شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم10%

شبهات وردود حول القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 578

شبهات وردود حول القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 578 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 297411 / تحميل: 13674
الحجم الحجم الحجم
شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

هكذا تُبدي التوراة عَداءه تعالى مع بني الإنسان!

هذا والقرآن يحثّ الأُمَم على الاجتماع دون التفرّق، وعلى التعارف بعضهم مع بعضهم؛ ليتعاونوا في الحياة دون التباغض والتباعد والاختلاف:

( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا... ) (1) .

( وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ) (2) .

الإنسان سرّ الخليقة

الإنسان - كما وصفه القرآن - صفوة الخليقة وفلذتها، وسرّها الكامن في سلسلة الوجود.

لا تجد وصفاً عن الإنسان وافياً ببيان حقيقته الذاتيّة الّتي جَبَله الله عليها - في جميع مناحيها وأبعادها المترامية - في سوى القرآن، يصفه بأجمل صفات وأفضل نُعوت، لم يَنعم بها أيّ مخلوق سواه، ومِن ثَمّ فقد حَظي بعناية الله الخاصّة، وحُبي بكرامته منذ بدء الوجود.

ولنُشِر إلى فهرسة تلكمُ الصفات والميزات، التي أهّلته لمثل هذه العناية والحِبَاء:

1 - خلقه الله بيديه: ( مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) (3) .

2 - نفخ فيه من روحه: ( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ) (4) .

3 - أودعه أمانته: ( إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ ) (5) .

4 - علّمه الأسماء كلّها: ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا... ) (6) .

5 - أسجد له ملائكته: ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا... ) (7) .

____________________

(1) الحجرات 49: 13.

(2) الأنفال 8: 46.

(3) ص 38: 75.

(4) الحجر 15: 29، وص 38: 72، وفي سورة السجدة 32: 9: ( ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ) .

(5) الأحزاب 33: 72.

(6) البقرة 2: 31.

(7) البقرة 2: 34.

٢١

6 - منحه الخلافة في الأرض: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) (1) .

7 - سخّر له ما في السّماوات والأرض جميعاً: ( وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ) (2) .

ومِن ثَمّ بارك نفسه في هذا الخلق الممتاز: ( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) (3) .

ميزات سبع حظي بها الإنسان في أصل وجوده، فكان المخلوق المفضّل الكريم، وإليك بعض التوضيح:

مِيزات الإنسان الفطريّة

امتاز الإنسان في ذات وجوده بميزات لم يحظَ بها غيره من سائر الخلق:

فقد شرّفه الله بأن خلقه بيديه: ( مَا مَنَعَكَ - خطاباً لإبليس - أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) (4) والله خالق كلّ شيء، فلا بدّ أنْ تكون هناك خصوصيّة في خلق هذا الإنسان تستحقّ هذا التّنويه هي: خصوصيّة العناية الربّانيّة بهذا الكائن، وإبداعه نفخةً - من روح الله - دلالةً على هذه العناية.

قال العلاّمة الطباطبائي: نسبة خلقه إلى اليد تشريف بالاختصاص كما قال: ( وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) (5) وتثنية اليد كناية عن الاهتمام البالغ بخلقه وصنعه؛ ذلك أنّ الإنسان إذا اهتمّ بصُنع شيء استعمل يديه معاً عناية به (6) .

وهكذا نفخة الروح الإلهيّة فيه كناية عن جانب اختصاص هذا الإنسان - في أصل فطرته - بالملأ الأعلى، حتّى ولو كان متّخذاً - في جانب جسده - من عناصر تربطه بالأرض، فهو في ذاته عنصر سماوي قبل أن يكون أرضيّاً.

ولقد خلق الإنسان من عناصر هذه الأرض، ثُمّ من النفخة العلويّة التي فرّقت بينه

____________________

(1) البقرة 2: 30.

(2) الجاثية 45: 13.

(3) المؤمنون 23: 14.

(4) ص 38: 75.

(5) الحجر 15: 29.

(6) تفسير الميزان، ج 17، ص239.

٢٢

وبين سائر الأحياء، ومنحته خصائصه الإنسانيّة الكبرى، وأَوّلها القدرة على الارتقاء في سُلَّم المدارك العُليا الخاصّة بعالم الإنسان.

هذه النفخة هي التي تصله بالملأ الأعلى، وتجعله أهلاً للاتصال بالله، وللتلقّي عنه ولتجاوز النطاق المادّي الذي تتعامل فيه العضلات والحواسّ، إلى النطاق التجريدي الذي تتعامل فيه القلوب والعقول، والتي تمنحه ذلك السرّ الخفيّ الذي يسرب به وراء الزمان والمكان، ووراء طاقة العضلات والحواسّ، إلى ألوان من المدركات وألوان من التصوّرات غير المحدودة في بعض الأحيان (1) .

وبذلك استحقّ إيداعه أمانة الله التي هي ودائع ربّانية لها صبغة ملكوتيّة رفيعة، أُودعت هذا الإنسان دون غيره من سائر المخلوق، وتتلخّص هذه الودائع في قدرات هائلة يملكها الإنسان في جبلّته الأُولى، والتي أهّلته للاستيلاء على طاقات كامنة في طبيعة الوجود وتسخيرها حيث يشاء.

إنّها القدرة على الإرادة والتصميم، القدرة على التفكير والتدبير، القدرة على الإبداع والتكوين، القدرة على الاكتشاف والتسخير، إنّها الجرأة على حمل هذا العبء الخطير، قال سيّد قطب: إنّها الإرادة والإدراك والمحاولة وحمل التبعة، هي هي ميزة هذا الإنسان على كثير من خلق الله، وهي هي مناط التكريم الذي أعلنه الله في الملأ الأعلى وهو يُسجِد الملائكة لآدم، وأعلنه في قرآنه الباقي وهو يقول: ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ) (2) .

فليعرف الإنسان مناط تكريمه عند الله، ولينهض بالأمانة التي اختارها، والتي عُرضت على السماوات والأرض والجبال فأبينَ أنْ يحملنّها وأشفقنّ منها (3) .

إنّها أمانة ضخمة حملها هذا المخلوق الصغير الحجم، الكبير القُوى، القويّ العزم.

ومِن ثَمّ كان ظلوماً لنفسه؛ حيث لم ينهض بأداء هذه الأمانة كما حملها، جهولاً لطاقاته هذه الهائلة المودعة في وجوده وهو بعد لا يعرفها.

____________________

(1) من إفادات سيد قطب، راجع: في ظِلال القرآن، ج 14، ص 17، المجلد 5، ص203.

(2) الإسراء 17: 70.

(3) في ظِلال القرآن، ج22، ص47، المجلد 6، ص 618.

٢٣

وهكذا علّمه الأسماء: القدرة على معرفة الأشياء بذواتها وخاصيّاتها وآثارها الطبيعيّة العاملة في تطوير الحياة، والتي وقعت رهن إرادة الإنسان ليُسخّرها في مآربه حيث يشاء، وبذلك يتقدّم العلم بحشده وجموعه في سبيل عمارة الأرض وازدهار معالمها، حيث أراده الله من هذا الإنسان ( هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) (1) .

وبذلك أصبح هذا الإنسان - بهذه الميزات - خليفة الله في الأرض، (2) حيث يتصرّف فيها وِفق إرادته وطاقاته المـُودعة فيه، ويعمل في عمارة الأرض وتطوير الحياة.

وإسجاد الملائكة له في عَرْصَة الوجود، كناية عن إخضاع القوى النورانيّة برمّتها للإنسان، تعمل وِفق إرادته الخاصّة من غير ما تخلّف، في مقابلة القوى الظلمانيّة (إبليس وجنوده) تعمل في معاكسة مصالحه، إلاّ مَن عَصَمه الله من شرور الشياطين ( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً ) (3) .

كما وأنّ تسخير ما في السماوات وما في الأرض جميعاً، (4) كناية عن إخضاع القوى الطبيعيّة - المودعة في أجواء السماوات والأرض - لهذا الإنسان، تعمل فور إرادته بلا فتور ولا قصور، ومعنى تسخيرها له: أنّ الإنسان فُطر على إمكان تسخيرها.

فسبحانه من خالقٍ عظيم، إذ خَلَق خَلقاً بهذه العظمة والاقتدار الفائق على كلّ مخلوق!

هذه دراستنا عن الإنسان على صفحات مُشرقة من القرآن الكريم، فيا ترى أين يوجد مثل هذه العظمة والتبجيل لمخلوقٍ هو في هندامه صغير وفي طاقاته كبير، كبرياءً ملأ الآفاق!

أتزعم أنّك جسمٌ صغير

وفيك انطوى العالم الأكبر

فتبارك الله أحسن الخالقين بخلقه أحسن المخلوقين!

____________________

(1) هود 11: 61.

(2) راجع: البقرة 2: 30.

(3) الإسراء 17: 65.

(4) راجع: الجاثية 45: 13.

٢٤

خلقتُ الأشياء لأجلك وخلقتك لأجلي!

حديث قدسيّ معروف (1) خطاباً مع بني آدم، حيث كانوا هم الغاية من الخليقة، كما كانت الذات المقدّسة هي الغاية من خلقة الإنسان، فكما وأنّ الأشياء برمّتها - علواً وسفلاً - سخّرها الله لهذا الإنسان ولتكون في قبضته فتَتَجلّى فيها مقدرته الهائلة، كذلك خُلق الإنسان؛ ليكون مظهراً تامّاً لكامل قدرته تعالى في الخلق والإبداع.

ما من مخلوق - صغيراً أو كبيرً - إلاّ وهو مظهر لتجلّي جانب من سِمات الصانع الحكيم (وفي كلّ شيء له آية تدلّ على أنّه واحد) أمّا الإنسان فكان المرآة الصقيلة التي تتجلّى فيها جميع صفات الجمال والجلال.

فإذا سئلت: ما هي الغاية من خلق ما في السماوات وما في الأرض جميعاً؟

قلت - حسب وصف القرآن -: هو الإنسان ذاته مُستودَع أمانات الله وليكون خليفته في الأرض!

وإذا سئلت: ما هي الغاية من خلقة الإنسان ذاته؟

قلت: هو الله الصانع الحكيم؛ حيث الإنسان بقدرته على الخلق والإبداع أصبح مظهراً تامّاً لكامل الأسماء والصفات، فكان وجه الله الأكمل وعين الله الأتمّ.

فكان الإنسان غاية الخليقة، وكان الله الغاية من خلق الإنسان، فالله هو غاية الغايات وبذلك ورد: (كنتُ كنزاً مخفيّاً فأحببت أن أُعرف، فخلقت الخلق لكي أُعرف) (2) .

حيث الإفاضة - وهي تجلّي الذات المقدّسة - كانت بالخلق والإبداع ومظهره الأتمّ هو الإنسان.

الحفاظ على كرامة الأنبياء

يمتاز القرآن بالحفاظ على كرامة الأنبياء، بينما التوراة تحطّ من كرامتهم.

____________________

(1) راجع: علم اليقين للفيض الكاشاني، ج 1، ص 381.

(2) حديث قُدسي معروف، راجع: البحار، ج84، ص 199، وهامش عوالي اللآلئ، ج 1، ص 55، وكتاب كشف الخفاء للعجاوني، ج 2، ص 132.

٢٥

لم يأتِ ذِكر نبيّ من الأنبياء في القرآن إلاّ وقد أحاط بهم هالةً من التبجيل والإكرام، كما ونزّهَهم عن الأدناس على وجه الإطلاق.

خُذ مثلاً سورة الصافّات جاء فيها ذكر أنبياءٍ عِظام مُرفَقاً بعظيم الاحترام.

( وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ) (1) .

( وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) وينتهي إلى قوله : ( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَبَشـَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ... ) (2) .

( وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ * وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ * وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ) (3) .

( وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ) إلى قوله: ( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ) (4) وهكذا كلّما يُمرّ ذِكرُ نبيّ تَصحبه لمـّة مِن الإجلال والتكريم.

وأمّا التوراة فلا تمرّ فيها بقصّةٍ من قصص الأنبياء إلاّ وملؤها الإهانة والتحقير، وربّما بلغ إلى حدّ الابتذال والتعبير ممّا لا يليق بشأن عباد الله المخلصين، هذا نوح شيخ الأنبياء تصفه التوراة: رجلاً سكّيراً مستهتراً لا يرعوي شناعةَ حال ولا فضاعة بال.

تقول عنه التوراة: إنّه بعد ما نَزل من السفينة هو ومَن معه، غرس كَرماً وصنع خمراً وشربها، حتّى إذا سكر وتعرّى داخل خبائه إذ دخل عليه ابنه الصغير حام فرأى أباه

____________________

(1) الصافات: 75 - 81.

(2) الصافات: 83 - 113.

(3) الصافات: 114 - 122.

(4) الصافات : 123 - 132.

