شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم10%

شبهات وردود حول القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 578

شبهات وردود حول القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 578 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 297514 / تحميل: 13675
الحجم الحجم الحجم
شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

بل وَرَفع مِن مكانتهم حتى أجاز الائتمام بهم في الصلاة - وهي أفضل عبادات الإسلام -، جاء في (قرب الإسناد) للحميري عن الإمام الصادق عن آبائه عن عليّ (عليهم السلام) قال: (لا بأس بأن يَؤمّ المملوك إذا كان قارئاً) (١) .

وليكون ذلك دليلاً على صلاحيّتهم لتصدّي جميع المناصب الرسميّة وغير الرسميّة في النظام الإسلامي وأن لا فَرق بينهم وبين الأحرار في ذات الأمر، وهذا مِن المساواة في أفخم وأضخم شكلها المعقول؛ ولذلك نرى الرسول (صلّى اللّه عليه وآله) قد أَمّر زيداً مولاه على رأس جيش فيه كِبار الأنصار والمهاجرين، فلمـّا قُتل زيد ولّى ابنه أسامة قيادة الجيش وفيهم أبو بكر وعمر فلم يُعطِ الرقيق بذلك مجرّد المساواة الإنسانيّة، بل أعطاه حقّ القيادة والرئاسة على الأحرار، فأعطى العبيد بذلك الحق في أرفع مناصب الدولة كلّها.

وقد وصل الإسلام في حُسن المعاملة وردّ الاعتبار الإنساني للرقيق إلى درجة عجيبة، حتى ولقد آخى الرسول (صلّى اللّه عليه وآله) بين بعض العبيد وبعض أكابر الأصحاب من سادة العرب، فآخى بين بلال بن رباح وأبي رويحة الخثعمي، وبين مولاه زيد وعمّه حمزة (٢) ، وكانت هذه المؤاخاة صلة حقيقيّة تعدل رابطة الدم والنسب.

كما وزوّج بنت عمته زينب بنت جحش مِن مولاه زيد، والزواج مسألة حسّاسة جدّاً وخاصّة من جانب المرأة، فهي تأبى أن يكون زوجها دونها في الحَسب والنَسب والثراء، وتحسّ أنّ هذا يحطّ مِن شأنها ويغضّ من كبريائها، ولكن الرسول كان يهدف إلى

____________________

اذهب، فأنت حرّ لوجه الله)، قال أبو بصير: فقلت له: جُعلت فداك، كان العتق كفّارة الضرب؟ فسكت! البحار، ج ٧١، ص ١٤٢، رقم ١٢.

وكان رجل من بني فهد يَضرب عبداً له وهو يَستعيذ بالله ولم يُقلع عنه حتّى إذا أبصر رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله) استعاذ به فأقلع عنه، فقال له النبي: (يتعوّذ بالله فلا تُعيذه، ويتعوّذ بمُحمّد فتُعيذه؟! والله أحقّ أن يُجار عائذه مِن مُحمّد! فقال الرجل: هو حرّ لوجه الله، فقال النبي (صلّى اللّه عليه وآله): والذي بعثني بالحقّ نبيّاً لو لم تُعتقه لسَفَعَتْ وجهَك حرّ النار)، بحار الأنوار، ج ٧١، ص ١٤٣، رقم ١٥، وإحياء علوم الدين، ج٢، ص ٢٢٠).

وقال الزهري: متى قلتَ لمـَملوكِك: أخزاك الله، فهو حرّ، المصدر: ج ٢، ص ٢٢٠. والآثار من هذا القبيل كثير.

(١) بحار الأنوار، ج ٨٥، ص ٤٣، نقلاً عن قرب الإسناد، ص٩٥، ط نجف، وللمجلسي هنا (٤٥) بيان وافٍ.

(٢) راجع: السيرة لابن هشام، ج ٢، ص ١٥١ - ١٥٣.

١٨١

معنى أسمى من كل ذلك، وهو رفع الرقيق من الوَهدَة التي دفعته إليها البشريّة الظالمة، إلى حيث مستوى أعظم سادة العرب من قريش.

* * *

كلّ ذلك هي خَطرات واسعة لتحرير الرقيق روحيّاً بردّه إلى الإنسانيّة، ومعاملته على أنّه بشر كريم، لا يَفترق عن السادة مِن حيث الأصل، وإنّما هي ظروف عارضة حدَّت مِن الحريّة الخارجيّة للرقيق في التعامل المـُباشر مع المجتمع، وفيما عدا هذه النقطة كانت للرقيق كلّ حقوق الآدميّين.

ولكن الإسلام لم يكن ليَكتفي بهذا المقدار؛ لأنّ قاعدته الأساسيّة العظمى هي المساواة الكاملة بين البشر، وهي التحرير الكامل لكلّ بشرٍ! وكلّ الذي تقدّم كان تمهيداً للبلوغ إلى هذه الغاية، والتي كان النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) يترقّبها، إمّا في حال حياته أو فيما بعد، ترقّباً غير بعيد.

قال (صلّى اللّه عليه وآله): (ما زالَ جبرائيل يُوصيني بالمـَماليك حتّى ظننتُ أنّه سَيجعل لهم وقتاً إذا بلغوا ذلك الوقت أُعتقوا) (١) .

وبالفعل جَعل وسيلتَينِ كبيرتَينِ: هما العِتق والكتابة إلى التحرّر التامّ، هذا فضلاً عن رفضٍ مطلقٍ لأسباب الاسترقاق - والتي كانت متفشّية وعن طُرق معادية - والنهب والأسر والإغارة الغاشمة، كان الإسلام يَرفضها رفضاً باتّاً؛ وبذلك انسدّ - شرعيّاً - باب الاسترقاق نهائياً منذ ذلك الحين.

ويَكفيك نموذجاً عن شناعة نظام الاسترقاق في العصر الجاهلي، حادث استرقاق زيد بن حارثة الذي تبنّاه الرسول الأعظم (صلّى اللّه عليه وآله):

كانت أمّه سُعدى بنت ثعلبة من بني معن مِن طيء، أرادت أنْ تزور قومَها فاصطحبت ابنها زيداً وهو لم يَبلغ الثمانية من عمره، فما أنْ وردت القوم إلاّ وأغارت عليهم خيلُ بني القين، فنهبوا وسلبوا وأسروا، ومِن جملة الأُسارى زيد، فقَدِموا به سوق

____________________

(١) أورده الصدوق في الأمالي، المجلس السادس والستون، ص ٣٨٤، وفي كتابه (مَن لا يحضره الفقيه)، ج ٤، ص ٧.

١٨٢

عكاظ، فاشتراه حكيم بن حزام لعمّته خديجة بنت خويلد، فوهبته خديجة للنبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) بمكّة قبل البعثة، وكان زيد قد بلغ الثمانية.

وكان أبوه قد وَجَدَ لفَقدِه وَجدَاً شديداً، قال فيه:

بكيتُ على زيدٍ ولم أدرِ ما فعل

أحيٌّ يُرجّى أم أتى دونه الأجلُ

فو الله ما أدري وإن كنتُ سائلاً

أَغالَكَ سهلُ الأرضِ أَم غالَك الجبلُ

فيا ليتَ شِعري هل لك الدهر رجعة

فَحسبي مِن الدنيا رُجوعُك لي عللُ

تُذكرنِيه الشمسُ عند طلوعِها

ويَعرض ذِكراه إذا قاربَ الطفلُ

وإنْ هبّتْ الأرواحُ هيّجنّ ذِكره

فياطول ما حزّني عليه ويا وجلُ

سأعملُ نصّ العيش في الأرض جاهدا

ولا أسأم التَطواف أو تسأم الإبلُ

حياتي أو تأتي عليّ منيّتي

وكلّ امرئ فانٍ وإنْ غرّه الأملُ

... إلى آخر أبيات له تُنبؤك عن شديد حُزنه الذي لم يَزل يُكابده...

ثمّ إنّ أُناساً مِن كلب (قوم زيد) حجّوا فرأَوا زيداً فعرفهم وعرفوه وقال لهم: أبلغوا عنّي أهلي هذه الأبيات، فإنّي أعلم أنّهم جَزَعوا عليّ فقال:

أَحنّ إلى قومي وإنْ كنتُ نائياً

فإنّي قعيدُ البيت عندَ المشاعرِ

فكفّوا مِن الوَجد الذي قد شَجاكُمُ

ولا تعملوا في الأرض نصّ الأباعرِ

فإنّي بحمدِ الله في خير أُسرةٍ

كرامٍ معدٍّ كابراً بعد كابرِ

١٨٣

فانطلق الكلبيّون فأَعلَموا أباه ووصفوا له موضَعه وعند مَن هو، فخرج حارثة وأخوه كعب لفدائه فَقَدِما مكّة فدخلا على النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) فقالا: يا ابن عبد المطّلب، يا ابن هاشم، يا ابن سيّد قومه، جئناك في ابننا عندك فامنُن علينا وأَحسِن إلينا في فدائه! فقال: (مَن هو)؟ قالا: زيد بن حارثة، فدعاه وخيّره فاختار البقاء في كَنَف رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله) ورضيا بذلك.

وكان (صلّى اللّه عليه وآله) قد عَزم على تبنّيه، فتبنّاه على ملأ مِن قريش، فأصبح مولاه عن رضا نفسه (١) .

فيا تُرى هل مِن المعقول أنّ شريعةً - كشريعة الإسلام الداعية إلى تحرّر الإنسانيّة - تُقرّر مِن رقّيّةٍ مِثل زيد، بهذا الشكل الفضيع المشجي الذي تَمجّه النفوس الأبيّة فضلاً عن العقول الحكيمة؟!

كلاّ، لا يُقرّره أبداً، ما عرفنا من الإسلام دين الفطرة، دين الإنسانيّة المـُتحرّرة، الذي يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المـُنكر، ويُحلّ لهم الطيّبات ويُحرّم لهم الخبائث ويَضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم (٢) .

قالوا:

وهنا يَخطر السؤال الحائر على الأفكار والضمائر: إذا كان الإسلام قد خطا هذه الخُطوات كلّها نحو تحرير الرقيق، وَسَبق بها العالم كلّها مُتطوِّعاً غير مُضطرّ ولا مضغوط عليه، فلماذا لم يَخطُ الخُطوة الحاسمة الباقية؟ فيُعلن في صراحة كاملة إلغاء الرّقّ مِن حيث المبدأ، وبذلك يكون قد أسدى للبشريّة خدمةً لا تُقدّر، ويكون هو النظام الأكمل الذي لا شُبهةَ فيه، والجدير حقّاً بأن يصدر عن الله الذي كرّم بني آدم، وفضّلهم على كثير ممّن خلق؟! (٣) .

قلت: ليس يخفى على ذوي اللّبّ أنّ الإسلام قد جفّف منابع الرّقّ كلّها - كما

____________________

(١) راجع: تمام القصّة في أسد الغابة لابن الأثير في ترجمة زيد، ج ٢، ص ٢٢٤ - ٢٢٥.

(٢) من الآية (١٥٧) من سورة الأعراف.

(٣) سؤال طرحه سيد قطب و أجاب عليها بما جاء مُلخَّصاً هنا، (شبهات حول الإسلام، ص ٣٩).

١٨٤

ذَكَرنا - فيما عدا مَنبعاً واحداً لم يكن مِن المصلحة تجفيفُه آنذاك، وذلك هو رقّ الحرب؛ لملابسات سوف نَذكُرُها، وعليه فقد أعلن - لكن في غير صراحة - إلغاء نظام الرّقّ مِن حيث المبدأ، وإن كان التشديد عليه بحاجة إلى توفّر شرائط لم تكن مؤاتية حينذاك، كما أشرنا إليه وسنشير.

وينبغي أنْ نُدرك حقائق اجتماعيّة وسيكولوجيّة وسياسيّة أحاطت بموضوع الرّقّ، وأخّرت هذا الإعلان (الصريح) المـُرتَقب، وإن كان يَنبغي أنْ نُدرك أنّه تأخّر في الواقع كثيراً جدّاً عمّا أراد له الإسلام، وعمّا كان يُمكن أنْ يَحدث لو سار الإسلام في طريقه الحقّ، ولم تُفسده الشهوات والانحرافات.

يجب أنْ نذكر أَوّلاً أنّ الإسلام جاء والرّقّ نظام مُعترَف به في جميع أنحاء العالم كما أسلفنا، وكان إبطاله في حاجة إلى زمن، ويكفي الإسلام على أيّ حال أنْ يكون هو الذي بدأ حركة التحرير في العالم، وأنّه في الواقع جفّف منابع الرّقّ القديمة، لولا مَنبع جديد ظلّ يَفيض بالرّقّ من كلّ مكان، ولم يكن بوِسع الإسلام يومئذٍ القضاء عليه؛ لأنّه لا يَتعلّق به وحده، وإنّما يَتعلّق بأعدائه الذين ليس له عليهم سلطان، ذلك هو رقّ الحرب.

