شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم10%

شبهات وردود حول القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 578

شبهات وردود حول القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 578 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 297593 / تحميل: 13676
الحجم الحجم الحجم
شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ) (1) .

فهنالك الناس ذُهول، وعُميِّت عليهم الأنباء، ولا يسألُ حميمٌ حميماً، ولا يَتساءلون فيما بينهم، وهكذا لا يسأل أحدٌ أحداً عن ذنبه وعن شأنه الذي هو فيه.

أمّا وبعد أن أَخرجت الأرضُ أثقالَها، وَوضَعت الزلزلةُ أوزارها، وعاد الناس على حالتهم العادية وتفرّغوا للحساب فهناك السؤال والمـُؤاخذة، والتساؤل والتعارف، فاختلف الموقفان.

وهناك بعد انقضاء الحساب ودخول أهل الجنّة الجنّة ودخول أهل النار النار، يقع التساؤل والتعارف بينهم.

يقول تعالى عن المجرمين: ( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ * وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ * قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طَاغِينَ * فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ * فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ * فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ) (2) .

ويقول عن الصالحين: ( ...إِلاّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ..... فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ... ) (3) .

( إِلاّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ) (4) .

____________________

(1) الحج 22: 2.

(2) الصافّات 37: 22 - 34.

(3) الصافّات 37: 40 - 50.

(4) المدّثّر 74: 39 - 48.

٢٦١

( لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ)

سؤال:

قال تعالى ( لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ) (1) ، والبَلد هو البَلد الأمين مكّة المكرّمة، وقد أقسم به في سورة التين: ( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ ) (2) ، فكيف التوفيق؟

جواب:

قالوا بزيادة (لا) هنا ليكون معنى الكلام إثباتاً لا نفياً، وأن العرب قد تُدخل (لا) في أثناء كلامها وتُلغي معناها، وأنشدوا في ذلك أبياتاً، ونحن قد فنّدنا ذلك وذَكَرنا أنْ لا شاهد عليه في كلام العرب، فراجع (3) .

والصحيح أنْ يُقال: إنّ مورد الآيتَين مُختلف، فمرّة لا يُقسم ومرّة يُقسم باختلاف الموارد... إذ ليس المعنى في سورة البلد أنّه تعالى لا يُقسم أبداً بهذا البلد، بل لا يُقسم في موردٍ خاصّ - لوضوحه - وهو أنّ الإنسان خُلق في كَبَد... أمّا المعنى في سورة البلد فهو على القسم حيث أهمّية المورد (المـُقسم عليه) وهو أنّ الإنسان خُلق؛ ليكون رفيعاً لكنّه بيديه حطّ من شأن نفسه فارتدّ أسفل سافلين بسوء تدبيره وسوء عمله.

وهنا جواب آخر لعلّه أدقّ وهو: أنْ ليس المراد (في آية البلد) نفي الإقسام على الإطلاق، ليكون متنافياً مع الآية الأُخرى (في سورة التين)، بل هو نوع من القسم على الشكل السلبي، حيث عدم الحاجة إليه بعد وضوح الأمر وظهوره، وهو آكد في إثبات المطلوب بشكلٍ أدبيّ رائع.

والمعنى: إنّي لا أحلف، إذ لا حاجة إليه بعد وضوح الأمر، وهذا يعني أنّ الأمر مُتأكّد الثبوت بذاته واضحاً جليّاً من غير حاجة إلى إقامة حجّة ودليل.

فهو في حقيقته قسم، لكن بصورة سلبية هي آكد من صورة الإيجاب.

____________________

(1) البلد 90: 1 - 2.

(2) التين 95: 1 - 3.

(3) وللعلاّمة البلاغي تحقيق مستوف في ذلك: تفسير آلاء الرحمان، ج1، ص38 - 41.

٢٦٢

( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ)

سؤال:

قال تعالى: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) (1) .

ضَمِنَ تعالى أنْ لا يُعذّب العرب على قيد أحد شرطَين: حضور النبيّ بين أظهُرهم، أو استغفارهم هم؛ ومِن ثَمّ قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (كان في الأرض أمانان مِن عذاب اللّه، وقد رُفع أحدهما، فدونكم الآخر فتمسّكوا به، أمّا الأمان الذي رُفع فهو رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) وأمّا الأمان الباقي فالاستغفار)، ثمّ تلا الآية (2) .

لكن يَتعقّب الآية ما يُنافي ذلك ظاهراً، وقوله: ( وَمَا لَهُمْ أَلاّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاّ الْمُتَّقُونَ ) (3) ، فكيف التوفيق؟

جواب:

إنّ سياق الآيتَين يَدلّنا على اتصالِهما ونزولِهما معاً إحداهما تلو الأُخرى مباشرةً، الأمر الذي يستدعي وِئامَهما طبعاً وعدم تنافيهما؛ حيث المتكلّم النابه - فضلاً عن الحكيم - لا يتناقض في كلامه قيد تكلّمه، فزاعم التناقض واهمٌ في حَدسِه البتة.

على أنّه لا تهافت بين الآيتين حتّى بحسب الظاهر أيضاً، حيث الآية الأُولى إنّما تنفي فعلية العذاب وأنّه لا يقع لوجود المانع، أمّا الآية الثانية فناظرة إلى جهة الاقتضاء وأصل الاستحقاق، فهم مستحقّون للعذاب لتوفّر المقتضي فيهم، بصدّهم عن المسجد الحرام، وليسوا بأوليائه، وإنْ كانوا لا يُعذَّبون فعلاً مادام وجود المانع وهما الشرطان أو أحدهما، فلا مُنافاة بين وجود المقتضي ونفي الفعلية لمكان المانع، كما لا يخفى.

وقد ذكر الطبرسي في جواب المسألة وجوهاً ثلاثة:

أحدها: أنّ المراد بالأَوّل (نفي التعذيب) عذاب الاستئصال والاصطلام، كما وقع

____________________

(1) الأنفال 8: 33.

(2) نهج البلاغة، قصار الحكم، رقم 88، ص483.

(3) الأنفال 8: 34.

٢٦٣

بشأن الأُمَم الماضية، وبالثاني (وقوع التعذيب) عذاب القتل بالسيف والأسر بأيدي المؤمنين - كما في يوم بدر وغيره وأخيراً يوم الفتح - ولكن بعد خروج المؤمنين من بين أظهُرهم.

ثانيها: أنّه أراد: وما لهم أنْ لا يُعذّبهم اللّه في الآخرة، ويُريد بالأَوّل عذاب الدنيا، قاله الجبائي.

ثالثها: أنّ الأَوّل استدعاءٌ للاستغفار، يُريد أنّه لا يُعذّبهم بعذابٍ دُنياً ولا آخرةً إذا استغفروا وتابوا، فإذا لم يفعلوا عُذّبوا - وفي ذلك ترغيبٌ لهم في التوبة والإنابة - ثمّ إنّه بيّن وجه استحقاقهم للعذاب بصدّ الناس عن المسجد الحرام (1) .

( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ)

سؤال:

قال تعالى: ( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ) (2) .

وقال: ( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ) (3) .

وقال: ( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً ) (4) .

وقال: ( وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ) (5) .

هذا مع قوله تعالى بشأن المؤمنين: ( فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (6) .

____________________

(1) مجمع البيان، ج4، ص540.

(2) الأنبياء 21: 47.

(3) الأعراف 7: 8 و9.

(4) الإنشقاق 84: 7 و8.

(5) البقرة 2: 284.

(6) غافر 40: 40.

٢٦٤

وقوله: ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (1) .

وقوله بشأن الكافرين: ( الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ) (2) .

فكيف التوفيق؟

جواب:

ليس في القرآن ما ينفي المحاسبة وموازنة الأعمال، والآيات المـُستَند إليها إنّما تعني شيئاً آخر وهو: الرزق والأجر بما يَفوق الحساب، وكذا الذي حَبِطت أعماله، لا وزن له عند اللّه ولا مِقدار.

قال الطبرسي - عند قوله تعالى: ( وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (3) -: فيه أقوال:

أحدهما: أنّ معناه يُعطيهم الكثير الواسع الذي لا يَدخله الحساب مِن كثرته.

ثانيهما: أنّه تعالى لا يَرزق الناس في الدنيا على مقابلة أعمالهم وإيمانهم وكفرهم، وكذا في الآخرة لا يُثيبهم على قَدَرِ أعمالهم بل يَزيدهم فضلاً منه وإنعاماً.

ثالثها: أنّه تعالى يُعطي العطاء لا يؤاخذه عليه أحد، ولا يسأله عنه سائل، ولا يطلب عليه جزاءً ولا مُكافأة.

رابعها: أنّه يعطي العدد من الشيء الذي لا يُضبط بالحساب ولا يأتي عليه العَدَد؛ لأنّ ما يَقدر عليه غير متناهٍ ولا محصور، فهو يُعطي الشيء لا مِن عدد أكثر منه فينقص منه، كمَن يُعطي الألف من الألفين، والعشرة من المِئة، قاله قطرب.

خامسها: أنّ معناه يُعطي أهل الجنّة ما لا يَتناهى ولا يأتي عليه الحساب.

ثمّ قال رحمه اللّه: وكلّ هذه الوجوه جائز حسن (4) .

وقال الزمخشري - في تفسير قوله تعالى: ( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ

____________________

(1) الزّمر 39: 10.

(2) الكهف 18: 105.

(3) البقرة 2: 212.

(4) مجمع البيان، ج2، ص305 - 306.

٢٦٥

سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً ) -: (1) (ضلّ سعيهم) ضاع وبطل... وعن أبي سعيد الخدري: يأتي ناس بأعمالٍ يوم القيامة، هي عندهم في العِظَم كجبالِ تَهامة، فإذا وَزَنوها لم تَزن شيئاً، ( فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ) فنزدري بهم ولا يكون لهم عندنا وزن ولا مِقدار (2) .

وقال الطبرسي: أي لا قيمة لهم عندنا ولا كرامة، ولا نعتدّ بهم، بل نستخفّ بهم ونُعاقبهم، تقول العرب: ما لفلانٍ عندنا وزن أي قَدر ومَنزلة، ويُوصف الجاهل بأنّه لا وزن له؛ لخفّته بسرعة بطشه وقلة تثبّته، ورُوي في الصحيح: أنّ النبي (صلّى اللّه عليه وآله) قال: (إنّه ليأتي الرجلُ العظيمُ السَّمين يومَ القيامة لا يَزن جَناح بعوضة) (3) .

قال العلامة الطباطبائي: والوزن هنا هو الثِقل في العمل في مقابلة الخِفّة في العمل، وربّما تبلغ إلى مرتبة فَقْدِ الوزن رأساً.

وقال - في قوله تعالى: ( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ) (4) -: المراد أنّ الوزن الذي تُوزن به الأعمال يومئذٍ إنّما هو الحقّ. فبقَدَر اشتمال العمل على الحقّ يكون اعتباره وقيمته، والحسنات مُشتملة على الحقّ، فلها ثِقل، كما أن السيّئات ليست إلاّ باطلة فلا ثِقل لها، واللّه سبحانه يَزن الأعمال يومئذٍ بالحقّ، فما اشتمل عليه العمل مِن الحقّ فهو وزنه وثِقله (5) .

مواطن القيامة متفاوتة

سؤال:

هناك آيات تنصّ على أنّهم لا يَتكلّمون إلاّ صواباً (6) ونهوا أن يتخاصموا (7) بل وختم

____________________

(1) الكهف 18: 103 - 106.

(2) الكشّاف، ج2، ص749.

(3) مجمع البيان، ج6، ص497.

(4) الأعراف 7: 8.

(5) الميزان للطباطبائي، ج8، ص8 - 9.

(6) وهو قوله تعالى: ( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً ) النبأ 78: 38.

(7) وهو قوله تعالى: ( لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ) ق 50: 28.

٢٦٦

على أفواههم لتتكلّم أيديهم وتشهد أرجُلُهم بما كانوا يكسبون (1) .

الأمر الّذي يتنافى وقوله تعالى فيهم بأنّهم قالوا واللّه ما كنّا مشركين (2) فإنّه قول كَذِب بل ويمين كاذبة وقد أُذنوا بالتكلّم به!

