شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم6%

شبهات وردود حول القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 578

شبهات وردود حول القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 578 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 297524 / تحميل: 13675
الحجم الحجم الحجم
شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

وقد عرفت أنّ سِحرَهم كانت شَعْوذة والأُخْذة بالعين لا غير، فقد ( سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ ) (١) وكانت ( حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ) (٢) ، فقد كان مجرّد تلبيس وتَمويه في الأمر وأَروهم ما كان الواقع خلافه.

وإذا كان هذا (مجرّد التخييل والتمويه) سِحراً عظيماً - والسّحر ما لطُف ودقّ مأخذه - فكيف بغير العظيم الذي هو أخفّ وزناً وأردأ شأناً؟ هذا ما يرسمه لنا القرآن من واقع السحر، وأنّه يخالف تماماً ما كانت العرب تعتقده بشأن السحر وتأثيره في قلب الواقع، فكيف يا ترى مَزعومة مَن زعم أنّ القرآن وافق العرب في عقيدتها أو جاملهم وتماشى معهم في أمرٍ باطل؟!

قال سيّد قطب: وحسبنا أنْ يقرّر القرآن أنّه سحر عظيم، لندرك أيّ سحرٍ كان، وحسبنا أن نعلم أنّهم سحروا أعين الناس وأثاروا الرهبة في قلوبهم (واسترهبوهم) لنتصوّر أيّ سحرٍ كان، ولفظ (استرهب) ذاته لفظ مصوِّر، فهم استجاشوا إحساس الرهبة في الناس وقسروهم عليه قسراً.

ثُمّ حسبنا أنْ نعلم من النصّ القرآني - في سورة طه - أنّ موسى (عليه السلام) قد أوجس في نفسه خيفةً لنتصوّر حقيقة ما كان، ولكن مفاجأة أخرى تُطالع فرعون ومَلأه، وتُطالع السَحَرة الكَهَنة، وتُطالع جماهير الناس في الساحة الكبرى التي شَهِدت ذلك السحر العظيم: ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ ) (٣) .

إنّه الباطل ينتفش، ويَسحر العيون، ويَسترهِب القلوب، ويُخيّل إلى الكثير أنّه غالب، وأنّه جارف، وأنّه مُحيق! وما هو إلاّ أنْ يواجه الهادئ الواثقَ، حتّى ينفثئ كالفُقّاعة، ويَنكمش كالقنفذ، وينطفئ كشُعلة الهشيم! وإذا الحقّ راجح الوزن، ثابت القواعد، عميق الجذور، والتعبير القرآني هنا يُلقي هذه الظِلال، وهو يُصوّر الحقّ واقعاً ذا ثقل (فوقع الحقّ)... وثبت، واستقرّ... وذهب ما عداه فلم يَعد له وجود: (وبطل ما كانوا يعملون).

____________________

(١) الأعراف ٧: ١١٦.

(٢) طه ٢٠: ٦٦.

(٣) الأعراف ٧: ١١٧ - ١١٩.

٢٢١

وغُلب الباطل والمـُبطلون وذلّوا وصغروا وانكمشوا بعد الزهو الذي كان يُبهر العيون: ( فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ ) (١) .

قال: فالسحر لا يُغيّر من طبيعة الأشياء، ولا يُنشئ حقيقةً جديدةً لها، ولكنّه يُخيّل للحواسّ والمشاعر بما يريده الساحر، وهذا هو [ واقع ] السحر كما صوّره القرآن الكريم في قصّة موسى (عليه السلام) فلم تنقلب حبالُهم وعصيّهم حيّات فعلاً، ولكن خُيّل إلى الناس أنّها تسعى، وهذه هي طبيعة السحر كما ينبغي لنا أن نُسلّم بها، وهو بهذه الطبيعة يُؤثّر في الناس، ويُنشئ لهم مشاعر وِفق إيحائه، مشاعر تُخيفهم وتُؤذيهم وتُوجّههم الوِجهة التي يُريدها الساحر.

قال: وعند هذا الحدّ نقف في فهم طبيعة السحر والنفث في العُقد، وهي شرّ يُستعاذ منه بالله ويُلجأ إلى حماه (٢) .

سَحَرة بابل

كان المـُجتمع البابلي - على عهد الكلدانيّين - مُجتمعاً فاسداً شاعت فيه الفحشاء والمـُنكرات وراج الفساد والإفساد في الأرض، وكان من أساليب إفسادهم ارتكاب الحِيَل الماكرة والدسائس الخادعة لإيجاد البغضاء والشحناء بين الناس، وبثّ روح سوء الظنّ بين المؤتلفَينِ، بين المرء وزوجه، بين الوالد وَوَلَده، بين الأخوَين، بين الشريكين في صنعةٍ أو تجارة، وذلك عن طريق الوساوس والدسائس والخُدع والنيرنجات، وكان السبب يعود إلى هيمنة الحسد على الناس حينذاك، بما جعلهم يُبغض بعضهم بعضاً ويعمل بعضهم ضدّ البعض في أساليب وحِيَل خدّاعة كلّ يوم في شكل من أشكالها، ويتعاون بعضهم مع بعض في تخطيط هذه الأساليب وتنويعها ( يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً ) (٣) ، وإلى ذلك تُشير سورة الناس: ( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِن شَرِّ

____________________

(١) في ظِلال القرآن، المجلّد ٣، ص ٦٠٤، ج ٩، ص ٣٨.

(٢) المصدر: المجلّد ٨، ص ٧٠٩، ج ٣٠، ص ٢٩١.

(٣) الأنعام ٦: ١١٢.

٢٢٢

الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ ) ، الخَنس: العمل في خَفاء وعن وحشة الافتضاح، ومِن ثَمّ إذا أحسّ بالفضح خَنَس أي انقبض وتخفّى بسرعة، فكان الخنّاس هو الذي يعمل في خُبثٍ ولؤم وعن وحشةٍ خشية الافتضاح، فهو يعمل في خُبثٍِ معه ضَعف وجُبن وَوَهن في مَقدرته الماكرة.

فأنزل الله الملكَين هاروت وماروت ببابل يُنبّهان الناس على إفشاء تلك الأساليب الماكرة ويُعلّمانِهم طُرق التخلّص منها والنقض من أثرها، غير أنّ بعض الخُبثاء كانوا يَتعلّمون ما يضرّهم دون ما ينفعهم، ليُفرّقوا بين المرء وزوجه، سوى أنّ الله غالب على أمره وما تشاءون إلاّ أنْ يشاء الله.

يقول الله عن سوء تصرّف بني إسرائيل: ( وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ) (١) .

لقد تركوا ما أنزل الله ونَبذوه وراء ظهورهم، وراحوا يَتَتبّعون ما كان يقصّه الشياطين - والشيطان وَصفٌ لكلّ خبيث سيّئ السريرة - على عهد سليمان وأساليب تضليلهم للناس من دعاوٍ مكذوبة عن سليمان؛ حيث كانوا يقولون إنّه كان ساحراً وإنّه سخّر ما سخّر بسحره، والقرآن ينفي عنه ذلك (وما كفر سليمان) باستعمال السحر الذي هو في حدّ الكفر بالله العظيم، (ولكنّ الشّياطين (خبثاء الجنّ والإنس) كفروا يعلّمون النّاس السّحر) (طُرق الإضلال وأساليب التضليل).

ثُمّ ينفي أنّ السحر مُنزَل من عند الله على الملكَين: هاروت وماروت، اللذين كان مَقرّهما بابل، ويبدو أنّه كانت هناك قصّة معروفة عنهما وكان اليهود أو الشياطين يَدّعون أنّهما كانا يَعرفان السحر ويُعلّمانه للناس، فنفى القرآن هذه الفِرية، وبيّن الحقيقة، وهي أنّ

____________________

(١) البقرة ٢: ١٠٢.

٢٢٣

هذين الملكَين كانا هناك فتنةً وابتلاء للناس، كانا يقولان لكلّ مَن يأتيهما طالباً منهما معرفة طريق التخلّص من براثن الشياطين السَحَرة: لا تَكفر باستخدام تلك الأساليب الماكرة، وقد كان بعض الناس يُصرّ على تعلّم السحر لغرض خبيث على الرغم من تحذيره وتبصيره، ( فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ) ، وهنا يُبادر القرآن فيُقرّر كلّية التصوّر الإسلامي الأساسيّة، وهي أنّه لا يقع شيء في هذا الوجود إلاّ بإذن الله ورعاية مصلحته وحِكمته، فبإذن الله تَفعل الأسباب فعلها وتُنشأ أثارها وتحقّق نتائجها، وإن كانت عاقبة السوء تعود على الزائغين الذين ينحرفون عن الطريق السوي والصراط المستقيم الذي رسمه لهم ربّ العالمين.

ثُمّ يقرّر القرآن حقيقة ما يتعلّمونه بُغية إيقاع الشرّ بالآخرين، إنّه شرّ عليهم وليس خيراً لهم ( وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ ) ، وربّما يكفي أن يكون هذا الشرّ هو الكفر والخسران في الآخرة ( وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ ) ، فمَن تعلّم شرّاً وحاول الإضرار به يعلم أنْ لا نصيب له في العاقبة، فهو حين يَختاره ويشتريه يَفقد كلّ رصيدٍ له في الآخرة سِوى العقاب، فما أسوأ ما باعوا به أنفسهم وأضاعوا خيرات كانت لهم في عُقبى الدار، ( وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ) لو كان يفقهون وَيَعون واقع الأمر.

النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (١)

النَفث، قَذفُ القليل من الريق، شبيهٌ بالنفخ، وهو أقلّ من التفل، ونَفَث الراقي أو الساحر أن يَنفث بريقه في عُقدٍ يَعقدها بعد كلّ زَمزَمَة يَتزمزم بها؛ ليسحر بها فيما زعموا، والمـُراد به هنا هي النميمة ينفثها النمّامون في العُقد أي في الروابط الودّية ليُبدّدوا شمل الأُلفة بين المتحابَّين: المرء وزوجه، الوالد وولده، الأخوين، المتشاركين في صنعةٍ أو تجارةٍ أو زراعةٍ وغير ذلك ممّا يرتبط وأواصر الودّ بين شخصين أو أكثر، والعرب تُسمّي

____________________

(١) الفلق ١١٣: ٤.

٢٢٤

الارتباط الوثيق بين شيئَين أو شخصَين عُقدة، كما جاء التعبير عن الارتباط بين الزوجين (عُقدة النكاح) قال تعالى: ( وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ) (١) ، ( إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ) (٢) .

ومعنى الآية: ومِن شرّ النمّامين الذين يُحاولون بوساوسهم الخبيثة قطع الأواصر بين المتحابّين، وهذا من التشبيه في الجُمَل التركيبيّة، نظير التشبيه في سورة المـَسد بشأن أُمّ جميل امرأة أبي لهب ( وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ) (٣) ، أي النمّامة؛ حيث النمّام يَحمل على عاتقه حطبَ لهيبِ النفاق والتفرقة بين المتحابّين، وجاء مناسباً مع تكنّي زوجها بأبي لهب، فهي تَحمل حطب هذا اللهب، فكما أنّها لم تكن تَحمل حطباً حقيقةً - كما زعمه بعضهم - لأنّها بنت حرب أخت أبي سفيان وكذا زوجها أبو لهب، كانا من أشراف قريش الأثرياء، غير أنّهما كانا يحملان خُبثا ولؤماً بالِغَين.