فقد كان العرف السائد يومئذٍ هو استرقاق أسرى الحرب أو قَتلَهم، وكان هذا العرف قديماً جدّاً مُوغلاً في ظُلمات التأريخ يَكاد يرجع إلى الإنسان الأَوّل، ولكنّه ظلّ مُلازماً للإنسانيّة في شتّى أطوارها.

وجاء الإسلام والناس على هذا الحال، ووقعت بينه وبين أعدائه الحروب، فكان الأسرى المسلمون يُستَرَقَّون عند أعداء الإسلام، فتُسلب حرّياتهم، ويُعامل الرجال منهم بالعَسْفِ والظلم الذي كان يومئذٍ يجري على الرقيق، وتُنتَهك أعراض النساء... عندئذٍ لم يكن في وِسع الإسلام أنْ يُطلق سَراح مَن يقع في يده مِن أسرى الأعداء، فليس مِن حُسن السياسة أنْ تُشجّع عدوّك عليك بإطلاق أَسراه، بينما أهلك وعشيرتك وأتباع دينك يُسامُون الخَسف والعذاب عند هؤلاء الأعداء، والمعاملة بالمِثل هنا هي أعدل قانون تستطيع استخدامه، أو هي القانون الوحيد.

وممّا هو جدير بالإشارة هنا أنّ الآية الوحيدة الّتي تعرّضت لأَسرى الحرب، ( فَإِمَّا

١٨٥

مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ) (١) ، لم تَذكر الاسترقاق للأسرى، حتّى لا يكون هذا تشريعاً دائماً للبشريّة، وإنّما ذَكرت الفِداء أو إطلاق السَّراح بلا مقابل؛ لأنّ هذا وذاك هما القانونان الدائمان، اللّذان يريد القرآن للبشريّة أن تَقصُر عليها معاملتها للأسرى في المستقبل القريب أو البعيد؛ وإنّما أخذ المسلمون بمبدأ الاسترقاق، خضوعاً لضَرورة قاهرة لا فكاك منها، وليس خضوعاً لنصٍّ في التشريع الإسلامي.

إذن فلم يَلجأ الإسلام إلى هذا الطريق، ولم يَسترقّ الأسرى لمـُجرّد اعتبارِهِ أنّهم ناقصون في آدميّتهم؛ وإنّما لجأ إلى المعاملة بالمِثل فَحَسب، فعلّق استرقاقه للأسرى على اتّفاق الدول المـُتحاربة على مبدأ آخر غير الاسترقاق، ليَضمن فقط ألاّ يقع الأسرى المسلمون في ذلّ الرّقّ بغير مقابل.

ومع هذا فلم يَكن تقليد الإسلام الدائم هو استرقاق الأسرى، فحيثما أَمِن لم يسترقّهم، وقد أطلق الرسول بعضَ الأسرى بِلا فِداء، كما وأخذ مِن نصارى نجران جزيةً وردّ إليهم أسراهم ولم يَعهد أنّه (صلّى اللّه عليه وآله) استرقّ الأسرى - كما كان عليه عُرف ذلك اليوم - وليَضرب بذلك المـَثل لما يُريد أن تهتدي إليه البشريّة في مستقبلها، حين تتخلّص مِن وراثاتها الكريهة، وتستطيع أنْ تستعيد إلى حظيرتها أصالتها الكريمة.

خرافات جاهليّة بائدة

قالوا: هناك خُرافات جاهليّة بائدة جاءت في القرآن جرياً مع ثقافة العصر الذي عاشه، ومتأثِّراً بها ممّا يتنافى وكونه كلام عليمٍ خبير، من ذلك الكلام عن الجنّ والسحر وإصابة العين ومسّ الجنّ!

غير أنّ هذه النسبة الظالمة نشأت عن مزائغ الفهم لمعاني القرآن ومزالق الوهم عند مواجهة تعابيره القويمة.

أمّا الجنّ فحقيقة ثابتة لا تُنكر، وقد بَدت طلائعُها مُنذ عهدٍ غير بعيد، وليس كلّ ما

____________________

(١) محمّد ٤٧: ٤.

١٨٦

لا يُدرَك بالحواسّ الظاهرة مَحكوماً عليه بالرفض وعدم الوجود، بعد أنْ لم تكن الحواسّ الظاهرة هي لوحدها المقياس للردّ والقبول - كما نبّهنا - ولم يكن العِلم يوماً ما مُعترِفاً بهذه الكلّية المنهارة الأساس، فهناك الكثير مِن أمورٍ لا تقع تحت معيار الحسّ ولكنّها ثابتة بدليل الوجدان الذاتي وببرهان العقل الحكيم.

وأمّا السحر فلم يَعترف به القرآن في شيء بل رفض إمكان تحقّقه بمعنى تأثيره في قلب الحقائق، وإنّما هي شعوذة وَحيل ووساوس خبيثة لا أكثر.

وأمّا إصابة العين فلم يتعرّض لها القرآن في شيء من تعابيره، سواء أكانت لها حقيقة أم لم تكن، وكذا مَسّ الجنّ وما أشبه ممّا نَعرضه بتفصيل:

الجنّ في تعابير القرآن (١)

مِن الغريب أنْ نَرى بعض الكُتّاب الإسلاميّين يلهجون بما لاكَه المستشرقون الأجانب مِن فرض التعابير الواردة في القرآن بشأن الجنّ، تعابير مُستعارة من العرب تَوافقاً معهم جدلاً كعامل تنفيذ في أوساطهم على سبيل المـُماشاة، لا على سبيل الحقيقة المـُعترف بها؛ إذ يَبعد اعتراف القرآن بما لا يعترف العلم التجربي بوجوده أو سوف ينتهي إلى إنكاره رأساً، لكن ذلك لا يُوهن شأن القرآن بعد أن كان تعبيره بذلك ظاهريّاً ومُجاراةً مع القوم، وهكذا تعبيره عن السحر وإصابة العين تعبير ظاهري وليس على حقيقته.

قالوا: وهذا نظير تأثّره ظاهراً بالنظام الفلكي البطلميوسي والطبّ الجالينوسي القديمَينِ، وقد رفضهما العلم الحديث.

قلت: أمّا اعتراف القرآن بوجود الجنّ إلى جنب الإنس واشتراكهما في الخَلق والتكليف وفي نهاية المطاف، فممّا لا يعتريه شكّ، ولا يسوغ لمسلم يَرى من القرآن وحياً من السماء أن يرتاب في ذلك، فإنّ هناك وراء عالم الشهود كائناتٍ مَلكوتيّة أعلى تُسمّى بالملائكة، وأخرى أدنى تُسمّى بالجنّ، الأمر الّذي صرّح به القرآن الكريم بما لا يدع

____________________

(١) جاء التعبير بالجنّ في ٢٢ موضعاً، والجانّ (جمع الجنّ) في ٧ مواضع. والجنّة في ٥ مواضع.

١٨٧

مجالاً للريب فيه أو احتمال التأويل، ( وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ ) (١) ، ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ ) (٢) ، ويبدو أنّ خَلق الجنّ كان قبل الإنس؛ حيث أُمر إبليس وكان من الجنّ (٣) أن يَسجد مع الملائكة لآدم، بعد أنْ خَلَقه من طين فأبى واستكبر وكان من الكافرين (٤) .

وأمّا العلم التجربي فلا مُتّسع له في هذا المجال، بعد أن كان سلطانه مُهيمِناً على عالم الحسّ، ومَحدوداً بآفاقه من غير أنْ يُمكنه لَمَس ما وراء سِتار الغيب، فكيف يجوز له بالنسبة إلى أمرٍ خارجٍ عن سلطانه أن يَحكم عليه بنفي أو إثبات أو يجعله موضع رفض أو قبول؟!

نعم، هناك لأصحاب المذاهب العقليّة من علماء المسلمين وغيرهم مِن المعتنقين بوحي السماء كلام عن مَدى مَقدرة هذا الكائن الغيبي، وهل له سلطان على التدخّل في شؤون الإنس أو يَمسّه بسوء؟ الأمر الذي أنكروه أشدّ الإنكار، على خلاف أصحاب التزمّت في الرأي ممّن ركضوا وراء أهل البَداوة في التفكير، واتّبعوا خرافاتهم الأساطيريّة البائدة.

فالاعتراف بوجود الجنّ شيء، ورفض مقدرتهم على التدخّل في شؤون الإنس شيء آخر، والرفض في هذا الأخير لا يَستدعي رفضاً في أصل الوجود.

ذهب أصحاب القول بالعَدل (٥) ، إلى أنّه لا يجوز في حِكمته تعالى أن يَتسلّط كائن غيبي على كائن عيني فيتلاعب بنفسه وبمُقدّراته وهو لا يستطيع الذبّ عن نفسه؛ حيث لا يراه، وكلّ ما قيل في مَسّ جُنون وما شابه فهو حديث خُرافة ومِن مَزاعم باطلة تُفنّده الحِكمة الرشيدة، نعم سِوى بعض الوساوس (إيحاءات مُغرية) يُلقيها شياطين الجنّ على شاكلتها من الإنس ( يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً ) (٦) ، ( وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ

____________________

(١) الرحمان ٥٥: ١٥.

(٢) الذاريات ٥١: ٥٦.

(٣) الكهف ١٨: ٥٠.

(٤) البقرة ٢: ٣٤.

(٥) راجع في ذلك: التفسير الكبير، ج ٧، ص ٨٨.

(٦) الأنعام ٦: ١١٢.

١٨٨

إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ ) (١) ، ويقول الشيطان لمـّا قُضي الأمر: ( وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم ) (٢) .

وزعم الإمام الرازي أنّ ظاهر المـَنقول عن أكثر الفلاسفة إنكار وجود الجنّ؛ استناداً إلى كلام الشيخ الرئيس ابن سينا في رسالته في حدود الأشياء، حيث يقول: الجنّ حيوان هوائي مُتشكّل بأشكال مختلفة، ويُعقبّه بقوله: وهذا شرح للاسم، قال الرازي: وهذا يدلّ على أنّ هذا الحدّ شرح للمراد من هذا اللفظ، وليس لهذه الحقيقة وجود في الخارج (٣) .

وقد أخذت دائرة المعارف الإسلاميّة المـُترجمة إلى العربيّة هذا الاستظهار مِن الرازي مُستَنَدَاً لتَنسب إلى الشيخ الرئيس إنكاره الباتّ لحقيقة الجنّ، جاء فيها: ولكنّ ابن سينا عند تعريفه لكلمة (جنّ) أكّد في غير مؤاربة أنّه ليست هناك حقيقة واقعة وراء هذه الكلمة (٤) .

غير أنّ ذاك الاستظهار من الرازي خطأ، وكانت عبارة الشيخ الرئيس تعني: أنّ هذا التعريف للجنّ ليس حدّاً تامّاً - حسب مُصطلحهم - وإنّما هو رسم ناقص لا يَعدو شرح الاسم، كما في قولهم: سعدانة نبت، إذ ليس فيه ذِكرٌ لذاتيّات المـُعرَّف (الجنس القريب والفصل القريب)، ومِن ثَمّ فهو تعريف ببعض اللوازم والآثار وليس بالجنس والفصل القريبَينِ.

إذن، فنسبة إنكار حقيقة الجنّ إلى مثل الشيخ الرئيس - كبير الفلاسفة الإسلاميّين ومِن ذوي العقول الراجحة المـُعتَقِدة بالإسلام والقرآن - جفاءٌ يشبه الافتراء، ومِن الغريب أنّ الإمام الرازي يُعقّب ذلك، بقوله: وأمّا جمهور أرباب المِلَل والمـُصدّقين للأنبياء فقد اعترفوا بوجود الجنّ: يا تُرى أليس شيخ الفلاسفة الإسلاميّين من المـُصدّقين للأنبياء ولا سيما نبيّ الإسلام والقرآن العظيم؟!

وبعد، فإذ لم يَعد البحث عن حقيقة الجنّ إلى مسألة فلسفيّة بحتة ولا إلى فَرَضية

____________________

(١) الأنعام ٦: ١٢١.

(٢) إبراهيم ١٤: ٢٢.

(٣) التفسير الكبير، ج ٣٠، ص ١٤٨.

(٤) دائرة المعارف الإسلاميّة، ج ٧، ص ١١٣.

١٨٩

علميّة مَحضة، وإنّما هو إخبار غيبي لا مصدر له سِوى وحي السماء، وقد أكّدت عليه جميع الكُتُب السماويّة واعتقدته أصحاب المِلَل ممّن صدّق برسالات الله في الأرض، من غير خلافٍ بينهم في أصل وجوده، إذن فلا مجال للتراجع تجاه إيهام أنْ سوف يَرفضه العِلم، مع فرض أنْ لا مُتّسع للعلم في هكذا مجالات هي وراء سِتار الغيوب!

وللشيخ مُحمّد عَبدَه كلام تفصيلي حول الملائكة والجنّ والشياطين، له وجه وجيه لمن تَدبّره بإمعان، وعبثاً حاول بعضهم الإنكار عليه وربّما رَميه بالخروج عن مظاهر الدِّين، وما هذه الهجمة إلاّ جفاء بشأن عالِم مُجاهد في سبيل الإسلام خبير (١) .