وكذا مع قوله: ( إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ) (3) وقوله: ( ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ) (4) ، فقد تخاصموا لديه تعالى رُغم منعه سبحانه من ذلك! ثُمّ كيف يلتئم ذلك مع الختم على الأفواه؟!

جواب:

أولاً: إنّ مَن يتكلّم بالصواب في الآية الأُولى هم الملائكة أو المؤمنون، والكلام الصواب هنا هي الشفاعة بالحقّ على ما ذَكَره المفسّرون، وفي الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) وقد سُئل عن هذه الآية قال: (نحن واللّه المأذون لهم يوم القيامة، والقائلون صواباً: نُمجّد ربّنا ونُصلّي على نبيّنا ونَشفع لشيعتنا) (5) .

وثانياً: مواطن القيامة متفاوتة ومواقفها متنوّعة، فقوله ( لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ ) (6) خطاب إلى الكَفّار العنيد وقرينه الشيطان الذي أغواه، حيث يقول الشيطان: ( رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ) (7) ، ويحاول الكافر أنْ يَجعل اللّوم على الّذي أغواه، فكان النهي موجّهاً إليهم: لا تختصموا لديَّ بل اجعلوا بأسَكم بينكم فليس منعاً عن التخاصم على الإطلاق.

غير أنّ هذا التخاصم والتشاجر والمنع منه لديه سبحانه إنّما هو بعد الفراغ من الحساب وفي مقام الاعتذار بعد الاعتراف بالاقتراف، أمّا الختم على الأفواه فهو عند الحساب وفي أثنائه حيث يحاولون الإنكار رأساً، فتتكلّم أيديهم وتشهد أرجُلُهم بما

____________________

(1) وهو قوله تعالى: ( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) ، يس 36: 65.

(2) وهو قوله تعالى: ( وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ * ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاّ أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ) ، الأنعام 6: 22 - 23.

(3) ص 38: 64.

(4) العنكبوت 29: 25.

(5) رواه العيّاشي حسبما ذكره الطبرسي في مجمع البيان، ج10، ص427.

(6) ق 50: 28.

(7) ق 50: 27.

٢٦٧

اقترفوه، فالمـَواطن مُختلفة والمواقف متعدّدة:

فالموطن الأَوّل: موطن المـُداقّة في الحساب، (يختم على أفواه أهل الإلحاد والإنكار).

والموطن الثاني: موطن الفراغ من الحساب، (يتخاصم فيه أهل النار).

والموطن الثالث: موطن الشفاعة لأهل الإيمان، (موطن النُطق بالصواب).

ولكلِّ موطن مناسبتُه وشأنُه.

هكذا يُحمل على اختلاف المواطن ما وَرَد من قوله ( وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ) (1) ، مع قوله:) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ) (2) ، وقوله ( فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ ) (3) .

( اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا)

سؤال:

قال تعالى: ( اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ) (4) .

وقال: ( وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ ) (5) .

وقال: ( قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) (6) .

وقال: ( تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ) (7) .

وقال: ( تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ) (8) .

جواب:

اللّه خالق الموت والحياة، ومَلَك الموت هو الآمر الأَوّل، والملائكة أعوانه المباشرون (9) .

____________________

(1) المرسلات 77: 36.

(2) غافر 40: 52.

(3) الروم 30: 57.

(4) الزمر 39: 42.

(5) الأنعام 6: 60.

(6) السجدة 32: 11.

(7) الأنعام 6: 61.

(8) النحل 16: 28.

(9) راجع: البرهان، ج2، ص64.

٢٦٨

( وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً)

سؤال:

قال تعالى: ( يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً ) (1) .

فقد أخبر تعالى عنهم بأنّهم لا يَكتمون لديه حديثاً... وهذا يتنافى ظاهراً وقوله في موضع آخر: ( ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاّ أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ) (2) فقد كتموا إشراكَهم!

الجواب عن ذلك من وجهين:

الأوّل: أنّ قوله ( لا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً ) داخل في التمنّي، أي يَودّون لو كانوا لم يَكتموا حديثاً في الدنيا بشأن الرسالة والإسلام، أو لم يَكتموا في الآخرة كفرَهم في الدنيا، حيث قولهم: ( وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُـشْرِكِينَ ) ، وذلك باختلاف الموقف، ففي الوَهلة الأُولى كَتموا، وفي الثانية تمنّوا لو لم يكتموا...

الثاني: أنّهم لا يَستطيعون الكتمان؛ حيث تشهد عليهم أرجُلُهم وأيديهم بما كانوا يَكسبون.

مضاعفة العذاب

سؤال:

قال تعالى: ( وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ) (3) .

لكنّه في موضع آخر قال: ( يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ ) (4) ...؟!

جواب:

المـُجازاة بالمِثل خاصّة بالدنيا في مثل القِصاص والعقوبات الجزائيّة، والآية الأُولى واردة بهذا الشأن.

____________________

(1) النساء 4: 42.

(2) الأنعام 6: 23.

(3) الشورى 42: 40.

(4) هود 11: 20.

٢٦٩

أمّا مُضاعفة العذاب ففي الآخرة على حسب مراتب الكبيرة التي ارتكبَها أهلُ الكبائر، والآثار التي خلّفتها تلك الكبيرة المـُوبقة في الأوساط الاجتماعيّة حين الارتكاب وبعدها، ومورد الآية هم الذين كانوا يَصدّون عن سبيل اللّه ويبغونها عِوجاً وهم بالآخرة هم كافرون؛ ومِن ثَمّ يُضاعف لهم العذاب.

التكليم من وراء حجاب

سؤال:

قال تعالى: ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ) (1) .

كيف يلتئم وقوله: ( وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً ) (2) ، وقوله: ( وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا ) (3) حيث وقع التكليم مباشرةً؟!

جواب:

لم تنفِ الآية الأُولى التكليم رأساً، وإنّما نَفَته على الطريقة المعهودة بين الناس حيث يقع مشافهةً، نعم تكليمه تعالى يقع على طرائق ثلاث:

1 - إمّا وحياً وهو النَفث في الرَوع، فيتلقّى النبيّ بشخصيّته الباطنة ما يُلقيه إليه وحي السماء، وهو نوع مِن الإلهام خاصّ بالأنبياء والرسل.

2 - أو بإسماع الصوت من غير أن يُرى شخص المتكلّم، كأنّه يتكلّم من وراء حجاب، وهذا بِخَلقِ التموّج الصوتي في الهواء ليَقرع مسامع النبيّ فيستمع إليه، ولكنّه لا يُرى المتكلّم وإن كان يسمع صوته؛ ومِن ثَمّ وقع التشبيه من وراء حجاب. وهذا هو الذي وقع مع موسى النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله).

3 - أو بإرسال رسول - ملك الوحي - وهو جبرائيل (عليه السلام)، فيُلقي ما تلقّاه وحياً على

____________________

(1) الشورى 42: 51.

(2) النساء 4: 164.

(3) الأعراف 7: 22.

٢٧٠

النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله)، والأكثر ولعلّه الشامل من الوحي القرآني هذا النوع الأخير.

والتكليم والنداء في الآيتَين هُما من النوع الثاني أي التكليم من وراء حجاب، إذن فلا منافاة.

نظرة أو انتظار؟

سؤال:

قال تعالى: ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) (1) ، وقال: ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ) (2) .

قالوا: كيف يلتئم ذلك مع قوله: ( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ) (3) . ( وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ) (4) ، في حين أنّ مَن رأى الشيء وحَدّق النظر إليه فقد أَدركه ببصره وأحاط به علمه؟!

جواب:

هناك فَرق بين نظر رؤية ونظر انتظار وتوقّع، فيومئذٍ تكون الأنظار إليه سبحانه لكنّها نظرة توقّع وانتظار عَميم رحمته، ولا نظر إلاّ إليه (عظمت آلاؤه)، فالنظر إنّما هو إلى ربّهم كيف يُثيبهم؟ وإلى ما وَعَدهم مِن المثوبة في جنّة عدن.

قال الزمخشري: و(الناظرة) مِن نضرة النعيم، ( إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) تنظر إلى ربّها خاصّة ولا تنظر إلى غيره، والمراد: نظر توقّع ورجاء، كقولك: أنا إلى فلان ما يَصنع بي، تُريد معنى التوقّع والرجاء، ومنه قول القائل:

وإذا نظرتُ إليك من مَلِكٍ

والبحرُ دونك زدتني نِعَماً

قال: وسمعت سَرَويَّة مُستجدية بمكّة وقت الظهيرة حين يُغلق الناس أبوابهم ويأوون إلى مقائلهم تقول: عُيَينَتي نُوَيظرة إلى اللّه وإليكم، أي رجائي إلى اللّه وإليكم.

فمعنى الآية: أنّهم لا يتوقّعون النعمة والكرامة إلاّ من ربّهم، كما كانوا في الدّنيا لا يَخشون ولا يرجون إلاّ إيّاه (5) .

____________________

(1) القيامة 75: 22 و23.

(2) النجم 53: 13 و14.

(3) الأنعام 6: 103.

(4) طه 20: 110.

(5) الكشّاف، ج4، ص662 بتصرّف.

٢٧١

وأمّا الآية من سورة النَّجم فالمـُراد: رؤية جبرائيل على صورته الأصليّة؛ حيث وقعت لمـُحمّد (صلّى اللّه عليه وآله) مرّتَين، مرّة عند التبشير بنبوّته، ومرّة أُخرى في المعراج عند سورة المنتهى.

التناسي أو النسيان

سؤال:

قال تعالى: ( فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا ) (1) ، وقال: ( نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ) (2) .

كيف يلتئم ذلك مع قوله: ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً ) (3) ، وقوله: ( لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى ) ؟! (4) .

جواب:

النسيان في الآيتَين الأَوّليتَين هو التناسي والتغافل، أمّا المنفّي في الآيتَين الأخيريتَين فهي الغفلة والنسيان حقيقة.

والنسيان - بمعنى التناسي - في القرآن، كما في قوله تعالى: ( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ) (5) أي تناسى العهد ولم يأخذ بجدٍّ؛ إذ لو كان نَسيَ حقيقةً لكان معذوراً، إذ لا مؤاخذة على التناسي عقلاً ولا لوم عليه.

وقوله: ( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ ) (6) أي تَغافلوا حضورَه تعالى في الحياة؛ ومِن ثَمَّ تغافلوا ولم يأخذوا كرامة الإنسان بجدّ.

فقوله تعالى: ( قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ) (7) يعني نَبَذتَ آياتنا وراء ظهرك ولم تأخذها بجدٍّ، فكذلك اليوم تُنسى ولا تَشملك العناية الإلهيّة.

كما في قوله تعالى: ( فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً ) (8) أي استهانوا بشأن الكتاب واستعاضوا به مَتاع الحياة الدنيا القليل، وهو مِن التغافل في الأمر والتساهل فيه وليست حقيقة الغفلة.

____________________

(1) الأعراف 7: 51.                                   (2) التوبة 9: 67.

(3) مريم 19: 64.                                      (4) طه 20: 52.

(5) طه 20: 115.                                    (6) الحشر 59: 19.

(7) طه 20: 126.                                     (8) آل عمران 3: 187.

٢٧٢

وهكذا جاء في الجواب فيما نُسب إلى الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قال:

(أمّا قوله: ( نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ) فإنّما يعني: نَسوا الله في دار الدنيا، لم يَعملوا بطاعته، فنَسَيهم في الآخرة أي لم يَجعل لهم في ثوابه شيئاً، فصاروا منسيّينَ من الخير، وقد يقول العرب: قد نَسيَنا فلان فلا يَذكُرُنا، أي إنّه لا يَأمر لنا بخير ولا يَذكُرُنا به، وأمّا قوله: ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً ) فإنّ ربّنا تبارك و تعالى ليس بالذي يَنسى ولا يَغفل بل هو الحفيظ العليم) (1) .

كسب التأنيث والتذكير

سؤال:

قال تعالى: ( وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ) (2) .

وقال: ( وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ) (3) .

كيف جاء الوصف وكذا الضمير في الآية الأُولى مُذَكّراً، وفي الآية الثانية مُؤنّثاً في حين وحدة السياق؟!

