شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم10%

شبهات وردود حول القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 578

شبهات وردود حول القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 578 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 297511 / تحميل: 13675
الحجم الحجم الحجم
شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

هذا.. ولسوف نرى أن أحمد أمين المصري يأخذ برأي ابن القفطي هذا. لكنه ينظر فيه إلى خصوص أئمة أهل البيتعليه‌السلام ، كما سيأتي بيانه، وبيان مدى خلطه وفساده في الفصل التالي.

وفيه دلالة على أن الفضل كان مخدوعاً، وعلى أن المأمون لم يكن مخلصاً فيما أقدم عليه..

د ـ : إنه لا بد لنا من الإشارة هنا إلى أن أكثر ثورات العلويين، التي قامت ضد المأمون ـ قبل البيعة للرضاعليه‌السلام طبعاً ـ كانت من بني الحسن، وبالتحديد من أولئك الذين يتخذون نحلة الزيدية، فأراد المأمون أن يقف في وجههم، ويقضي عليهم، وعلى نحلتهم تلك نهائياً، وإلى الأبد، فأقدم على ما أقدم عليه من البيعة للرضاعليه‌السلام بولاية العهد.

هذا.. وقد كانت نحلة الزيدية هذه ـ شائعة في تلك الفترة، وكانت تزداد قوة يوماً عن يوم، وكان للقائمين بها نفوذ واسع، وكلمة مسموعة، حتى إن المهدي قد استوزر يعقوب بن داوود، وهو زيدي، وآخاه، وفوضه جمع أمور الخلافة(١) .

وعلى حد تعبير الشبراوي: (.. فولاه الوزارة، وصارت الأوامر كلها بيديه، واستقل يعقوب حتى حسده جميع أقرانه..)(٢) .

____________

(١) البداية والنهاية ج ١٠ / ١٤٧، وغيره من كتب التاريخ، فراجع فصل: مصدر الخطر على العباسيين.

(٢) الإتحاف بحب الأشراف ص ١١٢.

٢٠١

بل كان: (لا ينفذ للمهدي كتاب إلى عامل، فيجوز، حتى يكتب يعقوب إلى أمينه وثقته بإنفاذه.)(١) .

وقد بلغ من نفوذ يعقوب هذا.. أن قال فيه بشار بن برد أبياته المشهورة، التي قدمناها، والتي يقول فيها: (إن الخليفة يعقوب ابن داوود).

وقد سعي بيعقوب هذا إلى المهدي: وقيل له: (.. إن الشرق والغرب في يد يعقوب، وأصحابه، وإنما يكفيه أن يكتب إليهم ؛ فيثوروا، في يوم واحد، فيأخذوا الدنيا)(٢) .

وذلك لأنه قد: (أرسل يعقوب هذا إلى الزيدية، وأتى بهم من كل أوب، وولاهم من أمور الخلافة في المشرق والمغرب كل جليل، وعمل نفيس، والدنيا كلها في يديه..)(٣) .

وإذا ما عرفنا أن معاوني يعقوب إنما كانوا هم: متفقهة الكوفة، والبصرة، وأهل الشام(٤) .. فإننا نعرف أن الاتجاه الزيدي سوف يؤثر كثيراً، وكثيراً جداً على الثقافة العامة، والاتجاهات الفكرية في ذلك العصر ـ كما حدث ذلك فعلاً.. حتى لقد صرح ابن النديم بأن:

(أكثر علماء المحدثين إلا قليلاً منهم، وكذلك قوم من الفقهاء، مثل: سفيان الثوري، وسفيان بن عيينة كانوا من الشيعة الزيدية.)(٥) وقد صرح المؤرخون أيضاً: بأن أصحاب الحديث جميعهم، قد

____________

(١) الطبري ج ١٠ / ٤٨٦، والكامل لابن الأثير ج ٥ / ٦٠، ومرآة الجنان ج ١ / ٤١٨.

(٢) الكامل لابن الأثير ج ٥ / ٦٦، ٦٧.

(٣) الطبري ج ١٠ / ٥٠٨، طبع ليدن، والوزراء والكتاب للجهشياري ص ١٥٨، والكامل لابن الأثير ج ٥ / ٦٦.

(٤) الطبري، طبع ليدن ج ١٠ / ٤٨٦.

(٥) الفهرست لابن النديم ص ٢٥٣.

٢٠٢

خرجوا مع إبراهيم بن عبد الله بن الحسن، أو أفتوا بالخروج معه(١) .

وعلى كل حال.. فإن ما يهمنا بيانه هنا: هو أن المأمون كان يريد

____________

(١) مقاتل الطالبيين ص ٣٧٧، وغيرها من الصفحات، وغيرها من الكتب. ويرى بعض أهل التحقيق: أن المقصود هو جميع أصحاب الحديث في الكوفة. ولكن الظاهر أن المراد: الجميع مطلقاً، كما يظهر من مراجعة مقاتل الطالبيين وغيره.

والأمر الذي تجدر الإشارة إليه هنا: هو أن فرقة من الزيدية، وفرقة من أصحاب الحديث، قد قالوا بالإمامة على النحو الذي يقول به الشيعة الإمامية، عندما جعل المأمون (الرضا)عليه‌السلام ولياً لعهده. لكنهم بعد وفاة الرضاعليه‌السلام رجعوا عن ذلك: قال النوبختي في فرق الشيعة ص ٨٦:

(.. وفرقة منهم تسمى (المحدثة) كانوا من أهل الإرجاء، وأصحاب الحديث، فدخلوا في القول بإمامة موسى بن جعفر، وبعده بإمامة علي بن موسى، وصاروا شيعة، رغبة في الدنيا وتصنعاً. فلما توفي علي بن موسىعليه‌السلام رجعوا إلى ما كانوا عليه.

وفرقة كانت من الزيدية الأقوياء، والبصراء، فدخلوا في إمامة علي بن موسىعليه‌السلام ، عندما أظهر المأمون فضله، وعقد بيعته، تصنعاً للدنيا، واستكانوا الناس بذلك دهراً. فلما توفي علي بن موسىعليه‌السلام رجعوا إلى قومهم من الزيدية.) وقد تقدم قول الشيبي: إنه قد التف حول الرضاعليه‌السلام (المرجئة، وأهل الحديث، والزيدية، ثم عادوا إلى مذاهبهم بعد موته..) وغير ذلك. والذي نريد أن نقوله هنا هو: أن (الإرجاء دين الملوك) على حد تعبير المأمون (على ما نقله عنه في ضحى الإسلام ج ٣ / ٣٢٦)، نقلاً عن طيفور في تاريخ بغداد.

وفي البداية والنهاية ج ١٠ / ٢٧٦: أن المأمون قال للنضر بن شميل: ما الإرجاء؟. قال: (دين يوافق الملوك، يصيبون به من دنياهم، وينقصون به من دينهم) قال: صدقت الخ. وليراجع كتاب بغداد ص ٥١، وعمدة القول بالإرجاء (القديم) هو: المغالاة في الشيخين، والتوقف في الصهرين، فالإرجاء والتشيع، وخصوصاً القول بإمامة موسى بن جعفر، وولده علي الرضا على طرفي نقيض ومن هنا كانت المساجلة الشعرية بين المأمون المظهر لحب علي وولده، وابن شكلة المرجي، يقول المأمون معرضا بابن شكلة:

إذا المرجي سرك أن تراه

يموت لحينه من قبل موته

فـجدد عـنده ذكرى علي

وصل على النبي وآل بيته

أما ابن شكلة فيقول معرضاً بالمأمون:

إذا الشيعي جمجم في مقال

فسرك أن يبوح بذات نفسه

فصل على النبي وصاحبيه

وزيـريه وجاريه برمسه

٢٠٣

= راجع: مروج الذهب ج ٣ / ٤١٧، والكنى والألقاب ج ١ / ٣٣١، وبعد هذا. فإنه لمن غرائب الأمور حقاً، الانتقال دفعة واحدة من القول بالإرجاء إلى التشيع، بل إلى الرفض (وهو الغلو في التشيع حسب مصطلحهم، والذي يتمثل بالقول بإمامة الأئمة الاثني عشرعليهم‌السلام ) وأغرب من ذلك العودة إلى الإرجاء بعد موت علي الرضاعليه‌السلام .

وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على مدى تأثير السياسة والمال في هؤلاء الذين أخذوا على عاتقهم ـ بادعائهم ـ مسؤولية الحفاظ على الدين والذود عن العقيدة، فإنهم كانوا في غاية الانحطاط الديني، يتلونون ـ طمعاً بالمال والشهرة ـ ألواناً، حتى إن ذلك يحملهم على القول بعقيدة، ثم القول بضدها، ثم الرجوع إلى المقالة الأولى، إذا رأوا أن الحاكم يرغب في ذلك، ويميل إليه، ولهذا أسموا بـ‍ (الحشوية) يعني: أتباع وحشو الملوك، وأذناب كل من غلب، ويقال لهم أيضاً (وهم في الحقيقة أهل الحديث): (الحشوية، والنابتة، والغثاء، والغثر) على ما في كتاب: تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة ص ٨٠.

وراجع أيضاً فرق الشيعة، ورسالة الجاحظ في بني أمية، وغير ذلك.

بل لقد أطلق عليهم المأمون نفسه لفظ (الحشوية) في مناقشته المشهورة للفقهاء والعلماء المذكور في العقد الفريد والبحار، وعيون أخبار الرضا وغير ذلك. وقال عنهم الزمخشري في مقام استعراضه للمذاهب والنحل، ومعتنقيها:

وإن قلت من أهل الحديث وحزبه

يـقولون تيس ليس يدري ويفهم

ويقابل كلمة (الحشوية) كلمة (الرافضة) التي شاع إطلاقها على الشيعة الإمامية.

ومعناها في الأصل: جند تركوا قائدهم. فحيث إن الشيعة لم يكونوا قائلين بإمامة أولئك المتغلبين، سموهم ب‍ـ (الرافضة) ولذا جاء في تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ١٦١: أن معاوية كتب إلى عمرو بن العاص:

 (أما بعد. فإنه قد كان من أمر علي وطلحة والزبير ما قد بلغك، فقد سقط إلينا مروان في رافضة أهل البصرة الخ..). ومثل ذلك ما في وقعة صفين لنصر بن مزاحم ص ٣٤، فالمراد بكلمة رافضة هنا هو ذلك المعنى اللغوي الذي أشرنا إليه، فسمي الشيعة بالرافضة، لأنهم ـ كما قلنا ـ رفضوا الانقياد لأولئك الحكام المتغلبين.

٢٠٤

= يقول السيد الحميري على ما جاء في ديوانه وغيره ـ يهجو البعض:

أبـوك ابن سارق عنز النبي

وأمـك بـنت أبـي جحدر

ونحن على رغمك الرافضون

لأهـل الـضلالة والـمنكر

ولكن قد جاء في الطبري، مطبعة الاستقامة ج ٦ ص ٤٩٨، والبداية والنهاية ج ٩ ص ٣٣٠، ومقدمة ابن خلدون ص ١٩٨، ومقالات الإسلاميين ج ١ ص ١٣٠، وغاية الاختصار ص ١٣٤: أن سبب تسمية الشيعة بـ‍ (الرافضة) هو أنهم عندما تركوا نصرة زيد بن علي في سنة ١٢٢ ه‍. قال لهم زيد: رفضتموني، رفضكم الله، وهذا كذب راج على بعض الشيعة أيضاً حيث ذكروا وذكر الطبري في نفس الصفحة المشار إليها آنفاً: أن التسمية كانت من المغيرة بن سعيد، لما رفضته الشيعة.. وكانت قضيته سنة ١١٩ ه‍.