فالنميمة تُحوّل ما بين الصديقين من محبّة إلى بغضاء بالدسائس، وهي وسائل خفيّة تشبه السحر الذي هو ما لطُف ودقّ مأخذه، فالنّمام يأتي بكلامٍ يشبه الصدق ويؤثّر في خَلَدِك، كما يفعل الساحر المشعوذ إذا أراد أنْ يَحلّ عُقد المحبّة والوِداد بين كلّ متحابّين، إذ يتزمزم بألفاظٍ ويَعقد عُقدةً وينفثُ فيها، ثُمّ يحلّها إيهاماً للعامّة أنّ هذا حلّ للعُقدة بين الزوجَين أو غيرهما، فهو من التشبيه المحض وليس المقصود ما تفعله السَحَرة بالذات، الأمر الذي يتناسب مع سائر آيات سورة الفلق: ( وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ) ، أي ومِن شرّ الليل إذا دخل وغَمَر كلّ شيءٍ بظلامه، والليل إذا كان على تلك الحال كان مَخوفاً باعثاً على الرهبة والوحشة؛ لأنّه سِتار يختفي في ظلامه ذوو الإجرام إذا قصدوك بالأذى، وعَون لأعدائك إذا قصدوا بكَ الفتك... وهكذا قوله: ( وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ) يعني: شرّ حاسد إذا حاول إنفاذ حسدِه بالسعي والجدّ في إزالة نعمة مَن يحسده، فهو يعمل الحِيَل ويَنصب شباكه؛ لإيقاع المحسود في فخّ الضرر والأذى، يعمل ذلك بأدقّ الوسائل لتنفيذ مكائده.

____________________

(١) البقرة ٢: ٢٣٥.

(٢) البقرة ٢: ٢٣٧.

(٣) المسد ١١١: ٤.

٢٢٥

فكما أنّ الآيتين (السابقة واللاحقة) استعاذة بالله من مكائد أهل الزيغ والإفساد، كذلك هذه الآية ( النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ) هي مكائد يَرتكبها أهل النمائم لإيقاع الأذى، شُبِّهوا بالسّاحرات يَنفثنَ في العُقد.

فالاستعاذة منهم جميعاً إلى الله المستعان لإحباط مساعيهم وردّ مكائدهم في نحورهم، وهو الملجأ والمعين.

قال سيّد قطب: والنفّاثات في العقد: السواحر الساعيات بالأذى عن طريق خِداع الحواسّ، وخِداع الأعصاب، والإيحاء إلى النفوس والتأثير في المشاعر، وهُنّ يَعقدنَ العُقد في نحو خيطٍ أو منديلٍ ويَنفثن فيها كتقليد من تقاليد السحر والإيحاء، قال: والسحر لا يغيّر من طبيعة الأشياء، ولا يُنشئ حقيقةً جديدةً لها، ولكنّه يُخيّل للحواسّ والمشاعر بما يريده الساحر (١) .

قال شيخ الطائفة أبو جعفر مُحمّد بن الحسن الطوسي (قدس سره): ولا يجوز أن يكون النبيّ (صلّى الله عليه وآله) سُحِر، على ما رواه القصّاص الجُهّال؛ لأنّ مَن يُوصف بأنّه مسحور فقد خَبِل عقله، وقد أنكر الله تعالى ذلك في قوله: ( وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاّ رَجُلاً مَّسْحُوراً ) (٢) .

وهكذا قال العلاّمة الطبرسي في تفسيره للسورة عند الكلام عن شأن النزول (٣) .

وقال الأستاذ مُحمّد عبده: قد رَوَوا هنا أحاديث في أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) سَحَره لبيد بن الأعصم، وأثّر سحره فيه حتّى كان يُخيّل إليه أنّه يفعل الشيء وهو لا يفعله، أو يأتي شيئاً وهو لا يأتيه، وأنّ الله أنبأه بذلك، وأُخرجت موادّ السحر من بئرٍ، وعُوفي ممّا كان نزلَ به من ذلك ونزلت هذه السورة!

ولا يخفى أنّ تأثير السحر في نفسه عليه الصلاة والسلام ماسّ بالعقل آخذ بالروح، فهو ممّا يُصدّق قول المشركين فيه:) إِن تَتَّبِعُونَ إِلاّ رَجُلاً مَّسْحُوراً ) .

والذي يجب علينا اعتقاده أنّ القرآن المتواتر جاء بنفي السحر عنه عليه الصلاة

____________________

(١) في ظِلال القرآن، المجلّد ٦، ص ٧٠٩، ج ٣٠، ص ٢٩١، وقد نقلنا تمام كلامه آنفاً.

(٢) تفسير التبيان، ج ١٠، ص ٤٣٤، والآية ٨ من سورة الفرقان، وفي سورة الإسراء ١٧: ٤٧: ( وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً ) .

(٣) مجمع البيان، ج ١٠، ص ٥٦٨.

٢٢٦

والسلام؛ حيث نَسب القول بإثبات حصوله له إلى المشركين ووبّخهم على ذلك.

والحديث - على فرض صحّته - من أحاديث الآحاد التي لا يُؤخذ بها في العقائد، وعصمة الأنبياء عقيدة لا يؤخذ فيها إلاّ باليقين.

على أنّ سورة الفَلق مكّية نزلت بمكة في السنين الأُولى، وما يزعمونه من السحر إنّما وقع في المدينة في السنين الأخيرة حيث اشتدّ العداء بين اليهود والمسلمين فهذا ممّا يُضعف الاحتجاج بالحديث ويُضعف التسليم بصحّته (١) .

قال سيّد قطب: هذه الروايات تُخالف أصل العصمة النبويّة في الفعل والتبليغ، ولا تستقيم مع الاعتقاد بأنّ كلّ فعل من أفعاله (صلّى الله عليه وآله) أنّه مسحور، وتكذيب المشركين فيما كانوا يدّعونه من هذا الإفك؛ ومِن ثَمّ نستبعد هذه الروايات، وأحاديث الآحاد لا يُؤخذ بها في أمر العقيدة، والمـَرجع هو القرآن، والتواتر شرط للأخذ بالأحاديث في أصول الاعتقاد، وهذه الروايات ليست مِن المتواتر، فضلاً عن أنّ نزول هاتَين السورتَين في مكّة هو الراجح، ممّا يُوهن أساس الروايات الأخرى (٢) .

وقد استوفينا الكلام حول مَزعومة سحر النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وتفنيد رواياته بصورة مستوعبة، فراجع (٣) .

ظواهر روحيّة غريبة

إنّه ما يَزال مُشاهداً في كلّ وقت أنّ بعض الناس يَملكون خصائص لم يكشف العلم عن حقيقتها بعد، لقد سُمّي بعضها بأسماء من غير أنْ يُحدّد كنهها ولا معرفة طُرقها، هذه ظاهرة (التيليباثي) - التَخاطر من بعيد - ما هو؟ وكيف يتمّ؟ كيف يملك إنسانٌ أنْ يتلقّى فكرةً من إنسانٍ آخر على أبعاد وفواصل لا رابط بينهما سِوى هذا الاتّصال الروحي

____________________

(١) ملخّص كلامه على ما جاء في تفسير المراغي، ج ١٠، ص ٢٦٨، وراجع: تفسير جزء عمّ لمـُحمّد عبده، ص ١٨١ - ١٨٣.

(٢) في ظِلال القرآن، المجلّد ٨، ص ٧١٠، ج ٣٠، ص ٢٩٢.

(٣) في الجزء الأَوّل من التمهيد.

٢٢٧

الغريب؟! وربّما تُتلقّى الفكرة مِن كائنٍ حيٍّ وراء سِتار الغيب، إمّا فكرة طيّبة - وهي نفثة روح القُدس - أو فكرة خبيثة تَنبثُها شياطين الجنّ، وإلى هذا الأخير جاءت الإشارة في قوله تعالى: ( وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ) (١) ، وهكذا تتبادل الأفكار الذميمة بين شياطين الجنّ والإنس: ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً ) (٢) .

وهذا السُبات المغناطيسي (هبنوتزم) أو التنويم الصناعي يَتمّ بسيطرة إرادة إنسان على إرادة آخر كان قد نوّمه بطريقة غير عادية، قالوا: إنّ في الإنسان سيّالاً مغناطيسياً لا يُعرف كُنهه يَنبعث منه بالإرادة ويؤثّر على الأشياء أو الأشخاص تأثيراً خاصّاً، فقد يُلقّنه بأن يُوقع في وهمه فيقتنع هذا اقتناعاً تامّاً، أو استخراج الروح من الجسد ليأخذ بالتَجول والإطّلاع على غيوب، وربّما استُخدم هذا السيّال المغناطيسي في الطبّ وفي معالجة قسم من الأمراض المستعصية، لكن لم يُحدّد إلى اليوم ما هو؟ وكيف يتمّ؟ وكيف يقع أنْ تسيطر إرادة على إرادة؟ أو ينفعل شيء بتأثير قوّة الإرادة؟

وهكذا تحضير الأرواح - حسبما يُسمّونه اليوم - يقوم على أساس اتصالٍ روحيٍّ بكائنات حيّة وراء سِتار الغيب، أمّا ما هذه الكائنات الحيّة؟ وكيف يتمّ هذا الاتصال؟ وهل هو اتصال بأرواح فارقت أجسادها بالموت أم هي غيرها؟ الأمر الذي بقي مجهولاً لم يُقطع بشيءٍ منه.

حكى لي زميلنا العلاّمة الشيخ مهدي الآصفي أنّ جماعةً مِن مزاولي هذا الفنّ طلبوا إليه أنْ يشهد جلسةً يَتمّ فيها هذا العمل، قال: وبعد أعمال وأطوار قاموا بها طلبوا إليّ رغبتي في إحضار روحٍ من الأرواح، فرغبتُ أنْ يَحضر روح الشيخ الأعظم المحقّق الأنصاري (قدس سره) فلمـّا حضر - وِفق إخبارهم - قالوا: ماذا تبتغي السؤال منه؟ فطلبت إليهم أنْ يسألوه عن مسألةٍ أصوليّة عريقة كان الشيخ هو مُبدِعها وهي مسألة (الحكومة والورود) في دلائل الأحكام، فرغبتُ أنْ يشرحها بنفسه؛ حيث الاختلاف كثير في تفسيرها، وعند

____________________

(١) الأنعام ٦: ١٢١.

(٢) الأنعام ٦: ١١٢.

٢٢٨

ذلك قالوا: إنّ الرّوح قد سخط مِن هذا السؤال وترك الجلسة وذهب مغضباً!

نعم، لا نَنكر إمكان ذلك إجماليّاً، ولكن هل هذا الأمر يتمّ بهذه التوسعة؟ وهل هذه الأرواح هي أرواح الأموات أم غيرها؟ الأمر الذي لا يُمكن البتّ فيه، غير أنّ هذه وأمثالها مظاهر روحيّة غريبة، وهي في جميع أنحائها وأشكالها لا تمسّ قضية السحر حسبما كان يزعمه الأقدمون - من الاستعانة بأرواح الأفلاك والكواكب وتسخيرها - أو حسبما راج عند أوساط السُذّج الأوهام اليوم وربّما بعد اليوم مادام لم تكتمل العقول (١) .

كلامٌ عن إصابة العين

قالوا: وممّا نجد القرآن متأثّراً بالبيئة العربيّة الجاهلة اعترافه بإصابة العين في مواضع:

الأَوّل: قوله تعالى - حكاية عن يعقوب (عليه السلام) -: ( وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ) (٢) ، قيل: خاف عليهم إصابة العين؛ لأنّهم كانوا ذوي جمالٍ وهيبةٍ وكمالٍ، وهم إخوة أولاد رجلٍ واحد (٣) .

الثاني: قوله تعالى: ( وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ * وَمَا هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ) (٤) ، قيل: يُزلقونك بمعنى يُصيبونك بأعينهم، قال الطبرسي: والمفسّرون كلّهم على أنّه المراد من الآية (٥) .

الثالث: قوله تعالى: ( وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ) (٦) ، قيل: أي مِن شرّ عينه (٧) ، وعن ابن أبي عمير رفعه قال: أَما رأيته إذا فَتَح عينَيه وهو يَنظر إليك هو ذاك (٨) .

والكلام هنا من جهتَين، الأُولى: هل القرآن تعرّض لتأثير العين، سواء كان حقّاً أم

____________________

(١) راجع في ذلك كلّه: الإنسان روح لا جسد، للأستاذ رؤوف عبيد، في ثلاث مجلّدات ضخام، وغيره ممّن كتبوا في هذا الشأن وهي كثيرة جدّاً.

(٢) يوسف ١٢: ٦٧.

(٣) مجمع البيان: ج ٥، ص ٢٤٩.

