شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم10%

شبهات وردود حول القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 578

شبهات وردود حول القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 578 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 297460 / تحميل: 13674
الحجم الحجم الحجم
شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

مطاه أي ظهره، و المراد بتمطّيه في ذهابه التبختر و الاختيال استعارة.

و المعنى: فلم يصدّق هذا الإنسان الدعوة فيما فيها من الاعتقاد و لم يصلّ لربّه أي لم يتّبعها فيما فيها من الفروع و ركنها الصلاة و لكن كذّب بها و تولّى عنها ثمّ ذهب إلى أهله يتبختر و يختال مستكبراً.

قوله تعالى: ( أَوْلى‏ لَكَ فَأَوْلى‏ ثُمَّ أَوْلى‏ لَكَ فَأَوْلى‏ ) لا ريب أنّه كلمة تهديد كرّرت لتأكيد التهديد، و لا يبعد - و الله أعلم - أن يكون قوله:( أَوْلى‏ لَكَ ) خبراً لمبتدإ محذوف هو ضمير عائد إلى ما ذكر من حال هذا الإنسان و هو أنّه لم يصدّق و لم يصلّ و لكن كذّب و تولّى ثمّ ذهب إلى أهله متبختراً مختالاً، و إثبات ما هو فيه من الحال له كناية عن إثبات ما هو لازمه من التبعة و العقاب.

فيكون الكلام و هي كلمة ملقاة من الله تعالى إلى هذا الإنسان كلمة طبع طبع الله بها على قلبه حرم بها الإيمان و التقوى و كتب عليه أنّه من أصحاب النار، و الآيتان تشبهان بوجه قوله تعالى:( فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَ ذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى‏ لَهُمْ ) سورة محمّد: 20.

و المعنى: ما أنت عليه من الحال أولى و أرجح لك فأولى ثمّ أولى لك فأولى لتذوق وبال أمرك و يأخذك ما اُعدّ لك من العذاب.

و قيل: أولى لك اسم فعل مبنيّ و معناه وليك شرّ بعد شرّ.

و قيل: أولى فعل ماض دعائيّ من الولي بمعنى القرب و فاعل الفعل ضمير مستتر عائد إلى الهلاك و اللّام مزيدة و المعنى أولاك الهلاك.

و قيل: الفاعل ضمير مستتر راجع إليه تعالى و اللّام مزيدة، و المعنى أولاك الله ما تكرهه، أو غير مزيدة و المعنى أدناك الله ممّا تكرهه.

و قيل: معناه الذمّ أولى لك من تركه إلّا أنّه حذف و كثر في الكلام حتّى صار بمنزلة الويل لك و صار من المحذوف الّذي لا يجوز إظهاره.

٢٠١

و قيل: المعنى أهلكك الله هلاكاً أقرب لك من كلّ شرّ و هلاك.

و قيل: أولى أفعل تفضيل بمعنى الأحرى، و خبر لمبتدإ محذوف يقدّر كما يليق بمقامه فالتقدير هنا النار أولى لك أي أنت أحقّ بها و أهل لها فأولى.

و هي وجوه ضعيفة لا تخلو من تكلّف و الوجه الأخير قريب ممّا قدّمنا و ليس به.

قوله تعالى: ( أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً ) مختتم فيه رجوع إلى ما في مفتتح السورة من قوله:( أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ ) .

و الاستفهام للتوبيخ، و السدي المهمل، و المعنى أ يظنّ الإنسان أن يترك مهملاً لا يعتنى به فلا يبعث بإحيائه بعد الموت و لازمه أن لا يكلّف و لا يجزى.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى‏ ) اسم كان ضمير راجع إلى الإنسان، و إمناء المنيّ صبّه في الرحم.

قوله تعالى: ( ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ) أي ثمّ كان الإنسان - أو المنيّ - قطعة من دم منعقد فقدّره فصوّره بالتعديل و التكميل.

قوله تعالى: ( فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى) أي فجعل من الإنسان الصنفين: الذكر و الاُنثى.

قوله تعالى: ( أَ لَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى‏ أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى‏ ) احتجاج على البعث الّذي ينكرونه استبعاداً له بعموم القدرة و ثبوتها على الخلق الابتدائيّ و الإعادة لا تزيد على الابتداء مئونة بل هي أهون، و قد تقدّم الكلام في تقريب هذه الحجّة في تفسير الآيات المتعرّضة لها مراراً.

٢٠٢

( بحث روائي‏)

في الدرّ المنثور، أخرج الطيالسيّ و أحمد و عبد بن حميد و البخاريّ و مسلم و الترمذي و النسائيّ و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن الأنباريّ في المصاحف و الطبرانيّ و ابن مردويه و أبو نعيم و البيهقيّ معاً في الدلائل عن ابن عبّاس قال: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعالج من التنزيل شدّة، و كان يحرّك به لسانه و شفتيه مخافة أن ينفلت منه يريد أن يحفظه فأنزل الله( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ‏ ) قال: إنّ علينا أن نجمعه في صدرك ثمّ نقرأه( فَإِذا قَرَأْناهُ‏ ) يقول: إذا أنزلناه عليك( فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ‏ ) فاستمع له و أنصت( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ) بيّنه( نبيّنه ظ) بلسانك، و في لفظ علينا أن نقرأه فكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل أطرق - و في لفظ استمع - فإذا ذهب قرأ كما وعده الله.

و فيه، أخرج ابن المنذر و ابن مردويه عن ابن عبّاس قال: كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا اُنزل عليه القرآن تعجّل بقراءته ليحفظه فنزلت هذه الآية( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ‏ ) .

و كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يعلم ختم سورة حتّى ينزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم.

أقول: و روي ما في معنى صدر الحديث في المجمع، عن ابن جبير و في معناه غير واحد من الروايات، و قد تقدّم أنّ في انطباق هذا المعنى على الآيات خفاء.

و في تفسير القمّيّ قوله تعالى:( كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ ) قال: الدنيا الحاضرة( وَ تَذَرُونَ الْآخِرَةَ ) قال: تدعون( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ ) أي مشرقة( إِلى‏ رَبِّها ناظِرَةٌ ) قال: ينظرون إلى وجه الله أي رحمة الله و نعمته.

و في العيون، في باب ما جاء عن الرضاعليه‌السلام من أخبار التوحيد بإسناده إلى إبراهيم بن أبي محمود قال: قال عليّ بن موسى الرضاعليه‌السلام : في قوله تعالى:( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ

٢٠٣

ناضِرَةٌ إِلى‏ رَبِّها ناظِرَةٌ ) يعني مشرقة تنتظر ثواب ربّها.

أقول: و رواه في التوحيد، و الاحتجاج، و المجمع، عن عليّعليه‌السلام ، و قد اعترض على أخذ ناظرة بمعنى منتظرة بأنّ الانتظار لا يتعدّى بإلى بل هو متعدّ بنفسه، و ردّ عليه في مجمع البيان بالاستشهاد بقول جميل بن معمر:

و إذا نظرت إليك من ملك

و البحر دونك جدتني نعما

و قول الآخر:

إنّي إليك لما وعدت لناظر

نظر الفقير إلى الغني الموسر

و عدّ في الكشّاف إطلاق النظر في الآية بمعنى الانتظار استعمالاً كنائيّاً و هو معنى حسن.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و الترمذي و ابن جرير و ابن المنذر و الآجريّ في الشريعة و الدارقطنيّ في الرؤية و الحاكم و ابن مردويه و اللالكائيّ في السنّة و البيهقيّ عن ابن عمر قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ أدنى أهل الجنّة منزلاً لمن ينظر إلى جنانه و أزواجه و نعيمه و خدمه و سرره مسيرة ألف سنة و أكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة و عشيّة.

ثمّ قرأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ ) قال: البياض و الصفاء( إِلى‏ رَبِّها ناظِرَةٌ ) قال: ينظر كلّ يوم في وجهه.

أقول: الرواية تقبل الانطباق على المعنى الّذي أوردناه في تفسير الآية، و مع الغضّ عنه تقبل الحمل على رحمته و فضله و كرمه تعالى و سائر صفاته الفعليّة فإنّ وجه الشي‏ء ما يستقبل به الشي‏ء غيره و ما يستقبل به الله سبحانه خلقه هو صفاته الكريمة فالنظر إلى رحمة الله و فضله و كرمه و صفاته الكريمة نظر إلى وجه الله الكريم.

و فيه، أخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في قول الله:( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى‏ رَبِّها ناظِرَةٌ ) قال: ينظرون إلى ربّهم بلا كيفيّة و لا حدّ محدود و لا صفة معلومة.

أقول: و الرواية تؤيّد ما قدّمنا في تفسير الآية أنّ المراد به النظر القلبيّ

٢٠٤

و رؤية القلب دون العين الحسّيّة، و هي تفسّر ما ورد في عدّة روايات من طرق أهل السنّة ممّا ظاهره التشبيه و أنّ الرؤية بالعين الحسّيّة الّتي لا تفارق المحدوديّة.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ ) قال: يعني النفس إذا بلغت الترقوة( وَ قِيلَ مَنْ راقٍ‏ ) قال: يقال له: من يرقيك( وَ ظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ ) علم أنّه الفراق‏.

و في الكافي، بإسناده إلى جابر عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: سألته عن قول الله عزّوجلّ:( وَ قِيلَ مَنْ راقٍ وَ ظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ‏ ) قال: فإنّ ذلك ابن آدم إذا حلّ به الموت قال: هل من طبيب( وَ ظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ ) أيقن بمفارقة الأحبّة( وَ الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ) قال: التفت الدنيا بالآخرة( إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ ) قال: المسير إلى ربّ العالمين.

و في تفسير القمّيّ:( وَ الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ) قال: التفّت الدنيا بالآخرة( إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ ) قال: يساقون إلى الله.

و في العيون، بإسناده عن عبدالعظيم الحسنيّ قال، سألت محمّد بن عليّ الرضاعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( أَوْلى‏ لَكَ فَأَوْلى‏ ثُمَّ أَوْلى‏ لَكَ فَأَوْلى) قال: يقول الله عزّوجلّ بعداً لك من خير الدنيا و بعداً لك من خير الآخرة.

أقول: يمكن إرجاعه إلى ما قدّمناه من معنى الآيتين، و كذا إلى بعض ما قيل فيه.

و في المجمع، و جاءت الرواية: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذ بيد أبي جهل ثمّ قال له: أولى لك فأولى ثمّ أولى لك فأولى. فقال أبوجهل: بأيّ شي‏ء تهدّدني لا تستطيع أنت و ربّك أن تفعلاً بي شيئاً، و إنّي لأعزّ أهل هذا الوادي، فأنزل الله سبحانه كما قال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

أقول: و روي ما في معناه في الدرّ المنثور، عن عدّة عن قتادة قال: ذكر لنا و ساق الحديث.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً ) قال:

٢٠٥

لا يحاسب و لا يعذّب و لا يسأل عن شي‏ء.