كلام عن مَسّ الجنّ

وأمّا الكلام عن مَسّ الجنّ وأنّ الجنون داءٌ عارض مِن مسّه فيُعالج باللجوء إلى الرُقى والتعويذات ودَمدَمة الكَهَنة وأصحاب التسخيرات وما إلى ذلك من خُرافات بائدة، فالذي يُمكننا القول فيه: أن ليس في القرآن شيء من ذلك، حتّى ولا إشارة إليه، إذ لا شكّ أنّ الجنون داءٌ عصبيّ وله أنحاء، بعضها صالح للعلاج بأسباب عادية ذَكَرها الأطبّاء في كتبهم قديماً وحديثاً، وهناك مراكز لمـُعالجة هذه الأمراض أو التخفيف مِن وطئتها بالأساليب العلاجيّة الطبيعيّة المتعارفة وليست بالأساليب الغريبة.

وليس في القرآن ما يبدو منه أنّ صاحب هذا الداء إنّما يُصاب على أثر مَسّ الجنّ له، نعم سِوى استعماله لهذه اللفظة (المجنون) في أحد عشر موضعاً (٢) ، وكذا التعبير بمَن به جِنّة في خمسة مواضع (٣) .

وهذا مِن باب المـُجاراة في الاستعمال (٤) - كما نبّهنا - حيث كان التفاهم بلسان

____________________

(١) راجع ما كتبه بهذا الشأن في تفسير المنار، ج ١، ص ٢٦٧ - ٢٧٣، وج ٣، ص ٩٦، وراجع أيضاً: الميزان، للسيد الطباطبائي، ج ٢، ص ٤٣٣ - ٤٣٩.

(٢) الحجر ١٥: ٦، الشعراء ٢٦: ٢٧، الصافّات ٣٧: ٣٦، الدخان ٤٤: ١٤، الذاريات ٥١: ٣٩ و ٥٢، الطور ٥٢: ٢٩، القمر ٥٤: ٩؛ القلم ٦٨: ٢ و ٥١، التكوير ٨١: ٢٢.

(٣) الأعراف ٧: ١٨٤، المؤمنون ٢٣: ٢٥ و ٧٠، سبأ ٣٤: ٨ و ٤٦.

(٤) أي مَن تُسمّونه بهذا الاسم، أو تَسِمونه بهذه السِّمة في استعمالكم المتعارف عندكم.

١٩٠

القوم، وليس عن اعترافٍ بمنشأ هذه التسمية اللغويّة، ولا يزال الأطبّاء المـُعالجون - قديماً وحديثاً - يُعبّرون عن المـُصاب بهذا الداء بالمـَجنون وعن نفس الداء بالجنون، مُجاراةً مع لُغة العامّة، ولا يعني ذلك اعتقادهم بمسّ الجنّ إيّاه حتميّاً، وتلك دُور المجانين مُعدّة لمعالجة المـُصابين بهذا الداء أو للحراسة عنهم مرسومٌ عليها نفس العنوان؛ وليس إلاّ لأجل التفاهم مع العرف الدارج لا غير.

وأمّا قوله تعالى: ( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ) (١) فالمـُراد من المـَساس هنا هو مَسّ وساوسه الخبيثة المـُغرية، والتي هي عبارة عن استحواذه على عقلية أهل المطامع؛ ليَتيه بهم الدرب ويجعلهم في السعي وراء مطامعهم يَتخبّطون خبط عشواء وفي غياهب غيّهم يعمهون، وهذا إنّما يعني استيلاء الشيطان على شراشر وجودهم فعموا وصمّوا ( كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ ) (٢) ، ( اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) (٣) .

قال تعالى - حكايةً عن نبيّ اللّه أيّوب (عليه السلام) -: ( إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ) (٤) ، أي مسّني ضرّ وساوسه ودسائسه الخبيثة في سبيل إيقاع أولياء اللّه في النصب ومكابدة الآلام، كما في قوله: ( إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) (٥) ، فمَسُّ الشيطان هو مَسّ ضرّه على أثر دسائسه الخبيثة، لا الإضرار مباشرةً (٦) .

التشبيه في رؤوس الشياطين

قال تعالى: ( أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ) (٧) .

وهذا أيضاً أَخذوه على القرآن، حيث التعبير برؤوس الشياطين جاء على

____________________

(١) البقرة ٢: ٢٧٥.

(٢) الأنعام ٦: ٧١.

(٣) المجادلة ٥٨: ١٩.

(٤) ص ٣٨: ٤١.

(٥) الأنبياء ٢١: ٨٣.

(٦) راجع: التفسير الكبير، ج ٧، ص ٨٩، والميزان، ج٢، ص٤٣٦.

(٧) الصافّات ٣٧ ٦٢ - ٦٦.

١٩١

ما تَوهّمته العرب أنّ للشياطين رؤوساً على غِرار ما تَوهّموه في الغُول، جاء في شعر امرئ القيس: (وَمَسنونَةٌ زُرقٌ كأَنيابِ أَغوالِ).

غير أنّ الشيطان في اللغة مِن أوصاف المـُبالغة مأخوذ مِن شاط يَشيط إذا اشتدّ غيظاً وغَضباً، يُقال: تَشيّط إذا احترق غيظاً واشتاط اشتياطاً عليه إذا التهب غضباً، وكذا قولهم: استشاط عليه أي احتدّ عليه غضباً، واستشاط الحَمامُ: نَشط، واستشاط مِن الأمر: خفّ له، واستشاط فلان أي استقتل وعرّض نفسه للقتل، وأصله مِن شاط الشيء إذا احترق.

قال ابن فارس: الشَّيط مِن شاطَ الشيء إذا احترق، ومنه استشاطَ الرجلُ إذا احتدّ غضباً، قال ومِن هذا الباب الشيطان (١) ، ويُطلق على كلّ مُتمرّدٍ عاتٍ مِن الجنّ والإنس والدّوابّ، فهو فَعلان، لتكون الألف والنون زائدتَين، كما في عطشان وغضبان و رحمان، أمّا القول، بأنّه مِن شَطَن ليكون على وِزان فيعال فهو غريب؛ إذ لم يُعهد مِثلُ هذا الوزن في صيّغ المبالغة، وإنْ قال به الخليل.

وهكذا الراغب رجّح كون النون أصليّة بدليل جمعه على شياطين! (٢)

وعلى أيّ حالٍ فهو وصفٌ يُطلق على كلّ متمرّدٍ عاتٍ بالَغَ في شَطَطِه كالمـُستشيط غَضَباً أو المـُلتهب غيظاً، قال جرير:

أيّام يَدعونَني الشيطانَ من غَزَلي

وهُنَّ يَهْوَيْنَني إذ كنتُ شيطاناً

وقال آخر: لو أنّ شيطان الذِّئاب العُسَّل... قال الراغب: جمع العاسِل وهو الذي يَضطرب في عدوه، واختصّ به عَسَلان الذئب، قال: وسُمّي كل خُلُق ذميم للإنسان شيطاناً، فقال (عليه السلام): (الحَسَد شيطان والغَضَب شيطان)، فليس الشيطان اسماً لإبليس ولا خاصّاً بجنوده الأبالسة، وإنّما أُطلق عليه كإطلاقه على سائر ذوي الشرور، قال تعالى: ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ ) (٣) .

____________________

(١) معجم مقاييس اللغة، ج٣، ص٢٣٤ - ٢٣٥ و١٨٥.

(٢) المفردات، ص٢٦١، ولسان العرب، ج١٣، ص ٢٣٨.

(٣) الأنعام ٦: ١١٢.

١٩٢

والشيطان - أيضاً - اسم لِحَيّة لها عُرْف، وهي لحَمة مُستطيلة فوق رأسها شبه عُرْف الديك قال الزجّاج: تُسمّي العرب بعض الحيّات شيطاناً، قيل: هو حيّة لها عُرف قبيح المنظر (١) ، وأنشد الرجل (هو الراجز) (٢) ، يَذمّ امرأةً له كانت سَليطَة:

عَنْجَرِدٌ تَحلف حين أَحلف

كمثل شيطانِ الحَماط أعرَفُ (٣)

وقال آخر يصف ناقته في المسير:

تُلاعبُ مَثنى حَضْرميّ كأنَّه

تَعَمُّجُ شيطانٍ بذي خِرْوَعٍ قَفر (٤)

والشيطان في هذينِ البيتَين هي الحَيّة المـَهيبة يُتَنَفَّر منها، لها عُرف كتاج الديك قبيح المـَنظر، فقد شَبَّه الشاعر في البيت الأَوّل امرأته العجوز السَليطَة بشيطان الحَماط القبيح المهيب، وهي الحيّة ذات عُرف يَكثُر وجودها تحت شجر الحَماط في الصحراء القاحلة.

وفي البيت الثاني شَبَّه الشاعر زِمام ناقتِه في تَلوّيه بسبب مشية الناقة بتلوّي حيّةٍ قبيحةِ الهيئة تلتوي في بيداء قَفر (٥) .

وعليه، فالتشبيه في الآية الكريمة وَقَع على الواقع المشهود، هي رؤوس الحيّات القبيحة المنظر الهائلة على حدّ تعبير الزمخشري في الكشّاف، ووافقه اللغة والعُرف العامّ حسبما عرفتَ، وليس مجرّد تخييل أو تقليد تَوهّمته العرب كما زَعَمه الزاعِمون!

وهكذا جاء في (تأويل مشكل القرآن) لابن قتبية قال: والعرب تقول إذا رأت مَنظراً قبيحاً: كأنّه شيطان الحَماط، يريدون حيّة تأوي في الحَماط، كما تقول: أيمُ الضالّ،

____________________

(١) قال الزمخشري: قيل: الشيطان، حيّة عرفاء لها صورة قبيحة المنظر هائلة جدّاً الكشّاف، ج٤، ص٤٦.

(٢) راجع: تفسير أبي الفتوح الرازي، ج٩، ص٣١٣.

(٣) العَنجَرد: المرأة السليطة الطويلة اللسان الصَخَّابة، وجاء البيت في تأويل مشكل القرآن، ص٣٨٩: (عُجيَّز) بدل (عَنجَرد)، والحَماط - جمعُ حَماطة - شجر تَنبُت في البراري شبيهة التينة، تكثر حولها الحيّات، والأعرف: ذو العُرف، هي اللحمة شبه التاج تكون في أعلى رأس بعض الحيّات مثل تاج الديك، وهي من أشدّ الحيّات تنفّراً.

(٤) المـَثنى: زِمام الناقة، والحضرمي منسوب إلى حضرموت، والخِرْوَع: شوك لا يُرعى لغلظته يَنبُت في الفلوات القفر، راجع: لسان العرب، ج١٣، ص٢٣٨ - ٢٣٩، وراجع أيضاً: معاني القرآن للفرّاء، ج٢، ص٣٨٧.

(٥) تفسير أبي الفتوح الرازي، ج٩، ص٣١٣.

١٩٣

وذِئب الغَضى، وأَرنبُ خُلّة، وتيسُ حُلَّب، وقنفذُ بُرقَة (١) .

قال الشيخ أبو الفتوح الرازي: وهذا كتشبيهه تعالى عصا موسى (عليه السلام) التي انقلبت حيّة تسعى بالجانّ، وهو أيضاً اسم للحيّة السريعة التَلوّي في حركتها (٢) .

قال ابن منظور: والجانّ، ضَربٌ من الحيّات أكحل العينَين يَضرب إلى الصُفرة لا يُؤذي، وهو كثير في البيوت، قال سيبويه: والجمع جِنّان، وأنشد بيت الخطفي جدّ جرير يصف إبلاً:

أعناقَ جِنّانٍ وهاماً رُجَّفا

وعَنَقاً بعد الرسيم خَيْطَفا

وفي الحديث: أنّه نهى عن قتل الجِنّان، قال: هي الحيّات تكون في البيوت، واحدها جانّ، وهو الدقيق الخفيف.

قال الأزهري في التهذيب في قوله تعالى: ( تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ ) : (٣) ، الجانّ حيّة بيضاء، قال أبو عمرو: الجانّ حيّة، وجمعه جوانّ.

قال الزجّاج: المعنى أنّ العصا صارت تتحرّك كما يَتحرّك الجانّ حركةً خفيفةً، قال: وكانت في صورة ثُعبان، وهو العظيم من الحيّات، ونحو ذلك قال أبو العباس المبرّد، قال: شبّهها في عِظَمِها بالثُعبان وفي خفّتها (خفّة حركتها) بالجانّ. ولذلك قال تعالى مرّةً ( فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ ) (٤) ومرّةً ( كَأَنَّهَا جَانٌّ ) (٥) .

