ونظيره قول الشاعر - وهو عمرو بن أبي ربيعة المخزومي -:

إذا اسودّ جُنح الليل فلتأتِ

ولتَكن خُطاك خِفافاً إنّ حرّاسَنا أُسداً

فالاسوداد كناية عن اشتداد ظَلام الليل، وليس المـُراد ذات اللّون الخاصّ.

فالتعبير باسوداد الوجه كناية عن كُدْرته كأنها ظُلمة تَعتريه على أثر الانقباض الحاصل فيه والتقطيب، والناشئ مِن فَزَعِ نفسي وسوء وحشته، كما قال تعالى - حكايةً عن حالةٍ نفسيّة رديئة كان يَبدو أثرها كظُلمةٍ تعلو وجه أحدهم إذا بشّر بالأُنثى -: ( وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ ) (٣) ، فهو يُحاول كَظْمَ غيظِه، ولكن بَشَرة وجهه المـُظلمة هي التي تَفضحه بما تَكنّه نفسُه مِن ألمٍ وسوء حال.

____________________

(١) آل عمران ٣: ١٠٦ و١٠٧.

(٢) البقرة ٢: ١٨٧.

(٣) النحل ١٦: ٥٨، الزخرف ٤٣: ١٧.

٢٠٠

وعليه جاء قوله تعالى: ( وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ ) (1) ، أي مغبرّة ومُنقبِضة مِن هَول المـُطَّلَع في مقابلة وجوه الصالحين المـُسفِرة المـُنبسِطة.

يقول تعالى: ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ) (2) .

فالوجوه المـُسْفِرة هي الوجوه المـُتفتّحة المـُشرقة المضيئة؛ لأنّها ضاحكة مُستبشرة، حيث سرُورها وبهجتُها بما تُعايِنُه من ثواب ربّها.

ووجوه عليها غَبَرة (غُبْرة الظَّلام) على أثر كآبة الهمّ وهو المـُطَّلَع، ترهقها قَتَرة (انقباض وتقطيب) وهذا تفسير لغُبّرة الوجه، أي تعلوه كُدرة الغمّ وقطوب الانقباض، والقَتَرة هي بنفسها الغَبَرة، أي كدورة الغبار التي تُذهب بصفاء بَشَرة الوجه.

وعن زيد بن أسلم: الغَبَرة، الغُبار يَنحطّ مِن العلوّ، والقَتَرة، الغُبار يرتفع من الأرض (3) .

قال تعالى: ( لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) (4) .

ففي هذه الآية جاء التعبير بغَشيان وجوهِهم قِطَعٌ مِن الليل مُظلماً بَدل التعبير بسواد الوجه.

وفي آية أُخرى: ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ) (5) ، فالوجوه الناضرة هي المـُبتهجة المسرورة، تَنبسط وتُشرق إشراقاً لامعاً؛ حيث لَمَست لذّة الحضور وأحسّت بسعادة البقاء، تنتظر ثواب ربّها ورحمته. ( فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً ) (6) ، ( تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ) (7) .

____________________

(1) الزمر 39: 60.

(2) عبس 80: 38 - 42.

(3) مجمع البيان، ج10، ص441.

(4) يونس 10: 26 و27.

(5) القيامة 75: 22 - 25.

(6) الإنسان 76: 11.

(7) المطففيّن 83: 24.

٢٠١

أمّا الوجوه الباسرة فهي الكالحة العابسة، يَعلوها ظَلام وكُدرة مِن سوء الوَحشة وشدّة الفزع، حيث (تظنّ - أي تخشى - أن يُفعل بها فاقرة) وهي الداهية، تفقر الظهر أي تَقصمه.

وعليه، فالتعابير الواردة في القرآن بهذا الشأن أربعة:

( يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ) .

( وَوُجُوهٌ نَاضِرَةٌ وُجُوهٌ بَاسِرَةٌ ) .

( وَوُجُوهٌ مُسْفِرَةٌ وُجُوهٌ غَبَرَةٌ ) .

( وُجُوهٌ تَغَشّاهَا قِطَعاً مِنَ اللّيْلِ مَظْلِماً ) .

فالاسوداد والبَسُور والاغبرار وغشاء الظلام، كلّها تعابير تَنمّ عن معنى واحد وهو كُدرة وظُلمة تعلو الوجه على أثر الانقباض والتقطيب، وليس المراد ذات اللون كما حسبه المعترض!

كلام عن السحر في القرآن

هل اعترف القرآن بتأثير السحر تأثيراً وراء مجاري الطبيعة، حسبما يَزعمه أهلُ السحر والنفّاثاتُ في العُقد؟

ليس في القرآن ما يُشير بذلك سِوى بيان وَهْن مَقْدُرتهم وفَضْح أساليبهم بأنّها شَعْوذة وتخييلات مجرّدة لا واقعيّة لها، يقول بشأن سَحَرة فرعون: ( فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ) (1) ، فكان الرائي يَتخيّل أنّ تلك الحبال والعصيّ تسعى، أي تنزو وتقفز وتَلتوي على أنحاء الحركات التي كان الناظرون يحسبونها حركات حياتيّة وأنّها حيّات ثعابين مُتهيّجة، قال الطبرسي: لأنّها لم تكن تسعى حقيقة، وإنّما تحرّكت؛ لأنّهم جعلوا في أجوافها الزئبق، فلمـّا حَميت الشمس تمدّدت الزئابق فحصلت على أثره

____________________

(1) طه 20: 66.

٢٠٢

تلك التحرّكات، وظُنَّ أنّها تسعى (1) .

وذلك أنّهم أخذوا مَصَارين أو اُدُم مصنوعة على صُوَر الحيّات والأفاعي، وجعلوا في أجوافها زئابق وتركوها بصورة العصيّ والحبال في ساحة بعيدة عن متناول الناس ومشاهدتهم القريبة، وكانت الساحة قد حُفرت تحتها أسراب وأشعلوا فيها ناراً فأثّرت حرارتها من تحت وحرارة الشمس من فوق، فجعلت الزئابقُ تتمدّد وتتقلّص، وتراءى للنّاس أنّها تسعى، ومِن ثَمّ قال تعالى: ( سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ) (2) ، وما هي إلاّ شعوذة لا واقع لها سِوى تخييل ظاهريّ مجرّد.

قال الطبرسي: احتالوا في تحريك العصيّ والحبال بما جعلوا فيها مِن الزئبق حتّى تحرّكت بحرارة الشمس وغير ذلك من الحيل وأنواع التَمويه والتلبيس، فخُيّل إلى الناس أنّها تتحرّك على ما تتحرّك الحيّة، وإنّما سحروا أعيُنَ الناس؛ لأنّهم أَرَوهم شيئاً لم يَعرفوا حقيقته وخَفيَ ذلك عليهم لبُعده منهم، فإنّهم لم يَدعوا مجالاً للناس كي يدخلوا فيما بينهم [ خوف فضحِ أمرهم ].

قال: وفي هذا دلالة على أنّ السحر لا حقيقة له؛ لأنّها لو صارت حيّات حقيقةً لم يَقل اللّه سبحانه: ( سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ ) بل كان يقول: فلمـّا ألقوا صارت حيّات، وقد قال سبحانه أيضاً: ( يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ) (3) .

وامّا وَصْفُ سحرهم بالعظمة؛ فلأجل استعظام الناس ذلك المشهد الرهيب.