و في العلل، بإسناده إلى مسعدة بن زياد قال: قال رجل لجعفر بن محمّدعليه‌السلام ، يا أباعبدالله إنّا خلقنا للعجب قال: و ما ذلك لله أنت؟ قال: خلقنا للفناء فقال يا ابن أخ خلقنا للبقاء، و كيف يفنى جنّة لا تبيد و نار لا تخمد؟ و لكن قل: إنّما نتحوّل من دار إلى دار.

و في المجمع، و جاء في الحديث عن البراء عن عازب قال: لمّا نزلت هذه الآية( أَ لَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى‏ أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سبحانك اللّهمّ و بلى: و روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهم‌السلام .

أقول: و روي في الدرّ المنثور، عن أبي هريرة و غيره: أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا قرأ الآية قال: سبحانك اللّهمّ و بلى‏، و كذا في العيون، عن الرضاعليه‌السلام : أنّه كان إذا قرأ السورة قال عند الفراغ سبحانك اللّهمّ بلى.

٢٠٦

( سورة الدهر مدنيّة و هي إحدى و ثلاثون آية)

( سورة الإنسان الآيات 1 - 22)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا ( 1 ) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ( 2 ) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ( 3 ) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا ( 4 ) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا ( 5 ) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا ( 6 ) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا ( 7 ) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ( 8 ) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ( 9 ) إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ( 10 ) فَوَقَاهُمُ اللهُ شَرَّ ذَٰلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا ( 11 ) وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ( 12 ) مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا ( 13 ) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا ( 14 ) وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا ( 15 ) قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا ( 16 ) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا ( 17 ) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّىٰ سَلْسَبِيلًا ( 18 ) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا ( 19 ) وَإِذَا

٢٠٧

رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا ( 20 ) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا ( 21 ) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا ( 22 )

( بيان‏)

تذكر السورة خلق الإنسان بعد ما لم يكن شيئاً مذكوراً ثمّ هدايته السبيل إمّا شاكراً و إمّا كفوراً و أنّ الله اعتد للكافرين أنواع العذاب و للأبرار ألوان النعم - و قد فصّل القول في وصف نعيمهم في ثمان عشرة آية و هو الدليل على أنّه المقصود بالبيان -.

ثمّ تذكر مخاطباً للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ القرآن تنزيل منه تعالى عليه و تذكرة فليصبر لحكم ربّه و لا يتّبع الناس في أهوائهم و ليذكر اسم ربّه بكرة و عشيّاً و ليسجد له من الليل و ليسبّحه ليلاً طويلاً.

و السورة مدنيّة بتمامها أو صدرها - و هي اثنتان و عشرون آية من أوّلها - مدنيّ، و ذيلها - و هي تسع آيات من آخرها - مكّيّ و قد أطبقت روايات أهل البيتعليهم‌السلام على كونها مدنيّة، و استفاضت بذلك روايات أهل السنّة.

و قيل بكونها مكّيّة بتمامها، و سيوافيك تفصيل القول في ذلك في البحث الروائيّ التالي إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ( هَلْ أَتى‏ عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ) الاستفهام للتقرير فيفيد ثبوت معنى الجملة و تحقّقه أي قد أتى على الإنسان إلخ و لعلّ هذا مراد من قال من قدماء المفسّرين: إنّ( هَلْ ) في الآية بمعنى قد، لا على أنّ ذلك أحد معاني( هل ) كما ذكره بعضهم.

و المراد بالإنسان الجنس: و أمّا قول بعضهم: إنّ المراد به آدمعليه‌السلام فلا

٢٠٨

يلائمه قوله في الآية التالية:( إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ ) .

و الحين قطعة من الزمان محدودة قصيرة كانت أو طويلة، و الدهر الزمان الممتدّ من دون تحديد ببداية أو نهاية.

و قوله:( شَيْئاً مَذْكُوراً ) أي شيئاً يذكر باسمه في المذكورات أي كان يذكر مثلاً الأرض و السماء و البرّ و البحر و غير ذلك و لا يذكر الإنسان لأنّه لم يوجد بعد حتّى وجد فقيل: الإنسان فكونه مذكوراً كناية عن كونه موجوداً بالفعل فالنفي في قوله:( لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ) متوجّه إلى كونه شيئاً مذكوراً لا إلى أصل كونه شيئاً فقد كان شيئاً و لم يكن شيئاً مذكوراً و يؤيّده قوله:( إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ ) إلخ فقد كان موجوداً بمادّته و لم يتكوّن بعد إنساناً بالفعل و الآية و ما يتلوها من الآيات واقعة في سياق الاحتجاج يبيّن بها أنّ الإنسان حادث يحتاج في وجوده إلى صانع يصنعه و خالق يخلقه، و قد خلقه ربّه و جهّزه التدبير الربوبيّ بأدوات الشعور من السمع و البصر يهتدي بها إلى السبيل الحقّ الّذي من الواجب أن يسلكه مدى حياته فإن كفر فمصيره إلى عذاب أليم و إن شكر فإلى نعيم مقيم.

و المعنى هل أتى - قد أتى - على الإنسان قطعة محدودة من هذا الزمان الممتدّ غير المحدود و الحال أنّه لم يكن موجوداً بالفعل مذكوراً في عداد المذكورات.

قوله تعالى: ( إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً ) النطفة في الأصل بمعنى الماء القليل غلب استعماله في ماء الذكور من الحيوان الّذي يتكوّن منه مثله، و أمشاج جمع مشيج أو المشج بفتحتين أو بفتح فكسر بمعنى المختلط الممتزج، و وصفت بها النطفة باعتبار أجزائها المختلفة أو اختلاط ماء الذكور و الإناث.

و الابتلاء نقل الشي‏ء من حال إلى حال و من طور إلى طور كابتلاء الذهب في البوتقة، و ابتلاؤه تعالى الإنسان في خلقه من النطفة هو ما ذكره في مواضع من كلامه أنّه يخلق النطفة فيجعلها علقة و العلقة مضغة إلى آخر الأطوار الّتي تتعاقبها حتّى ينشئه خلقاً آخر.

٢٠٩

و قيل: المراد بابتلائه امتحانه بالتكليف، و يدفعه تفريع قوله:( فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً ) على الابتلاء و لو كان المراد به التكليف كان من الواجب تفريعه على جعله سميعاً بصيراً لا بالعكس، و الجواب عنه بأنّ في الكلام تقديماً و تأخيراً و التقدير إنّا خلقناه من نطفة أمشاج فجعلناه سميعاً بصيراً لنبتليه، لا يصغي إليه.

و قوله:( فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً ) سياق الآيات و خاصّة قوله:( إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ ) إلخ يفيد أنّ ذكر جعله سميعاً بصيراً للتوسّل به في التدبير الربوبيّ إلى غايته و هي أن يرى آيات الله الدالّة على المبدإ و المعاد و يسمع كلمة الحقّ الّتي تأتيه من جانب ربّه بإرسال الرسل و إنزال الكتب فيدعوه البصر و السمع إلى سلوك سبيل الحقّ و السير في مسير الحياة بالإيمان و العمل الصالح فإن لزم السبيل الّذي هدي إليه أداه إلى نعيم الأبد و إلّا فإلى عذاب مخلّد.

و ذكر الإنسان في الآية من وضع الظاهر موضع الضمير و النكتة فيه تسجيل أنّه تعالى هو خالقه و مدبّر أمره.

و المعنى: إنّا خلقنا الإنسان من نطفة هي أجزاء مختلطة ممتزجة و الحال أنّا ننقله من حال إلى حال و من طور إلى طور فجعلناه سميعاً بصيراً ليسمع ما يأتيه من الدعوة الإلهيّة، و يبصر الآيات الإلهيّة الدالّة على وحدانيّته تعالى و النبوّة و المعاد.

قوله تعالى: ( إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً ) الهداية بمعنى إراءة الطريق دون الإيصال إلى المطلوب و المراد بالسبيل السبيل بحقيقة معنى الكلمة و هو المؤدّي إلى الغاية المطلوبة و هو سبيل الحقّ.

و الشكر استعمال النعمة بإظهار كونها من منعمها و قد تقدّم في تفسير قوله تعالى:( وَ سَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ ) آل عمران: 144 أنّ حقيقة كون العبد شاكراً لله كونه مخلصاً لربّه، و الكفران استعمالها مع ستر كونها من المنعم.

و قوله:( إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً ) حالان من ضمير( هَدَيْناهُ ) لا من( السَّبِيلَ ) كما قاله بعضهم، و( إِمَّا ) يفيد التقسيم و التنويع أي إنّا هديناه السبيل حال كونه

٢١٠

منقسماً إلى الشاكر و الكفور أي إنّه مهديّ سواء كان كذا أو كذلك.

و التعبير بقوله:( إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً ) هو الدليل أوّلاً: على أنّ المراد بالسبيل السنّة و الطريقة الّتي يجب على الإنسان أن يسلكها في حياته الدنيا لتوصله إلى سعادته في الدنيا و الآخرة و تسوقه إلى كرامة القرب و الزلفى من ربّه و محصّله الدين الحقّ و هو عندالله الإسلام.

و به يظهر أنّ تفسير بعضهم السبيل بسبيل الخروج من الرحم غير سديد.

و ثانياً: أنّ السبيل المهديّ إليه سبيل اختياريّ و أنّ الشكر و الكفر اللّذين يترتّبان على الهداية المذكورة واقعان في مستقرّ الاختيار للإنسان أن يتلبّس بأيّهما شاء من غير إكراه و إجبار كما قال تعالى:( ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ) عبس: 20، و ما في آخر السورة من قوله تعالى:( فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى‏ رَبِّهِ سَبِيلًا وَ ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ) إنّما يفيد تعلّق مشيّته تعالى بمشيّة العبد لا بفعل العبد الّذي تعلّقت به مشيّة العبد حتّى يفيد نفي تأثير مشيّة العبد المتعلّقة بفعله، و قد تقدّمت الإشارة إلى هذا المعنى في هذا الكتاب مراراً.

و الهداية الّتي هي نوع إيذان و إعلام منه تعالى للإنسان هداية فطريّة هي تنبيه بسبب نوع خلقته و ما جهّز به وجوده بإلهام من الله سبحانه على حقّ الاعتقاد و صالح العمل قال تعالى:( وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها ) الشمس: 8 و أوسع مدلولاً منه قوله تعالى:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) الروم: 30.

و هداية قوليّة من طريق الدعوة يبعث الأنبياء و إرسال الرسل و إنزال الكتب و تشريع الشرائع الإلهيّة، و لم يزل التدبير الربوبيّ تدعم الحياة الإنسانيّة بالدعوة الدينيّة القائم بها أنبياؤه و رسله، و يؤيّد بذلك دعوة الفطرة كما قال:( إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى‏ نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ - إلى أن قال -رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) النساء: 165.