جواب:

المضاف إلى مؤنّث إن كان يجوز حذفه ولا يُخلّ حذفُه بمَفاد الكلام يجوز في وصفه التذكير والتأنيث، قال ابن مالك:

وربّما أكسبَ ثانٍ أَوَّلاً

تأنيثاً إن كانِ لحذف مُوهَلاَ

فإنّ المضاف المـُذَكّر قد يَكتسب التأنيث من المضاف إليه المؤنّث بشرط جواز حذفه من غير إخلال بمَفاد الكلام، كما قال الأعشى:

وَتَشرِقُ بالقول الذي قد أَذعتَه

كما شَرِقَت صدرُ القناة مِن الدمِ

فتأنيث الفعل (شرقت) المسند إلى (صدر) إنّما هو باعتبار كسبه التأنيث من

____________________

(1) كتاب التوحيد للصدوق، ص259 - 260.

(2) السجدة 32: 20.

(3) سبأ 34: 42.

٢٧٣

المضاف إليه، فلو قُدّر حذفه لم يختلّ مَفاد الكلام.

وجاء عكسه في قول الآخر:

رؤية الفكرِ ما يؤولُ له الأمرُ

مُعينٌ على اجتناب التَواني

وقال غيره:

إنارةُ العقلِ مكسوفٌ بطوعِ هوىً

وعقلُ عاصي الهوى يَزداد تَنويراً

فالضمائر الراجعة إلى المضاف - وهو مؤنّث - في البيتَين، إنّما رُوعي فيها جانب المضاف إليه المـُذَكّر، باعتبار أنّ حذف المضاف في مثل هذا الكلام غير مُخلّ بمفاده.

وهكذا في الآية الكريمة يَجوز في وصف العذاب المضاف إلى النار مُراعاة التذكير على الأصل، كما في الآية من سورة السجدة، وكذا مراعاة التأنيث باعتبار إضافته إلى النار، كما في الآية من سورة سبأ.

وكِلا الأمرَين جائز، كما قال ابن مالك: (وربّما أكسب ثانٍ أوَّلاً تأنيثاً...)، وليس دائماً ولا ضرورة.

* * *

هذا بناءً على كون الوصف نعتاً للمضاف في كلتا الآيتَين؛ نظراً لوحدة السياق فيهما.

وربما فرّقوا بين الآيتَين فجعلوا الوصف نعتاً للمضاف في الآية الأُولى، وللمضاف إليه في الآية الثانية، وعلّلوا ذلك باختلاف الموجب:

قال الزركشي: جاء في سورة السجدة بلفظ (الذي) على وصف العذاب، وفي سورة سبأ بلفظ (التي) على وصف النار. وذلك لوقوع (النار) في سورة السجدة موقع الضمير الذي لا يُوصف، وإنّما وقعت موقع الضمير لتقدّم إضمارها في قوله: ( أَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ ) (1) .

____________________

(1) السجدة 32: 20.

٢٧٤

فحقّ الكلام أنْ يُقال: (وقيل لهم ذوقوا عذابها...) فلمـّا وضعها موضع المضمر الذي لا يقبل الوصف عَدَل إلى وصف العذاب.

وأمّا في (سبأ) فوَصَفَها لعدم المانع مِن وصفِها (1) .

* * *

وربّما ذهبوا إلى أنّه وصفٌ للنار في كلتا الآيتَين، وجاء التذكير في سورة السجدة على معنى (الجحيم) أو (الحريق) (2) .

وهنا وجوه استحسانيّة لا نُطيل بذِكرها فليراجع مظانّها (3) .

فرعون يُقتّل أبناء إسرائيل قبل بعثة موسى أم بعدها؟

جاء في آيات من سورة غافر (4) وسورة الأعراف (5) ما يَدلّ على أنّ فرعون هَمَّ بقتل أبناء إسرائيل واستحياء نسائهم بعد أنْ بُعث موسى (عليه السلام) ودعاه إلى الإيمان.

وفي سورة القصص (6) وسورة طه (7) وإبراهيم (8) والأعراف (9) والبقرة (10) ما يدلّ على أنّ ذبح الأبناء واستحياء النساء كان قد وقع من قبل.

كان فرعون قد أَمر بقتل الذُكور من مواليد بني إسرائيل مِن قبل؛ خوفاً من ظهور نبيّهم موسى (عليه السلام) وقد خاب ظنّه، لكنّه بعد أنْ ظهرت نبوّته وقام في وجهه مُهدّداً له

____________________

(1) البرهان، ج2، ص63 - 64.

(2) إملاء ما مَنَّ به الرحمان لأبي البقاء العكبري، ج2، ص190.

(3) ذكر الزركشي وجوهاً أربعة، وقد ذَكَرنا اثنين منها، راجع: البرهان، ج2، ص63 - 64.

(4) ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ ) . غافر 40: 23 - 25.

(5) ( وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ) . الأعراف 7: 127.

(6) ( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) . القصص 28: 4.

(7) ( أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ ) . طه 20: 39.

(8) ( إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ) .إبراهيم 14: 6.

(9) ( وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ) . الأعراف 7: 141.

(10) ( وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ) . البقرة 2: 49.

٢٧٥

- ولا سيّما بعد أنْ آمن السَحَرة - خاف ازدياد قوّة موسى وقومه والنجدة بالأبناء، فحاول كسر شوكتِهم بالقتل في الأبناء واستعباد النساء، لكنّه لم يُساعده الحظّ؛ حيث أَهلَكَهم اللّه.

قال الطبرسي عند تفسير الآيات من سورة غافر: أُمروا بقتل الذُكور من قوم موسى؛ لئلاّ يكثر قومه ولا يتقوّى بهم، وباستبقاء نسائهم للخِدمَة، وهذا غير القتل الأَوّل؛ لأنّه أمر بالقتل أَوّلاً لئلاّ ينشأ منهم مَن يزول مُلكُه على يده، ثُمَّ ترك ذلك لمـّا أنْ تيقّن ولادة موسى، ولا فائدة في ذبح الأبناء، لكنّه بعد أن ظهرت نبوّة موسى وقام في وجهه مهدِّداً له حاول العَودَ إلى القتل ثانياً؛ حتّى لا تكون فيهم نجدة وقوّة، لكنه تعالى حال دون بلوغ أُمنيّته وأَخذهم بالبلاء والعذاب (1) .

التقدير أَزلاً أم في ليلة القَدر؟

قد يَزعم البعض أنّ في ذلك تناقضاً في القرآن، فتارةً يُرى من تقدير الأُمور مُثبتاً في اللوح المحفوظ ( فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا ) (2) ، وأُخرى تقديرها في ليلة القَدر لكلّ عام ( فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) (3) .

قلت: ليس التقدير ممّا يختلف وإنّما يختلف العلم به، فالّذي يعلم تقدير الأمور ومجاريها أَزلاً وفي اللوح المحفوظ هو اللّه وحده لا شريك له، وأمّا الذي يتنزّل به ويُطلع أولياءه عليه فهو في ليلةٍ مباركةٍ هي ليلة القدر من شهر رمضان من كلّ عام. يتنزّل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كلّ أمر، يتنزّلون بتقادير الأمور على الحجّة القائم مِن أوليائه؛ ليُطلعه على مجاري الأُمور عامّة ذلك، وبذلك تواترت روايات أئمة أهل البيت الصادقين (عليهم السلام) ومِن ثمَّ فإنّ عِلمـَهم الحتم بمجاري الأُمور محدود بعامِهم، دون علم اللّه المحيط الشامل (4) .

____________________

(1) راجع: مجمع البيان، ج4، ص465، وج 8، ص520.

(2) الحديد 57: 22.

(3) الدخان 44: 4، راجع: هاشم العربي في ملحق ترجمة كتاب الإسلام، ص384 - 385.

(4) راجع: الكافي، ج1، ص242 - 253.

٢٧٦

والدليل على ذلك أنّ الوارد في سورَتي الدخان والقَدْر هو النزول والتفريق، وليس أصل التقدير، فتدبّر جيّداً.

فاللّه تبارك وتعالى يعلم تقدير الأُمور حسب مجاريها عِلماً في الأَزل، لكنّه تعالى يُنزل بهذا التقدير في كلّ ليلة قدر بشأن تفريقه طول ذلك العام، الأمر الذي لا يبدو عليه أيّ شبهة تناقض.

متى وقع التقدير؟ وهل لا يتنافى التقدير مع الاختيار؟

جاء في سورة الدخان أنّ التقدير إنّما يقع في كلّ ليلة قَدْرٍ مِن شهر رمضان في كلّ سنة ( فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) (1) . وقد وردت روايات أيضاً بأنّ ما يقع في تلك السنّة إنّما يُقدَّر في ليلة القدر.

هذا، في حين كَثرة الآيات والروايات بأنّ التقدير إنّما وقع في الأَزل، وتجري الأمور حسبما قُدّرت في اللّوح المحفوظ من غير تخلّف ولا تبديل، ( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا ) (2) ، ( وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاّ فِي كِتَابٍ ) (3) .

على أنّ هذه الآيات تَرمي إلى سلب مسؤوليّة الإنسان عمّا يفعله؛ حيث إنّه كان مُقدّراً من قبل، وهذا يتنافى وقوله تعالى: ( وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً ) (4) .

أمّا المسألة الأُولى: فقد سَبَق البحث عنها في مسألة البداء وأنّ هناك تقديرَين، تقديرٌ ظاهري حسب مجاري الأمور الطبيعيّة من عللٍ وأسبابٍ تتفاعل حسب طبيعتها الأُولى، وهي السُنَن الساطية على الكون ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) (5) .

وهذه السُنَن ليست حتميّة، في حين كونها هي الغالبة، حيث احتمال مفاجئة أُمور

____________________

(1) الدخان 44: 4.

(2) الحديد 57: 22.

(3) فاطر 35: 11.

(4) الإسراء 17: 13.

(5) القمر 54: 49.

٢٧٧

طارِئة من خارج مَدارات السُنَن فتُغيّر من اتجاهاتها أحياناً، الأمر الذي لا يَعلمه إلاّ اللّه وكان مُقدّراً أي معلوماً لديه تعالى في الأَزل، خافياً عن أعين الخلائق إلاّ مَن علّمه اللّه، وهذا هو التقدير المكنون في اللوح المحفوظ، ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ ) (1) .

فالأَجل الأَوّل هو الذي تقتضيه مجاري الأمور الطبيعيّة حسب السُنَن الجارية في الخَلق، وهذا ليس بحتم، أمّا الأَجل الآخر الحتمي فهو الذي عَلِمَه اللّه في الأَزل حسب الأسباب الطارئة الخافية عن غيره تعالى، ( لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (2) .

روى الصدوق بإسناده إلى الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (وهل يَمحو اللّه إلاّ ما كان؟ وهل يُثبت إلاّ ما لم يكن؟) (2) .

فهناك تغيير وتبديل على خلاف مجاري الأُمور، لا يَعلمه إلاّ اللّه عِلماً كائناً في الأَزل.

قال الإمام الباقر (عليه السلام): (من الأُمور أُمور موقوفة عند اللّه، يُقدّم منها ما يشاء ويُؤخّر منها ما يشاء ويُثبت منها ما يشاء) (4) ، أي: من الأمور ما هي موقوفة - في جريانها حسب العادة الطبيعيّة - على شرائط، إنْ وُجدت جرت، وإلاّ تخلّفت، فحصول هذه الشرائط في وقتها أو عدم حصولها شيء لا يعلمه إلاّ اللّه.

فالعلم بالتقادير الحتميّة الأَزليّة خاصّ اللّه تعالى، أمّا غيره تعالى من الملائكة المقرّبين والمدبِّرات أمراً وكذا المـُصطَفون من عباد اللّه المـُكرمينَ فلا عِلم لهم بسِوى مُقتضيات السُنَن الطبيعيّة في مجاري الأمور، والتي هي بمَعرض البَداء والتبديل، أمّا حتميّتها فهذا شيءٌ إنّما يعرفونه في كلّ ليلة قدرٍ من كلّ سنةٍ وفي محدودة عامِها فحسب.

قال الإمام الصادق (عليه السلام): (إنّ للّه عِلمـَينِ، عِلمٌ مكنونٌ مخزونٌ لا يَعلمه إلاّ هو، من

____________________

(1) الأنعام 6: 2.