قال الشيخ أبو الفتوح الرازي - في وجه التشبيه بالجانّ مرّة وبالثعبان أُخرى -: إنّ التشبيه الأَوّل وَقَع في بدء بعثته (عليه السلام) عند الشجرة، قال تعالى في سورة النمل: ( يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لا تَخَفْ

____________________

(١) تأويل مشكل القرآن، ص٣٨٩، والأيّم - بسكون الياء وتشديدها -: الحيّة الأبيض اللطيف، والضالّ: نوع من الشجر يَنبت في السهول والوعور له شوك، ويقال: هو السِّدر من شجر الشوك، وألفه مُنقلبة عن الياء، والغَضى: نوع من الشجر يأوي إليه أخبث الذئاب، والخُلّة: نبات فيه حلاوة، والحُلّب: بقلة جَعدة غبراء في خضرة تنبسط على الأرض، يسيل منها اللبن إذا قُطع منها شيء، يقال: أسرع الظباء تيسٌ حُلَّب؛ لأنّه قد رعى الربيع، والبُرقة: أرض غليظة مُختلطة بحجارة ورمل، ويقال: قنفذ برقة كما يقال: ضبّ كُدية، وهي الأرض الصُلبة الغليظة.

(٢) تفسير أبي الفتوح الرازي، ج٩، ص٣١٣.

(٣) النمل ٢٧: ١٠.

(٤) الأعراف ٧: ١٠٧.

(٥) راجع: لسان العرب، ج١٣، ص٩٧.

١٩٤

إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ) (١) وفي سورة القصص: ( فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ ) (٢) .

أمّا التشبيه بالثعبان فكان عند لقاء فرعون ومَلَئِه، وقوله لهم: إنّي قد جئتكم ببيّنة، قالوا: فائتِ بها إن كنت مِن الصادقين ( فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ ) (٣) .

ولعلّ عندما ألقى عصاه لأَوّل مرّة عند الشجرة كان لَفَت نظره وأرهبه أنّ العصا - وهي عودة - تتحرّك وتهتزّ كما تسعى الحيّة، فولّى مُدبراً ولم يُعقّب.

أمّا الذي أتى به مُعجِزاً وبيّنة من ربّه فهو قَلْبُ العصا ثعباناً وهي حيّة عظيمة هائلة، فاسترهبوه وحاولوا مقابلته بالمِثل فجمعوا السَحَرة وجاءوا بسحرٍ عظيم، فألقى موسى عصاه ( فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) (٤) .

فالتشبيه بالجانّ مرّة وبالثعبان أُخرى كان باعتبارَينِ وفي موقفَين مُختلفَين، قال الشيخ الرازي: لا يَمتنع أنْ تنقلب العصا إلى صورتَين مختلفتَين باختلاف الموردَين (٥) .

* * *

وختاماً، فقد جاء في المـُعجم الزوولوجي الحديث تأليف الأُستاذ مُحمّد كاظم الملكي النجفي: أنّ الشيطان أيضاً اسمٌ لنوع من السَّمك الضخم يبلغ وزنه نحو طنَّين يُوجد في المياه المـُحيطة في الشمال الغربي لاستراليا، له وجهٌ كَريه كأنّه صنم من الأصنام القديمة وعلى رأسه قرنان يَزيدان في كَراهة منظره (٦) .

أوصاف جاءت على مقاييس عامّة

هناك أوصاف عن نعيم الآخرة أو عن جحيمها جاءت على مقاييس عامّة، لا على مقاييس العرب خاصّة! وقد وَهِم مَن زَعمها أنّها أوصاف تَعرفها العرب لوحدهم أو هي

____________________

(١) النمل ٢٧: ٩ و١٠.

(٢) القصص ٢٨: ٣٠ و٣١.

(٣) الأعراف ٧: ١٠٧، الشعراء ٢٦: ٣٢.

(٤) الأعراف ٧: ١١٧ و١١٨.

(٥) تفسير أبي الفتوح الرازي، ج٨، ص٣٧٨.

(٦) المعجم الزوولوجي، ج٤، ص٧١ - ٧٢.

١٩٥

عند رغباتهم المـُلِحّة التي تَستدعيها عِيشتُهم تلك الجافية وفي وسط تلك الصحراء القاحلة، ممّا لا يَستلفت رغبات العائشِين في أوساط خَصِبَة فارهِين، وذلك في مثل وصف الجنان بظلّ الأشجار ومجاري الأنهار والحور والقصور، ومثلها نعوت هي أوصاف جمال عند العرب وليس عند غيرهم.

لكنّه وَهمٌ نشأ مِن سوء التدبّر وعدم الإحاطة بدقائق اللغة التي خاطب بها القرآن العرب وسائر العالمِينَ جميعاً.

ولنأتِ بأمثلة ممّا أوقعهم في هذا الوهم:

الحُور العين

عِيْن جمع عيناء وهي المرأة ذات الأَعيُن الوسيعة والمتناسبة مع تقاسيم وجهها الوسيم، كما يقال للبقر الوحش: عِيْن، لحُسن عينها في سعةٍ متناسبة.

حُور: جمع حوراء. زعموا أنّها المرأة ذات الأَعين السود في حدقتها، وهو وصف جمال عند العرب بالذات ممّا قد يُخالف الجمال في بنات الروم في عيونهنّ الزُرق! ويُعدّ ذلك عيباً عند العرب؛ ومِن ثَمّ جاء وصف المجرمين بأنّهم يُحشرون يوم القيامة زُرقاً (١) .

فجاء كلا الوصفَين - جمالاً وعيباً - على مقاييس العرب محضاً.

غير أنّ الخطأ هنا جاء مِن قِبَل تفسير الحَوَر بالسواد، في حين أنّه البياض اللاّمع لشدّة ابيضاضه، فالحَوَر شدّة بياض العين بما يُوجب شدة بريق سواد حَدَقَتِها.

والحواريّات: النساء البيض، قال الأزهري: لا تُسمّى المرأة حوراء حتّى تكون مع حَوَر عينَيها بيضاء لون الجسد، قال الكميت:

ودامت قُدورُك للساغبِينَ

في المـَحْلِ غَرْغَرةً واحوِرارا

قال ابن منظور: أراد بالغَرْغَرة صوت الغَلَيان، وبالاحوِرار بياض الإهالة والشحم.

والأعراب تُسمّي نساء الأمصار حواريّات لبياضهنّ وتَباعدِهنّ عن قشف

____________________

(١) وذلك في قوله تعالى: ( يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً ) ، طه ٢٠: ١٠٢.

١٩٦

الأعراب بنظافتِهنّ، قال شاعرهم:

فقلتُ إنّ الحواريّات مُعطِبَةٌ

إذا تفَتّلنَ مِن تحت الجلابيبِ

وقال أبو جِلّدة:

فقل للحواريّات يَبكِينَ غيرَنا

ولا تَبكِنا إلاّ الكلابُ النوابح

أراد: النساء النقيّات الألوان والجلود لبياضهنّ.

والحُوّارى: الدقيق الأبيض جصّ أبيض تُبيَّض به الجدران، كلّ ما حُوِّر به أي بُيِّض؛ ومِن ثَمّ يقال للقصّار (غسّال الثياب) حواريّ، لتحويره الثياب أي تبييضها وإزالة أوساخها، يقال: حوّر الثوب: غَسَله وبَالغ في غَسله حتّى بَرَق، ومنه سُمّي الحواريّون أي الخُلّص من أصحاب المسيح (عليه السلام).

والأحوري: الأبيض الناعم.

إذن، فالحوراء هي المرأة البيضاء ذات الأَعين اللامعة في شدّة بياضها، فإن كانت حَدَقَة عينها سوداء فهي أيضاً تلمع لحُسن جوارها، وهكذا إذا كانت زرقاء.

فالجمال في هذا الوصف إنّما هو في جانب بياض مُقلَة العين أي شَحمَتُها اللامعة مع بياض لون البدن، الأمر الذي يكون وصف جمال عند الجميع، كما في العيناء.

أمّا زُرقة العين - على ما جاءت في الآية وَصْفاً لحالة المـُجرمِين يوم الحشر - فالمـُراد بها العَمى وذهاب نور العين من شدّة الظمأ؛ إذ الظمأ الشديد يُذهب بنور العين ويَحول العطش بينه وبين السماء كالدخان، فيرى الأشياء زَرقاء؛ لأجل الدخان الحائل، لا لزُرقة في حَدَقة عينه.

وقال الفرّاء: يُقال: نَحشرهم عطاشاً، ويقال: نَحشرهم عُمياً (١) ، قال الأزهري: عطاشاً يظهر أثره في أَعينهم كالزُرقة، قال: وهو مِثل قوله: ( وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً ) (٢) أي عطاشاً، كالإبل تَرِد الشريعة عطاشاً، مَشياً على أرجلهم، وعن ابن عبّاس:

____________________

(١) معاني القرآن، ج٢، ص١٩١.

(٢) مريم ١٩: ٨٦.

١٩٧

سُمّي العِطَاش وِرداً؛ لأنّهم يَردون الشريعة لطلب الماء (١) .

ملحوظة

قد يَحسب البعض - باعتبار كون الحُور جمعاً للأحور والحوراء معاً، وكذا العِين جمعاً للأعين والعيناء - أن يكون هناك في الجنّة حورٌ عِينٌ، ذكورٌ وإناثٌ!

غير أنّ القرآن وَصَفَهنّ بوصف الإناث مَحضاً، في مثل قوله تعالى: ( وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً ) (٢) والكَواعب: الناهِدات الثدي، وقوله: ( فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ ) (٣) ، والجمع بالألف والتاء يَخصّ الإناث دون الذكور. وكذا ضمير الجمع المؤنّث، والطَمْث: افتضاض بِكارة المرأة؛ لأنّه يُوجب الطَمْث وهو الدم الخارج مِن فَرجها، وقوله: ( فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً * عُرُباً أَتْرَاباً ) (٤) ، والمرأة العروبة هي العفيفة تُحبّ زوجها لا تهوى سِواه، إلى غيرها مِن آياتٍ جاء فيها وصفُ الحُور بخِيار أوصاف النساء المـُترفِّعات دون المـُبتذلات.

ولعلّك تتساءل: فما حظّ النساء المؤمنات من هذا النعيم في الآخرة؟

وإجابة على هذا السؤال جاء في أحاديث مأثورة: أنّ اللّه سوف يَجعلهنّ حوريّات، ويَكُنّ ألذّ على أزواجهنّ مِن حوريّات الجِنان فعن ابن عبّاس - في تفسير قوله تعالى: ( إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً ) (٥) -: أنّ الآية بشأن الإنسيّات يُبدِّلُهُنّ اللّه حُوراً عِيناً في الجِنان (٦) .

قال تعالى: ( جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ) (٧) ، ( ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ ) (٨) ، وهناك كلام عن نعيم الآخرة (ما سنخُها؟) لعلّنا نفصّل القول فيه إن شاء اللّه.

____________________

(١) مجمع البيان، ج٧، ص٢٩ وج٦، ص٥٣١.

(٢) النبأ ٧٨: ٣٣.

(٣) الرحمان ٥٥: ٥٦.

(٤) الواقعة ٥٦: ٣٦ و٣٧.

(٥) الواقعة ٥٦: ٣٥ و٣٦.

(٦) مجمع البيان، ج٩، ص٢١٩.

(٧) الرعد ١٣: ٢٣.

(٨) الزخرف ٤٣: ٧٠.

١٩٨

الأشجار والأنهار

ليس وصفُ النعيم بظِلال الأشجار ومجاري الأنهار ممّا يَستلفت رغبةَ العائشِين في البوادي الجرداء والصحاري القِفار فحَسب، وإنّما هي رَغَبات عامّة حتّى للمـُنعَّمين بخُصوبة البلاد وخُضرة الهضبات والوِهاد.

الناس في كافّة بقاع الأرض يرتادون لمـُنتزهاتهم أماكن أشجار وتُبلّها أنهار، على ما جاء في وصف القرآن الكريم:

( مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ ) سُرُر مزيّنة فاخرة.

( لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً ) لا يَحسّون لدغ حرارةٍ لافحة، ولا لَذعَ برودةٍ قارصة، مُرتاحِين في مهبّ ولطف نعيم.

( وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا ) أشجار بسطت أغصانها المـُتدانية، مستديرة الأطراف شبه مَظلاّت مُخيِّمة برَوْح أظلّتها.

( وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا ) (١) ، ثِمار متدنّية يَسهل قطوفُها ( وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ ) (٢) .

وألذّ المـُنتزه وأطيبه ما كان على ضِفاف الأَنهر ومُتفجّرات العيون، على حدّ تعبير القرآن:

( عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً ) (٣) ، ( تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) (٤) .

نعم، إنّها رغباتٌ عامّة يَبتغيها كلّ مُنعَّم ومُعدَم وفي كلّ بِقاع الأرض، مشارق الأرض ومغاربها، العامرة منها والبائرة. وليست ممّا تهفو إليها نُفوس مَكدودة فَحَسب، وتلك قصور شامخات ومصايف زاهرات تزدحم بأصحاب النِعَم ومُرفّهي الأحوال، أُنشئت على شواطئ البحار وضِفاف الأنهار في كلّ أرجاء المعمورة، وحسبُك شواهد على أنّها رغبات تَهفو إليها نُفوس جميع أبناء البشر في كلّ البلاد، ولدى جميع الأجيال والأُمم، وليس العرب وحدهم.