٢١١

و من الفرق بين الهدايتين أنّ الهداية الفطريّة عامّة بالغة لا يستثني منها إنسان لأنها لازم الخلقة الإنسانيّة و هي في الأفراد بالسويّة غير أنّها ربّما تضعف أو يلغو أثرها لعوامل و أسباب تشغل الإنسان و تصرفه عن التوجّه إلى ما يدعو إليه عقله و يهديه إليه فطرته أو ملكات و أحوال رديئة سيّئة تمنعه عن إجابة نداء الفطرة كالعناد و اللجاج و ما يشبه ذلك قال تعالى:( أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اللهُ عَلى‏ عِلْمٍ وَ خَتَمَ عَلى‏ سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلى‏ بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ ) الجاثية: 23، و الهداية المنفيّة في الآية بمعنى الإيصال إلى المطلوب دون إراءة الطريق بدليل قوله:( وَ أَضَلَّهُ اللهُ عَلى‏ عِلْمٍ ) .

و أمّا الهداية القوليّة و هي التي تتضمّنها الدعوة الدينيّة فإنّ من شأنها أن تبلغ المجتمع فتكون في معرض من عقول الجماعة فيرجع إليها من آثر الحقّ على الباطل و أمّا بلوغها لكلّ واحد واحد منهم فإنّ العلل و الأسباب الّتي يتوسّل بها إلى بيان أمثال هذه المقاصد ربّما لا تساعد على ذلك على ما في الظروف و الأزمنة و البيئات من الاختلاف و كيف يمكن لإنسان أن يدعو كلّ إنسان إلى ما يريد بنفسه أو بوسائط من نوعه؟ فمن المتعذّر ذلك جدّاً.

و إلى المعنى الأوّل أشار تعالى بقوله:( وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ ) فاطر: 24، و إلى الثاني بقوله:( لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ ) يس: 6.

فمن بلغته الدعوة و انكشف له الحقّ فقد تمّت عليه الحجّة و من لم تبلغه الدعوة بلوغاً ينكشف به له الحقّ فقد أدركه الفضل الإلهيّ بعدّه مستضعفاً أمره إلى الله إن يشأ يغفر له و إن يشأ يعذّبه قال تعالى:( إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا ) النساء: 98.

ثمّ من الدليل على أنّ الدعوة الإلهيّة و هي الهداية إلى السبيل حقّ يجب على الإنسان أن يتّبعها فطرة الإنسان و خلقته المجهّزة بما يهدي إليها من الاعتقاد و العمل، و وقوع الدعوة خارجاً من طريق النبوّة و الرسالة فإنّ سعادة كلّ موجود و كماله في الآثار و الأعمال الّتي تناسب ذاته و تلائمها بما جهّزت به من القوى

٢١٢

و الأدوات فسعادة الإنسان و كماله في اتّباع الدين الإلهيّ الّذي هو سنّة الحياة الفطرية و قد حكم به العقل و جاءت به الأنبياء و الرسل عليهم السلام.

قوله تعالى: ( إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَ أَغْلالًا وَ سَعِيراً ) الاعتاد التهيئة، و سلاسل جمع سلسلة و هي القيد الّذي يقاد به المجرم، و أغلال جمع غلّ بالضمّ قيل هي القيد الّذي يجمع اليدين على العنق، و قال الراغب: فالغلّ مختصّ بما يقيّد به فيجعل الأعضاء وسطه. انتهى. و السعير النار المشتعلة، و المعنى ظاهر.

و الآية تشير إلى تبعة الإنسان الكفور المذكور في قوله:( إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً ) و قدّم بيان تبعته على بيان جزاء الإنسان الشاكر لاختصار الكلام فيه.

قوله تعالى: ( إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً ) الكأس إناء الشراب إذا كان فيه شراب، و المزاج ما يمزج به كالحزام لما يحزم به، و الكافور معروف يضرب به المثل في البرودة و طيب الرائحة، و قيل: هو اسم عين في الجنّة.

و الأبرار جمع برّ بفتح الباء صفة مشبهة من البرّ و هو الإحسان و يتحصّل معناه في أن يحسن الإنسان في عمله من غير أن يريد به نفعاً يرجع إليه من جزاء أو شكور فهو يريد الخير لأنّه خير لا لأنّ فيه نفعاً يرجع إلى نفسه و إن كرهت نفسه ذلك فيصبر على مرّ مخالفة نفسه فيما يريده و يعمل العمل لأنّه خير في نفسه كالوفاء بالنذر أو لأنّ فيه خيراً لغيره كإطعام الطعام للمستحقّين من عباد الله.

و إذ لا خير في عمل و لا صلاح إلّا بالإيمان بالله و رسوله و اليوم الآخر كما قال تعالى:( أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ ) الأحزاب: 19 إلى غير ذلك من الآيات.

فالأبرار مؤمنون بالله و رسوله و اليوم الآخر، و إذ كان إيمانهم إيمان رشد و بصيرة فهم يرون أنفسهم عبيداً مملوكين لربّهم، له خلقهم و أمرهم، لا يملكون لأنفسهم نفعاً و لا ضرّاً عليهم أن لا يريدوا إلّا ما أراده ربّهم و لا يفعلوا إلّا ما يرتضيه فقدّموا إرادته على إرادة أنفسهم و عملوا له فصبروا على مخالفة أنفسهم فيما تهواه

٢١٣

و تحبّه و كلفة الطاعة، و عملوا ما عملوه لوجه الله، فأخلصوا العبوديّة في مرحلة العمل لله سبحانه.

و هذه الصفات هي الّتي عرّف سبحانه الأبرار بها كما يستفاد من قوله:( يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ ) و قوله:( إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ ) و قوله:( وَ جَزاهُمْ بِما صَبَرُوا ) و هي المستفادة من قوله في صفتهم:( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ ) الخ البقرة: 177 و قد مرّ بعض الكلام في معنى البرّ في تفسير الآية و سيأتي بعضه في قوله:( كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ) المطفّفين: 18.

و الآية أعني قوله:( إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ ) إلخ بما يتبادر من معناها من حيث مقابلتها لقوله:( إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ ) إلخ المبيّن لحال الكافرين في الآخرة، تبيّن حال الأبرار في الآخرة في الجنّة، و أنّهم يشربون من شراب ممزوج بالكافور بارداً طيّب الرائحة.

قوله تعالى:: ( عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً ) ( عَيْناً ) منصوب بنزع الخافض و التقدير من عين أو بالاختصاص و التقدير أخصّ عينا، و الشرب - على ما قيل - يتعدّى بنفسه و بالباء فشرب بها و شربها واحد، و التعبير عنهم بعباد الله للإشارة إلى تحلّيهم بحلية العبوديّة و قيامهم بلوازمها على ما يفيده سياق المدح.

و تفجير العين شقّ الأرض لإجرائها، و ينبغي أن يحمل تفجيرهم العين على إرادتهم جريانها لأنّ نعم الجنّة لا تحتاج في تحقّقها و التنعّم بها إلى أزيد من مشيّة أهلها قال تعالى:( لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها ) ق: 35.

و الآيتان - كما تقدّمت الإشارة إليه - تصفان تنعّم الأبرار بشراب الجنّة في الآخرة، و بذلك فسّرت الآيتان.

و لا يبعد أن تكون الآيتان مسوقتين على مسلك تجسّم الأعمال تصفان حقيقة عملهم الصالح من الإيفاء بالنذر و إطعام الطعام لوجه الله، و أنّ أعمالهم المذكورة بحسب باطنها شرب من كأس مزاجها كافور من عين لا يزالون يفجّرونها بأعمالهم الصالحة

٢١٤

و ستظهر لهم بحقيقتها في جنّة الخلد و إن كانت في الدنيا في صورة الأعمال فتكون الآيتان في مجرى أمثال قوله تعالى:( إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ ) يس: 8.

و يؤيّد ذلك ظاهر قوله( يَشْرَبُونَ ) و( يَشْرَبُ بِها ) و لم يقل: سيشربون و سيشرب بها، و وقوع قوله: يشربون و يوفون و يخافون و يطعمون متعاقبة في سياق واحد، و ذكر التفجير في قوله:( يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً ) الظاهر في استخراج العين و إجرائها بالتوسّل بالأسباب.

و لهم في مفردات الآيتين و إعرابها أقاويل كثيرة مختلفة مذكورة في المطولات فليراجعها من أراد الوقوف عليها.

قوله تعالى: ( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَ يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ) المستطير اسم فاعل من استطار إذا فشا و انتشر في الأقطار غاية الانتشار و هو أبلغ من طار كما قيل: يقال: استطار الحريق و استطار الفجر إذا اتّسعا غايته، و المراد باستطارة شرّ اليوم و هو يوم القيامة بلوغ شدائده و أهواله و ما فيه من العذاب غايته.

و المراد بالإيفاء بالنذر ما هو ظاهره المعروف من معناه، و قول القائل: إنّ المراد به ما عقدوا عليه قلوبهم من العمل بالواجبات أو ما عقدوا عليه القلوب من اتّباع الشارع في جميع ما شرّعه خلاف ظاهر اللفظ من غير دليل يدل عليه.

قوله تعالى: ( وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى‏ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً ) ضمير( عَلى‏ حُبِّهِ ) للطعام على ما هو الظاهر، و المراد بحبّه توقان النفس إليه لشدّة الحاجة، و يؤيّد هذا المعنى قوله تعالى:( لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) آل عمران: 92.

و قيل: الضمير لله سبحانه أي يطعمون الطعام حبّاً لله لا طمعاً في الثواب، و يدفعه أنّ قوله تعالى حكاية منهم:( إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ ) يغني عنه.

و يليه في الضعف ما قيل: إنّ الضمير للإطعام المفهوم من قوله:( وَ يُطْعِمُونَ )

٢١٥

وجه الضعف أنّه إن اُريد بحب الإطعام حقيقة معناه فليس في حبّ الإطعام في نفسه فضل حتّى يمدحوا به، و إن اُريد به كون الإطعام بطيب النفس و عدم التكلّف فهو خلاف الظاهر، و رجوع الضمير إلى الطعام هو الظاهر.

و المراد بالمسكين و اليتيم معلوم، و المراد بالأسير ما هو الظاهر منه و هو المأخوذ من أهل دار الحرب.

و قول بعضهم: إنّ المراد به اُسارى بدر أو الأسير من أهل القبلة في دار الحرب بأيدي الكفّار أو المحبوس أو المملوك من العبيد أو الزوجة كلّ ذلك تكلّف من غير دليل يدلّ عليه.

