شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم6%

شبهات وردود حول القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 578

شبهات وردود حول القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 578 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 297600 / تحميل: 13676
الحجم الحجم الحجم
شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

يتقدّم القوم ليَرِد الماء ويَسقي لهم، قوله: ( فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ ) أي ساقيهم من الماء المورود.

قال: ويقال لكلّ مَن يَرِد الماء وارد، وقوله تعالى: ( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وَارِدُهَا ) (١) ، ومنه: وَرَد ماءَ كذا أي حَضَره (٢) .

وفي أمثال العرب: (أنْ تَرِد الماء بماءٍ أكيس) (٣) ، أي من الكياسة والاحتياط أنْ يكون واردُ الماء مُستَصحِباً مع شيء من الماء، ولعلّه يَرِد الماء فلا يجده.

قال زهير - شاعر الجاهليّة -:

فلمـّا وَرَدْنَ الماءَ زُرقاً جِمامُهُ

وَضَعنَ عِصِيَّ الحاضِر المـُتَخيّمِ (٤)

أراد: فلمـّا بَلَغْنَ الماء أَقَمْنَ عليه.

قال الزّجاج: والحُجّة القاطعة على أنّهم لا يَدخلونها هي قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا ) (٥) .

وللطبرسي هنا كلام مُذيّل ونَقل آراء، اقتصرنا على الأرجح منها، فليراجع (٦) .

ولابن شهر آشوب توجيهٌ لطيفٌ بإرجاع ضمير الخطاب إلى مُنكري الحشر على طريقة الالتفات (٧) .

( فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)

جاء التعبير بأنّه تعالى أحسنُ الخالقينَ في موضعَينِ من القرآن (٨) ممّا يشير بأنّ هناك خالقينَ سوى اللّه ليكون هو أحسنهم!! في حين أنّه تعالى ينفي بكلّ شدّةٍ أن يكون خالقٌ غيره إطلاقاً وأنّه خالق كلّ شيء ولا خالق سواه، فما وجه التوفيق؟

____________________

(١) مريم ١٩: ٧١.

(٢) المصدر.

(٣) مجمع الأمثال للميداني، ج١، ص٣٢، رقم ١٢٩.

(٤) هذا البيت من معلّقته المشهورة، يقول: فلمـّا بلغتْ الضعائن الماءَ وقد اشتدّ صفاءُ ما جُمع منه في الآبار والحياض عَزَمْنَ على الإقامة، فَوَضَعْنَ العِصيّ وعَمَدن إلى نصبِ الخيام كما في المتحضّر، والزُرقة: شدّة الصفاء، والجِمام: جمع جَمَّ الماءَ، وجمّته، وَوَضعُ العِصيّ كناية عن الإقامة؛ لأنّ المسافر إذا عزم على الإقامة بمكانٍ وضع عَصاه، والتخيّم: نصب الخيام. (شرح المعلّقات السبع للزوزني، ص٧٧).

(٥) الأنبياء ٢١: ١٠١ و١٠٢.

(٦) مجمع البيان، ج٦، ص٥٢٥ - ٥٢٦.

(٧) متشابهات القرآن لابن شهر آشوب، ج٢، ص١٠٧.

(٨) المؤمنون ٢٣: ١٤، والصّافات ٣٧: ١٢٥.

٢٨١

غير أنّ الخَلق بمعنى الإبداع وإيجاد الصورة بالتركيب الصناعي أمرٌ يَعمّ، فقد حكى اللّه عن المسيح: ( أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ ) (١) ، وقوله: ( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي ) (٢) ، والخَلق - في كلام العرب - ابتداع الشيء، وإنّما يخصّه تعالى إذا كان إنشاءً لا على مِثال سَبَقَه، وكلّ شيءٍ خَلقه اللّه فهو مٌبتَدِؤه على غير مِثال سَبَق إليه، ( أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ ) (٣) .

قال ابن الأنباري: الخَلق في كلام العرب على وجهَينِ: أحدهما الإنشاء على مِثال أَبدَعَه، والآخر التقدير، وقوله تعالى:) فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) (٤) معناه: أحسنُ المقدِّرينَ، وكذلك قوله تعالى: ( وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً ) (٥) أي تقدّرون كَذِباً.

قال ابن سيده: خَلَق اللّهُ الشيء يخلُقه خَلقاً: أحدثه بعد أنْ لم يكن.

قال ابن منظور: والخَلق التقدير، وخَلق الأَديمَ يَخلقه خَلقاً: قدّره لِما يُريد قبل القطع، وقاسَه ليَقطع منه مَزادةً أو قِربةً أو خفّاً، قال زهير بن أبي أسلمي يَمدح رجلاً:

ولأَنت تَفري ما خَلقتَ وبعـ

ـضُ القومِ يَخلقُ ثُمّ لا يفري

يعني: أنت إذا قدّرت أمراً قطعته وأَمضَيته، وغيرك يقدّر وليس بماضي العزم (٦) .

( عَبَسَ وَتَوَلَّى)

وممّا جَعَلَه أهل التبشير المسيحي ذريعةً للحطّ من كرامة القرآن - بزعم وجود التناقض فيه - ما عاتبَ اللّه به نبيّه (صلّى اللّه عليه وآله) بشأن عُبوسه في وجه ابن أمّ مكتوم المـَكفوف، جاء ليتعلّم منه مُلِحّاً على مسألته، وهو لا يعلم أنّه منشغل بالكلام مع شرفاء قريش، فساء النبيَّ إلحاحُهُ ذلك فأعرض بوجهِهِ عنه كالحاً متكشّراً، الأمر الذي يتنافى وخُلُقه العظيم الذي وصفه اللّه به في وقتٍ مبكّر!

جاء قوله تعالى: ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) في سورة القلم، ثانية السور النازلة بمكّة.

____________________

(١) آل عمران ٣: ٤٩.

(٢) المائدة ٥: ١١٠.

(٣) الأعراف ٧: ٥٤.

(٤) المؤمنون ٢٣: ١٤.

(٥) العنكبوت ٢٩: ١٧.

(٦) لسان العرب، مادّة (خلق).

٢٨٢

أمّا سورة عَبَس فهي الرابعة والعشرون.

جاء في أسباب النزول: أنّ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) كان يُناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والعبّاس بن عبد المطّلب وأُبيّاً وأُميّة ابني خَلَف يدعوهم إلى اللّه ويرجو إسلامهم، وفي هذه الحال جاءه عبد الله ابن أمّ مكتوم (١) ونادى: يا رسول اللّه، أَقرِئني وعلّمني ممّا علّمك اللّه، فجَعل يُناديه ويُكرّر النداء، ولا يعلم أنّه مشتغلٌ ومُقبلٌ على غيره، حتّى ظهرت آثار الكراهة على وجه رسول اللّه؛ لقطعه كلامه!

قالوا: وقال في نفسه: يقول هؤلاء الصناديد: إنّما أتباعه العُميان والعبيد، فأعرض عنه وأقبل على القوم الّذين كان يُكلّمهم، فنزلت الآيات، وكان رسول اللّه بعد ذلك يُكرمه ويقول إذا رآه: مرحباً بمن عاتبني فيه ربّي، واستخلفه على المدينة مرّتين (٢) .

قال الشريف المرتضى: ليس في ظاهر الآية دلالة على تَوجُّهِها إلى النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) بل هو خبر محض لم يُصرّح بالمـُخبر عنه، وفيها ما يدلّ على أنّ المعنيّ بها غيره؛ لأنّ العُبوس ليس من صفات النبيّ مع الأعداء المنابذينَ فضلاً عن المؤمنين المـُسترشِدينَ، ثُمّ الوصف بأنّه يتصدّى للأغنياء ويتلهّى عن الفقراء لا يُشبه أخلاقَه الكريمة، وقد قال تعالى في وصفه: ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (٣) ، وقال: ( وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ) (٤) ، فالظاهر أنّ قوله ( عَبَسَ وَتَوَلَّى ) (٥) المـُراد به غيره (٦) .

وهكذا ورد قوله تعالى: ( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ) (٧) ، وقوله: ( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ

____________________

(١) هو: عمرو بن قيس بن زائدة بن الأصمّ القرشي: قيل: إنّ اسمه الحُصَين، سمّاه النبيّ عبد الله، قال ابن حيان: كان أهل المدينة يقولون: اسمه عبد الله، وأهل العراق يقولون: اسمه عمرو، قال ابن خالويه: كان أبوه يُكنّى أبا السرج (على ما ذَكَره الشيخ في تفسير التبيان، ج١٠، ص٢٦٨)، وكان مؤذّناً للنبي (صلّى اللّه عليه وآله) بعد هجرته من مكّة، واسم أُمّه عاتكة بنت عبد اللّه بن عنكثة، وهو (ابن أُمّ مكتوم) ابن خال خديجة أُمّ المؤمنين (عليها السلام)، فإن أُمّ خديجة أُخت قيس بن زائدة واسمها فاطمة، أَسَلم في السابقينَ إلى الإسلام بمكّة وكان من المهاجرينَ الأَوّلينَ، قيل: قَدِم المدينة قبل النبيّ، وقيل: بعده بقليل ومات في أيّام عمر، وقيل: استُشهد بالقادسيّة، راجع: الإصابة لابن حجر، ج٢، ص٥٢٣.

(٢) مجمع البيان، ج١٠، ص٤٣٧.

(٣) القلم ٦٨: ٤.

(٤) آل عمران ٣: ١٥٩.

(٥) عبس ٨٠: ١.