(2) الرعد 13: 38 - 39.

(3) كتاب التوحيد للصدوق، ص333، رقم 4.

(4) بحار الأنوار، ج4، ص116 - 117، رقم 44.

٢٧٨

ذلك يكون البداء، وعِلم علّمه ملائكتَه ورسلَه وأنبياءَه، فنحن نعلمه) (1) ، وقد عنى بهذا العلم الذي تَعلمه الملائكة والأنبياء والأئمّة هو العِلم وِفق مجاري الأمور الطبيعيّة، والتي يُمكن التخلّف فيها؛ ومِن ثَمَّ قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (واللّه لولا آية في كتاب اللّه لحدّثتُكم بما يكون إلى يوم القيامة، وهي قوله تعالى: ( يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) ) (2) .

* * *

وأمّا المسألة الثانية: هل لا يتنافى التقدير مع الاختيار؟ فقد استوفينا الكلام عنها عند البحث عن مسألة الاستطاعة والاختيار، وتَبيّن أنّ التقدير السابق لا يَعدو سوى العِلم بما سيقع وتقديره حسبما يقع، من غير أن يكون العِلم السابق ذا أثرٍ في تحقّق المعلوم، فإنّ للظواهر الكونيّة عِللاً وأسباباً تكوينيّةً هي التي تُؤثّر في الفعل والانفعال التكوينيّينِ، كما أنّ للأفعال الاختياريّة الصادرة من الفاعل المختار (الحيوان والإنسان) سبباً مباشراً هي إرادته بالذات وليس مقهوراً فيها.

فإذا كان اللّه يعلم - أَزلاً - ماذا سيقع وسيتحقّق عِبر الأبد ثُمّ قدّر مجاريها ودبّر من شؤونها بما يتوائم ونظام الكون فهذا لا يعني الإجبار، ولا سيّما فيما يَعود إلى أعمالٍ يقوم بها الإنسان حسب إرادته واختياره، وليس مِن المنطق أن يُفرض العلم بأمرٍ علّةً لوجوده.

والتقدير السابق، إنّما هو العِلم بالأسباب والمسبّبات - كما هي - ثمّ تدبير مجاريها حسب نظام الكون، فلا هناك جَبر ولا سلب للمسؤوليّة فيما يَمسّ أفعال العباد الاختياريّة.

( إِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وَارِدُهَا)

قال تعالى: ( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً ) (3) ، والخطاب عامّ يشمل

____________________

(1) الكافي للكليني، ج1، ص147، رقم 8.

(2) بحار الأنوار، ج4، ص97، رقم 4 و5، والآية 38 من سورة الرعد.

(3) مريم 19: 71.

٢٧٩

المؤمن والكافر، وبدليل ما بعد الآية: ( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً ) (1) ، حيث قوله: ( وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا ) ، أي الجميع يَرِدُونها فيخرج المؤمن ويُترك الظالم بحاله.

الأمر الذي يتنافى وقوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا ) (2) ، فيكف الوئام؟!

وقد ذَكَر المفسّرون هنا وجوهاً، أوجهُها - ما عن ابن مسعود والحسن وقتادة واختاره أبو مسلم - أنّه بمعنى الإشراف عليها ليَشهدوا ذلك العرض الرهيب، فالمؤمنون يَجوزونها ويَدنون منها ويَمرّون بها وهي تتأجّج وتتميّز وتتلمـّظ، ويَرَون العتاة ينزعون فيقذفون فيها.

قال تعالى: ( فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ ) لن يكونوا لوحدِهم بل ( وَالشَّيَاطِينَ ) الذين هم قادتُهم، وبينهما صلة التابع والمتبوع والقائد والمـَقود، ( ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً ) جاثين على رُكَبِهم في ذلّ وفَزَع، ( ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً ) ، فلا يُؤخذ أحدٌ جُزافاً من تلك الجُموع المتكاثفة، ( ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً ) ليكونوا طليعةَ المقذوفينَ فيها.

وبعد، فيأتي دور المؤمنينَ الذين سَبَقت لهم مِن اللّه الحُسنى، فيأتي زَرَافات منهم، يَمرّون بهذا المشهد الرهيب، فيُزَحزَحون عنها وفي منجاةٍ منها يَجوزونه ( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا ) أي نجعلهم في منجاةٍ منه ( وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً ) (3) أي نَدعهم جاثمين على رُكَبِهم على شفا جُرُفٍ هارٍ؛ لينهار بهم في نار جهنّم.

فقد كان المـُراد بالورود هنا هو الإشراف عليها، كما في قوله تعالى: ( وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ ) (4) ، وقوله: ( فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ ) (5) ، إذ ليس المـُراد من الورود هنا الدخول، بل الدنوّ والاقتراب، قال الراغب: الورود، أصله قَصْدُ الماء، ثُمّ يُستعمل في غيره (6) قوله: ( وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ ) أي قَصَدَه واقترب منه. والوارد: الذي

____________________

(1) مريم 19: 72.

(2) الأنبياء 21: 101 - 102.

(3) مريم 19: 68 - 72.

(4) القصص 28: 23.

(5) يوسف 12: 19.

(6) المفردات، ص519.

٢٨٠

يتقدّم القوم ليَرِد الماء ويَسقي لهم، قوله: ( فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ ) أي ساقيهم من الماء المورود.

قال: ويقال لكلّ مَن يَرِد الماء وارد، وقوله تعالى: ( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وَارِدُهَا ) (١) ، ومنه: وَرَد ماءَ كذا أي حَضَره (٢) .

وفي أمثال العرب: (أنْ تَرِد الماء بماءٍ أكيس) (٣) ، أي من الكياسة والاحتياط أنْ يكون واردُ الماء مُستَصحِباً مع شيء من الماء، ولعلّه يَرِد الماء فلا يجده.

قال زهير - شاعر الجاهليّة -:

فلمـّا وَرَدْنَ الماءَ زُرقاً جِمامُهُ

وَضَعنَ عِصِيَّ الحاضِر المـُتَخيّمِ (٤)

أراد: فلمـّا بَلَغْنَ الماء أَقَمْنَ عليه.

قال الزّجاج: والحُجّة القاطعة على أنّهم لا يَدخلونها هي قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا ) (٥) .

وللطبرسي هنا كلام مُذيّل ونَقل آراء، اقتصرنا على الأرجح منها، فليراجع (٦) .

ولابن شهر آشوب توجيهٌ لطيفٌ بإرجاع ضمير الخطاب إلى مُنكري الحشر على طريقة الالتفات (٧) .

( فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)

جاء التعبير بأنّه تعالى أحسنُ الخالقينَ في موضعَينِ من القرآن (٨) ممّا يشير بأنّ هناك خالقينَ سوى اللّه ليكون هو أحسنهم!! في حين أنّه تعالى ينفي بكلّ شدّةٍ أن يكون خالقٌ غيره إطلاقاً وأنّه خالق كلّ شيء ولا خالق سواه، فما وجه التوفيق؟

____________________

(١) مريم ١٩: ٧١.

(٢) المصدر.

(٣) مجمع الأمثال للميداني، ج١، ص٣٢، رقم ١٢٩.

(٤) هذا البيت من معلّقته المشهورة، يقول: فلمـّا بلغتْ الضعائن الماءَ وقد اشتدّ صفاءُ ما جُمع منه في الآبار والحياض عَزَمْنَ على الإقامة، فَوَضَعْنَ العِصيّ وعَمَدن إلى نصبِ الخيام كما في المتحضّر، والزُرقة: شدّة الصفاء، والجِمام: جمع جَمَّ الماءَ، وجمّته، وَوَضعُ العِصيّ كناية عن الإقامة؛ لأنّ المسافر إذا عزم على الإقامة بمكانٍ وضع عَصاه، والتخيّم: نصب الخيام. (شرح المعلّقات السبع للزوزني، ص٧٧).

(٥) الأنبياء ٢١: ١٠١ و١٠٢.

(٦) مجمع البيان، ج٦، ص٥٢٥ - ٥٢٦.

(٧) متشابهات القرآن لابن شهر آشوب، ج٢، ص١٠٧.

(٨) المؤمنون ٢٣: ١٤، والصّافات ٣٧: ١٢٥.

٢٨١

غير أنّ الخَلق بمعنى الإبداع وإيجاد الصورة بالتركيب الصناعي أمرٌ يَعمّ، فقد حكى اللّه عن المسيح: ( أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ ) (١) ، وقوله: ( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي ) (٢) ، والخَلق - في كلام العرب - ابتداع الشيء، وإنّما يخصّه تعالى إذا كان إنشاءً لا على مِثال سَبَقَه، وكلّ شيءٍ خَلقه اللّه فهو مٌبتَدِؤه على غير مِثال سَبَق إليه، ( أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ ) (٣) .

قال ابن الأنباري: الخَلق في كلام العرب على وجهَينِ: أحدهما الإنشاء على مِثال أَبدَعَه، والآخر التقدير، وقوله تعالى:) فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) (٤) معناه: أحسنُ المقدِّرينَ، وكذلك قوله تعالى: ( وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً ) (٥) أي تقدّرون كَذِباً.

قال ابن سيده: خَلَق اللّهُ الشيء يخلُقه خَلقاً: أحدثه بعد أنْ لم يكن.

قال ابن منظور: والخَلق التقدير، وخَلق الأَديمَ يَخلقه خَلقاً: قدّره لِما يُريد قبل القطع، وقاسَه ليَقطع منه مَزادةً أو قِربةً أو خفّاً، قال زهير بن أبي أسلمي يَمدح رجلاً:

ولأَنت تَفري ما خَلقتَ وبعـ

ـضُ القومِ يَخلقُ ثُمّ لا يفري

يعني: أنت إذا قدّرت أمراً قطعته وأَمضَيته، وغيرك يقدّر وليس بماضي العزم (٦) .

( عَبَسَ وَتَوَلَّى)

وممّا جَعَلَه أهل التبشير المسيحي ذريعةً للحطّ من كرامة القرآن - بزعم وجود التناقض فيه - ما عاتبَ اللّه به نبيّه (صلّى اللّه عليه وآله) بشأن عُبوسه في وجه ابن أمّ مكتوم المـَكفوف، جاء ليتعلّم منه مُلِحّاً على مسألته، وهو لا يعلم أنّه منشغل بالكلام مع شرفاء قريش، فساء النبيَّ إلحاحُهُ ذلك فأعرض بوجهِهِ عنه كالحاً متكشّراً، الأمر الذي يتنافى وخُلُقه العظيم الذي وصفه اللّه به في وقتٍ مبكّر!

جاء قوله تعالى: ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) في سورة القلم، ثانية السور النازلة بمكّة.

____________________

(١) آل عمران ٣: ٤٩.

(٢) المائدة ٥: ١١٠.

(٣) الأعراف ٧: ٥٤.

(٤) المؤمنون ٢٣: ١٤.

(٥) العنكبوت ٢٩: ١٧.

(٦) لسان العرب، مادّة (خلق).

٢٨٢

أمّا سورة عَبَس فهي الرابعة والعشرون.

جاء في أسباب النزول: أنّ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) كان يُناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والعبّاس بن عبد المطّلب وأُبيّاً وأُميّة ابني خَلَف يدعوهم إلى اللّه ويرجو إسلامهم، وفي هذه الحال جاءه عبد الله ابن أمّ مكتوم (١) ونادى: يا رسول اللّه، أَقرِئني وعلّمني ممّا علّمك اللّه، فجَعل يُناديه ويُكرّر النداء، ولا يعلم أنّه مشتغلٌ ومُقبلٌ على غيره، حتّى ظهرت آثار الكراهة على وجه رسول اللّه؛ لقطعه كلامه!

قالوا: وقال في نفسه: يقول هؤلاء الصناديد: إنّما أتباعه العُميان والعبيد، فأعرض عنه وأقبل على القوم الّذين كان يُكلّمهم، فنزلت الآيات، وكان رسول اللّه بعد ذلك يُكرمه ويقول إذا رآه: مرحباً بمن عاتبني فيه ربّي، واستخلفه على المدينة مرّتين (٢) .