يقول الرازي في ذيل هذه الآية: واحتجّ به القائلون بأنّ السحر محض التمويه، قال القاضي: لو كان السحر حقّاً لكانوا قد سحروا قلوبَهم لا أعينهم، فثبت أنّ المراد أنّهم تخيّلوا أحوالاً عجيبة مع أنّ الأمر في الحقيقة ما كان على وِفق ما تخيّلوه، قال الواحدي: بل المراد، سحروا أعيُنَ الناس أي قلبوها عن صحّة إدراكها بسبب تلك التمويهات، وقيل: إنّهم أَتوا بالحبال والعصيّ ولطّخوا تلك الحبال بالزئبق وجعلوا الزئبق في دواخل العصيّ،

____________________

(1) مجمع البيان، ج7، ص18.

(2) الأعراف 7: 116.

(3) مجمع البيان، ج4، ص461.

٢٠٣

فلمـّا أثّر تَسخين الشمس فيها تحرّكت والتوى بعضُها على بعض وكانت كثيرةً جدّاً، فالناس تخيّلوا أنّها تتحرّك باختيارها وقدرتها (1) .

قال الإمام الجصّاص: ومتى أُطلق السحر فهو اسم لكلّ أمر مُمَوَّهٍ باطل لا حقيقة له ولا ثبات، قال الله تعالى: ( سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ ) يعني مَوّهوا عليهم حتّى ظنّوا أنّ حبالَهم وعصيّهم تسعى، وقال ( يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ) فأخبر أنّ ما ظنّوه سعياً منها لم يكن سعياً وإنّما كان تخييلاً.

وقد قيل: إنّها كانت عصيّاً مُجوّفةُ قد مُلئت زئبقاً وكذلك الحبال كانت مَعمولة من اُدُم (2) محشوّة زئبقاً وقد حفروا قبل ذلك تحت المواضع أسراباً وجعلوا آزاجاً (3) وملؤوها ناراً، فلمـّا طُرحت عليه وحَمي الزئبق حرّكها؛ لأنّ من شأن الزئبق إذا أصابته [ حرارة ] النار أنّ يطير، فأخبر اللّه الله أنّ ذلك كان مُمَوّهاً على غير حقيقة، والعرب تقول لضَربٍ من الحُليّ مسحور، أي مُمَوّهٌ على مَن رآه مسحورٌ به عينه (4) .

وهكذا ذهب الإمام مُحمّد عَبده في تفسيره قال - بعد نقل كلام الجصّاص -: فعلى هذا يكون سحرهم لأَعيُن الناس عبارةً عن هذه الحيلة الصناعيّة، إذا صحّ الخبر، ويُحتمل أن يكون بحيلة أُخرى كإطلاق أبخرة أثّرت في الأَعيُن فجعلتها تَبصُر ذلك، أو بجعل العصيّ والحبال على صورة الحيّات وتحريكها بمحرّكات خفيّة سريعة لا تُدركها أبصار الناظرين، وكانت هذه الأعمال من الصناعات وتُسمّى السيمياء (5) وهي لغة يونانيّة تعني الشعوذة والنيرنج (6) ، هي عبارة عن مزاولة أعمال خفيّة سريعة تتراءى للناظرين أشكالاً على غير واقعها، وربّما باستعمال موادّ كيمياويّة تَخفى على الناظرين (7) ، وهو متعارف حتّى اليوم لغاية إلهاء الناس في مجالس اللهو والسرور ومناسبات الأعياد والأفراح.

____________________

(1) التفسير الكبير، ج14، ص203.

(2) جمع أديم وهي الجلدة المدبوغة.

(3) جمع أزَج وهو البيت يُبنى طولاً يُشبه الأُتُن: مواقد نار الحمّام.

(4) أحكام القرآن للجصّاص، ج1، ص42 - 43.

(5) تفسير المنار، ج9، ص67.

(6) معرَّب نيرنك، الشَعوذة معرَّب شُعبدة، كلاهما بمعنى، وهو نوع من الحِيَل الخفيّة فيها مهارة وسرعة عمل تخطف من أبصار الناظرين وتؤثّر في تخيّلهم.

(7) قال العلامة الطباطبائي: وهو (السيميا) العلم الباحث عن تمزيج القوى الإراديّة مع القوى الخاصّة المادّية للحصول على غرائب التصّرف في الأمور الطبيعيّة، ومنه التّصرف في الخيال المـُسمّى بسحر العيون، وهذا الفنّ من أصدق مصاديق السحر، ج 1، ص246.

٢٠٤

قال الزمخشري: ( سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ ) أَرَوها بالحِيَل والشعوذة وخيّلوا إليها ما الحقيقة بخلافه (1) .

إذن، فلم يثبت من هذه الآية اعتراف للقرآن بحقيقة السحر سِوى الشعوذة والتوسّل بالحيل للتمويه على أعين النّاس، هذا فحسب.

وهناك آيات أُخر استندوا إليها لهذا الاعتراف المـَزعوم، كالآيات الواردة بشأن سَحَرة بابل في سورة البقرة، وكذا سورة الفلق ( النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ) وسنتكلم عن ذلك أيضاً بعد الكلام عن أقسام السحر ورأي علماء المسلمين فيه، وسيبدو بعون الله تعالى أنّ تلكُم الآيات أيضاً بعيدة كلّ البُعد عمّا رَامه الزاعمون وأنْ ليس في القرآن ما يُشير باعترافه بحقيقة السحر بتاتاً.

أقسام السحر

السحر بحسب اللغة: ما لطُف ودقّ مأَخذه في التأثير؛ ومِن ثَمّ فإنّ من البيان لسحراً، وقسّمه الإمام الرازي بحسب المصطلح إلى أنواع ثمانية:

النوع الأَوّل: الاستعانة بالكواكب، زَعْماً أنّها هي المـُدبِّرة لهذا العالم، نُسب ذلك إلى الكلدانيّين كانوا يعبدون الكواكب، فكانوا يستعينون بها على سدّ مآربهم والقضاء على مناوئيهم.

وأهل العدل والتنزيه من مُتكلّمي المسلمين (الإماميّة والمعتزلة) أنكروا صحّة ذلك، بل جواز الاعتقاد به قد يؤدي إلى الشرك بالله العظيم، وقامت الأشاعرة بوجههم فأجازوه؛ باعتبارها أسباباً وعِللاً طبيعيّة كانت تحت إرادته تعالى.

النوع الثاني: سِحر أصحاب الأوهام والنفوس القوية، فهناك لأرباب النفوس القوية تأثير كبير في إلقاءاتهم على ذوي النفوس الضعيفة، والنفس إذا تأثّرت بما اُلقي إليها توهّمته قطعيّاً وانفعلت به وانجذبت إليه انجذاباً، الأمر الذي قام به أكثر أصحاب المـَقدرِات القوية، فسخّرت زَرَافات مِن ذوي الأنفس الضعيفة السريعة الانخداع.

____________________

(1) الكشّاف، ج 2، ص 140.

٢٠٥

النوع الثالث: الاستعانة بالأرواح الأرضيّة الخبيثة، ممّا عبّروا عنها بتسخير شياطين الجنّ، الأمر الذي يقوم به أصحاب الرُقى والدُخُن والتعويذ والطِلَّسمات، ولعلّ لهذا النوع سًوقاً رائجةً في أوساط هابطة ولا سيّما العجائز مِن النساء وذوي العقول الساذجة.