(٦) تنزيه الأنبياء للسيّد المرتضى، ص١١٨ - ١١٩ بتلخيص يسير.

(٧) الحجر ١٥: ٨٨، مكّية، رقم نزولها: ٥٤.

٢٨٣

اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) (١) ، وغيرهما من آيات مكّية جاء الدُستور فيها بالخَفض واللين والرأفة مع المؤمنينَ، فكيف يا ترى يتغافل النبيّ عن خُلُقٍ كريم هي وظيفته بالذات؟! ولا سيّما مع السابقين الأوّلين من المؤمنين، وبالأخصّ مع مَن ينتمي إلى زوجه الوفيّة خديجة الكبرى أُمّ المؤمنينَ (٢) .

وقال الشيخ أبو جعفر الطوسي: ما ذَكَروه سبباً لنزول الآيات إنّما هو قولُ لفيفٍ من المـُفسّرين وأهل الحشو في الحديث، وهو فاسد؛ لأنّ النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) قد أَجلّ اللّهُ قَدْرَه عن هذه الصفات، وكيف يَصفه بالعُبُوس والتقطيب وقد وصفه بالخُلُق العظيم واللين وأنّه ليس بفظّ غليظ القلب؟! وكيف يُعرض النبيّ عن مُسلم ثابت على إيمانه جاء ليتعلّم منه، وقد قال تعالى: ( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) ؟! (٣) ومَن عرف النبيّ وحُسنَ أخلاقه وما خصّه اللّه تعالى به من مكارم الأخلاق وحُسن الصُحبة، حتّى قيل: إنّه لم يكن يُصافح أحداً قطّ فينزع يده من يده حتّى يكون ذلك هو الذي ينزع يده.

فمَن هذه صفته كيف يقطب وجهَه في وجه أعمى جاء يَطلب زيادة الإيمان، على أنّ الأنبياء (عليهم السلام) منزّهون عن مثل هذه الأخلاق وعمّا دونها؛ لِما في ذلك من التنفير عن قبول دعوتهم والإصغاء إلى كلامهم، ولا يُجوّز مثل هذا على الأنبياء مَن عرف مِقدارهم وتبيّن نعتَهم.

نعم، قال قوم: إنّ هذه الآيات نزلت في رجلٍ من بني أُميّة كان واقفاً إلى جنب النبيّ، فلمـّا أقبل ابن أُمّ مكتوم تقذّر وجمع نفسَه وعَبَس وتولّى، فحكى اللّه ذلك وأنكره مُعاتِباً له (٤) .

قال الطبرسي: وقد رُوي عن الصادق (عليه السلام): (أنّها نزلت في رجلٍ من بني أُميّة كان عند النبيّ، فجاء ابن أُمّ مكتوم، فلمـّا رآه تقذّر منه وجَمَع نفسَه وعَبس وأعرض بوجهه عنه، فحكى اللّه سبحانه ذلك وأنكره عليه).

قال: ولو صحّ الخبر الأَوّل لم يكن العُبُوس ذنباً؛ إذ العُبوس والانبساط مع الأعمى

____________________

(١) الشعراء ٢٦: ٢١٥، مكّية، رقم نزولها: ٤٧.

(٢) تقدّم قريباً أنّه كان ابن خال خديجة رضوان اللّه عليها.

(٣) الأنعام ٦: ٥٢.

(٤) تفسير التبيان، ج١٠، ص٢٦٨ - ٢٦٩ بتصرّف يسير.

٢٨٤

سَواء إذ لا يَرى ذلك فلا يَشقّ عليه، فيكون قد عاتب اللّه سبحانه نبيّه بذلك؛ ليأخذه بأوفر محاسن الأخلاق، وينبّهه على عظيم حال المؤمن المسترشد، ويعرّفه أنّ تأليف المؤمن ليقيم على إيمانه أَولى من تأليف المـُشرك طَمعاً في إيمانه.

قال: وقال الجبّائي: في هذا دلالة على أنّ الفعل إنّما يكون معصيةً فيما بعد لا في الماضي، فلا يَدلّ على أنّه كان معصيةً قبل النهي عنه، ولم ينهَه (صلّى اللّه عليه وآله) إلاّ في هذا الوقت.

وقيل: إنّ ما فعله الأعمى كان نوعاً مِن سوء الأدب، فحُسنَ تأديبه بالإعراض عنه، إلاّ أنّه كان يجوز أنْ يتوهّم أنّه أعرض عنه لفقره، وأقبل عليهم لرياستهم تعظيماً لهم، فعاتبه اللّه على ذلك.

قال: ورُوي عن الصادق (عليه السلام) أنّه قال: (كان رسول (صلّى اللّه عليه وآله) إذا رأى عبد اللّه بن أُمّ مكتوم قال: مرحباً مرحباً، لا واللّه لا يُعاتبني اللّه فيك أبداً، وكان يََصنع به من اللّطف حتى كان (ابن أُمّ مكتوم) يكفّ عن النبيّ ممّا يفعل به) (١) ، أي كان يُمسك عن الحضور لديه استحياءً منه.

قلت: الأمر كما ذَكَره هؤلاء الأعلام، مِن أنّها فِعلة لا تتناسب ومقام الأنبياء، فكيف بنبيّ الإسلام المنعوت بالخُلُق العظيم؟! فضلاً عن أنّ سياق السورة يأبى إرادة النبيّ في توجيه الملامة إليه؛ ذلك: أنّ التعابير الواردة في السورة ثلاثة (عبس)، (تولَّى)، (تلهّى)، الأَوّلان بصيغة الغياب والأخيرة خطاب، على أنّ الأَوّلين (عبس وتولّى) فعلانِ قصديّانِ (يصدران عن قصد وإرادة وعن توجّهٍ من النفس)، والأخير (تلهّى) فعل غير قصديّ (صادر لا عن إرادة ولا عن توجّهٍ من النفس)، فإنّ الإنسان إذا توجّه بكلّيّته إلى جانب فإنّه مُلتهٍ عن الجانب الآخر، على ما تقتضيه طبيعة النفس الإنسانيّة المحدودة، لا يُمكنه التوجّه إلى جوانب عديدة في لحظةٍ واحدة! إنّما هو اللّه، لا يشغله شأن عن شأن!

وهذا الفعل الأخير كان قد توجّه الخطاب - عتاباً - إلى النبيّ؛ لانشغاله بالنجوى مع القوم وقد ألهاه ذلك عن الإصغاء لمسألة هذا الوارد، من غير أنْ يَشعر به.

فهذا ممّا يُجوّز توجيه الملامة إليه (صلّى اللّه عليه وآله): كيف يَصرف بكلّ همّه نحو قومٍ هم ألدّاء،

____________________

(١) مجمع البيان، ج١٠، ص٤٣٧.

٢٨٥

بحيث يصرفه عمّن يأتيه بين حينٍ وآخر، وهو نبيّ بُعث إلى كافّة الناس.

وهو عتابٌ رقيقٌ لطيفٌ يُناسب شأن نبيّ هو ( بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ) (١) .

أمّا الفعلان الأَوّلان فقد صَدَرا عن قصدٍ وإرادة، كانا قبيحَينِ إلى حدّ بعيد، الأمر الذي يتناسب مع ذلك الأَموي المترفّع بأنفه المعتزّ بثروته وترفه في الحياة، وكان معروفاً بذلك.

وعليه فلا يمكن أن يكون المـَعنيّ بالفعل الثالث (غير العمدي) هو المعنيّ بالفعلَين الأَوّلين (العمديّين).

أسئلة مع أجوبتها لابن قتيبة

لأبي مُحمّد عبد اللّه بن مسلم بن قتيبة (٢١٣ - ٢٧٦) في كتابه (تأويل مشكل القرآن) عرضٌ عريض لأسئلة طرحها مِن أهل الشُبَه، وأجاد في أكثر أجوبته عليها بصورة فنيّةٍ دقيقة، رأينا إيرادها مع شيءٍ من التوضيح وربّما أضفنا من كلمات الآخرين لمزيد الفائدة.

عَقَد في كتابه باباً عنوانه (الحكاية عن الطاعنينَ) وجَعَله على ثلاثة فصول على حسب تنوّع الشُبَه، وهي:

١ - شُبهة وجوه القراءات هل توجب اختلافاً في القرآن؟

٢ - دعوى وجود اللحن في القرآن.

٣ - مُوهم التناقض والاختلاف في القرآن.

وجعل الشُبَه كلّها في مقدّمة الباب، ثُمّ عقّبها بالأجوبة والحلول على الترتيب، وقد رجّحنا تعقيبَ كلِّ نوعِ شُبهةٍ بحلّها الوافي مباشرةً؛ لئلاّ يطول على القارئ تلقّي الجواب عن شُبهة عُرضت عليه.

____________________

(١) التوبة ٩: ١٢٨.

٢٨٦

اختلاف القراءة هل يُوجب اختلافاً في القرآن؟

قالوا: وجدنا الصحابة ومَن بعدهم يَختلفون في الحرف (أي القراءة):

فابن عبّاس يقرأ (وادّكر بعد أمهٍ)، وغيره يقرأ ( بَعْدَ أُمَّةٍ ) (١) .

وعائشة تقرأ: (إذ تَلِقُونه)، وغيرها يقرأ: ( إِذْ تَلَقَّوْنَهُ ) (٢) .

وأبو بكر يقرأ: (وجاءت سَكْرَة الحقّ بالموتِ)، والناس يقرأون: ( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ) (٣) .