٢٦

مكشوفاً عورته، فاستحى ورجع ليُخبر إخوته بذلك، ولمـّا صحا نوح وعَلِم بفضيع أمره دعا على ابنه هذا، ولعنه هو وذرّيته في الآخرين. فكان مِن أثر دعائه عليه أن كانت ذرّيته عبيداً لذرّية أخويه سام ويافث أبد الآبدين! (1) .

يا لها من مهزلة نسجتها ذهنيّة الحاقدين على أهل الدين، فما شأن التوراة وثَبتُ هكذا سفاسف حمقانيّة تمسّ بكرامة شيخ الأنبياء؟!

وهذا إبراهيم خليل الرحمان وأبو الأنبياء وصاحب الشريعة الحنيفة والتي أورثها الأنبياء من بعده، نَجده في التوراة رجلاً أرضيّاً يُتاجر بزوجه الحسناء (سارة) ليَفتدي بها لا لشيءٍ؛ إلاّ ليَحظى بالحياة الدنيا على غِرار سائر المـُرابين، يفعلون الفُجور للحصول على القليل من حطام الدنيا الدنيّة! (2) .

وما هي إلاّ فِرية فاضحة يُكذّبها تأريخ حياة إبراهيم (عليه السلام):

كانت سارة عندما صَحِبت زوجها إبراهيم في سفره إلى أرض مصر قد طَعنت في السنّ من السبعينيّات، وكان الدهر قد وَسَم على وجهها آثار الكُهولة والهرم، ولم يَعهد من عادة الملوك الجبابرة وأصحاب الترف والبذخ أن يطمعوا في هكذا نساء عجوزات!

كان إبراهيم عندما غادر (حاران) موطن أبيه (تارَح) قاصداً بلاد كنعان قد بلغ الخامسة والسبعين من عمره، واجتاز أرض (شكيم) ليبني هناك مَذبحاً (معبداً)، وارتحل إلى الجبل: شرقي (بيت إيل)، وهكذا تَداوم في رحلته يجوب البلاد ويبني مذابح، إلى أنْ حدث جَدْبٌ عمَّ البلاد، فانحدر إلى أرض مصر لينتجع هناك.

ولم يأتِ في التوراة مدّة هذا التَجوال والرحلات، لكن جاء فيها: أنّ سارة لمـّا وَهبت جاريتها (هاجر) لإبراهيم كان قد مضى من مغادرتهم أرض مصر عشر سنين (3) ، فحبلت هاجر وولدت إسماعيل بعد ما انقضى مِن عُمر إبراهيم ستٌ وثمانون عاماً (4) ، فكان إبراهيم عند مَقدمه مصر قد تجاوز الستّ والسبعين، وبما أنّ سارة كانت أصغر من إبراهيم

____________________

(1) سِفر التكوين، إصحاح 9/18 - 24.

(2) المصدر: 12/11 - 20.

(3) المصدر: 16/3.

(4) المصدر: 16/16.

٢٧

بعشر سنين فقد كانت عند قدومها مصر قد ناهزت الستّ والستين وهو سنّ العجائز! (1) .

إبراهيم، لم يَكذب قطّ!

جاء في أحاديث العامّة برواية أبي هريرة - وهي أشبه بالإسرائيليّات - (أنّ إبراهيم (عليه السلام) كَذَب ثلاث كِذبات: ثنتين في ذات الله: قوله: ( إِنِّي سَقِيمٌ ) (2) وقوله: ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ) (3) ، والثالثة بشأن سارة: أنّها أُخته) (4)

وفي حديث الشفاعة برواية أبي هريرة أيضاً: (أنّ أهل الموقف يأتون الأنبياء واحداً بعد واحد يستشفعون منهم، حتّى يأتوا إبراهيم فيأبى معتذراً: إنّي كذبت ثلاث كذبات ولستُ هناكم) (5) .

وقد وصفت لجنة مشايخ الأزهر هذه الروايات بالصِحاح، وعارضت الأستاذ عبد الوهاب النجّار استنكاره لهذه المفتريات (6) .

قلت: وحاشا إبراهيم الخليل - الداعي إلى الحنيفيّة البيضاء - أنْ ينطق بكذب، وإنّما كُذِبَ عليه بلا ريب، والرواية عامّية الإسناد لا اعتداد بها في هكذا مجالات.

ولقد أجاد الإمام الرازي حيث قال: فلأنْ يُضاف الكَذِب إلى رواة هذا الخبر أَولى من أنْ يُضاف إلى الأنبياء، وأخذ في تأويل الموارد الثلاثة، وأضافَ قائلاً: وإذا أمكن حَمل الكلام على ظاهره من غير نسبة الكَذِب إلى الأنبياء فحينئذٍ لا يحكم بنسبة الكذب إليهم إلاّ زنديق (7) .

أمّا قوله: ( إِنّي سَقِيمٌ ) فلعلّه أراد وهن حالته الجسديّة ممّا كان يرى قومه على عَمَه الغباء، وقد أحسّ ألماً شديداً انتاب قلبه المرهف تجاه تلكمُ الجهالات العارمة.

وأمّا قوله ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذَا فَسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ ) فقولة قالها مستهزئاً بهم

____________________

(1) المصدر: 17/17.

(2) الصافّات 37: 89.

(3) الأنبياء 21: 63.

(4) صحيح ا لبخاري، ج4، ص171 و ج7، ص7: وصحيح مسلم، ج7، ص98: ومسند أحمد، ج2، ص403 - 404.

(5) جامع الترمذي، ج4، ص623 وج5، ص321.

(6) راجع: هامش قصص الأنبياء للنجّار، ص86.

(7) التفسير الكبير، ج22، ص185 وج26، ص148.

٢٨

مستخفّاً عقليّتهم الكاسدة.

والكَذِب لا يكون إلاّ لغرض التمويه، أمّا إذا كان السامعون عارفين بواقع الأمر، وأنّ إبراهيم لم يقصد الحقيقة وإنّما أراد التسفيه من عقولهم محضاً فهذا لا يُعدّ كَذِباً؛ لأنّ الكَذِب إخبار في ظاهر غير مطابق للواقع، وهذا إنشاء لمحض التسفيه والهزء بهم، والإنشاء لا يَحتمل الصدق والكَذِب فتدبّر.

وأمّا الثالثة - بشأن سارة أنّها أُخته - فحديث خُرافة يا أُمّ عمرو!

قصّة الطوفان في التوراة

جاءت قصّة الطوفان في سِفر التكوين (1) بصورة تفصيليّة، تشبه أن تكون أساطيريّة، وفيها ما ترفضه العقول وتأباه واقعيّة الحياة، فضلاً عن منافاتها لأُصول الحكمة المهيمنة على مظاهر الوجود.

جاء فيه: أنّ قوم نوح فسدوا وأفسدوا في الأرض، فغضب اللّهُ عليهم وأنذرهم على لسان نوح بعذاب الاستئصال بإرسال الطوفان العارم، فلم يعبأوا بذلك وظلّوا يعبثون ويَعثون في البلاد.

ولمـّا بلغ نوح من العمر ستمِئة سنة أمره الله بصنع الفلك (في 300 ذراع طولاً و50 ذراعاً عرضاً و30 في الارتفاع).

فجاء الطوفان، وجُعلت ينابيع الأرض تتفجّر، والسماء تمطر بغزارة أربعين صباحاً، والماء يرتفع شيئاً فشيئاً على وجه الأرض كلّها، حتّى بلغ قِمم الجبال الشامخة في كل جوانب الأرض، وارتفع على أشمخ قمّة من الجبال بخمس عشرة ذراعاً؛ وبذلك هلك الحرث والنسل، ومات كلّ ذي حياة على وجه الأرض من الدوابّ والبهائم والدبّابات والزحّافات، وحتّى الطير في السماء.

ودام الطوفان مئة وخمسين صباحاً، يحوم نوح بأهله وذويه وما حمله معه في الفلك على وجه الماء، حتّى أخذ الماء ينحطّ ويغور فاستقرّت

____________________

(1) سِفر التكوين، إصحاح 9 - 6.

٢٩

سفينته على جبل (آرارات) بأرمينيّة، فنزلوا من السفينة وعاش نوح بعد ذلك ثلاثمئة وخمسين عاماً، فكان كلّ أيّام نوح تسعمِئة وخمسين سنة، على ما جاء في الإصحاح التاسع عدد 28.

وكان الذي حمله نوح معه في السفينة - غير أهله وذويه - أزواجاً (ذكراً وأُنثى) من كلّ أنواع الحيوانات؛ لئلاّ ينقرض نسلها وتبيد من الوجود (من جميع البهائم والطيور ذكراً وأُنثى، لاستبقاء نسلها على وجه كلّ الأرض) (1) .

وهذا يعنى: أنّ جميع الأحياء هلكوا على أثر الغَرَق (فما كلّ ذي جسد كان يدبّ على الأرض من الطيور والبهائم والوحوش، وكلّ الزحّافات التي كانت تزحف على الأرض وجميع الناس، كلّ ما في أنفه نسمة روح الحياة فيما في اليابسة مات) (2) ؛ وذلك أنّ الماء غمر وجه الأرض كلّها، وطغى على أعالي الجبال الشامخة في كلّ أكناف الأرض (وتعاظمت المياه كثيراً جدّاً على الأرض، فتغطّت جميعُ الجبال الشامخة التي تحت كلّ السماء خمس عشرة ذراعاً في الارتفاع فتغطّت كلّ الجبال) (3) .

حادث الطوفان في القرآن

وحاشا القرآن أنْ يساير التوراة (المـُتداولة) في سرد أقاصيص أسطوريّة واهية، وإنّما هي الواقعيّة ينتقيها ويَنبذ الأوهام الخرافيّة والتي أحدقت بها على أثر طول العهد.

وإليك الحادث على ما جاء في سورة هود:

( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ (4) قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاّ قَلِيلٌ * وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاّ

____________________

(1) المصدر: 7/4.

(2) المصدر: 7/21.

(3) المصدر: 7/19.

(4) كلمة أعجميّة وتطلق في كلام العرب على مفجر المياه، جاء في القاموس: التنّور كل ّمفجر الماء.

٣٠

مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ * وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ (1) وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ * قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (2) .

مواضع عِبر أغفلتها التوراة

جاءت القصّة في التوراة كسائر الأحداث التاريخيّة القديمة مشوّهةً في خِضمٍّ من خرافات بائدة، ومن غير أن تتأكّد على مواضع العِبر منها، بل وأغفلتها في الأكثر، أمّا القرآن؛ فبما أنّه كتاب هداية وعِبر نراهُ يقتطف من أحداث التأريخ عِبرها، ويَجتني من شجرة حياة الإنسان السالفة يانع ثمرها، فليتمتّع الإنسان بها في حياته الحاضرة في شغفٍ وهناء.

وقد أغفلت التوراة جانب زوجة نوح وابنه اللذَينِ شَملهما العذاب بسوء اختيارهما، إنّها عِبرةٌ كبرى، كيف يغفل الإنسان أوفر إمكانيّات الهداية والصلاح؟ وينجرف بسوء اختياره مع تيّار الضلالة والفساد، وفي النهاية الدمار والهلاك!!

ذكر السيّد ابن طاووس: أنّه كان لنوح زوجان إحداهما وفيّة وأخرى غبيّة، فركبت الصالحة مع أبنائها السفينة، وهلكت الأخرى الطالحة مع الآثمين (3) .

قال اللّه تعالى عنها وعن زوج لوط: ( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ) (4) .

____________________

(1) قال أبو مسلم الإصبهاني: الجودي كلّ جبلٍ وأرضٍ صلبة.

(2) هود 11: 40 - 48.

(3) راجع: سعد السعود لابن طاووس، ص239، وبحار الأنوار، ج11، 342.

(4) التحريم 66: 10.

٣١

وكانت خيانَتُهما هي المـُسايرة مع الكافرين، ونبذ معالم الهداية التي كانت في متناولهما القريب.

وابن نوح يقول عنه تعالى: إنّه ليس من أهله، لا يصلح للانتساب إليه بهذا العنوان الفخيم (أهل نوح)؛ لأنّه عملٌ غير صالح، إنّه حصيلة أعماله غير الصالحة، ومن ثَمَّ فإنّه كان يعيش خارج الإطار الذي كان يعيشه نوح وأهله.

وهذا أيضاً من أعظم العِبر، كيف ينحدر الإنسان من أعلى قِمم الهداية والتوفيق لينخرط مع البائسين الحيارى لا يهتدون سبيلاً؟!

أمّا وكيف ابتغى نوح نجاة ابنه هذا وهو يعلم ما به من غَواية الضلال؟ فهذا يعود إلى حنان الأُبوّة ورحمة العُطوفة التي كان يحملها نوح (عليه السلام) لا سيّما مع ما وعده الله بنجاة أهله، فلعلّه شملته العناية الربّانيّة وأصبح من المرحومين ومِن ثَمّ جاءته الإجابة باليأس، وأنّه لا يصلح أن يكون أهلاً له وكان محتّماً عليه أن يمسي من المرجومين.