قال الشريف المرتضى: ليس في ظاهر الآية دلالة على تَوجُّهِها إلى النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) بل هو خبر محض لم يُصرّح بالمـُخبر عنه، وفيها ما يدلّ على أنّ المعنيّ بها غيره؛ لأنّ العُبوس ليس من صفات النبيّ مع الأعداء المنابذينَ فضلاً عن المؤمنين المـُسترشِدينَ، ثُمّ الوصف بأنّه يتصدّى للأغنياء ويتلهّى عن الفقراء لا يُشبه أخلاقَه الكريمة، وقد قال تعالى في وصفه: ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (٣) ، وقال: ( وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ) (٤) ، فالظاهر أنّ قوله ( عَبَسَ وَتَوَلَّى ) (٥) المـُراد به غيره (٦) .

وهكذا ورد قوله تعالى: ( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ) (٧) ، وقوله: ( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ

____________________

(١) هو: عمرو بن قيس بن زائدة بن الأصمّ القرشي: قيل: إنّ اسمه الحُصَين، سمّاه النبيّ عبد الله، قال ابن حيان: كان أهل المدينة يقولون: اسمه عبد الله، وأهل العراق يقولون: اسمه عمرو، قال ابن خالويه: كان أبوه يُكنّى أبا السرج (على ما ذَكَره الشيخ في تفسير التبيان، ج١٠، ص٢٦٨)، وكان مؤذّناً للنبي (صلّى اللّه عليه وآله) بعد هجرته من مكّة، واسم أُمّه عاتكة بنت عبد اللّه بن عنكثة، وهو (ابن أُمّ مكتوم) ابن خال خديجة أُمّ المؤمنين (عليها السلام)، فإن أُمّ خديجة أُخت قيس بن زائدة واسمها فاطمة، أَسَلم في السابقينَ إلى الإسلام بمكّة وكان من المهاجرينَ الأَوّلينَ، قيل: قَدِم المدينة قبل النبيّ، وقيل: بعده بقليل ومات في أيّام عمر، وقيل: استُشهد بالقادسيّة، راجع: الإصابة لابن حجر، ج٢، ص٥٢٣.

(٢) مجمع البيان، ج١٠، ص٤٣٧.

(٣) القلم ٦٨: ٤.

(٤) آل عمران ٣: ١٥٩.

(٥) عبس ٨٠: ١.

(٦) تنزيه الأنبياء للسيّد المرتضى، ص١١٨ - ١١٩ بتلخيص يسير.

(٧) الحجر ١٥: ٨٨، مكّية، رقم نزولها: ٥٤.

٢٨٣

اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) (١) ، وغيرهما من آيات مكّية جاء الدُستور فيها بالخَفض واللين والرأفة مع المؤمنينَ، فكيف يا ترى يتغافل النبيّ عن خُلُقٍ كريم هي وظيفته بالذات؟! ولا سيّما مع السابقين الأوّلين من المؤمنين، وبالأخصّ مع مَن ينتمي إلى زوجه الوفيّة خديجة الكبرى أُمّ المؤمنينَ (٢) .

وقال الشيخ أبو جعفر الطوسي: ما ذَكَروه سبباً لنزول الآيات إنّما هو قولُ لفيفٍ من المـُفسّرين وأهل الحشو في الحديث، وهو فاسد؛ لأنّ النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) قد أَجلّ اللّهُ قَدْرَه عن هذه الصفات، وكيف يَصفه بالعُبُوس والتقطيب وقد وصفه بالخُلُق العظيم واللين وأنّه ليس بفظّ غليظ القلب؟! وكيف يُعرض النبيّ عن مُسلم ثابت على إيمانه جاء ليتعلّم منه، وقد قال تعالى: ( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) ؟! (٣) ومَن عرف النبيّ وحُسنَ أخلاقه وما خصّه اللّه تعالى به من مكارم الأخلاق وحُسن الصُحبة، حتّى قيل: إنّه لم يكن يُصافح أحداً قطّ فينزع يده من يده حتّى يكون ذلك هو الذي ينزع يده.

فمَن هذه صفته كيف يقطب وجهَه في وجه أعمى جاء يَطلب زيادة الإيمان، على أنّ الأنبياء (عليهم السلام) منزّهون عن مثل هذه الأخلاق وعمّا دونها؛ لِما في ذلك من التنفير عن قبول دعوتهم والإصغاء إلى كلامهم، ولا يُجوّز مثل هذا على الأنبياء مَن عرف مِقدارهم وتبيّن نعتَهم.

نعم، قال قوم: إنّ هذه الآيات نزلت في رجلٍ من بني أُميّة كان واقفاً إلى جنب النبيّ، فلمـّا أقبل ابن أُمّ مكتوم تقذّر وجمع نفسَه وعَبَس وتولّى، فحكى اللّه ذلك وأنكره مُعاتِباً له (٤) .

قال الطبرسي: وقد رُوي عن الصادق (عليه السلام): (أنّها نزلت في رجلٍ من بني أُميّة كان عند النبيّ، فجاء ابن أُمّ مكتوم، فلمـّا رآه تقذّر منه وجَمَع نفسَه وعَبس وأعرض بوجهه عنه، فحكى اللّه سبحانه ذلك وأنكره عليه).

قال: ولو صحّ الخبر الأَوّل لم يكن العُبُوس ذنباً؛ إذ العُبوس والانبساط مع الأعمى

____________________

(١) الشعراء ٢٦: ٢١٥، مكّية، رقم نزولها: ٤٧.

(٢) تقدّم قريباً أنّه كان ابن خال خديجة رضوان اللّه عليها.

(٣) الأنعام ٦: ٥٢.

(٤) تفسير التبيان، ج١٠، ص٢٦٨ - ٢٦٩ بتصرّف يسير.

٢٨٤

سَواء إذ لا يَرى ذلك فلا يَشقّ عليه، فيكون قد عاتب اللّه سبحانه نبيّه بذلك؛ ليأخذه بأوفر محاسن الأخلاق، وينبّهه على عظيم حال المؤمن المسترشد، ويعرّفه أنّ تأليف المؤمن ليقيم على إيمانه أَولى من تأليف المـُشرك طَمعاً في إيمانه.

قال: وقال الجبّائي: في هذا دلالة على أنّ الفعل إنّما يكون معصيةً فيما بعد لا في الماضي، فلا يَدلّ على أنّه كان معصيةً قبل النهي عنه، ولم ينهَه (صلّى اللّه عليه وآله) إلاّ في هذا الوقت.

وقيل: إنّ ما فعله الأعمى كان نوعاً مِن سوء الأدب، فحُسنَ تأديبه بالإعراض عنه، إلاّ أنّه كان يجوز أنْ يتوهّم أنّه أعرض عنه لفقره، وأقبل عليهم لرياستهم تعظيماً لهم، فعاتبه اللّه على ذلك.

قال: ورُوي عن الصادق (عليه السلام) أنّه قال: (كان رسول (صلّى اللّه عليه وآله) إذا رأى عبد اللّه بن أُمّ مكتوم قال: مرحباً مرحباً، لا واللّه لا يُعاتبني اللّه فيك أبداً، وكان يََصنع به من اللّطف حتى كان (ابن أُمّ مكتوم) يكفّ عن النبيّ ممّا يفعل به) (١) ، أي كان يُمسك عن الحضور لديه استحياءً منه.

قلت: الأمر كما ذَكَره هؤلاء الأعلام، مِن أنّها فِعلة لا تتناسب ومقام الأنبياء، فكيف بنبيّ الإسلام المنعوت بالخُلُق العظيم؟! فضلاً عن أنّ سياق السورة يأبى إرادة النبيّ في توجيه الملامة إليه؛ ذلك: أنّ التعابير الواردة في السورة ثلاثة (عبس)، (تولَّى)، (تلهّى)، الأَوّلان بصيغة الغياب والأخيرة خطاب، على أنّ الأَوّلين (عبس وتولّى) فعلانِ قصديّانِ (يصدران عن قصد وإرادة وعن توجّهٍ من النفس)، والأخير (تلهّى) فعل غير قصديّ (صادر لا عن إرادة ولا عن توجّهٍ من النفس)، فإنّ الإنسان إذا توجّه بكلّيّته إلى جانب فإنّه مُلتهٍ عن الجانب الآخر، على ما تقتضيه طبيعة النفس الإنسانيّة المحدودة، لا يُمكنه التوجّه إلى جوانب عديدة في لحظةٍ واحدة! إنّما هو اللّه، لا يشغله شأن عن شأن!

وهذا الفعل الأخير كان قد توجّه الخطاب - عتاباً - إلى النبيّ؛ لانشغاله بالنجوى مع القوم وقد ألهاه ذلك عن الإصغاء لمسألة هذا الوارد، من غير أنْ يَشعر به.

فهذا ممّا يُجوّز توجيه الملامة إليه (صلّى اللّه عليه وآله): كيف يَصرف بكلّ همّه نحو قومٍ هم ألدّاء،

____________________

(١) مجمع البيان، ج١٠، ص٤٣٧.

٢٨٥

بحيث يصرفه عمّن يأتيه بين حينٍ وآخر، وهو نبيّ بُعث إلى كافّة الناس.

وهو عتابٌ رقيقٌ لطيفٌ يُناسب شأن نبيّ هو ( بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ) (١) .

أمّا الفعلان الأَوّلان فقد صَدَرا عن قصدٍ وإرادة، كانا قبيحَينِ إلى حدّ بعيد، الأمر الذي يتناسب مع ذلك الأَموي المترفّع بأنفه المعتزّ بثروته وترفه في الحياة، وكان معروفاً بذلك.

وعليه فلا يمكن أن يكون المـَعنيّ بالفعل الثالث (غير العمدي) هو المعنيّ بالفعلَين الأَوّلين (العمديّين).

أسئلة مع أجوبتها لابن قتيبة

لأبي مُحمّد عبد اللّه بن مسلم بن قتيبة (٢١٣ - ٢٧٦) في كتابه (تأويل مشكل القرآن) عرضٌ عريض لأسئلة طرحها مِن أهل الشُبَه، وأجاد في أكثر أجوبته عليها بصورة فنيّةٍ دقيقة، رأينا إيرادها مع شيءٍ من التوضيح وربّما أضفنا من كلمات الآخرين لمزيد الفائدة.

عَقَد في كتابه باباً عنوانه (الحكاية عن الطاعنينَ) وجَعَله على ثلاثة فصول على حسب تنوّع الشُبَه، وهي:

١ - شُبهة وجوه القراءات هل توجب اختلافاً في القرآن؟

٢ - دعوى وجود اللحن في القرآن.

٣ - مُوهم التناقض والاختلاف في القرآن.

وجعل الشُبَه كلّها في مقدّمة الباب، ثُمّ عقّبها بالأجوبة والحلول على الترتيب، وقد رجّحنا تعقيبَ كلِّ نوعِ شُبهةٍ بحلّها الوافي مباشرةً؛ لئلاّ يطول على القارئ تلقّي الجواب عن شُبهة عُرضت عليه.

____________________

(١) التوبة ٩: ١٢٨.

٢٨٦

اختلاف القراءة هل يُوجب اختلافاً في القرآن؟

قالوا: وجدنا الصحابة ومَن بعدهم يَختلفون في الحرف (أي القراءة):

فابن عبّاس يقرأ (وادّكر بعد أمهٍ)، وغيره يقرأ ( بَعْدَ أُمَّةٍ ) (١) .

وعائشة تقرأ: (إذ تَلِقُونه)، وغيرها يقرأ: ( إِذْ تَلَقَّوْنَهُ ) (٢) .

وأبو بكر يقرأ: (وجاءت سَكْرَة الحقّ بالموتِ)، والناس يقرأون: ( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ) (٣) .

وقرأ بعض القرّاء (هو الأعرج): (وأعتَدت لهنّ مَتكاً)، وقرأ الناس: ( وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً ) (٤) .

وكان ابن مسعود يقرأ: (إن كانت إلا زقية واحدة) ويقرأ: (كالصوف المنفوش)، والناس يقرأَون: ( إِنْ كَانَتْ إِلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً ) (٥) و ( كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ) (٦) ، مع أشباهٍ لهذا كثيرة يُخالف فيها مصحفُه المصاحفَ القديمة والحديثة، وكان يَحذف من مُصحفِه (أُمّ الكتاب) ويَمحو (المعوّذتين) ويقول: لِمَ تزيدون في كتاب اللّه ما ليس فيه؟!