النوع الرابع: التخييلات والأَخذ بالعيون، وهذا النوع مُبتنٍ على أخطاء البَصر والانصرافات الذهنيّة التي يَستخدمها السَحَرة من هذا النمط، ويُسمّى بالشعوذة على ما مرّ تفصيله.

النوع الخامس: استعمال آلات وأدوات صناعيّة وتركيبها تراكيب غريبة في أشكال وصور هندسيّة تستجلب أنظار الحاضرين، وتُوجب إعجابَهم والضحك والسرور، وهو لَعِب على أُصول رياضيّة وهندسيّة مُلهية، تُتَداول في مجالس الأفراح.

النوع السادس: الاستعانة بخواصّ الأدوية، مثل أنْ يَجعل في طعامه بعض الأدوية المـُبلِّدة أو المـُزيلة للعقل والدُخُن المـُسكِّرة ونحو ذلك.

النوع السابع: تَعليق القلب، حيث يجد الساحرُ ضعيفَ العقل قليلَ التمييز، فيُلقي عليه أنّه يَعرف الاسم الأعظم أو أنّ الجنّ يُطيعونه، فيصدّقه الضعيف ويتعلّق قلبه بما قال، وربّما استخفّ الساحر مِن عقلِه فيتمكّن من تنفيذ ما أراده في نفسه، ولمثل هذه الانفعالات النفسيّة مجال مُتّسع لتَجوال أهل الشعوذة والتزوير والنفوذ في الشُعور.

النوع الثامن: السعي بالنميمة والتضريب مِن وجوه خفيفة لطيفة، بما يؤثّر حبّاً أو بُغضاً أو تأليفاً أو تفريقاً بين الزوجَين أو المـُتحابَّين وهو شائع كثير (1) .

وإذ قد عرفت أنواع السحر المعروفة عند العرب وعند الناس في مُختلف الأجيال تجد أنْ ليس له واقع في جميع أنواعه، بمعنى: التأثير في تغيير اتجاه المسير الذي جرت عليه الطبيعة تأثيراً خارقاً للعادة؛ ومِن ثَمّ فقد أنكرته أصحاب المذاهب العقليّة من علماء الإسلام، ولم يعتبروه شيئاً وراء التمويه والشعوذة والتخييل؛ لأجل التلاعب بعقول السُذَّج الضعفاء.

____________________

(1) التفسير الكبير، ج3، ص206 - 213.

٢٠٦

قال الرازي: أَمّا المعتزلة فقد أنكروا السحر فيما عدى التمويه والشعوذة، ولعلّهم كفَّروا مُعتقِدَ تأثير الكواكب وتسخيرها أو تسخير الجنّ وما شاكل، ممّا ينافي التوحيد في الربوبيّة أو يخالف حِكمته تعالى في الخلق والتدبير.

قال: وأمّا أهل السُنّة فقد جوّزوا ذلك، بأنْ يَطير إنسان في الهواء بِلا سبب طبيعي، أو يُحوِّل إنساناً إلى حمار أو حماراً إلى إنسان، الأمر الذي لا يتنافى وربوبيّته تعالى؛ حيث جرت سنّته على إقدار الساحر في تأثير سحره عندما يقرأ رُقىً أو يُزمزم وِرداً (1) ؛ واستندوا في ذلك إلى روايات واهية تزعم أنّ اليهود سحرت النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) فكان يَتخيّل أنّه فعل شيئاً ولم يفعله، وما إلى ذلك من أكاذيب فاضحة، زيّفناها مُسبقاً.

وأفظع من الكلّ تعاليق ابن المنير الإسكندري على الكشّاف بهذا الشأن، منها قوله - عند كلام الزمخشري ( سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ ) أي أَروها بالحِيَل والشعوذة وخيّلوا إليها ما الحقيقة بخلافه -: هذا الإنكار مُعتَقَد المعتزلة، ومُعتَقَد أهل السنّة الإقرار بوجود السحر، ولا يمنع عند أهل السنّة أنْ يرقى الساحر في الهواء ويَستدّق فيتولّج في الكوّة الضيّقة، ولا يمنع أن يفعل اللّه عند إرشاد الساحر ما يستأثر الاقتدار عليه، وذلك واقع بقدرة اللّه عند إرشاد الساحر، هذا هو الحقّ والمـُعتَقَد الصدق.

قال: وإنّما أجريتُ هذا الفصل لأنّ كلام الزمخشري لا يخلو من رمزٍ إلى إنكاره، إلاّ أنّ هذا النصّ القاطع بوقوعه يلجمه عن التصريح بالدفاع وكشف القِناع، ولا يدعه التصميم على اعتقاد المـُعتزلة من التنفيس عمّا في نفسه، فيُسمّيه شعوذة وَحيلة، وبالقطع يعلم أنّ الشعوذة لا تعمل في يد ابن عمر حتّى بكوعها، ولا تؤثّر في سيّد البشر حتّى يُخيّل إليه أنّه يأتي نساءه وهو لا يأتيهنّ، وقد ورد ذلك وأمثاله مُستفيضاً واقعاً، والعُمدة أنّ كلّ واقع فبقدرة اللّه تعالى (2) .

وهذا الذي ذَكَره ابن المنير ونَسَبه إلى أهل السنّة إنّما هو مَذهب الأشعري البائد، أمّا علماء أهل السنّة اليوم فقد واكبوا إخوانهم من أهل التحقيق في النظر، ولم يَعيروا لِما يَذكره أهل السفاسف اهتماماً، ولم يَعتبروا من مزاعمهم في السحر وزناً سِوى تمويهٍ مجرَّد، وتخييلٍ كاذب، أو مشيءٍ في النميمة، وبثِّ روح الفُرقة، أو ألاعيب تقام بها في الأفراح.

____________________

(1) المصدر: ص213.

(2) هامش الكشّاف، ج2، ص140.

٢٠٧

قال الشيخ مُحمّد عَبدَه: السحر عند العرب كلّ ما لطُف مأخذه ودقّ وخَفيَ... وقد وصف اللّه السحر في القرآن بأنّه تخييل يخدع الأَعيُن فيُريها ما ليس بكائن كائناً - ثُمّ يَذكر الآيات ويقول: - ومجموع هذه النصوص يدلّ على أنّ السحر إمّا حيلة وشعوذة، وإمّا صناعة علميّة خفيّة يَعرفها بعض الناس ويجهلها الأكثرون، فيُسمّون العمل بها سحراً لخفاء سببه ولُطفِ مأخذه، ويُمكن أن يُعدّ منه تأثير النفس الإنسانيّة في نفسٍ أُخرى لمِثل هذه العلّة.