(٤) القلم ٦٨: ٥١ - ٥٢.

(٥) مجمع البيان، ج ١٠، ص ٣٤١.

(٦) الفلق ١١٣: ٥.

(٧) مجمع البيان، ج ١٠، ص ٥٦٩.

(٨) معاني الأخبار للصدوق، ص ٢١٦، طبع النجف.

٢٢٩

باطلاً؟ الثانية: هل للعين تأثير سوءٍ ذاتي مع قطع النظر عمّا جاء في القرآن؟

أمّا الجهة الأُولى فليس في ظاهر تعبير القرآن ما يَدلّ على ذلك:

أمّا قولة يعقوب لبنيه: ( لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ... ) فإنّما كانت في عودتهم إلى مصر بعد سفرتهم الأُولى التي رجعوا منها خائبين، فلو كان يخاف عليهم العين لأمرهم بذلك في المرّة الأُولى بل وفي كلّ سفرةٍ وحلّ وارتحال، فيمنعهم أنْ يترافقوا في الأسفار على الإطلاق، ولا خصوصية لهذه المرّة من الدخول على يوسف.

قيل: إنّما قال لهم ذلك - في هذه المرّة - ليَستخبر من حالة العزيز حين يَدخل عليه كلّ أخٍ له، فيَستعلم من تأثير كلّ واحدٍ عند الدخول عليه حالته الخاصّة، وما يظهر على أسارير وجهه وحركات عينيه حين رؤية شقيقه من أُمّه بنيامين (١) ، ولعلّ يعقوب استشعر من ردّ العزيز إخوته ليأتوا بأخٍ آخر لهم من أبيهم، أنّه هو يوسف، فحاول بهذه التجربة معرفة شخصية العزيز ولعلّه يوسف نفسه، الأمر الذي لا يَعلم إذا دخلوا عليه كلّهم جماعةً واحدةً؛ ومِن ثَمّ لمـّا دخل عليه أخوه بنيامين آواه وأفشى نفسه لديه، الأمر الذي يدلّ على دخوله عليه لوحده، فقد تحقّق تدبير يعقوب في تفرّسه.

وهذا يدلّ على فراسة يعقوب القوية، حيث يقول عنه تعالى: ( وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍْ لِّمَا عَلَّمنَاهُ ) (٢) أي ذو فراسةٍ قوية.

قال إبراهيم النخعي - وهو تابعيّ كبير -: إنّ يعقوب (عليه السلام) كان يَعلم بفراسته بأنّ العزيز هو ابنه يوسف إلاّ أنّ الله لم يَأذن له في التصريح بذلك، فلمـّا بعث أبناءه إليه أَوصاهم بالتفرقة عند الدخول وكان غرضُه أن يصل بنيامين وحده إلى يوسف في خلوةٍ من سائر إخوته (٣) .

وقوله تعالى: ( مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا ) (٤) يعني: إنّ هذا التدبير الذي قام به يعقوب لم يكن يُغيّر من المصلحة التي رعاها الله بشأنه،

____________________

(١) راجع: تفسير المراغي، ج ١٣، ص ١٦.

(٢) يوسف ١٢: ٦٨.

(٣) راجع: التفسير الكبير، ج ١٨، ص ١٧٤، والدرّ المنثور، ج ٤، ص ٥٥٧.

(٤) يوسف ١٢: ٦٨.

٢٣٠

ولكن كانت تلك بُغية أملٍ في نفس يعقوب، قضاها الله رعايةً لجانبه العزيز على الله.

وممّا يُبعّد إرادة إصابة العين - إضافة على ما ذكرنا - أنّ التحرّز من ذلك لا يتوقّف على الدخول من أبوابٍ متفرّقة، بل يكفي الدخول متعاقبين وفي فترات، ثُمّ إنّهم كانوا يدخلون مصر في جمعٍ غفيرٍ من رِفقة القافلة الحاشدة بالأحمال والأثقال، فكيف يَعرف الناس أنّ هؤلاء إخوة مِن أبٍ واحد؟

وكذا قوله تعالى: ( وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ... ) .

الزَلَق: الزلّة، وأَزلقه: أزلّه ونحّاه عن مكانه، والمـَزلق: المكان الذي يَنزلق عليه ولا يمكن الثبات عليه.

والإزلاق بالأبصار، تَحديق النظر إليه نظر ساخط شديد السُخط بحيث يكون مُرعباً يُوجب الوحشة والتراجع عمّا هو فيه خوفاً من إيقاع الأذى به.

و(إنْ) مخفّفة من المثقلة، أي كاد أنْ يزلّوك عن موضعك بشدّة السُخط والإرعاب والإرهاب، البادي ذلك من تحديق نظرهم المـُغضب إليك.

أي إنّهم لشدّة عداوتهم وبغضائهم ينظرون إليك نظراً شَزراً (١) حتّى ليكادون يزلّون قدمك بغضاً فتصدع حين سمعوك تتلو كتاب الله وتنبذ أصنامهم (٢) .

وهذا نظير قوله تعالى: ( وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا ) (٣) .

يقال: فزّه واستفزّه أي أزعجه.

فهذه النظرات الشَّزرة تكاد تؤثّر في موقف الرسول الصَلب فتجعله يَزلّ ويزلق ويفقد توازنه وثباته على الأمر، وهو تعبير فائق عمّا تَحمِله هذه النظرات العدائيّة من غيظٍ وحنقٍ وشرٍّ ونقمةٍ وضغن وحُمّى وسمّ ( لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ ) ، مصحوبة هذه النظرات المسمومة المحمومة بالسبّ القبيح والشتم البذيء والافتراء الذميم ( وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ) (٤) .

ويَدلّنا على عدم إرادة إصابة العين في هذه الآية الكريمة بالذات أنّ إصابة العين

____________________

(١) يقال: شَزَر إليه أي نظر إليه بجانب عينه مع إعراضٍ أو غضب.

(٢) راجع: تفسير المراغي، ج٢٩، ص٤٧.

(٣) الإسراء ١٧: ٧٦.

(٤) في ظِلال القرآن، المجلّد ٨، ص٢٤٣، ج٢٩، ص٦٧.

٢٣١

إنّما تكون عند الإعجاب بشيء لا عند التنفّر والانزجار، والآية تصرّح بأنّهم كادوا يُزلِقونه لمـّا سمعوا الذِكر، ماقتينَ عليه نافرينَ منه، فجعلوا يَسلقونه بالسِّباب والشتم ويَرمونه بالجنون، فكيف والحال هذه يحسدونه فيُصيبونه بأعينهم؟! الأمر الذي لا يلتئم وسياق الآية الكريمة.

قال الزجّاج: معنى الآية، أنّهم ينظرون إليك عند تلاوة القرآن والدعاء إلى التوحيد نظر عداوةٍ وبغضٍ وإنكارٍ لِما يسمعونه وتعجّبٍ منه، فيَكادون يصرعونك بحدّة نظرهم ويُزيلونك عن موضعك، وهذا مُستعمل في الكلام، يقولون: نظر إليَّ فلان نظراً يَكاد يصرعني ونظراً يكاد يأكلني فيه، وتأويله كلّه أنّه نظر إليَّ نظراً لو أمكنه معه أكلي أو يصرعني لفعل (١) .

وهكذا قال الجبائي: إنّ القوم ما كانوا ينظرون إلى النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) نظر استحسان وإعجاب بل نظر مقتٍ ونقص (٢) .

وهكذا قوله: ( وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ) (٣) - في سورة الفلق - أي إذا حاول السعي وراء حسده لغرض إيقاع الأذى والضرر بالمحسود، أي استعذ باللّه مِن شرّ الحاسد إذا حاول إنفاذ حسده، بالسعي والجدّ في إزالة نعمة مَن يحسده، فهو يعمل الحِيَل وينصب شباكه؛ لإيقاع المحسود في الضرر والخسران، وربّما بأدقّ الوسائل والذرائع، وليس في الاستطاعة الوقوف على ما يُدبّره مِن مكائد إلاّ أنْ يُستعان عليه بربّ الفلق أي مُسبِّب الفرج والخلاص مِن كيد الكائدين، والإحباط من مساعيهم الخبيثة (٤) .

نظرة فاحصة عن إصابة العين

أمّا الجهة الأُخرى - وهو البحث عن إصابة العين ومدى تأثيرها السيئ في النفوس والأموال - فقد شاع الإشفاق منها في أوساط بدائيّة وربّما في أوساط متحضّرة أيضاً،

____________________

(١) مجمع البيان، ج١٠، ص٣٤١.

(٢) بحار الأنوار، ج٦٠، ص٣٩.

(٣) الفلق ١١٣: ٥.

(٤) راجع: تفسير المراغي، ج٣٠، ص٢٦٨ - ٢٦٩، وتفسير جزء عمّ للشيخ مُحمّد عَبده، جزء عمّ، ص١٨٣ - ١٨٤.

٢٣٢

وفي ذلك نوع من الاعتراف بحقيقتِهِ إجمالياً، وربّما علّلوه بتعاليل تبدو طبيعيّة ترجع إلى نفس العاين، قالوا: هي تَشعشُعات تَمَوجيّة تنبعث من عين الرائي الذي أعجبه شيء على أثر انفعاله النفسي الخاصّ والأكثر إذا كان عن حسدٍ خبيث، وربّما من غير شعور بهذا الانفعال النفسي المفاجئ في غالب الناس، وهي خاصّية غريبة قد توجد شديدة في البعض وخفيفة في الآخرين.

وهذه التَشعشُعات السامّة تشبه التيّارات الكهربائيّة تؤثّر في المـُتكهرب بها تأثيراً بالفعل، الأمر الذي يكون طبيعياً وليس شيئاً خارقاً، وإن كان لم يُعلم كُنهُها ولا عُرفت حدودها ومشخّصاتها، ولا إمكان مقابلتها مقابلة علميّة فيما سوى الدعاء والصدقة والتوكّل على اللّه تعالى.

قال الشيخ ابن سينا: إنّ لبعض النفوس تأثيراً في الخارج من بدنه بتعلّق روحاني كتعلّقه ببدنه (١) .

وقال أبو عثمان الجاحظ: لا يُنكر أنْ ينفصل من العين الصائبة إلى الشيء المـُستَحسَن أجزاء لطيفة متّصلة به وتؤثّر فيه، فيكون هذا المعنى خاصّية في بعض الأعيُن كالخواصّ للأشياء (٢) .

قال - في كتاب الحيوان بصدد التحرّز من أعين ذوي الشره والحِرص ونفوسهم -: كان علماء الفُرس والهند وأطبّاء اليونان ودُهاة العرب وأهل التجربة من نازلة الأمصار وحذّاق المتكلّمين يَكرهون الأكل بين يدي السباع، يَخافون نفوسَها وعيونَها؛ للّذي فيها من الشَرَه والحرص والطلب والكَلَب، لِما يتحلّل عند ذلك من أجوافها من البخار الرديء، وينفصل من عيونها من الأُمور المفسدة، ما إذا خالطت طبائع الإنسان نقضته؛ ولذلك كانوا يكرهون قيام الخدم بالمذابّ (مُطرِدة الذُّباب) والأشربة على رؤوسهم وهم يأكلون، مخافة النفس والعين، وكانوا يأمرون بإشباعهم قبل أنْ يأكلوا، وكانوا يقولون في السنّور

____________________

(١) في النمط الأخير من كتاب الإشارات (هامش مجمع البيان، ج٥، ص ٢٤٩).

(٢) مجمع البيان، ج٥، ص٢٤٩، تفسير سورة يوسف، ولعلّه أخذه من الشريف الرضي في كتابه المجازات النبويّة، ص٣٦٩، بتغيير يسير سوف ننقله.

٢٣٣

والكلب إما أنْ تَطرده قبل أن تأكل، وإمّا أنْ تشغله بشيء يأكله ولو بعَظمٍ يُطرح له.

قال: ورأيت بعض الحكماء وقد سقطت من يده لقُمة، فرفع رأسه فإذا عينُ غلامٍ تُحدّق نحو لقُمته، وهو يزدرد ريقه لتحلّب فمه من الشهوة، وكان ذلك الحكيم جيّد اللقم طيّب الطعام، ويضيّق على غلمائه.