ولكن الحقيقة هي أن التسمية بالرافضة كانت قبل سنتي ١٢٢ ه‍ و ١١٩ ه‍. فقد جاء في المحاسن للبرقي ص ١١٩ طبع النجف، باب الرافضة: أن الشيعة كانوا يشكون إلى الباقر المتوفى سنة ١١٤ أن الولاة قد استحلوا دماءهم وأموالهم باسم: (الرافضة) الخ.

وجاء في ميزان الاعتدال طبع سنة ١٩٦٣ م. ج ٢ ص ٥٨٤ بعد ذكره لإسناد طويل أن الشعبي المتوفى سنة ١٠٤ ه‍. قال لأحدهم: (ائتني بشيعي صغير، أخرج لك منه رافضياً كبيراً).

وفي كتاب: روض الأخبار المنتخب من ربيع الأبرار ص ٤٠، أن الشعبي قال: (أحبب آل محمد ولا تكن رافضياً، وأثبت وعيد الله، ولا تكن مرجئياً.). بل لدينا ما يدل على أن تسمية الشيعة بـ‍ (الرافضة) كان قبل سنة المئة، فقد جاء في المحاسن والمساوي للبيهقي ص ٢١٢، طبع دار صادر وأمالي السيد المرتضى ج ١ ص ٦٨ هامش: أن لما أنشد الفرزدق أبياته المشهورة في الإمام زين العابدين، المتوفى سنة ٩٥ ه‍ قال عبد الملك بن مروان المتوفى سنة ٨٦ ه‍ للفرزدق: (أرافضي أنت يا فرزدق؟!). وعلى كل حال: فإن ذلك كله قد كان قبل قضيتي زيد والمغيرة ابن سعيد بزمان بعيد.

٢٠٥

أن يقضي على الزيدية، ويكسر شوكتهم بالبيعة للإمام الرضاعليه‌السلام بولاية العهد، ولهذا نرى أنه قد طبق اللقب، الذي طالما دعا إليه الزيدية، واعترف به العباسيون، بل ودعوا إليه في بدء دعوتهم ودولتهم، ألا وهو لقب: (الرضا من آل محمد)، طبقه على علي ابن موسىعليه‌السلام ، فسماه: (الرضا من آل محمد)(١) . فأصبحت بذلك حجته قوية على الزيدية، بل لم يعد لهم حجة أصلاً. وأصبح يستطيع أن ينام قرير العين، إذ قد أصبح (الرضا من آل محمد) موجوداً، فالدعوة إلى غيره ستكون لا معنى لها البتة. ولسوف تكون مرفوضة من الناس جملة وتفصيلا. وكان ذلك بطبيعة الحال السبب الرئيسي في إضعاف الزيدية، وكسر شوكتهم، وشل حركتهم.

والذي ساهم إلى حد كبير في إضعافهم، وشل حركتهم، هو اختياره الإمامعليه‌السلام بالذات، حيث إنه الرجل الذي لا يمكن لأحد كائناً من كان أن ينكر فضله، وعلمه، وتقواه، وسائر صفاته ومزاياه، التي لم تكن لأحد في زمانه على الإطلاق، فليس لهم بعد طريق للاعتراض عليه: بأن الذي اختاره لولاية عهده، والخلافة من بعده، ليس أهلاً لما أهله له. ولو أنهم ادعوا ذلك لما صدقهم أحد، ولكانت الدائرة حينئذ في ذلك عليهم، والخسران لهم دون غيرهم.

____________

(١) راجع: الفخري في الآداب السلطانية، ص ٢١٧، وضحى الإسلام ج ٣ ص ٢٩٤، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٤٧، والطبري، وابن الأثير، والقلقشندي وأبو الفرج. والمفيد وكل من تعرض من المؤرخين لولاية العهد. بل لقد صرح نفس المأمون بذلك في وثيقة ولاية العهد، وهذا يكفي في المقام.. ولقد قال دعبل:

أيا عجباً منهم يسمونك الرضا

ويـلقاك منهم كلحة وغضون

وهناك نصوص أخرى مفادها: أنه سمي الرضا، لرضا أعدائه، وأوليائه به، وعزى الشيبي في كتابه: الصلة بين التصوف والتشيع ص ١٣٨: عزا رضا أعدائه به إلى قوة شخصيتهعليه‌السلام .. أما نحن فنقول: إنه ليس من اليسير أبداً، أن تنال شخصية رضا كل أحد، حتى أعدائها. اللهم إلا إذا كان هناك سر إلهي، اختصت به تلك الشخصية، دون غيرها من سائر بني الإنسان..

٢٠٦

فذلكة لا بد منها:

هذا.. ولا يسعنا هنا إلا أن نشير إلى أن المأمون، لم يخترع أسلوباً جديداً للتصدي للزيدية، والحد من نفوذهم، وكسر شوكتهم، ببيعته للرضاعليه‌السلام ، إذ أنه كان قد استوحى هذه الفكرة من سلفة المهدي، الذي كان قد استوزر يعقوب بن داوود الزيدي، ليحد من نشاط الزيدية، ويكسر شوكتهم. وكان قد نجح في ذلك إلى حد ما: إذ لا يحدثنا التاريخ عن تحركات زيدية خطيرة ضد المهدي، بعد استيزاره ليعقوب، وتقريبه للزيدية، كتلك الأحداث التي حدثت ضد المنصور، وخصوصاً ثورة محمد وإبراهيم ابني عبد الله. كما يلاحظ أن تقريب العباسيين للزيدية في عصر المهدي، وتسليطهم على شؤون الدولة وإداراتها، لم يؤثر في الوضع العام أثراً يخشاه العباسيون، وذلك بلا شك مما يشجع المأمون على الإقدام على ما كان قد عقد العزم عليه، بجنان ثابت وإرادة راسخة.

يضاف إلى ذلك: أن سهولة إبعاد العباسيين لهم عن مراكز القوة، ومناصب الحكم على يد المهدي نفسه، الذي نكب يعقوب بن داوود، الوزير الزيدي، حيث لم تصاحبه ردة فعل، ولا نتج عنه أية حادثة تذكر ضد العباسيين، لا حقيرة، ولا خطيرة.. هو الذي شجع المأمون على أن يستوحي نفس الفكرة، ويلعب نفس اللعبة، ويتبع نفس طريقة المهدي. في مواجهتهم، وكسر شوكتهم، بالبيعة للرضاعليه‌السلام بولاية العهد بعده. وعلى كل حال، فإن هذا أسلوب قديم اتبعه العباسيون في دعوتهم الأولى أيضاً، حيث بايعوا للعلويين، وأظهروا أن الدعوة لهم وباسمهم..

ثم كانت النتيجة هي ما يعلمه كل أحد، حيث انقلبوا عليهم يوسعونهم قتلاً وعسفاً، وتشريداً عندما خافوهم. فلم يعودوا بحاجة إليهم.

ه‍ ـ : أضف إلى ذلك ما تقدم أن المأمون كان يعلم قبل أي شخص آخر بطبيعة العلاقات التي كانت قائمة بين الأئمةعليهم‌السلام ، وبين الزيدية، حيث إنها كانت على درجة من السوء والتدهور. وكان عدم التفاهم، والانسجام فيما بينهم واضحاً للعيان..

٢٠٧

حتى لقد شكى الأئمةعليهم‌السلام منهم، وصرحوا: بأن الناس قد نصبوا العداوة لشيعتهم، أما الزيدية فقد نصبوا العداوة لهم أنفسهم(١) ، وفي الكافي رواية مفادها: إنه عليه‌السلام قال إنهم قبل أن يصلوا إلى الحكم كانوا لا يطيعونهم فكيف تكون حالهم معهم لو أنهم وصلوا إلى الحكم وتبوءوا كرسي الرئاسة.

وقد رأينا: أن عبد الله بن الحسن، عندما جاء يعرض على الإمام الصادقعليه‌السلام كتاب أبي سلمة، الذي يدعوه فيه للقدوم إلى الكوفة، لتكون الدعوة له، وباسمه، فنهاه الإمامعليه‌السلام عن ذلك ـ رأيناه ـ ينازع الإمام الصادق الكلام، حتى قال له:

____________

(١) راجع: الوافي للفيض ج ١ ص ١٤٣، باب: الناصب ومجالسته.

هذا. ولا يمنع ذلك ما ورد عنهم عليهم‌السلام من أن خروج الزيدية وغيرهم على الحكام يدرؤا به عنهم، وعن شيعتهم: فقد جاء في السرائر قسم المستطرفات ص ٤٧٦ أنه: (ذكر بين يدي أبي عبد الله من خرج من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال عليه‌السلام : ((لا أزال أنا وشيعتي بخير ما خرج الخارجي من آل محمد ..)) إلخ وذلك لأن اصطدامهم مع الحكام كان يصرف أنظار الحكام إليهم، ويفسح المجال أمام أهل البيت وشيعتهم إلى حد ما. ولم يكن هناك مجال لاتهام الأئمة وشيعتهم بالتواطؤ معهم، مع ما كان يراه الحكام من عدم الانسجام الظاهر بين الأئمة وبين الزيدية، وغيرهم من الثائرين وسلبية كل فريق منهما تجاه الآخر..

وأخيراً.. فلا بد لنا هنا من الإشارة إلى أن ثورات العلويين، سواء على الحكم الأموي، أو الحكم العباسي، قد ساهمت في أن يبقى حق العلويين في الحكم متحفظاً بقوته وحيويته في ضمير الأمة، ووجدانها. ولم تؤثر عليه حملات القمع والتضليل، التي كان الحكم القائم آنذاك يمارسها ضدهم، وضد هذا الحق الثابت لأهل البيتعليهم‌السلام بالنص.

٢٠٨

(والله، ما يمنعك من ذلك إلا الحسد) إلخ وقد انصرف عبد الله آخر الأمر مغضباً(١) .

ورأينا أيضاً أنه في موقف آخر له مع الإمام الصادقعليه‌السلام يتهمه بنفس هذه التهمة، ويصمه بعين هذه الوصمة، وذلك عندما أرادوا البيعة لولده محمد، وأبدى الإمامعليه‌السلام رأيه في ذلك. ذلك الرأي الذي كشفت الأيام عن صحته وسداده(٢) .

بل لقد كان عيسى بن زيد يقول لمحمد بن عبد الله: (.. من خالفك من آل أبي طالب، فأمكني أضرب عنقه.)(٣) وقد تجرأ عيسى هذا أيضاً على الإمام الصادق بكلام لا نحب ذكره.

وأما موقف محمد بن عبد الله نفسه مع الإمام الصادقعليه‌السلام ، فأشهر من أن يذكر، حيث إنه سجن الإمامعليه‌السلام ، واستصفى أمواله، وأسمعه كلاماً قاسياً، لا يليق بمقام الإمام وسنه(٤) .

إلى آخر ما هنالك مما يدل على كرههم، وحقدهم على الأئمةعليهم‌السلام . أو بالأحرى حسدهم لهم..

____________

(١) راجع: مروج الذهب ج ٣ ص ٣٥٤، ٣٥٥، وغيره من المصادر.