وقد قال المؤرّخون: إنّ سَحَرة فرعون قد استعانوا بالزئبق على إظهار الحبال والعصيّ بصور الحيّات والثعابين وتخييل أنّها تسعى، وقد اعتاد الّذين اتخذوا التأثيرات النفسيّة صناعةً ووسيلةً للمعاش أن يستعينوا بكلامٍ مُبهم وأسماء غريبة اشتُهر عند الناس أنّها من أسماء الشياطين ومُلوك الجانّ، وأنّهم يحضرون إذا دُعوا بها ويَكونون مُسخّرين للداعي، ولمِثل هذا الكلام تأثير في إثارة الوهم، عُرف بالتجربة؛ وسببه اعتقاد الواهم أنّ الشياطين يستجيبون لقارئه ويُطيعون أمره، ومنهم مَن يعتقد أنّ فيه خاصّية التأثير وليس فيه خاصّية وإنّما تلك العقيدة الفاسدة تَفعل في النفس الواهمة ما يُغني مُنتحِل السحر عن توجيه همّته وتأثير إرادته، وهذا هو السبب في اعتقاد الدُّهماء (1) أنّ السحر عمل يُستعان عليه بالشياطين وأرواح الكواكب (2) .

وقد اقتفى أثره الشيخ المراغي في عبارة اختصرها من كلام أُستاذه الشيخ مُحمّد عَبدَه (3) .

وقال سيّد قطب - عند تفسير سورة الفلق -: والسحر لا يُغيّر من طبيعة الأشياء، ولا يُنشئ حقيقةً جديدةً لها، ولكنّه يُخيّل للحواسّ والمشاعر بما يُريده الساحر، وهذا هو السحر كما صوّره القرآن الكريم في قصّة موسى (عليه السلام) من سورة طه ( فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ) وهكذا لم تَنقلب حبالُهم وعصيّهم حيّاتٍ فعلاً، ولكن

____________________

(1) جمع الدهيم وهو الأحمق السفيه.

(2) تفسير المنار، ج1، ص400.

(3) تفسير المراغي، ج1، ص180 - 181.

٢٠٨

خُيّل إلى الناس أنّها تسعى، وهذه هي طبيعة السحر كما ينبغي لنا أن نسلّم بها، وهو بهذه الطبيعة يؤثّر في الناس ويُنشئ لهم مشاعر وِفق إيحائه، مشاعر تُخيفهم وتُؤذيهم وتوجّههم الوجهة التي يريدها الساحر، وهو شرّ يستعاذ منه باللّه ويُلجأ منه إلى حماه (1) .

وقد أَعرب شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي(قدّس سرّه) عن مُعتَقَد أهل الحقّ في السحر وأنْ لا حقيقة له، قال: ذكروا للسحر معاني أربعة:

أحدها: أنّه خُدَع ومخاريق وتمويهات لا حقيقة لها، يُخيَّل إلى المسحور أنّ لها حقيقة.

الثاني: أنّه أخذ بالعين على وجه الحيلة.

الثالث: أنّه قَلبُ الحيوان من صورةٍ إلى أُخرى، وإنشاء الأجسام على وجه الاختراع، فيُمكن الساحر أن يقلب الإنسان حماراً ويُنشئ أجساماً.

الرابع: أنّه ضَربٌ مِن خدمَة الجنّ.

قال: وأقرب الأقوال هو الأوّل؛ لأنّ كلّ شيء خرج عن مَجرى العادة فإنّه سحر [ في مزعومهم ] لا يجوز أنْ يَتأتّى من الساحر، ومَن جوّز شيئاً من هذا فقد كَفَر؛ لأنّه لا يُمكن مع ذلك العلِمُ بصحّة المعجزات الدالّة على النبوّات؛ لأنّه أجاز مِثلَه على جهة الحِيلَة والسحر (2) .

وهكذا ذهب إلى إنكاره في كتاب الخلاف (3) .

وقال الطبرسي: السحر والكهانة والحِيلَة نظائر، ومن السحر، الأُخْذَةُ التي تأخذ العين حتّى يُظنّ أنّ الأمر كما ترى وليس الأمر كما ترى، والجمع: الأُخَذ، فالسحر عمل خفيّ لخفاء سببه، يُصوّر الشيء بخلاف صورته ويَقلبه عن جنسه في الظاهر ولا يقلبه عن جنسه في الحقيقة، ألا ترى إلى قوله سبحانه وتعالى: ( يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ) ؟ (4) .

____________________

(1) في ظِلال القرآن، المجلّد 8، ص709، ج30، ص291.

(2) تفسير التبيان، ج1، ص374.

(3) نقل عن أبي جعفر الاسترابادي أنّه لا حقيقة له وإنّما هو تخييل وشعبذة، وبه قال المغربي من أهل الظاهر، ثُمّ قال: وهو الذي يَقوى في نفسي، راجع: الخلاف، ج2، ص422، مسألة 14، من كتاب كفّارة القتل.

(4) مجمع البيان، ج1، ص170.

٢٠٩

وقال المجلسي العظيم - في كلامٍ له عن السحر ناظرٍ إلى ما ننقله عن ابن خلدون -: وأمّا ما يُذكر مِن بلاد التُرك أنّهم يعملون ما يَحدث به السُحُب والأَمطار، فتأثير أعمال هؤلاء الكفرة في الآثار العلوية وما به نظام العالَم ممّا تأبى عنه العقول السليمة والأفهام القويمة، ولم يَثبُت عندنا بخبر مَن يُوثق بقوله (1) .

والعجب من بعض الكُتّاب العصريّين جَنَح إلى ترجيح الرأي القائل بحقيقة السحر وأنّ له واقعاً يؤثّر في قلب الواقعيّة حقيقة، واقتفى في ذلك بعض أقوال القدماء فيما نقلوه من حكايات هي أشبه بالخُرافات منها بالواقعيّات.

هذا الأُستاذ مُحمّد فريد وجدي يَنقل أوّلاً عن مقدّمة ابن خلدون اعترافه بحقيقة السحر، ثم يُعقّبه باستنكار الغربيّين ويَحمل عليهم بأنّهم قاصرو النظر في إطارٍ من المادّيات ويجعلون العالَم كلّه في دائرة أضيق مِن سمِّ الخِيَاط، وأخيراً يُرجّح أنّ له حقيقةً، ويذكر له شاهداً في قصّةٍ خياليّة، وإليك بعض كلامه ونُقُوله عن ابن خلدون وغيره:

قال ابن خلدون في مقدّمته: السحر، عِلم بكيفية الاستعدادات تَقتدر النفوسُ البشريّة به على التأثيرات في عالم العناصر إمّا بغير مُعين أو بمعين من الأمور السماويّة والأَوّل هو السّحر، والثاني هو الطِلَّسمات، قال: ولنُقدّم هنا مقدّمةً يتبّين بها حقيقة السحر، وذلك أنّ النفوس البشريّة وإن كانت واحدة بالنوع فهي مُختلفة بالخواصّ، فنفوس الأنبياء لها خاصية تستعدّ بها للمعرفة الربّانيّة ومُخاطبة الملائكة، وما يتّسع في ذلك مِن التأثير في الأكوان، واستجلاب روحانيّة الكواكب للتصرّف فيها، والتأثير بقوّةٍ نفسانيّة أو شيطانيّة.

فأمّا تأثير الأنبياء فمدد إلهي وخاصّية ربّانيّة، ونفوس الكَهَنة لها خاصّية الاطّلاع على المـُغيّبات بقُوى شيطانيّة، وهكذا كلّ صنف مختصّ بخاصّية لا توجد في الآخر، والنفوس الساحرة على مراتب ثلاث، فأَوّلها المؤثّرة بالهمّة فقط من غير آلةٍ ولا مُعين وهذا هو الذي يُسمّيه الفلاسفة السحر، والثاني بمُعين مِن مزاج الأفلاك أو العناصر أو خواصّ الأعداد ويُسمّونه الطِلَّسمات، وهو أضعف رتبةً مِن الأَوّل، والثالث تأثير في القُوى

____________________

(1) بحار الأنوار، ج60، ص41 - 42.