وقرأ بعض القرّاء (هو الأعرج): (وأعتَدت لهنّ مَتكاً)، وقرأ الناس: ( وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً ) (٤) .

وكان ابن مسعود يقرأ: (إن كانت إلا زقية واحدة) ويقرأ: (كالصوف المنفوش)، والناس يقرأَون: ( إِنْ كَانَتْ إِلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً ) (٥) و ( كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ) (٦) ، مع أشباهٍ لهذا كثيرة يُخالف فيها مصحفُه المصاحفَ القديمة والحديثة، وكان يَحذف من مُصحفِه (أُمّ الكتاب) ويَمحو (المعوّذتين) ويقول: لِمَ تزيدون في كتاب اللّه ما ليس فيه؟!

وأُبيّ يقرأ: ( إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا (من نفسي فيكف أُظهِرُكم عليها)) (٧) ، ويزيد في مُصحفِه افتتاح (دعاء القنوت) إلى قول الداعي: (إنّ عذابك بالكافرين ملحق) ويعدّه سورتَينِ من القرآن!

والقرّاء يختلفون، فهذا يَرفع ما يَنصبه ذاك، وذاك يَخفض ما يَرفعه هذا... وأنتم تَزعمون أنّ هذا كلّه كلام ربّ العالمين، فأيّ شيء بعد هذا الاختلاف تريدون؟! (٨) .

وهذا الإشكال بعينه أورده المستشرق الألماني (إجنتس جولد تسيهر)، قال: (فلا

____________________

(١) يوسف ١٢: ٤٥، انظر: شواذّ القراءات لابن خالويه، ص٦٤.

(٢) النور ٢٤: ١٥، انظر: الشواذّ، ص١٠٠.

(٣) ق ٥٠: ١٩، انظر: الشواذّ، ص١٤٤.

(٤) يوسف ١٢: ٣١، انظر: الشواذّ، ص٦٣.

(٥) يس ٣٦: ٢٩، انظر: الشواذّ، ص١٢٥.

(٦) القارعة ١٠٠: ٥، انظر: الشواذّ، ص١٧٨.

(٧) طه ٢٠: ١٥، انظر: الشواذّ، ص٨٧.

(٨) راجع: تأويل مشكل القرآن لابن قيبة، ص٢٤ - ٢٥.

٢٨٧

يوجد كتاب تشريعي اعترف به طائفة دينيّة اعترافاً عقدياً على أنّه نصٌّ منزلٌ أو مُوحى به يُقدم نصّه في أقدم عصور تَداوله مِثل هذه الصورة من الاضطراب وعدم الثبات كما نَجد في نصّ القرآن) (١) .

القرآن شيءٌ والقراءات شيءٌ آخر

هناك فَرقٌ فارق بين القرآن والقراءات؛ حيث القرآن هو النصّ المـُوحى به من عند ربّ العالمين نَزل به الروح الأمين على قلب سيّد المرسلينَ، وهو الذي تَعاهده المسلمون جيلاً بعد جيل، تلقّوه من الرسول تلقّياً مباشراً، وتداولوه يداً بيد حتّى حدّ التواتر المستفيض، لا اختلاف فيه ولا اضطراب مُنذ يومه الأَوّل فإلى مدى العصور وتعاقب الدهور، وهم على قراءةٍ واحدة كان يَقرأها النبيّ الكريم(صلّى اللّه عليه وآله) تَداوله الأصحاب والتابعون لهم بإحسان وعلى أثرهم سائر الناس أجمعون.

أمّا القراءات فهي اجتهادات مِن القرّاء للوصول إلى ذلك النصّ المـُوحّد، ولكن طرائقهم هدتهم إلى مُختلف السبل فضلاً على تنوّع سلائقهم في سلوك المنهج القويم، فذهبوا ذاتَ اليمين وذاتَ الشمال، كلٌّ يضربُ على وِترَه (٢) .

قال الإمام أبو عبد اللّه الصادق (عليه السلام): (القرآن واحد، نزل مِن عند واحد، ولكنّ الاختلافَ يجيء مِن قِبَل الرواة) (٣) يعني: أنّ الاختلاف حادث على أثر اختلاف نَقَلَة النصّ وَهم القُرّاء.

ومِن ثَمّ قال الإمام بدر الدِّين الزركشي: القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان، فالقرآن هو الوحي المـُنزل على مُحمّد (صلّى اللّه عليه وآله)، والقراءات هي اختلاف ألفاظ الوحي المذكور،

____________________

(١) راجع: مذاهب التفسير الإسلامي لجولد تسيهر تعريب عبد الحليم النجّار، ص٤.

(٢) عدلنا عمّا ذكره ابن قتيبة بهذا الشأن؛ لذهابه إلى جواز القراءة بكلّ هذه الوجوه، استناداًَ إلى حديث الأحرف السبعة، وقد نبّهنا على أنّ الحديث إنّما يعني اللهجات دون القراءات السبع التي هي اجتهادات مِن القرّاء والتي توسّمت برسميّتها بعد ثلاثة قرون، راجع: التمهيد، ج٢.

(٣) الكافي، ج٢، ص٦٣٠، رقم ١٢.

٢٨٨

في كِتبَة الحروف أو كيفيّتها (١) أي الاختلاف الحاصل فيما بعد، في كيفية كتابته أو كيفية قراءته.

* * *

على أنّ هذه الآثار إنّما نُقلت نقلاً بالإرسال، وعلى فرض الإسناد وصحة السند فهي أخبار آحاد لا يثبت به القرآن، المعتبر فيه النقل المتواتر القطعي نقلاً على سعة الآفاق، وليس في سِوى قراءة حفص ذات الإسناد الذهبي إلى الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقد ملأت الخافقَينِ.

أمّا المنقول عن ابن عبّاس فلم يَثبت وحاشاه أن يَتعدّى قراءة شيخه ومولاه إمام المتّقين.

والمنقول عن عائشة لا اعتبار به، وهكذا جاءت قراءة أبي بكر قُبيل وفاته في سَكرة الموت، روى القرطبي بإسناده إلى مسروق، قال: لمـّا احتضر أبو بكر أرسل إلى عائشة، فلمـّا دخلتْ عليه قالت: هذا كما قال الشاعر:

لَعَمرُك ما يُغني الثراءُ ولا الغِنى

إذا حشرجتْ يوماً وضاق بها الصدرُ

فقال أبو بكر: هلاّ قلتِ كما قال اللّه: (وجاءت سكرة الحقّ بالموت ذلك ما كنت منه تحيد).

قال القرطبي: هذه الرواية مرفوضة تجري مَجرى النسيان منه إن كان قالها، أو الغلط مِن بعض مَن نقل الحديث (٢) .

وقراءة الأعرج شاذّة لا اعتداد بها.

وكان ابن مسعود يَرى جواز تبديل النصّ بالأجلي من غير أنْ يجعله قرآناً أو يعتقده نصّاً مُوحى به، وكان عمله هذا مرفوضاً لدى المحقّقين.

والمنقول عن أُبيّ ومِثله عن ابن مسعود أيضاً هي زيادات تفسيريّة لغرض الإيضاح من غير أن يكون زيادةً في النصّ أو تغييراً في لفظ القرآن.

____________________

(١) البرهان، ج١، ص٣١٨.

(٢) راجع: تفسير القرطبي، ج١٧، ص١٢ - ١٣.

٢٨٩

على أنّه لا حجّية في مزاعم أُناس - مهما كانوا - ما لم تقع موضع قبول عامّة المسلمين فضلاً عن رفضهم إيّاها، كما وقع بالفعل.

قال ابن قتيبة: وأمّا نقصان مُصحف عبد اللّه بحذفه (أُمّ الكتاب) و(المعوّذتين)، وزيادة (أُبيّ) بسورتي القنوت، فإنّا لا نقول: إنّ عبد اللّه وأُبَيّاً أصابا، وأخطأ المهاجرون والأنصار، ولكن عبد اللّه ذهب فيما يرى أهل النظر إلى أنّ المعوّذتين كانتا كالعوذة والرُقْيَة وغيرهما، وكان رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله) يُعوِّذ بهما الحسن والحسين (١) ، كما كان يعوذ بـ (أعوذ بكلمات اللّه التامّة) (٢) ، فظَنّ أنّهما ليستا من القرآن، وأقام على ظنّه وعلى مخالفة الصحابة جميعاً، كما في مواضع أُخر خالف فيها جميع الأصحاب.

وإلى نحو هذا ذهب أُبيّ في دعاء القنوت؛ لأنّه رأى رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) يدعو به في الصلاة دعاءً دائماً، فظنّ أنّه من القرآن، وأقام على ظنّه وعلى مخالفة الصحابة.

قال: وأمّا (فاتحة الكتاب) فإنّي أشكّ فيما رُوي عن عبد اللّه مِن تركه إثباتِها في مُصحفه، فإنْ كان هذا محفوظاً فليس يجوز لمسلم أنْ يَظنّ به الجهل بأنّها من القرآن، وكيف يُظنّ به ذلك وهو من أشدّ الصحابة عنايةً بالقرآن؟!

ولكنّه ذهب فيما يَظنّ أهل النظر إلى أنّ القرآن إنّما كُتب وجُمِع بين اللوحين؛ مَخافةَ الشكّ والنسيان والزيادة والنقصان، ورأى ذلك لا يجوز على سورة الحمد؛ لقِصَرِها ولأنّها تُثنّى في كلّ صلاة، ولا يجوز لأحدٍ من المسلمين ترك تعلّمِها وحفظها (٣) .