هل عمّ الطوفان وجه الأرض؟

صريح التوراة أنّ الطوفان عمّ وجه الأرض، وأهلك الحرث والنسل وحتّى الطير في السماء.

وليس في القرآن دلالةٌ ولا إشارةٌ إلى ذلك، بل على العكس أدلّ، وأنّ الطوفان إنّما عمّ المنطقة التي كان يعيشها قوم نوح ولم يتجاوزها.

جاء في سورة الأعراف: ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) إلى قوله ( فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً عَمِينَ ) (1) .

فالذين كان يخاف عليهم عذاب يومٍ عظيم ممّن كذّبوه وكانوا قوماً عمين، كانوا هم المغرقين.

____________________

(1) الأعراف 7: 59 - 64.

٣٢

ولا دلالة فيها على غرق آخرين من أقوامٍ لو كانوا مُبعثرين عائشين في سائر أقطار الأرض ممّن لم تبلغهم دعوة نوح، ولم يكن مرسلاً إليهم.

هذا فضلاً عن سائر الحيوان من الزحّافات والدبّابات المنتشرة في وجه الأرض، وكذا الطير في الهواء، ممّا لا شأن لها ورسالات الأنبياء، ولا وجه لأنْ يعمّها العذاب، وهو عقاب على معصية لا مساس لها بغير الإنسان.

الأمر الذي يؤخذ على التوراة أشدّ الأخذ! ولا سيّما بذاك الوصف الذي وصفته: غمر الماء وجه الأرض كلها وارتفع حتّى غمر قمم الجبال الشامخات وعلاهنّ بخمس عشرة ذراعاً (سبعة أمتار)!

نقض فرضية الشمول

يقول (ولتر) - الكاتب الناقد الفرنسي (1694 - 1778 م) بصدد تسخيف أُسطورة الطوفان على ما وصفته التوراة -: كان يجب لمثل هذا التضخّم من الماء المتراكم على وجه الأرض أنْ تضمّ اثنا عشر بحراً، كلّ في سعة البحر الأطلانتي المحيط، بعضها فوق بعض ليكون الأعلى في حجم أكبر بأربع وعشرين ضعفاً، وهكذا حتّى تجتمع في مثل هذا الماء المتراكم ليغمر شامخات الجبال!

ويزيد - مستخفّاً عقليّة مسطّر هذه الأساطير وناقماً على الذين اعتنقوها باعتبارها وحياً من السماء (وحاشاه) -: يكفي بذلك معجزة خالدة لا حاجة معها إلى سائر المعاجز، حيث لا مثيل لها في خرق نواميس الكون!!.

ويقول آخر: إنّ المحاسبات العلميّة الدقيقة تُعطينا: أنّ الأبخرة المنبثّة في أجواء الأرض لو تكثّفت جميعاً وهطلت أمطاراً لما كانت تكفي لأنْ تغمر وتعلو عن وجه الأرض بأكثر من بضع سانتي مترات، فكيف بجبال شامخات؟!

يقول الدكتور (شفا): لو كانت السماء تهطل بأمطارها أربعين صباحاً - كما هو نصّ التوراة - لما كاد أنْ يغمر هضبة ما بين النهرين - على صغرها - فكيف بغمر وجه الأرض

٣٣

وأنْ يعلو قمم الجبال؟! وجبل (آرارات) يرتفع عن سطح البحر بأكثر من خمس كيلو مترات ما يكاد أن يغمره، فكيف بسائر الجبال الشامخة؟! (1) .

الطوفان ظاهرة طبيعيّة حيث أرادها الله

نعم، كان حادث الطوفان ظاهرة طبيعيّة وعلى ما وصفه القرآن ممّا لا يكاد الغمز فيه.

كان قد مرّ على حياة الأرض في أدوارها الأولى كثير من تغيّرات جوّية مفاجئة، كان وجه الأرض مسرحاً لتناوب هطول أمطار غزيرة، وسيول هائلة منحدرة من أعالي الجبال كادت تغمّ الهضاب والوديان والمناطق المنخفضة من سطح الأرض.

وكان طوفان نوح إحدى تلكم الظواهر الكونيّة حدثت بإذن الله ( فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ) (2) ، فانحدرت سيول هائلة على سفوح الجبال، وتفجّر ينابيع الأرض المـُشبعة بالأمطار، وهكذا أحاط الماء الهائم بقوم نوح وسدّ عليهم طرق النجاة، وحتّى ابن نوح حاول اللجوء إلى أعالي المرتفعات لولا أنْ جابهته سيول هائجة لتصرعه إلى حيث مَهوى الهلاك، بل وحتّى لم يجد فرصة التريّث فيما كان ينصحه أبوه، وحال بينهما الموج فكان من المغرقين.

وفي تواريخ الأُمم ما يُسجّل حدوث طوفانات هائلة جرفت بقسط من الحياة؛ ولعلّه لتراكم الفساد والشرّ في تلكم البقاع، فمِن قدماء الفرس: أنّ طوفاناً هائلاً غمّ أرض العراق إلى حدود كردستان، وهكذا رُوي عن قدماء اليونان، والهنود أثبتوا وقوع الطوفان سبع مرّات شمل شبه الجزيرة الهنديّة، ويُروى تعدّد الطوفان عن اليابان والصين والبرازيل والمكسيك وغيرهم، ويُروى عن الكلدانييّن - وهم الذين وقع طوفان نوح في بلادهم -:

أنّ المياه طغت على البلاد وجرفت بالحرث والنسل. فقد نقل عنهم (برهوشع) و

____________________

(1) راجع: ما كتبه الدكتور شجاع الدين شفا في كتابه (تولّدي ديكر)، ص 285 منتقداً قصّة الطوفان على ما وردت في الكتب الدينيّة.

(2) القمر 54: 11 و 12.

٣٤

(يوسيفوس): أنّ (زيزستروس) رأى في الحُلم بعد موت أبيه (أوتيرت) أنّ المياه ستطغى وتُغرق الناس كلّهم - ممّن كان يعيش هناك طبعاً - فأُمر بصنع سفينة يعتصم فيها هو وذووه ففعل، وقد كان هناك جبابرة طغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد فعاقبهم الله بالطوفان والاستئصال.

وقد عَثر بعض الإنجليز على ألواح من الآجر نُقشت فيها هذه الرواية بالحروف المسماريّة في عصر (آشور بانيبال) من نحو (660) سنة قبل ميلاد المسيح، وأنّها منقولة من كتابة قديمة من القرن السابع عشر قبل الميلاد أو قبل ذلك، ومِن ثَمّ فهي أقدم من كتابة سِفر التكوين (يرجع تدوينه إلى عام 536 قبل الميلاد بعد الرجوع من سبي بابل).

ويروي اليونان خبراً عن الطوفان أورده (أفلاطون) وهو: أنّ كَهَنة مصر قالوا للحكيم اليوناني (سولون) أنّ السماء أرسلت طوفاناً غيّر وجه الأرض مراراً، فهلك الناس - ممّن عمروا البلاد في المنطقة - وانمحت آثارهم ولم يبق للجيل الجديد شيء من تلكمُ الآثار والمعارف.

وأورد (مانيتيون) خبر طوفان حدث بعد (هرمس) الأَوّل - الذي كان بعد (ميناس) الأَوّل -، وهو أقدم من تأريخ التوراة أيضاً (1) .

وهكذا جاء خبر الطوفان في (اُوستا) كتاب المجوس (2) .

وجاء في كتاب (تأريخ الأدب الهندي) الجزء الأوّل المختصّ بالثقافة الوثنيّة الهنديّة، للسيّد أبي نصر أحمد الحسيني البهوبالي الهندي (مخطوط) ص 42 و 43، في الباب الخامس، وعنوانه (برهمانا وأوبانبشاء):

وممّا يلفت النظر في (ساتا بانا برهمانا) قصّة الطوفان، التي بُيّنت في ضمن الضحايا، والقصّة وإنْ اختلفت من وجوه كثيرة عمّا في القرآن والتوراة، وإن لم توجد شواهد قاطعة تربط القصّة الهنديّة مع الساميّة، توجب الاهتمام..

ففي هذه القصّة البرهمانيّة يقوم (مانو) بدور نبيّ الله نوح (عليه السلام) في القرآن وفي

____________________

(1) راجع: تفسير المنار لمـُحمّد عبده، ج 12، ص 105.

(2) في ترجمتها الفرنسيّة. راجع: الميزان للطباطبائي، ح 10، ص 267.

٣٥

التوراة، و (مانو) اسم نال التقديس والاحترام في أدب الثقافة بأسره من الوثنيّين، فهو: ابن الله، ومصدر جميع الناس وجدّهم الأسطوري.

وخلاصة القصّة: أنّه بينما كان (مانو) يغسل يديه إذ جاءت في يده سَمكة، وممّا اندهش به (مانو) أنّ السمكة كلّمته وطلبت إنقاذها من الهلاك، ووَعَدته جزاءً عليه أنّها ستنقذه في المستقبل من خطر عظيم، والخطر العظيم المـُحدق الذي أنبأت به السمكة كان طوفاناً سيجرف جميع المخلوقات؛ وعلى ذلك حَفَظ (مانو) السمكة في (المرتبان)، فلمـّا كَبُرت السمكة أخبرت (مانو) عن السنة التي سيأتي فيها الطوفان، ثمّ أشارت عليه أن يصنع سفينة كبيرة، ويدخل فيها عند طغيان الماء، قائلةً: أنا أُنقذك من الطوفان، فمانو صنع السفينة، والسمكة كبُرت أكثر من سعة (المرتبان)؛ لذلك ألقاها (مانو) في البحر. ثمّ جاء الطوفان كما أنبأت السمكة، وحين دخل (مانو) السفينة، عامت السمكة إليه، فربط السفينة بقرن على رأس السمكة، فجرّتها إلى الجبال الشماليّة، وهنا ربط (مانو) السفينة بشجرة، وعندما تراجع الماء وخفّ بقي (مانو) بوحدته (1) .

فذلكة الكلام: إنّ فيما أنبأت به الأُمم وحدّثت به الأجيال من حوادث جوّية خطيرة، داهمت الحياة البشريّة الأُولى وكان فيها الهلاك والدمار ومنها حادث الطوفان في كرّات ومرّات، ليُشْرف بالاطمئنان على تحقّق الحادث إجماليّاً، ولو لم يكن بذلك الشكل الأساطيري المنقول، شأن سائر القصص البائدة حِيكت حولها مخاريف، الأمر الذي لا يوجب إنكارها من رأس، ولا سيّما أنّ مثل حادث الطوفان كان طبيعيّاً أنْ يهاجم حياة الإنسان، ويواجهه بالنكبات في الأيام الأُولى بكثرة، ولا يزال ينتاب وجه الأرض بعد حينٍ وآخر.

وربما كان من أعظمها وأشملها طوفان نوح، عمّ المنطقة ودمّر وأباد، هذا شيء لا مساغ لإنكاره، بعد كونه طبيعيّاً وأخبر به الصادق الأمين.

____________________

(1) راجع: قصص الأنبياء للنجّار، ص 46 - 47.

٣٦

أمّا الزيادات التي جاءت في الأساطير القديمة ونقلتها التوراة على عِلاّتها فهذا شيءٌ نستخلص منه وننبذه، كما نبذه القرآن واستخلص الحادث صافياً جليّاً، الأمر الذي اختصّ به القرآن وكان نبأً غيبيّاً لا يعلمه أيّ إنسان ذلك الحين ( تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا ) (1) .

أي لا تعلمها بهذا الخلوص والجلاء، أمّا صورتها المشوّهة فكان يتداول بها أقوام جاهلون بحقيقة الأمر.

لا شاهد على شمول الطوفان

لا شكّ أنّ شواهد الطبيعة لا تدع مَجالاً لاحتمال شمول الطوفان، ولا سيّما بذلك الارتفاع الهائل! كما لا موجب لتناول الإعجاز لمثل هذا الحدّ غير الضروري قطعيّاً.

بقي ظاهر النصّ (التعابير الواردة في القرآن الكريم) ممّا حسبه البعض ذا دلالة أو إشارة إلى ذلك، فضلاً عن قرائن أخرى:

قال الشيخ مُحمّد عبده: وأمّا مسألة عموم الطوفان في نفسها فهي موضوع نزاع بين أهل الأديان، وأهل النظر في طبقات الأرض، وموضوع خلاف بين مؤرّخي الأُمم.

أمّا أهل الكتاب وعلماء الأمّة الإسلاميّة فعلى أنّ الطوفان كان عامّاً لكلّ الأرض، ووافقهم على ذلك كثير من أهل النظر، واحتجّوا على رأيهم بوجود بعض الأصداف والأسماك المتحجّرة في أعالي الجبال؛ لأنّ هذه الأشياء ممّا لا تتكّون إلاّ في البحر، فظهورها في رؤوس الجبال دليلٌ على أنّ الماء صعد إليها مرّةً من المرّات، ولن يكون ذلك حتّى يكون قد عمّ الأرض (2) .