____________________

(١) الإنسان ٧٦: ١٣ و١٤.

(٢) الدخان ٤٤: ٢٧.

(٣) الإنسان ٧٦: ٦.

(٤) يونس ١٠: ٩.

١٩٩

ابيضاض الوجوه واسودادها

قال تعالى: ( يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) (١) .

قالوا: إنّ في هكذا تعابير إزراء بشأن مُلوَّني البَشَرة؛ حيث أصبح ابيضاض الوجه رمزاً للفوز والسعادة، واسوداده رمزاً للحرمان والشقاء! في حين أنّ اللون مهما كان فهو أمرٌ طبيعي لا غَضاضة في لونٍ دون آخر، كما لا مَساس له بمسألة السعادة والشقاء ولا استيجاب مَدح أو قدح، الأمر الذي اُخِذَ على القرآن، حيث استجوابه لمـَزاعم كانت عند العرب في أمثال هذه التعابير!

لكنّ السواد - في هكذا تعابير قرآنية أو في غيرها - لا يُراد به ذات اللون الخاصّ، وإنّما المـُراد هو كُدْرة الظَلام المـُعبَّر عنه بالسواد في الاستعمال الدارج، في مقابلة فِلقَة الضياء المـُعبّر عنه بالبياض، كما في قوله تعالى: ( حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ) (٢) ، أي حتّى يبدو فلق الصباح عن ظُلمة الليل.

ونظيره قول الشاعر - وهو عمرو بن أبي ربيعة المخزومي -:

إذا اسودّ جُنح الليل فلتأتِ

ولتَكن خُطاك خِفافاً إنّ حرّاسَنا أُسداً

فالاسوداد كناية عن اشتداد ظَلام الليل، وليس المـُراد ذات اللّون الخاصّ.

فالتعبير باسوداد الوجه كناية عن كُدْرته كأنها ظُلمة تَعتريه على أثر الانقباض الحاصل فيه والتقطيب، والناشئ مِن فَزَعِ نفسي وسوء وحشته، كما قال تعالى - حكايةً عن حالةٍ نفسيّة رديئة كان يَبدو أثرها كظُلمةٍ تعلو وجه أحدهم إذا بشّر بالأُنثى -: ( وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ ) (٣) ، فهو يُحاول كَظْمَ غيظِه، ولكن بَشَرة وجهه المـُظلمة هي التي تَفضحه بما تَكنّه نفسُه مِن ألمٍ وسوء حال.

____________________

(١) آل عمران ٣: ١٠٦ و١٠٧.

(٢) البقرة ٢: ١٨٧.

(٣) النحل ١٦: ٥٨، الزخرف ٤٣: ١٧.

٢٠٠

هذا.. ولسوف نرى أن أحمد أمين المصري يأخذ برأي ابن القفطي هذا. لكنه ينظر فيه إلى خصوص أئمة أهل البيتعليه‌السلام ، كما سيأتي بيانه، وبيان مدى خلطه وفساده في الفصل التالي.

وفيه دلالة على أن الفضل كان مخدوعاً، وعلى أن المأمون لم يكن مخلصاً فيما أقدم عليه..

د ـ : إنه لا بد لنا من الإشارة هنا إلى أن أكثر ثورات العلويين، التي قامت ضد المأمون ـ قبل البيعة للرضاعليه‌السلام طبعاً ـ كانت من بني الحسن، وبالتحديد من أولئك الذين يتخذون نحلة الزيدية، فأراد المأمون أن يقف في وجههم، ويقضي عليهم، وعلى نحلتهم تلك نهائياً، وإلى الأبد، فأقدم على ما أقدم عليه من البيعة للرضاعليه‌السلام بولاية العهد.

هذا.. وقد كانت نحلة الزيدية هذه ـ شائعة في تلك الفترة، وكانت تزداد قوة يوماً عن يوم، وكان للقائمين بها نفوذ واسع، وكلمة مسموعة، حتى إن المهدي قد استوزر يعقوب بن داوود، وهو زيدي، وآخاه، وفوضه جمع أمور الخلافة(١) .

وعلى حد تعبير الشبراوي: (.. فولاه الوزارة، وصارت الأوامر كلها بيديه، واستقل يعقوب حتى حسده جميع أقرانه..)(٢) .

____________

(١) البداية والنهاية ج ١٠ / ١٤٧، وغيره من كتب التاريخ، فراجع فصل: مصدر الخطر على العباسيين.

(٢) الإتحاف بحب الأشراف ص ١١٢.

٢٠١

بل كان: (لا ينفذ للمهدي كتاب إلى عامل، فيجوز، حتى يكتب يعقوب إلى أمينه وثقته بإنفاذه.)(١) .

وقد بلغ من نفوذ يعقوب هذا.. أن قال فيه بشار بن برد أبياته المشهورة، التي قدمناها، والتي يقول فيها: (إن الخليفة يعقوب ابن داوود).

وقد سعي بيعقوب هذا إلى المهدي: وقيل له: (.. إن الشرق والغرب في يد يعقوب، وأصحابه، وإنما يكفيه أن يكتب إليهم ؛ فيثوروا، في يوم واحد، فيأخذوا الدنيا)(٢) .

وذلك لأنه قد: (أرسل يعقوب هذا إلى الزيدية، وأتى بهم من كل أوب، وولاهم من أمور الخلافة في المشرق والمغرب كل جليل، وعمل نفيس، والدنيا كلها في يديه..)(٣) .

وإذا ما عرفنا أن معاوني يعقوب إنما كانوا هم: متفقهة الكوفة، والبصرة، وأهل الشام(٤) .. فإننا نعرف أن الاتجاه الزيدي سوف يؤثر كثيراً، وكثيراً جداً على الثقافة العامة، والاتجاهات الفكرية في ذلك العصر ـ كما حدث ذلك فعلاً.. حتى لقد صرح ابن النديم بأن:

(أكثر علماء المحدثين إلا قليلاً منهم، وكذلك قوم من الفقهاء، مثل: سفيان الثوري، وسفيان بن عيينة كانوا من الشيعة الزيدية.)(٥) وقد صرح المؤرخون أيضاً: بأن أصحاب الحديث جميعهم، قد

____________

(١) الطبري ج ١٠ / ٤٨٦، والكامل لابن الأثير ج ٥ / ٦٠، ومرآة الجنان ج ١ / ٤١٨.

(٢) الكامل لابن الأثير ج ٥ / ٦٦، ٦٧.

(٣) الطبري ج ١٠ / ٥٠٨، طبع ليدن، والوزراء والكتاب للجهشياري ص ١٥٨، والكامل لابن الأثير ج ٥ / ٦٦.

(٤) الطبري، طبع ليدن ج ١٠ / ٤٨٦.

(٥) الفهرست لابن النديم ص ٢٥٣.

٢٠٢

خرجوا مع إبراهيم بن عبد الله بن الحسن، أو أفتوا بالخروج معه(١) .

وعلى كل حال.. فإن ما يهمنا بيانه هنا: هو أن المأمون كان يريد

____________

(١) مقاتل الطالبيين ص ٣٧٧، وغيرها من الصفحات، وغيرها من الكتب. ويرى بعض أهل التحقيق: أن المقصود هو جميع أصحاب الحديث في الكوفة. ولكن الظاهر أن المراد: الجميع مطلقاً، كما يظهر من مراجعة مقاتل الطالبيين وغيره.

والأمر الذي تجدر الإشارة إليه هنا: هو أن فرقة من الزيدية، وفرقة من أصحاب الحديث، قد قالوا بالإمامة على النحو الذي يقول به الشيعة الإمامية، عندما جعل المأمون (الرضا)عليه‌السلام ولياً لعهده. لكنهم بعد وفاة الرضاعليه‌السلام رجعوا عن ذلك: قال النوبختي في فرق الشيعة ص ٨٦:

(.. وفرقة منهم تسمى (المحدثة) كانوا من أهل الإرجاء، وأصحاب الحديث، فدخلوا في القول بإمامة موسى بن جعفر، وبعده بإمامة علي بن موسى، وصاروا شيعة، رغبة في الدنيا وتصنعاً. فلما توفي علي بن موسىعليه‌السلام رجعوا إلى ما كانوا عليه.

وفرقة كانت من الزيدية الأقوياء، والبصراء، فدخلوا في إمامة علي بن موسىعليه‌السلام ، عندما أظهر المأمون فضله، وعقد بيعته، تصنعاً للدنيا، واستكانوا الناس بذلك دهراً. فلما توفي علي بن موسىعليه‌السلام رجعوا إلى قومهم من الزيدية.) وقد تقدم قول الشيبي: إنه قد التف حول الرضاعليه‌السلام (المرجئة، وأهل الحديث، والزيدية، ثم عادوا إلى مذاهبهم بعد موته..) وغير ذلك. والذي نريد أن نقوله هنا هو: أن (الإرجاء دين الملوك) على حد تعبير المأمون (على ما نقله عنه في ضحى الإسلام ج ٣ / ٣٢٦)، نقلاً عن طيفور في تاريخ بغداد.

وفي البداية والنهاية ج ١٠ / ٢٧٦: أن المأمون قال للنضر بن شميل: ما الإرجاء؟. قال: (دين يوافق الملوك، يصيبون به من دنياهم، وينقصون به من دينهم) قال: صدقت الخ. وليراجع كتاب بغداد ص ٥١، وعمدة القول بالإرجاء (القديم) هو: المغالاة في الشيخين، والتوقف في الصهرين، فالإرجاء والتشيع، وخصوصاً القول بإمامة موسى بن جعفر، وولده علي الرضا على طرفي نقيض ومن هنا كانت المساجلة الشعرية بين المأمون المظهر لحب علي وولده، وابن شكلة المرجي، يقول المأمون معرضا بابن شكلة:

إذا المرجي سرك أن تراه

يموت لحينه من قبل موته

فـجدد عـنده ذكرى علي

وصل على النبي وآل بيته

أما ابن شكلة فيقول معرضاً بالمأمون:

إذا الشيعي جمجم في مقال

فسرك أن يبوح بذات نفسه

فصل على النبي وصاحبيه

وزيـريه وجاريه برمسه

٢٠٣

= راجع: مروج الذهب ج ٣ / ٤١٧، والكنى والألقاب ج ١ / ٣٣١، وبعد هذا. فإنه لمن غرائب الأمور حقاً، الانتقال دفعة واحدة من القول بالإرجاء إلى التشيع، بل إلى الرفض (وهو الغلو في التشيع حسب مصطلحهم، والذي يتمثل بالقول بإمامة الأئمة الاثني عشرعليهم‌السلام ) وأغرب من ذلك العودة إلى الإرجاء بعد موت علي الرضاعليه‌السلام .

وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على مدى تأثير السياسة والمال في هؤلاء الذين أخذوا على عاتقهم ـ بادعائهم ـ مسؤولية الحفاظ على الدين والذود عن العقيدة، فإنهم كانوا في غاية الانحطاط الديني، يتلونون ـ طمعاً بالمال والشهرة ـ ألواناً، حتى إن ذلك يحملهم على القول بعقيدة، ثم القول بضدها، ثم الرجوع إلى المقالة الأولى، إذا رأوا أن الحاكم يرغب في ذلك، ويميل إليه، ولهذا أسموا بـ‍ (الحشوية) يعني: أتباع وحشو الملوك، وأذناب كل من غلب، ويقال لهم أيضاً (وهم في الحقيقة أهل الحديث): (الحشوية، والنابتة، والغثاء، والغثر) على ما في كتاب: تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة ص ٨٠.

وراجع أيضاً فرق الشيعة، ورسالة الجاحظ في بني أمية، وغير ذلك.

بل لقد أطلق عليهم المأمون نفسه لفظ (الحشوية) في مناقشته المشهورة للفقهاء والعلماء المذكور في العقد الفريد والبحار، وعيون أخبار الرضا وغير ذلك. وقال عنهم الزمخشري في مقام استعراضه للمذاهب والنحل، ومعتنقيها:

وإن قلت من أهل الحديث وحزبه

يـقولون تيس ليس يدري ويفهم

ويقابل كلمة (الحشوية) كلمة (الرافضة) التي شاع إطلاقها على الشيعة الإمامية.

ومعناها في الأصل: جند تركوا قائدهم. فحيث إن الشيعة لم يكونوا قائلين بإمامة أولئك المتغلبين، سموهم ب‍ـ (الرافضة) ولذا جاء في تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ١٦١: أن معاوية كتب إلى عمرو بن العاص:

 (أما بعد. فإنه قد كان من أمر علي وطلحة والزبير ما قد بلغك، فقد سقط إلينا مروان في رافضة أهل البصرة الخ..). ومثل ذلك ما في وقعة صفين لنصر بن مزاحم ص ٣٤، فالمراد بكلمة رافضة هنا هو ذلك المعنى اللغوي الذي أشرنا إليه، فسمي الشيعة بالرافضة، لأنهم ـ كما قلنا ـ رفضوا الانقياد لأولئك الحكام المتغلبين.