و الّذي يجب أن يتنبّه له أنّ سياق هذه الآيات سياق الاقتصاص تذكر قوماً من المؤمنين تسمّيهم الأبرار و تكشف عن بعض أعمالهم و هو الإيفاء بالنذر و إطعام مسكين و يتيم و أسير و تمدحهم و تعدهم الوعد الجميل.

فما تشير إليه من القصّة سبب النزول، و ليس سياقها سياق فرض موضوع و ذكر آثارها الجميلة، ثمّ الوعد الجميل عليها، ثمّ إنّ عدّ الأسير فيمن أطعمه هؤلاء الأبرار نعم الشاهد على كون الآيات مدنيّة فإنّ الأسر إنّما كان بعد هجرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و ظهور الإسلام على الكفر و الشرك لا قبلها.

قوله تعالى: ( إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً ) وجه الشي‏ء هو ما يستقبل به غيره، و وجهه تعالى صفاته الفعليّة الكريمة الّتي يفيض بها الخير على خلقه من الخلق و التدبير و الرزق و بالجملة الرحمة العامّة الّتي بها قيام كلّ شي‏ء، و معنى كون العمل لوجه الله على هذا كون الغاية في العمل هي الاستفاضة من رحمة الله و طلب مرضاته بالاقتصار على ذلك و الإعراض عمّا عند غيره من الجزاء المطلوب، و لذا ذيّلوا قولهم:( إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ ) بقولهم:( لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً ) .

و وراء ذلك صفاته الذاتيّة الكريمة الّتي هي المبدأ لصفاته الفعليّة و لما يترتّب

٢١٦

عليها من الخير في العالم، و مرجع كون العمل لوجه الله على هذا هو الإتيان بالعمل حبّاً لله لأنّه الجميل على الإطلاق، و إن شئت فقل: عبادته تعالى لأنّه أهل للعبادة.

و ابتغاء وجه الله بجعله غاية داعية في الأعمال مذكور في مواضع من كلامه تعالى كقوله:( وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) الكهف: 28، و قوله:( وَ ما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ ) البقرة: 272، و في هذا المعنى قوله:( وَ ما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) البيّنة: 5، و قوله:( فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) المؤمن: 65، و قوله:( أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ ) الزمر: 3.

و قوله:( لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً ) الجزاء مقابلة العمل بما يعادله إن خيراً فخيراً و إن شرّاً فشرّاً، و يعمّ الفعل و القول لكن المراد به في الآية بقرينة مقابلته الشكور مقابلة إطعامهم عملاً لا لساناً.

و الشكر و الشكور ذكر النعمة و إظهارها قلباً أو لساناً أو عملاً، و المراد به في الآية و قد قوبل بالجزاء الثناء الجميل لساناً.

و الآية أعني قوله:( إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ ) إلخ خطاب منهم لمن أطعموه من المسكين و اليتيم و الأسير إمّا بلسان المقال فهي حكاية قولهم أو بتقدير القول و كيف كان فقد أرادوا به تطييب قلوبهم أن يأمنوا المنّ و الأذى، و إمّا بلسان الحال و هو ثناء من الله عليهم لما يعلم من الإخلاص في قلوبهم.

قوله تعالى: ( إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً ) عدّ اليوم و هو يوم القيامة عبوساً من الاستعارة، و المراد بعبوسه ظهوره على المجرمين بكمال شدّته، و القمطرير الصعب الشديد على ما قيل.

و الآية في مقام التعليل لقولهم المحكي:( إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ ) إلخ ينبّهون بقولهم هذا أنّ قصرهم العمل في ابتغاء وجه الله تعالى إخلاصاً للعبوديّة لمخافتهم ذاك اليوم

٢١٧

الشديد، و لم يكتفوا بنسبة المخافة إلى اليوم حتّى نسبوه نحواً من النسبة إلى ربّهم فقالوا:( نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً ) إلخ لأنّهم لمّا لم يريدوا إلّا وجه ربّهم فهم لا يخافون غيره كما لا يرجون غيره و إنّما يخافون و يرجون ربّهم فلا يخافون يوم القيامة إلّا لأنّه من ربّهم يحاسب فيه عباده على أعمالهم فيجزيهم بها.

و أمّا قوله قبلاً:( وَ يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ) حيث نسب خوفهم إلى اليوم فإنّ الواصف فيه هو الله سبحانه و قد نسب اليوم بشدائده إلى نفسه قبلاً حيث قال:( إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ ) إلخ.

و بالجملة ما ذكروه من الخوف مخافة في مقام العمل لما يحاسب العبد على عمله فالعبوديّة لازمة للإنسان لا تفارقه و إن بلغ ما بلغ قال تعالى:( إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ ) الغاشية: 26.

قوله تعالى: ( فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَ لَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً ) الوقاية الحفظ و المنع من الأذى و لقّي بكذا يلقّيه أي استقبله به و النضرة البهجة و حسن اللون و السرور مقابل المساءة و الحزن.

و المعنى: فحفظهم الله و منع عنهم شرّ ذلك اليوم و استقبلهم بالنضرة و السرور، فهم ناضرة الوجوه مسرورون يومئذ كما قال:( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ ) القيامة: 22.

قوله تعالى: ( وَ جَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَ حَرِيراً ) المراد بالصبر صبرهم عند المصيبة و على الطاعة و عن المعصية فإنّهم ابتغوا في الدنيا وجه ربّهم و قدّموا إرادته على إرادتهم فصبروا على ما قضى به فيهم و أراده من المحن و مصائب الدنيا في حقّهم، و صبروا على امتثال ما أمرهم به و صبروا على ترك ما نهاهم عنه و إن كان مخالفاً لأهواء أنفسهم فبدّل الله ما لقوه من المشقّة و الكلفة نعمة و راحة.

قوله تعالى: ( مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَ لا زَمْهَرِيراً ) الأرائك جمع أريكة و هو ما يتّكئ عليه، و الزمهرير البرد الشديد، و المعنى حال كونهم

٢١٨

متّكئين في الجنّة على الأرائك لا يرون فيها شمساً حتّى يتأذّوا بحرّها و لا زمهريراً حتّى يتأذّوا ببرده.

قوله تعالى: ( وَ دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا ) الظلال جمع ظلّ، و دنوّ الظلال عليهم قربها منهم بحيث تنبسط عليهم فكانّ الدنوّ مضمّن معنى الانبساط و قطوف جمع قطف بالكسر فالسكون و هو الثمرة المقطوفة المجتناة، و تذليل القطوف لهم جعلها مسخّرة لهم يقطفونها كيف شاؤا من غير مانع أو كلفة.

قوله تعالى: ( وَ يُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَ أَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا ) الآنية جمع إناء كأكسية جمع كساء و هو الوعاء، و أكواب جمع كوب و هو إناء الشراب الّذي لا عروة له و لا خرطوم و المراد طواف الولدان المخلّدين عليهم بالآنية و أكواب الشراب كما سيأتي في قوله:( وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ ) الآية.

قوله تعالى: ( قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً ) بدل من قوارير في الآية السابقة، و كون القوارير من فضّة مبنيّ على التشبيه البليغ أي إنّها في صفاء الفضّة و إن لم تكن منها حقيقة، كذا قيل. و احتمل أن يكون بحذف مضاف و التقدير من صفاء الفضّة.

و ضمير الفاعل في( قَدَّرُوها) للأبرار و المراد بتقديرهم الآنية و الأكواب كونها على ما شاؤا من القدر ترويهم بحيث لا تزيد و لا تنقص كما قال تعالى:( لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها ) ق: 35 و قد قال تعالى قبل:( يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً ) .

و يحتمل رجوع الضمير إلى الطائفين المفهوم من قوله:( يُطافُ عَلَيْهِمْ ) و المراد بتقديرهم الآنية و الأكواب إتيانهم بها على قدر ما أرادوا محتوية على ما اشتهوا قدر ما اشتهوا.

قوله تعالى: ( وَ يُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا ) قيل: إنّهم كانوا يستطيبون الزنجبيل في الشراب فوعد الأبرار بذلك و زنجبيل الجنّة أطيب و ألذّ.

قوله تعالى: ( عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا ) أي من عين أو التقدير أعني أو أخصّ

٢١٩

عينا.

قال الراغب: و قوله:( سَلْسَبِيلًا ) أي سهلاً لذيذاً سلساً حديد الجرية.

قوله تعالى: ( وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً ) أي ولدان دائمون على ما هم عليه من الطراوة و البهاء و صباحة المنظر، و قيل: أي مقرّطون بخلدة و هي ضرب من القرط.

و المراد بحسبانهم لؤلؤاً منثوراً أنّهم في صفاء ألوانهم و إشراق وجوههم و انعكاس أشعّة بعضهم على بعض و انبثاثهم في مجالسهم كاللؤلؤ المنثور.

قوله تعالى: ( وَ إِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً ) ( ثَمَّ ) ظرف مكان ممحّض في الظرفيّة، و لذا قيل: إنّ معنى( رَأَيْتَ ) الأوّل: رميت ببصرك، و المعنى و إذا رميت ببصرك ثمّ يعني الجنّة رأيت نعيماً لا يوصف و ملكاً كبيراً لا يقدّر قدره.

و قيل:( ثَمَّ ) صلة محذوفة الموصول و التقدير و إذا رأيت ما ثمّ من النعيم و الملك، و هو كقوله:( لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ) الأنعام: 94 و الكوفيّون من النحاة يجوّزون حذف الموصول و إبقاء الصلة و إن منعه البصريّون منهم.

قوله تعالى: ( عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَ إِسْتَبْرَقٌ ) إلخ الظاهر أنّ( عالِيَهُمْ ) حال من الأبرار الراجعة إليه الضمائر و( ثِيابُ ) فاعله، و السندس - كما قيل - ما رقّ نسجه من الحرير، و الخضر صفة ثياب و الإستبرق ما غلظ نسجه من ثياب الحرير، و هو معرّب كالسندس.

و قوله:( وَ حُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ ) التحلية التزيين، و أساور جمع سوار و هو معروف، و قال الراغب: هو معرّب دستواره.

و قوله:( وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً ) أي بالغاً في التطهير لا تدع قذارة إلّا أزالها و من القذارة قذارة الغفلة عن الله سبحانه و الاحتجاب عن التوجّه إليه فهم غير محجوبين عن ربّهم و لذا كان لهم أن يحمدوا ربّهم كما قال:( وَ آخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) يونس: 10 و قد تقدّم في تفسير سورة الحمد أنّ الحمد وصف لا يصلح له إلّا المخلصون من عباد الله تعالى لقوله:( سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ) الصافّات: 160.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ) (١) .

فهنالك الناس ذُهول، وعُميِّت عليهم الأنباء، ولا يسألُ حميمٌ حميماً، ولا يَتساءلون فيما بينهم، وهكذا لا يسأل أحدٌ أحداً عن ذنبه وعن شأنه الذي هو فيه.