وقالت الحكماء: إنّ نفوس السِّباع وأعينها في هذا الباب أردأ وأخبث لفرط شَرَهِها وشرّها، قال الجاحظ: بين هذا المعنى وبين قولهم في إصابة العين الشيء العجيب المستحسن شِركةً وقرابةً، ذلك أنّهم قالوا: قد رأينا أُناساً يُنسب إليهم ذلك، ورأيناهم وفيهم من إصابة العين مقدار مِن العدد، لا نستطيع أن نجعل ذلك النسق من باب الاتفاق، وليس إلى ردّ الخبر (العين حقّ) سبيل، لتواتره وترادفه؛ ولأنّ العيان قد حقّقه والتجربة قد ضُمّت إليه.

قالوا: ولولا فاصل ينفصل من عين الرائي المـُعجَب إلى الشيء المـُعجَب به - حتّى يكون ذلك الداخل عليه هو الناقض لقُواه - لَما جاز أنْ يَلقى المصاب بالعين مكروهاً مِن قِبَل العاين، مِن غير تماسّ ولا تصادم ولا رابط يربط أحدهما بالآخر.

قال الأصمعي: رأيتُ رجلاً عَيوناً (الشديد الإصابة بالعين) كان يَذكر عن نفسه أنّه إذا أعجبه الشيء وَجَد حرارةً تخرج من عينه (١) .

وأضاف الجاحظ - ردّاً على مَن زعم أن الاعتراف بصحّة إصابة العين ينافي التوحيد -: أنّ الاعتراف بالطبائع اعترافُ بسُنّة الله الجارية في الخَلق والتدبير، وليس أمراً خارجاً عن طَوع إرادته تعالى، قال: ومَن زَعم أنّ التوحيد لا يَصحّ إلاّ بإبطال حقائق الطبائع فقد حَمَلَ عجزَه على الكلام في التوحيد، وإنّما يأنس منك المـُلحِد إذا لم يدعك التوفّر على التوحيد إلى بخس حقوق الطبائع؛ لأنّ في رفع أعمالها رفع أعيانها، وإذا كانت الأعيان هي الدالّة على اللّه فرفعت الدليل فقد أبطلت المدلول عليه (٢) .

____________________

(١) الحيوان للجاحظ، ج٢، ص٢٦٤ - ٢٦٩، تحقيق يحيى الشامي، مع بعض التعديل حسب نقل ابن أبي الحديد في شرح النهج، ج١٩، ص٣٧٦ - ٣٧٧.

(٢) المصدر: ص٢٦٦.

٢٣٤

وللسيّد الشريف الرضي (قدس سرّه) كلام لطيف عند شرحه لقول النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله): (العين حقّ تَستَنزل الحالقَ) (١) ، قال: وهذا مجاز، والمراد أنّ الإصابة بالعين مِن قوّة تأثيرها وتحقّق أفاعيلها كأنّها تستهبط العالي من ارتفاعه، وتَستَقلِقُ (أي تُزحزح) الثابت بعد استقراره، والحالق، المكان المرتفع من الجبل وغيره، فجعل عليه الصلاة والسلام العين كأنّها تحطّ ذروة الجبل مِن شدّة بطشها وحدّة أَخذها.

وقد تناصرت (تضافرت) الأخبار بأنّ الإصابة بالعين حقّ (٢) ، والذي يقوله أصحابنا: إنّ اللّه سبحانه يفعل المصالح بعباده على حسب ما يَعلمه مِن الصلاح لهم في تلك الأفعال التي يفعلها والأَقدار التي يُقدّرها، وإذا تقرّرت هذه القاعدة، فغير ممتنع أنْ يكون تغييره تعالى نعمة زيدٍ مصلحةً لعمروٍ، وإذا كان تعالى يعلم من حال عمروٍ أنّه لو لم يَسلب زيداً نعمته ويَخفض منزلته، أقبل على الدنيا بوجهه، ونأى عن الآخرة بعِطفه، وأقدم على المغاوي وارتكس في المهاوي، وإذا سَلبَ سبحانه نعمةَ زيدٍ للعلّة الّتي ذكرناها عوّضه عنها وأعطاه بدلاً منها عاجلاً أو آجلاً، وإذا كان ذلك كما قلنا - وقد رُوي عنه (صلّى اللّه عليه وآله) ما يدلّ على أنّ الشيء إذا عَظُم في صدور العباد وضع اللّه قَدْرَه وصغّر أمره - (٣) لم يُنكر تغيير حال بعض الأشياء عند نظر بعض الناظرين إليه واستحسانه له وعِظَمِه في صدره وفخامته في عينه، كما رُوي أنّه (صلّى اللّه عليه وآله) قال - لمـّا سُبِقَت ناقَتُه العَضباء (٤) وكانت إذا سوبق بها لم تُسبَق -: (ما رَفَعَ العبادُ من شيء إلاّ وضع اللّه منه) (٥) .

____________________

(١) حديث متواتر، رواه الفريقان بعدّة أسانيد وفي مختلف الألفاظ والعبارات، راجع: مسند أحمد، ج١، ص٢٧٤، وسائر المسانيد الستّ: وبحار الأنوار، ج٦٠، ص٢٥ - ٢٦، وسائر الكتب الحديثيّة المعتبرة.

(٢) وقد عقد العلاّمة المجلسي في بحاره باباً في ذلك، راجع: ج٦٠، كتاب السماء والعالم.

(٣) إشارة إلى ما رواه أحمد في مسنده الآتي وفي النهج: (ما قال الناس لشيء طوبى له إلاّ وقد خبأَ الدهر له يومَ سوء).

قصار الحِكم، رقم ٢٨٦، ص٥٢٦. وفي نوادر الراوندي، ص١٢٨: (ما رفع الناسُ أبصارَهم إلى شيء إلاّ وَضَعه اللّه) وراجع: بحار الأنوار، ج٦٠، ص٢٧.

(٤) العَضباء: الناقة المشقوقة الأُذُن، وكان هذا الاسم لقباً لناقة رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) ولم تكن مشقوقة الأُذُن، قال الزمخشري: ناقة عَضباء، قصيرة اليد.

(٥) روى أحمد في مسنده، ج٣، ص١٠٣ و٢٥٣ وغيره أنّ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) كانت له ناقة تُسمّى العَضباء، وكانت لا تُسبَق في مسابقةٍ، حتّى جاء أعرابيّ على قعودٍ (ما اُعدّ للحمل والركوب من الدوابّ ومن الإبل ما تجاوز السنتين ولم يبلغ الستّ) فسبقها، فشُقّ ذلك على المسلمين، فلمـّا رأى ما في وجوههم قال: (إنّ حقّاً على اللّه أنْ لا يرفع شيئاً في الدنيا إلاّ وضعه)، والحديث منقول في الكتب بألفاظ مختلفة.

٢٣٥

فيمكن أنْ يتأوّل قوله عليه الصلاة والسلام: (العينُ حقّ) على هذا الوجه، ويجوز أنْ يكون ما أَمر به المستحسن للشيء عند رؤيته له من إعاذته باللّه والصلاة على رسول اللّه (١) قائماً في المصلحة مقام تغيير حالة الشيء المستحسن، فلا تغيّر عند ذلك؛ لأنّ الرائي قد أظهر الرجوع إلى اللّه سبحانه والإخبات له، وأعاذ ذلك المرئي به، فكأنّه غير راكنٍ إلى الدنيا ولا مغترٌّ بها ولا واثقٌ بما يرى عليه أحوال أهلها.

قال: ولعمرو بن بحر الجاحظ في الإصابة بالعين مذهبٌ انفرد به، وذلك أنّه يقول: إنّه لا يُنكر أن ينفصل من العين الصائبة إلى الشيء المستحسن أجزاءٌ لطيفة فتؤثّر فيه وتَجني عليه، ويكون هذا المعنى خاصّاً ببعض الأَعيُن كالخواصّ في الأشياء، قال: وعلى هذا القول اعتراضات طويلة وفيه مطاعن كثيرة... (٢)

وهذا الكلام نقلناه بطوله لما فيه مِن فوائد جمّة وتنبيهٌ على أنّ مِن حِكمته تعالى القيام بمصالح العباد، فربّما يحطّ من هيمنة المعيون كي لا يطغى العاين فيَخرج عن حدّه، ثُمّ إنّه تعالى يُعوّض المعيون بما يسدّ خلّة الضرر الوارد به، وقد يكون ذلك في مصلحة المعيون لتكون كفّارةً لِما فَرَط منه من الغلوّ أو التفريط بشأن العاين، لكن هذا لا ينافي ما علّل به ابن سينا أو الجاحظ في بيان السبب الطبيعي الواقع تحت إرادة اللّه الحكيمة.

وهكذا ذهب المتأخّرون في بيان التعليل الطبيعي لإصابة العين وِفق ما أودع اللّه من خصائص في طبيعة الأشياء.

قال سيّد قطب: والحسد انفعالٌ نفسي إزاء نعمة اللّه على بعض عباده مع تمنّي زوالها، وسواء أَتبَع الحاسد هذا الانفعال بسعي منه لإزالة النعمة تحت تأثير الحقد والغيظ، أو وَقَف عند حدّ الانفعال النفسي، فإنّ شرّاً يمكن أنْ يُعقّب هذا الانفعال.

قال: ونحن مضطرّون أنْ نطامن من حدّة النفي لِما لا نعرف من أسرار هذا الوجود وأسرار النفس البشريّة وأسرار هذا الجهاز الإنساني، فهنالك وقائع كثيرة تَصدر عن هذه الأسرار، ولا نملك لها حتّى اليوم تعليلاً، هنالك مثلاً التخاطر على البُعد، وكذلك التنويم

____________________

(١) قال رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله): (مَن أَعجَبَه من أخيه شيءٌ فليذكر اللّه في ذلك، فإنّه إذا ذُكر اللّه لم يضرّه)، والأحاديث بهذا المعنى كثيرة، راجع: بحار الأنوار، ج٦٠، ص٢٥.

(٢) المجازات النبويّة للسيّد الشريف الرضي، ص٣٦٧ - ٣٦٩، رقم ٢٨٥.

٢٣٦

المغناطيسي وقد أصبح الآن موضعاً للتجربة المتكرّرة المثبتة، وهو مجهول السرّ والكيفيّة، وغير التخاطر والتنويم كثير من أسرار الوجود وأسرار النفس وأسرار هذا الجهاز الإنساني.

فإذا حَسَد الحاسدُ ووجّه انفعالاً نفسيّاً معيّناً إلى المحسود فلا سبيل لنفي أثر هذا التوجيه لمجرّد أنّ ما لدينا من العلم وأدوات الاختبار لا تصل إلى سرّ هذا الأثر وكيفيّته، فنحن لا ندري إلاّ القليل في هذا الميدان، وهذا القليل يُكشَفُ لنا عنه مُصادفةً في الغالب، ثُمّ يستقرّ واقعةً بعد ذلك، فهنا شرٌّ يُستعاذ منه باللّه (١) .

هل تأثّر القرآن بالشعر الجاهلي؟

من طريف ما يُذكر بهذا الشأن ما زَعَمه بعض المـُستشرقين الأجانب أنّ القرآن ضَمّن بعض آياتٍ تعابير اقتبسها من أبياتٍ شعريّةٍ جاهليّة!

فالدكتور (سنكلر تسديل Thusdale ) صاحب كتاب (مصادر الإسلام) يَروي شُبُهات الناقدينَ للقرآن الكريم، ومنها هذه الأبيات:

دنت الساعةُ وانشقّ القمر (٢)

عن غزالٍ صادَ قلبي ونَفَر

أَحورٌ قد حُرت في أوصافهِ

ناعسُ الطرفِ بعينَيه

حور مرّ يوم العيدِ في زينتِهِ

فرَماني فتعاطى فَعَقر (٣)

بسهامٍ من لحاظٍ فاتكٍ

تركتني كهشيمِ المحتظرِ (٤)

ويَتخذ منها قرينةً على اقتباس القرآن بعض الآيات من أشعار الجاهليّين! ويَضيف إلى هذه الأبيات أبياتاً أُخرى كقول القائل:

أَقبلَ والعُشّاق مِن خلفه

كأنّهم من حَدَب ينسلون (٥)

وجاء يوم العيد في زينةٍ

لمثل ذا فليعمل العاملون (٦)

____________________

(١) في ظِلال القرآن، المجلد ٨، ص٧١٩ - ٧١١، ج٣٠، ص٢٩٢ - ٢٩٣.