(٢) الصواعق المحرقة ص ١٢١، وينابيع المودة للحنفي ص ٣٣٢، ٣٦١، ومقاتل الطالبيين ص ٢٥٥، ٢٥٦، ٢٧٠، وغير ذلك.. وفي هذا الأخير: أن عبد الله ابن الحسن لم يرض باستدعاء الإمام، ولا وافق عليه، عندما أرادوا البيعة لولده محمد، وبعد أن أقنعوه، وحضر الإمام، جرى بينهما ما جرى.

(٣) قاموس الرجال ج ٧ ص ٢٧٠.

(٤) قاموس الرجال ج ٧ ص ٢٧٠، و ج ٨ ص ٢٤٢، ٢٤٣ والبحار ج ٤٧ ص ٢٨٤، ٢٥٨.

٢٠٩

والمأمون.. كان يعلم بذلك كله، ويدركه كل الإدراك، ولهذا فإننا لا نستبعد أنه ـ وهو الداهية الدهياء ـ قد أراد أيضاً في جملة ما أراد: أن يوقع الفتنة بين آل علي أنفسهم. أي: بين الأئمة، والمتشيعين لهم، وبين الزيدية، ويقف هو في موقف المتفرج المتربص حتى إذا أضعف كل واحد من الفريقين الفريق الآخر، ولم يعد فيهما بقية.. انقض هو عليهما، وقضى عليهما بأهون سبيل.

بل إن بعض الباحثين يرى: أنه أراد من لعبته هذه: (.. ضرباً للثائرين العلويين من إخوة علي بن موسى بأخيهم.)(١) .

ولو أننا استبعدنا كل ذلك، فلا أقل ـ كما قلنا ـ من أن حجته أصبحت قوية على الزيدية، وعلى كل من يدعو إلى (الرضا من آل محمد)، ولم يعد يخشى أحداً منهم، بعد أن أصبح (الرضا من آل محمد) موجوداً.

الهدف التاسع:

كما أنه ببيعته للإمام الرضاعليه‌السلام بولاية العهد، وقبول الإمامعليه‌السلام بذلك.. يكون قد حصل على اعتراف من العلويين، على أعلى مستوى بشرعية الخلافة العباسية، ولقد صرح المأمون بأن ذلك، كان من جملة أهدافه، حيث قال: (.. فأردنا أن نجعله ولي عهدنا، ليكون دعاؤه لنا، وليعترف بالملك والخلافة لنا..) وسنتكلم حول تصريحات المأمون هذه بنوع من التفصيل في فصل: مع بعض خطط المأمون، وغيره إن شاء الله تعالى.

نعود إلى القول: إن تصريح المأمون هذا يعطينا: أن قبول الإمام بأن يكون ولي عهد المأمون، إنما يعني بالنسبة للمأمون: أن الإمام يكون قد أقر بأن الخلافة ليست له دون غيره، ولا في العلويين دون غيرهم، وأنه كما يمكن أن يكون هو جديراً بها، وأهلا لها، وكذلك غيره يمكن أن يكون كذلك. وليتمكن المأمون بذلك من محاربة العلويين بنفس السلاح الذي بأيديهم، وليصير ـ من ثم ـ من الصعب استجابة الناس لهم، إذا دعوا لأية ثورة ضد حكم اعترفوا هم بشرعيته، وأيدوه، وتعاونوا معه من قبل، وعلى أعلى مستوى ومن أعظم شخصية فيهم.

____________

(١) هو الدكتور كامل مصطفى الشيبي في كتابه: الصلاة بين التصوف والتشيع ص ٢١٩.

٢١٠

بل لقد كان يريد أن يحصل من العلويين على اعتراف بأن الحكم حق للعباسيين فقط. أما هم، فليس لهم فيه أدنى نصيب، وما فعله المأمون من إسناد ولاية العهد لواحد منهم، ما كان إلا تفضلاً وكرماً، ومن أجل أن يجمع شمل البيتين العلوي والعباسي، وتصفو القلوب ويمحو ما كان من أمر الرشيد وغيره من أسلافه مع العلويين.

ولقد حاول المأمون أن ينتزع من الإمام اعترافا بأن الخلافة حق للعباسيين، شفاهاً أيضاً فكانت النتيجة عكس ما أراد المأمون، وذلك عندما عرض بالمن على الإمام بأن جعله ولي عهده، فأجابه الإمامعليه‌السلام : بأن هذا الأمر لم يزده في النعمة شيئاً، وأنه وهو في المدينة كانت كتبه تنفذ في المشرق والمغرب.

كما أن المأمون قد قال لحميد بن مهران، وجمع من العباسيين: (.. وليعتقد فيه المفتونون به، بأنه ليس مما ادعى في قليل، ولا كثير، وأن هذا الأمر لنا دونه.) ولسوف يأتي الكلام عن هذه التصريحات إن شاء الله كما قلنا.

وبعد.. فإنه لا يكون من المبالغة في شيء لو قلنا: إن حصول المأمون على اعتراف من العلويين، ومن الإمام الرضاعليه‌السلام خاصة، بشرعية خلافته، وخلافة، بني أبيه أخطر على العلويين من الأسلوب الذي انتهجه أسلافه من أمويين وعباسيين ضدهم،: من قتلهم، وتشريدهم، وسلب أموالهم، إلى غير ذلك مما هو معروف ومشهور.

الهدف العاشر:

يضاف إلى ذلك، أنه يكون قد حصل على اعتراف ضمني من الإمام بشرعية تصرفاته، طيلة فترة ولاية العهد، وليعطي الناس ـ من ثم ـ الصورة التي يريدها عن الحكم والحاكم، وليؤكد للملأ أجمع: أن الحاكم هذا هو سلوكه، وهذه هي تصرفاته: من كان، ومهما كان، وإذن فليس لهم بعد حق في أن يتطلعوا إلى حكومة أحد على أن بها شيئاً جديداً، ولا أن ينظروا إلى جهة على أنها يمكن أن يكون بها المنقذ لهم، والمخرج من الظلمات إلى النور، حتى ولو كانت تلك الجهة هي آل بيت نبيهم، فإنه من الطبيعي أن يتبع السياسيون أساليب، ويتكلموا بأشياء كثيرة، ينسبونها بمجرد وصولهم إلى الحكم، وتسلمهم لازمة السلطة، فإن تلك لا تعدو كونها تكتيكات، ووعودا انتخابية، يحتاجون إليها في ظروف معينة، ثم يستغنون عنها.. كما كانت الحال في وعود المأمون، التي أشرنا إليها فيما تقدم.

٢١١

وهكذا.. فيكون سكوت الإمام في فترة ولاية العهد، عن تصرفات الهيئة الحاكمة، دالا على رضاه بها، ويعتبر إمضاء لها.. وبعد هذا.

فلا يجب أن يكون من العسير على الناس أن يتصوروا طبيعة وماهية حكم الإمام، وكل من يقدر له أن يصل الحكم والسلطان، سواء من العلويين، أو من غيرهم.

وإذا كانت الصورة واحدة، والجوهر واحد، والاختلاف إنما هو فقط في الاسم والعنوان، فليس لهم بعد حق، أو على الأقل ما الداعي لهم، لأن يطلبوا حكماً أفضل، أو حكاماً أعدل، فإنه طلب لغير موجود، وسعي وراء مفقود.

الهدف الحادي عشر:

هذا.. وبعد أن يكون المأمون قد حصل على كل ما قدمناه، وحقن دماء العباسيين، واستوثقت له الممالك، ولم يعد هناك ما يعكر صفو حياته(١) ، وقوي مركزه، وارتفع بالخلافة من الحضيض المهين، الذي أوصلها إليه أسلافه إلى أوج العظمة، والتمكن والمجد. وأعطاها من القوة والمنعة، ووهبها من الحياة في ضمير الأمة ووجدانها ما هي بأمس الحاجة إليه.. ولتتمكن من ثم من الصمود في وجه أية عاصفة، وإخماد أية ثورة، ومقاومة كل الأنواء، وذلك هو حلمه الكبير، الذي طالما جهد في تحقيقه إنه بعد أن يكون قد حصل على كل ذلك وسواه مما قدمناه:

____________

(١) لقد صرح الذهبي في الجزء الأول من كتابه (العبر) بأنه في سنة ٢٠٠ ه‍. استوثقت الممالك للمأمون. وهذه هي نفس السنة التي أتي فيها بالإمامعليه‌السلام من المدينة إلى مرو.. ولكن اليافعي في مرآة الجنان ج ٢ ص ٨: قد جعل ذلك في سنة ٢٠٣: أي في السنة التي تخلص فيها المأمون من الإمام الرضاعليه‌السلام بواسطة السم الذي دسه إليه.. وفي اليعقوبي ج ٢ ص ٤٥٢ طبع صادر: أنه في السنة التي غادر فيها المأمون خراسان: (لم تبق ناحية من نواحي خراسان يخاف خلافها).

٢١٢

يكون قد أفسح لنظام حكمه المجال ـ تلقائيا ـ لتصفية حساباته مع خصومه، أياً كانوا. وبأي وسيلة كانت، وبهدوء، وراحة فكر واطمئنان إن اقتضى الأمر ذلك.

كما أنه يكون قد مهد الطريق لتنفيذ الجزء الثاني ـ ولعله الأهم ـ من خطته الجهنمية، بعيداً عن الشبهات، ودون أن يتعرض لتهمة أحد، أو شك من أحد..

ألا وهو: القضاء على العلويين بالقضاء على أعظم شخصية فيهم. وليكون بذلك قد قضى نهائياً، وإلى الأبد، على أكبر مصدر للخطر، يمكن أن يتهدده، ويتهدد خلافته ومركزه.

إنه يريد زعزعة ثقة الناس بهم، واستئصال تعاطفهم معهم، وليحوله ـ إن استطاع ـ إلى كره ومقت، بالطرق التي لا تمس العواطف والمشاعر، ولا تثير الكثير من الشكوك والشبهات.

يظهر ذلك في محاولاته إسقاط الإمام إجتماعياً، والوضع منه قليلاً قليلاً، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر، وليدبر فيه في نهاية الأمر بما يحسم عنه مواد بلائه.. كما صرح لحميد بن مهران، وجمع من العباسيين، وسنتكلم بنوع من التفصيل عن محاولات المأمون هذه، التي باءت كلها بالفشل الذريع، وعادت عليه بالخسران، لأن الإمامعليه‌السلام كان قد أحبطها عليه، بل لقد كان لها من النتائج العكسية بالنسبة إليه ما جعله يتعجل بتصفية الإمام جسديا، بعد أن أشرف هو منهعليه‌السلام على الهلاك.. بالطريقة التي حسب أنها سوف لا تثير الكثير من الشكوك والشبهات.