وأُبيّ يقرأ: ( إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا (من نفسي فيكف أُظهِرُكم عليها)) (٧) ، ويزيد في مُصحفِه افتتاح (دعاء القنوت) إلى قول الداعي: (إنّ عذابك بالكافرين ملحق) ويعدّه سورتَينِ من القرآن!

والقرّاء يختلفون، فهذا يَرفع ما يَنصبه ذاك، وذاك يَخفض ما يَرفعه هذا... وأنتم تَزعمون أنّ هذا كلّه كلام ربّ العالمين، فأيّ شيء بعد هذا الاختلاف تريدون؟! (٨) .

وهذا الإشكال بعينه أورده المستشرق الألماني (إجنتس جولد تسيهر)، قال: (فلا

____________________

(١) يوسف ١٢: ٤٥، انظر: شواذّ القراءات لابن خالويه، ص٦٤.

(٢) النور ٢٤: ١٥، انظر: الشواذّ، ص١٠٠.

(٣) ق ٥٠: ١٩، انظر: الشواذّ، ص١٤٤.

(٤) يوسف ١٢: ٣١، انظر: الشواذّ، ص٦٣.

(٥) يس ٣٦: ٢٩، انظر: الشواذّ، ص١٢٥.

(٦) القارعة ١٠٠: ٥، انظر: الشواذّ، ص١٧٨.

(٧) طه ٢٠: ١٥، انظر: الشواذّ، ص٨٧.

(٨) راجع: تأويل مشكل القرآن لابن قيبة، ص٢٤ - ٢٥.

٢٨٧

يوجد كتاب تشريعي اعترف به طائفة دينيّة اعترافاً عقدياً على أنّه نصٌّ منزلٌ أو مُوحى به يُقدم نصّه في أقدم عصور تَداوله مِثل هذه الصورة من الاضطراب وعدم الثبات كما نَجد في نصّ القرآن) (١) .

القرآن شيءٌ والقراءات شيءٌ آخر

هناك فَرقٌ فارق بين القرآن والقراءات؛ حيث القرآن هو النصّ المـُوحى به من عند ربّ العالمين نَزل به الروح الأمين على قلب سيّد المرسلينَ، وهو الذي تَعاهده المسلمون جيلاً بعد جيل، تلقّوه من الرسول تلقّياً مباشراً، وتداولوه يداً بيد حتّى حدّ التواتر المستفيض، لا اختلاف فيه ولا اضطراب مُنذ يومه الأَوّل فإلى مدى العصور وتعاقب الدهور، وهم على قراءةٍ واحدة كان يَقرأها النبيّ الكريم(صلّى اللّه عليه وآله) تَداوله الأصحاب والتابعون لهم بإحسان وعلى أثرهم سائر الناس أجمعون.

أمّا القراءات فهي اجتهادات مِن القرّاء للوصول إلى ذلك النصّ المـُوحّد، ولكن طرائقهم هدتهم إلى مُختلف السبل فضلاً على تنوّع سلائقهم في سلوك المنهج القويم، فذهبوا ذاتَ اليمين وذاتَ الشمال، كلٌّ يضربُ على وِترَه (٢) .

قال الإمام أبو عبد اللّه الصادق (عليه السلام): (القرآن واحد، نزل مِن عند واحد، ولكنّ الاختلافَ يجيء مِن قِبَل الرواة) (٣) يعني: أنّ الاختلاف حادث على أثر اختلاف نَقَلَة النصّ وَهم القُرّاء.

ومِن ثَمّ قال الإمام بدر الدِّين الزركشي: القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان، فالقرآن هو الوحي المـُنزل على مُحمّد (صلّى اللّه عليه وآله)، والقراءات هي اختلاف ألفاظ الوحي المذكور،

____________________

(١) راجع: مذاهب التفسير الإسلامي لجولد تسيهر تعريب عبد الحليم النجّار، ص٤.

(٢) عدلنا عمّا ذكره ابن قتيبة بهذا الشأن؛ لذهابه إلى جواز القراءة بكلّ هذه الوجوه، استناداًَ إلى حديث الأحرف السبعة، وقد نبّهنا على أنّ الحديث إنّما يعني اللهجات دون القراءات السبع التي هي اجتهادات مِن القرّاء والتي توسّمت برسميّتها بعد ثلاثة قرون، راجع: التمهيد، ج٢.

(٣) الكافي، ج٢، ص٦٣٠، رقم ١٢.

٢٨٨

في كِتبَة الحروف أو كيفيّتها (١) أي الاختلاف الحاصل فيما بعد، في كيفية كتابته أو كيفية قراءته.

* * *

على أنّ هذه الآثار إنّما نُقلت نقلاً بالإرسال، وعلى فرض الإسناد وصحة السند فهي أخبار آحاد لا يثبت به القرآن، المعتبر فيه النقل المتواتر القطعي نقلاً على سعة الآفاق، وليس في سِوى قراءة حفص ذات الإسناد الذهبي إلى الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقد ملأت الخافقَينِ.

أمّا المنقول عن ابن عبّاس فلم يَثبت وحاشاه أن يَتعدّى قراءة شيخه ومولاه إمام المتّقين.

والمنقول عن عائشة لا اعتبار به، وهكذا جاءت قراءة أبي بكر قُبيل وفاته في سَكرة الموت، روى القرطبي بإسناده إلى مسروق، قال: لمـّا احتضر أبو بكر أرسل إلى عائشة، فلمـّا دخلتْ عليه قالت: هذا كما قال الشاعر:

لَعَمرُك ما يُغني الثراءُ ولا الغِنى

إذا حشرجتْ يوماً وضاق بها الصدرُ

فقال أبو بكر: هلاّ قلتِ كما قال اللّه: (وجاءت سكرة الحقّ بالموت ذلك ما كنت منه تحيد).

قال القرطبي: هذه الرواية مرفوضة تجري مَجرى النسيان منه إن كان قالها، أو الغلط مِن بعض مَن نقل الحديث (٢) .

وقراءة الأعرج شاذّة لا اعتداد بها.

وكان ابن مسعود يَرى جواز تبديل النصّ بالأجلي من غير أنْ يجعله قرآناً أو يعتقده نصّاً مُوحى به، وكان عمله هذا مرفوضاً لدى المحقّقين.

والمنقول عن أُبيّ ومِثله عن ابن مسعود أيضاً هي زيادات تفسيريّة لغرض الإيضاح من غير أن يكون زيادةً في النصّ أو تغييراً في لفظ القرآن.

____________________

(١) البرهان، ج١، ص٣١٨.

(٢) راجع: تفسير القرطبي، ج١٧، ص١٢ - ١٣.

٢٨٩

على أنّه لا حجّية في مزاعم أُناس - مهما كانوا - ما لم تقع موضع قبول عامّة المسلمين فضلاً عن رفضهم إيّاها، كما وقع بالفعل.

قال ابن قتيبة: وأمّا نقصان مُصحف عبد اللّه بحذفه (أُمّ الكتاب) و(المعوّذتين)، وزيادة (أُبيّ) بسورتي القنوت، فإنّا لا نقول: إنّ عبد اللّه وأُبَيّاً أصابا، وأخطأ المهاجرون والأنصار، ولكن عبد اللّه ذهب فيما يرى أهل النظر إلى أنّ المعوّذتين كانتا كالعوذة والرُقْيَة وغيرهما، وكان رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله) يُعوِّذ بهما الحسن والحسين (١) ، كما كان يعوذ بـ (أعوذ بكلمات اللّه التامّة) (٢) ، فظَنّ أنّهما ليستا من القرآن، وأقام على ظنّه وعلى مخالفة الصحابة جميعاً، كما في مواضع أُخر خالف فيها جميع الأصحاب.

وإلى نحو هذا ذهب أُبيّ في دعاء القنوت؛ لأنّه رأى رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) يدعو به في الصلاة دعاءً دائماً، فظنّ أنّه من القرآن، وأقام على ظنّه وعلى مخالفة الصحابة.

قال: وأمّا (فاتحة الكتاب) فإنّي أشكّ فيما رُوي عن عبد اللّه مِن تركه إثباتِها في مُصحفه، فإنْ كان هذا محفوظاً فليس يجوز لمسلم أنْ يَظنّ به الجهل بأنّها من القرآن، وكيف يُظنّ به ذلك وهو من أشدّ الصحابة عنايةً بالقرآن؟!

ولكنّه ذهب فيما يَظنّ أهل النظر إلى أنّ القرآن إنّما كُتب وجُمِع بين اللوحين؛ مَخافةَ الشكّ والنسيان والزيادة والنقصان، ورأى ذلك لا يجوز على سورة الحمد؛ لقِصَرِها ولأنّها تُثنّى في كلّ صلاة، ولا يجوز لأحدٍ من المسلمين ترك تعلّمِها وحفظها (٣) .

قال سيّدنا الأُستاذ طاب ثراه: إنّ تواتر القرآن لا يستلزم تواتر القراءات؛ لأنّ الاختلاف في خصوصيات حادثة تأريخيّة - كالهجرة مثلاً - لا ينافي تواتر نفس الحادثة، على أنّ الواصل إلينا بتوسّط القرّاء إنّما هو خصوصيات قراءاتهم، وأمّا أصل القرآن فهو واصل إلينا بالتواتر بين المسلمين وبنقل الخَلف عن السَلف وتحفّظهم عليه في الصدور

____________________

(١) أخرجه أحمد في مسنده، ج٥، ص١٣٠، من حديث زر بن حبيش.

(٢) أخرجه البخاري، ج٤، ص١٧٩، في كتاب الأنبياء من حديث ابن عباس، وراجع: صحيح مسلم، ج٤، ٢٠٨٠ - ٢٠٨١ في كتاب الذكر والدعاء والاستغفار، باب التعوّذ من سوء القضاء ودرك الشقاء، وسُنَن الدارمي، ج٢، ص ٢٨٩ في الاستئذان، وسنن الترمذي، ج٤، ص٣٩٦، في الطبّ، وسنن ابن ماجة، ج٢، ص٣٥٩، باب ١٢٨٩، رقم ٣٥٨٦. ومسند أحمد، ج١، ص٢٣٦.

(٣) تأويل مشكل القرآن، ص٤٢ - ٤٩.

٢٩٠

وفي الكتابات، ولا دَخل للقرّاء بخصوصهم في ذلك أصلاً؛ ولذلك فإنّ القرآن ثابت بالتواتر، حتّى لو فرضنا أنّ هؤلاء القرّاء لم يكونوا في عالم الوجود، إنّ عظمةَ القرآن ورِفعةَ مقامِه أعلى من أنْ تتوقّف على نقل أولئك النفر المحصورين (١) .

موهم الاختلاف والتناقض زيادةً على ما سبق

أورد ابن قتيبة قِسماً من آيات نَحَلُوا فيها التناقض والاختلاف، ممّا قدّمنا الكلام فيها والإجابة عليها، وأضاف:

قوله تعالى: ( لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاّ مِنْ ضَرِيعٍ ) (٢) ، وهو يقول في موضعٍ آخر: ( فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلاّ مِنْ غِسْلِينٍ ) (٣) .

وأجاب: إنّ في النار دَرَكات، والجنّة دَرَجات، وعلى قَدَرِ الذنوب والحسنات تقع العقوبات والمـَثوبات، فمِن أهل النار مَن طعامه الزقّوم، ومِنهم مَن طعامه غِسلِين، ومنهم مَن شرابه الحميم، ومِنهم مَن شرابه الصديد.

والضَريع: نَبْتٌ يكون بالحجاز، يقال لرُطَبه: الشِبْرِق، لا يُسمن ولا يُشبع. قال امرؤ القيس:

فأَتبَعتُهم طَرفي وقَد حالَ دُونَهم

غَوارِبُ رَملٍ ذي أَلاءٍ وشِبْرِقِ (٤)

والعرب تَصِفُه بذلك.

وغِسلِين: فِعلِين مِن غسلتُ، كأنّه الغُسالة، قال بعض المفسّرين: هو ما يسيل من أجساد المـُعذَّبينَ (كالقيح).