٢٠٤

= يقول السيد الحميري على ما جاء في ديوانه وغيره ـ يهجو البعض:

أبـوك ابن سارق عنز النبي

وأمـك بـنت أبـي جحدر

ونحن على رغمك الرافضون

لأهـل الـضلالة والـمنكر

ولكن قد جاء في الطبري، مطبعة الاستقامة ج ٦ ص ٤٩٨، والبداية والنهاية ج ٩ ص ٣٣٠، ومقدمة ابن خلدون ص ١٩٨، ومقالات الإسلاميين ج ١ ص ١٣٠، وغاية الاختصار ص ١٣٤: أن سبب تسمية الشيعة بـ‍ (الرافضة) هو أنهم عندما تركوا نصرة زيد بن علي في سنة ١٢٢ ه‍. قال لهم زيد: رفضتموني، رفضكم الله، وهذا كذب راج على بعض الشيعة أيضاً حيث ذكروا وذكر الطبري في نفس الصفحة المشار إليها آنفاً: أن التسمية كانت من المغيرة بن سعيد، لما رفضته الشيعة.. وكانت قضيته سنة ١١٩ ه‍.

ولكن الحقيقة هي أن التسمية بالرافضة كانت قبل سنتي ١٢٢ ه‍ و ١١٩ ه‍. فقد جاء في المحاسن للبرقي ص ١١٩ طبع النجف، باب الرافضة: أن الشيعة كانوا يشكون إلى الباقر المتوفى سنة ١١٤ أن الولاة قد استحلوا دماءهم وأموالهم باسم: (الرافضة) الخ.

وجاء في ميزان الاعتدال طبع سنة ١٩٦٣ م. ج ٢ ص ٥٨٤ بعد ذكره لإسناد طويل أن الشعبي المتوفى سنة ١٠٤ ه‍. قال لأحدهم: (ائتني بشيعي صغير، أخرج لك منه رافضياً كبيراً).

وفي كتاب: روض الأخبار المنتخب من ربيع الأبرار ص ٤٠، أن الشعبي قال: (أحبب آل محمد ولا تكن رافضياً، وأثبت وعيد الله، ولا تكن مرجئياً.). بل لدينا ما يدل على أن تسمية الشيعة بـ‍ (الرافضة) كان قبل سنة المئة، فقد جاء في المحاسن والمساوي للبيهقي ص ٢١٢، طبع دار صادر وأمالي السيد المرتضى ج ١ ص ٦٨ هامش: أن لما أنشد الفرزدق أبياته المشهورة في الإمام زين العابدين، المتوفى سنة ٩٥ ه‍ قال عبد الملك بن مروان المتوفى سنة ٨٦ ه‍ للفرزدق: (أرافضي أنت يا فرزدق؟!). وعلى كل حال: فإن ذلك كله قد كان قبل قضيتي زيد والمغيرة ابن سعيد بزمان بعيد.

٢٠٥

أن يقضي على الزيدية، ويكسر شوكتهم بالبيعة للإمام الرضاعليه‌السلام بولاية العهد، ولهذا نرى أنه قد طبق اللقب، الذي طالما دعا إليه الزيدية، واعترف به العباسيون، بل ودعوا إليه في بدء دعوتهم ودولتهم، ألا وهو لقب: (الرضا من آل محمد)، طبقه على علي ابن موسىعليه‌السلام ، فسماه: (الرضا من آل محمد)(١) . فأصبحت بذلك حجته قوية على الزيدية، بل لم يعد لهم حجة أصلاً. وأصبح يستطيع أن ينام قرير العين، إذ قد أصبح (الرضا من آل محمد) موجوداً، فالدعوة إلى غيره ستكون لا معنى لها البتة. ولسوف تكون مرفوضة من الناس جملة وتفصيلا. وكان ذلك بطبيعة الحال السبب الرئيسي في إضعاف الزيدية، وكسر شوكتهم، وشل حركتهم.

والذي ساهم إلى حد كبير في إضعافهم، وشل حركتهم، هو اختياره الإمامعليه‌السلام بالذات، حيث إنه الرجل الذي لا يمكن لأحد كائناً من كان أن ينكر فضله، وعلمه، وتقواه، وسائر صفاته ومزاياه، التي لم تكن لأحد في زمانه على الإطلاق، فليس لهم بعد طريق للاعتراض عليه: بأن الذي اختاره لولاية عهده، والخلافة من بعده، ليس أهلاً لما أهله له. ولو أنهم ادعوا ذلك لما صدقهم أحد، ولكانت الدائرة حينئذ في ذلك عليهم، والخسران لهم دون غيرهم.

____________

(١) راجع: الفخري في الآداب السلطانية، ص ٢١٧، وضحى الإسلام ج ٣ ص ٢٩٤، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٤٧، والطبري، وابن الأثير، والقلقشندي وأبو الفرج. والمفيد وكل من تعرض من المؤرخين لولاية العهد. بل لقد صرح نفس المأمون بذلك في وثيقة ولاية العهد، وهذا يكفي في المقام.. ولقد قال دعبل:

أيا عجباً منهم يسمونك الرضا

ويـلقاك منهم كلحة وغضون

وهناك نصوص أخرى مفادها: أنه سمي الرضا، لرضا أعدائه، وأوليائه به، وعزى الشيبي في كتابه: الصلة بين التصوف والتشيع ص ١٣٨: عزا رضا أعدائه به إلى قوة شخصيتهعليه‌السلام .. أما نحن فنقول: إنه ليس من اليسير أبداً، أن تنال شخصية رضا كل أحد، حتى أعدائها. اللهم إلا إذا كان هناك سر إلهي، اختصت به تلك الشخصية، دون غيرها من سائر بني الإنسان..

٢٠٦

فذلكة لا بد منها:

هذا.. ولا يسعنا هنا إلا أن نشير إلى أن المأمون، لم يخترع أسلوباً جديداً للتصدي للزيدية، والحد من نفوذهم، وكسر شوكتهم، ببيعته للرضاعليه‌السلام ، إذ أنه كان قد استوحى هذه الفكرة من سلفة المهدي، الذي كان قد استوزر يعقوب بن داوود الزيدي، ليحد من نشاط الزيدية، ويكسر شوكتهم. وكان قد نجح في ذلك إلى حد ما: إذ لا يحدثنا التاريخ عن تحركات زيدية خطيرة ضد المهدي، بعد استيزاره ليعقوب، وتقريبه للزيدية، كتلك الأحداث التي حدثت ضد المنصور، وخصوصاً ثورة محمد وإبراهيم ابني عبد الله. كما يلاحظ أن تقريب العباسيين للزيدية في عصر المهدي، وتسليطهم على شؤون الدولة وإداراتها، لم يؤثر في الوضع العام أثراً يخشاه العباسيون، وذلك بلا شك مما يشجع المأمون على الإقدام على ما كان قد عقد العزم عليه، بجنان ثابت وإرادة راسخة.

يضاف إلى ذلك: أن سهولة إبعاد العباسيين لهم عن مراكز القوة، ومناصب الحكم على يد المهدي نفسه، الذي نكب يعقوب بن داوود، الوزير الزيدي، حيث لم تصاحبه ردة فعل، ولا نتج عنه أية حادثة تذكر ضد العباسيين، لا حقيرة، ولا خطيرة.. هو الذي شجع المأمون على أن يستوحي نفس الفكرة، ويلعب نفس اللعبة، ويتبع نفس طريقة المهدي. في مواجهتهم، وكسر شوكتهم، بالبيعة للرضاعليه‌السلام بولاية العهد بعده. وعلى كل حال، فإن هذا أسلوب قديم اتبعه العباسيون في دعوتهم الأولى أيضاً، حيث بايعوا للعلويين، وأظهروا أن الدعوة لهم وباسمهم..

ثم كانت النتيجة هي ما يعلمه كل أحد، حيث انقلبوا عليهم يوسعونهم قتلاً وعسفاً، وتشريداً عندما خافوهم. فلم يعودوا بحاجة إليهم.

ه‍ ـ : أضف إلى ذلك ما تقدم أن المأمون كان يعلم قبل أي شخص آخر بطبيعة العلاقات التي كانت قائمة بين الأئمةعليهم‌السلام ، وبين الزيدية، حيث إنها كانت على درجة من السوء والتدهور. وكان عدم التفاهم، والانسجام فيما بينهم واضحاً للعيان..

٢٠٧

حتى لقد شكى الأئمةعليهم‌السلام منهم، وصرحوا: بأن الناس قد نصبوا العداوة لشيعتهم، أما الزيدية فقد نصبوا العداوة لهم أنفسهم(١) ، وفي الكافي رواية مفادها: إنه عليه‌السلام قال إنهم قبل أن يصلوا إلى الحكم كانوا لا يطيعونهم فكيف تكون حالهم معهم لو أنهم وصلوا إلى الحكم وتبوءوا كرسي الرئاسة.

وقد رأينا: أن عبد الله بن الحسن، عندما جاء يعرض على الإمام الصادقعليه‌السلام كتاب أبي سلمة، الذي يدعوه فيه للقدوم إلى الكوفة، لتكون الدعوة له، وباسمه، فنهاه الإمامعليه‌السلام عن ذلك ـ رأيناه ـ ينازع الإمام الصادق الكلام، حتى قال له:

____________

(١) راجع: الوافي للفيض ج ١ ص ١٤٣، باب: الناصب ومجالسته.

هذا. ولا يمنع ذلك ما ورد عنهم عليهم‌السلام من أن خروج الزيدية وغيرهم على الحكام يدرؤا به عنهم، وعن شيعتهم: فقد جاء في السرائر قسم المستطرفات ص ٤٧٦ أنه: (ذكر بين يدي أبي عبد الله من خرج من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال عليه‌السلام : ((لا أزال أنا وشيعتي بخير ما خرج الخارجي من آل محمد ..)) إلخ وذلك لأن اصطدامهم مع الحكام كان يصرف أنظار الحكام إليهم، ويفسح المجال أمام أهل البيت وشيعتهم إلى حد ما. ولم يكن هناك مجال لاتهام الأئمة وشيعتهم بالتواطؤ معهم، مع ما كان يراه الحكام من عدم الانسجام الظاهر بين الأئمة وبين الزيدية، وغيرهم من الثائرين وسلبية كل فريق منهما تجاه الآخر..

وأخيراً.. فلا بد لنا هنا من الإشارة إلى أن ثورات العلويين، سواء على الحكم الأموي، أو الحكم العباسي، قد ساهمت في أن يبقى حق العلويين في الحكم متحفظاً بقوته وحيويته في ضمير الأمة، ووجدانها. ولم تؤثر عليه حملات القمع والتضليل، التي كان الحكم القائم آنذاك يمارسها ضدهم، وضد هذا الحق الثابت لأهل البيتعليهم‌السلام بالنص.

٢٠٨

(والله، ما يمنعك من ذلك إلا الحسد) إلخ وقد انصرف عبد الله آخر الأمر مغضباً(١) .

ورأينا أيضاً أنه في موقف آخر له مع الإمام الصادقعليه‌السلام يتهمه بنفس هذه التهمة، ويصمه بعين هذه الوصمة، وذلك عندما أرادوا البيعة لولده محمد، وأبدى الإمامعليه‌السلام رأيه في ذلك. ذلك الرأي الذي كشفت الأيام عن صحته وسداده(٢) .

بل لقد كان عيسى بن زيد يقول لمحمد بن عبد الله: (.. من خالفك من آل أبي طالب، فأمكني أضرب عنقه.)(٣) وقد تجرأ عيسى هذا أيضاً على الإمام الصادق بكلام لا نحب ذكره.

وأما موقف محمد بن عبد الله نفسه مع الإمام الصادقعليه‌السلام ، فأشهر من أن يذكر، حيث إنه سجن الإمامعليه‌السلام ، واستصفى أمواله، وأسمعه كلاماً قاسياً، لا يليق بمقام الإمام وسنه(٤) .

إلى آخر ما هنالك مما يدل على كرههم، وحقدهم على الأئمةعليهم‌السلام . أو بالأحرى حسدهم لهم..

____________

(١) راجع: مروج الذهب ج ٣ ص ٣٥٤، ٣٥٥، وغيره من المصادر.

(٢) الصواعق المحرقة ص ١٢١، وينابيع المودة للحنفي ص ٣٣٢، ٣٦١، ومقاتل الطالبيين ص ٢٥٥، ٢٥٦، ٢٧٠، وغير ذلك.. وفي هذا الأخير: أن عبد الله ابن الحسن لم يرض باستدعاء الإمام، ولا وافق عليه، عندما أرادوا البيعة لولده محمد، وبعد أن أقنعوه، وحضر الإمام، جرى بينهما ما جرى.

(٣) قاموس الرجال ج ٧ ص ٢٧٠.

(٤) قاموس الرجال ج ٧ ص ٢٧٠، و ج ٨ ص ٢٤٢، ٢٤٣ والبحار ج ٤٧ ص ٢٨٤، ٢٥٨.