وقال السيّد الطباطبائي: الحقّ، أنّ ظاهر القرآن الكريم - ظهوراً لا ينكر - أنّ الطوفان كان عامّاً للأرض، وأنّ من كان عليها من البشر أغرقوا جميعاً...

ومن شواهد الآيات التي استند إليها قوله تعالى - حكايةً عن نوح - ( رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى

____________________

(1) هود 11: 49.

(2) تفسير المنار، ج 12، ص1 08.

٣٧

الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً ) (1) وقوله: ( لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ) (2) وقوله: ( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) (3) .

قال: ومن الشواهد من كلامه تعالى على عموم الطوفان ما ذكر في موضعين من الأمر بأنْ يَحمل من كلٍّ زوجين اثنين، (4) ومن الواضح أنّه لو كان الطوفان خاصّاً بالمنطقة - أرض العراق كما هو معروف - لم تكن حاجة إلى ذلك (5) ؛ نظراً لإمكان تداوم النسل بسائر أفراد النوع المنبّثة في أقطار الأرض حينذاك.

آثار جيولوجيّة

لكن وجود الفسايل وبقايا متحجّرة لحيوانات مائيّة وهكذا آثار الردم المـُشاهد في أعالي بعض الجبال لا يَصلح شاهداً لصعود الماء إليها؛ إذ لا يكفي لحدوث هذه الآثار ووجود هذه البقايا صعود الماء أيّاماً معدودة ولفترة قصيرة، بل ومن المحتمل القريب أنّها من بقايا رسوبيّة كانت يوماً ما تحت البحر وعلى ضفافه، غير أنّ التغيّرات الجيولوجيّة والتمعّجات الحاصلة على قشرة الأرض على أثر الزلازل وغيرها هي التي أوجبت تغيّراً في وجه الأرض، فمنها ما ارتفع بعدما كان مغموراً، أو انغمر بعد ما كان عالياً، وهكذا تعرجّات حدثت على الأرض ولا سيّما في الفترات الأُولى على أثر انخفاض حرارة سطح الأرض.

قال الشيخ محمّد عبده: إنّ وجود الأصداف والحيوانات البحريّة المتحجّرة في قُلل الجبال لا يدلّ على أنّها من أثر ذلك الطوفان؛ بل الأقرب أنّه كان من أثر تكوّن الجبال وغيرها من اليابسة في الماء. فإنّ صعود الماء إلى الجبال أيّاماً معدودة لا يكفي لحدوث ما ذكر فيها (6) .

____________________

(1) نوح 71: 26.

(2) هود 11: 43.

(3) الصافّات 37: 77.

(4) راجع: سورة هود 11: 40 والمؤمنون 23: 27.

(5) راجع: تفسير الميزان، ج 10، ص 272 و 274 ووافقه على ذلك الدكتور مُحمّد الصادقي في تفسيره الفرقان، ج 12، ص 316 - 317.

(6) تفسير المنار، ج 12، ص 108.

٣٨

( رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرضِ) (1) .

أخذوا من هذه الآية دليلاً على عموم الطوفان وشموله لوجه الأرض كلّها.

قال الشيخ محمّد عبده: ليست الآية نصّاً في أنّ المراد بالأرض هذه الكُرة كلّها، فإنّ المعروف في كلام الأنبياء والأقوام وفي أخبارهم أنْ تُذكر الأَرض ويراد بها أرضهم ووطنهم، كقوله تعالى حكايةً عن خطاب فرعون لموسى وهارون: ( وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ ) (2) يعني أرض مصر، وقوله: ( وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا ) (3) فالمراد بها مكّة، وقوله: ( وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ ) (4) والمراد ديار فلسطين، والشواهد على ذلك كثيرة.

قال: وظواهر الآيات تدلّ بمعونة القرائن والتقاليد المـُوروثة عن أهل الكتاب على أنّه لم يكن في الأرض كلّها في زمن نوح إلاّ قومه - (وهو في أوّليات حياة البشر) - وأنّهم هلكوا كلّهم بالطوفان، ولم يبقَ بعده فيها غير ذرّيته، وهذا يقتضي أنْ يكون الطوفان في البقعة التي كانوا فيها من الأرض سَهلها وجبالها لا في الأرض كلّها، إلاّ إذا كانت اليابسة منها في ذلك الزمن صغيرة؛ لقرب العهد بالتكوين وبوجود البشر عليها.

فإنّ علماء التكوين وطبقات الأرض (الجيولوجيّة) يقولون: إنّ الأرض كانت عند انفصالها من الشمس كرة ناريّة ملتهبة ثمّ صارت كرة مائيّة، ثُمّ ظهرت فيها اليابسة بالتدريج (5) .

وبذلك ظهر عدم دلالة الآية ( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) (6) على شمول الطوفان لعامّة وجه الأرض، بعد فرض محدوديّة نطاق النسل البشري آنذاك (في عهدٍ بعيد جدّاً) وعدم الانتشار في أقطار الأرض، ولا نُسلّم بما حدّدته التوراة من التأريخ القريب ولا مستند لها.

( لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ)

شاهد آخر التمسوه دليلاً على عموم الطوفان.

قال تعالى: ( وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ

____________________

(1) نوح 71: 26،

(2) يونس 10: 87.

(3) الإسراء 17: 76.

(4) الإسراء 17: 4.

(5) تفسير المنار، ج 12، ص 106.

(6) الصافّات 37: 77.

٣٩

ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاّ مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ) (1) .

في هذه الآية موضعان يمكن الاستناد إليهما تدليلاً على شمول الطوفان:

1 - التعبير بالموج الهائل كالجبال، ممّا لا يحدث إلاّ في متّسع من خِضَمّ الماء المتراكم.

2 - محاولة ابن نوح للصعود إلى جبلٍ يَعصمه من الماء، ولكنّ نوحاً أنذره أنْ لا عاصم اليوم، ومعنى ذلك: أنّ الماء سيغطّي الجبال أيضاً ولا يَذر موضعاً يأوي إليه، وهكذا ابتلعه الموج الهائم فكان من المغرقين.

لكن لا شكّ أنّ هضبةً كبيرةً واسعةَ الأرجاء إذا ازدحمت عليها المياه، واكتنفتها السيول العارمة من كلّ جانب، وفاضت ينابيع الأرض فإنّ الماء ليجول ويصول في ساحتها، وربّما ارتفعت إلى عشرات الأمتار، وفي مثل هذا الخِضمّ من الماء الهائم - والذي في عرضة الطوفان - وهبوب رياح عاصف لابدّ أنّ تحصل أمواج عالية وعاتية تلوي على كلٍّ شيء.

ولابدّ أنّ ابن نوح كان واقفاً على مرتفع من الأرض ليرى تجوال السفينة على وجه الماء، وحينما كلّمه أبوه - وهو راكبٌ في السفينة - لمْ يعبأ بنُصح أبيه، وأنّه سوف يأوي إلى أعالي الجبال، لكنّه غافلٌ أنّ السيول الهائمة المـُنحدرة على سفوح الجبال سوف تلوي به إلى أعماق الغَرق، وبالفعل نزلت به النازلة وحال بينه وبين أبيه الموج فكان من الهالكين.

وليس في ذلك دلالة على أنّ الماء سوف يرتفع على قِمم الجبال الشامخة في كلّ مناحي الأرض.

وهكذا رجّح العلاّمة الشعراني أنّ الماء لم يرتفع في أرض الطوفان (هضبة ما بين النهرين) أكثر من عشرين أو ثلاثين متراً، ممّا لا يمكن غشيانه قُلَل جبال رفيعة كقُلّةِ آرارات من سلسلة جبال جودي (2) .

____________________

(1) هود 11: 42 و 43.

(2) معجم لغات القرآن للعلاّمة أبي الحسن الشعراني (ملحق تفسير أبي الفتوح الرازي، ج 11، ص 144).

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

وقد عرفت أنّ سِحرَهم كانت شَعْوذة والأُخْذة بالعين لا غير، فقد ( سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ ) (١) وكانت ( حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ) (٢) ، فقد كان مجرّد تلبيس وتَمويه في الأمر وأَروهم ما كان الواقع خلافه.

وإذا كان هذا (مجرّد التخييل والتمويه) سِحراً عظيماً - والسّحر ما لطُف ودقّ مأخذه - فكيف بغير العظيم الذي هو أخفّ وزناً وأردأ شأناً؟ هذا ما يرسمه لنا القرآن من واقع السحر، وأنّه يخالف تماماً ما كانت العرب تعتقده بشأن السحر وتأثيره في قلب الواقع، فكيف يا ترى مَزعومة مَن زعم أنّ القرآن وافق العرب في عقيدتها أو جاملهم وتماشى معهم في أمرٍ باطل؟!

قال سيّد قطب: وحسبنا أنْ يقرّر القرآن أنّه سحر عظيم، لندرك أيّ سحرٍ كان، وحسبنا أن نعلم أنّهم سحروا أعين الناس وأثاروا الرهبة في قلوبهم (واسترهبوهم) لنتصوّر أيّ سحرٍ كان، ولفظ (استرهب) ذاته لفظ مصوِّر، فهم استجاشوا إحساس الرهبة في الناس وقسروهم عليه قسراً.

ثُمّ حسبنا أنْ نعلم من النصّ القرآني - في سورة طه - أنّ موسى (عليه السلام) قد أوجس في نفسه خيفةً لنتصوّر حقيقة ما كان، ولكن مفاجأة أخرى تُطالع فرعون ومَلأه، وتُطالع السَحَرة الكَهَنة، وتُطالع جماهير الناس في الساحة الكبرى التي شَهِدت ذلك السحر العظيم: ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ ) (٣) .

إنّه الباطل ينتفش، ويَسحر العيون، ويَسترهِب القلوب، ويُخيّل إلى الكثير أنّه غالب، وأنّه جارف، وأنّه مُحيق! وما هو إلاّ أنْ يواجه الهادئ الواثقَ، حتّى ينفثئ كالفُقّاعة، ويَنكمش كالقنفذ، وينطفئ كشُعلة الهشيم! وإذا الحقّ راجح الوزن، ثابت القواعد، عميق الجذور، والتعبير القرآني هنا يُلقي هذه الظِلال، وهو يُصوّر الحقّ واقعاً ذا ثقل (فوقع الحقّ)... وثبت، واستقرّ... وذهب ما عداه فلم يَعد له وجود: (وبطل ما كانوا يعملون).

____________________

(١) الأعراف ٧: ١١٦.

(٢) طه ٢٠: ٦٦.

(٣) الأعراف ٧: ١١٧ - ١١٩.

٢٢١

وغُلب الباطل والمـُبطلون وذلّوا وصغروا وانكمشوا بعد الزهو الذي كان يُبهر العيون: ( فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ ) (١) .

قال: فالسحر لا يُغيّر من طبيعة الأشياء، ولا يُنشئ حقيقةً جديدةً لها، ولكنّه يُخيّل للحواسّ والمشاعر بما يريده الساحر، وهذا هو [ واقع ] السحر كما صوّره القرآن الكريم في قصّة موسى (عليه السلام) فلم تنقلب حبالُهم وعصيّهم حيّات فعلاً، ولكن خُيّل إلى الناس أنّها تسعى، وهذه هي طبيعة السحر كما ينبغي لنا أن نُسلّم بها، وهو بهذه الطبيعة يُؤثّر في الناس، ويُنشئ لهم مشاعر وِفق إيحائه، مشاعر تُخيفهم وتُؤذيهم وتُوجّههم الوِجهة التي يُريدها الساحر.

قال: وعند هذا الحدّ نقف في فهم طبيعة السحر والنفث في العُقد، وهي شرّ يُستعاذ منه بالله ويُلجأ إلى حماه (٢) .

سَحَرة بابل

كان المـُجتمع البابلي - على عهد الكلدانيّين - مُجتمعاً فاسداً شاعت فيه الفحشاء والمـُنكرات وراج الفساد والإفساد في الأرض، وكان من أساليب إفسادهم ارتكاب الحِيَل الماكرة والدسائس الخادعة لإيجاد البغضاء والشحناء بين الناس، وبثّ روح سوء الظنّ بين المؤتلفَينِ، بين المرء وزوجه، بين الوالد وَوَلَده، بين الأخوَين، بين الشريكين في صنعةٍ أو تجارة، وذلك عن طريق الوساوس والدسائس والخُدع والنيرنجات، وكان السبب يعود إلى هيمنة الحسد على الناس حينذاك، بما جعلهم يُبغض بعضهم بعضاً ويعمل بعضهم ضدّ البعض في أساليب وحِيَل خدّاعة كلّ يوم في شكل من أشكالها، ويتعاون بعضهم مع بعض في تخطيط هذه الأساليب وتنويعها ( يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً ) (٣) ، وإلى ذلك تُشير سورة الناس: ( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِن شَرِّ

____________________

(١) في ظِلال القرآن، المجلّد ٣، ص ٦٠٤، ج ٩، ص ٣٨.