ملاحظة لا بد منها:

ومن الأمور الجديرة بالملاحظة هنا: أن المأمون كان يقدر أن مجرد جعل ولاية العهد للإمام، سوف يكون كافيا لتحطيمه إجتماعياً، وإسقاطه نهائياً من أعين الناس، حيث يظهر لهم بالعمل ـ لا بالقول: أن الإمام رجل دنيا فقط، وأن تظاهره بالزهد والتقوى ما هو إلا طلاء زائف، لا واقع له، ولا حقيقة وراءه. ولسوف تكون النتيجة هي تشويه سمعة الإمامعليه‌السلام ، وزعزعة ثقة الناس به، وذلك بسبب الفارق الكبير بالسن، بين الخليفة الفعلي، وبين ولي عهده، إذ إن ولي العهد لا يكبر الخليفة الفعلي بسنتين، أو ثلاثة، أو خمسة، لا.. بل أكثر من ذلك بكثير، إنه يكبره بـ‍(٢٢) سنة،

٢١٣

وإنه لمن الأمور غير الطبيعية أبداً: أن يقبل ولاية العهد، وهو يكبر الخليفة الفعلي بهذا المقدار الكبير من السنين، ولسوف يكون قبوله لها ـ مع هذا الفارق بينهما ـ موجبا لجعله عرضة لشكوك الناس، وظنونهم، ولسوف يتسبب بوضع علامات استفهام كبيرة حوله.. كما كان الحال، بالنسبة لسؤال محمد بن عرفة، وكلام الريان المتقدم.. ولسوف يفسر(١) ذلك من أولئك الذين لا يدركون حقيقة ما يجري، وما يحدث، ـ وما أكثرهم ـ بتفسيرات تنسجم مع رغائب المأمون، وأهدافه. لأنهم سوف يرون أن زهدهعليه‌السلام بالدنيا، ليس إلا ستاراً تختفي وراءه مطامعه فيها، وحبه المستميت لها، حتى إنه ليطمع أن يعيش إلى ما بعد الخليفة الفعلي، الذي هو أصغر من ولده، ويصل إلى الحكم.. وباختصار نقول:

إنه يريد أن: (.. يعتقد فيه المفتونون به بأنه: ليس ما ادعى في قليل ولا كثير.) حسبما صرح به هو نفسه.. وعلى حد قول الإمام نفسه، الذي كان يدرك خطة المأمون هذه: (.. أن يقول الناس: إن علي بن موسى، لم يزهد في الدنيا، بل زهدت الدنيا فيه، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعا بالخلافة؟!.). كما سيأتي.

____________

(١) ولكنا، مع ذلك نجد: أن قسما من أصحاب الرضاعليه‌السلام ، ممن كانوا يراقبون الأحداث بوعي ودراية، كانوا يدركون نوايا المأمون وأهدافه هذه ففي البحار ج ٤٩ ص ٢٩٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٩: أنه قد سئل أبو الصلت: (كيف طابت نفس المأمون بقتل الرضا مع إكرامه ومحبته له، وما جعل له من ولاية العهد بعده؟! فقال: إن المأمون كان يكرمه ويحبه لمعرفته بفضله، وجعل له ولاية العهد من بعده، ليري الناس أنه راغب في الدنيا، فلما لم يظهر منه إلا ما ازداد به فضلاً عندهم، ومحلاً في نفوسهم، جلب عليه إلخ.).

٢١٤

وعن الريان قال: دخلت على الرضا، فقلت: يا ابن رسول الله، إن الناس يقولون: إنك قبلت ولاية العهد، مع إظهارك الزهد في الدنيا؟!، فقالعليه‌السلام :((قد علم الله كراهتي..)) (١) وقد أشرنا إلى سؤال محمد بن عرفة، وكلام الريان فيما تقدم.

وعلى أي شيء يبكي المأمون، ومن أجل أي شيء يشقى ويتعب، ويسهر الليالي، ويتحمل المشاق.. إلا على هذا.. إن هذا هو أجل أمنياته وأغلاها.

سؤال وجوابه:

قد يدور بخلد القارئ أن ما ذكرناه هنا: فيما يتعلق بالفارق الكبير بالسن، ينافي ما تقدم من أن المأمون كان يريد الحصول على قاعدة شعبية، والارتفاع بالخلافة من الحضيض الخ.

ولكن الحقيقة هي:

أنه لا منافاة هناك.. ويمكن للمأمون أن يقصد كل ذلك من البيعة، لأن مقدار التفاوت بالسن بين الإمامعليه‌السلام والمأمون، لم يكن مما يعرفه الكثيرون، ولا مما يلتفت إليه عوام الناس في بادئ الأمر، لأنهم يأخذون الأمور على ظواهرها، ولا يتنبهون إلى مثل ذلك، إلا بعد تنبيه وتذكير، فللوهلة الأولى تجوز عليهم الخدعة، ويقدرون خطوة المأمون هذه، وتنتعش الآمال في نفوسهم بالحياة الهنيئة السعيدة، تحت ظلم حكم بدا أنه يتخذ العدل ديدنا، والإنصاف طريقة..

____________

(١) علل الشرايع ص ٢٣٨، والبحار ج ٤٩ ص ١٣٠، وأمالي الصدوق ص ٤٤، ٤٥.

٢١٥

ثم.. وبعد أن يجند المأمون أجهزة إعلامه، من أجل تسميم الأفكار، يجد أن نفوس الناس مهيأة ومستعدة لتقبل ما يلقى إليها. ويكون لديه ـ باعتقاده ـ من الحجج ما يكفي لإسقاط الإمام، وزعزعة ثقة الناس به. ولا يؤثر ذلك بعد ذلك على الحكم، فإن الحكم يكون قد استنفذ أغراضه من البيعة. وحصل على ما يريد الحصول عليه منها.. هذا ولا بد لنا هنا من ملاحظة أن المأمون وأجهزة إعلامه كانوا في مقابل وصم الإمام بالرغبة بالدنيا والتفاني في سبيلها.. يشيعون بين الناس عن المأمون عكس ذلك تمام، فيطلب المأمون من وزيره أن يشيع عنه الزهد، والورع والتقوى(١) .. وأنه لا يريد مما أقدم عليه الأخير الأمة ومصلحتها، حيث قد اختار لولاية عهده أفضل رجل قدر عليه، رغم أن ذلك الرجل هو من ذلك البيت الذي لا يجهل أحد موقفه من حكم العباسيين، وموقف العباسيين منه كما يتضح ذلك من وثيقة ولاية العهد، وغيرها.

رأي الناس فيمن يتصدى للحكم:

لعل من الواضح أن كثيراً من الناس كانوا يرون ـ في تلك الفترة من الزمن ـ لقصر نظرهم، وقلة معرفتهم: أن هناك منافاة بين الزهد والورع، والتقوى، وبين المنصب، وأنهما لا يتفقان، ولا يجتمعان.

____________

(١) تاريخ التمدن الإسلامي ج ٤ ص ٢٦١.

٢١٦

وقد رأينا الكثيرين يمتنعون على تولي المناصب للحكام، لما يرونه من المنافاة المشار إليها.

ولعل سر فهمهم هذا: هو أنهم كانوا قد اعتادوا من الحكام التجاوز على الحقوق، والدماء، والأموال، وعلى أحكام الدين، والنواميس الإنسانية، بشكل عام. والزهد والورع لا يتلائم مع ذلك كله، ولا ينسجم معه.

ولكن الحقيقة هي: أن لا منافاة بينهما أبداً، فإن الحكم إذا كان وسيلة لإيصال الخير إلى الآخرين، ورفع الظلم عنهم، وإشاعة العدل، إقامة شريعة الله تعالى، فيجب السعي إليه، والعمل من أجله، وفي سبيله.. بل إذا لزم من ترك السعي إليه، تضييع الحقوق، وانهيار صرح العدل، والخروج على أحكام الدين، فإن ترك السعي هذا، يكون هو المنافي للزهد والورع والتقوى..

ولقد قاد النبيعليه‌السلام الأمة، وقبله قادها سليمان بن داوود، وغيره، وبعده الإمام علي بن أبي طالب، وولده الحسن، ثم الحسين، وهكذا..

وحال هؤلاء في الزهد والورع، لا يحتاج إلى مزيد بيان، وإقامة برهان، بل لم يكن على ظهرها أزهد، ولا أتقى، ولا أفضل، ولا أورع منهم، عدوهم يعرف منهم ذلك تماماً كما يعرفه منهم صديقهم. فعدا عن الأنبياء الذين كانوا القمة في الورع والزهد والتقوى، نرى الإمام عليعليه‌السلام قمة في ذلك أيضاً، وقد رقع مدرعته حتى استحيا من راقعها، وكان راقعها هو ولده (الإمام الحسنعليه‌السلام )(١) . وكان يصلي في بيت المال ركعتين شكراً لله، بعد فراغ المال منه. وكان يقول:((إليك عني يا دنيا غري غيري، أبي تعرضت؟!..)) الخ وهو الذي قال فيه عدوه معاوية: (لو كان له بيتان: بيت من تبر، وآخر من تبن، لأنفق تبره قبل تبنه.). إلى غير ذلك مما لا مجال لنا لتتبعه واستقصائه..

____________

(١) راجع: الدرة النجفية ص ٣٠٣، طبعة حجرية.

٢١٧

العلويون يدركون نوايا المأمون:

إن نوايا المأمون تجاه العلويين، ومحاولاته لإسقاطهم إجتماعياً، وابتزازهم سياسياً.. حتى إذا أخفق في ذلك راح يختلهم واحداً فواحداً، كلما واتاه الظرف، وسنحت له الفرصة.. لم يكن العلويون يجهلونها، بل كانوا يدركونها كل الإدراك، ولم تكن تخدعهم تلك الشعارات والأساليب المبهرجة. وحسبنا هنا أن نذكر في مقام التدليل على هذا: أن المأمون كتب لعبد الله بن موسى، بعد وفاة الرضا، يعده بأنه يجعله ولي عهده، ويقول له: (ما ظننت أن أحداً من آل أبي طالب يخافني بعد ما عملته بالرضا).

فأجابه عبد الله يقول: (وصل إلي كتابك، وفهمته، تختلني فيه عن نفسي مثل القانص، وتحتال علي حيلة المغتال، القاصد لسفك دمي. وعجبت من بذلك العهد، ولايته لي بعدك، كأنك تظن: أنه لم يبلغني ما فعلته بالرضا؟! ففي أي شيء ظننت أني أرغب من ذلك؟ أفي الملك الذي غرتك حلاوته؟!.

إلى أن يقول: أم في العنب المسموم الذي قتلت به الرضا؟!).

ويقول له أيضاً ـ والظاهر أنه نص آخر للرسالة ـ: (هبني لا ثأر لي عندك، وعند آبائك المستحلين لدمائنا الآخذين حقنا، الذين جاهروا في أمرنا، فحذرناهم. وكنت ألطف حيلة منهم، بما استعملته من الرضا بنا، والتستر لمحننا، تختل واحداً،

____________

(١) ترجمة الإمام عليعليه‌السلام من تاريخ ابن عساكر بتحقيق المحمودي ج ٣ ص ٥٨ ـ ٦٠.

٢١٨

فواحداً منا الخ..)(١) .

ولا بد من ملاحظة: منافاة وعده هذا لعبد الله بن موسى بأن يجعل له ولاية العهد.. للرسالة التي أرسلها إلى العباسيين في بغداد، فور وفاة الرضاعليه‌السلام ، ويعدهم فيها بأن يجعل ولاية العهد فيهم، وسنشير إلى رسالته لهم في فصل: مع بعض خطط المأمون إن شاء الله وعلى كل حال.. فإننا نستطيع أن نفهم من هذه الرسالة التي لعبد الله بن موسى أموراً، نشير إلى بعضها:

أولاً: إن المأمون كان قد جعل ولاية العهد وسيلة لختل الشخصيات التي كان يخشاها، والغدر بها، إذ إن من المقبول والطبيعي ـ كما يرى البعض ـ أن يكون ولي العهد هو الذي يتآمر، ويدبر للتخلص من الخليفة الفعلي، ليختصر المسافة، ويصل إلى الحكم، الذي ينتظر الوصول إليه، والحصول عليه بفارغ الصبر. وليس من الطبيعي، ولا من المقبول أن يتآمر الخليفة على ولي عهده، إلا إذا كان يريد أن يجعل الخلافة لمن هو أعز عليه منه، وهذا ما نفاه المأمون عن نفسه في أكثر من مناسبة.