وهذا نحو قوله: ( سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ ) (٥) ، وقرأ عيسى: ( سرابيلهم مِن قِطْرٍ آنٍ ) (٦) ، والقِطر: النُحاس، والآن: الذي بَلَغَ مُنتهى حرّه، (وقيل المـُذاب)، كأنّ قوماً يُسربَلونَ هذا،

____________________

(١) البيان في تفسير القرآن للإمام الخوئي، ص١٧٤.

(٢) الغاشية ٨٨: ٦.

(٣) الحاقّة ٦٩: ٣٥ و٣٦.

(٤) ألاء - بوزن علاء -: شجر حَسَن المـَنظر، مُرّ الطعم دائم الاخضرار، يَنبت في الرمل والأودية، ورقه وحِملَه دباغ.

(٥) إبراهيم ١٤: ٥٠، والقِطران: سيّال دهني يتقاطر من بعض الأشجار كالصنوبر.

(٦) شواذ ابن خالويه، ص ٧٠.

٢٩١

وقوماً يُسربَلونَ هذا، ويَلبسون هذا تارةً، وهذا تارةً (١) .

وأمّا قولهم: (كيف يكون في النار نبت وشجر والنار تأكلهما؟!) فإنّه لم يَرِد فيما يَرى أهل النظر - واللّه أعلم - أنّ الضَريع بعينه يَنبت في النار، ولا أنّهم يأكلونه، والضَريع من أقوات الأنعام لا من أقوات الناس، وإذا وقعت فيه الإبل لم تشبع وهلكت هُزْلاً، قال الهذلي - يَذكر إبلاً لم تَشبع وهلكت هُزْلاً -:

وحُبِسنَ في هَزمِ الضَريع فكلّها

حَدباءُ داميةُ اليدين حَرودُ (٢)

فأراد تعالى أنّ هؤلاء قوم يَقتاتون ما لا يُشبعهم، وضَرَب الضريع مثلاً، أو يُعذّبون بالجُوع كما يُعذَّب مَن قوته الضَّريع.

وقد يكون الضَّريع وشجرة الزقّوم نبتَين مِن النار، أو من جوهرٍ لا تأكله النار، وكذلك سلاسل النار وأغلالها وأنكالها وعقاربها وحيّاتها، لو كانت كما نعلم لم تبقَ على النار، وإنّما دلّنا اللّه سبحانه على الغائب عنده بالحاضر عندنا، فالأسماء متّفقة للدلالة، والمعاني مختلفة.

وما في الجنّة من شجرها وثمرها وفُرُشها وجميع آلاتها على مِثل ذلك.

* * *

وقولهم: وأين قوله: ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ ) من قوله: ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ) ؟ (٣) أيّ رابطة بين الصبور الشكور وجريان الفلك في البحور؟

لكن لم يُرِد اللّه في هذا الموضع معنى الصبر والشكر خاصّةً، وإنّما أراد: إنّ في ذلك لآيات لكلّ مؤمن، والصبر والشكر أفضل ما في المؤمن من خلال الخير، فذَكره اللّه عزّ وجلّ في هذا الموضع بأفضل صفاته، وقال في موضعٍ آخر: ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً

____________________

(١) هذا بناءً على مذهبه في حجّية مختلف القراءات استناداً إلى حديث الأَحرف السبع.

(٢) وفي اللسان: (حدباء بادية الضلوع حَرودُ)، هزم الضريع: ما تكسّر منه. والحَرود: التي لا تكاد تدر لبناً. وفي مقاييس اللغة مادة (ضرع): (وتركن في هزم الضريع...).

(٣) لقمان ٣١: ٣١.

٢٩٢

لِلْمُؤْمِنِينَ ) (١) ، وفي موضع آخر: ( لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) (٢) ، و ( لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) (٣) ، و ( إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَاب ) (٣) ، يعني المؤمنين.

(فالمعنّي بهذه الآيات وبهذه التعابير هم المؤمنون محضاً، وإنّما جاءت الأوصاف الخاصّة بهم عناوين مُشيرة إلى ذاك المعنون بالذات، من غير خصوصية لذات الأوصاف).

ومِثله قوله تعالى في قصّة سبأ: ( وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ) (٥) ، وهذا كما تقول: إنّ في ذلك لآية لكلّ موحّدٍ مُصلٍّ، ولكلّ فاضلٍ تقيّ، وإنّما تُريد المسلمين حقّاً (٦) .

والخلاصة: أنّ هناك فرقاً بين أَخذ الأوصاف عناوين مشيرة إلى الموضوع الأصل فلا رابط بينها وبين الحكم المترتّب عليها في القضيّة، وبين أَخذها مواضيع هي علل وأسباب لثبوت تلك الأحكام المترتّبة، والآيات المـُنوّه عنها هي من قبيل النوع الأَوّل؛ لتكون الأوصاف خواصّ لازمة للموضوع من غير أن يكون لها دخل في موضوعيّة الموضوع، الأمر الذي حقّقه علماء الأُصول.

* * *

وقوله: ( كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ) (٧) ، فإنّما يريد بالكفّار هاهنا الزُرّاع، واحدهم كافر، وإنّما سُمّي كافراً؛ لأنّه إذا ألقى البَذر في الأرض كَفََره، أي غطّاه وسَتَره، وكلّ شيءٍ غَطّيته فقد كَفَرَته (٨) ، ومنه قيل: تَكفّر فلان في السلاح: إذا تغطّى، ومنه قيل للّيل: كافر: لأنّه يَستر بظُلمته كلّ شيء، ومنه قول الشاعر (هو لبيد بن ربيعة):

يعلُو طَريقَةَ مَتنِها متواتراً

في ليلةٍ كَفَرَ النُجومَ غَمامُها (٩)

____________________

(١) الحجر ١٥: ٧٧.

(٢) النحل ١٦: ٦٩.

(٣) النحل ١٦: ٦٧.

(٤) الرعد ١٣: ١٩.

(٥) سبأ ٣٤: ١٩، وانظر: إبراهيم ١٤: ٥ والشورى ٤٢: ٣٣.

(٦) راجع: تأويل مشكل القرآن، ص٧٥.

(٧) الحديد ٥٧: ٢٠.

(٨) وإنّما يقال للمـُلحِد (كافر)؛ لأنه غطّى فَطَرته وسَتَر نداء ذاته بالوحدانيّة.

(٩) أي يعلو طَريقَة مَتنِ هذه البقرة مطرٌ مُتتابع في ليلةٍ ظَلماء على أثر تراكم السُحب التي غطّت وجه النجوم، والطريقة: خطّة مخالفة للون البقرة، والمتنان: مكتنفا الظهر، وقد استشهد بهذا البيت الطبري في التفسير، ج١، ص٨٦، وابن قتيبة في تأويل مشكل القرآن، ص٧٦.

٢٩٣

وقالوا في قوله تعالى: ( وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) : (١) استثناؤه المشيئة من الخلود يدلّ على الزوال، وإلاّ فلا معنى للاستثناء، ثُمّ قال: أي غير مقطوع!

وقوله: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) (٢) أي غير مقطوع ومن غير أذى، فكيف التوفيق؟!

قال ابن قتيبة في الإجابة على ذلك: إنّ للعرب في معنى (الأبد) ألفاظاً يستعملونها في كلامهم، يقولون: لا أفعل ذلك ما اختلف الليل والنهار، وما طمى البحر أي ارتفع ماؤه وامتلأ، وما أقام الجبل، وما دامت السماوات والأرض، في أشباه لهذا كثيرة، يُريدون: لا أفعله أبداً؛ لأنّ هذه المعاني عندهم لا تتغيّر عن أحوالها أبداً، فخاطبهم اللّه بما يستعملونه، فقال: أي مِقدار دوامهما، وذلك مدّة العالم.

وللسماء والأرض وقت يتغيّران فيه عن هيئتهما، يقول اللّه تعالى: ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ ) (٣) ، ويقول: ( يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ) (٤) .

أراد أنّهم خالدون فيها مدّة العالم، سوى ما شاء اللّه أنْ يزيدهم من الخلود على مدّة العالم، و(إلاّ) في هذا الموضع بمعنى (سوى). ومِثله في الكلام: لأَسكُننّ في هذه الدار حولاً إلاّ ما شئت، تريد: سوى ما شئت أن أزيد على الحَول.

قال: هذا وجه، ووجه آخر، وهو: أنْ يُجعل دوام السماء والأرض بمعنى الأبد، على ما تعرف العرب وتستعمل، وإنْ كانتا قد تتغيّران، وتُستثنى المشيئة من دوامهما؛ لأنّ أهل الجنّة وأهل النار قد كانوا في وقتٍ من أوقات دوام السماء والأرض في الدنيا، لا في الجنّة، فكأنّه قال: خالدينَ في الجنّة وخالدينَ في النار دوام السماء والأرض، إلاّ ما شاء ربّك من تعميرهم في الدنيا قبل ذلك.

____________________

(١) هود ١١: ١٠٨.

(٢) فصّلت ٤١: ٨.

(٣) إبراهيم ١٤: ٤٨.

(٤) الأنبياء ٢١: ١٠٤.

٢٩٤

وفيه وجه ثالث، وهو: أن يكون الاستثناء من الخلود مَكث أهل الذنوب من المسلمين في النار، حتّى تَلحقهم رحمة اللّه وشفاعة رسوله، فيخرجوا منها إلى الجنّة، فكأنّه قال سبحانه: خالدينَ في النار مادامت السماوات والأرض، إلاّ ما شاء ربّك من إخراج المذنبينَ من المسلمين إلى الجنّة، وخالدين في الجنّة مادامت السماوات والأرض، إلاّ ما شاء ربّك من إدخال المذنبين النار مدّةً من المدد ثُمّ يصيرون إلى الجنّة (١) .

هذا ما ذَكَره ابن قتيبة بهذا الشأن، والآيتان من مشكل القرآن، على حدّ تعبير المـُفسّر الكبير أبي عليّ الطبرسي، وأفاد هو هنا وجوهاً لحلّ الإشكال نَذكرها بالتالي، ولنبدأ بالآيتين، بكاملتهما:

* * *

قال تعالى: ( يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) (٢) .

فقد وقع الاستثناء بشأن كلّ من الأشقياء والسُعداء، أمّا الاستثناء بشأن الأشقياء فلا موضع للكلام فيه؛ نظراً لأمرين:

أحدهما: أنّ هذا الاستثناء لم يقع بشأن المجموع من حيث المجموع، بل بشأن الجميع حسب الأفراد، فالجميع محكومون بالخلود في جهنّم إلاّ ما شاء ربّك بشأن بعضهم، ولعلّهم الأكثر حسب مقتضى الذنوب التي ارتكبوها، ولعلّها تقع موضع عفو ربّهم الكريم.

ثانيهما: أنّ الشقاء إنّما هو في مرتبة الاقتضاء للخلود، وليس علّةً تامّة؛ ومِن ثَمّ صحّ الاستثناء حسب مشيئة الربّ إذا تحقّقت أسبابه في حين.

هذا فضلاً عن أنّ مخالفة الوعيد لا ضَير فيه ولا حَزازة فيه على الكريم.

____________________

(١) تأويل مشكل القرآن، ص٧٦ - ٧٨.

(٢) هود ١١: ١٠٥ - ١٠٨.

٢٩٥

إنّما الكلام والإشكال وقوع الاستثناء بشأن السُعداء حيث وَعَدَهم بالخلود، والكريم لا يُخلف الميعاد.

قال الطبرسي: اختلف العلماء في تأويل هذا في الآيتَين، وهما من المواضع المشكلة في القرآن، والإشكال فيه من وجهَين: أحدهما: تحديد الخلود بمدّة دوام السماوات والأرض، والآخر: معنى الاستثناء بقوله: ( إِلاّ مَا شَاءَ رَبُّكَ ) .

فالأَوّل فيه أقوال:

أحدها: أنّ المراد ما دامت السماواتُ والأرضُ مبدّلتَين، أي مادامت سماء الآخرة وأرضها، وهما لا يفنيان إذا أُعيدا بعد الإفناء، عن الضحّاك والجبّائي.

وثانيها: أنّ المراد ما دامت سماوات الجنّة والنار وأرضهما، وكلّ ما علاك سماء وكلّ ما استقرّ عليه قدمُك أرض، وهو قريبٌ من الأَوّل.