(٢) المصدر: المجلّد ٨، ص ٧٠٩، ج ٣٠، ص ٢٩١.

(٣) الأنعام ٦: ١١٢.

٢٢٢

الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ ) ، الخَنس: العمل في خَفاء وعن وحشة الافتضاح، ومِن ثَمّ إذا أحسّ بالفضح خَنَس أي انقبض وتخفّى بسرعة، فكان الخنّاس هو الذي يعمل في خُبثٍ ولؤم وعن وحشةٍ خشية الافتضاح، فهو يعمل في خُبثٍِ معه ضَعف وجُبن وَوَهن في مَقدرته الماكرة.

فأنزل الله الملكَين هاروت وماروت ببابل يُنبّهان الناس على إفشاء تلك الأساليب الماكرة ويُعلّمانِهم طُرق التخلّص منها والنقض من أثرها، غير أنّ بعض الخُبثاء كانوا يَتعلّمون ما يضرّهم دون ما ينفعهم، ليُفرّقوا بين المرء وزوجه، سوى أنّ الله غالب على أمره وما تشاءون إلاّ أنْ يشاء الله.

يقول الله عن سوء تصرّف بني إسرائيل: ( وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ) (١) .

لقد تركوا ما أنزل الله ونَبذوه وراء ظهورهم، وراحوا يَتَتبّعون ما كان يقصّه الشياطين - والشيطان وَصفٌ لكلّ خبيث سيّئ السريرة - على عهد سليمان وأساليب تضليلهم للناس من دعاوٍ مكذوبة عن سليمان؛ حيث كانوا يقولون إنّه كان ساحراً وإنّه سخّر ما سخّر بسحره، والقرآن ينفي عنه ذلك (وما كفر سليمان) باستعمال السحر الذي هو في حدّ الكفر بالله العظيم، (ولكنّ الشّياطين (خبثاء الجنّ والإنس) كفروا يعلّمون النّاس السّحر) (طُرق الإضلال وأساليب التضليل).

ثُمّ ينفي أنّ السحر مُنزَل من عند الله على الملكَين: هاروت وماروت، اللذين كان مَقرّهما بابل، ويبدو أنّه كانت هناك قصّة معروفة عنهما وكان اليهود أو الشياطين يَدّعون أنّهما كانا يَعرفان السحر ويُعلّمانه للناس، فنفى القرآن هذه الفِرية، وبيّن الحقيقة، وهي أنّ

____________________

(١) البقرة ٢: ١٠٢.

٢٢٣

هذين الملكَين كانا هناك فتنةً وابتلاء للناس، كانا يقولان لكلّ مَن يأتيهما طالباً منهما معرفة طريق التخلّص من براثن الشياطين السَحَرة: لا تَكفر باستخدام تلك الأساليب الماكرة، وقد كان بعض الناس يُصرّ على تعلّم السحر لغرض خبيث على الرغم من تحذيره وتبصيره، ( فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ) ، وهنا يُبادر القرآن فيُقرّر كلّية التصوّر الإسلامي الأساسيّة، وهي أنّه لا يقع شيء في هذا الوجود إلاّ بإذن الله ورعاية مصلحته وحِكمته، فبإذن الله تَفعل الأسباب فعلها وتُنشأ أثارها وتحقّق نتائجها، وإن كانت عاقبة السوء تعود على الزائغين الذين ينحرفون عن الطريق السوي والصراط المستقيم الذي رسمه لهم ربّ العالمين.

ثُمّ يقرّر القرآن حقيقة ما يتعلّمونه بُغية إيقاع الشرّ بالآخرين، إنّه شرّ عليهم وليس خيراً لهم ( وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ ) ، وربّما يكفي أن يكون هذا الشرّ هو الكفر والخسران في الآخرة ( وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ ) ، فمَن تعلّم شرّاً وحاول الإضرار به يعلم أنْ لا نصيب له في العاقبة، فهو حين يَختاره ويشتريه يَفقد كلّ رصيدٍ له في الآخرة سِوى العقاب، فما أسوأ ما باعوا به أنفسهم وأضاعوا خيرات كانت لهم في عُقبى الدار، ( وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ) لو كان يفقهون وَيَعون واقع الأمر.

النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (١)

النَفث، قَذفُ القليل من الريق، شبيهٌ بالنفخ، وهو أقلّ من التفل، ونَفَث الراقي أو الساحر أن يَنفث بريقه في عُقدٍ يَعقدها بعد كلّ زَمزَمَة يَتزمزم بها؛ ليسحر بها فيما زعموا، والمـُراد به هنا هي النميمة ينفثها النمّامون في العُقد أي في الروابط الودّية ليُبدّدوا شمل الأُلفة بين المتحابَّين: المرء وزوجه، الوالد وولده، الأخوين، المتشاركين في صنعةٍ أو تجارةٍ أو زراعةٍ وغير ذلك ممّا يرتبط وأواصر الودّ بين شخصين أو أكثر، والعرب تُسمّي

____________________

(١) الفلق ١١٣: ٤.

٢٢٤

الارتباط الوثيق بين شيئَين أو شخصَين عُقدة، كما جاء التعبير عن الارتباط بين الزوجين (عُقدة النكاح) قال تعالى: ( وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ) (١) ، ( إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ) (٢) .

ومعنى الآية: ومِن شرّ النمّامين الذين يُحاولون بوساوسهم الخبيثة قطع الأواصر بين المتحابّين، وهذا من التشبيه في الجُمَل التركيبيّة، نظير التشبيه في سورة المـَسد بشأن أُمّ جميل امرأة أبي لهب ( وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ) (٣) ، أي النمّامة؛ حيث النمّام يَحمل على عاتقه حطبَ لهيبِ النفاق والتفرقة بين المتحابّين، وجاء مناسباً مع تكنّي زوجها بأبي لهب، فهي تَحمل حطب هذا اللهب، فكما أنّها لم تكن تَحمل حطباً حقيقةً - كما زعمه بعضهم - لأنّها بنت حرب أخت أبي سفيان وكذا زوجها أبو لهب، كانا من أشراف قريش الأثرياء، غير أنّهما كانا يحملان خُبثا ولؤماً بالِغَين.

فالنميمة تُحوّل ما بين الصديقين من محبّة إلى بغضاء بالدسائس، وهي وسائل خفيّة تشبه السحر الذي هو ما لطُف ودقّ مأخذه، فالنّمام يأتي بكلامٍ يشبه الصدق ويؤثّر في خَلَدِك، كما يفعل الساحر المشعوذ إذا أراد أنْ يَحلّ عُقد المحبّة والوِداد بين كلّ متحابّين، إذ يتزمزم بألفاظٍ ويَعقد عُقدةً وينفثُ فيها، ثُمّ يحلّها إيهاماً للعامّة أنّ هذا حلّ للعُقدة بين الزوجَين أو غيرهما، فهو من التشبيه المحض وليس المقصود ما تفعله السَحَرة بالذات، الأمر الذي يتناسب مع سائر آيات سورة الفلق: ( وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ) ، أي ومِن شرّ الليل إذا دخل وغَمَر كلّ شيءٍ بظلامه، والليل إذا كان على تلك الحال كان مَخوفاً باعثاً على الرهبة والوحشة؛ لأنّه سِتار يختفي في ظلامه ذوو الإجرام إذا قصدوك بالأذى، وعَون لأعدائك إذا قصدوا بكَ الفتك... وهكذا قوله: ( وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ) يعني: شرّ حاسد إذا حاول إنفاذ حسدِه بالسعي والجدّ في إزالة نعمة مَن يحسده، فهو يعمل الحِيَل ويَنصب شباكه؛ لإيقاع المحسود في فخّ الضرر والأذى، يعمل ذلك بأدقّ الوسائل لتنفيذ مكائده.

____________________

(١) البقرة ٢: ٢٣٥.

(٢) البقرة ٢: ٢٣٧.

(٣) المسد ١١١: ٤.

٢٢٥

فكما أنّ الآيتين (السابقة واللاحقة) استعاذة بالله من مكائد أهل الزيغ والإفساد، كذلك هذه الآية ( النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ) هي مكائد يَرتكبها أهل النمائم لإيقاع الأذى، شُبِّهوا بالسّاحرات يَنفثنَ في العُقد.

فالاستعاذة منهم جميعاً إلى الله المستعان لإحباط مساعيهم وردّ مكائدهم في نحورهم، وهو الملجأ والمعين.

قال سيّد قطب: والنفّاثات في العقد: السواحر الساعيات بالأذى عن طريق خِداع الحواسّ، وخِداع الأعصاب، والإيحاء إلى النفوس والتأثير في المشاعر، وهُنّ يَعقدنَ العُقد في نحو خيطٍ أو منديلٍ ويَنفثن فيها كتقليد من تقاليد السحر والإيحاء، قال: والسحر لا يغيّر من طبيعة الأشياء، ولا يُنشئ حقيقةً جديدةً لها، ولكنّه يُخيّل للحواسّ والمشاعر بما يريده الساحر (١) .

قال شيخ الطائفة أبو جعفر مُحمّد بن الحسن الطوسي (قدس سره): ولا يجوز أن يكون النبيّ (صلّى الله عليه وآله) سُحِر، على ما رواه القصّاص الجُهّال؛ لأنّ مَن يُوصف بأنّه مسحور فقد خَبِل عقله، وقد أنكر الله تعالى ذلك في قوله: ( وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاّ رَجُلاً مَّسْحُوراً ) (٢) .

وهكذا قال العلاّمة الطبرسي في تفسيره للسورة عند الكلام عن شأن النزول (٣) .

وقال الأستاذ مُحمّد عبده: قد رَوَوا هنا أحاديث في أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) سَحَره لبيد بن الأعصم، وأثّر سحره فيه حتّى كان يُخيّل إليه أنّه يفعل الشيء وهو لا يفعله، أو يأتي شيئاً وهو لا يأتيه، وأنّ الله أنبأه بذلك، وأُخرجت موادّ السحر من بئرٍ، وعُوفي ممّا كان نزلَ به من ذلك ونزلت هذه السورة!

ولا يخفى أنّ تأثير السحر في نفسه عليه الصلاة والسلام ماسّ بالعقل آخذ بالروح، فهو ممّا يُصدّق قول المشركين فيه:) إِن تَتَّبِعُونَ إِلاّ رَجُلاً مَّسْحُوراً ) .

والذي يجب علينا اعتقاده أنّ القرآن المتواتر جاء بنفي السحر عنه عليه الصلاة

____________________

(١) في ظِلال القرآن، المجلّد ٦، ص ٧٠٩، ج ٣٠، ص ٢٩١، وقد نقلنا تمام كلامه آنفاً.

(٢) تفسير التبيان، ج ١٠، ص ٤٣٤، والآية ٨ من سورة الفرقان، وفي سورة الإسراء ١٧: ٤٧: ( وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً ) .

(٣) مجمع البيان، ج ١٠، ص ٥٦٨.

٢٢٦

والسلام؛ حيث نَسب القول بإثبات حصوله له إلى المشركين ووبّخهم على ذلك.

والحديث - على فرض صحّته - من أحاديث الآحاد التي لا يُؤخذ بها في العقائد، وعصمة الأنبياء عقيدة لا يؤخذ فيها إلاّ باليقين.

على أنّ سورة الفَلق مكّية نزلت بمكة في السنين الأُولى، وما يزعمونه من السحر إنّما وقع في المدينة في السنين الأخيرة حيث اشتدّ العداء بين اليهود والمسلمين فهذا ممّا يُضعف الاحتجاج بالحديث ويُضعف التسليم بصحّته (١) .

قال سيّد قطب: هذه الروايات تُخالف أصل العصمة النبويّة في الفعل والتبليغ، ولا تستقيم مع الاعتقاد بأنّ كلّ فعل من أفعاله (صلّى الله عليه وآله) أنّه مسحور، وتكذيب المشركين فيما كانوا يدّعونه من هذا الإفك؛ ومِن ثَمّ نستبعد هذه الروايات، وأحاديث الآحاد لا يُؤخذ بها في أمر العقيدة، والمـَرجع هو القرآن، والتواتر شرط للأخذ بالأحاديث في أصول الاعتقاد، وهذه الروايات ليست مِن المتواتر، فضلاً عن أنّ نزول هاتَين السورتَين في مكّة هو الراجح، ممّا يُوهن أساس الروايات الأخرى (٢) .

وقد استوفينا الكلام حول مَزعومة سحر النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وتفنيد رواياته بصورة مستوعبة، فراجع (٣) .