وهكذا.. فإن النتيجة تكون: أن الخليفة الفعلي يكون آخر من يتهم في ولي العهد، إذا ما راح ضحية التآمر والاغتيال، وعرف الناس ذلك. وهذا بلا شك من جملة ما كان يريده المأمون، ويسعى إليه.

ثانياً: إن المأمون رغم الصعوبات التي واجهها في فترة تولية الرضاعليه‌السلام العهد.. يبدو أنه كان يعتبر نفسه منتصراً وناجحاً في لعبته تلك، ولذلك نرى أنه قد حاول تكرار نفس اللعبة مع عبد الله بن موسى. ولكن يقظة هذا الأخير، الذي كانت ظروفه تختلف عن ظروف الإمامعليه‌السلام قد فوتت عليه الفرصة، وأعادته. بخفي حنين.

____________

(١) مقاتل الطالبيين للأصفهاني ص ٦٢٨، إلى ص ٦٣١، وسنورد الرسالة في أواخر هذا الكتاب إن شاء الله.

٢١٩

كما أننا لا نستبعد أن المأمون قد أراد بالإضافة إلى ذلك التستر على غدره بالرضاعليه‌السلام ، بعد أن كان قد افتضح واشتهر، رغم محاولاته الجادة للتستر والكتمان.

ثالثاً: ما تقدمت الإشارة إليه من أن إكرامه للعلويين، والرضا بهم، والتستر لمحنهم، ما كان منه إلا ضمن خطة مرسومة، وإلا سياسة منه ودهاء، من أجل أن يأمن العلويون جانبه، ويطمئنوا إليه، كما يدل عليه قوله لعبد الله بن موسى: (ما ظننت أحداً من آل أبي طالب يخافني بعد ما عملته بالرضا) وقد قدمنا أنه أشار إلى ذلك أيضاً في كتابه للعباسيين، فلا نعيد..

رابعاً: أنه لم يستطع أن يخفي عن العلويين ـ كما لم يستطع أن يخفي عن غيرهم ـ غدره بالإمام الرضاعليه‌السلام ، وسمه له بالعنب، وكذلك غدره بغيره من العلويين. وسر ذلك واضح، فإن جميع الدلائل والشواهد كانت متوفرة على ذلك، كما سيأتي بيان جانب من ذلك في فصول هذا الكتاب بنوع من التفصيل.

موقف الإمام في مواجهة مؤامرات المأمون:

لقد رأينا كيف أن المأمون أراد من لعبته تلك، التغلب على المشاكل التي كان يواجهها، والاستفادة في تقوية دعائم خلافته، وخلافة العباسيين بشكل عام.. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما هو موقف الإمامعليه‌السلام نفسه من لعبة المأمون تلك، وخططه، وأهدافه؟، وهل أفسح المجال للمأمون ليحقق كل ما يريد تحقيقه، ويصل إلى ما

كان يريد الوصول إليه؟.. وهل كانت لديه خطط من نوع معين، وأهداف معينة كان يسعى من أجل الوصول إليها، والحصول عليها؟!.

الحقيقة هي: أن الإمامعليه‌السلام قد استطاع، بما اتبعه من خطة حكيمة، وسلوك مثالي: أن يضيع على المأمون كافة الفرص، ويجعله يبوء بالخيبة والخسران، ويمنى بالفشل الذريع، حتى لقد أشرف المأمون منه على الهلاك، وبدا الارتباك واضحاً في كل تصرفاته، وأقواله، وأفعاله..

وسيأتي في الفصول الآتية في القسمين: الثالث، والرابع بيان بعض ما يتعلق بذلك إن شاء الله.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

القميص وهو خَرقٌ مطوّق في أسفله.

قال ابن فارس: الفاء والراء والجيم، أصلٌ صحيحٌ يدلّ على تفتّح في الشيء، من ذلك: الفُرجة في الحائط وغيره والشقّ، والفُرُوج: الثُغور التي بين مواضع المـَخافة (١) .

قال: والجيب، جيب القميص (٢) وهو خَرقٌ مستطيل في قدّامه، يقال: جِبْتُ القميص، قَوَّرت جيبه وهو خَرقُه مِن وَسَطه خَرقاً مُستديراً، وفي القرآن: ( وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ) (٣) وهو خَرقٌ في صدر القميص، ويقال: فلانٌ ناصح الجيب أي أمينه (٤) ويقال: طاهر الجيب أي نزيهه.

فالفَرج في هكذا تعابير هي فُرجة القميص أي جيبه، وهو عبارة عن خَرقٌ مطوّق في أسفله، حسب العادة في قمصان العرب، فإحصان الفَرج عبارة عن طهارة الذيل أي نزاهته عن دَنَس الفحشاء (٥) .

وهو استعمال على الأصل العربي القديم والّذي جرى عليه القرآن الكريم على المصطلح الأَوّل، أمّا أخيراً فغُلّب استعماله في سَوءة المرأة وهو استعمال مُستَحدث، لا يُحمل القرآن عليه، قال تعالى: ( وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ ) (٦) ، ( قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ... وَقُل لّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنّ ) (٧) كلّ ذلك كناية عن التحفظ على نزاهة الذيل عن دَنَس الفحشاء، وليس اسماً خاصّاً للسَوءة ولا سيّما سَوءة المرأة.

( فَخَانَتَاهُمَا)

قال تعالى ( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا ) (٨) .

____________________

(١) معجم مقاييس اللغة، ج ٤، ص ٤٩٨.

(٢) المصدر: ج ١، ص ٤٩١ و ٤٩٧.

(٣) النور ٢٤: ٣١.

(٤) لسان العرب، ج ١، ص ٢٨٨.

(٥) ونظيره جاء التعبير في الفارسيّة بـ (باكي دامن).

(٦) الأحزاب ٣٣: ٣٥.

(٧) النور ٢٤: ٣٠ و ٣١.

(٨) التحريم ٦٦: ١٠.

٢٤١

عابوا فَضحَ امرأة هي زوجةُ عبدٍ صالح!

لكن التعبير بالخيانة هنا لا يُراد بها ارتكاب الفحشاء، كلاّ! وإنّما هو مجرّد مخالفة الزوج وإنكار رسالته، قال الفيض الكاشاني: فَخَانَتاهما بالنفاق والتظاهر على الرسولَين (١) .

وهو تعريض ببعض أزواج النبي (صلّى الله عليه وآله) بإفشاء سرّه والتظاهر عليه، كما جاء في صدر السورة؛ ومِن ثَمّ فهو خطاب وعتاب مع تلك الأزواج: ( إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ) (٢) .

قال ابن عبّاس: لم أَزل حريصاً أنْ أسأل عمر عن المرأتَين من أزواج النبيّ اللتَين قال الله بشأنهما: ( إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما... ) حتّى حجّ عمر وحَجَجتُ معه، فلمـّا كان ببعض الطريق عدل عمر وعدلت معه بالإداوة فتبرّز ثُمَ أتى فصببت على يديه فتوضّأ فقلت: يا أمير المؤمنين، مَن المرأتان من أزواج النبيّ اللتان قال الله بشأنهما ذلك؟ فقال: واعجباً لك يا ابن عبّاس، هما عائشة وحفصة، ثم أنشأ يُحدّثني بحديثهما في ذلك (٣) .

____________________

(١) تفسير الصافي، ج ٢، ص ٧٢٠.

(٢) التحريم ٦٦: ٤.

(٣) راجع: الدرّ المنثور، ج ٨، ص ٢٢٠.

٢٤٢

الباب الثالث

مُوهم الاختلاف والتناقض

( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً )

(النساء ٤: ٨٢)

٢٤٣

كلام عن مُوهم الاختلاف في القرآن

قال تعالى: ( أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً ) (١) تلك مِيزة قرآنيّة: لا يوجد فيه اختلاف؛ حيث صَنَعه تعالى القويم يفترق عمّا يَصنعه البشر ذا نقصٍ وعيب، إذ كلّ يعمل على شاكلته، وقد أخذه الله تعالى دليلاً على الإعجاز الخارق!

وهناك مِن قديمٍ مَن كان يَزعم أنّ في القرآن اختلافاً، ويَرجع عهدُه إلى الصدر الأَوّل حيث رُوي أنّ سائلاً سأل الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) عن ذلك، فأجابه الإمام في رحابة صدر وحلّ إشكاله، واستبصر على يديه.

روى أبو جعفر الصدوق بإسناده المتصل إلى أبي معمر السعداني قال: إنّ رجلاً أتى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين، إنّي شَكَكت في كتاب الله المـُنزَل قال (عليه السلام): (وكيف شَكَكت في كتاب الله؟!) قال لأنّي وجدتُ الكتاب يُكذّب بعضُه بعضاً فكيف لا أشكّ فيه؟!

فقال الإمام: (إنّ كتاب الله لَيُصدّق بعضُه بعضاً ولا يُكذّب بعضُه بعضاً، ولكنّك لم تُرزق عقلاً تنتفع به، فهات ما شَكَكت فيه)، فجعل الرجل يَسرد آيات زَعَمَهنّ مُتهافِتات

____________________

(١) النساء ٤: ٨٢.

٢٤٤

ويُجيب عليهنّ الإمام على ما سنذكر (١) .

وهكذا روى صاحب كتاب الاحتجاج: أنّ بعض الزنادقة جاء إلى الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وقال له: لولا ما في القرآن من الاختلاف والتناقض لدخلتُ في دينِكم. فقال له: (وما هو)؟ فجعل يسرد آيات بهذا الشأن ليأخذ جوابَه الوافي، وشكره أخيراً ودَخل في حظيرة الإسلام (٢) .

وروى عبد الرزّاق في تفسيره بإسناده إلى سعيد بن جبير قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: رأيتُ أشياء تختلف عليّ من القرآن! فقال ابن عباس: ما هو؟ أشكّ؟! قال: ليس بشكٍّ، ولكنّه اختلاف! قال: هات ما اختلفَ عليك من ذلك، فجَعل الرجل يَذكر مواردَ الاختلاف حسب زعمه ويُجيبه ابن عباس تِباعاً، على ما سنورده (٣) .

وحتّى أنّهم زَعموا أنّ ابن عباس توقّف عن الإجابة في بعض هذه الموارد. روى أبو عبيدة بإسناده عن أبي مليكة قال: سأل رجل ابن عباس عن قوله تعالى: ( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ ) (٤) وقوله: ( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) (٥) فقال ابن عباس: هما يَومان ذَكَرَهما الله تعالى في كتابه! ألله أعلم بهما! (٦) .

لكن ابن عباس قد أجاب عن ذلك إجابةً إجماليّة، وأنّهما يَومان لا يوم واحد؛ ليكون قد عبّر عنهما باختلاف المِقدار، ولعلّه لم يهتدِ إلى تعيين أحدهما عن الآخر وسنذكر تفصيل البيان فيه.

ويظهر من أحاديث صَدرت عن أَئمة السلف أنّ حديث التناقض في آي القرآن كان مُتفشّياً ذلك العهد؛ ومِن ثَمّ ورد ذمّه والذبّ عن سلامة القرآن على لسان الأئمة (عليهم السلام) قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في ذمّ اختلاف العلماء في الفُتيا:

____________________

(١) راجع: كتاب التوحيد، للصدوق، ص ٢٥٥، رقم ٥، باب الردّ على الثنوية والزنادقة، وأورده المجلسي في كتاب القرآن من البحار، ج ٩٠، ص ١٢٧ - ١٤٢.