(٢) مُقتبس من سورة القمر ٥٤: ١.

(٣) مُقتبس من سورة القمر ٥٤: ٢٩.

(٤) مُقتبس من سورة القمر ٥٤: ٣١.

(٥) مُقتبس من سورة الأنبياء ٢١: ٩٦.

(٦) مُقتبس من سورة الصافّات ٣٧: ٦١.

٢٣٧

قال: ومِن الحكايات المـُتداولة في عصرنا الحاضر أنّه لمـّا كانت فاطمة بنت مُحمّد (صلّى اللّه عليه وآله) تتلو هذه الآية وهي ( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ) سمعتها بنت امرئ القيس وقالت لها إنّ هذه القطعة من قصائد أبي أخذها أبوك وادّعى أنّ اللّه أنزلها عليه (١) .

لكنّ الذي يُكذّب هذه الأسطورة أنّ امرئ القيس مات سنة ٥٤٠م أي قبل مولد النبيّ (٥٧٠م) بثلاثين سنة، فلو كنّا نعلم أنّ فاطمة (عليها السلام) وُلدت بعد البعثة (٦٠٩م) بخمس سنين (٦١٤م) نَعرف مدى خُرافة هذه الأكذوبة! إذ لابدّ لفاطمة لو فُرض أنّها أرادت قراءة القرآن في محفل عامّ أنْ تبلغ عشر سنين مثلاً، فلو فرضنا أنّ بنت امرئ القيس عند وفاة أبيها كانت بلغت عشر سنين أيضاً فيكون عمرها عند سماع قراءة بنت النبي (صلّى اللّه عليه وآله) قد بلغ أربع وتسعين سنة!! إذ ولادتها حينئذٍ تكون سنة ٥٣٠م وعام سماعها ٦٢٤م، وقلّ مَن يعيش في هذه السنّ من نساء الجاهليّة؟!

والمـُرجّح أنّ هذا التضمين الشعري مُقتبس من القرآن على يد بعض أهل المـُجون، وكم له مِن نظير، ويشهد لذلك ذِكر العيد في هذه الأبيات الخاص بالعهد الإسلامي المتأخّر، ولا سابق له قبل الإسلام (٢) .

وللاقتباس عرضٌ عريض سواء في الشعر أم النثر، وهو إمّا مقبول أو مردود على الشرح التالي:

الاقتباس

الاقتباس تَضمين الشعر أو النثر بعض القرآن، لا على أنّه منه، بأنْ لا يقال فيه: قال اللّه تعالى ونحوه، وقد شاع الاقتباس منذ الصدر الأَوّل وراج بين مَن تأخّر عنهم وعُدّ من المـُحسِّنات البديعيّة، وفي كثير من الخُطب والأدعية فضلاً عن الشعر تضمينات مُقتبسة مِن القرآن الكريم، لها رواء وبهاء وارتفاع شأن الكلام.

____________________

(١) كتاب (مصادر الإسلام) لتسديل، ص٢٥ - ٢٩، من ترجمته العربيّة.

(٢) كما ولم يذكره صاحب ديوان امرئ القيس.

٢٣٨

وفي شرح بديعيّة ابن حجّة: الاقتباس ثلاثة أقسام: مقبول ومباح ومردود،

فالأوّل: ما كان في الخُطب والمواعظ والعهود.

والثاني: ما كان في القول والرسائل والقصص.

والثالث: على ضربَين:

أحدهما: ما نَسبه اللّه إلى نفسه، ونعوذ باللّه ممّن ينقله إلى نفسه، كما قيل عن أحد بني مروان أنّه وقّع على مطالعة فيها شكاية عمّاله ( إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ) ! (١) .

والآخر: تضمين آية في معنى هزل، ونعوذ باللّه من ذلك، كقوله:

أوحى إلى عُشّاقه طرفَه

( هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ ) (٢)

ورِدفُه يَنطق مِن خلقه

( لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ ) (٣)

قلت: والأبيات التي ذَكرها (تسديل) من هذا القبيل، أي القسم الممنوع من الاقتباس.

ومن القسم الجائز ما رواه البيهقي في (شُعَب الإيمان) عن شيخه أبي عبد الرحمان السلمي قال: أنشدنا أحمد بن مُحمّد ابن يزيد لنفسه:

سلْ اللّهَ من فضله واتقِه

فإنّ التُقى خيرُ ما تَكتَسِب

ومَن يتّقِ اللّه يصنع له

( وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ) (٤)

وذَكَر الزركشي للطرطوشي:

رحل الظاعنون عنكَ وأَبقَوا

في حواشي الأحشاء وجداً مُقيماً

قد وَجَدنا السلام برداً سلاماً

إذ وَجَدنا النوى عذاباً أليماً

قال: وثَبُتَ للشافعي:

أنلني بالذي استقرضت خطّاً

وأَشهد معشراً قد عاينوهُ

فإنّ اللّه خلاّق البرايا

عَنَت لجلال هيبتِهِ الوجوهُ

____________________

(١) الغاشية ٨٨: ٢٥ و٢٦.

(٢) المؤمنون ٢٣: ٣٦.

(٣) مقتبس من سورة الصافّات ٣٧: ٦١، راجع: الإتقان للسيوطي، ج٢، ص٣١٤ - ٣١٥.

(٤) الطلاق ٦٥: ٣، راجع: الإتقان، ج٢، ص٣١٦.

٢٣٩

يقول ( إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ) (١)

وذكر السبكي في طبقاته في تَرجمة أبي منصور البغدادي من كِبار الشافعيّة قوله:

يا مَن عدى ثُمّ اعتدى ثُمّ اقترف

ثُمّ انتهى ثُمّ ارعوى ثُمّ اعترف

أبشر بقول اللّه في آياته

( إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ ) (٢)

قال جلال الدين السيوطي: هذا وما قَبلَه ليس من الاقتباس، للتصريح بأنّه قول الله (٣) .

هل في القرآن تعابير جافية؟

زَعموا أنّ في القرآن تعابير جافية لا تتناسب وأدب الوحي الرفيع؛ وذلك في مثل التعبير بالفَرج وهو اسم لسَوءة المرأة، والتعبير بالخيانة بشأن أزواج أنبياء الله، وهو فَضح امرأة تكون في حَصَانة زوجٍ كريم، والتعبير باخسَؤُوا والتشبيه بالحِمار والكلب، وكذا سائر التعابير الغليظة الجافّة في مثل ( تَبَّتْ ) ، (٤) و ( امْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ) (٥) ، والدعاء بالشرّ ( قَاتَلَهُمُ اللّهُ ) (٦) ... ومن أمثال هذا القبيل قد توجد في القرآن ممّا لا يوجد نظيره في غير من الكُتُب ذات الأدب الرفيع.

لكنّه زَعمٌ فاسدٌ ناشٍ عن الجهل بمصطلح اللغة ذلك العهد، وخلط القديم بالجديد من الأعراف، وإليك تفصيل الكلام عن ذلك:

( الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا)

جاء هذا التعبير في القرآن في موضعَين (٧) فعابوا التصريح بسَوءة المرأة!

لكنّه تعبير كنائي وليس بصريح؛ حيث المراد مِن الفَرج هنا هو خصوص جيب

____________________

(١) البقرة ٢: ٢٨٢، راجع: البرهان للزركشي، ج ١، ص ٤٨٢ - ٤٨٣.

(٢) الأنفال ٨: ٣٨.

(٣) الإتقان، ج ١، ص ٣١٥ - ٣١٦.

(٤) المسد ١١١: ١.

(٥) المسد ١١١: ٤.

(٦) التوبة ٩: ٣٠، المنافقون ٦٣: ٤.

(٧) في سورة الأنبياء: ٩١: ( وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا ) ، والتحريم: ١٢: ( وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا ) .

٢٤٠

القميص وهو خَرقٌ مطوّق في أسفله.

قال ابن فارس: الفاء والراء والجيم، أصلٌ صحيحٌ يدلّ على تفتّح في الشيء، من ذلك: الفُرجة في الحائط وغيره والشقّ، والفُرُوج: الثُغور التي بين مواضع المـَخافة (1) .

قال: والجيب، جيب القميص (2) وهو خَرقٌ مستطيل في قدّامه، يقال: جِبْتُ القميص، قَوَّرت جيبه وهو خَرقُه مِن وَسَطه خَرقاً مُستديراً، وفي القرآن: ( وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ) (3) وهو خَرقٌ في صدر القميص، ويقال: فلانٌ ناصح الجيب أي أمينه (4) ويقال: طاهر الجيب أي نزيهه.

فالفَرج في هكذا تعابير هي فُرجة القميص أي جيبه، وهو عبارة عن خَرقٌ مطوّق في أسفله، حسب العادة في قمصان العرب، فإحصان الفَرج عبارة عن طهارة الذيل أي نزاهته عن دَنَس الفحشاء (5) .

وهو استعمال على الأصل العربي القديم والّذي جرى عليه القرآن الكريم على المصطلح الأَوّل، أمّا أخيراً فغُلّب استعماله في سَوءة المرأة وهو استعمال مُستَحدث، لا يُحمل القرآن عليه، قال تعالى: ( وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ ) (6) ، ( قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ... وَقُل لّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنّ ) (7) كلّ ذلك كناية عن التحفظ على نزاهة الذيل عن دَنَس الفحشاء، وليس اسماً خاصّاً للسَوءة ولا سيّما سَوءة المرأة.

( فَخَانَتَاهُمَا)

قال تعالى ( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا ) (8) .

____________________

(1) معجم مقاييس اللغة، ج 4، ص 498.

(2) المصدر: ج 1، ص 491 و 497.

(3) النور 24: 31.

(4) لسان العرب، ج 1، ص 288.

(5) ونظيره جاء التعبير في الفارسيّة بـ (باكي دامن).

(6) الأحزاب 33: 35.

(7) النور 24: 30 و 31.

(8) التحريم 66: 10.

٢٤١

عابوا فَضحَ امرأة هي زوجةُ عبدٍ صالح!

لكن التعبير بالخيانة هنا لا يُراد بها ارتكاب الفحشاء، كلاّ! وإنّما هو مجرّد مخالفة الزوج وإنكار رسالته، قال الفيض الكاشاني: فَخَانَتاهما بالنفاق والتظاهر على الرسولَين (1) .

وهو تعريض ببعض أزواج النبي (صلّى الله عليه وآله) بإفشاء سرّه والتظاهر عليه، كما جاء في صدر السورة؛ ومِن ثَمّ فهو خطاب وعتاب مع تلك الأزواج: ( إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ) (2) .

قال ابن عبّاس: لم أَزل حريصاً أنْ أسأل عمر عن المرأتَين من أزواج النبيّ اللتَين قال الله بشأنهما: ( إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما... ) حتّى حجّ عمر وحَجَجتُ معه، فلمـّا كان ببعض الطريق عدل عمر وعدلت معه بالإداوة فتبرّز ثُمَ أتى فصببت على يديه فتوضّأ فقلت: يا أمير المؤمنين، مَن المرأتان من أزواج النبيّ اللتان قال الله بشأنهما ذلك؟ فقال: واعجباً لك يا ابن عبّاس، هما عائشة وحفصة، ثم أنشأ يُحدّثني بحديثهما في ذلك (3) .

____________________

(1) تفسير الصافي، ج 2، ص 720.

(2) التحريم 66: 4.

(3) راجع: الدرّ المنثور، ج 8، ص 220.