٢١٠

المتخيّلة، يَعمد صاحب هذا التأثير إلى القُوى المـُتخيّلة فيتصرّف فيها بنوعٍ مِن التصرّف، ويُلقي فيها أنواعاً من الخيالات والمحاكاة وصُوَراً ممّا يقصده مِن ذلك، ثُمّ يُنزلها إلى الحسّ مِن الرائين بقوّة نفسه المؤثّرة فيه، فينظر الرَّاؤون كأنّها في الخارج وليس هناك شيء من ذلك كما يُحكى عن بعضهم أنّه يُري البساتين والأنهار والقصور، وليس هناك شيء من ذلك. ويُسمّى هذا عند الفلاسفة الشعوذة أو الشعبذة.

قال: ثُمّ هذه الخاصّية تكون في الساحر بالقوّة شأن القُوى البشريّة كلّها، وإنّما تَخرج من القوّة إلى الفعل بالرياضة، ورياضة السحر كلّها إنّما تكون بالتوجّه إلى الأفلاك والكواكب والعوالم العلويّة والشياطين، بأنواع التعظيم والعبادة والخضوع والتذلّل، فهي لذلك وجهةٌ إلى غير اللّه وسجود لغير اللّه، والوجهة إلى غير اللّه كفر، فلهذا كان السحر كفراً والكفر مِن موادّه وأسبابه.

قال: واعلم أنّ وجود السحر لا مِرْية فيه بين العقلاء من أجل التأثير الذي ذكرناه، وقد نطق به القرآن، قال اللّه تعالى: ( وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ ) (1) ، وسُحِر رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) حتّى كان يُخيَّل إليه أنّه يَفعل الشيء ولا يفعله، وجُعل سِحرُه في مِشطٍ ومُشاقةٍ وجُفّ طِلعةٍ، ودُفن في بئر ذروان ، فأنزل اللّه عليه ( وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ) (2) ، قالت عائشة: كان لا يُقرأ على عُقدةٍ من تلك العُقد التي سُحِر فيها إلاّ انحلّت.

قال: ورأينا بالعيان مَن يُصوّر صورةَ الشخص المسحور بخواصّ أشياء مقابلةٍ لما نَواه وحاوله، موجودةٍ بالمسحور، وأمثال تلك المعاني من أسماء وصفات في التأليف والتفريق، ثُمّ يتكلّم على تلك الصورة التي أقامها مقام الشخص المسحور عيناً أو معنىً، ثُمّ يَنفث مِن ريقه بعد اجتماعه في فيه بتكرير مَخارج تلك الحروف من الكلام السوء، ويعقد ذلك المعنى في سببٍ أعدّه لذلك تفاؤلاً بالعُقد واللزام وأُخذ العهد على مَن أشرك به

____________________

(1) البقرة 2: 102.

(2) الفلق 113: 4.

٢١١

مِن الجنّ في نفثه، في فعله ذلك استشعاراً للعزيمة بالعزم، ولتلك البنية والأسماء السيّئة روح خبيثة تخرج منه مع النفخ متعلّقةً بريقه الخارج مِن فيه بالنفث، فتنزل عنها أرواح خبيثة ويقع عن ذلك بالمسحور ما يحاوله الساحر!

قال: وشاهدنا أيضاً من المـُنتحلين للسحر وعمله مَن يُشير إلى كساء أو جلدٍ ويتكلّم عليه في سرّه، فإذا هو مقطوع متخرّق، ويشير إلى بُطون الغنم كذلك في مراعيها بالبعج (أي شقّ البطن) فإذا أمعاؤها ساقطة من بطونها إلى الأرض.

وسَمِعنا أنّ بأرض الهند لهذا العهد مَن يشير إلى إنسان فيتحتّت (أي يتفتت ويتساقط) قلبه ويقع ميّتاً، وينقلب عن قلبه فلا يوجد في حشاه، ويُشير إلى الرمّانة وتُفتح فلا يوجد مِن حبوبها شيء.

قال: وكذلك سَمِعنا أنّ بأرض السودان وأرض التُرك مَن يسحر السحاب فيُمطر الأرض المخصوصة، وكذلك رأينا من عمل الطِلَِّسمات عجائب من الأعداد المـُتحابّة... ونَقَل أصحاب الطِلّسمات أنّ لتلك الأعداد أثراً في الأُلفة بين المتحابَّين واجتماعهما، إذا وُضِع لهما مِثالان أحدهما بطالع الزهرة وهي في بيتها أو شُرَفِها ناظرةٌ إلى القمر نظر مودّةٍ وقبولٍ (1) .

ثمّ يذكر الأُستاذ وجدي ما شاهده الغربيّون في تَجوالهم القارّات مِن غرائب صَدَرت على أيدي كَهَنة القبائل، ولكنّهم جرّبوها بأنفسهم فوجدوها ( كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً ) (2) ، فرَأَوها لا تؤثِّر أدنى تأثير، فزالت جميع الأوهام التي كان الأقدمون يُحيطون بها من الكيمياء والنجامة، وتَولّد من الأُولى الكيمياء الحقيقيّة، ومِن الثانية علم الفلك الصحيح.

قال الأُستاذ وجدي: وقد ذَكَر القرآن الكريم السحر في مواضع كثيرة، وقد مضى متقدّمو الأُمّة مُعتقدين وجوده وأنّه من العلوم السرّية التي يتحصّل عليها بالرياضة وغيرها.

____________________

(1) راجع: المقدمة لابن خلدون، الفصل 22، ص496 - 499.

(2) النور 24: 39.

٢١٢

ومَاَل بعضهم وكثير من المتأخّرين إلى زَعمِ أنّ السحر سُرعة اليد وصناعة في التمويه، وليس له دليل يسنده، قال: ولكن دليلنا نصّ القرآن وما نقرأه في كُتب الخوارق التي ظهرت في أوربا منذ تسعين سنة باسم (الاسبرتزم) وغيره، ممّا يُرينا جليّاً أنّ هنالك عالَماً روحانيّاً وفيه من الكائنات مالا نتصوّره، وأنّنا نستطيع أنْ نُناجي تلك الكائنات وتُناجينا، ومتى كان هذا مُمكناً وتقرّر أنّ الوجود عامر بالآيات المـُغيّبة فلا يَبعد أن يكون السحر تابعاً لقُوى روحانيّة وأنّه ليس بمجرّد صناعة أو سُرعة يد الساحر.