(٢) راجع: الاحتجاج للطبرسي، ج ١، ص ٣٥٨ - ٣٥٩؛ وأورده المجلسي في البحار، ج ٩٠، ص ٩٨ - ١٢٧.

(٣) راجع: الإتقان، ج ٣، ص ٧٩، النوع ٤٨.

(٤) السجدة ٣٢: ٥.

(٥) المعارج ٧٠: ٤.

(٦) الإتقان، ج ٣، ص ٨٣.

٢٤٥

(والله سبحانه يقول ( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ) (١) وفيه تبيان لكلّ شيء، وذكر أنّ الكتاب يصدّق بعضه بعضاً، وأنّه لا اختلاف فيه...) (٢) .

وروى الصدوق بإسناده إلى الإمام أبي عبد اللّه الصادق عن أبيه أبي جعفر الباقر(عليهما السلام) قال: (ما ضَرَبَ رجلٌ القرآن بعضه ببعضٍ إلاّ كفر) (٣) .

ولأبي علي مُحمّد بن المستنير البصري المشتهر بقطرب (ت٢٠٦) - النحوي اللغوي الأديب البارع تلميذ سيبويه ومِن أصحاب الإمام الصادق والرواة عنه - كتاب أفرده بالتصنيف في مُوهم الاختلاف والتناقض في آيات الحكيم.

قال الزركشي: وقد رأيت لقطرب في ذلك تصنيفاً حسناً، جَمَعه على السوَر (٤) ، وكتابه هو المـُسمّى بالردّ على المـُلحدينَ في تشابه القرآن، ذكره القفطي (٥) .

وهكذا في منتصف القرن الثالث أيّام الإمام أبي مُحمّد الحسن بن علي العسكري (عليه السلام) (٢٦٠) نجد فليسوف العراق ابن إسحاق الكندي (٦) قام بتأليف رسالة يَجمع فيها تناقض القرآن، لولا أنّ الإمام العسكري قام في وجهه وأفحم حجّته فتركها.

روى أبو القاسم الكوفي (٧) في كتابه (التبديل) أنّ ابن إسحاق الكندي أخذ في تأليف تناقض القرآن وشَغَل نفسه وتفرّد به في منزله، وأنّ بعض تلامذته دخل يوماً على الإمام الحسن العسكري، فقال له أبو مُحمّد: (أَما فيكم رجل رشيد يَردع أُستاذكم الكندي

____________________

(١) الأنعام ٦: ٣٨.

(٢) نهج البلاغة، الخطبة ١٨، ص٦١.

(٣) معاني الأخبار، ص١٨٣، طبعة النجف الأشرف.

(٤) راجع: البرهان، ج٢، ص٤٥، والإتقان، ج٣، ص٧٩.

(٥) انظر: إنباء الرواة، ج٣، ص٢١٩.

(٦) هو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق من وُلد مُحمّد بن الأشعث بن قيس الكندي فيلسوف العرب في وقته (١٨٣ - ٢٦٠) كان رأساً في حِكمة الأوائل ومنطق اليونان والهيئة والنجوم والطبّ وغير ذلك، وكان له باع أطول في الهندسة والموسيقى، وكان مُتّهَماً في دينه، قال له أصحابه: لو عَمِلت لنا مثل القرآن، فأجابهم على ذلك، فغاب عنهم أيّاماً ثمّ خرج إليهم وأذعن بالعجز، قال: واللّه لا يقدر على ذلك أحد، قال الذهبي: وكان مُتّهماً في دينه، بخيلاً، ساقط المروءة، وله نظم جيّد وبلاغة وتلامذة، همَّ بأنْ يعمل شيئاً مثل القرآن فبعد أيام أذعن بالعجز.

راجع سير أعلام النبلاء للذهبي، ج١٢، ص٣٣٧، ولسان الميزان لابن حجر، ج٦، ص٣٠٥، ودائرة المعارف للقرن العشرين لمـُحمّد فريد وجدي، ج١٠، ص٩٤٤ - ٩٥٣، والمـُنجد في الأعلام، ص٥٩٥.

(٧) هو أبو القاسم فرات بن إبراهيم بن فرات الكوفي صاحب كتاب تفسير فرات، كان من أعلام الغيبة الصغرى (٢٦٠ - ٣٢٩)، وفي النُسخة إسقاط (ابن) فصحّحناها بدلائل القرائن.

٢٤٦

عمّا أخذ فيه مِن تشاغله بالقرآن؟! فقال التلميذ: نحن من تلامذته، كيف يجوز منّا الاعتراض عليه في هذا أو في غيره؟! فقال له أبو مُحمّد: أتؤدّي إليه ما أُلقيه عليك؟ قال: نعم، قال: فَصِر إليه وتلطّف في مؤانسته ومعونته على ما هو بسبيله، فإذا وقعت الاُنسة في ذلك فقل له: قد حضرتني مسألةٌ أسألك عنها؟ فإنّه يَستدعي ذلك منك، فقل له: إن أتاك هذا المـُتكلّم بهذا القرآن، هل يجوز أنْ يكون مراده بما تكلّم منه غير المعاني التي قد ظننت أنّك ذهبت إليها؟ فإنّه سيقول لك: إنّه من الجائز، لأنّه رجل يفهم إذا سمع، فإذا أوجب ذلك فقل له: فما يدريك لعلّه قد أراد غير الذي ذهبت أنت إليه فتكون واضعاً لغير معانيه، فصَار الرجل إلى الكندي وتلطّف إلى أنْ ألقى عليه هذه المسألة، فقال له الكندي: أعد عليَّ، فأعاد عليه، فتفكّر في نفسه ورأى ذلك مُحتملاً في اللغة وسائغاً في النظر، فقال: أقسمت عليك إلاّ أخبرتني من أين لك؟ فقال: إنّه شيء عرض بقلبي فأوردته عليك، فقال: كلاّ، ما مِثلك مَن اهتدى إلى مثل هذا، ولا ممّن بلغ هذه المنزلة، فعرّفني من أين لك هذا؟ فقال: أمرني به أبو مُحمّد، فقال: الآن جئت به، وما كان ليخرج مثل هذا إلاّ من ذلك البيت، ثمُّ إنّه دعا بالنّار وأحرق جميع ما كان ألّفه في ذلك (١) .

ولابن قتيبة (٢١٣ - ٢٧٦) كلامٌ مسهبٌ في الردّ على الطاعنينَ في القرآن على جهة زعم الاختلاف تعرّض له في كتابه الشهير (تأويل مشكل القرآن) في شرحٍ وتفصيل.

وللشريف الرضي (٣٥٩ - ٤٠٦) بحثٌ لطيفٌ في ذلك عنونه باسم (حقائق التأويل في متشابه التنزيل).

وهكذا القاضي عبد الجبّار المعتزلي (ت٤١٥) فصّل الكلام في (تنزيه القرآن عن المطاعن).

ولقطب الدين الراوندي (ت٥٧٣) في كتابه (الخرائج والجرائح) باب عَقَده للردّ على مطاعن المخالفينَ في القرآن (٢) .

____________________

(١) المناقب لابن شهر آشوب، ج٤، ص٤٢٤، وأورده المجلسي في بحار الأنوار، ج٥٠، ص٣١١ في تأريخ حياة الإمام العسكري (عليه السلام).

(٢) الخرائج والجرائح لقطب الدين الراوندي، ج٣، ص١٠١٠.

٢٤٧

ولابن شهر آشوب المازندراني (ت٥٨٨) كتاب قيّم في (متشابهات القرآن ومختلفه).

ولمـُحمّد بن أبي بكر الرازي (ت ٦٦٦) رسالة شريفة أجابَ عن ألف ومئتي مسألة حول شبهات القرآن.

ولجلال الدين السيوطي (ت٩١١) في كتابه (الإتقان) - نوع ٤٨ - بحثٌ مستوفٍ عن مشكل القرآن ومُوهم الاختلاف والتناقض فيه.

وللمولى مُحمّد باقر المجلسي (١٠٣٧ - ١١١١) في موسوعته القيّمة (بحار الأنوار، ج٨٩، ص١٤١، وج٩٠، ص٩٨ - ١٤٢) استيعاب شامل لسفاسف أهل الزيغ والباطل حول القرآن الكريم، والردّ عليها فيما ورد في كلام المعصومين والعلماء الأعلام، جزاه اللّه عن الإسلام والقرآن خيراً.

وأخيراً، قام الأُستاذ الشيخ خليل ياسين بتأليف كتاب يحتوى على ١٦٠٠ سؤال وجواب حول مشكل القرآن، أَسماه (أضواء على متشابهات القرآن).

وللعلاّمة الأُستاذ الشيخ جعفر السبحاني تأليفٌ لطيفٌ في التفسير الصحيح لمشكل آيات القرآن الحكيم.

تلك مواقف مشهودة في الدفاع عن قُدسية القرآن الكريم قام بها جهابذة الفنّ والعمدة من العلماء الأعلام، شكر اللّه مساعيهم وأجزل لهم المثوبة وحسن مآب.

السلامة من الاختلاف إعجاز!

وقد أخذه تعالى دليلاً على كون القرآن وَحياً من السماء وليس من صُنع البشر؛ وإلاّ لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً.

ذلك أنّ طبيعة مثل القرآن - وقد نَزل تدريجاً طوال عشرين عاماً في مناسبات مختلفة وفترات متفاوتة ثُمّ جُمع في مكان - أن يقع فيه بعض الاختلاف، لو كان من عند غير اللّه...؛ حيث يَعسر الضبط على البشر في مِثل تلك المـُدّة الطويلة في مثل القرآن

٢٤٨

المتناثر آيه طول سنين، وربّما يختلف النظر لو كان صادراً من إنسان، وهو آخذ في التكامل طول هذه المدّة، فطبيعي أنْ يقع فيه اختلاف، لكن عدم الاختلاف دليلٌ قاطع على أنّه مِن عليمٍ خبير، هو محيط بعلمه ولا يَعزب عن علمه شيء، كما لا يتجدّد له رأي أو يبدو له نظر غير رأيه القديم.

وللعلاّمة السيّد هبة الدين الشهرستاني هنا كلامٌ غريب، قال: إنّ جماعةً مِن المفسّرين قد التبس عليهم أمر المانع بالسبب، فعدّوا سلامة القرآن من التنافي والتنافر، من وجوه إعجازه، في حين أنّ وجود التنافي والتنافر من موانع الإعجاز، وليس انعدامهما والسلامة منهما من أسباب الإعجاز (١) .

ولعلّه رحمه اللّه عدّ السلامة من الاختلاف أمراً عدمياً، فجعل التنافي والتنافر - وهما أمران وجوديّان - من المانع، في حين أنّ السلامة هنا بمعنى الائتلاف وحُسن الوِفاق والمؤكّد للانسجام بين آياته وتعابيره في كافّة السور مكيّتها ومدنيّتها بوئامٍ وانسجام.

الأسباب المـُوهِمة للاختلاف

ذكر الإمام بدر الدِّين الزركشي للاختلاف أسباباً:

الأوّل: وقوع المـُخبَر به على أحوال مختلفة وتطويرات شتّى، كقوله تعالى في خَلق آدم مرّةً: ( خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ) (٢) ، وأُخرى: ( مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ) (٣) ، وثالثة ( مِنْ طِينٍ لازِبٍ ) (٤) ، ورابعة: ( مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ ) (٥) .