أمّا وبعد أن أَخرجت الأرضُ أثقالَها، وَوضَعت الزلزلةُ أوزارها، وعاد الناس على حالتهم العادية وتفرّغوا للحساب فهناك السؤال والمـُؤاخذة، والتساؤل والتعارف، فاختلف الموقفان.

وهناك بعد انقضاء الحساب ودخول أهل الجنّة الجنّة ودخول أهل النار النار، يقع التساؤل والتعارف بينهم.

يقول تعالى عن المجرمين: ( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ * وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ * قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طَاغِينَ * فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ * فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ * فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ) (٢) .

ويقول عن الصالحين: ( ...إِلاّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ..... فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ... ) (٣) .

( إِلاّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ) (٤) .

____________________

(١) الحج ٢٢: ٢.

(٢) الصافّات ٣٧: ٢٢ - ٣٤.

(٣) الصافّات ٣٧: ٤٠ - ٥٠.

(٤) المدّثّر ٧٤: ٣٩ - ٤٨.

٢٦١

( لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ)

سؤال:

قال تعالى ( لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ) (١) ، والبَلد هو البَلد الأمين مكّة المكرّمة، وقد أقسم به في سورة التين: ( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ ) (٢) ، فكيف التوفيق؟

جواب:

قالوا بزيادة (لا) هنا ليكون معنى الكلام إثباتاً لا نفياً، وأن العرب قد تُدخل (لا) في أثناء كلامها وتُلغي معناها، وأنشدوا في ذلك أبياتاً، ونحن قد فنّدنا ذلك وذَكَرنا أنْ لا شاهد عليه في كلام العرب، فراجع (٣) .

والصحيح أنْ يُقال: إنّ مورد الآيتَين مُختلف، فمرّة لا يُقسم ومرّة يُقسم باختلاف الموارد... إذ ليس المعنى في سورة البلد أنّه تعالى لا يُقسم أبداً بهذا البلد، بل لا يُقسم في موردٍ خاصّ - لوضوحه - وهو أنّ الإنسان خُلق في كَبَد... أمّا المعنى في سورة البلد فهو على القسم حيث أهمّية المورد (المـُقسم عليه) وهو أنّ الإنسان خُلق؛ ليكون رفيعاً لكنّه بيديه حطّ من شأن نفسه فارتدّ أسفل سافلين بسوء تدبيره وسوء عمله.

وهنا جواب آخر لعلّه أدقّ وهو: أنْ ليس المراد (في آية البلد) نفي الإقسام على الإطلاق، ليكون متنافياً مع الآية الأُخرى (في سورة التين)، بل هو نوع من القسم على الشكل السلبي، حيث عدم الحاجة إليه بعد وضوح الأمر وظهوره، وهو آكد في إثبات المطلوب بشكلٍ أدبيّ رائع.

والمعنى: إنّي لا أحلف، إذ لا حاجة إليه بعد وضوح الأمر، وهذا يعني أنّ الأمر مُتأكّد الثبوت بذاته واضحاً جليّاً من غير حاجة إلى إقامة حجّة ودليل.

فهو في حقيقته قسم، لكن بصورة سلبية هي آكد من صورة الإيجاب.

____________________

(١) البلد ٩٠: ١ - ٢.

(٢) التين ٩٥: ١ - ٣.

(٣) وللعلاّمة البلاغي تحقيق مستوف في ذلك: تفسير آلاء الرحمان، ج١، ص٣٨ - ٤١.

٢٦٢

( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ)

سؤال:

قال تعالى: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) (١) .

ضَمِنَ تعالى أنْ لا يُعذّب العرب على قيد أحد شرطَين: حضور النبيّ بين أظهُرهم، أو استغفارهم هم؛ ومِن ثَمّ قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (كان في الأرض أمانان مِن عذاب اللّه، وقد رُفع أحدهما، فدونكم الآخر فتمسّكوا به، أمّا الأمان الذي رُفع فهو رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) وأمّا الأمان الباقي فالاستغفار)، ثمّ تلا الآية (٢) .

لكن يَتعقّب الآية ما يُنافي ذلك ظاهراً، وقوله: ( وَمَا لَهُمْ أَلاّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاّ الْمُتَّقُونَ ) (٣) ، فكيف التوفيق؟

جواب:

إنّ سياق الآيتَين يَدلّنا على اتصالِهما ونزولِهما معاً إحداهما تلو الأُخرى مباشرةً، الأمر الذي يستدعي وِئامَهما طبعاً وعدم تنافيهما؛ حيث المتكلّم النابه - فضلاً عن الحكيم - لا يتناقض في كلامه قيد تكلّمه، فزاعم التناقض واهمٌ في حَدسِه البتة.

على أنّه لا تهافت بين الآيتين حتّى بحسب الظاهر أيضاً، حيث الآية الأُولى إنّما تنفي فعلية العذاب وأنّه لا يقع لوجود المانع، أمّا الآية الثانية فناظرة إلى جهة الاقتضاء وأصل الاستحقاق، فهم مستحقّون للعذاب لتوفّر المقتضي فيهم، بصدّهم عن المسجد الحرام، وليسوا بأوليائه، وإنْ كانوا لا يُعذَّبون فعلاً مادام وجود المانع وهما الشرطان أو أحدهما، فلا مُنافاة بين وجود المقتضي ونفي الفعلية لمكان المانع، كما لا يخفى.

وقد ذكر الطبرسي في جواب المسألة وجوهاً ثلاثة:

أحدها: أنّ المراد بالأَوّل (نفي التعذيب) عذاب الاستئصال والاصطلام، كما وقع

____________________

(١) الأنفال ٨: ٣٣.

(٢) نهج البلاغة، قصار الحكم، رقم ٨٨، ص٤٨٣.

(٣) الأنفال ٨: ٣٤.

٢٦٣

بشأن الأُمَم الماضية، وبالثاني (وقوع التعذيب) عذاب القتل بالسيف والأسر بأيدي المؤمنين - كما في يوم بدر وغيره وأخيراً يوم الفتح - ولكن بعد خروج المؤمنين من بين أظهُرهم.

ثانيها: أنّه أراد: وما لهم أنْ لا يُعذّبهم اللّه في الآخرة، ويُريد بالأَوّل عذاب الدنيا، قاله الجبائي.

ثالثها: أنّ الأَوّل استدعاءٌ للاستغفار، يُريد أنّه لا يُعذّبهم بعذابٍ دُنياً ولا آخرةً إذا استغفروا وتابوا، فإذا لم يفعلوا عُذّبوا - وفي ذلك ترغيبٌ لهم في التوبة والإنابة - ثمّ إنّه بيّن وجه استحقاقهم للعذاب بصدّ الناس عن المسجد الحرام (١) .

( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ)

سؤال:

قال تعالى: ( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ) (٢) .

وقال: ( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ) (٣) .

وقال: ( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً ) (٤) .

وقال: ( وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ) (٥) .

هذا مع قوله تعالى بشأن المؤمنين: ( فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (٦) .

____________________

(١) مجمع البيان، ج٤، ص٥٤٠.

(٢) الأنبياء ٢١: ٤٧.

(٣) الأعراف ٧: ٨ و٩.

(٤) الإنشقاق ٨٤: ٧ و٨.

(٥) البقرة ٢: ٢٨٤.

(٦) غافر ٤٠: ٤٠.

٢٦٤

وقوله: ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (١) .

وقوله بشأن الكافرين: ( الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ) (٢) .

فكيف التوفيق؟

جواب:

ليس في القرآن ما ينفي المحاسبة وموازنة الأعمال، والآيات المـُستَند إليها إنّما تعني شيئاً آخر وهو: الرزق والأجر بما يَفوق الحساب، وكذا الذي حَبِطت أعماله، لا وزن له عند اللّه ولا مِقدار.

قال الطبرسي - عند قوله تعالى: ( وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (٣) -: فيه أقوال:

أحدهما: أنّ معناه يُعطيهم الكثير الواسع الذي لا يَدخله الحساب مِن كثرته.

ثانيهما: أنّه تعالى لا يَرزق الناس في الدنيا على مقابلة أعمالهم وإيمانهم وكفرهم، وكذا في الآخرة لا يُثيبهم على قَدَرِ أعمالهم بل يَزيدهم فضلاً منه وإنعاماً.

ثالثها: أنّه تعالى يُعطي العطاء لا يؤاخذه عليه أحد، ولا يسأله عنه سائل، ولا يطلب عليه جزاءً ولا مُكافأة.

رابعها: أنّه يعطي العدد من الشيء الذي لا يُضبط بالحساب ولا يأتي عليه العَدَد؛ لأنّ ما يَقدر عليه غير متناهٍ ولا محصور، فهو يُعطي الشيء لا مِن عدد أكثر منه فينقص منه، كمَن يُعطي الألف من الألفين، والعشرة من المِئة، قاله قطرب.

خامسها: أنّ معناه يُعطي أهل الجنّة ما لا يَتناهى ولا يأتي عليه الحساب.

ثمّ قال رحمه اللّه: وكلّ هذه الوجوه جائز حسن (٤) .

وقال الزمخشري - في تفسير قوله تعالى: ( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ

____________________

(١) الزّمر ٣٩: ١٠.

(٢) الكهف ١٨: ١٠٥.

(٣) البقرة ٢: ٢١٢.

(٤) مجمع البيان، ج٢، ص٣٠٥ - ٣٠٦.

٢٦٥

سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً ) -: (١) (ضلّ سعيهم) ضاع وبطل... وعن أبي سعيد الخدري: يأتي ناس بأعمالٍ يوم القيامة، هي عندهم في العِظَم كجبالِ تَهامة، فإذا وَزَنوها لم تَزن شيئاً، ( فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ) فنزدري بهم ولا يكون لهم عندنا وزن ولا مِقدار (٢) .

وقال الطبرسي: أي لا قيمة لهم عندنا ولا كرامة، ولا نعتدّ بهم، بل نستخفّ بهم ونُعاقبهم، تقول العرب: ما لفلانٍ عندنا وزن أي قَدر ومَنزلة، ويُوصف الجاهل بأنّه لا وزن له؛ لخفّته بسرعة بطشه وقلة تثبّته، ورُوي في الصحيح: أنّ النبي (صلّى اللّه عليه وآله) قال: (إنّه ليأتي الرجلُ العظيمُ السَّمين يومَ القيامة لا يَزن جَناح بعوضة) (٣) .

قال العلامة الطباطبائي: والوزن هنا هو الثِقل في العمل في مقابلة الخِفّة في العمل، وربّما تبلغ إلى مرتبة فَقْدِ الوزن رأساً.