ظواهر روحيّة غريبة

إنّه ما يَزال مُشاهداً في كلّ وقت أنّ بعض الناس يَملكون خصائص لم يكشف العلم عن حقيقتها بعد، لقد سُمّي بعضها بأسماء من غير أنْ يُحدّد كنهها ولا معرفة طُرقها، هذه ظاهرة (التيليباثي) - التَخاطر من بعيد - ما هو؟ وكيف يتمّ؟ كيف يملك إنسانٌ أنْ يتلقّى فكرةً من إنسانٍ آخر على أبعاد وفواصل لا رابط بينهما سِوى هذا الاتّصال الروحي

____________________

(١) ملخّص كلامه على ما جاء في تفسير المراغي، ج ١٠، ص ٢٦٨، وراجع: تفسير جزء عمّ لمـُحمّد عبده، ص ١٨١ - ١٨٣.

(٢) في ظِلال القرآن، المجلّد ٨، ص ٧١٠، ج ٣٠، ص ٢٩٢.

(٣) في الجزء الأَوّل من التمهيد.

٢٢٧

الغريب؟! وربّما تُتلقّى الفكرة مِن كائنٍ حيٍّ وراء سِتار الغيب، إمّا فكرة طيّبة - وهي نفثة روح القُدس - أو فكرة خبيثة تَنبثُها شياطين الجنّ، وإلى هذا الأخير جاءت الإشارة في قوله تعالى: ( وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ) (١) ، وهكذا تتبادل الأفكار الذميمة بين شياطين الجنّ والإنس: ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً ) (٢) .

وهذا السُبات المغناطيسي (هبنوتزم) أو التنويم الصناعي يَتمّ بسيطرة إرادة إنسان على إرادة آخر كان قد نوّمه بطريقة غير عادية، قالوا: إنّ في الإنسان سيّالاً مغناطيسياً لا يُعرف كُنهه يَنبعث منه بالإرادة ويؤثّر على الأشياء أو الأشخاص تأثيراً خاصّاً، فقد يُلقّنه بأن يُوقع في وهمه فيقتنع هذا اقتناعاً تامّاً، أو استخراج الروح من الجسد ليأخذ بالتَجول والإطّلاع على غيوب، وربّما استُخدم هذا السيّال المغناطيسي في الطبّ وفي معالجة قسم من الأمراض المستعصية، لكن لم يُحدّد إلى اليوم ما هو؟ وكيف يتمّ؟ وكيف يقع أنْ تسيطر إرادة على إرادة؟ أو ينفعل شيء بتأثير قوّة الإرادة؟

وهكذا تحضير الأرواح - حسبما يُسمّونه اليوم - يقوم على أساس اتصالٍ روحيٍّ بكائنات حيّة وراء سِتار الغيب، أمّا ما هذه الكائنات الحيّة؟ وكيف يتمّ هذا الاتصال؟ وهل هو اتصال بأرواح فارقت أجسادها بالموت أم هي غيرها؟ الأمر الذي بقي مجهولاً لم يُقطع بشيءٍ منه.

حكى لي زميلنا العلاّمة الشيخ مهدي الآصفي أنّ جماعةً مِن مزاولي هذا الفنّ طلبوا إليه أنْ يشهد جلسةً يَتمّ فيها هذا العمل، قال: وبعد أعمال وأطوار قاموا بها طلبوا إليّ رغبتي في إحضار روحٍ من الأرواح، فرغبتُ أنْ يَحضر روح الشيخ الأعظم المحقّق الأنصاري (قدس سره) فلمـّا حضر - وِفق إخبارهم - قالوا: ماذا تبتغي السؤال منه؟ فطلبت إليهم أنْ يسألوه عن مسألةٍ أصوليّة عريقة كان الشيخ هو مُبدِعها وهي مسألة (الحكومة والورود) في دلائل الأحكام، فرغبتُ أنْ يشرحها بنفسه؛ حيث الاختلاف كثير في تفسيرها، وعند

____________________

(١) الأنعام ٦: ١٢١.

(٢) الأنعام ٦: ١١٢.

٢٢٨

ذلك قالوا: إنّ الرّوح قد سخط مِن هذا السؤال وترك الجلسة وذهب مغضباً!

نعم، لا نَنكر إمكان ذلك إجماليّاً، ولكن هل هذا الأمر يتمّ بهذه التوسعة؟ وهل هذه الأرواح هي أرواح الأموات أم غيرها؟ الأمر الذي لا يُمكن البتّ فيه، غير أنّ هذه وأمثالها مظاهر روحيّة غريبة، وهي في جميع أنحائها وأشكالها لا تمسّ قضية السحر حسبما كان يزعمه الأقدمون - من الاستعانة بأرواح الأفلاك والكواكب وتسخيرها - أو حسبما راج عند أوساط السُذّج الأوهام اليوم وربّما بعد اليوم مادام لم تكتمل العقول (١) .

كلامٌ عن إصابة العين

قالوا: وممّا نجد القرآن متأثّراً بالبيئة العربيّة الجاهلة اعترافه بإصابة العين في مواضع:

الأَوّل: قوله تعالى - حكاية عن يعقوب (عليه السلام) -: ( وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ) (٢) ، قيل: خاف عليهم إصابة العين؛ لأنّهم كانوا ذوي جمالٍ وهيبةٍ وكمالٍ، وهم إخوة أولاد رجلٍ واحد (٣) .

الثاني: قوله تعالى: ( وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ * وَمَا هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ) (٤) ، قيل: يُزلقونك بمعنى يُصيبونك بأعينهم، قال الطبرسي: والمفسّرون كلّهم على أنّه المراد من الآية (٥) .

الثالث: قوله تعالى: ( وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ) (٦) ، قيل: أي مِن شرّ عينه (٧) ، وعن ابن أبي عمير رفعه قال: أَما رأيته إذا فَتَح عينَيه وهو يَنظر إليك هو ذاك (٨) .

والكلام هنا من جهتَين، الأُولى: هل القرآن تعرّض لتأثير العين، سواء كان حقّاً أم

____________________

(١) راجع في ذلك كلّه: الإنسان روح لا جسد، للأستاذ رؤوف عبيد، في ثلاث مجلّدات ضخام، وغيره ممّن كتبوا في هذا الشأن وهي كثيرة جدّاً.

(٢) يوسف ١٢: ٦٧.

(٣) مجمع البيان: ج ٥، ص ٢٤٩.

(٤) القلم ٦٨: ٥١ - ٥٢.

(٥) مجمع البيان، ج ١٠، ص ٣٤١.

(٦) الفلق ١١٣: ٥.

(٧) مجمع البيان، ج ١٠، ص ٥٦٩.

(٨) معاني الأخبار للصدوق، ص ٢١٦، طبع النجف.

٢٢٩

باطلاً؟ الثانية: هل للعين تأثير سوءٍ ذاتي مع قطع النظر عمّا جاء في القرآن؟

أمّا الجهة الأُولى فليس في ظاهر تعبير القرآن ما يَدلّ على ذلك:

أمّا قولة يعقوب لبنيه: ( لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ... ) فإنّما كانت في عودتهم إلى مصر بعد سفرتهم الأُولى التي رجعوا منها خائبين، فلو كان يخاف عليهم العين لأمرهم بذلك في المرّة الأُولى بل وفي كلّ سفرةٍ وحلّ وارتحال، فيمنعهم أنْ يترافقوا في الأسفار على الإطلاق، ولا خصوصية لهذه المرّة من الدخول على يوسف.

قيل: إنّما قال لهم ذلك - في هذه المرّة - ليَستخبر من حالة العزيز حين يَدخل عليه كلّ أخٍ له، فيَستعلم من تأثير كلّ واحدٍ عند الدخول عليه حالته الخاصّة، وما يظهر على أسارير وجهه وحركات عينيه حين رؤية شقيقه من أُمّه بنيامين (١) ، ولعلّ يعقوب استشعر من ردّ العزيز إخوته ليأتوا بأخٍ آخر لهم من أبيهم، أنّه هو يوسف، فحاول بهذه التجربة معرفة شخصية العزيز ولعلّه يوسف نفسه، الأمر الذي لا يَعلم إذا دخلوا عليه كلّهم جماعةً واحدةً؛ ومِن ثَمّ لمـّا دخل عليه أخوه بنيامين آواه وأفشى نفسه لديه، الأمر الذي يدلّ على دخوله عليه لوحده، فقد تحقّق تدبير يعقوب في تفرّسه.

وهذا يدلّ على فراسة يعقوب القوية، حيث يقول عنه تعالى: ( وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍْ لِّمَا عَلَّمنَاهُ ) (٢) أي ذو فراسةٍ قوية.

قال إبراهيم النخعي - وهو تابعيّ كبير -: إنّ يعقوب (عليه السلام) كان يَعلم بفراسته بأنّ العزيز هو ابنه يوسف إلاّ أنّ الله لم يَأذن له في التصريح بذلك، فلمـّا بعث أبناءه إليه أَوصاهم بالتفرقة عند الدخول وكان غرضُه أن يصل بنيامين وحده إلى يوسف في خلوةٍ من سائر إخوته (٣) .

وقوله تعالى: ( مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا ) (٤) يعني: إنّ هذا التدبير الذي قام به يعقوب لم يكن يُغيّر من المصلحة التي رعاها الله بشأنه،

____________________

(١) راجع: تفسير المراغي، ج ١٣، ص ١٦.

(٢) يوسف ١٢: ٦٨.

(٣) راجع: التفسير الكبير، ج ١٨، ص ١٧٤، والدرّ المنثور، ج ٤، ص ٥٥٧.

(٤) يوسف ١٢: ٦٨.

٢٣٠

ولكن كانت تلك بُغية أملٍ في نفس يعقوب، قضاها الله رعايةً لجانبه العزيز على الله.

وممّا يُبعّد إرادة إصابة العين - إضافة على ما ذكرنا - أنّ التحرّز من ذلك لا يتوقّف على الدخول من أبوابٍ متفرّقة، بل يكفي الدخول متعاقبين وفي فترات، ثُمّ إنّهم كانوا يدخلون مصر في جمعٍ غفيرٍ من رِفقة القافلة الحاشدة بالأحمال والأثقال، فكيف يَعرف الناس أنّ هؤلاء إخوة مِن أبٍ واحد؟

وكذا قوله تعالى: ( وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ... ) .

الزَلَق: الزلّة، وأَزلقه: أزلّه ونحّاه عن مكانه، والمـَزلق: المكان الذي يَنزلق عليه ولا يمكن الثبات عليه.

والإزلاق بالأبصار، تَحديق النظر إليه نظر ساخط شديد السُخط بحيث يكون مُرعباً يُوجب الوحشة والتراجع عمّا هو فيه خوفاً من إيقاع الأذى به.

و(إنْ) مخفّفة من المثقلة، أي كاد أنْ يزلّوك عن موضعك بشدّة السُخط والإرعاب والإرهاب، البادي ذلك من تحديق نظرهم المـُغضب إليك.

أي إنّهم لشدّة عداوتهم وبغضائهم ينظرون إليك نظراً شَزراً (١) حتّى ليكادون يزلّون قدمك بغضاً فتصدع حين سمعوك تتلو كتاب الله وتنبذ أصنامهم (٢) .

وهذا نظير قوله تعالى: ( وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا ) (٣) .

يقال: فزّه واستفزّه أي أزعجه.

فهذه النظرات الشَّزرة تكاد تؤثّر في موقف الرسول الصَلب فتجعله يَزلّ ويزلق ويفقد توازنه وثباته على الأمر، وهو تعبير فائق عمّا تَحمِله هذه النظرات العدائيّة من غيظٍ وحنقٍ وشرٍّ ونقمةٍ وضغن وحُمّى وسمّ ( لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ ) ، مصحوبة هذه النظرات المسمومة المحمومة بالسبّ القبيح والشتم البذيء والافتراء الذميم ( وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ) (٤) .

ويَدلّنا على عدم إرادة إصابة العين في هذه الآية الكريمة بالذات أنّ إصابة العين

____________________

(١) يقال: شَزَر إليه أي نظر إليه بجانب عينه مع إعراضٍ أو غضب.

(٢) راجع: تفسير المراغي، ج٢٩، ص٤٧.

(٣) الإسراء ١٧: ٧٦.

(٤) في ظِلال القرآن، المجلّد ٨، ص٢٤٣، ج٢٩، ص٦٧.

٢٣١

إنّما تكون عند الإعجاب بشيء لا عند التنفّر والانزجار، والآية تصرّح بأنّهم كادوا يُزلِقونه لمـّا سمعوا الذِكر، ماقتينَ عليه نافرينَ منه، فجعلوا يَسلقونه بالسِّباب والشتم ويَرمونه بالجنون، فكيف والحال هذه يحسدونه فيُصيبونه بأعينهم؟! الأمر الذي لا يلتئم وسياق الآية الكريمة.