قال سيّدنا الأُستاذ طاب ثراه: إنّ تواتر القرآن لا يستلزم تواتر القراءات؛ لأنّ الاختلاف في خصوصيات حادثة تأريخيّة - كالهجرة مثلاً - لا ينافي تواتر نفس الحادثة، على أنّ الواصل إلينا بتوسّط القرّاء إنّما هو خصوصيات قراءاتهم، وأمّا أصل القرآن فهو واصل إلينا بالتواتر بين المسلمين وبنقل الخَلف عن السَلف وتحفّظهم عليه في الصدور

____________________

(١) أخرجه أحمد في مسنده، ج٥، ص١٣٠، من حديث زر بن حبيش.

(٢) أخرجه البخاري، ج٤، ص١٧٩، في كتاب الأنبياء من حديث ابن عباس، وراجع: صحيح مسلم، ج٤، ٢٠٨٠ - ٢٠٨١ في كتاب الذكر والدعاء والاستغفار، باب التعوّذ من سوء القضاء ودرك الشقاء، وسُنَن الدارمي، ج٢، ص ٢٨٩ في الاستئذان، وسنن الترمذي، ج٤، ص٣٩٦، في الطبّ، وسنن ابن ماجة، ج٢، ص٣٥٩، باب ١٢٨٩، رقم ٣٥٨٦. ومسند أحمد، ج١، ص٢٣٦.

(٣) تأويل مشكل القرآن، ص٤٢ - ٤٩.

٢٩٠

وفي الكتابات، ولا دَخل للقرّاء بخصوصهم في ذلك أصلاً؛ ولذلك فإنّ القرآن ثابت بالتواتر، حتّى لو فرضنا أنّ هؤلاء القرّاء لم يكونوا في عالم الوجود، إنّ عظمةَ القرآن ورِفعةَ مقامِه أعلى من أنْ تتوقّف على نقل أولئك النفر المحصورين (١) .

موهم الاختلاف والتناقض زيادةً على ما سبق

أورد ابن قتيبة قِسماً من آيات نَحَلُوا فيها التناقض والاختلاف، ممّا قدّمنا الكلام فيها والإجابة عليها، وأضاف:

قوله تعالى: ( لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاّ مِنْ ضَرِيعٍ ) (٢) ، وهو يقول في موضعٍ آخر: ( فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلاّ مِنْ غِسْلِينٍ ) (٣) .

وأجاب: إنّ في النار دَرَكات، والجنّة دَرَجات، وعلى قَدَرِ الذنوب والحسنات تقع العقوبات والمـَثوبات، فمِن أهل النار مَن طعامه الزقّوم، ومِنهم مَن طعامه غِسلِين، ومنهم مَن شرابه الحميم، ومِنهم مَن شرابه الصديد.

والضَريع: نَبْتٌ يكون بالحجاز، يقال لرُطَبه: الشِبْرِق، لا يُسمن ولا يُشبع. قال امرؤ القيس:

فأَتبَعتُهم طَرفي وقَد حالَ دُونَهم

غَوارِبُ رَملٍ ذي أَلاءٍ وشِبْرِقِ (٤)

والعرب تَصِفُه بذلك.

وغِسلِين: فِعلِين مِن غسلتُ، كأنّه الغُسالة، قال بعض المفسّرين: هو ما يسيل من أجساد المـُعذَّبينَ (كالقيح).

وهذا نحو قوله: ( سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ ) (٥) ، وقرأ عيسى: ( سرابيلهم مِن قِطْرٍ آنٍ ) (٦) ، والقِطر: النُحاس، والآن: الذي بَلَغَ مُنتهى حرّه، (وقيل المـُذاب)، كأنّ قوماً يُسربَلونَ هذا،

____________________

(١) البيان في تفسير القرآن للإمام الخوئي، ص١٧٤.

(٢) الغاشية ٨٨: ٦.

(٣) الحاقّة ٦٩: ٣٥ و٣٦.

(٤) ألاء - بوزن علاء -: شجر حَسَن المـَنظر، مُرّ الطعم دائم الاخضرار، يَنبت في الرمل والأودية، ورقه وحِملَه دباغ.

(٥) إبراهيم ١٤: ٥٠، والقِطران: سيّال دهني يتقاطر من بعض الأشجار كالصنوبر.

(٦) شواذ ابن خالويه، ص ٧٠.

٢٩١

وقوماً يُسربَلونَ هذا، ويَلبسون هذا تارةً، وهذا تارةً (١) .

وأمّا قولهم: (كيف يكون في النار نبت وشجر والنار تأكلهما؟!) فإنّه لم يَرِد فيما يَرى أهل النظر - واللّه أعلم - أنّ الضَريع بعينه يَنبت في النار، ولا أنّهم يأكلونه، والضَريع من أقوات الأنعام لا من أقوات الناس، وإذا وقعت فيه الإبل لم تشبع وهلكت هُزْلاً، قال الهذلي - يَذكر إبلاً لم تَشبع وهلكت هُزْلاً -:

وحُبِسنَ في هَزمِ الضَريع فكلّها

حَدباءُ داميةُ اليدين حَرودُ (٢)

فأراد تعالى أنّ هؤلاء قوم يَقتاتون ما لا يُشبعهم، وضَرَب الضريع مثلاً، أو يُعذّبون بالجُوع كما يُعذَّب مَن قوته الضَّريع.

وقد يكون الضَّريع وشجرة الزقّوم نبتَين مِن النار، أو من جوهرٍ لا تأكله النار، وكذلك سلاسل النار وأغلالها وأنكالها وعقاربها وحيّاتها، لو كانت كما نعلم لم تبقَ على النار، وإنّما دلّنا اللّه سبحانه على الغائب عنده بالحاضر عندنا، فالأسماء متّفقة للدلالة، والمعاني مختلفة.

وما في الجنّة من شجرها وثمرها وفُرُشها وجميع آلاتها على مِثل ذلك.

* * *

وقولهم: وأين قوله: ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ ) من قوله: ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ) ؟ (٣) أيّ رابطة بين الصبور الشكور وجريان الفلك في البحور؟

لكن لم يُرِد اللّه في هذا الموضع معنى الصبر والشكر خاصّةً، وإنّما أراد: إنّ في ذلك لآيات لكلّ مؤمن، والصبر والشكر أفضل ما في المؤمن من خلال الخير، فذَكره اللّه عزّ وجلّ في هذا الموضع بأفضل صفاته، وقال في موضعٍ آخر: ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً

____________________

(١) هذا بناءً على مذهبه في حجّية مختلف القراءات استناداً إلى حديث الأَحرف السبع.

(٢) وفي اللسان: (حدباء بادية الضلوع حَرودُ)، هزم الضريع: ما تكسّر منه. والحَرود: التي لا تكاد تدر لبناً. وفي مقاييس اللغة مادة (ضرع): (وتركن في هزم الضريع...).

(٣) لقمان ٣١: ٣١.

٢٩٢

لِلْمُؤْمِنِينَ ) (١) ، وفي موضع آخر: ( لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) (٢) ، و ( لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) (٣) ، و ( إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَاب ) (٣) ، يعني المؤمنين.

(فالمعنّي بهذه الآيات وبهذه التعابير هم المؤمنون محضاً، وإنّما جاءت الأوصاف الخاصّة بهم عناوين مُشيرة إلى ذاك المعنون بالذات، من غير خصوصية لذات الأوصاف).

ومِثله قوله تعالى في قصّة سبأ: ( وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ) (٥) ، وهذا كما تقول: إنّ في ذلك لآية لكلّ موحّدٍ مُصلٍّ، ولكلّ فاضلٍ تقيّ، وإنّما تُريد المسلمين حقّاً (٦) .

والخلاصة: أنّ هناك فرقاً بين أَخذ الأوصاف عناوين مشيرة إلى الموضوع الأصل فلا رابط بينها وبين الحكم المترتّب عليها في القضيّة، وبين أَخذها مواضيع هي علل وأسباب لثبوت تلك الأحكام المترتّبة، والآيات المـُنوّه عنها هي من قبيل النوع الأَوّل؛ لتكون الأوصاف خواصّ لازمة للموضوع من غير أن يكون لها دخل في موضوعيّة الموضوع، الأمر الذي حقّقه علماء الأُصول.

* * *

وقوله: ( كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ) (٧) ، فإنّما يريد بالكفّار هاهنا الزُرّاع، واحدهم كافر، وإنّما سُمّي كافراً؛ لأنّه إذا ألقى البَذر في الأرض كَفََره، أي غطّاه وسَتَره، وكلّ شيءٍ غَطّيته فقد كَفَرَته (٨) ، ومنه قيل: تَكفّر فلان في السلاح: إذا تغطّى، ومنه قيل للّيل: كافر: لأنّه يَستر بظُلمته كلّ شيء، ومنه قول الشاعر (هو لبيد بن ربيعة):

يعلُو طَريقَةَ مَتنِها متواتراً

في ليلةٍ كَفَرَ النُجومَ غَمامُها (٩)

____________________

(١) الحجر ١٥: ٧٧.

(٢) النحل ١٦: ٦٩.

(٣) النحل ١٦: ٦٧.

(٤) الرعد ١٣: ١٩.

(٥) سبأ ٣٤: ١٩، وانظر: إبراهيم ١٤: ٥ والشورى ٤٢: ٣٣.

(٦) راجع: تأويل مشكل القرآن، ص٧٥.

(٧) الحديد ٥٧: ٢٠.