قال: حكى لي والدي عن مُحمّد وجيهي بيك العُمَري محافظ دمياط سابقاً، وكان رجلاً صَدوقاً تقيّاً، قال: إنّه كان له قريب في بغداد اسمه عزّت باشا وكان شُجاعاً مِقداماً لا يهاب المخاوف، وكان به غَرام لرؤية الأسرار والعجائب، فكان لذلك يتحرّى مُلاقاة الدراويش ويتصيّدهم؛ لأنّ منهم مِن يتّفق أن يكون على شيء ممّا يتحرّى رؤيته، فعثر يوماً بدرويشَينِ غريبَينِ كان من شأنهما أنّ أحدهما يعزم ثُمّ يقول بفمه: هُفْ، فتنفتح جميع نوافذ البيت على سعته مهما كانت مُغلقة مُحكمة الإغلاق، ثُمّ يقول: هُفْ، فتُقفل جميعُها دفعةً واحدةً، وأراه عجائب أُخرى، فسأله عزّت باشا عن السرّ الذي يحدث به ذلك، فقال: إنّه مستخدمٌ إبليسَ نفسه، فطلب منه أنْ يراه، فقال له: لا تقوى على رؤيته، فقال: تَقويان أنتما على رؤيته وأضعفُ أنا عن ذلك؟! مع أنّي كم جُبت المخاوف وولجت المعاطب! فقالا: ذلك شيءٌ وهذا شيءٌ آخر، فألحّ عليهما، فانقادا له فجلسا في الظُلمة وأخذ أحدهما يَعزم مدّةً، فانشقّ السقف وظهرت النجوم ثُمّ تدلّت منه صورة لا يَتَصوَّر الوهم أفظع منها، فما أنْ وقع عليها بصرُه حتّى قام مَذعوراً وتلمـّس الباب حتّى وجده وصعد إلى أهله فجمعهم حوله، ومازال مُضطرباً من الذُعر حتّى أصبح وبقي بعدها أربعين يوماً لا يمشي خُطوةً حتّى يَستصحب معه بعضَ أهله من شدّة ما لحقه من الخوف (1) .

ولعلّ صاحبنا الأُستاذ وجدي فريدٌ وسط زملائه المتنوّري الفكر في قبوله ما يرفضه العقل الرشيد فضلاً عن العلم والحِكمة القويمة، إنّنا لا ننكر أنّ هناك نفوساً قويةً

____________________

(1) دائرة معارف القرن العشرين، ج5، ص55 - 67.

٢١٣

من أصحاب التمائم والزمازم يؤثّرون بقوّة إرادتهم في وَهم ضُعفاء النفوس، فيُخيّلون إليهم صوَراً وأشكالاً حسبما يشاءون، والغالب أنّ أمثال هؤلاء المـُدّعين للسحر وتقليب الحقائق هم أُناس مَفاليس يَستدرّون أموال ذوي العقول السُذّج؛ لأجل تأمين معيشتهم الحقيرة، وهو أحد طُرق الاستجداء، فلو كانوا أصحاب قُدَر خارقة لعالجوا لأنفسهم ما يَسدّ حاجتهم عن الاستجداء لا العيش على فضلة الآخرين وعلى طريقة التدليس والتزوير، الأمر الذي يكون من أردأ أنحاء المعيشة في الحياة! إنّهم لا يَملكون سدّ رَمَقهم فكيف بالتسخير للأرواح المدبّرات؟!

يقول ابن خلدون - الذي حفل بهذه المزعومة في حفاوةٍ وتفصيل -: إنّ التأثير الذي لهم إنّما هو فيما سِوى الإنسان الحرّ مِن المتاع والحيوان والرقيق، ويُعبّرون عن ذلك بقولهم: إنّما نفعل فيما تمشي فيه الدراهم، أي ما يُملك ويُباع ويُشترى... قال: ومِن هؤلاء مَن يُسمّى بالبعّاجين، يشيرون إلى بطن الغنم فتنبعج؛ لأنّ أكثر ما يُنتحل من السحر بعج الأنعام؛ يُرهبون بذلك أهلها ليعطوهم مِن فضلها وهم مُستترون بذلك في الغاية خوفاً على أنفسهم من الحكّام (1) .

مساكين! لا يمكنهم الدفاع عن أنفسهم فكيف القدرة على قهر الطبيعة وقلبها؟!

والعجب من الأُستاذ وجدي أصاخ بكلّ مسامعه واستسلم لما سطّره ابن خلدون مِن قُدرة الساحر على تسخير الكائنات وسُلطته على الأفلاك - وحسبَها ذوات أنفس وأجرام - (2) والكواكب - حَسَبوها ذوات عقول ومدبِّرات لِما يجري على الأرض - والجنّ والقُوى الروحانيّة، فسخّروها جُمَعَ؛ للتأثير على قلب عناصر المادّة والتصرّف في العالم العلوي والعالَم السفلي جميعاً، يا لها من مَخرَقة وإن شئت فسمّها مَهزلة!! وهناك حكايات وروايات أكثرها تَنمّ عن قوّة التخييل أو هي أكاذيب وأباطيل، وأمّا أصحاب التمائم

____________________

(1) مقدمة ابن خلدون، ص500 - 501.

(2) وهي دوائر وهميّة يَرسمها العقل لكلّ نقطة دائرة ترسيماً في فرض لا في واقع الأمر، نعم ذهب جمع من الأقدمين إلى فرض الأفلاك أجراماً شاعِرة ذوات عقول ونفوس، ولها شأن في تدبير العوالم السُفلى تدبيراً عن علمٍ وإرادة، ومِن ثَمّ جاز تسخيرها في جهة مقاصد السوء!!

٢١٤

والنَفْث فإنّما هم أصحاب النمائم وإيحاء الوساوس للتفرقة بين الزوجَين أو المتحابَّين، ولا يتأتّى من غير الإفساد منه بالأرض، فيَتعمّلون ما يَضرّهم من غير أن ينفعهم شيئاً حسبما وَصَفَهم القرآن الكريم.

نعم هنا شيء لا نُنكره نبّهنا عليه، وهو: أنّ للنفوس البشريّة قدرةً خارقةً يُمكن تَنميتها بالارتياض، إمّا في وِجهة رحمانيّة رفيعة، أو في وِجهة أرضيّة هابطة، والأُولى رياضة النفس يقوم الأنبياء والأولياء والصلحاء فيفوزون بمقامات عالية، وربّما تتسخّر لهم الكائنات، وأمّا الوِجهة الأُخرى الهابطة فيقوم بها أصحاب الارتياض بترك المـُشتهيات ولذائذ الحياة في أشقّ الأحوال وأصعب الأعمال التي لم يأتِ بها اللّهُ من سلطان، ولكنّهم قهروا أنفسهم على نبذ الشهوات واللذائذ وانخلعوا عن زخارف الحياة، وهو عملٌ له قيمته ووزنه في ترك الدنيا الدنية، وحيث لم يكن لهم نصيب في الحياة الأُخرى الخالدة فقد يَمنحه تعالى مِنحةً تقتنع أنفسهم بها تجاه ما تحمّلوا من مَشاقّ الحياة، الأمر الذي قد نُشاهده من خوارق على يد مُرتاضي الهند وغيرها من بلاد، ولكن في إطار محدود وعلى شريطة أن لا يُزاولوها على جهة الفساد في الأرض، وإلاّ فيُؤخذ منهم فور إرادة السوء، نظير ما قيل بشأن (بلعام بن باعورا) قيل: كان رجلاً صالحاً من قوم موسى، وقد مَنحه اللّه استجابة دعائه، فحاول تقرّباً إلى بعض الأمراء أن يَدعو على قوم مؤمنين، فسلبه اللّه المِنحة وظلّ خاسراً دينَه ودنياه. قيل: والآية التالية ناظرة إلى هذا الحادث: ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ) (1) .

أمّا العامل بالشرط ولم يَتجاوز حدودَه المـَضروبة فسَتدوم له مِنحته مادام باقياً على عهده، أو يُسلِم فتُدّخر له مثوبته في الدار العُقبى مثوبةً باقيةً.