٢٤٢

الباب الثالث

مُوهم الاختلاف والتناقض

( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً )

(النساء 4: 82)

٢٤٣

كلام عن مُوهم الاختلاف في القرآن

قال تعالى: ( أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً ) (1) تلك مِيزة قرآنيّة: لا يوجد فيه اختلاف؛ حيث صَنَعه تعالى القويم يفترق عمّا يَصنعه البشر ذا نقصٍ وعيب، إذ كلّ يعمل على شاكلته، وقد أخذه الله تعالى دليلاً على الإعجاز الخارق!

وهناك مِن قديمٍ مَن كان يَزعم أنّ في القرآن اختلافاً، ويَرجع عهدُه إلى الصدر الأَوّل حيث رُوي أنّ سائلاً سأل الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) عن ذلك، فأجابه الإمام في رحابة صدر وحلّ إشكاله، واستبصر على يديه.

روى أبو جعفر الصدوق بإسناده المتصل إلى أبي معمر السعداني قال: إنّ رجلاً أتى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين، إنّي شَكَكت في كتاب الله المـُنزَل قال (عليه السلام): (وكيف شَكَكت في كتاب الله؟!) قال لأنّي وجدتُ الكتاب يُكذّب بعضُه بعضاً فكيف لا أشكّ فيه؟!

فقال الإمام: (إنّ كتاب الله لَيُصدّق بعضُه بعضاً ولا يُكذّب بعضُه بعضاً، ولكنّك لم تُرزق عقلاً تنتفع به، فهات ما شَكَكت فيه)، فجعل الرجل يَسرد آيات زَعَمَهنّ مُتهافِتات

____________________

(1) النساء 4: 82.

٢٤٤

ويُجيب عليهنّ الإمام على ما سنذكر (1) .

وهكذا روى صاحب كتاب الاحتجاج: أنّ بعض الزنادقة جاء إلى الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وقال له: لولا ما في القرآن من الاختلاف والتناقض لدخلتُ في دينِكم. فقال له: (وما هو)؟ فجعل يسرد آيات بهذا الشأن ليأخذ جوابَه الوافي، وشكره أخيراً ودَخل في حظيرة الإسلام (2) .

وروى عبد الرزّاق في تفسيره بإسناده إلى سعيد بن جبير قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: رأيتُ أشياء تختلف عليّ من القرآن! فقال ابن عباس: ما هو؟ أشكّ؟! قال: ليس بشكٍّ، ولكنّه اختلاف! قال: هات ما اختلفَ عليك من ذلك، فجَعل الرجل يَذكر مواردَ الاختلاف حسب زعمه ويُجيبه ابن عباس تِباعاً، على ما سنورده (3) .

وحتّى أنّهم زَعموا أنّ ابن عباس توقّف عن الإجابة في بعض هذه الموارد. روى أبو عبيدة بإسناده عن أبي مليكة قال: سأل رجل ابن عباس عن قوله تعالى: ( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ ) (4) وقوله: ( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) (5) فقال ابن عباس: هما يَومان ذَكَرَهما الله تعالى في كتابه! ألله أعلم بهما! (6) .

لكن ابن عباس قد أجاب عن ذلك إجابةً إجماليّة، وأنّهما يَومان لا يوم واحد؛ ليكون قد عبّر عنهما باختلاف المِقدار، ولعلّه لم يهتدِ إلى تعيين أحدهما عن الآخر وسنذكر تفصيل البيان فيه.

ويظهر من أحاديث صَدرت عن أَئمة السلف أنّ حديث التناقض في آي القرآن كان مُتفشّياً ذلك العهد؛ ومِن ثَمّ ورد ذمّه والذبّ عن سلامة القرآن على لسان الأئمة (عليهم السلام) قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في ذمّ اختلاف العلماء في الفُتيا:

____________________

(1) راجع: كتاب التوحيد، للصدوق، ص 255، رقم 5، باب الردّ على الثنوية والزنادقة، وأورده المجلسي في كتاب القرآن من البحار، ج 90، ص 127 - 142.

(2) راجع: الاحتجاج للطبرسي، ج 1، ص 358 - 359؛ وأورده المجلسي في البحار، ج 90، ص 98 - 127.

(3) راجع: الإتقان، ج 3، ص 79، النوع 48.

(4) السجدة 32: 5.

(5) المعارج 70: 4.

(6) الإتقان، ج 3، ص 83.

٢٤٥

(والله سبحانه يقول ( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ) (1) وفيه تبيان لكلّ شيء، وذكر أنّ الكتاب يصدّق بعضه بعضاً، وأنّه لا اختلاف فيه...) (2) .

وروى الصدوق بإسناده إلى الإمام أبي عبد اللّه الصادق عن أبيه أبي جعفر الباقر(عليهما السلام) قال: (ما ضَرَبَ رجلٌ القرآن بعضه ببعضٍ إلاّ كفر) (3) .

ولأبي علي مُحمّد بن المستنير البصري المشتهر بقطرب (ت206) - النحوي اللغوي الأديب البارع تلميذ سيبويه ومِن أصحاب الإمام الصادق والرواة عنه - كتاب أفرده بالتصنيف في مُوهم الاختلاف والتناقض في آيات الحكيم.

قال الزركشي: وقد رأيت لقطرب في ذلك تصنيفاً حسناً، جَمَعه على السوَر (4) ، وكتابه هو المـُسمّى بالردّ على المـُلحدينَ في تشابه القرآن، ذكره القفطي (5) .

وهكذا في منتصف القرن الثالث أيّام الإمام أبي مُحمّد الحسن بن علي العسكري (عليه السلام) (260) نجد فليسوف العراق ابن إسحاق الكندي (6) قام بتأليف رسالة يَجمع فيها تناقض القرآن، لولا أنّ الإمام العسكري قام في وجهه وأفحم حجّته فتركها.

روى أبو القاسم الكوفي (7) في كتابه (التبديل) أنّ ابن إسحاق الكندي أخذ في تأليف تناقض القرآن وشَغَل نفسه وتفرّد به في منزله، وأنّ بعض تلامذته دخل يوماً على الإمام الحسن العسكري، فقال له أبو مُحمّد: (أَما فيكم رجل رشيد يَردع أُستاذكم الكندي

____________________

(1) الأنعام 6: 38.

(2) نهج البلاغة، الخطبة 18، ص61.

(3) معاني الأخبار، ص183، طبعة النجف الأشرف.

(4) راجع: البرهان، ج2، ص45، والإتقان، ج3، ص79.

(5) انظر: إنباء الرواة، ج3، ص219.

(6) هو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق من وُلد مُحمّد بن الأشعث بن قيس الكندي فيلسوف العرب في وقته (183 - 260) كان رأساً في حِكمة الأوائل ومنطق اليونان والهيئة والنجوم والطبّ وغير ذلك، وكان له باع أطول في الهندسة والموسيقى، وكان مُتّهَماً في دينه، قال له أصحابه: لو عَمِلت لنا مثل القرآن، فأجابهم على ذلك، فغاب عنهم أيّاماً ثمّ خرج إليهم وأذعن بالعجز، قال: واللّه لا يقدر على ذلك أحد، قال الذهبي: وكان مُتّهماً في دينه، بخيلاً، ساقط المروءة، وله نظم جيّد وبلاغة وتلامذة، همَّ بأنْ يعمل شيئاً مثل القرآن فبعد أيام أذعن بالعجز.

راجع سير أعلام النبلاء للذهبي، ج12، ص337، ولسان الميزان لابن حجر، ج6، ص305، ودائرة المعارف للقرن العشرين لمـُحمّد فريد وجدي، ج10، ص944 - 953، والمـُنجد في الأعلام، ص595.

(7) هو أبو القاسم فرات بن إبراهيم بن فرات الكوفي صاحب كتاب تفسير فرات، كان من أعلام الغيبة الصغرى (260 - 329)، وفي النُسخة إسقاط (ابن) فصحّحناها بدلائل القرائن.

٢٤٦

عمّا أخذ فيه مِن تشاغله بالقرآن؟! فقال التلميذ: نحن من تلامذته، كيف يجوز منّا الاعتراض عليه في هذا أو في غيره؟! فقال له أبو مُحمّد: أتؤدّي إليه ما أُلقيه عليك؟ قال: نعم، قال: فَصِر إليه وتلطّف في مؤانسته ومعونته على ما هو بسبيله، فإذا وقعت الاُنسة في ذلك فقل له: قد حضرتني مسألةٌ أسألك عنها؟ فإنّه يَستدعي ذلك منك، فقل له: إن أتاك هذا المـُتكلّم بهذا القرآن، هل يجوز أنْ يكون مراده بما تكلّم منه غير المعاني التي قد ظننت أنّك ذهبت إليها؟ فإنّه سيقول لك: إنّه من الجائز، لأنّه رجل يفهم إذا سمع، فإذا أوجب ذلك فقل له: فما يدريك لعلّه قد أراد غير الذي ذهبت أنت إليه فتكون واضعاً لغير معانيه، فصَار الرجل إلى الكندي وتلطّف إلى أنْ ألقى عليه هذه المسألة، فقال له الكندي: أعد عليَّ، فأعاد عليه، فتفكّر في نفسه ورأى ذلك مُحتملاً في اللغة وسائغاً في النظر، فقال: أقسمت عليك إلاّ أخبرتني من أين لك؟ فقال: إنّه شيء عرض بقلبي فأوردته عليك، فقال: كلاّ، ما مِثلك مَن اهتدى إلى مثل هذا، ولا ممّن بلغ هذه المنزلة، فعرّفني من أين لك هذا؟ فقال: أمرني به أبو مُحمّد، فقال: الآن جئت به، وما كان ليخرج مثل هذا إلاّ من ذلك البيت، ثمُّ إنّه دعا بالنّار وأحرق جميع ما كان ألّفه في ذلك (1) .

ولابن قتيبة (213 - 276) كلامٌ مسهبٌ في الردّ على الطاعنينَ في القرآن على جهة زعم الاختلاف تعرّض له في كتابه الشهير (تأويل مشكل القرآن) في شرحٍ وتفصيل.

وللشريف الرضي (359 - 406) بحثٌ لطيفٌ في ذلك عنونه باسم (حقائق التأويل في متشابه التنزيل).

وهكذا القاضي عبد الجبّار المعتزلي (ت415) فصّل الكلام في (تنزيه القرآن عن المطاعن).

ولقطب الدين الراوندي (ت573) في كتابه (الخرائج والجرائح) باب عَقَده للردّ على مطاعن المخالفينَ في القرآن (2) .

____________________

(1) المناقب لابن شهر آشوب، ج4، ص424، وأورده المجلسي في بحار الأنوار، ج50، ص311 في تأريخ حياة الإمام العسكري (عليه السلام).

(2) الخرائج والجرائح لقطب الدين الراوندي، ج3، ص1010.

٢٤٧

ولابن شهر آشوب المازندراني (ت588) كتاب قيّم في (متشابهات القرآن ومختلفه).

ولمـُحمّد بن أبي بكر الرازي (ت 666) رسالة شريفة أجابَ عن ألف ومئتي مسألة حول شبهات القرآن.

ولجلال الدين السيوطي (ت911) في كتابه (الإتقان) - نوع 48 - بحثٌ مستوفٍ عن مشكل القرآن ومُوهم الاختلاف والتناقض فيه.

وللمولى مُحمّد باقر المجلسي (1037 - 1111) في موسوعته القيّمة (بحار الأنوار، ج89، ص141، وج90، ص98 - 142) استيعاب شامل لسفاسف أهل الزيغ والباطل حول القرآن الكريم، والردّ عليها فيما ورد في كلام المعصومين والعلماء الأعلام، جزاه اللّه عن الإسلام والقرآن خيراً.

وأخيراً، قام الأُستاذ الشيخ خليل ياسين بتأليف كتاب يحتوى على 1600 سؤال وجواب حول مشكل القرآن، أَسماه (أضواء على متشابهات القرآن).

وللعلاّمة الأُستاذ الشيخ جعفر السبحاني تأليفٌ لطيفٌ في التفسير الصحيح لمشكل آيات القرآن الحكيم.

تلك مواقف مشهودة في الدفاع عن قُدسية القرآن الكريم قام بها جهابذة الفنّ والعمدة من العلماء الأعلام، شكر اللّه مساعيهم وأجزل لهم المثوبة وحسن مآب.