قال الزجّاج: معنى الآية، أنّهم ينظرون إليك عند تلاوة القرآن والدعاء إلى التوحيد نظر عداوةٍ وبغضٍ وإنكارٍ لِما يسمعونه وتعجّبٍ منه، فيَكادون يصرعونك بحدّة نظرهم ويُزيلونك عن موضعك، وهذا مُستعمل في الكلام، يقولون: نظر إليَّ فلان نظراً يَكاد يصرعني ونظراً يكاد يأكلني فيه، وتأويله كلّه أنّه نظر إليَّ نظراً لو أمكنه معه أكلي أو يصرعني لفعل (١) .

وهكذا قال الجبائي: إنّ القوم ما كانوا ينظرون إلى النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) نظر استحسان وإعجاب بل نظر مقتٍ ونقص (٢) .

وهكذا قوله: ( وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ) (٣) - في سورة الفلق - أي إذا حاول السعي وراء حسده لغرض إيقاع الأذى والضرر بالمحسود، أي استعذ باللّه مِن شرّ الحاسد إذا حاول إنفاذ حسده، بالسعي والجدّ في إزالة نعمة مَن يحسده، فهو يعمل الحِيَل وينصب شباكه؛ لإيقاع المحسود في الضرر والخسران، وربّما بأدقّ الوسائل والذرائع، وليس في الاستطاعة الوقوف على ما يُدبّره مِن مكائد إلاّ أنْ يُستعان عليه بربّ الفلق أي مُسبِّب الفرج والخلاص مِن كيد الكائدين، والإحباط من مساعيهم الخبيثة (٤) .

نظرة فاحصة عن إصابة العين

أمّا الجهة الأُخرى - وهو البحث عن إصابة العين ومدى تأثيرها السيئ في النفوس والأموال - فقد شاع الإشفاق منها في أوساط بدائيّة وربّما في أوساط متحضّرة أيضاً،

____________________

(١) مجمع البيان، ج١٠، ص٣٤١.

(٢) بحار الأنوار، ج٦٠، ص٣٩.

(٣) الفلق ١١٣: ٥.

(٤) راجع: تفسير المراغي، ج٣٠، ص٢٦٨ - ٢٦٩، وتفسير جزء عمّ للشيخ مُحمّد عَبده، جزء عمّ، ص١٨٣ - ١٨٤.

٢٣٢

وفي ذلك نوع من الاعتراف بحقيقتِهِ إجمالياً، وربّما علّلوه بتعاليل تبدو طبيعيّة ترجع إلى نفس العاين، قالوا: هي تَشعشُعات تَمَوجيّة تنبعث من عين الرائي الذي أعجبه شيء على أثر انفعاله النفسي الخاصّ والأكثر إذا كان عن حسدٍ خبيث، وربّما من غير شعور بهذا الانفعال النفسي المفاجئ في غالب الناس، وهي خاصّية غريبة قد توجد شديدة في البعض وخفيفة في الآخرين.

وهذه التَشعشُعات السامّة تشبه التيّارات الكهربائيّة تؤثّر في المـُتكهرب بها تأثيراً بالفعل، الأمر الذي يكون طبيعياً وليس شيئاً خارقاً، وإن كان لم يُعلم كُنهُها ولا عُرفت حدودها ومشخّصاتها، ولا إمكان مقابلتها مقابلة علميّة فيما سوى الدعاء والصدقة والتوكّل على اللّه تعالى.

قال الشيخ ابن سينا: إنّ لبعض النفوس تأثيراً في الخارج من بدنه بتعلّق روحاني كتعلّقه ببدنه (١) .

وقال أبو عثمان الجاحظ: لا يُنكر أنْ ينفصل من العين الصائبة إلى الشيء المـُستَحسَن أجزاء لطيفة متّصلة به وتؤثّر فيه، فيكون هذا المعنى خاصّية في بعض الأعيُن كالخواصّ للأشياء (٢) .

قال - في كتاب الحيوان بصدد التحرّز من أعين ذوي الشره والحِرص ونفوسهم -: كان علماء الفُرس والهند وأطبّاء اليونان ودُهاة العرب وأهل التجربة من نازلة الأمصار وحذّاق المتكلّمين يَكرهون الأكل بين يدي السباع، يَخافون نفوسَها وعيونَها؛ للّذي فيها من الشَرَه والحرص والطلب والكَلَب، لِما يتحلّل عند ذلك من أجوافها من البخار الرديء، وينفصل من عيونها من الأُمور المفسدة، ما إذا خالطت طبائع الإنسان نقضته؛ ولذلك كانوا يكرهون قيام الخدم بالمذابّ (مُطرِدة الذُّباب) والأشربة على رؤوسهم وهم يأكلون، مخافة النفس والعين، وكانوا يأمرون بإشباعهم قبل أنْ يأكلوا، وكانوا يقولون في السنّور

____________________

(١) في النمط الأخير من كتاب الإشارات (هامش مجمع البيان، ج٥، ص ٢٤٩).

(٢) مجمع البيان، ج٥، ص٢٤٩، تفسير سورة يوسف، ولعلّه أخذه من الشريف الرضي في كتابه المجازات النبويّة، ص٣٦٩، بتغيير يسير سوف ننقله.

٢٣٣

والكلب إما أنْ تَطرده قبل أن تأكل، وإمّا أنْ تشغله بشيء يأكله ولو بعَظمٍ يُطرح له.

قال: ورأيت بعض الحكماء وقد سقطت من يده لقُمة، فرفع رأسه فإذا عينُ غلامٍ تُحدّق نحو لقُمته، وهو يزدرد ريقه لتحلّب فمه من الشهوة، وكان ذلك الحكيم جيّد اللقم طيّب الطعام، ويضيّق على غلمائه.

وقالت الحكماء: إنّ نفوس السِّباع وأعينها في هذا الباب أردأ وأخبث لفرط شَرَهِها وشرّها، قال الجاحظ: بين هذا المعنى وبين قولهم في إصابة العين الشيء العجيب المستحسن شِركةً وقرابةً، ذلك أنّهم قالوا: قد رأينا أُناساً يُنسب إليهم ذلك، ورأيناهم وفيهم من إصابة العين مقدار مِن العدد، لا نستطيع أن نجعل ذلك النسق من باب الاتفاق، وليس إلى ردّ الخبر (العين حقّ) سبيل، لتواتره وترادفه؛ ولأنّ العيان قد حقّقه والتجربة قد ضُمّت إليه.

قالوا: ولولا فاصل ينفصل من عين الرائي المـُعجَب إلى الشيء المـُعجَب به - حتّى يكون ذلك الداخل عليه هو الناقض لقُواه - لَما جاز أنْ يَلقى المصاب بالعين مكروهاً مِن قِبَل العاين، مِن غير تماسّ ولا تصادم ولا رابط يربط أحدهما بالآخر.

قال الأصمعي: رأيتُ رجلاً عَيوناً (الشديد الإصابة بالعين) كان يَذكر عن نفسه أنّه إذا أعجبه الشيء وَجَد حرارةً تخرج من عينه (١) .

وأضاف الجاحظ - ردّاً على مَن زعم أن الاعتراف بصحّة إصابة العين ينافي التوحيد -: أنّ الاعتراف بالطبائع اعترافُ بسُنّة الله الجارية في الخَلق والتدبير، وليس أمراً خارجاً عن طَوع إرادته تعالى، قال: ومَن زَعم أنّ التوحيد لا يَصحّ إلاّ بإبطال حقائق الطبائع فقد حَمَلَ عجزَه على الكلام في التوحيد، وإنّما يأنس منك المـُلحِد إذا لم يدعك التوفّر على التوحيد إلى بخس حقوق الطبائع؛ لأنّ في رفع أعمالها رفع أعيانها، وإذا كانت الأعيان هي الدالّة على اللّه فرفعت الدليل فقد أبطلت المدلول عليه (٢) .

____________________

(١) الحيوان للجاحظ، ج٢، ص٢٦٤ - ٢٦٩، تحقيق يحيى الشامي، مع بعض التعديل حسب نقل ابن أبي الحديد في شرح النهج، ج١٩، ص٣٧٦ - ٣٧٧.

(٢) المصدر: ص٢٦٦.

٢٣٤

وللسيّد الشريف الرضي (قدس سرّه) كلام لطيف عند شرحه لقول النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله): (العين حقّ تَستَنزل الحالقَ) (١) ، قال: وهذا مجاز، والمراد أنّ الإصابة بالعين مِن قوّة تأثيرها وتحقّق أفاعيلها كأنّها تستهبط العالي من ارتفاعه، وتَستَقلِقُ (أي تُزحزح) الثابت بعد استقراره، والحالق، المكان المرتفع من الجبل وغيره، فجعل عليه الصلاة والسلام العين كأنّها تحطّ ذروة الجبل مِن شدّة بطشها وحدّة أَخذها.

وقد تناصرت (تضافرت) الأخبار بأنّ الإصابة بالعين حقّ (٢) ، والذي يقوله أصحابنا: إنّ اللّه سبحانه يفعل المصالح بعباده على حسب ما يَعلمه مِن الصلاح لهم في تلك الأفعال التي يفعلها والأَقدار التي يُقدّرها، وإذا تقرّرت هذه القاعدة، فغير ممتنع أنْ يكون تغييره تعالى نعمة زيدٍ مصلحةً لعمروٍ، وإذا كان تعالى يعلم من حال عمروٍ أنّه لو لم يَسلب زيداً نعمته ويَخفض منزلته، أقبل على الدنيا بوجهه، ونأى عن الآخرة بعِطفه، وأقدم على المغاوي وارتكس في المهاوي، وإذا سَلبَ سبحانه نعمةَ زيدٍ للعلّة الّتي ذكرناها عوّضه عنها وأعطاه بدلاً منها عاجلاً أو آجلاً، وإذا كان ذلك كما قلنا - وقد رُوي عنه (صلّى اللّه عليه وآله) ما يدلّ على أنّ الشيء إذا عَظُم في صدور العباد وضع اللّه قَدْرَه وصغّر أمره - (٣) لم يُنكر تغيير حال بعض الأشياء عند نظر بعض الناظرين إليه واستحسانه له وعِظَمِه في صدره وفخامته في عينه، كما رُوي أنّه (صلّى اللّه عليه وآله) قال - لمـّا سُبِقَت ناقَتُه العَضباء (٤) وكانت إذا سوبق بها لم تُسبَق -: (ما رَفَعَ العبادُ من شيء إلاّ وضع اللّه منه) (٥) .

____________________

(١) حديث متواتر، رواه الفريقان بعدّة أسانيد وفي مختلف الألفاظ والعبارات، راجع: مسند أحمد، ج١، ص٢٧٤، وسائر المسانيد الستّ: وبحار الأنوار، ج٦٠، ص٢٥ - ٢٦، وسائر الكتب الحديثيّة المعتبرة.

(٢) وقد عقد العلاّمة المجلسي في بحاره باباً في ذلك، راجع: ج٦٠، كتاب السماء والعالم.

(٣) إشارة إلى ما رواه أحمد في مسنده الآتي وفي النهج: (ما قال الناس لشيء طوبى له إلاّ وقد خبأَ الدهر له يومَ سوء).

قصار الحِكم، رقم ٢٨٦، ص٥٢٦. وفي نوادر الراوندي، ص١٢٨: (ما رفع الناسُ أبصارَهم إلى شيء إلاّ وَضَعه اللّه) وراجع: بحار الأنوار، ج٦٠، ص٢٧.

(٤) العَضباء: الناقة المشقوقة الأُذُن، وكان هذا الاسم لقباً لناقة رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) ولم تكن مشقوقة الأُذُن، قال الزمخشري: ناقة عَضباء، قصيرة اليد.

(٥) روى أحمد في مسنده، ج٣، ص١٠٣ و٢٥٣ وغيره أنّ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) كانت له ناقة تُسمّى العَضباء، وكانت لا تُسبَق في مسابقةٍ، حتّى جاء أعرابيّ على قعودٍ (ما اُعدّ للحمل والركوب من الدوابّ ومن الإبل ما تجاوز السنتين ولم يبلغ الستّ) فسبقها، فشُقّ ذلك على المسلمين، فلمـّا رأى ما في وجوههم قال: (إنّ حقّاً على اللّه أنْ لا يرفع شيئاً في الدنيا إلاّ وضعه)، والحديث منقول في الكتب بألفاظ مختلفة.

٢٣٥

فيمكن أنْ يتأوّل قوله عليه الصلاة والسلام: (العينُ حقّ) على هذا الوجه، ويجوز أنْ يكون ما أَمر به المستحسن للشيء عند رؤيته له من إعاذته باللّه والصلاة على رسول اللّه (١) قائماً في المصلحة مقام تغيير حالة الشيء المستحسن، فلا تغيّر عند ذلك؛ لأنّ الرائي قد أظهر الرجوع إلى اللّه سبحانه والإخبات له، وأعاذ ذلك المرئي به، فكأنّه غير راكنٍ إلى الدنيا ولا مغترٌّ بها ولا واثقٌ بما يرى عليه أحوال أهلها.