وهذه الألفاظ مُختلفة ومعانيها في أحوال مختلفة؛ لأنّ الصلصال غير الحمأ، والحمأ غير التراب، إلاّ أنّ مرجعها كلّها إلى جوهر وهو التراب، ومِن التراب تدرّجت هذه الأحوال.

____________________

(١) المعجزة الخالدة للشهرستاني، ص٤٢.

(٢) آل عمران ٣: ٥٩.

(٣) الحجر ١٥: ٢٦.

(٤) الصافّات ٣٧: ١١.

(٥) الرحمان ٥٥: ١٤.

٢٤٩

ومنه قوله تعالى: ( فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ) (١) ، وفي موضع ( تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ ) (٢) ، والجانّ الصغير من الحيّات، كان ذلك في ابتداء بعثته (عليه السلام) والثعبان الكبير منها، وكان ذلك لمـّا ألقى عصاه تجاه فرعون وقومه، فاختلف الأحوال.

السبب الثاني: لاختلاف الموضوع، كقوله تعالى: ( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ ) (٣) ، وقوله: ( فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ) (٤) ، مع قوله ( فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ ) (٥) .

قال الحليمي: فتُحمل الآية الأُولى على السؤال عن التوحيد وتصديق الرسل، والآية الأخيرة على ما يَستلزم الإقرار بالنبوّات من شرايع الدِّين وفروعه، وحَمَله غيره على اختلاف الأماكن (أي المواقف على ما أوضحناه) فمَوضع يَسأل ويُناقش، وموضع آخر يَرحم ويَلطف، وموضع يُعنّف ويُوبّخ، وموضع لا يُعنّف...

الثالث: لاختلافهما في جهتَي الفعل، كقوله تعالى: ( فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ ) (٦) ، أُضيف القتل إليهم على جهة المباشرة، ونفاه عنهم باعتبار التأثير؛ ولهذا قالوا: إنّ الأفعال مخلوقة للّه تعالى وإن كان منتسبةً إلى الآدميّين على جهة الإرادة والاختيار، فنفي الفعل بإحدى الجهتين لا يعارضه إثباته بالجهة الأخرى.

وكذا قوله: ( وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ) (٧) أي ما رَمَيت تأثيراً إذ رميت مباشرةً.

الرابع: لاختلافهما في الحقيقة والمجاز، كقوله: ( وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى ) (٨) أي سُكارى من الأهوال مجازاً، لا من الشراب حقيقة، وقوله: ( وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ ) (٩) ، فقد وافته المنيّة فكان كالأموات وإن لم يمت حقيقةً.

____________________

(١) الشعرا ٢٦: ٣٢.

(٢) القصص ٢٨: ٣١.

(٣) الصافّات ٣٧: ٢٤.

(٤) الأعراف ٧: ٦.

(٥) الرحمان ٥٥: ٣٩.

(٦) الأنفال ٨: ١٧.

(٧) الأنفال ٨: ١٧.

(٨) الحجّ ٢٢: ٢.

(٩) إبراهيم ١٤: ١٧.

٢٥٠

ومثله في الاعتبارَين قوله: ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ) (١) ، وقوله: ( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ ) (٢) ، وقوله: ( وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ) (٣) .

الخامس: بوجهَين واعتبارَين، وهو الجامع للمفترقات، كقوله: ( فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) (٤) ، ( خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ ) (٥) .

قال قطرب: (فبصرك) أي عِلمـُك ومعرفتك بها قوية، مِن قولهم: (بَصُر بكذا وكذا) أي عِلم، وليس المراد رؤية العين.

قال الفارسي: ويدلّ على ذلك قوله ( فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ ) .

وكقوله تعالى: ( وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ) (٦) ، مع قوله: ( فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى ) (٧) ، فيجوز أن يكون قد اعتقد من نفسه أنّه الربّ الأعلى وسائر الآلهة تحته ومُلكاً له.

وقوله تعالى: ( الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ ) (٨) ، مع قوله: ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ) (٩) ، فقد يُظنّ أنّ الوَجَل خلاف الطمأنينة، وجوابه: أنّ الطمأنينة إنّما تكون بانشراح الصدر بمعرفة التوحيد، والوَجَل يكون عند خوف الزيغ والذهاب عن الهدى فتُوجل القلوب لذلك، وقد جمع بينهما في قوله ( تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ) (١٠) ، فإنّ هؤلاء قد سَكَنت نفوسهم إلى معتقدهم ووثِقوا به، فانتفى عنهم الشكّ (١١) .

وبعد فإليك مواضع من القرآن زعموا فيها اختلافاً:

____________________

(١) البقرة ٢: ٨.

(٢) الأنفال ٨: ٢١.

(٣) الأعراف ٧: ١٩٨.

(٤) ق ٥٠: ٢٢.

(٥) الشورى ٤٢: ٤٥.

(٦) الأعراف ٧: ١٢٧.

(٧) النازعات ٧٩: ٢٤.

(٨) الرعد ١٣: ٢٨.

(٩) الأنفال ٨: ٢.

(١٠) الزمر ٣٩: ٢٣.

(١١) راجع: البرهان، ج٢، ص٥٤ - ٦٥ مع تصرّف وتلخيص.

٢٥١

( هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ)

سؤال:

قال تعالى: ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ) (١) .

وهذا عامّ، لكن وَرَد في كثير من الآيات ما يبدو منه التخصيص، كقوله تعالى: ( ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ) ، (٢) وقوله: ( وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ) (٣) ، وقوله: ( هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) (٤) ، قوله: ( وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) (٥) ، قوله:) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) (٦) وقوله: ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ) (٧) ، وقوله: ( تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ ) (٨) ، إلى غيرها مِن آيات تنمّ عن اختصاص هدى القرآن بفئات من الناس دون الجميع، فما وجه التوفيق؟

جواب:

هناك فَرق بين اللام للغاية كما في الآية الأُولى، ولام العاقبة وهي التي جاءت في سائر الآيات هنا.

لاشكّ أنّ القرآن نزل لغايةٍ هي هداية الناس أجمع، غير أنّ الذين ينفعهم وينتفعون به في عاقبة الأمر هم المتّقون المـُتعهِّدون في ذات أنفسهم، فكأنّهم هم الغاية دون أولئك الغوغاء من الناس الهمج غير المـُبالينَ ممّن يقضون حياتهم في غفلةٍ وعمهٍ وعماء.

قال تعالى: ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ) (٩) ، ( لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ ) (١٠) .

____________________

(١) البقرة ١: ١٨٥.

(٢) البقرة ٢: ٢.

(٣) المائدة ٥: ٤٦.

(٤) الأعراف ٧: ٢٠٣.

(٥) يوسف ١٢: ١١١.

(٦) الجاثية ٤٥: ٢٠.

(٧) النحل ١٦: ٨٩.

(٨) لقمان ٣١: ٢ و٣.

(٩) البقرة ٢: ١٢١.

(١٠) النساء ٤: ١٦٢.

٢٥٢

وقال: ( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) (١) ، ( كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) (٢) ، ( فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ) (٣) ، ( الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) (٤) .

ومِن ثَمّ فإنّ القرآن جاء بياناً للناس أجمع، غير أنّ الذين تقع بهم النصيحة هم المتّقون، كما قال تعالى ( هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ) (٥) .

( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)

سؤال:

قال تعالى: ( وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) (٦) .

وقال: ( وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) (٧) .

وقال: ( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ) (٨) .

وقال: ( وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلاّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاّ مَا سَعَى ) (٩) .

الأمر الذي يَرضيه العقل الرشيد وتقتضيه الحِكمة البالغة: (لا يُؤخذ الجار بذنب الجار)! ( كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) (١٠) ( لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ) (١١) ، ( لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ ) (١٢) .

لكن مع ذلك وَرَد ما يُناقضه ظاهراً في قوله تعالى: ( لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً

____________________

(١) الأنفال ٨: ٥٥.

(٢) يونس ١٠: ٣٣.

(٣) النحل ١٦: ٢٢.

(٤) الأنعام ٦: ١٢ و٢٠.

(٥) آل عمران ٣: ١٣٨.

(٦) الأنعام ٦: ١٦٤.

(٧) الإسراء ١٧: ١٥.

(٨) فاطر ٣٥: ١٨.

(٩) النجم ٥٣: ٣٧ - ٣٩.

(١٠) المدّثر ٧٤: ٣٧.

(١١) البقرة ٢: ٢٨٦.

(١٢) النور ٢٤: ١١.

٢٥٣

الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ) (١) .

كما أنّ التناقض بادٍ على ظاهر قوله تعالى: ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) (٢) .

فكيف التوفيق؟

جواب:

حَملُ الوِزر إنّما هو بتخفيف كاهِل صاحبه، فمَن يَحمل مِن أوزار أحد إنّما يُخفّف مِن ثِقل كاهله، هذا هو معنى حَملُ الوِزر، أمّا إذا لم يُخفِّف فلا تَحمُّل مِن الوزر شيئاً.

وصريح القرآن أنّ كل إنسان إنّما يتحمّل مسؤولية نفسه ولا يتحمّل مسؤولية غيره فيما عَمِل ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) (٣) .

لكن هناك في الدُعاة إلى حقّ أو باطل شأنٌ آخر، فهم شركاء فيما عَمِل المتأثِّرون بالدعوة، إنْ خيراً أو شرّاً، مثوبةً أو عقوبةً.

روى الصدوق بإسناده إلى الإمام أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: (أيّما عبدٍ مِن عباد اللّه سنّ سُنةَ هدىً كان له أجرٌ مثلُ أجر مَن عَمِل بذلك من غير أنْ ينقص من أُجورهم شيء، وأيّما عبدٍ من عباد اللّه سنّ سُنةَ ضلال كان عليه مثل وِزر مَن فعل ذلك من غير أنْ ينقص مِن أوزارهم شيء) (٤) .

قال رسول اللّه (صلّى اللّه وعليه وآله): (إذا ماتَ المؤمنُ انقطعَ عملُه إلاّ مِن ثلاث: صدقةٍ جارية، أو عِلمٍ يُنتفع به، أو ولدٍ صالح يدعو له) (٥) .

فلا يَحمل أحدٌ ذنبَ غيره، ولا يُخفّف عليه من وطئته، وإنْ كان يَشرُكُه فيما عَمِل وفيما يترتّب عليه من المثوبة أو الإثم من غير أنْ ينقصه شيئاً.

____________________

(١) النحل ١٦: ٢٥.

(٢) العنكبوت ٢٩: ١٢ و١٣.

(٣) المائدة ٥: ١٠٥.

(٤) ثواب الأعمال للصدوق، ص١٣٢.

(٥) عوالي اللآلي لابن أبي جمهور الإحسائي، ج٢، ص٥٣، رقم ١٣٩.

٢٥٤

فمعنى ( يَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ ) أنّهم يَحملون أثقالَ أنفسِهم مع أثقالٍ أُخر، وهي مِثل أوزار ما عَمِل التابعون وليست نفس أوزارهم، إذ لا ينقص مِن وزرِ الآثم شيء، وكلّ إنسانٍ رهينٌ بما اكتسب.

وكذا قوله: ( وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ ) أي مِن مِثل أوزارهم وليست نفس أوزارهم، إذ لكلّ امرئٍ ما اكتسب من الإثم، ولا مُوجب للتخفيف عنه مادام آثماً مَبغوضاً عليه.

( وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً)

سؤال:

قال تعالى: ( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ... ) (١) .