(٨) وإنّما يقال للمـُلحِد (كافر)؛ لأنه غطّى فَطَرته وسَتَر نداء ذاته بالوحدانيّة.

(٩) أي يعلو طَريقَة مَتنِ هذه البقرة مطرٌ مُتتابع في ليلةٍ ظَلماء على أثر تراكم السُحب التي غطّت وجه النجوم، والطريقة: خطّة مخالفة للون البقرة، والمتنان: مكتنفا الظهر، وقد استشهد بهذا البيت الطبري في التفسير، ج١، ص٨٦، وابن قتيبة في تأويل مشكل القرآن، ص٧٦.

٢٩٣

وقالوا في قوله تعالى: ( وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) : (١) استثناؤه المشيئة من الخلود يدلّ على الزوال، وإلاّ فلا معنى للاستثناء، ثُمّ قال: أي غير مقطوع!

وقوله: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) (٢) أي غير مقطوع ومن غير أذى، فكيف التوفيق؟!

قال ابن قتيبة في الإجابة على ذلك: إنّ للعرب في معنى (الأبد) ألفاظاً يستعملونها في كلامهم، يقولون: لا أفعل ذلك ما اختلف الليل والنهار، وما طمى البحر أي ارتفع ماؤه وامتلأ، وما أقام الجبل، وما دامت السماوات والأرض، في أشباه لهذا كثيرة، يُريدون: لا أفعله أبداً؛ لأنّ هذه المعاني عندهم لا تتغيّر عن أحوالها أبداً، فخاطبهم اللّه بما يستعملونه، فقال: أي مِقدار دوامهما، وذلك مدّة العالم.

وللسماء والأرض وقت يتغيّران فيه عن هيئتهما، يقول اللّه تعالى: ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ ) (٣) ، ويقول: ( يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ) (٤) .

أراد أنّهم خالدون فيها مدّة العالم، سوى ما شاء اللّه أنْ يزيدهم من الخلود على مدّة العالم، و(إلاّ) في هذا الموضع بمعنى (سوى). ومِثله في الكلام: لأَسكُننّ في هذه الدار حولاً إلاّ ما شئت، تريد: سوى ما شئت أن أزيد على الحَول.

قال: هذا وجه، ووجه آخر، وهو: أنْ يُجعل دوام السماء والأرض بمعنى الأبد، على ما تعرف العرب وتستعمل، وإنْ كانتا قد تتغيّران، وتُستثنى المشيئة من دوامهما؛ لأنّ أهل الجنّة وأهل النار قد كانوا في وقتٍ من أوقات دوام السماء والأرض في الدنيا، لا في الجنّة، فكأنّه قال: خالدينَ في الجنّة وخالدينَ في النار دوام السماء والأرض، إلاّ ما شاء ربّك من تعميرهم في الدنيا قبل ذلك.

____________________

(١) هود ١١: ١٠٨.

(٢) فصّلت ٤١: ٨.

(٣) إبراهيم ١٤: ٤٨.

(٤) الأنبياء ٢١: ١٠٤.

٢٩٤

وفيه وجه ثالث، وهو: أن يكون الاستثناء من الخلود مَكث أهل الذنوب من المسلمين في النار، حتّى تَلحقهم رحمة اللّه وشفاعة رسوله، فيخرجوا منها إلى الجنّة، فكأنّه قال سبحانه: خالدينَ في النار مادامت السماوات والأرض، إلاّ ما شاء ربّك من إخراج المذنبينَ من المسلمين إلى الجنّة، وخالدين في الجنّة مادامت السماوات والأرض، إلاّ ما شاء ربّك من إدخال المذنبين النار مدّةً من المدد ثُمّ يصيرون إلى الجنّة (١) .

هذا ما ذَكَره ابن قتيبة بهذا الشأن، والآيتان من مشكل القرآن، على حدّ تعبير المـُفسّر الكبير أبي عليّ الطبرسي، وأفاد هو هنا وجوهاً لحلّ الإشكال نَذكرها بالتالي، ولنبدأ بالآيتين، بكاملتهما:

* * *

قال تعالى: ( يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) (٢) .

فقد وقع الاستثناء بشأن كلّ من الأشقياء والسُعداء، أمّا الاستثناء بشأن الأشقياء فلا موضع للكلام فيه؛ نظراً لأمرين:

أحدهما: أنّ هذا الاستثناء لم يقع بشأن المجموع من حيث المجموع، بل بشأن الجميع حسب الأفراد، فالجميع محكومون بالخلود في جهنّم إلاّ ما شاء ربّك بشأن بعضهم، ولعلّهم الأكثر حسب مقتضى الذنوب التي ارتكبوها، ولعلّها تقع موضع عفو ربّهم الكريم.

ثانيهما: أنّ الشقاء إنّما هو في مرتبة الاقتضاء للخلود، وليس علّةً تامّة؛ ومِن ثَمّ صحّ الاستثناء حسب مشيئة الربّ إذا تحقّقت أسبابه في حين.

هذا فضلاً عن أنّ مخالفة الوعيد لا ضَير فيه ولا حَزازة فيه على الكريم.

____________________

(١) تأويل مشكل القرآن، ص٧٦ - ٧٨.

(٢) هود ١١: ١٠٥ - ١٠٨.

٢٩٥

إنّما الكلام والإشكال وقوع الاستثناء بشأن السُعداء حيث وَعَدَهم بالخلود، والكريم لا يُخلف الميعاد.

قال الطبرسي: اختلف العلماء في تأويل هذا في الآيتَين، وهما من المواضع المشكلة في القرآن، والإشكال فيه من وجهَين: أحدهما: تحديد الخلود بمدّة دوام السماوات والأرض، والآخر: معنى الاستثناء بقوله: ( إِلاّ مَا شَاءَ رَبُّكَ ) .

فالأَوّل فيه أقوال:

أحدها: أنّ المراد ما دامت السماواتُ والأرضُ مبدّلتَين، أي مادامت سماء الآخرة وأرضها، وهما لا يفنيان إذا أُعيدا بعد الإفناء، عن الضحّاك والجبّائي.

وثانيها: أنّ المراد ما دامت سماوات الجنّة والنار وأرضهما، وكلّ ما علاك سماء وكلّ ما استقرّ عليه قدمُك أرض، وهو قريبٌ من الأَوّل.

وثالثها: أنّ المراد ما دامت الآخرة، وهي دائمة أبداً، كما أنّ دوام السماء والأرض في الدنيا قَدَر مدّة بقائها، عن الحسن.

ورابعها: أنّه لا يُراد به السماء والأرض بعينهما، بل المراد التبعيد، فإنّ للعرب ألفاظاً للتبعيد في معنى التأبيد، يقولون: لا أفعل ذلك ما اختلف الليل والنهار، وما دامت السماء والأرض، وما نَبتَ النَبتُ، وما أَطّت الإبل، وما اختلف الجرّة والدرّة، وما ذرّ شارق، وفي أشباه ذلك كثرة، ظنّاً منهم أنّ هذه الأشياء لا تتغيّر، ويَرون بذلك التأبيد لا التوقيت، فخاطبهم اللّه سبحانه بالمتعارف مِن كلامهم على قَدَر عقولهم وما يعرفون.

قال عمرو بن معدي كرب:

وكلُّ أَخٍ مُفارِقُه أخوهُ

لَعَمرُ أَبيكَ إلاّ الفَرقَدانِ

وقال زهير:

أَلا لا أَرى على الحَوادث باقياً

ولا خالِداً إلاّ الجبالَ الرواسيا

وإلاّ السماءَ والنجومَ وربَّنا

وأيّامَنا مَعدودةً والليالِيا

لأنّه توهّم أنّ هذه الأشياء لا تفنى، وتَخلد.

قلت: وهذا الوجه الرابع هو الرأي السديد حسب الظاهر.

٢٩٦

وأمّا الكلام في الاستثناء فقد اختلف فيه أقوال العلماء على وجوه:

أحدها: أنّه استثناء في الزيادة من العذاب لأهل النار، والزيادة من النعيم لأهل الجنّة، والتقدير: إلاّ ما شاء ربُّك من الزيادة على هذا المقدار (أي المـُضاعفة في العقوبة والمثوبة، إضافةً إلى جانب الخلود، من أنواع العقوبة والنعيم).

وهذا كما يقول الرجل لصاحبه: لي عليك ألف دينار إلاّ الألفَين اللذَين أقرضتكهما وقت كذا، فالأَلفان زيادة على الألف بغير شكّ؛ لأنّ الكثير لا يُستثنى من القليل، عن الزجّاج والفرّاء وعليّ بن عيسى وجماعة.

وعلى هذا فيكون (إلاّ) بمعنى (سوى)، أي سوى ما شاء ربُّك، كما يقال: ما كان معنا رجل إلاّ زيد، أي سوى زيد.

وثانيها: أنّ الاستثناء واقع على مقامهم في المـَحشر والحساب؛ لأنّهم حينئذٍ ليسوا في جنّة ولا نار، ومدّة كونهم في البرزخ الذي هو ما بين الموت والحياة؛ لأنّه تعالى لو قال (خالدينَ فيها أبداً) ولم يستثنِ لظنّ الظانّ أنّهم في النار والجنّة من لَدُن نزول الآية أو من انقطاع التكليف، فحصل للاستثناء فائدة، عن المازني وغيره، واختاره البلخي.

فإن قيل: كيف يُستثنى من الخلود في النار ما قبل الدخول فيها؟ فالجواب: أنّ ذلك جائز إذا كان الإخبار به قبل دخولهم فيها.