وقال - في قوله تعالى: ( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ) (٤) -: المراد أنّ الوزن الذي تُوزن به الأعمال يومئذٍ إنّما هو الحقّ. فبقَدَر اشتمال العمل على الحقّ يكون اعتباره وقيمته، والحسنات مُشتملة على الحقّ، فلها ثِقل، كما أن السيّئات ليست إلاّ باطلة فلا ثِقل لها، واللّه سبحانه يَزن الأعمال يومئذٍ بالحقّ، فما اشتمل عليه العمل مِن الحقّ فهو وزنه وثِقله (٥) .

مواطن القيامة متفاوتة

سؤال:

هناك آيات تنصّ على أنّهم لا يَتكلّمون إلاّ صواباً (٦) ونهوا أن يتخاصموا (٧) بل وختم

____________________

(١) الكهف ١٨: ١٠٣ - ١٠٦.

(٢) الكشّاف، ج٢، ص٧٤٩.

(٣) مجمع البيان، ج٦، ص٤٩٧.

(٤) الأعراف ٧: ٨.

(٥) الميزان للطباطبائي، ج٨، ص٨ - ٩.

(٦) وهو قوله تعالى: ( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً ) النبأ ٧٨: ٣٨.

(٧) وهو قوله تعالى: ( لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ) ق ٥٠: ٢٨.

٢٦٦

على أفواههم لتتكلّم أيديهم وتشهد أرجُلُهم بما كانوا يكسبون (١) .

الأمر الّذي يتنافى وقوله تعالى فيهم بأنّهم قالوا واللّه ما كنّا مشركين (٢) فإنّه قول كَذِب بل ويمين كاذبة وقد أُذنوا بالتكلّم به!

وكذا مع قوله: ( إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ) (٣) وقوله: ( ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ) (٤) ، فقد تخاصموا لديه تعالى رُغم منعه سبحانه من ذلك! ثُمّ كيف يلتئم ذلك مع الختم على الأفواه؟!

جواب:

أولاً: إنّ مَن يتكلّم بالصواب في الآية الأُولى هم الملائكة أو المؤمنون، والكلام الصواب هنا هي الشفاعة بالحقّ على ما ذَكَره المفسّرون، وفي الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) وقد سُئل عن هذه الآية قال: (نحن واللّه المأذون لهم يوم القيامة، والقائلون صواباً: نُمجّد ربّنا ونُصلّي على نبيّنا ونَشفع لشيعتنا) (٥) .

وثانياً: مواطن القيامة متفاوتة ومواقفها متنوّعة، فقوله ( لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ ) (٦) خطاب إلى الكَفّار العنيد وقرينه الشيطان الذي أغواه، حيث يقول الشيطان: ( رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ) (٧) ، ويحاول الكافر أنْ يَجعل اللّوم على الّذي أغواه، فكان النهي موجّهاً إليهم: لا تختصموا لديَّ بل اجعلوا بأسَكم بينكم فليس منعاً عن التخاصم على الإطلاق.

غير أنّ هذا التخاصم والتشاجر والمنع منه لديه سبحانه إنّما هو بعد الفراغ من الحساب وفي مقام الاعتذار بعد الاعتراف بالاقتراف، أمّا الختم على الأفواه فهو عند الحساب وفي أثنائه حيث يحاولون الإنكار رأساً، فتتكلّم أيديهم وتشهد أرجُلُهم بما

____________________

(١) وهو قوله تعالى: ( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) ، يس ٣٦: ٦٥.

(٢) وهو قوله تعالى: ( وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ * ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاّ أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ) ، الأنعام ٦: ٢٢ - ٢٣.

(٣) ص ٣٨: ٦٤.

(٤) العنكبوت ٢٩: ٢٥.

(٥) رواه العيّاشي حسبما ذكره الطبرسي في مجمع البيان، ج١٠، ص٤٢٧.

(٦) ق ٥٠: ٢٨.

(٧) ق ٥٠: ٢٧.

٢٦٧

اقترفوه، فالمـَواطن مُختلفة والمواقف متعدّدة:

فالموطن الأَوّل: موطن المـُداقّة في الحساب، (يختم على أفواه أهل الإلحاد والإنكار).

والموطن الثاني: موطن الفراغ من الحساب، (يتخاصم فيه أهل النار).

والموطن الثالث: موطن الشفاعة لأهل الإيمان، (موطن النُطق بالصواب).

ولكلِّ موطن مناسبتُه وشأنُه.

هكذا يُحمل على اختلاف المواطن ما وَرَد من قوله ( وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ) (١) ، مع قوله:) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ) (٢) ، وقوله ( فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ ) (٣) .

( اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا)

سؤال:

قال تعالى: ( اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ) (٤) .

وقال: ( وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ ) (٥) .

وقال: ( قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) (٦) .

وقال: ( تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ) (٧) .

وقال: ( تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ) (٨) .

جواب:

اللّه خالق الموت والحياة، ومَلَك الموت هو الآمر الأَوّل، والملائكة أعوانه المباشرون (٩) .

____________________

(١) المرسلات ٧٧: ٣٦.

(٢) غافر ٤٠: ٥٢.

(٣) الروم ٣٠: ٥٧.

(٤) الزمر ٣٩: ٤٢.

(٥) الأنعام ٦: ٦٠.

(٦) السجدة ٣٢: ١١.

(٧) الأنعام ٦: ٦١.

(٨) النحل ١٦: ٢٨.

(٩) راجع: البرهان، ج٢، ص٦٤.

٢٦٨

( وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً)

سؤال:

قال تعالى: ( يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً ) (١) .

فقد أخبر تعالى عنهم بأنّهم لا يَكتمون لديه حديثاً... وهذا يتنافى ظاهراً وقوله في موضع آخر: ( ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاّ أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ) (٢) فقد كتموا إشراكَهم!

الجواب عن ذلك من وجهين:

الأوّل: أنّ قوله ( لا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً ) داخل في التمنّي، أي يَودّون لو كانوا لم يَكتموا حديثاً في الدنيا بشأن الرسالة والإسلام، أو لم يَكتموا في الآخرة كفرَهم في الدنيا، حيث قولهم: ( وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُـشْرِكِينَ ) ، وذلك باختلاف الموقف، ففي الوَهلة الأُولى كَتموا، وفي الثانية تمنّوا لو لم يكتموا...

الثاني: أنّهم لا يَستطيعون الكتمان؛ حيث تشهد عليهم أرجُلُهم وأيديهم بما كانوا يَكسبون.

مضاعفة العذاب

سؤال:

قال تعالى: ( وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ) (٣) .

لكنّه في موضع آخر قال: ( يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ ) (٤) ...؟!

جواب:

المـُجازاة بالمِثل خاصّة بالدنيا في مثل القِصاص والعقوبات الجزائيّة، والآية الأُولى واردة بهذا الشأن.

____________________

(١) النساء ٤: ٤٢.

(٢) الأنعام ٦: ٢٣.

(٣) الشورى ٤٢: ٤٠.

(٤) هود ١١: ٢٠.

٢٦٩

أمّا مُضاعفة العذاب ففي الآخرة على حسب مراتب الكبيرة التي ارتكبَها أهلُ الكبائر، والآثار التي خلّفتها تلك الكبيرة المـُوبقة في الأوساط الاجتماعيّة حين الارتكاب وبعدها، ومورد الآية هم الذين كانوا يَصدّون عن سبيل اللّه ويبغونها عِوجاً وهم بالآخرة هم كافرون؛ ومِن ثَمّ يُضاعف لهم العذاب.

التكليم من وراء حجاب

سؤال:

قال تعالى: ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ) (١) .

كيف يلتئم وقوله: ( وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً ) (٢) ، وقوله: ( وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا ) (٣) حيث وقع التكليم مباشرةً؟!

جواب:

لم تنفِ الآية الأُولى التكليم رأساً، وإنّما نَفَته على الطريقة المعهودة بين الناس حيث يقع مشافهةً، نعم تكليمه تعالى يقع على طرائق ثلاث:

١ - إمّا وحياً وهو النَفث في الرَوع، فيتلقّى النبيّ بشخصيّته الباطنة ما يُلقيه إليه وحي السماء، وهو نوع مِن الإلهام خاصّ بالأنبياء والرسل.

٢ - أو بإسماع الصوت من غير أن يُرى شخص المتكلّم، كأنّه يتكلّم من وراء حجاب، وهذا بِخَلقِ التموّج الصوتي في الهواء ليَقرع مسامع النبيّ فيستمع إليه، ولكنّه لا يُرى المتكلّم وإن كان يسمع صوته؛ ومِن ثَمّ وقع التشبيه من وراء حجاب. وهذا هو الذي وقع مع موسى النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله).

٣ - أو بإرسال رسول - ملك الوحي - وهو جبرائيل (عليه السلام)، فيُلقي ما تلقّاه وحياً على

____________________

(١) الشورى ٤٢: ٥١.

(٢) النساء ٤: ١٦٤.

(٣) الأعراف ٧: ٢٢.

٢٧٠

النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله)، والأكثر ولعلّه الشامل من الوحي القرآني هذا النوع الأخير.

والتكليم والنداء في الآيتَين هُما من النوع الثاني أي التكليم من وراء حجاب، إذن فلا منافاة.

نظرة أو انتظار؟

سؤال:

قال تعالى: ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) (١) ، وقال: ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ) (٢) .

قالوا: كيف يلتئم ذلك مع قوله: ( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ) (٣) . ( وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ) (٤) ، في حين أنّ مَن رأى الشيء وحَدّق النظر إليه فقد أَدركه ببصره وأحاط به علمه؟!

جواب:

هناك فَرق بين نظر رؤية ونظر انتظار وتوقّع، فيومئذٍ تكون الأنظار إليه سبحانه لكنّها نظرة توقّع وانتظار عَميم رحمته، ولا نظر إلاّ إليه (عظمت آلاؤه)، فالنظر إنّما هو إلى ربّهم كيف يُثيبهم؟ وإلى ما وَعَدهم مِن المثوبة في جنّة عدن.

قال الزمخشري: و(الناظرة) مِن نضرة النعيم، ( إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) تنظر إلى ربّها خاصّة ولا تنظر إلى غيره، والمراد: نظر توقّع ورجاء، كقولك: أنا إلى فلان ما يَصنع بي، تُريد معنى التوقّع والرجاء، ومنه قول القائل:

وإذا نظرتُ إليك من مَلِكٍ

والبحرُ دونك زدتني نِعَماً

قال: وسمعت سَرَويَّة مُستجدية بمكّة وقت الظهيرة حين يُغلق الناس أبوابهم ويأوون إلى مقائلهم تقول: عُيَينَتي نُوَيظرة إلى اللّه وإليكم، أي رجائي إلى اللّه وإليكم.

فمعنى الآية: أنّهم لا يتوقّعون النعمة والكرامة إلاّ من ربّهم، كما كانوا في الدّنيا لا يَخشون ولا يرجون إلاّ إيّاه (٥) .