وثالثها: أنّ المراد ما دامت الآخرة، وهي دائمة أبداً، كما أنّ دوام السماء والأرض في الدنيا قَدَر مدّة بقائها، عن الحسن.

ورابعها: أنّه لا يُراد به السماء والأرض بعينهما، بل المراد التبعيد، فإنّ للعرب ألفاظاً للتبعيد في معنى التأبيد، يقولون: لا أفعل ذلك ما اختلف الليل والنهار، وما دامت السماء والأرض، وما نَبتَ النَبتُ، وما أَطّت الإبل، وما اختلف الجرّة والدرّة، وما ذرّ شارق، وفي أشباه ذلك كثرة، ظنّاً منهم أنّ هذه الأشياء لا تتغيّر، ويَرون بذلك التأبيد لا التوقيت، فخاطبهم اللّه سبحانه بالمتعارف مِن كلامهم على قَدَر عقولهم وما يعرفون.

قال عمرو بن معدي كرب:

وكلُّ أَخٍ مُفارِقُه أخوهُ

لَعَمرُ أَبيكَ إلاّ الفَرقَدانِ

وقال زهير:

أَلا لا أَرى على الحَوادث باقياً

ولا خالِداً إلاّ الجبالَ الرواسيا

وإلاّ السماءَ والنجومَ وربَّنا

وأيّامَنا مَعدودةً والليالِيا

لأنّه توهّم أنّ هذه الأشياء لا تفنى، وتَخلد.

قلت: وهذا الوجه الرابع هو الرأي السديد حسب الظاهر.

٢٩٦

وأمّا الكلام في الاستثناء فقد اختلف فيه أقوال العلماء على وجوه:

أحدها: أنّه استثناء في الزيادة من العذاب لأهل النار، والزيادة من النعيم لأهل الجنّة، والتقدير: إلاّ ما شاء ربُّك من الزيادة على هذا المقدار (أي المـُضاعفة في العقوبة والمثوبة، إضافةً إلى جانب الخلود، من أنواع العقوبة والنعيم).

وهذا كما يقول الرجل لصاحبه: لي عليك ألف دينار إلاّ الألفَين اللذَين أقرضتكهما وقت كذا، فالأَلفان زيادة على الألف بغير شكّ؛ لأنّ الكثير لا يُستثنى من القليل، عن الزجّاج والفرّاء وعليّ بن عيسى وجماعة.

وعلى هذا فيكون (إلاّ) بمعنى (سوى)، أي سوى ما شاء ربُّك، كما يقال: ما كان معنا رجل إلاّ زيد، أي سوى زيد.

وثانيها: أنّ الاستثناء واقع على مقامهم في المـَحشر والحساب؛ لأنّهم حينئذٍ ليسوا في جنّة ولا نار، ومدّة كونهم في البرزخ الذي هو ما بين الموت والحياة؛ لأنّه تعالى لو قال (خالدينَ فيها أبداً) ولم يستثنِ لظنّ الظانّ أنّهم في النار والجنّة من لَدُن نزول الآية أو من انقطاع التكليف، فحصل للاستثناء فائدة، عن المازني وغيره، واختاره البلخي.

فإن قيل: كيف يُستثنى من الخلود في النار ما قبل الدخول فيها؟ فالجواب: أنّ ذلك جائز إذا كان الإخبار به قبل دخولهم فيها.

وثالثها: أنّ الاستثناء الأَوّل يتصل بقوله: ( لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ) ، وتقديره: إلاّ ما شاء ربّك من [ سائر ] أجناس العذاب الخارجة عن هذين الضربَين، ولا يتعلّق الاستثناء بالخلود، وفي أهل الجنّة يتّصل بما دلّ عليه الكلام، فكأنّه قال: لهم فيها نعيم إلاّ ما شاء ربّك من أنواع النعيم، وإنّما دلّ عليه قوله: ( عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) ، عن الزجّاج.

ورابعها: أنْ يكون (إلاّ) بمعنى الواو، أي: وما شاء ربّك من الزيادة، عن الفرّاء. واستشهد على ذلك بقول الشاعر:

وأرى لها داراً بأَغدَرَةِ السي

دان لم يَدرس لها رسمُ

إلاّ رماداً هامِداً رفعتْ

عنه الرّياحَ خوالدٌ سُحمُ (١)

____________________

(١) أغدرة السيدان: موضع، والخوالد: الأثافي، وهي الأحجار الثلاثة التي يوضع عليها القدر، والسُحمُ: السود.

٢٩٧

قال: والمراد بـ (إلاّ) هاهنا (الواو)؛ وإلاّ كان الكلام متناقضاً، وهذا الوجه قد ضعّفه المحقّقون من النحاة.

وخامسها: أنّ المراد بـ ( الَّذِينَ شَقُوا ) من أُدخل في النار من أهل التوحيد، الّذين ضمّوا إلى إيمانهم وطاعاتهم ارتكاب المعاصي، فقال سبحانه: إنّهم معاقبون في النار إلاّ ما شاء ربّك من إخراجهم إلى الجنّة وإثابتهم على الطاعات، ويجوز أنْ يُريد بـ ( الَّذِينَ شَقُوا ) جميع الداخلينَ إلى جهنّم، ثُمّ استثنى بقوله: ( إِلاّ مَا شَاءَ رَبُّكَ ) أهل الطاعات، وقد يكون (ما) بمعنى (مَن) أي: إلاّ مَن شاء ربّك.

وأمّا في أهل الجنّة فهو استثناء بحسب ما تقدّموه في النّار، وتكون (ما) بمعناها ويكون الاستثناء من الزمان، بخلاف الأَوّل الذي كان استثناء مِن الأعيان، ويكون ( الَّذِينَ شَقُوا ) - بناءاً على هذا القول - هم الذي سَعِدوا بأعيانهم، وإنّما أجرى عليهم كلّ لفظ في الحال التي تَليق به، فإذا أُدخلوا في النار وعُوقبوا فيها فهم أهل الشقاء، وإذا نُقلوا منها إلى الجنّة فهم أهل السعادة، وهذا قول ابن عباس وجابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري وقتادة والسدّي والضحّاك وجماعة من المفسّرين.

وروى أبو روق عن الضحّاك عن ابن عباس قال: ( الَّذِينَ شَقُوا ) ليس فيهم كافر، وإنّما هم قوم من أهل التوحيد يَدخلون النار بذنوبهم ثُمّ يتفضّل الله عليهم فيُخرجهم من النار إلى الجنّة، فيكونون أشقياء في حال، سعداء في حالٍ أخرى.

قال الطبرسي: وهذا القول هو المختار المـُعوّل عليه.

وسادسها: أنّ تعليق ذلك بالمشيئة، على سبيل التأكيد للخلود والتبعيد للخروج؛ لأنّ الله تعالى لا يشاء إلاّ تخليدهم على ما حَكَم به، فكأنّه تعليق لِما لا يكون بما لا يكون؛ لأنّه لا يشاء أنْ يخرجهم منها.

وسابعها: أنّ الله سبحانه استثنى ثم عزم بقوله: ( رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ) أنّه أراد أنْ يُخلّدهم، قاله الحسن.

٢٩٨

وقريب منه ما قاله الزجّاج وغيره: إنّه استثناء تستثنيه العرب وتفعله، كما تقول: والله لأَضربَنّ زيداً إلاّ أنْ أرى غير ذلك، وأنت عازم على ضربه، والمعنى في الاستثناء على هذا: أنّي لو شئت أنْ لا أضربه لفعلت.

وثامنها: أنّه يعني بقوله: ( إِلاّ مَا شَاءَ رَبُّكَ ) ما سبقهم به الذين دخلوا قبلهم من الفريقَين، قاله يحيى بن سلام البصري، واحتجّ بقوله تعالى: ( وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً ) (١) ، ( وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً ) (٢) ، قال: إنّ الزُمرة تدخل بعد الزُمرة، فلابدّ أن يقع بينهما تفاوت في الدخول، والاستثناءان على هذا من الزمان.

وتاسعها: أنّ المعنى: خالدون في النار، دائمون فيها مدّة كونهم في القبور، مادامت السماوات والأرض في الدنيا، وإذا فُنيتا وعُدِمَتا انقطع عقابهم إلى أن يبعثهم الله للحساب، وقوله: ( إِلاّ مَا شَاءَ رَبُّكَ ) استثناء وقع على ما يكون في الآخرة. أورده الشيخ أبو جعفر قدس الله روحه وقال: ذَكَره قوم من أصحابنا في التفسير.

وعاشرها: أنّ المراد: إلاّ ما شاء ربّك أن يتجاوز عنهم، والاستثناء يكون على هذا من الأعيان.

وقال في الذين سَعِدوا: يتأتّى فيهم جميع الوجوه التي ذُكرت في أهل الشقاء، إلاّ ما ذكروه من جواز إخراج بعض الأشقياء من تناول الوعيد لهم وإخراجهم من النار، فإنّ ذلك لا يتأتّى هنا؛ لإجماع الأُمّة على أنّ مَن استحقّ الثواب فلابدّ أن يَدخل الجنّة ولا يخرج منها بعد الدخول، لقوله تعالى: ( عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) أي غير مقطوع (٣) .

* * *

قلت: والذي يترجّح في النظر أنّ مثل هذا التعليق على المشيئة في كلامه تعالى أمر عاديّ، إذا ما لاحظنا شيمة الأكابر حيث لا يُحتّمون على أنفسهم أمراً ليكونَ لِزاماً عليهم فيطالبوا بإنجازه، وإن كانوا يُوفون بما وعَدوا كرامةً وفضلاً لا تكليفاً وإلزاماً، ومِن ثَمّ ترى

____________________

(١) الزُمر ٣٩: ٧١.

(٢) الزمر ٣٩: ٧٣.

(٣) مجمع البيان، ج ٥، ص ١٩٤ - ١٩٦ مع تصرّف يسير.

٢٩٩

أنّ أكثر وعوده تعالى - التي جاءت في القرآن كانت بصورة خلق الرجاء في نُفوس الموعود لهم - مبدوءة بلفظة (لعلّ) و (عسى) ونحوهما، ممّا يجعل الإنجاز مُعلّقاً على مشيئته واقتضاء حِكمته وليس حتماً عليه في ظاهر الوعد، وإن كان الله يفي بما وَعَد فضلاً ومنّةً، ولا يُخلف الميعاد.

يقول تعالى مخاطباً لنبيّه: ( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى * إِلاّ مَا شَاءَ اللَّهُ ) (١) ، فقد تلقّاه النبيّ وعداً حتماً وإن كان بصورة التعليق على المشيئة.

وقال: ( وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) (٢) ، فهو وعدٌ بمقام الشفاعة، ولسوف يعطيه ربّه فيرضى (٣) ، وإن كان الوعد وقع ظاهراً بصورة خَلق الرجاء.

وقال بشأن المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلةً ولا يهتدون سبيلاً: ( فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً ) (٤) ، فأولئك معفوّ عنهم لا محالة؛ ومِن ثَمّ جاء التعقيب بأنّه تعالى عفوّ غفور، غير أنّ الوعد وقع ظاهراً بصورة خَلق الرجاء دون الحتم الإلزامي.

وقال: ( وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) (٥) ، لا شكّ أنّه تعالى سَيرحم أولئك الذين اتّبعوا الكتاب واتّقوا، لكنّ الوعد وقع بغير صورة الحتم عليه تعالى، والآيات من هذا القبيل كثيرة.

* * *

والتعليق على المشيئة بشأن خلود الأشقياء في النار والسعداء في نعيم الجنان من هذا القبيل، حتّى لا يكون لِزاماً عليه تعالى فيما أَوعَد أو وَعَد، ومِن ثَمّ عقّب المشيئة بشأن الأشقياء بقوله: ( إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ) ، يعني: وإن كان الإيعاد بالخلود وقع بشأنهم حسب

____________________

(١) الأعلى ٨٧: ٦ و ٧.

(٢) الإسراء ١٧: ٧٩.

(٣) ( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ) الضحى ٩٣: ٥.

(٤) النساء ٤: ٩٩.

(٥) الأنعام ٦: ١٥٥.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578