وثالثها: أنّ الاستثناء الأَوّل يتصل بقوله: ( لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ) ، وتقديره: إلاّ ما شاء ربّك من [ سائر ] أجناس العذاب الخارجة عن هذين الضربَين، ولا يتعلّق الاستثناء بالخلود، وفي أهل الجنّة يتّصل بما دلّ عليه الكلام، فكأنّه قال: لهم فيها نعيم إلاّ ما شاء ربّك من أنواع النعيم، وإنّما دلّ عليه قوله: ( عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) ، عن الزجّاج.

ورابعها: أنْ يكون (إلاّ) بمعنى الواو، أي: وما شاء ربّك من الزيادة، عن الفرّاء. واستشهد على ذلك بقول الشاعر:

وأرى لها داراً بأَغدَرَةِ السي

دان لم يَدرس لها رسمُ

إلاّ رماداً هامِداً رفعتْ

عنه الرّياحَ خوالدٌ سُحمُ (١)

____________________

(١) أغدرة السيدان: موضع، والخوالد: الأثافي، وهي الأحجار الثلاثة التي يوضع عليها القدر، والسُحمُ: السود.

٢٩٧

قال: والمراد بـ (إلاّ) هاهنا (الواو)؛ وإلاّ كان الكلام متناقضاً، وهذا الوجه قد ضعّفه المحقّقون من النحاة.

وخامسها: أنّ المراد بـ ( الَّذِينَ شَقُوا ) من أُدخل في النار من أهل التوحيد، الّذين ضمّوا إلى إيمانهم وطاعاتهم ارتكاب المعاصي، فقال سبحانه: إنّهم معاقبون في النار إلاّ ما شاء ربّك من إخراجهم إلى الجنّة وإثابتهم على الطاعات، ويجوز أنْ يُريد بـ ( الَّذِينَ شَقُوا ) جميع الداخلينَ إلى جهنّم، ثُمّ استثنى بقوله: ( إِلاّ مَا شَاءَ رَبُّكَ ) أهل الطاعات، وقد يكون (ما) بمعنى (مَن) أي: إلاّ مَن شاء ربّك.

وأمّا في أهل الجنّة فهو استثناء بحسب ما تقدّموه في النّار، وتكون (ما) بمعناها ويكون الاستثناء من الزمان، بخلاف الأَوّل الذي كان استثناء مِن الأعيان، ويكون ( الَّذِينَ شَقُوا ) - بناءاً على هذا القول - هم الذي سَعِدوا بأعيانهم، وإنّما أجرى عليهم كلّ لفظ في الحال التي تَليق به، فإذا أُدخلوا في النار وعُوقبوا فيها فهم أهل الشقاء، وإذا نُقلوا منها إلى الجنّة فهم أهل السعادة، وهذا قول ابن عباس وجابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري وقتادة والسدّي والضحّاك وجماعة من المفسّرين.

وروى أبو روق عن الضحّاك عن ابن عباس قال: ( الَّذِينَ شَقُوا ) ليس فيهم كافر، وإنّما هم قوم من أهل التوحيد يَدخلون النار بذنوبهم ثُمّ يتفضّل الله عليهم فيُخرجهم من النار إلى الجنّة، فيكونون أشقياء في حال، سعداء في حالٍ أخرى.

قال الطبرسي: وهذا القول هو المختار المـُعوّل عليه.

وسادسها: أنّ تعليق ذلك بالمشيئة، على سبيل التأكيد للخلود والتبعيد للخروج؛ لأنّ الله تعالى لا يشاء إلاّ تخليدهم على ما حَكَم به، فكأنّه تعليق لِما لا يكون بما لا يكون؛ لأنّه لا يشاء أنْ يخرجهم منها.

وسابعها: أنّ الله سبحانه استثنى ثم عزم بقوله: ( رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ) أنّه أراد أنْ يُخلّدهم، قاله الحسن.

٢٩٨

وقريب منه ما قاله الزجّاج وغيره: إنّه استثناء تستثنيه العرب وتفعله، كما تقول: والله لأَضربَنّ زيداً إلاّ أنْ أرى غير ذلك، وأنت عازم على ضربه، والمعنى في الاستثناء على هذا: أنّي لو شئت أنْ لا أضربه لفعلت.

وثامنها: أنّه يعني بقوله: ( إِلاّ مَا شَاءَ رَبُّكَ ) ما سبقهم به الذين دخلوا قبلهم من الفريقَين، قاله يحيى بن سلام البصري، واحتجّ بقوله تعالى: ( وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً ) (١) ، ( وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً ) (٢) ، قال: إنّ الزُمرة تدخل بعد الزُمرة، فلابدّ أن يقع بينهما تفاوت في الدخول، والاستثناءان على هذا من الزمان.

وتاسعها: أنّ المعنى: خالدون في النار، دائمون فيها مدّة كونهم في القبور، مادامت السماوات والأرض في الدنيا، وإذا فُنيتا وعُدِمَتا انقطع عقابهم إلى أن يبعثهم الله للحساب، وقوله: ( إِلاّ مَا شَاءَ رَبُّكَ ) استثناء وقع على ما يكون في الآخرة. أورده الشيخ أبو جعفر قدس الله روحه وقال: ذَكَره قوم من أصحابنا في التفسير.

وعاشرها: أنّ المراد: إلاّ ما شاء ربّك أن يتجاوز عنهم، والاستثناء يكون على هذا من الأعيان.

وقال في الذين سَعِدوا: يتأتّى فيهم جميع الوجوه التي ذُكرت في أهل الشقاء، إلاّ ما ذكروه من جواز إخراج بعض الأشقياء من تناول الوعيد لهم وإخراجهم من النار، فإنّ ذلك لا يتأتّى هنا؛ لإجماع الأُمّة على أنّ مَن استحقّ الثواب فلابدّ أن يَدخل الجنّة ولا يخرج منها بعد الدخول، لقوله تعالى: ( عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) أي غير مقطوع (٣) .

* * *

قلت: والذي يترجّح في النظر أنّ مثل هذا التعليق على المشيئة في كلامه تعالى أمر عاديّ، إذا ما لاحظنا شيمة الأكابر حيث لا يُحتّمون على أنفسهم أمراً ليكونَ لِزاماً عليهم فيطالبوا بإنجازه، وإن كانوا يُوفون بما وعَدوا كرامةً وفضلاً لا تكليفاً وإلزاماً، ومِن ثَمّ ترى

____________________

(١) الزُمر ٣٩: ٧١.

(٢) الزمر ٣٩: ٧٣.

(٣) مجمع البيان، ج ٥، ص ١٩٤ - ١٩٦ مع تصرّف يسير.

٢٩٩

أنّ أكثر وعوده تعالى - التي جاءت في القرآن كانت بصورة خلق الرجاء في نُفوس الموعود لهم - مبدوءة بلفظة (لعلّ) و (عسى) ونحوهما، ممّا يجعل الإنجاز مُعلّقاً على مشيئته واقتضاء حِكمته وليس حتماً عليه في ظاهر الوعد، وإن كان الله يفي بما وَعَد فضلاً ومنّةً، ولا يُخلف الميعاد.

يقول تعالى مخاطباً لنبيّه: ( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى * إِلاّ مَا شَاءَ اللَّهُ ) (١) ، فقد تلقّاه النبيّ وعداً حتماً وإن كان بصورة التعليق على المشيئة.

وقال: ( وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) (٢) ، فهو وعدٌ بمقام الشفاعة، ولسوف يعطيه ربّه فيرضى (٣) ، وإن كان الوعد وقع ظاهراً بصورة خَلق الرجاء.

وقال بشأن المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلةً ولا يهتدون سبيلاً: ( فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً ) (٤) ، فأولئك معفوّ عنهم لا محالة؛ ومِن ثَمّ جاء التعقيب بأنّه تعالى عفوّ غفور، غير أنّ الوعد وقع ظاهراً بصورة خَلق الرجاء دون الحتم الإلزامي.

وقال: ( وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) (٥) ، لا شكّ أنّه تعالى سَيرحم أولئك الذين اتّبعوا الكتاب واتّقوا، لكنّ الوعد وقع بغير صورة الحتم عليه تعالى، والآيات من هذا القبيل كثيرة.

* * *

والتعليق على المشيئة بشأن خلود الأشقياء في النار والسعداء في نعيم الجنان من هذا القبيل، حتّى لا يكون لِزاماً عليه تعالى فيما أَوعَد أو وَعَد، ومِن ثَمّ عقّب المشيئة بشأن الأشقياء بقوله: ( إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ) ، يعني: وإن كان الإيعاد بالخلود وقع بشأنهم حسب

____________________

(١) الأعلى ٨٧: ٦ و ٧.

(٢) الإسراء ١٧: ٧٩.

(٣) ( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ) الضحى ٩٣: ٥.

(٤) النساء ٤: ٩٩.

(٥) الأنعام ٦: ١٥٥.

٣٠٠

اقتضاء حالتهم هم ولكنّ اللهَ يفعل ما يشاء حسب حِكمته وإرادته، وليس شيء حتماً عليه ما دامت الحِكمة هي الحاكمة على فِعالِه تعالى وتقدّس، وإرادته تعالى هي الساطية على تدبير عالم الوجود دنياً وآخرةً، لا رادّ لقضائه.

وبذلك أشار في قوله تعالى: ( قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاّ مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ) (1) ، فأَوعدهم بالخلود، لكنّ الوعيدَ ليس لِزاماً عليه مادام الله يفعل ما يشاء وِفق حِكمته وعِلمه القديم.