فقد جاء النهي صريحاً عن موادّة مَن حادّ اللّه ورسوله ولو كان أحد الوالدَينِ أو الأقربينَ، الأمر الذي يتنافى وترخيص مُصاحبة الوالدَينِ المشرِكَينِ مُصاحبةً بالمعروف في قوله تعالى: ( وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً ) (٢) .

جواب:

هناك فَرق بائن بين الموادّة التي هي عَقْدُ القلب على المحبّة والوِداد الذاتي وبين المصاحبة بالمعروف التي هي المـُداراة والمجاملة الظاهريّة في حُسن المعاشرة مع الوالدَينِ، وربّما كانت عن كراهةٍ في القلب، فمِن أدب الإسلام أن يأخذ الإنسان بحُرمة والدَيه وكذا سائر الأقربينَ وإنْ كان يُخالفهم في العقيدة.

فحُسن السلوك شيءٌ والرباط النفسي شيء آخر، فربّما لا رباط بين الإنسان وغيره نفسياً وإن كان يُداريه في حُسن المعاشرة أدباً إسلامياً إنسانياً شريفاً، وليس مع الأقرباء فحسب بل مع الناس أجمع، الأمر الذي يُؤكِّد عليه جانب تأليف القلوب مشروعاً عامّاً.

____________________

(١) المجادلة ٥٨: ٢٢.

(٢) لقمان ٣١: ١٥.

٢٥٥

( إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ)

سؤال:

قال تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ) (١) ، كيف يلتئم مع قوله: ( أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا ) ؟! (٢) .

جواب:

في الآية الثانية تقدير، أي أَمَرناهم بالصلاح والرَّشاد فَعَصوا وفَسَقوا عن أمر ربّهم، وهذا كما يقال: أَمَرتُه فعصى، أي أَمَرتُه بما يُوجب الطاعة لكنّه لم يُطِع وتمرّد عن امتثال الأمر وعن الطاعة.

وإليك الآية بكاملتها:

قال تعالى - بشأن الأُمَم الذين عُوقبوا بسُوء أعمالِهم -: ( وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً ) (٣) .

تلك سُنّة الله جَرت في الخَلق: أنْ لا عقوبة إلاّ بعد البيان، ولا مُؤاخذة إلاّ بعد إتمام الحجّة، ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (٤) ... ثُمّ جاءت تلك الآية ( وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ ) تفريعاً على هذه الآية؛ لتكون دليلاً على أنّ العقوبة إنّما تقع بعد البيان.

فمعنى الآية - على ذلك -: أنّ كلّ قرية إذا حقّ عليها العذاب فإنّما هو؛ بسبب طغيانهم وعصيانهم بعد البيان وبعد أَمرِهم بما يُسعدهم، لكنّهم بسوء اختيارهم شَقوا وعَصَوا، فجاءهم العذاب على أثر الطغيان والفُسوق والعصيان.

وإنّما ذَكَر المـُترفون بالخصوص؛ لأنّهم رأس الفساد والأُسوة التي تَقتدي بها العامّة في سوء تصرّفاتهم في الحياة.

قال الطبرسي - في أحد وجوه تفسير الآية -: إنّ معناه: وإذا أردنا أنْ نُهلك أهلَ قريةٍ - بعد قيام الحجّة عليهم وإرسال الرسل إليهم - أمرنا مترفيها أي رؤساءها وساداتها

____________________

(١) الأعراف ٧: ٢٨.

(٢) الإسراء ١٧: ١٦.

(٣) الإسراء ١٧: ١٦.

(٤) الإسراء ١٧: ١٥.

٢٥٦

بالطاعة واتّباع الرُسل، أمراً بعد أمرٍ، نكرّره عليهم، وبيّنة بعد بيّنة، نأتيهم بها إعذاراً للعُصاة وإنذاراً لهم وتوكيداً للحجّة، ففسقوا فيها بالمعاصي وأبَوا إلاّ تمادياً في العصيان والكفران.

قال: وإنّما خصّ المترفون وهم المـُنعَّمون والرؤساء بالذِكر؛ لأنّ غيرهم تَبَعٌ لهم، فيكون الأمر لهم أمراً لأَتباعِهم.

قال: وعلى هذا، فيكون قوله: (أمرنا مترفيها) جواباً لـ (إذا)، وإليه يؤول ما روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير: أنّ معناه: أمرناهم بالطاعة فعصوا وفسقوا، ومِثله: أمرتك فعصيتني، ويشهد بصحّة هذا التأويل الآية المتقدّمة عليها، وهي قوله: ( مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (١) .

أَلف سَنة أو خمسون أَلف سَنة

سؤال:

قال تعالى: ( يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ) (٢) ، وقال: ( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) (٣) .

ما هذا اليوم؟ وما مقداره، ألف سنة أو خمسون ألف سنة؟

جواب:

قال القمي في تفسير الآية الأُولى: يعني الأمور التي يُدبّرها والأمر والنهي الذي أَمر به وأعمال العباد، كلّ ذلك يَظهر يوم القيامة فيكون مقدار ذلك اليوم ألف سنة مِن سنيّ الدنيا (٤) .

وروى الكليني في الكافي عن الإمام الصادق (عليه السلام): (إنّ للقيامة خمسين موقفاً، كلّ موقف مقام ألف سنة) ثم تلا الآية الثانية (٥) .

____________________

(١) مجمع البيان، ج ٦، ص ٤٠٦.

(٢) السجدة ٣٢: ٥.

(٣) المعارج ٧٠: ٤.

(٤) تفسير القمي، ج ٢، ص ١٦٨.

(٥) تفسير الصافي، ج ٢، ص ٧٤٣.

٢٥٧

إذن، فلا مُنافاة بين الآيتين، فإنّ أعمال العباد وكلّ شؤون الحياة الدنيا بما فيها مِن تدابير إلهية وأَمر ونهي وتشريع وما عَمِل العباد من خير وشرّ فإنّها تظهر يوم القيامة في أَوّل موقف من مواقفها، ومِقدارُه ألف سنة ممّا يَعُدّون، أمّا كل شؤون الحياة في عالم الوجود فإنّها تظهر في طول أمد القيامة ومِقدارُه خمسون ألف سنة حسب مواقفِها الخمسين.

وبذلك صحّ المأثور عن ابن عباس: أنّهما يومان من أيام الله، أي بُرهتان من الزمان بُرهة أُولى في ألف سنة، وبُرهة أُخرى شاملة في خمسين ألف سنة (١) .

( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ)

سؤال:

قال تعالى: ( قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْن ِ . .. وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ... ) (٢) .

وقال: ( أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا... وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ) (٣) .

وقال: ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) (٤) ، وقد تكرّر ذلك في سبعِ مواضع مِن القرآن.

والسؤال هنا من وجهين:

الأوّل: دلّت الآية الأُولى على أنّ الأرض خُلقت قَبل السماء، في حين أنّ الآية الثانية نصّت على أنّ الأرض بعد ذلك دَحاها.

الثاني: ظاهر دلالة الآية الأُولى هو أنّ خِلقة السماوات والأرض وما فيها وقعت في ثمانية أيّام، في حين أنّ الآية الأخيرة ونظيراتها دلّت على وقوع ذلك في ستّة أيّام، فكيف التوافق؟

____________________

(١) الإتقان، ج ٣، ص ٨٣.

(٢) فصّلت ٤١: ٩ - ١٢.

(٣) النازعات ٧٩: ٢٧ - ٣٠.

(٤) السجدة ٣٢: ٤.

٢٥٨

جواب:

دلّت الآية على أنّ الأرض ذاتها خُلقت قَبل السماء وإنْ كان دَحوها أي بسطها وتسطيح قِشرتها قد تأخّر بعد ذلك بأيّام.

وهذه الأيّام هي من أيّام الله التي يَعلم هو مَداها، وليست مِن أيّام الناس، وقد خُلقت الأرض في يومَين، وجعل فيها الرواسي وقدّر فهيا الأقوات أيضاً في يومَين، فهذه أربعة أيّام، تمّت بها خِلقة الأرض وما فيه من جبالٍ وأرزاقٍ وبركات، ثُمّ استوى إلى السماء فخلقهنّ في يومَين، فتلك ستة أيام على ما جاء في آيات أُخرى.

وهذا كما يُقال: سرتُ من البصرة إلى الكوفة في يومَين، وإلى بغداد في أربعة أيّام، أي من البصرة إلى بغداد، باندراج اليومَين اللذين سار فيهما إلى الكوفة.

وهناك تفسير آخر للآية لعلّه أدقّ، يَجعل الأربعة الأيام ظرفاً لتقدير الأقوات إشارةً إلى فصول السَّنة الأربعة، حيث فيها تتقدّر أرزاق الخلائق والأنعام والبهائم والدوابّ، ذَكَره عليّ بن إبراهيم القمي في تفسيره للآية، قال: يعني في أربعة أوقات، وهي التي يُخرج الله فيها أقوات العالم من الناس والبهائم والطير وحشرات الأرض، وما في البرّ والبحر مِن الخَلق والثمار والنبات والشجر، وما يكون فيه مَعاش الحيوان كلّه، وهو الربيع والصيف والخريف والشتاء... ثُمّ جَعَل يَذكر كيفية تقدير هذه الأقوات في كلٍّ من هذه الفصول (١) .

وقد ارتضاه العلاّمة الطباطبائي واعتمده في تفسيره (٢) .

فمعنى الآية - على ذلك -: أنّ الله خَلق الأرض في دورتَين، وجعل فيها رواسي وبارك فيها، وقدّر أقواتها حسب فصول السنة، وهكذا قضى السماوات سبعاً في دورتَين، فهذه أربعة أدوار ذَكَرَتهُنّ الآية: دورتان لخِلقة الأرض، ودورتان لجعل السماوات سبعاً، وبقيت دورتان لخِلقة أصل السماء وما بينها و بين الأرض من أجرام كانت الآية ساكتةً عنهما؛ ومِن ثَمّ فهي لا تتنافى وآيات أُخرى ذَكَرنَ ستة أدوار لخِلقة الأرض والسماء وما بينهما.

____________________

(١) تفسير القمي، ج٢، ص٢٦٢.

(٢) الميزان، ج١٧، ص٣٨٧.

٢٥٩

تساؤل بعضهم بعضاً

سؤال:

قال تعالى: ( فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ ) (١) .

وقال: ( وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ) (٢) .

وقال: ( فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ ) (٣) .

وقال: ( وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ * فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ ) (٤) .

وقال: ( يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ * وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ) (٥) .

هذا مع قوله: ( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ ) (٦) .

وقوله: ( فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ) (٧) .

وقوله: ( فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (٨) .

وقوله: ( وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ * قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) (٩) .

وقوله: ( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاّ سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ) (١٠) .

فهل يُسألون عن ذنبٍ أو لا يُسألون؟ وهل يَتساءلون فيما بينهم ويتعارفون أم لا يَتساءلون؟ فكيف التوفيق؟!

جواب:

هناك في الوَقفة الأُولى يوم الحشر تكون الوَقعة شديدة ( يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ

____________________

(١) الرحمان ٥٥: ٣٩.

(٢) القصص ٢٨: ٧٨.

(٣) المؤمنون ٢٣: ١٠١.

(٤) القصص ٢٨: ٦٥ و٦٦.

(٥) المعارج ٧٠: ٨ - ١٠.

(٦) الصافّات ٣٧: ٢٤.

(٧) الأعراف ٧: ٦.

(٨) الحجر ١٥: ٩٢ و٩٣.

(٩) الصافّات ٣٧: ٢٧ - ٢٩.

(١٠) يونس ١٠: ٤٥.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578