____________________

(١) القيامة ٧٥: ٢٢ و٢٣.

(٢) النجم ٥٣: ١٣ و١٤.

(٣) الأنعام ٦: ١٠٣.

(٤) طه ٢٠: ١١٠.

(٥) الكشّاف، ج٤، ص٦٦٢ بتصرّف.

٢٧١

وأمّا الآية من سورة النَّجم فالمـُراد: رؤية جبرائيل على صورته الأصليّة؛ حيث وقعت لمـُحمّد (صلّى اللّه عليه وآله) مرّتَين، مرّة عند التبشير بنبوّته، ومرّة أُخرى في المعراج عند سورة المنتهى.

التناسي أو النسيان

سؤال:

قال تعالى: ( فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا ) (١) ، وقال: ( نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ) (٢) .

كيف يلتئم ذلك مع قوله: ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً ) (٣) ، وقوله: ( لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى ) ؟! (٤) .

جواب:

النسيان في الآيتَين الأَوّليتَين هو التناسي والتغافل، أمّا المنفّي في الآيتَين الأخيريتَين فهي الغفلة والنسيان حقيقة.

والنسيان - بمعنى التناسي - في القرآن، كما في قوله تعالى: ( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ) (٥) أي تناسى العهد ولم يأخذ بجدٍّ؛ إذ لو كان نَسيَ حقيقةً لكان معذوراً، إذ لا مؤاخذة على التناسي عقلاً ولا لوم عليه.

وقوله: ( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ ) (٦) أي تَغافلوا حضورَه تعالى في الحياة؛ ومِن ثَمَّ تغافلوا ولم يأخذوا كرامة الإنسان بجدّ.

فقوله تعالى: ( قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ) (٧) يعني نَبَذتَ آياتنا وراء ظهرك ولم تأخذها بجدٍّ، فكذلك اليوم تُنسى ولا تَشملك العناية الإلهيّة.

كما في قوله تعالى: ( فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً ) (٨) أي استهانوا بشأن الكتاب واستعاضوا به مَتاع الحياة الدنيا القليل، وهو مِن التغافل في الأمر والتساهل فيه وليست حقيقة الغفلة.

____________________

(١) الأعراف ٧: ٥١.                                   (٢) التوبة ٩: ٦٧.

(٣) مريم ١٩: ٦٤.                                      (٤) طه ٢٠: ٥٢.

(٥) طه ٢٠: ١١٥.                                    (٦) الحشر ٥٩: ١٩.

(٧) طه ٢٠: ١٢٦.                                     (٨) آل عمران ٣: ١٨٧.

٢٧٢

وهكذا جاء في الجواب فيما نُسب إلى الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قال:

(أمّا قوله: ( نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ) فإنّما يعني: نَسوا الله في دار الدنيا، لم يَعملوا بطاعته، فنَسَيهم في الآخرة أي لم يَجعل لهم في ثوابه شيئاً، فصاروا منسيّينَ من الخير، وقد يقول العرب: قد نَسيَنا فلان فلا يَذكُرُنا، أي إنّه لا يَأمر لنا بخير ولا يَذكُرُنا به، وأمّا قوله: ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً ) فإنّ ربّنا تبارك و تعالى ليس بالذي يَنسى ولا يَغفل بل هو الحفيظ العليم) (١) .

كسب التأنيث والتذكير

سؤال:

قال تعالى: ( وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ) (٢) .

وقال: ( وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ) (٣) .

كيف جاء الوصف وكذا الضمير في الآية الأُولى مُذَكّراً، وفي الآية الثانية مُؤنّثاً في حين وحدة السياق؟!

جواب:

المضاف إلى مؤنّث إن كان يجوز حذفه ولا يُخلّ حذفُه بمَفاد الكلام يجوز في وصفه التذكير والتأنيث، قال ابن مالك:

وربّما أكسبَ ثانٍ أَوَّلاً

تأنيثاً إن كانِ لحذف مُوهَلاَ

فإنّ المضاف المـُذَكّر قد يَكتسب التأنيث من المضاف إليه المؤنّث بشرط جواز حذفه من غير إخلال بمَفاد الكلام، كما قال الأعشى:

وَتَشرِقُ بالقول الذي قد أَذعتَه

كما شَرِقَت صدرُ القناة مِن الدمِ

فتأنيث الفعل (شرقت) المسند إلى (صدر) إنّما هو باعتبار كسبه التأنيث من

____________________

(١) كتاب التوحيد للصدوق، ص٢٥٩ - ٢٦٠.

(٢) السجدة ٣٢: ٢٠.

(٣) سبأ ٣٤: ٤٢.

٢٧٣

المضاف إليه، فلو قُدّر حذفه لم يختلّ مَفاد الكلام.

وجاء عكسه في قول الآخر:

رؤية الفكرِ ما يؤولُ له الأمرُ

مُعينٌ على اجتناب التَواني

وقال غيره:

إنارةُ العقلِ مكسوفٌ بطوعِ هوىً

وعقلُ عاصي الهوى يَزداد تَنويراً

فالضمائر الراجعة إلى المضاف - وهو مؤنّث - في البيتَين، إنّما رُوعي فيها جانب المضاف إليه المـُذَكّر، باعتبار أنّ حذف المضاف في مثل هذا الكلام غير مُخلّ بمفاده.

وهكذا في الآية الكريمة يَجوز في وصف العذاب المضاف إلى النار مُراعاة التذكير على الأصل، كما في الآية من سورة السجدة، وكذا مراعاة التأنيث باعتبار إضافته إلى النار، كما في الآية من سورة سبأ.

وكِلا الأمرَين جائز، كما قال ابن مالك: (وربّما أكسب ثانٍ أوَّلاً تأنيثاً...)، وليس دائماً ولا ضرورة.

* * *

هذا بناءً على كون الوصف نعتاً للمضاف في كلتا الآيتَين؛ نظراً لوحدة السياق فيهما.

وربما فرّقوا بين الآيتَين فجعلوا الوصف نعتاً للمضاف في الآية الأُولى، وللمضاف إليه في الآية الثانية، وعلّلوا ذلك باختلاف الموجب:

قال الزركشي: جاء في سورة السجدة بلفظ (الذي) على وصف العذاب، وفي سورة سبأ بلفظ (التي) على وصف النار. وذلك لوقوع (النار) في سورة السجدة موقع الضمير الذي لا يُوصف، وإنّما وقعت موقع الضمير لتقدّم إضمارها في قوله: ( أَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ ) (١) .

____________________

(١) السجدة ٣٢: ٢٠.

٢٧٤

فحقّ الكلام أنْ يُقال: (وقيل لهم ذوقوا عذابها...) فلمـّا وضعها موضع المضمر الذي لا يقبل الوصف عَدَل إلى وصف العذاب.

وأمّا في (سبأ) فوَصَفَها لعدم المانع مِن وصفِها (١) .

* * *

وربّما ذهبوا إلى أنّه وصفٌ للنار في كلتا الآيتَين، وجاء التذكير في سورة السجدة على معنى (الجحيم) أو (الحريق) (٢) .

وهنا وجوه استحسانيّة لا نُطيل بذِكرها فليراجع مظانّها (٣) .

فرعون يُقتّل أبناء إسرائيل قبل بعثة موسى أم بعدها؟

جاء في آيات من سورة غافر (٤) وسورة الأعراف (٥) ما يَدلّ على أنّ فرعون هَمَّ بقتل أبناء إسرائيل واستحياء نسائهم بعد أنْ بُعث موسى (عليه السلام) ودعاه إلى الإيمان.

وفي سورة القصص (٦) وسورة طه (٧) وإبراهيم (٨) والأعراف (٩) والبقرة (١٠) ما يدلّ على أنّ ذبح الأبناء واستحياء النساء كان قد وقع من قبل.

كان فرعون قد أَمر بقتل الذُكور من مواليد بني إسرائيل مِن قبل؛ خوفاً من ظهور نبيّهم موسى (عليه السلام) وقد خاب ظنّه، لكنّه بعد أنْ ظهرت نبوّته وقام في وجهه مُهدّداً له

____________________

(١) البرهان، ج٢، ص٦٣ - ٦٤.

(٢) إملاء ما مَنَّ به الرحمان لأبي البقاء العكبري، ج٢، ص١٩٠.

(٣) ذكر الزركشي وجوهاً أربعة، وقد ذَكَرنا اثنين منها، راجع: البرهان، ج٢، ص٦٣ - ٦٤.

(٤) ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ ) . غافر ٤٠: ٢٣ - ٢٥.

(٥) ( وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ) . الأعراف ٧: ١٢٧.

(٦) ( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) . القصص ٢٨: ٤.

(٧) ( أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ ) . طه ٢٠: ٣٩.

(٨) ( إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ) .إبراهيم ١٤: ٦.

(٩) ( وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ) . الأعراف ٧: ١٤١.

(١٠) ( وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ) . البقرة ٢: ٤٩.

٢٧٥

- ولا سيّما بعد أنْ آمن السَحَرة - خاف ازدياد قوّة موسى وقومه والنجدة بالأبناء، فحاول كسر شوكتِهم بالقتل في الأبناء واستعباد النساء، لكنّه لم يُساعده الحظّ؛ حيث أَهلَكَهم اللّه.

قال الطبرسي عند تفسير الآيات من سورة غافر: أُمروا بقتل الذُكور من قوم موسى؛ لئلاّ يكثر قومه ولا يتقوّى بهم، وباستبقاء نسائهم للخِدمَة، وهذا غير القتل الأَوّل؛ لأنّه أمر بالقتل أَوّلاً لئلاّ ينشأ منهم مَن يزول مُلكُه على يده، ثُمَّ ترك ذلك لمـّا أنْ تيقّن ولادة موسى، ولا فائدة في ذبح الأبناء، لكنّه بعد أن ظهرت نبوّة موسى وقام في وجهه مهدِّداً له حاول العَودَ إلى القتل ثانياً؛ حتّى لا تكون فيهم نجدة وقوّة، لكنه تعالى حال دون بلوغ أُمنيّته وأَخذهم بالبلاء والعذاب (١) .

التقدير أَزلاً أم في ليلة القَدر؟

قد يَزعم البعض أنّ في ذلك تناقضاً في القرآن، فتارةً يُرى من تقدير الأُمور مُثبتاً في اللوح المحفوظ ( فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا ) (٢) ، وأُخرى تقديرها في ليلة القَدر لكلّ عام ( فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) (٣) .

قلت: ليس التقدير ممّا يختلف وإنّما يختلف العلم به، فالّذي يعلم تقدير الأمور ومجاريها أَزلاً وفي اللوح المحفوظ هو اللّه وحده لا شريك له، وأمّا الذي يتنزّل به ويُطلع أولياءه عليه فهو في ليلةٍ مباركةٍ هي ليلة القدر من شهر رمضان من كلّ عام. يتنزّل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كلّ أمر، يتنزّلون بتقادير الأمور على الحجّة القائم مِن أوليائه؛ ليُطلعه على مجاري الأُمور عامّة ذلك، وبذلك تواترت روايات أئمة أهل البيت الصادقين (عليهم السلام) ومِن ثمَّ فإنّ عِلمـَهم الحتم بمجاري الأُمور محدود بعامِهم، دون علم اللّه المحيط الشامل (٤) .