٢٠٩

والمأمون.. كان يعلم بذلك كله، ويدركه كل الإدراك، ولهذا فإننا لا نستبعد أنه ـ وهو الداهية الدهياء ـ قد أراد أيضاً في جملة ما أراد: أن يوقع الفتنة بين آل علي أنفسهم. أي: بين الأئمة، والمتشيعين لهم، وبين الزيدية، ويقف هو في موقف المتفرج المتربص حتى إذا أضعف كل واحد من الفريقين الفريق الآخر، ولم يعد فيهما بقية.. انقض هو عليهما، وقضى عليهما بأهون سبيل.

بل إن بعض الباحثين يرى: أنه أراد من لعبته هذه: (.. ضرباً للثائرين العلويين من إخوة علي بن موسى بأخيهم.)(١) .

ولو أننا استبعدنا كل ذلك، فلا أقل ـ كما قلنا ـ من أن حجته أصبحت قوية على الزيدية، وعلى كل من يدعو إلى (الرضا من آل محمد)، ولم يعد يخشى أحداً منهم، بعد أن أصبح (الرضا من آل محمد) موجوداً.

الهدف التاسع:

كما أنه ببيعته للإمام الرضاعليه‌السلام بولاية العهد، وقبول الإمامعليه‌السلام بذلك.. يكون قد حصل على اعتراف من العلويين، على أعلى مستوى بشرعية الخلافة العباسية، ولقد صرح المأمون بأن ذلك، كان من جملة أهدافه، حيث قال: (.. فأردنا أن نجعله ولي عهدنا، ليكون دعاؤه لنا، وليعترف بالملك والخلافة لنا..) وسنتكلم حول تصريحات المأمون هذه بنوع من التفصيل في فصل: مع بعض خطط المأمون، وغيره إن شاء الله تعالى.

نعود إلى القول: إن تصريح المأمون هذا يعطينا: أن قبول الإمام بأن يكون ولي عهد المأمون، إنما يعني بالنسبة للمأمون: أن الإمام يكون قد أقر بأن الخلافة ليست له دون غيره، ولا في العلويين دون غيرهم، وأنه كما يمكن أن يكون هو جديراً بها، وأهلا لها، وكذلك غيره يمكن أن يكون كذلك. وليتمكن المأمون بذلك من محاربة العلويين بنفس السلاح الذي بأيديهم، وليصير ـ من ثم ـ من الصعب استجابة الناس لهم، إذا دعوا لأية ثورة ضد حكم اعترفوا هم بشرعيته، وأيدوه، وتعاونوا معه من قبل، وعلى أعلى مستوى ومن أعظم شخصية فيهم.

____________

(١) هو الدكتور كامل مصطفى الشيبي في كتابه: الصلاة بين التصوف والتشيع ص ٢١٩.

٢١٠

بل لقد كان يريد أن يحصل من العلويين على اعتراف بأن الحكم حق للعباسيين فقط. أما هم، فليس لهم فيه أدنى نصيب، وما فعله المأمون من إسناد ولاية العهد لواحد منهم، ما كان إلا تفضلاً وكرماً، ومن أجل أن يجمع شمل البيتين العلوي والعباسي، وتصفو القلوب ويمحو ما كان من أمر الرشيد وغيره من أسلافه مع العلويين.

ولقد حاول المأمون أن ينتزع من الإمام اعترافا بأن الخلافة حق للعباسيين، شفاهاً أيضاً فكانت النتيجة عكس ما أراد المأمون، وذلك عندما عرض بالمن على الإمام بأن جعله ولي عهده، فأجابه الإمامعليه‌السلام : بأن هذا الأمر لم يزده في النعمة شيئاً، وأنه وهو في المدينة كانت كتبه تنفذ في المشرق والمغرب.

كما أن المأمون قد قال لحميد بن مهران، وجمع من العباسيين: (.. وليعتقد فيه المفتونون به، بأنه ليس مما ادعى في قليل، ولا كثير، وأن هذا الأمر لنا دونه.) ولسوف يأتي الكلام عن هذه التصريحات إن شاء الله كما قلنا.

وبعد.. فإنه لا يكون من المبالغة في شيء لو قلنا: إن حصول المأمون على اعتراف من العلويين، ومن الإمام الرضاعليه‌السلام خاصة، بشرعية خلافته، وخلافة، بني أبيه أخطر على العلويين من الأسلوب الذي انتهجه أسلافه من أمويين وعباسيين ضدهم،: من قتلهم، وتشريدهم، وسلب أموالهم، إلى غير ذلك مما هو معروف ومشهور.

الهدف العاشر:

يضاف إلى ذلك، أنه يكون قد حصل على اعتراف ضمني من الإمام بشرعية تصرفاته، طيلة فترة ولاية العهد، وليعطي الناس ـ من ثم ـ الصورة التي يريدها عن الحكم والحاكم، وليؤكد للملأ أجمع: أن الحاكم هذا هو سلوكه، وهذه هي تصرفاته: من كان، ومهما كان، وإذن فليس لهم بعد حق في أن يتطلعوا إلى حكومة أحد على أن بها شيئاً جديداً، ولا أن ينظروا إلى جهة على أنها يمكن أن يكون بها المنقذ لهم، والمخرج من الظلمات إلى النور، حتى ولو كانت تلك الجهة هي آل بيت نبيهم، فإنه من الطبيعي أن يتبع السياسيون أساليب، ويتكلموا بأشياء كثيرة، ينسبونها بمجرد وصولهم إلى الحكم، وتسلمهم لازمة السلطة، فإن تلك لا تعدو كونها تكتيكات، ووعودا انتخابية، يحتاجون إليها في ظروف معينة، ثم يستغنون عنها.. كما كانت الحال في وعود المأمون، التي أشرنا إليها فيما تقدم.

٢١١

وهكذا.. فيكون سكوت الإمام في فترة ولاية العهد، عن تصرفات الهيئة الحاكمة، دالا على رضاه بها، ويعتبر إمضاء لها.. وبعد هذا.

فلا يجب أن يكون من العسير على الناس أن يتصوروا طبيعة وماهية حكم الإمام، وكل من يقدر له أن يصل الحكم والسلطان، سواء من العلويين، أو من غيرهم.

وإذا كانت الصورة واحدة، والجوهر واحد، والاختلاف إنما هو فقط في الاسم والعنوان، فليس لهم بعد حق، أو على الأقل ما الداعي لهم، لأن يطلبوا حكماً أفضل، أو حكاماً أعدل، فإنه طلب لغير موجود، وسعي وراء مفقود.

الهدف الحادي عشر:

هذا.. وبعد أن يكون المأمون قد حصل على كل ما قدمناه، وحقن دماء العباسيين، واستوثقت له الممالك، ولم يعد هناك ما يعكر صفو حياته(١) ، وقوي مركزه، وارتفع بالخلافة من الحضيض المهين، الذي أوصلها إليه أسلافه إلى أوج العظمة، والتمكن والمجد. وأعطاها من القوة والمنعة، ووهبها من الحياة في ضمير الأمة ووجدانها ما هي بأمس الحاجة إليه.. ولتتمكن من ثم من الصمود في وجه أية عاصفة، وإخماد أية ثورة، ومقاومة كل الأنواء، وذلك هو حلمه الكبير، الذي طالما جهد في تحقيقه إنه بعد أن يكون قد حصل على كل ذلك وسواه مما قدمناه:

____________

(١) لقد صرح الذهبي في الجزء الأول من كتابه (العبر) بأنه في سنة ٢٠٠ ه‍. استوثقت الممالك للمأمون. وهذه هي نفس السنة التي أتي فيها بالإمامعليه‌السلام من المدينة إلى مرو.. ولكن اليافعي في مرآة الجنان ج ٢ ص ٨: قد جعل ذلك في سنة ٢٠٣: أي في السنة التي تخلص فيها المأمون من الإمام الرضاعليه‌السلام بواسطة السم الذي دسه إليه.. وفي اليعقوبي ج ٢ ص ٤٥٢ طبع صادر: أنه في السنة التي غادر فيها المأمون خراسان: (لم تبق ناحية من نواحي خراسان يخاف خلافها).

٢١٢

يكون قد أفسح لنظام حكمه المجال ـ تلقائيا ـ لتصفية حساباته مع خصومه، أياً كانوا. وبأي وسيلة كانت، وبهدوء، وراحة فكر واطمئنان إن اقتضى الأمر ذلك.

كما أنه يكون قد مهد الطريق لتنفيذ الجزء الثاني ـ ولعله الأهم ـ من خطته الجهنمية، بعيداً عن الشبهات، ودون أن يتعرض لتهمة أحد، أو شك من أحد..

ألا وهو: القضاء على العلويين بالقضاء على أعظم شخصية فيهم. وليكون بذلك قد قضى نهائياً، وإلى الأبد، على أكبر مصدر للخطر، يمكن أن يتهدده، ويتهدد خلافته ومركزه.

إنه يريد زعزعة ثقة الناس بهم، واستئصال تعاطفهم معهم، وليحوله ـ إن استطاع ـ إلى كره ومقت، بالطرق التي لا تمس العواطف والمشاعر، ولا تثير الكثير من الشكوك والشبهات.

يظهر ذلك في محاولاته إسقاط الإمام إجتماعياً، والوضع منه قليلاً قليلاً، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر، وليدبر فيه في نهاية الأمر بما يحسم عنه مواد بلائه.. كما صرح لحميد بن مهران، وجمع من العباسيين، وسنتكلم بنوع من التفصيل عن محاولات المأمون هذه، التي باءت كلها بالفشل الذريع، وعادت عليه بالخسران، لأن الإمامعليه‌السلام كان قد أحبطها عليه، بل لقد كان لها من النتائج العكسية بالنسبة إليه ما جعله يتعجل بتصفية الإمام جسديا، بعد أن أشرف هو منهعليه‌السلام على الهلاك.. بالطريقة التي حسب أنها سوف لا تثير الكثير من الشكوك والشبهات.

ملاحظة لا بد منها:

ومن الأمور الجديرة بالملاحظة هنا: أن المأمون كان يقدر أن مجرد جعل ولاية العهد للإمام، سوف يكون كافيا لتحطيمه إجتماعياً، وإسقاطه نهائياً من أعين الناس، حيث يظهر لهم بالعمل ـ لا بالقول: أن الإمام رجل دنيا فقط، وأن تظاهره بالزهد والتقوى ما هو إلا طلاء زائف، لا واقع له، ولا حقيقة وراءه. ولسوف تكون النتيجة هي تشويه سمعة الإمامعليه‌السلام ، وزعزعة ثقة الناس به، وذلك بسبب الفارق الكبير بالسن، بين الخليفة الفعلي، وبين ولي عهده، إذ إن ولي العهد لا يكبر الخليفة الفعلي بسنتين، أو ثلاثة، أو خمسة، لا.. بل أكثر من ذلك بكثير، إنه يكبره بـ‍(٢٢) سنة،

٢١٣

وإنه لمن الأمور غير الطبيعية أبداً: أن يقبل ولاية العهد، وهو يكبر الخليفة الفعلي بهذا المقدار الكبير من السنين، ولسوف يكون قبوله لها ـ مع هذا الفارق بينهما ـ موجبا لجعله عرضة لشكوك الناس، وظنونهم، ولسوف يتسبب بوضع علامات استفهام كبيرة حوله.. كما كان الحال، بالنسبة لسؤال محمد بن عرفة، وكلام الريان المتقدم.. ولسوف يفسر(١) ذلك من أولئك الذين لا يدركون حقيقة ما يجري، وما يحدث، ـ وما أكثرهم ـ بتفسيرات تنسجم مع رغائب المأمون، وأهدافه. لأنهم سوف يرون أن زهدهعليه‌السلام بالدنيا، ليس إلا ستاراً تختفي وراءه مطامعه فيها، وحبه المستميت لها، حتى إنه ليطمع أن يعيش إلى ما بعد الخليفة الفعلي، الذي هو أصغر من ولده، ويصل إلى الحكم.. وباختصار نقول:

إنه يريد أن: (.. يعتقد فيه المفتونون به بأنه: ليس ما ادعى في قليل ولا كثير.) حسبما صرح به هو نفسه.. وعلى حد قول الإمام نفسه، الذي كان يدرك خطة المأمون هذه: (.. أن يقول الناس: إن علي بن موسى، لم يزهد في الدنيا، بل زهدت الدنيا فيه، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعا بالخلافة؟!.). كما سيأتي.

____________

(١) ولكنا، مع ذلك نجد: أن قسما من أصحاب الرضاعليه‌السلام ، ممن كانوا يراقبون الأحداث بوعي ودراية، كانوا يدركون نوايا المأمون وأهدافه هذه ففي البحار ج ٤٩ ص ٢٩٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٩: أنه قد سئل أبو الصلت: (كيف طابت نفس المأمون بقتل الرضا مع إكرامه ومحبته له، وما جعل له من ولاية العهد بعده؟! فقال: إن المأمون كان يكرمه ويحبه لمعرفته بفضله، وجعل له ولاية العهد من بعده، ليري الناس أنه راغب في الدنيا، فلما لم يظهر منه إلا ما ازداد به فضلاً عندهم، ومحلاً في نفوسهم، جلب عليه إلخ.).