رُوي أنّ شيخاً من الأكابر رأى في طريقه لُمّة مجتمعة حول رجل فسأل عنه، قيل له: إنّه يَعلم الغيب، فأتاه وسأله عن شيء أخفاه في كفّه فأخبره به، فسأله الشيخ عن أيّ

____________________

(1) راجع: جامع البيان، ج9، ص82 - 84 والآية 175 و176 من سورة الأعراف.

٢١٥

ارتياض بَلَغت هذا المقام؟ قال: بمُخالفة النفس، لقد دأبتُ أن أُخالف كلّ ما تشتهيه نفسي وتهواه، قال له الشيخ: هذا عمل جسيم، ولكن هل عرضتَ على نفسك الإسلام؟ - وكان الرجل مِن براهمة الهند - قال: لا، قال له الشيخ: أَعرِضه على نفسك ثم انظر هل توافقك عليه أم تخالفك؟ فعرض الرجل الإسلام على نفسه وأبدى أنّ نفَسَه ترفضه! فقال له الشيخ: إذن خالِف هوى نفسك، على دأبك القديم! فقبِل الرجل واعتنق الإسلام، وعندئذٍ سأله الشيخ عن شيء أخفاه في كفّه، فلم يستطع الرجل أن يُخبر عنه وزالَ عنه عِلمـُه بالغيب وتعجّب الرجل من ذلك! قال له الشيخ: لا تعجب، إنّك كنت على أمرٍ عظيم، وحيث لم يكن لك نصيب في العُقبى جازاك اللّه بطرفٍ من عنايته عليك في هذه الحياة، فلمـّا أسلمتَ ادّخر اللّه لك ذلك مثوبةً عُظمى في الآخرة.

ولبراهمة الهند المرتاضين قضايا عجيبة وتصرّفات خارقة تعود إلى مَقدِرتهم النفسيّة الفائقة، الحاصلة على أثر ترك الملاذّ وتَحمّل المـَشاقّ، فمُنحوا شيئاً من إمكان التصرّفات الخارقة مقتنعين بذلك تمام الاقتناع؛ حيث لا خلاق لهم في الآخرة.

جاء في مُذكّرات مُرافِق المـَلِك جورج السادس عاهل الحكومة البريطانيّة في سفرته إلى الهند أيّام الاحتلال مشاهد عجيبة بهذا الشأن.

يقول: وقف القطار في إحدى المحطّات لخزن الماء، فنزل المـَلِك وجعل يتمشّى وإذا بمُرتاض قابع في ناحية وجده في غاية الوساخة فَنَصَحه أنْ يهتمّ بنظافة جسمه وثيابه وحاول مساعدته، وإذا بالمـُرتاض اغتاظ لذلك ولم يَجبه بشيء، فانصرف المـَلِك وركب القطار، وإذا بالقطار لا يتحرّك، فقام المـُهندسون بالفحص من غير أن يجدوا فيه نقصاً، وكان مع المـَلِك ضبّاط هنود. ورأوا المـُرتاض القابع في زاوية، فسألوا المـَلِك: هل قال للمـُرتاض شيئاً يُغيظه؟ فأفصح المـَلِك بما دارَ بينه وبين المـُرتاض من غير أنْ يسيء إليه بكلام أو غيره، قال الضباط: لعلّه سخط عليك وحسبه تجاسراً عليه وهو الذي أوقف القطار، فجاء المـَلِك واستماح من المـُرتاض واعتذر منه لو غاظَه كلامُه، فرفع المـُرتاض رأسه - يبدو في وجهه الرضا - وأشار إلى القطار فتحرّك لساعته.

٢١٦

وجاء فيها أيضاً أنّهم قصدوا زيارةَ كبير المـُرتاضين وكان مَقرّه في غابة مِلؤها حشرات وبَعُوض ضارية، ولمـّا أنْ اقتربوا من مقرّ المـُرتاض بكيلومترات وإذا الفضاء صحو لا حشرة فيه ولا بَعُوضة، فتعجّبوا من ذلك وسألوا المـُرتاض عن السرّ، قال: إنّا لا نمنح لها بالاقتراب مِن حريمنا!

كلّ ذلك إنْ دلّ فإنّما يدلّ على قُدرة نفسيّة كبيرة حُظي بها هؤلاء المـُرتاضون على أثر رياضتهم ونبذ المشتهيات، وليس من السحر في شيء.

أضف إلى ذلك أنّ النفس بذاتها قُدرة جبّارة بها يَتمكّن الإنسان من التغلّب على الطبيعة، من غير أن يستعين بقدرةٍ خارجة عن إطار نفسه، لكن إذا عَرف مِن نفسه هذه القُدرة واستعملها بقوّة وعزيمة راسخة.

قرأت في تأريخ ثورة فرنسا الكبرى عن شخصية (ميرابو) الرجل السياسي الكبير من أركان الثورة (1749 - 1791م) على عهد المـَلِك لويس الخامس عشر، كان نائباً في مجلس النيابة وكان ذا منطق قويّ جبّار بحيث كان يَرضخ له المؤالف والمخالف؛ لقوّة خطاباته.

يُحكى عن مقدرته النفسيّة الخارقة قضايا، منها ما ذَكَره أحد زملائه وكان يُرافقه في قصده لزيارة قبرِ والدته، وإذا بكلبٍ هارش هَمّ عليهما وكان ضارياً شديد البأس، فأخذ صاحبه يتوحّش ويلتمس الفرار، لكن ميرابو في هدوء وطمأنينة وأخذ يُهدِّأُ من رَوعة صاحبه قائلاً: لا تستوحش أنا أكفيكه، فجعل يُحدّق النظر في عينَي الكلب وإذا به يَهْدَأُ حتى افترش بذراعيه على الأرض كالخاشع أمام ميرابو! يُنقل بشأنه مِن أمثال هذه القضايا كثير.

شهدتُ إحدى الاحتفالات في مراسم العزاء على سيّد الشهداء ليلة الحادي عشر من محرّم الحرام بكربلاء المقدّسة عام (1370هـ. ق) وكان الاحتفال بشأن دخول النار المـُتوهِّجة كما هو مرسوم عند الهنود، وقد توقّدت النار في حَطبٍ ضخمٍ حوالي ساعات حتّى صارت جمرات مُتوهّجة في حُفرة مستطيلة الشكل مترَين في ثلاث أو أربع مترات في عُمق ثلاثين سانتيمتراً مِلؤها الجمرات المـُتَوقِّدة، فجاء هنود أربعة مسلمون وجعلوا

٢١٧

يَلطمون على صدورهم لطماً خفيفاً هادئاً ويترنّمون بـ (يا حسين يا حسين) وكشفوا عن ساقهم وهم حُفاة، ومِن ورائهم صبّي على هيأتهم ربّما كان عُمره عشر سنوات ونحو ذلك، فدخلوا الحُفرة مستقبلِين القِبلة بهدوء وطمأنينة بلا تَهيّج ولا اضطراب، واجتازوا الحفرة وخرجوا من الجانب الآخر بسلام لم يمسّهم أثر من الحريق، هذا ما شاهدتُه بعيني وكثيرٌ من وجوه السادة الأجلاّء بكربلاء حضور يَرون المشهد الرهيب بكلّ إعجابٍ وإكبار!