لكنّه تعالى أكّد وعده بشأن السُعداء أنْ سيدوم لهم النعيم ولو تغيّرت المشيئة بالبقاء في الجنّة فرضاً؛ ليطمئنّوا على ثقةٍ من دوام عنايته تعالى بهم أبداً.

فهؤلاء وأولئك خالدونَ حيث هم، مادامت السماوات والأرض - وهو تعبير يُلقي في الذهن صفةَ الدوام والاستمرار حسب الاستعمال الدارج - (2) وقد علّق السياق هذا الاستمرار بمشيئة الله في كلتا الحالتَين، وكلّ قرارٍ وكلّ سُنّةٍ معلّقة بمشيئة الله في النهاية، فمشيئة الله هي التي اقتضت السُنّة وليست مقيّدةً بها ولا محصورةً فيها، إنّما هي طليقة تُبدّل هذه السنّة حين يشاء الله: ( إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ) .

وزاد السياق في حالة الذين سُعدوا ما يُطمئنّهم إلى أنّ مشيئة الله اقتضت أن يكون عطاؤه لهم غير مقطوع، حتّى على فرض تبديل إقامتهم في الجنّة، وهو مطلقُ فرضٍ يُذكر لتقرير حرّيّة المشيئة بعد ما يوهم التقييد (3) .

* * *

وقوله تعالى: ( لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاّ الْمَوْتَةَ الأُولَى ) (4) (إلاّ) هو بمعنى (سوى) مثلها في قوله: ( وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاّ مَا قَدْ سَلَفَ ) (5) ، يريد سِوى ما سلف في الجاهليّة قبل النهي، فالمعنى في الآية الأُولى: أنّهم لا يذوقون الموت بعد موتهم

____________________

(1) الأنعام 6: 128.

(2) وللتعبيرات ظِلال، وظِلّ هذا التعبير هنا هو المقصود.

(3) راجع: في ظِلال القرآن، المجلّد 4، ص 627، ج 12، ص 141.

(4) الدخان 44: 56.

(5) النساء 4: 22.

٣٠١

الأَوّل (1) .

وقوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً ) (2) ، قالوا: ليس الودّ ممّا يُجعل، وإنّما هو شيءٌ يحصل في القلب، فلا يُقال: يَجعل لك حبّاً، بل يُقال: يُحبّك.

والجواب: أنّ المراد جعل الودّ أي خَلقه في قلوب المؤمنين. قال ابن قتيبة: فإنّه ليس على تأوّلهم، وإنّما أراد أنّه يَجعل لهم في قلوب العباد محبّةً، فأنت ترى المـُخلص المجتهد مُحبَّبا إلى البرّ والفاجر، مَهيباً مذكوراً بالجميل، ونحوه قوله تعالى في قصّة موسى (عليه السلام): ( وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي ) (3) ، لم يُرِد في هذا الموضع أنّي أحببتك وإن كان يُحبّه، وإنّما أراد أنّه حبّبه إلى القلوب وقرّبه من النفوس، فكان ذلك سبباً لنجاته من فرعون، حتّى استحياه في الوقت الذي كان يقتل فيه وِلدَان بني إسرائيل (4) .

* * *

وقالوا: في قوله تعالى: ( وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً ) (5) ، السُبات هو النوم، فكيف يُجعل نومنا نوماً؟

لكن السُبات هاهنا ليس بمعنى النوم، بل هو بمعنى الراحة، أي جعلنا النوم راحةً لأبدانكم، ومنه قيل: يوم السبت؛ لأنّ الخلقَ اجتمع في يوم الجمعة، وكان الفراغ منه يوم السبت، فقيل لبني إسرائيل: استريحوا في هذا اليوم ولا تعملوا شيئاً، فسُمّي يوم السبت أي يوم الراحة.

وأصل السبت التمدّد، ومَن تمدّد فقد استراح، ومنه قيل: رجل مسبوت، ويقال: سَبَتَت المرأة شعرها: إذا نقضته من العَقصِ وأرسلته، قال أبو وَجْزة السعدي:

وإِنْ سَبَّتَتهُ مالَ جَثلاً كأنّه

سَدى واِثلاتٍ مِن نَواسِجِ خَثعَما (6)

____________________

(1) تأويل مشكل القرآن، ص 78.

(2) مريم 19: 96.

(3) طه 20: 39.

(4) تأويل مشكل القرآن، ص 79.

(5) النبأ 78: 9.

(6) الجَثل هنا بمعنى: المنثور المتفتّت، من جثلته الريح: إذا استخفته فنثرته، والسَدى: خيوط تنسجها النساء بالمغزل. والواثلات: الناسجات، تأويل مشكل القرآن، ص 80.

٣٠٢

مطاعن ردّ عليها قطب الدِّين الراوندي (1)

عقد في كتابه القيّم (الخرائج والجرائح) باباً ردّ فيه على مطاعن المخالفينَ في القرآن (2) ، وهو بحثٌ موجزٌ لطيفٌ وتحقيقٌ وافٍ دقيقٌ ذو فوائد جمّة نُورده هنا بالمناسبة:

قالوا: إنّ في القرآن تفاوتاً، كقوله: ( لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ ) (3) ، في هذا تكرير بغير فائدة فيه؛ لأنّ قوله (قوم من قوم) يُغني عن قوله: (نساءٌ من نساء)، فالنساء يَدخُلنَ في قوم، يُقال: هؤلاء قوم فلان، للرجال والنساء من عشيرته!

الجواب: إنّ (قوم) لا يقع في حقيقة اللغة إلاّ على الرجال، ولا يُقال للنساء التي ليس فيهنّ رجل: هؤلاء قوم فلان، وإنّما سُمّي الرجال قوماً؛ لأنّهم القائمون بالأمور عند الشدائد، ويدلّ عليه قول زهير:

وما أَدري وَسَوف إِخالُ أدري

أَقَومٌ آلُ حِصنٍ أم نساءُ

وقالوا: في قوله تعالى: ( الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي ) (4) تفاوت (أي تهافت) كيف تكون العيون في غطاءٍ عن الذِكر؟ وإنّما المناسب أن تكون الأسماع في غطاءٍ عن الذِكر!

الجواب: إنّ الله أراد بذلك عُميان القلوب، وعَمى القلب كناية عن عدم وعي الذِكر، يقال: عَمى قلبُ فلان، وفلان أعمى القلب، إذا لم يفهم ولم يعِ ما يُلقى إليه من الذِكر الحكيم؛ ومِن ثَمّ جاء تعقيب الآية بقوله: ( وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً ) .

قال تعالى: ( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا

____________________

(1) هو أبو الحسن سعيد بن هبة الله المشتهر بالقطب الراوندي، نِسبَةً إلى راوند من قُرى كاشان قائمة إلى اليوم، عالِم مبتحّر ومحدّث فقيه من أعاظم علماء الإماميّة في القرن السادس (توفي سنة 573)، هو من مشايخ ابن شهر آشوب وغيره، من أكابر أعيان العلماء في وقته له مصنّفات جليلة، منها: الخرائج والجرائح، وقصص الأنبياء، ولبّ اللباب، وشرح نهج البلاغة، وبحقٍّ أَسماه (منهاج البراعة).

(2) أورده بكامله المجلسي في البحار، ج 89، ص 141 - 146.

(3) الحجرات 49: 11.

(4) الكهف 18: 101.

٣٠٣

فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) (1) .

فأعيُن القلب إذا كانت في غطاء فإنّ الآذان حينذاك لا تسمع والأبصار لا تُبصر؛ لأنّ القلب لا يعي.

وبَصَرُ القلوب وعَماها هو المؤثّر في باب الدِّين، إمّا وعياً أو غلقاً، قال تعالى: ( وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا ) (2) ، والأكنّة: الأغطية.

فكان غِطاء التَعامي في القلوب هو العامل المؤثّر في عدم سماع الآذان وعدم إبصار العيون.

وقالوا: في قوله تعالى: ( أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ) : (3) ما نسبة الكتاب من عِلم الغيب؟ ثُمّ إنّ قريش كانوا أُمّيّين فكيف فَرَضَهم يكتبون؟

الجواب: إنّ معنى الكتابة هنا الحُكم، يُريد: أَعندهم عِلم الغيب فهم يَحكمون، ومِثله قول الجعدي:

ومالَ الولاءُ بِالبَلاء فمِلتُم

وما ذاك حكمُ اللّه إذ هو يكتب

(أي يحكم)، ومِثله قوله الآخرعلى ما استشهد به الجوهري في الصحاح:

يا ابنةَ عمّي كتابُ الله أَخرجني

عنكم وهلْ أَمنَعَنَّ الله ما فَعَلا

وقال ابن الأعرابي: الكاتب عندهم، العالم، قال تعالى: ( أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ) أي يعلمون (4) .

وقالوا: في قوله تعالى: ( وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ * كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ * الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) (5) كيف هذا التنظير ولا تناسب بين الكلامَينِ، ولا وجه وشبه لهذا التشبيه؟!

وهكذا في قوله تعالى: ( لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ ) (6) ، ما وجه هذا التشبيه؟

____________________

(1) الحجّ 22: 46.

(2) الأنعام 6: 25.

(3) الطور 52: 41، القلم 68: 47.

(4) راجع: الصحاح للجوهري، مادّة (كَتَب)، ج1، ص208.

(5) الحجر 15: 89 - 91.

(6) الأنفال 8: 4 - 5.