٢١٤

وعن الريان قال: دخلت على الرضا، فقلت: يا ابن رسول الله، إن الناس يقولون: إنك قبلت ولاية العهد، مع إظهارك الزهد في الدنيا؟!، فقالعليه‌السلام :((قد علم الله كراهتي..)) (١) وقد أشرنا إلى سؤال محمد بن عرفة، وكلام الريان فيما تقدم.

وعلى أي شيء يبكي المأمون، ومن أجل أي شيء يشقى ويتعب، ويسهر الليالي، ويتحمل المشاق.. إلا على هذا.. إن هذا هو أجل أمنياته وأغلاها.

سؤال وجوابه:

قد يدور بخلد القارئ أن ما ذكرناه هنا: فيما يتعلق بالفارق الكبير بالسن، ينافي ما تقدم من أن المأمون كان يريد الحصول على قاعدة شعبية، والارتفاع بالخلافة من الحضيض الخ.

ولكن الحقيقة هي:

أنه لا منافاة هناك.. ويمكن للمأمون أن يقصد كل ذلك من البيعة، لأن مقدار التفاوت بالسن بين الإمامعليه‌السلام والمأمون، لم يكن مما يعرفه الكثيرون، ولا مما يلتفت إليه عوام الناس في بادئ الأمر، لأنهم يأخذون الأمور على ظواهرها، ولا يتنبهون إلى مثل ذلك، إلا بعد تنبيه وتذكير، فللوهلة الأولى تجوز عليهم الخدعة، ويقدرون خطوة المأمون هذه، وتنتعش الآمال في نفوسهم بالحياة الهنيئة السعيدة، تحت ظلم حكم بدا أنه يتخذ العدل ديدنا، والإنصاف طريقة..

____________

(١) علل الشرايع ص ٢٣٨، والبحار ج ٤٩ ص ١٣٠، وأمالي الصدوق ص ٤٤، ٤٥.

٢١٥

ثم.. وبعد أن يجند المأمون أجهزة إعلامه، من أجل تسميم الأفكار، يجد أن نفوس الناس مهيأة ومستعدة لتقبل ما يلقى إليها. ويكون لديه ـ باعتقاده ـ من الحجج ما يكفي لإسقاط الإمام، وزعزعة ثقة الناس به. ولا يؤثر ذلك بعد ذلك على الحكم، فإن الحكم يكون قد استنفذ أغراضه من البيعة. وحصل على ما يريد الحصول عليه منها.. هذا ولا بد لنا هنا من ملاحظة أن المأمون وأجهزة إعلامه كانوا في مقابل وصم الإمام بالرغبة بالدنيا والتفاني في سبيلها.. يشيعون بين الناس عن المأمون عكس ذلك تمام، فيطلب المأمون من وزيره أن يشيع عنه الزهد، والورع والتقوى(١) .. وأنه لا يريد مما أقدم عليه الأخير الأمة ومصلحتها، حيث قد اختار لولاية عهده أفضل رجل قدر عليه، رغم أن ذلك الرجل هو من ذلك البيت الذي لا يجهل أحد موقفه من حكم العباسيين، وموقف العباسيين منه كما يتضح ذلك من وثيقة ولاية العهد، وغيرها.

رأي الناس فيمن يتصدى للحكم:

لعل من الواضح أن كثيراً من الناس كانوا يرون ـ في تلك الفترة من الزمن ـ لقصر نظرهم، وقلة معرفتهم: أن هناك منافاة بين الزهد والورع، والتقوى، وبين المنصب، وأنهما لا يتفقان، ولا يجتمعان.

____________

(١) تاريخ التمدن الإسلامي ج ٤ ص ٢٦١.

٢١٦

وقد رأينا الكثيرين يمتنعون على تولي المناصب للحكام، لما يرونه من المنافاة المشار إليها.

ولعل سر فهمهم هذا: هو أنهم كانوا قد اعتادوا من الحكام التجاوز على الحقوق، والدماء، والأموال، وعلى أحكام الدين، والنواميس الإنسانية، بشكل عام. والزهد والورع لا يتلائم مع ذلك كله، ولا ينسجم معه.

ولكن الحقيقة هي: أن لا منافاة بينهما أبداً، فإن الحكم إذا كان وسيلة لإيصال الخير إلى الآخرين، ورفع الظلم عنهم، وإشاعة العدل، إقامة شريعة الله تعالى، فيجب السعي إليه، والعمل من أجله، وفي سبيله.. بل إذا لزم من ترك السعي إليه، تضييع الحقوق، وانهيار صرح العدل، والخروج على أحكام الدين، فإن ترك السعي هذا، يكون هو المنافي للزهد والورع والتقوى..

ولقد قاد النبيعليه‌السلام الأمة، وقبله قادها سليمان بن داوود، وغيره، وبعده الإمام علي بن أبي طالب، وولده الحسن، ثم الحسين، وهكذا..

وحال هؤلاء في الزهد والورع، لا يحتاج إلى مزيد بيان، وإقامة برهان، بل لم يكن على ظهرها أزهد، ولا أتقى، ولا أفضل، ولا أورع منهم، عدوهم يعرف منهم ذلك تماماً كما يعرفه منهم صديقهم. فعدا عن الأنبياء الذين كانوا القمة في الورع والزهد والتقوى، نرى الإمام عليعليه‌السلام قمة في ذلك أيضاً، وقد رقع مدرعته حتى استحيا من راقعها، وكان راقعها هو ولده (الإمام الحسنعليه‌السلام )(١) . وكان يصلي في بيت المال ركعتين شكراً لله، بعد فراغ المال منه. وكان يقول:((إليك عني يا دنيا غري غيري، أبي تعرضت؟!..)) الخ وهو الذي قال فيه عدوه معاوية: (لو كان له بيتان: بيت من تبر، وآخر من تبن، لأنفق تبره قبل تبنه.). إلى غير ذلك مما لا مجال لنا لتتبعه واستقصائه..

____________

(١) راجع: الدرة النجفية ص ٣٠٣، طبعة حجرية.

٢١٧

العلويون يدركون نوايا المأمون:

إن نوايا المأمون تجاه العلويين، ومحاولاته لإسقاطهم إجتماعياً، وابتزازهم سياسياً.. حتى إذا أخفق في ذلك راح يختلهم واحداً فواحداً، كلما واتاه الظرف، وسنحت له الفرصة.. لم يكن العلويون يجهلونها، بل كانوا يدركونها كل الإدراك، ولم تكن تخدعهم تلك الشعارات والأساليب المبهرجة. وحسبنا هنا أن نذكر في مقام التدليل على هذا: أن المأمون كتب لعبد الله بن موسى، بعد وفاة الرضا، يعده بأنه يجعله ولي عهده، ويقول له: (ما ظننت أن أحداً من آل أبي طالب يخافني بعد ما عملته بالرضا).

فأجابه عبد الله يقول: (وصل إلي كتابك، وفهمته، تختلني فيه عن نفسي مثل القانص، وتحتال علي حيلة المغتال، القاصد لسفك دمي. وعجبت من بذلك العهد، ولايته لي بعدك، كأنك تظن: أنه لم يبلغني ما فعلته بالرضا؟! ففي أي شيء ظننت أني أرغب من ذلك؟ أفي الملك الذي غرتك حلاوته؟!.

إلى أن يقول: أم في العنب المسموم الذي قتلت به الرضا؟!).

ويقول له أيضاً ـ والظاهر أنه نص آخر للرسالة ـ: (هبني لا ثأر لي عندك، وعند آبائك المستحلين لدمائنا الآخذين حقنا، الذين جاهروا في أمرنا، فحذرناهم. وكنت ألطف حيلة منهم، بما استعملته من الرضا بنا، والتستر لمحننا، تختل واحداً،

____________

(١) ترجمة الإمام عليعليه‌السلام من تاريخ ابن عساكر بتحقيق المحمودي ج ٣ ص ٥٨ ـ ٦٠.

٢١٨

فواحداً منا الخ..)(١) .

ولا بد من ملاحظة: منافاة وعده هذا لعبد الله بن موسى بأن يجعل له ولاية العهد.. للرسالة التي أرسلها إلى العباسيين في بغداد، فور وفاة الرضاعليه‌السلام ، ويعدهم فيها بأن يجعل ولاية العهد فيهم، وسنشير إلى رسالته لهم في فصل: مع بعض خطط المأمون إن شاء الله وعلى كل حال.. فإننا نستطيع أن نفهم من هذه الرسالة التي لعبد الله بن موسى أموراً، نشير إلى بعضها:

أولاً: إن المأمون كان قد جعل ولاية العهد وسيلة لختل الشخصيات التي كان يخشاها، والغدر بها، إذ إن من المقبول والطبيعي ـ كما يرى البعض ـ أن يكون ولي العهد هو الذي يتآمر، ويدبر للتخلص من الخليفة الفعلي، ليختصر المسافة، ويصل إلى الحكم، الذي ينتظر الوصول إليه، والحصول عليه بفارغ الصبر. وليس من الطبيعي، ولا من المقبول أن يتآمر الخليفة على ولي عهده، إلا إذا كان يريد أن يجعل الخلافة لمن هو أعز عليه منه، وهذا ما نفاه المأمون عن نفسه في أكثر من مناسبة.

وهكذا.. فإن النتيجة تكون: أن الخليفة الفعلي يكون آخر من يتهم في ولي العهد، إذا ما راح ضحية التآمر والاغتيال، وعرف الناس ذلك. وهذا بلا شك من جملة ما كان يريده المأمون، ويسعى إليه.

ثانياً: إن المأمون رغم الصعوبات التي واجهها في فترة تولية الرضاعليه‌السلام العهد.. يبدو أنه كان يعتبر نفسه منتصراً وناجحاً في لعبته تلك، ولذلك نرى أنه قد حاول تكرار نفس اللعبة مع عبد الله بن موسى. ولكن يقظة هذا الأخير، الذي كانت ظروفه تختلف عن ظروف الإمامعليه‌السلام قد فوتت عليه الفرصة، وأعادته. بخفي حنين.

____________

(١) مقاتل الطالبيين للأصفهاني ص ٦٢٨، إلى ص ٦٣١، وسنورد الرسالة في أواخر هذا الكتاب إن شاء الله.

٢١٩

كما أننا لا نستبعد أن المأمون قد أراد بالإضافة إلى ذلك التستر على غدره بالرضاعليه‌السلام ، بعد أن كان قد افتضح واشتهر، رغم محاولاته الجادة للتستر والكتمان.

ثالثاً: ما تقدمت الإشارة إليه من أن إكرامه للعلويين، والرضا بهم، والتستر لمحنهم، ما كان منه إلا ضمن خطة مرسومة، وإلا سياسة منه ودهاء، من أجل أن يأمن العلويون جانبه، ويطمئنوا إليه، كما يدل عليه قوله لعبد الله بن موسى: (ما ظننت أحداً من آل أبي طالب يخافني بعد ما عملته بالرضا) وقد قدمنا أنه أشار إلى ذلك أيضاً في كتابه للعباسيين، فلا نعيد..

رابعاً: أنه لم يستطع أن يخفي عن العلويين ـ كما لم يستطع أن يخفي عن غيرهم ـ غدره بالإمام الرضاعليه‌السلام ، وسمه له بالعنب، وكذلك غدره بغيره من العلويين. وسر ذلك واضح، فإن جميع الدلائل والشواهد كانت متوفرة على ذلك، كما سيأتي بيان جانب من ذلك في فصول هذا الكتاب بنوع من التفصيل.

موقف الإمام في مواجهة مؤامرات المأمون:

لقد رأينا كيف أن المأمون أراد من لعبته تلك، التغلب على المشاكل التي كان يواجهها، والاستفادة في تقوية دعائم خلافته، وخلافة العباسيين بشكل عام.. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما هو موقف الإمامعليه‌السلام نفسه من لعبة المأمون تلك، وخططه، وأهدافه؟، وهل أفسح المجال للمأمون ليحقق كل ما يريد تحقيقه، ويصل إلى ما

كان يريد الوصول إليه؟.. وهل كانت لديه خطط من نوع معين، وأهداف معينة كان يسعى من أجل الوصول إليها، والحصول عليها؟!.

الحقيقة هي: أن الإمامعليه‌السلام قد استطاع، بما اتبعه من خطة حكيمة، وسلوك مثالي: أن يضيع على المأمون كافة الفرص، ويجعله يبوء بالخيبة والخسران، ويمنى بالفشل الذريع، حتى لقد أشرف المأمون منه على الهلاك، وبدا الارتباك واضحاً في كل تصرفاته، وأقواله، وأفعاله..

وسيأتي في الفصول الآتية في القسمين: الثالث، والرابع بيان بعض ما يتعلق بذلك إن شاء الله.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578