____________________

(١) راجع: مجمع البيان، ج٤، ص٤٦٥، وج ٨، ص٥٢٠.

(٢) الحديد ٥٧: ٢٢.

(٣) الدخان ٤٤: ٤، راجع: هاشم العربي في ملحق ترجمة كتاب الإسلام، ص٣٨٤ - ٣٨٥.

(٤) راجع: الكافي، ج١، ص٢٤٢ - ٢٥٣.

٢٧٦

والدليل على ذلك أنّ الوارد في سورَتي الدخان والقَدْر هو النزول والتفريق، وليس أصل التقدير، فتدبّر جيّداً.

فاللّه تبارك وتعالى يعلم تقدير الأُمور حسب مجاريها عِلماً في الأَزل، لكنّه تعالى يُنزل بهذا التقدير في كلّ ليلة قدر بشأن تفريقه طول ذلك العام، الأمر الذي لا يبدو عليه أيّ شبهة تناقض.

متى وقع التقدير؟ وهل لا يتنافى التقدير مع الاختيار؟

جاء في سورة الدخان أنّ التقدير إنّما يقع في كلّ ليلة قَدْرٍ مِن شهر رمضان في كلّ سنة ( فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) (١) . وقد وردت روايات أيضاً بأنّ ما يقع في تلك السنّة إنّما يُقدَّر في ليلة القدر.

هذا، في حين كَثرة الآيات والروايات بأنّ التقدير إنّما وقع في الأَزل، وتجري الأمور حسبما قُدّرت في اللّوح المحفوظ من غير تخلّف ولا تبديل، ( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا ) (٢) ، ( وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاّ فِي كِتَابٍ ) (٣) .

على أنّ هذه الآيات تَرمي إلى سلب مسؤوليّة الإنسان عمّا يفعله؛ حيث إنّه كان مُقدّراً من قبل، وهذا يتنافى وقوله تعالى: ( وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً ) (٤) .

أمّا المسألة الأُولى: فقد سَبَق البحث عنها في مسألة البداء وأنّ هناك تقديرَين، تقديرٌ ظاهري حسب مجاري الأمور الطبيعيّة من عللٍ وأسبابٍ تتفاعل حسب طبيعتها الأُولى، وهي السُنَن الساطية على الكون ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) (٥) .

وهذه السُنَن ليست حتميّة، في حين كونها هي الغالبة، حيث احتمال مفاجئة أُمور

____________________

(١) الدخان ٤٤: ٤.

(٢) الحديد ٥٧: ٢٢.

(٣) فاطر ٣٥: ١١.

(٤) الإسراء ١٧: ١٣.

(٥) القمر ٥٤: ٤٩.

٢٧٧

طارِئة من خارج مَدارات السُنَن فتُغيّر من اتجاهاتها أحياناً، الأمر الذي لا يَعلمه إلاّ اللّه وكان مُقدّراً أي معلوماً لديه تعالى في الأَزل، خافياً عن أعين الخلائق إلاّ مَن علّمه اللّه، وهذا هو التقدير المكنون في اللوح المحفوظ، ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ ) (١) .

فالأَجل الأَوّل هو الذي تقتضيه مجاري الأمور الطبيعيّة حسب السُنَن الجارية في الخَلق، وهذا ليس بحتم، أمّا الأَجل الآخر الحتمي فهو الذي عَلِمَه اللّه في الأَزل حسب الأسباب الطارئة الخافية عن غيره تعالى، ( لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (٢) .

روى الصدوق بإسناده إلى الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (وهل يَمحو اللّه إلاّ ما كان؟ وهل يُثبت إلاّ ما لم يكن؟) (٢) .

فهناك تغيير وتبديل على خلاف مجاري الأُمور، لا يَعلمه إلاّ اللّه عِلماً كائناً في الأَزل.

قال الإمام الباقر (عليه السلام): (من الأُمور أُمور موقوفة عند اللّه، يُقدّم منها ما يشاء ويُؤخّر منها ما يشاء ويُثبت منها ما يشاء) (٤) ، أي: من الأمور ما هي موقوفة - في جريانها حسب العادة الطبيعيّة - على شرائط، إنْ وُجدت جرت، وإلاّ تخلّفت، فحصول هذه الشرائط في وقتها أو عدم حصولها شيء لا يعلمه إلاّ اللّه.

فالعلم بالتقادير الحتميّة الأَزليّة خاصّ اللّه تعالى، أمّا غيره تعالى من الملائكة المقرّبين والمدبِّرات أمراً وكذا المـُصطَفون من عباد اللّه المـُكرمينَ فلا عِلم لهم بسِوى مُقتضيات السُنَن الطبيعيّة في مجاري الأمور، والتي هي بمَعرض البَداء والتبديل، أمّا حتميّتها فهذا شيءٌ إنّما يعرفونه في كلّ ليلة قدرٍ من كلّ سنةٍ وفي محدودة عامِها فحسب.

قال الإمام الصادق (عليه السلام): (إنّ للّه عِلمـَينِ، عِلمٌ مكنونٌ مخزونٌ لا يَعلمه إلاّ هو، من

____________________

(١) الأنعام ٦: ٢.

(٢) الرعد ١٣: ٣٨ - ٣٩.

(٣) كتاب التوحيد للصدوق، ص٣٣٣، رقم ٤.

(٤) بحار الأنوار، ج٤، ص١١٦ - ١١٧، رقم ٤٤.

٢٧٨

ذلك يكون البداء، وعِلم علّمه ملائكتَه ورسلَه وأنبياءَه، فنحن نعلمه) (١) ، وقد عنى بهذا العلم الذي تَعلمه الملائكة والأنبياء والأئمّة هو العِلم وِفق مجاري الأمور الطبيعيّة، والتي يُمكن التخلّف فيها؛ ومِن ثَمَّ قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (واللّه لولا آية في كتاب اللّه لحدّثتُكم بما يكون إلى يوم القيامة، وهي قوله تعالى: ( يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) ) (٢) .

* * *

وأمّا المسألة الثانية: هل لا يتنافى التقدير مع الاختيار؟ فقد استوفينا الكلام عنها عند البحث عن مسألة الاستطاعة والاختيار، وتَبيّن أنّ التقدير السابق لا يَعدو سوى العِلم بما سيقع وتقديره حسبما يقع، من غير أن يكون العِلم السابق ذا أثرٍ في تحقّق المعلوم، فإنّ للظواهر الكونيّة عِللاً وأسباباً تكوينيّةً هي التي تُؤثّر في الفعل والانفعال التكوينيّينِ، كما أنّ للأفعال الاختياريّة الصادرة من الفاعل المختار (الحيوان والإنسان) سبباً مباشراً هي إرادته بالذات وليس مقهوراً فيها.

فإذا كان اللّه يعلم - أَزلاً - ماذا سيقع وسيتحقّق عِبر الأبد ثُمّ قدّر مجاريها ودبّر من شؤونها بما يتوائم ونظام الكون فهذا لا يعني الإجبار، ولا سيّما فيما يَعود إلى أعمالٍ يقوم بها الإنسان حسب إرادته واختياره، وليس مِن المنطق أن يُفرض العلم بأمرٍ علّةً لوجوده.

والتقدير السابق، إنّما هو العِلم بالأسباب والمسبّبات - كما هي - ثمّ تدبير مجاريها حسب نظام الكون، فلا هناك جَبر ولا سلب للمسؤوليّة فيما يَمسّ أفعال العباد الاختياريّة.

( إِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وَارِدُهَا)

قال تعالى: ( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً ) (٣) ، والخطاب عامّ يشمل

____________________

(١) الكافي للكليني، ج١، ص١٤٧، رقم ٨.

(٢) بحار الأنوار، ج٤، ص٩٧، رقم ٤ و٥، والآية ٣٨ من سورة الرعد.

(٣) مريم ١٩: ٧١.

٢٧٩

المؤمن والكافر، وبدليل ما بعد الآية: ( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً ) (١) ، حيث قوله: ( وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا ) ، أي الجميع يَرِدُونها فيخرج المؤمن ويُترك الظالم بحاله.

الأمر الذي يتنافى وقوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا ) (٢) ، فيكف الوئام؟!

وقد ذَكَر المفسّرون هنا وجوهاً، أوجهُها - ما عن ابن مسعود والحسن وقتادة واختاره أبو مسلم - أنّه بمعنى الإشراف عليها ليَشهدوا ذلك العرض الرهيب، فالمؤمنون يَجوزونها ويَدنون منها ويَمرّون بها وهي تتأجّج وتتميّز وتتلمـّظ، ويَرَون العتاة ينزعون فيقذفون فيها.

قال تعالى: ( فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ ) لن يكونوا لوحدِهم بل ( وَالشَّيَاطِينَ ) الذين هم قادتُهم، وبينهما صلة التابع والمتبوع والقائد والمـَقود، ( ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً ) جاثين على رُكَبِهم في ذلّ وفَزَع، ( ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً ) ، فلا يُؤخذ أحدٌ جُزافاً من تلك الجُموع المتكاثفة، ( ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً ) ليكونوا طليعةَ المقذوفينَ فيها.

وبعد، فيأتي دور المؤمنينَ الذين سَبَقت لهم مِن اللّه الحُسنى، فيأتي زَرَافات منهم، يَمرّون بهذا المشهد الرهيب، فيُزَحزَحون عنها وفي منجاةٍ منها يَجوزونه ( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا ) أي نجعلهم في منجاةٍ منه ( وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً ) (٣) أي نَدعهم جاثمين على رُكَبِهم على شفا جُرُفٍ هارٍ؛ لينهار بهم في نار جهنّم.

فقد كان المـُراد بالورود هنا هو الإشراف عليها، كما في قوله تعالى: ( وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ ) (٤) ، وقوله: ( فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ ) (٥) ، إذ ليس المـُراد من الورود هنا الدخول، بل الدنوّ والاقتراب، قال الراغب: الورود، أصله قَصْدُ الماء، ثُمّ يُستعمل في غيره (٦) قوله: ( وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ ) أي قَصَدَه واقترب منه. والوارد: الذي

____________________

(١) مريم ١٩: ٧٢.

(٢) الأنبياء ٢١: ١٠١ - ١٠٢.

(٣) مريم ١٩: ٦٨ - ٧٢.

(٤) القصص ٢٨: ٢٣.

(٥) يوسف ١٢: ١٩.

(٦) المفردات، ص٥١٩.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578