السلامة من الاختلاف إعجاز!

وقد أخذه تعالى دليلاً على كون القرآن وَحياً من السماء وليس من صُنع البشر؛ وإلاّ لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً.

ذلك أنّ طبيعة مثل القرآن - وقد نَزل تدريجاً طوال عشرين عاماً في مناسبات مختلفة وفترات متفاوتة ثُمّ جُمع في مكان - أن يقع فيه بعض الاختلاف، لو كان من عند غير اللّه...؛ حيث يَعسر الضبط على البشر في مِثل تلك المـُدّة الطويلة في مثل القرآن

٢٤٨

المتناثر آيه طول سنين، وربّما يختلف النظر لو كان صادراً من إنسان، وهو آخذ في التكامل طول هذه المدّة، فطبيعي أنْ يقع فيه اختلاف، لكن عدم الاختلاف دليلٌ قاطع على أنّه مِن عليمٍ خبير، هو محيط بعلمه ولا يَعزب عن علمه شيء، كما لا يتجدّد له رأي أو يبدو له نظر غير رأيه القديم.

وللعلاّمة السيّد هبة الدين الشهرستاني هنا كلامٌ غريب، قال: إنّ جماعةً مِن المفسّرين قد التبس عليهم أمر المانع بالسبب، فعدّوا سلامة القرآن من التنافي والتنافر، من وجوه إعجازه، في حين أنّ وجود التنافي والتنافر من موانع الإعجاز، وليس انعدامهما والسلامة منهما من أسباب الإعجاز (1) .

ولعلّه رحمه اللّه عدّ السلامة من الاختلاف أمراً عدمياً، فجعل التنافي والتنافر - وهما أمران وجوديّان - من المانع، في حين أنّ السلامة هنا بمعنى الائتلاف وحُسن الوِفاق والمؤكّد للانسجام بين آياته وتعابيره في كافّة السور مكيّتها ومدنيّتها بوئامٍ وانسجام.

الأسباب المـُوهِمة للاختلاف

ذكر الإمام بدر الدِّين الزركشي للاختلاف أسباباً:

الأوّل: وقوع المـُخبَر به على أحوال مختلفة وتطويرات شتّى، كقوله تعالى في خَلق آدم مرّةً: ( خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ) (2) ، وأُخرى: ( مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ) (3) ، وثالثة ( مِنْ طِينٍ لازِبٍ ) (4) ، ورابعة: ( مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ ) (5) .

وهذه الألفاظ مُختلفة ومعانيها في أحوال مختلفة؛ لأنّ الصلصال غير الحمأ، والحمأ غير التراب، إلاّ أنّ مرجعها كلّها إلى جوهر وهو التراب، ومِن التراب تدرّجت هذه الأحوال.

____________________

(1) المعجزة الخالدة للشهرستاني، ص42.

(2) آل عمران 3: 59.

(3) الحجر 15: 26.

(4) الصافّات 37: 11.

(5) الرحمان 55: 14.

٢٤٩

ومنه قوله تعالى: ( فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ) (1) ، وفي موضع ( تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ ) (2) ، والجانّ الصغير من الحيّات، كان ذلك في ابتداء بعثته (عليه السلام) والثعبان الكبير منها، وكان ذلك لمـّا ألقى عصاه تجاه فرعون وقومه، فاختلف الأحوال.

السبب الثاني: لاختلاف الموضوع، كقوله تعالى: ( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ ) (3) ، وقوله: ( فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ) (4) ، مع قوله ( فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ ) (5) .

قال الحليمي: فتُحمل الآية الأُولى على السؤال عن التوحيد وتصديق الرسل، والآية الأخيرة على ما يَستلزم الإقرار بالنبوّات من شرايع الدِّين وفروعه، وحَمَله غيره على اختلاف الأماكن (أي المواقف على ما أوضحناه) فمَوضع يَسأل ويُناقش، وموضع آخر يَرحم ويَلطف، وموضع يُعنّف ويُوبّخ، وموضع لا يُعنّف...

الثالث: لاختلافهما في جهتَي الفعل، كقوله تعالى: ( فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ ) (6) ، أُضيف القتل إليهم على جهة المباشرة، ونفاه عنهم باعتبار التأثير؛ ولهذا قالوا: إنّ الأفعال مخلوقة للّه تعالى وإن كان منتسبةً إلى الآدميّين على جهة الإرادة والاختيار، فنفي الفعل بإحدى الجهتين لا يعارضه إثباته بالجهة الأخرى.

وكذا قوله: ( وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ) (7) أي ما رَمَيت تأثيراً إذ رميت مباشرةً.

الرابع: لاختلافهما في الحقيقة والمجاز، كقوله: ( وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى ) (8) أي سُكارى من الأهوال مجازاً، لا من الشراب حقيقة، وقوله: ( وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ ) (9) ، فقد وافته المنيّة فكان كالأموات وإن لم يمت حقيقةً.

____________________

(1) الشعرا 26: 32.

(2) القصص 28: 31.

(3) الصافّات 37: 24.

(4) الأعراف 7: 6.

(5) الرحمان 55: 39.

(6) الأنفال 8: 17.

(7) الأنفال 8: 17.

(8) الحجّ 22: 2.

(9) إبراهيم 14: 17.

٢٥٠

ومثله في الاعتبارَين قوله: ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ) (1) ، وقوله: ( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ ) (2) ، وقوله: ( وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ) (3) .

الخامس: بوجهَين واعتبارَين، وهو الجامع للمفترقات، كقوله: ( فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) (4) ، ( خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ ) (5) .

قال قطرب: (فبصرك) أي عِلمـُك ومعرفتك بها قوية، مِن قولهم: (بَصُر بكذا وكذا) أي عِلم، وليس المراد رؤية العين.

قال الفارسي: ويدلّ على ذلك قوله ( فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ ) .

وكقوله تعالى: ( وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ) (6) ، مع قوله: ( فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى ) (7) ، فيجوز أن يكون قد اعتقد من نفسه أنّه الربّ الأعلى وسائر الآلهة تحته ومُلكاً له.

وقوله تعالى: ( الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ ) (8) ، مع قوله: ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ) (9) ، فقد يُظنّ أنّ الوَجَل خلاف الطمأنينة، وجوابه: أنّ الطمأنينة إنّما تكون بانشراح الصدر بمعرفة التوحيد، والوَجَل يكون عند خوف الزيغ والذهاب عن الهدى فتُوجل القلوب لذلك، وقد جمع بينهما في قوله ( تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ) (10) ، فإنّ هؤلاء قد سَكَنت نفوسهم إلى معتقدهم ووثِقوا به، فانتفى عنهم الشكّ (11) .

وبعد فإليك مواضع من القرآن زعموا فيها اختلافاً:

____________________

(1) البقرة 2: 8.

(2) الأنفال 8: 21.

(3) الأعراف 7: 198.

(4) ق 50: 22.

(5) الشورى 42: 45.

(6) الأعراف 7: 127.

(7) النازعات 79: 24.

(8) الرعد 13: 28.

(9) الأنفال 8: 2.

(10) الزمر 39: 23.

(11) راجع: البرهان، ج2، ص54 - 65 مع تصرّف وتلخيص.

٢٥١

( هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ)

سؤال:

قال تعالى: ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ) (1) .

وهذا عامّ، لكن وَرَد في كثير من الآيات ما يبدو منه التخصيص، كقوله تعالى: ( ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ) ، (2) وقوله: ( وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ) (3) ، وقوله: ( هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) (4) ، قوله: ( وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) (5) ، قوله:) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) (6) وقوله: ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ) (7) ، وقوله: ( تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ ) (8) ، إلى غيرها مِن آيات تنمّ عن اختصاص هدى القرآن بفئات من الناس دون الجميع، فما وجه التوفيق؟

جواب:

هناك فَرق بين اللام للغاية كما في الآية الأُولى، ولام العاقبة وهي التي جاءت في سائر الآيات هنا.

لاشكّ أنّ القرآن نزل لغايةٍ هي هداية الناس أجمع، غير أنّ الذين ينفعهم وينتفعون به في عاقبة الأمر هم المتّقون المـُتعهِّدون في ذات أنفسهم، فكأنّهم هم الغاية دون أولئك الغوغاء من الناس الهمج غير المـُبالينَ ممّن يقضون حياتهم في غفلةٍ وعمهٍ وعماء.

قال تعالى: ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ) (9) ، ( لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ ) (10) .

____________________

(1) البقرة 1: 185.

(2) البقرة 2: 2.

(3) المائدة 5: 46.

(4) الأعراف 7: 203.

(5) يوسف 12: 111.

(6) الجاثية 45: 20.

(7) النحل 16: 89.

(8) لقمان 31: 2 و3.

(9) البقرة 2: 121.

(10) النساء 4: 162.

٢٥٢

وقال: ( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) (1) ، ( كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) (2) ، ( فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ) (3) ، ( الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) (4) .

ومِن ثَمّ فإنّ القرآن جاء بياناً للناس أجمع، غير أنّ الذين تقع بهم النصيحة هم المتّقون، كما قال تعالى ( هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ) (5) .

( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)

سؤال:

قال تعالى: ( وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) (6) .

وقال: ( وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) (7) .

وقال: ( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ) (8) .

وقال: ( وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلاّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاّ مَا سَعَى ) (9) .

الأمر الذي يَرضيه العقل الرشيد وتقتضيه الحِكمة البالغة: (لا يُؤخذ الجار بذنب الجار)! ( كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) (10) ( لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ) (11) ، ( لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ ) (12) .

لكن مع ذلك وَرَد ما يُناقضه ظاهراً في قوله تعالى: ( لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً

____________________

(1) الأنفال 8: 55.

(2) يونس 10: 33.

(3) النحل 16: 22.

(4) الأنعام 6: 12 و20.

(5) آل عمران 3: 138.

(6) الأنعام 6: 164.

(7) الإسراء 17: 15.

(8) فاطر 35: 18.

(9) النجم 53: 37 - 39.

(10) المدّثر 74: 37.

(11) البقرة 2: 286.

(12) النور 24: 11.

٢٥٣

الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ) (1) .

كما أنّ التناقض بادٍ على ظاهر قوله تعالى: ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) (2) .

فكيف التوفيق؟

جواب:

حَملُ الوِزر إنّما هو بتخفيف كاهِل صاحبه، فمَن يَحمل مِن أوزار أحد إنّما يُخفّف مِن ثِقل كاهله، هذا هو معنى حَملُ الوِزر، أمّا إذا لم يُخفِّف فلا تَحمُّل مِن الوزر شيئاً.

وصريح القرآن أنّ كل إنسان إنّما يتحمّل مسؤولية نفسه ولا يتحمّل مسؤولية غيره فيما عَمِل ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) (3) .

لكن هناك في الدُعاة إلى حقّ أو باطل شأنٌ آخر، فهم شركاء فيما عَمِل المتأثِّرون بالدعوة، إنْ خيراً أو شرّاً، مثوبةً أو عقوبةً.

روى الصدوق بإسناده إلى الإمام أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: (أيّما عبدٍ مِن عباد اللّه سنّ سُنةَ هدىً كان له أجرٌ مثلُ أجر مَن عَمِل بذلك من غير أنْ ينقص من أُجورهم شيء، وأيّما عبدٍ من عباد اللّه سنّ سُنةَ ضلال كان عليه مثل وِزر مَن فعل ذلك من غير أنْ ينقص مِن أوزارهم شيء) (4) .

قال رسول اللّه (صلّى اللّه وعليه وآله): (إذا ماتَ المؤمنُ انقطعَ عملُه إلاّ مِن ثلاث: صدقةٍ جارية، أو عِلمٍ يُنتفع به، أو ولدٍ صالح يدعو له) (5) .

فلا يَحمل أحدٌ ذنبَ غيره، ولا يُخفّف عليه من وطئته، وإنْ كان يَشرُكُه فيما عَمِل وفيما يترتّب عليه من المثوبة أو الإثم من غير أنْ ينقصه شيئاً.

____________________

(1) النحل 16: 25.