واستمعتُ إلى الإذاعات هذه الأيّام أنّ هذه عادة جارية بين الهنود، من مسلمين وغير مسلمين، وأنّها تمسّ عزيمة النفس القوية بأنّها قاهرة تغلب على تأثير النار في أجسامهم، الأمر الذي يُشكّل ركيزةَ السرّ في تَغلّبهم على توهّج النار المـُلتهِبة، ويَحضر المراسم كثير من الخلائق المجتمعة من حول العالَم ليروا المشهد عن كَثَب بما لا يدع مجالاً للاستنكار.

وهناك نفوس قُدسيّة أكبر قدرة على التغلّب على نواميس الطبيعة بفضل اعتلاء قدرتهم النفسيّة الإلهيّة.

تلك السيّدة زينب الكبرى بنت الإمام أمير المؤمنين (عليه وعلى آله أفضل صلوات المصلّين) عندما حاولت أنْ تخطب خُطبتِها المعروفة في سُوق الكوفة وهي رَهْنُ إسارتها إلى يزيد الطاغية، فأشارت إلى الجمع أنْ اسكتوا، قال الراوي: فعند ذلك سكنت الأنفاس وهدأت الأجراس، وجعلت تَخطب في جوٍّ مِلؤه الهدوء حتّى مِن صفير الأجراس! إنّ هذه قوّتها النفسيّة الخارقة أثّرت حتّى في الجمادات!

وكان لنا صديق يعمل في تجهيز الأدوات الكهربائيّة، فرأيتُه وهو يُمسك على سلك كهربائي مُجرّد عن الغلاف ويعمل في مزاولته لتجهيز حفلة كبيرة بمناسبة ميلاد الإمام المنتَظَر الحجّة بن الحسن (عجّل اللّه تعالى فرجه الشريف) ليلة النصف من شعبان، فتعجّبت منه وهو ماسك على السلك المـُجرّد يَعمل به، واقتربتُ منه، فقال: لا تَمسّني وكلّ جسدي مِلؤه الكهرباء، فقلت له: وكيف أنت وقد مَسَكت السلك؟! قال: أنا أتغلّب على الكهرباء وأضغط عليه بكلّ قوّة فلا يغلبني، وهذا عملي المستمرّ يوميّاً، أَغلِب على القوّة

٢١٨

الكهربائية ولا تغلبني، بفضل قُدرتي على التغلّب عليها في صلابةٍ قوية! فتعجّبتُ من صنيعه، ولكن لا عجب بعد أن كانت النفس البشريّة ذات قوّة قاهرة جبّارة...

وعلى أي حال، فهذا من قدرة النفس الجبّارة، وأين هذا من السحر، على ما حسبه صاحبنا وجدي ومِن قَبله ابن خلدون؟!

تلك مشاهد بل حقائق لا يُمكن إنكارها، إذا ما لاحظنا قُدرة الإنسان النفسيّة الخارقة، الذي تُسخّر له ما في السماوات وما في الأرض جميعاً، بفضلٍ منه تعالى، (والنفس في وحدتها كلُّ القُوى).

أتزعم أنّك جرمٌ صغير

وفيك انطوى العالم الأكبر

هذا من جانب، ومن جانبٍ آخر لا ننكر أنّ وراء هذا العالم المحسوس عالم أرقى مليء بالكائنات العاقلة (ذوات الشعور) من مَلَكٍ أو جنٍّ أو أرواحٍ طيّبةٍ أو خبيثة، ولكن أنّى لهؤلاء الصعاليك (سَحَرة الأرض) الهيمنة على تلك الكائنات المتعالية ذوات القُدَر الجبّارة، إنّهم أعلى كعباً من أنْ تنالها أَيدٍ شلاّء قاصرة، وقد قامت الشواهد المستوعبة على وجود عالَم الغيب وراء عالَم الشهود.

لكن هل بإمكان العائشين على الأرض التغلّب والسيطرة (تسخير) تلك الكائنات المنبثّة وراء سِتار الغيب؟ وقد دلّت الشواهد على أنّهم أعجز من ذلك، اللّهمّ إلاّ بعض الإيحاءات الخبيثة تُلقيها الشياطين على شاكلتهم في الأرض ( وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ) (1) ، فهم الذين وقعوا في فخّ الشياطين وحسبوا أنّها مُسخَّرة لهم، يا لها من مهزلة تنبؤك عن سفاهةٍ في ذوي العقول الضعيفة، وقد استوفينا الكلام عن ذلك في رسالة كتبناها عن الأرواح.

وبعد، فإذ لم تَثبت حقيقة للسحر بمعنى التأثير في قَلب الطبيعة وتسخير الكائنات، نعم سِوى تمائم هي نمائم ووساوس ينفثُوها لفكّ العُقَد وفَصْم الروابط والأواصر بين المتحابّين، ( وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ ) (2) ، ومِن ثَمَّ لا تأثير لدسائسهم في

____________________

(1) الأنعام 6: 121.

(2) البقرة 2: 102.

٢١٩

نفوسٍ متّكلةٍ على اللّه قويمةٍ بعنايته تعالى ( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ) (1) ، فكان ما تعلّموه ضرر عليهم ولا ينفعهم شيئاً، الأمر الذي جعلهم عَجَزة ومساكين وعائشين على فَضْلَة الأثرياء أو الضعفاء الأغنياء، قال تعالى بشأنهم: ( وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ) (2) .

وهذا طابعٌ وسَمَهم به القرآنُ الكريم. حيثُ يقولُ - مُوَجِّهاً خطابه إلى المشركين في زَعمِهم أنّ النبيّ جاء بسحر -: ( أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ ) (3) ، دليلاً على أنّ الذي جاء به نبيّ الإسلام لا صلة له بالسحر؛ حيث قد توفّق في تبليغ دعوته والتأثير بشريعته تأثيراً في واقع الحياة، الأمر الذي لا يتلاءم وسحر السحَرَة غير المـُفلحين ولا موفّقين في مسيرتهم المنحرفة بل مكدودين عاجزين أذلاّء ومساكين حُقَراء.

هذا هو منطق القرآن ونظرته القاطعة بشأن السحر والسَحَرة، لا واقع له ولا تأثير خارج إطار الدسائس الخبيثة، وأنْ لا قُدرة لساحرٍ ولا هيمنة على سكّان الأرض السُفلى، فكيف بالسلطة على سكّان السماوات العُلى؟ فلا نجاح لهم في عملٍ ولا حظّ لهم في سعادة الحياة.

* * *

ثُمّ فلنفرض أنّ جاهليّة العرب كانت تعتقد بحقيقة السحر عقيدةً جاهليّة بائدة، لكن هل هناك شاهد على أنّ القرآن وافقهم أو جاراهم على تلك العقيدة الباطلة؟ فلننظر في الموارد التي أخذوها شواهد على زَعم الموافقة أو المجاراة، وهي ثلاثة موارد: سَحَرة فرعون، سَحَرة بابل، النفّاثات في العُقَد، نبحث عنها على الترتيب:

سَحَرَةُ فرعون

ممّا أخذوه شاهداً على ذلك سَحَرة فرعون، حيث يقول عنهم القرآن: ( وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ) (4) .

____________________

(1) الحجر 15: 42؛ الإسراء 17: 65.

(2) طه 20: 69.

(3) يونس 10: 77.

(4) الأعراف 7: 116.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578