قال: ولعمرو بن بحر الجاحظ في الإصابة بالعين مذهبٌ انفرد به، وذلك أنّه يقول: إنّه لا يُنكر أن ينفصل من العين الصائبة إلى الشيء المستحسن أجزاءٌ لطيفة فتؤثّر فيه وتَجني عليه، ويكون هذا المعنى خاصّاً ببعض الأَعيُن كالخواصّ في الأشياء، قال: وعلى هذا القول اعتراضات طويلة وفيه مطاعن كثيرة... (٢)

وهذا الكلام نقلناه بطوله لما فيه مِن فوائد جمّة وتنبيهٌ على أنّ مِن حِكمته تعالى القيام بمصالح العباد، فربّما يحطّ من هيمنة المعيون كي لا يطغى العاين فيَخرج عن حدّه، ثُمّ إنّه تعالى يُعوّض المعيون بما يسدّ خلّة الضرر الوارد به، وقد يكون ذلك في مصلحة المعيون لتكون كفّارةً لِما فَرَط منه من الغلوّ أو التفريط بشأن العاين، لكن هذا لا ينافي ما علّل به ابن سينا أو الجاحظ في بيان السبب الطبيعي الواقع تحت إرادة اللّه الحكيمة.

وهكذا ذهب المتأخّرون في بيان التعليل الطبيعي لإصابة العين وِفق ما أودع اللّه من خصائص في طبيعة الأشياء.

قال سيّد قطب: والحسد انفعالٌ نفسي إزاء نعمة اللّه على بعض عباده مع تمنّي زوالها، وسواء أَتبَع الحاسد هذا الانفعال بسعي منه لإزالة النعمة تحت تأثير الحقد والغيظ، أو وَقَف عند حدّ الانفعال النفسي، فإنّ شرّاً يمكن أنْ يُعقّب هذا الانفعال.

قال: ونحن مضطرّون أنْ نطامن من حدّة النفي لِما لا نعرف من أسرار هذا الوجود وأسرار النفس البشريّة وأسرار هذا الجهاز الإنساني، فهنالك وقائع كثيرة تَصدر عن هذه الأسرار، ولا نملك لها حتّى اليوم تعليلاً، هنالك مثلاً التخاطر على البُعد، وكذلك التنويم

____________________

(١) قال رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله): (مَن أَعجَبَه من أخيه شيءٌ فليذكر اللّه في ذلك، فإنّه إذا ذُكر اللّه لم يضرّه)، والأحاديث بهذا المعنى كثيرة، راجع: بحار الأنوار، ج٦٠، ص٢٥.

(٢) المجازات النبويّة للسيّد الشريف الرضي، ص٣٦٧ - ٣٦٩، رقم ٢٨٥.

٢٣٦

المغناطيسي وقد أصبح الآن موضعاً للتجربة المتكرّرة المثبتة، وهو مجهول السرّ والكيفيّة، وغير التخاطر والتنويم كثير من أسرار الوجود وأسرار النفس وأسرار هذا الجهاز الإنساني.

فإذا حَسَد الحاسدُ ووجّه انفعالاً نفسيّاً معيّناً إلى المحسود فلا سبيل لنفي أثر هذا التوجيه لمجرّد أنّ ما لدينا من العلم وأدوات الاختبار لا تصل إلى سرّ هذا الأثر وكيفيّته، فنحن لا ندري إلاّ القليل في هذا الميدان، وهذا القليل يُكشَفُ لنا عنه مُصادفةً في الغالب، ثُمّ يستقرّ واقعةً بعد ذلك، فهنا شرٌّ يُستعاذ منه باللّه (١) .

هل تأثّر القرآن بالشعر الجاهلي؟

من طريف ما يُذكر بهذا الشأن ما زَعَمه بعض المـُستشرقين الأجانب أنّ القرآن ضَمّن بعض آياتٍ تعابير اقتبسها من أبياتٍ شعريّةٍ جاهليّة!

فالدكتور (سنكلر تسديل Thusdale ) صاحب كتاب (مصادر الإسلام) يَروي شُبُهات الناقدينَ للقرآن الكريم، ومنها هذه الأبيات:

دنت الساعةُ وانشقّ القمر (٢)

عن غزالٍ صادَ قلبي ونَفَر

أَحورٌ قد حُرت في أوصافهِ

ناعسُ الطرفِ بعينَيه

حور مرّ يوم العيدِ في زينتِهِ

فرَماني فتعاطى فَعَقر (٣)

بسهامٍ من لحاظٍ فاتكٍ

تركتني كهشيمِ المحتظرِ (٤)

ويَتخذ منها قرينةً على اقتباس القرآن بعض الآيات من أشعار الجاهليّين! ويَضيف إلى هذه الأبيات أبياتاً أُخرى كقول القائل:

أَقبلَ والعُشّاق مِن خلفه

كأنّهم من حَدَب ينسلون (٥)

وجاء يوم العيد في زينةٍ

لمثل ذا فليعمل العاملون (٦)

____________________

(١) في ظِلال القرآن، المجلد ٨، ص٧١٩ - ٧١١، ج٣٠، ص٢٩٢ - ٢٩٣.

(٢) مُقتبس من سورة القمر ٥٤: ١.

(٣) مُقتبس من سورة القمر ٥٤: ٢٩.

(٤) مُقتبس من سورة القمر ٥٤: ٣١.

(٥) مُقتبس من سورة الأنبياء ٢١: ٩٦.

(٦) مُقتبس من سورة الصافّات ٣٧: ٦١.

٢٣٧

قال: ومِن الحكايات المـُتداولة في عصرنا الحاضر أنّه لمـّا كانت فاطمة بنت مُحمّد (صلّى اللّه عليه وآله) تتلو هذه الآية وهي ( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ) سمعتها بنت امرئ القيس وقالت لها إنّ هذه القطعة من قصائد أبي أخذها أبوك وادّعى أنّ اللّه أنزلها عليه (١) .

لكنّ الذي يُكذّب هذه الأسطورة أنّ امرئ القيس مات سنة ٥٤٠م أي قبل مولد النبيّ (٥٧٠م) بثلاثين سنة، فلو كنّا نعلم أنّ فاطمة (عليها السلام) وُلدت بعد البعثة (٦٠٩م) بخمس سنين (٦١٤م) نَعرف مدى خُرافة هذه الأكذوبة! إذ لابدّ لفاطمة لو فُرض أنّها أرادت قراءة القرآن في محفل عامّ أنْ تبلغ عشر سنين مثلاً، فلو فرضنا أنّ بنت امرئ القيس عند وفاة أبيها كانت بلغت عشر سنين أيضاً فيكون عمرها عند سماع قراءة بنت النبي (صلّى اللّه عليه وآله) قد بلغ أربع وتسعين سنة!! إذ ولادتها حينئذٍ تكون سنة ٥٣٠م وعام سماعها ٦٢٤م، وقلّ مَن يعيش في هذه السنّ من نساء الجاهليّة؟!

والمـُرجّح أنّ هذا التضمين الشعري مُقتبس من القرآن على يد بعض أهل المـُجون، وكم له مِن نظير، ويشهد لذلك ذِكر العيد في هذه الأبيات الخاص بالعهد الإسلامي المتأخّر، ولا سابق له قبل الإسلام (٢) .

وللاقتباس عرضٌ عريض سواء في الشعر أم النثر، وهو إمّا مقبول أو مردود على الشرح التالي:

الاقتباس

الاقتباس تَضمين الشعر أو النثر بعض القرآن، لا على أنّه منه، بأنْ لا يقال فيه: قال اللّه تعالى ونحوه، وقد شاع الاقتباس منذ الصدر الأَوّل وراج بين مَن تأخّر عنهم وعُدّ من المـُحسِّنات البديعيّة، وفي كثير من الخُطب والأدعية فضلاً عن الشعر تضمينات مُقتبسة مِن القرآن الكريم، لها رواء وبهاء وارتفاع شأن الكلام.

____________________

(١) كتاب (مصادر الإسلام) لتسديل، ص٢٥ - ٢٩، من ترجمته العربيّة.

(٢) كما ولم يذكره صاحب ديوان امرئ القيس.

٢٣٨

وفي شرح بديعيّة ابن حجّة: الاقتباس ثلاثة أقسام: مقبول ومباح ومردود،

فالأوّل: ما كان في الخُطب والمواعظ والعهود.

والثاني: ما كان في القول والرسائل والقصص.

والثالث: على ضربَين:

أحدهما: ما نَسبه اللّه إلى نفسه، ونعوذ باللّه ممّن ينقله إلى نفسه، كما قيل عن أحد بني مروان أنّه وقّع على مطالعة فيها شكاية عمّاله ( إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ) ! (١) .

والآخر: تضمين آية في معنى هزل، ونعوذ باللّه من ذلك، كقوله:

أوحى إلى عُشّاقه طرفَه

( هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ ) (٢)

ورِدفُه يَنطق مِن خلقه

( لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ ) (٣)

قلت: والأبيات التي ذَكرها (تسديل) من هذا القبيل، أي القسم الممنوع من الاقتباس.

ومن القسم الجائز ما رواه البيهقي في (شُعَب الإيمان) عن شيخه أبي عبد الرحمان السلمي قال: أنشدنا أحمد بن مُحمّد ابن يزيد لنفسه:

سلْ اللّهَ من فضله واتقِه

فإنّ التُقى خيرُ ما تَكتَسِب

ومَن يتّقِ اللّه يصنع له

( وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ) (٤)

وذَكَر الزركشي للطرطوشي:

رحل الظاعنون عنكَ وأَبقَوا

في حواشي الأحشاء وجداً مُقيماً

قد وَجَدنا السلام برداً سلاماً

إذ وَجَدنا النوى عذاباً أليماً

قال: وثَبُتَ للشافعي:

أنلني بالذي استقرضت خطّاً

وأَشهد معشراً قد عاينوهُ

فإنّ اللّه خلاّق البرايا

عَنَت لجلال هيبتِهِ الوجوهُ

____________________

(١) الغاشية ٨٨: ٢٥ و٢٦.

(٢) المؤمنون ٢٣: ٣٦.

(٣) مقتبس من سورة الصافّات ٣٧: ٦١، راجع: الإتقان للسيوطي، ج٢، ص٣١٤ - ٣١٥.

(٤) الطلاق ٦٥: ٣، راجع: الإتقان، ج٢، ص٣١٦.

٢٣٩

يقول ( إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ) (١)

وذكر السبكي في طبقاته في تَرجمة أبي منصور البغدادي من كِبار الشافعيّة قوله:

يا مَن عدى ثُمّ اعتدى ثُمّ اقترف

ثُمّ انتهى ثُمّ ارعوى ثُمّ اعترف

أبشر بقول اللّه في آياته

( إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ ) (٢)

قال جلال الدين السيوطي: هذا وما قَبلَه ليس من الاقتباس، للتصريح بأنّه قول الله (٣) .

هل في القرآن تعابير جافية؟

زَعموا أنّ في القرآن تعابير جافية لا تتناسب وأدب الوحي الرفيع؛ وذلك في مثل التعبير بالفَرج وهو اسم لسَوءة المرأة، والتعبير بالخيانة بشأن أزواج أنبياء الله، وهو فَضح امرأة تكون في حَصَانة زوجٍ كريم، والتعبير باخسَؤُوا والتشبيه بالحِمار والكلب، وكذا سائر التعابير الغليظة الجافّة في مثل ( تَبَّتْ ) ، (٤) و ( امْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ) (٥) ، والدعاء بالشرّ ( قَاتَلَهُمُ اللّهُ ) (٦) ... ومن أمثال هذا القبيل قد توجد في القرآن ممّا لا يوجد نظيره في غير من الكُتُب ذات الأدب الرفيع.

لكنّه زَعمٌ فاسدٌ ناشٍ عن الجهل بمصطلح اللغة ذلك العهد، وخلط القديم بالجديد من الأعراف، وإليك تفصيل الكلام عن ذلك:

( الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا)

جاء هذا التعبير في القرآن في موضعَين (٧) فعابوا التصريح بسَوءة المرأة!

لكنّه تعبير كنائي وليس بصريح؛ حيث المراد مِن الفَرج هنا هو خصوص جيب

____________________

(١) البقرة ٢: ٢٨٢، راجع: البرهان للزركشي، ج ١، ص ٤٨٢ - ٤٨٣.

(٢) الأنفال ٨: ٣٨.

(٣) الإتقان، ج ١، ص ٣١٥ - ٣١٦.

(٤) المسد ١١١: ١.

(٥) المسد ١١١: ٤.

(٦) التوبة ٩: ٣٠، المنافقون ٦٣: ٤.

(٧) في سورة الأنبياء: ٩١: ( وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا ) ، والتحريم: ١٢: ( وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا ) .

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578