(2) العنكبوت 29: 12 و13.

(3) المائدة 5: 105.

(4) ثواب الأعمال للصدوق، ص132.

(5) عوالي اللآلي لابن أبي جمهور الإحسائي، ج2، ص53، رقم 139.

٢٥٤

فمعنى ( يَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ ) أنّهم يَحملون أثقالَ أنفسِهم مع أثقالٍ أُخر، وهي مِثل أوزار ما عَمِل التابعون وليست نفس أوزارهم، إذ لا ينقص مِن وزرِ الآثم شيء، وكلّ إنسانٍ رهينٌ بما اكتسب.

وكذا قوله: ( وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ ) أي مِن مِثل أوزارهم وليست نفس أوزارهم، إذ لكلّ امرئٍ ما اكتسب من الإثم، ولا مُوجب للتخفيف عنه مادام آثماً مَبغوضاً عليه.

( وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً)

سؤال:

قال تعالى: ( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ... ) (1) .

فقد جاء النهي صريحاً عن موادّة مَن حادّ اللّه ورسوله ولو كان أحد الوالدَينِ أو الأقربينَ، الأمر الذي يتنافى وترخيص مُصاحبة الوالدَينِ المشرِكَينِ مُصاحبةً بالمعروف في قوله تعالى: ( وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً ) (2) .

جواب:

هناك فَرق بائن بين الموادّة التي هي عَقْدُ القلب على المحبّة والوِداد الذاتي وبين المصاحبة بالمعروف التي هي المـُداراة والمجاملة الظاهريّة في حُسن المعاشرة مع الوالدَينِ، وربّما كانت عن كراهةٍ في القلب، فمِن أدب الإسلام أن يأخذ الإنسان بحُرمة والدَيه وكذا سائر الأقربينَ وإنْ كان يُخالفهم في العقيدة.

فحُسن السلوك شيءٌ والرباط النفسي شيء آخر، فربّما لا رباط بين الإنسان وغيره نفسياً وإن كان يُداريه في حُسن المعاشرة أدباً إسلامياً إنسانياً شريفاً، وليس مع الأقرباء فحسب بل مع الناس أجمع، الأمر الذي يُؤكِّد عليه جانب تأليف القلوب مشروعاً عامّاً.

____________________

(1) المجادلة 58: 22.

(2) لقمان 31: 15.

٢٥٥

( إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ)

سؤال:

قال تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ) (1) ، كيف يلتئم مع قوله: ( أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا ) ؟! (2) .

جواب:

في الآية الثانية تقدير، أي أَمَرناهم بالصلاح والرَّشاد فَعَصوا وفَسَقوا عن أمر ربّهم، وهذا كما يقال: أَمَرتُه فعصى، أي أَمَرتُه بما يُوجب الطاعة لكنّه لم يُطِع وتمرّد عن امتثال الأمر وعن الطاعة.

وإليك الآية بكاملتها:

قال تعالى - بشأن الأُمَم الذين عُوقبوا بسُوء أعمالِهم -: ( وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً ) (3) .

تلك سُنّة الله جَرت في الخَلق: أنْ لا عقوبة إلاّ بعد البيان، ولا مُؤاخذة إلاّ بعد إتمام الحجّة، ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (4) ... ثُمّ جاءت تلك الآية ( وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ ) تفريعاً على هذه الآية؛ لتكون دليلاً على أنّ العقوبة إنّما تقع بعد البيان.

فمعنى الآية - على ذلك -: أنّ كلّ قرية إذا حقّ عليها العذاب فإنّما هو؛ بسبب طغيانهم وعصيانهم بعد البيان وبعد أَمرِهم بما يُسعدهم، لكنّهم بسوء اختيارهم شَقوا وعَصَوا، فجاءهم العذاب على أثر الطغيان والفُسوق والعصيان.

وإنّما ذَكَر المـُترفون بالخصوص؛ لأنّهم رأس الفساد والأُسوة التي تَقتدي بها العامّة في سوء تصرّفاتهم في الحياة.

قال الطبرسي - في أحد وجوه تفسير الآية -: إنّ معناه: وإذا أردنا أنْ نُهلك أهلَ قريةٍ - بعد قيام الحجّة عليهم وإرسال الرسل إليهم - أمرنا مترفيها أي رؤساءها وساداتها

____________________

(1) الأعراف 7: 28.

(2) الإسراء 17: 16.

(3) الإسراء 17: 16.

(4) الإسراء 17: 15.

٢٥٦

بالطاعة واتّباع الرُسل، أمراً بعد أمرٍ، نكرّره عليهم، وبيّنة بعد بيّنة، نأتيهم بها إعذاراً للعُصاة وإنذاراً لهم وتوكيداً للحجّة، ففسقوا فيها بالمعاصي وأبَوا إلاّ تمادياً في العصيان والكفران.

قال: وإنّما خصّ المترفون وهم المـُنعَّمون والرؤساء بالذِكر؛ لأنّ غيرهم تَبَعٌ لهم، فيكون الأمر لهم أمراً لأَتباعِهم.

قال: وعلى هذا، فيكون قوله: (أمرنا مترفيها) جواباً لـ (إذا)، وإليه يؤول ما روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير: أنّ معناه: أمرناهم بالطاعة فعصوا وفسقوا، ومِثله: أمرتك فعصيتني، ويشهد بصحّة هذا التأويل الآية المتقدّمة عليها، وهي قوله: ( مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (1) .

أَلف سَنة أو خمسون أَلف سَنة

سؤال:

قال تعالى: ( يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ) (2) ، وقال: ( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) (3) .

ما هذا اليوم؟ وما مقداره، ألف سنة أو خمسون ألف سنة؟

جواب:

قال القمي في تفسير الآية الأُولى: يعني الأمور التي يُدبّرها والأمر والنهي الذي أَمر به وأعمال العباد، كلّ ذلك يَظهر يوم القيامة فيكون مقدار ذلك اليوم ألف سنة مِن سنيّ الدنيا (4) .

وروى الكليني في الكافي عن الإمام الصادق (عليه السلام): (إنّ للقيامة خمسين موقفاً، كلّ موقف مقام ألف سنة) ثم تلا الآية الثانية (5) .

____________________

(1) مجمع البيان، ج 6، ص 406.

(2) السجدة 32: 5.

(3) المعارج 70: 4.

(4) تفسير القمي، ج 2، ص 168.

(5) تفسير الصافي، ج 2، ص 743.

٢٥٧

إذن، فلا مُنافاة بين الآيتين، فإنّ أعمال العباد وكلّ شؤون الحياة الدنيا بما فيها مِن تدابير إلهية وأَمر ونهي وتشريع وما عَمِل العباد من خير وشرّ فإنّها تظهر يوم القيامة في أَوّل موقف من مواقفها، ومِقدارُه ألف سنة ممّا يَعُدّون، أمّا كل شؤون الحياة في عالم الوجود فإنّها تظهر في طول أمد القيامة ومِقدارُه خمسون ألف سنة حسب مواقفِها الخمسين.

وبذلك صحّ المأثور عن ابن عباس: أنّهما يومان من أيام الله، أي بُرهتان من الزمان بُرهة أُولى في ألف سنة، وبُرهة أُخرى شاملة في خمسين ألف سنة (1) .

( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ)

سؤال:

قال تعالى: ( قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْن ِ . .. وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ... ) (2) .

وقال: ( أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا... وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ) (3) .

وقال: ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) (4) ، وقد تكرّر ذلك في سبعِ مواضع مِن القرآن.

والسؤال هنا من وجهين:

الأوّل: دلّت الآية الأُولى على أنّ الأرض خُلقت قَبل السماء، في حين أنّ الآية الثانية نصّت على أنّ الأرض بعد ذلك دَحاها.

الثاني: ظاهر دلالة الآية الأُولى هو أنّ خِلقة السماوات والأرض وما فيها وقعت في ثمانية أيّام، في حين أنّ الآية الأخيرة ونظيراتها دلّت على وقوع ذلك في ستّة أيّام، فكيف التوافق؟

____________________

(1) الإتقان، ج 3، ص 83.

(2) فصّلت 41: 9 - 12.

(3) النازعات 79: 27 - 30.

(4) السجدة 32: 4.

٢٥٨

جواب:

دلّت الآية على أنّ الأرض ذاتها خُلقت قَبل السماء وإنْ كان دَحوها أي بسطها وتسطيح قِشرتها قد تأخّر بعد ذلك بأيّام.

وهذه الأيّام هي من أيّام الله التي يَعلم هو مَداها، وليست مِن أيّام الناس، وقد خُلقت الأرض في يومَين، وجعل فيها الرواسي وقدّر فهيا الأقوات أيضاً في يومَين، فهذه أربعة أيّام، تمّت بها خِلقة الأرض وما فيه من جبالٍ وأرزاقٍ وبركات، ثُمّ استوى إلى السماء فخلقهنّ في يومَين، فتلك ستة أيام على ما جاء في آيات أُخرى.

وهذا كما يُقال: سرتُ من البصرة إلى الكوفة في يومَين، وإلى بغداد في أربعة أيّام، أي من البصرة إلى بغداد، باندراج اليومَين اللذين سار فيهما إلى الكوفة.

وهناك تفسير آخر للآية لعلّه أدقّ، يَجعل الأربعة الأيام ظرفاً لتقدير الأقوات إشارةً إلى فصول السَّنة الأربعة، حيث فيها تتقدّر أرزاق الخلائق والأنعام والبهائم والدوابّ، ذَكَره عليّ بن إبراهيم القمي في تفسيره للآية، قال: يعني في أربعة أوقات، وهي التي يُخرج الله فيها أقوات العالم من الناس والبهائم والطير وحشرات الأرض، وما في البرّ والبحر مِن الخَلق والثمار والنبات والشجر، وما يكون فيه مَعاش الحيوان كلّه، وهو الربيع والصيف والخريف والشتاء... ثُمّ جَعَل يَذكر كيفية تقدير هذه الأقوات في كلٍّ من هذه الفصول (1) .

وقد ارتضاه العلاّمة الطباطبائي واعتمده في تفسيره (2) .

فمعنى الآية - على ذلك -: أنّ الله خَلق الأرض في دورتَين، وجعل فيها رواسي وبارك فيها، وقدّر أقواتها حسب فصول السنة، وهكذا قضى السماوات سبعاً في دورتَين، فهذه أربعة أدوار ذَكَرَتهُنّ الآية: دورتان لخِلقة الأرض، ودورتان لجعل السماوات سبعاً، وبقيت دورتان لخِلقة أصل السماء وما بينها و بين الأرض من أجرام كانت الآية ساكتةً عنهما؛ ومِن ثَمّ فهي لا تتنافى وآيات أُخرى ذَكَرنَ ستة أدوار لخِلقة الأرض والسماء وما بينهما.

____________________

(1) تفسير القمي، ج2، ص262.

(2) الميزان، ج17، ص387.

٢٥٩

تساؤل بعضهم بعضاً

سؤال:

قال تعالى: ( فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ ) (1) .

وقال: ( وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ) (2) .

وقال: ( فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ ) (3) .

وقال: ( وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ * فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ ) (4) .

وقال: ( يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ * وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ) (5) .

هذا مع قوله: ( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ ) (6) .

وقوله: ( فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ) (7) .

وقوله: ( فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (8) .

وقوله: ( وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ * قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) (9) .

وقوله: ( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاّ سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ) (10) .

فهل يُسألون عن ذنبٍ أو لا يُسألون؟ وهل يَتساءلون فيما بينهم ويتعارفون أم لا يَتساءلون؟ فكيف التوفيق؟!

جواب:

هناك في الوَقفة الأُولى يوم الحشر تكون الوَقعة شديدة ( يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ

____________________

(1) الرحمان 55: 39.

(2) القصص 28: 78.

(3) المؤمنون 23: 101.

(4) القصص 28: 65 و66.

(5) المعارج 70: 8 - 10.

(6) الصافّات 37: 24.

(7) الأعراف 7: 6.

(8) الحجر 15: 92 و93.

(9) الصافّات 37: 27 - 29.

(10) يونس 10: 45.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578