٣٠٤

وكذا قالوا: في قوله تعالى: ( وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ ) (1) .

الجواب: إنّ القرآن نزل على لسان العرب، وفيه حذف وإيماء، ووحي وإشارة، فقوله: ( أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ ) فيه حَذفٌ، كأنّه قال: أنا النذير المبين عذاباً، مِثل ما أنزل على المـُقتسمين، فحُذف العذاب؛ إذ كان الإنذار يدلّ عليه، كقوله في موضعٍ: ( أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ) (2) .

وأمّا قوله: فإنّ المسلمين يوم بدر اختلفوا في الأنفال، وجادل كثيرٌ منهم رسولَ اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) فيما فعله في الأنفال، فأنزل اللّه سبحانه: ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ (يجعلها لمن يشاء) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ (أي فرّقوها بينكم على السواء) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ (فيما بعدُ) إ ِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) (3) .

ثُمّ يَصِف المؤمنين، وبعده يقول: ( كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ ) ، يعني: إنّ كراهتهم الآن في الغنائم ككراهتهم يومذاك في الخروج معك.

وأمّا قوله: ( وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * كَمَا أَرْسَلْنَا... ) ، فإنّه أراد: ولأُتّم نعمتي عليكم كإرسالي فيكم رسولاً أنعمتُ به عليكُم يُبيّنُ لكم... (4) .

* * *

سألوا: عن قوله تعالى: ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ) (5) ، وهم لمْ يقولوا بذلك؟!

الجواب: إنّها نسبة تشريفيّة تفخيماً لمقامهما وتعظيماً لشأنهما لديه تعالى: فإذ كان العبد مُنعّماً بتربيةٍ صالحة ومورد عنايةٍ بالغةٍ منه تعالى شاع في الأوائل نسبةُ بنوّته له سبحانه، كما هي العادة عند العرب في المتربّي تربيةً صالحةً نسبته إلى المربّي نسبة الوَلَد إلى والده الكريم.

____________________

(1) البقرة 2 150 و151.

(2) فصّلت 41: 13.

(3) الأنفال 8: 1.

(4) الخرائج والجرائح، ج3، ص1010 - 1013 بتصرّف وتوضيح.

(5) التوبة 9: 30.

٣٠٥

قالوا: الآباء ثلاثة: أبٌ ولَّدك (1) ، وأبٌ زوَّجك، وأبٌ علَّمك.

وعن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بشأن مُحمّد بن أبي بكر: (مُحمّدٌ ابني من صُلب أبي بكر)، أي تربيتي وخاصّتي.

ويقال: لكلّ منتسب إلى شيء: ابنه، كما في أبناء الدنيا، وأبناء بلد كذا، وهكذا أبناء الإسلام وأبناء الحمية ونحو ذلك ممّا هو متعارف.

وقال سُحَيم بن وثيل الرياحي:

أَنا ابنُ جَلا وَطَلاّعِ الثنايا

مَتى أَضعِ العِمامَةَ تَعرِفوني

ينتسب إلى جَلاء الأُمور والكشف عن خباياها، والتطلّع على الجبال والتلال..

وفي خطبة الإمام السجّاد (عليه السلام) بجامع دمشق: (أيها النّاس، أنا ابنُ مكّة ومِنى، أنا ابنُ زمزم والصَّفا...) (2) .

وكذا فيما حكاه اللّه تعالى عن اليهود والنصارى في قولهم: ( نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ) (3) ، أي أخصّاؤه والمتقرّبون لديه.

قال الراوندي: وإنّما خصُّوا عُزَيراً بكونه ابن اللّه؛ لأنّه هو الذي أعاد عليهم الحياة الدينيّة بعد خلاصهم من أَسر بابل، وكَتَب لهم التوراة بعد ضياعِها في كارثة بخت نصّر، فكان موضعه لدى اليهود موضع نبيّ الله موسى (عليه السلام)، ولولاه لضاعت شريعة اليهود وذهبت معالم إسرائيل أَدراج الرياح.

وعُزَير هذا هو: عَزْرا بن سِرايا بن عَزَرْيا بن حِلْقِيّا (4) ، وقد صغّرته العرب وعرّبته على عادتهم في تعريب الأسماء وتغييرها، كما غيّروا (يسوع) بعيسى.

كان (عَزرا) معاصراً للمـَلِك الهخامنشي (أرْتَ خَشْتَر = اردشير أَوّل) المـُلقّب بـ (دراز دست) والذي تَزعّم المـُلك بعد أبيه (خشيارشا) سنة 465 ق. م (5) ، وفي السنة السابعة لمـُلكه (458 ق. م) بعث الكاتب المضطلع (عَزرا) مع جماعة من اليهود، الذي أُطلقوا من ذي قبلُ مِن أسر بابل، إلى (أورشليم) وجهّزهم بالمال والعتاد، وأَمَره أنْ يَعمر

____________________

(1) وَلَّدَه - بتشديد اللام - وبالتخفيف: كان سبب ولادته.

(2) بحار الأنوار، ج45، ص138.

(3) المائدة 5: 18.

(4) راجع: سِفر عَزرا، إصحاح 7.

(5) تأريخ إيران لحسن بيرنيا، ص99.

٣٠٦

البيت ويُحيي شريعة اللّه من جديد، وأرسل معه كتاباً فيه الدُستور الكامل لإعادة شريعة بني إسرائيل وإحياء مراسيم شعائرهم، وأنْ يُعيّن حُكّاماً وقُضاةً، ويَعمر البلاد حسب شريعة السماء (1) .

جاء في دائرة المعارف اليهوديّة الإنجليزيّة (طبعة 1903 م) أنّ عصر عَزرا هو ربيع التأريخ للأُمّة اليهوديّة الذي تفتّحت فيه أزهاره وعَبِق شذا أوراده، وأنّه جديرٌ بأن يكون هو ناشر الشريعة لو لم يكن جاء بها موسى، فقد كانت نُسيت ولكن عَزرا أعادها وأحياها (2) .

ولذلك يقول (عَزرا) شاكراً للّه تعالى: (مُبارك الربّ إله آبائنا الذي جَعل مِثل هذا في قلب المـَلِك؛ لأجل تزيين بيت الربّ الذي في اُورشليم، وقد بَسط عليَّ رحمةً أمام المـَلِك ومُشيريه وأمام جميع رؤساء المـَلِك المـُقتدرين...) (3) ، الأمر الذي جَعَل من (عَزرا) مكانته الشامخة في بني إسرائيل، ولقّبوه بابن اللّه، تكريماً لمقامه الرفيع.

وجُملةُ القول: أنّ اليهود وما زالوا يُقدّسون (عُزَيراً) هذا، وأدّى هذا التقديس إلى أنْ يُطلقوا عليه لقب (ابن اللّه) تكريماً، ولعلّه وفي الأدوار اللاحقة زَعَم بعضهم أنّه لقبٌ حقيقي، كما نُقل عن فيلسوفهم (فيلو) - وهو قريب من فلسفة وَثَنِيي الهند التي هي أصل عقيدة النصارى - كان يهوديّاً من الإسكندريّة ومعاصراً للمسيح (عليه السلام)، كان يقول: إنّ لله ابناً هو كلمتُه التي خَلَق منها الأشياء، ومنه اتّخذ النصارى هذا اللقب للمسيح (عليه السلام).

قال الشيخ مُحمّد عَبده: فعلى هذا لا يُبعد أن يكون بعض المتقدّمين على عصر البعثة المـُحمّديّة قد قالوا: إنّ عُزيراً ابن اللّه بهذا المعنى (4) .

قال الطبرسي: قيل: وإنّما قال ذلك جماعة من قَبلُ وقد انقرضوا (5) ، وهكذا قال الراوندي: قالت طائفة من اليهود: عُزير ابن اللّه، ولم يَقل ذلك كلّ اليهود، وهذا خُصوصٌ خَرج مَخرج العُموم (6) .

____________________

(1) راجع: سِفر عَزرا، إصحاح 7/8 - 26.

(2) تفسير المنار، ج10، ص322.

(3) سِفر عزرا، إصحاح 7/7 - 8.

(4) تفسير المنار، ج10، ص326 و328.

(5) مجمع البيان، ج5، ص23.

(6) الخرائج والجرائح، ج3، ص1014.

٣٠٧

وقد رُوي عن ابن عبّاس قال: أتى رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) سلام بن مشكم ونعمان بن أوفى وأبو أنس وشاس بن قيس ومالك بن الصيف - من وجوه يهود المدينة - فقالوا: كيف نَتّبِعُك وقد تركتَ قبلتنا ولا ترى عُزيراً ابناً للّه وقد أعاد علينا التوراة بعد الاندراس وأحيى شريعتنا بعد الانطماس؟! (1) .

ومع ذلك: فإنّ القرآن ينسب إليهم هذا القول تعنّتاً وجدلاً منهم، وليس على حقيقته: ( ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ ) (2) ؛ حيث نَسبوا إلى اللّه البنات وزعموا أنّ الملائكة إناثاً، قولاً بلا هَوادَة، وعقيدةً من غير مستند.

قال مُحمّد عَبده: وقد جرى أُسلوب القرآن على أنْ ينسب إلى أُمّةٍ أو جماعةٍ أقوالاً وأفعالاً مُستندة إليهم في جملتهم، وهي ممّا صدر عن بعضهم، والمراد من هذا الأسلوب تقرير أنّ الأُمّة تُعدّ متكافلة في شؤونها العامّة، وأنّ ما يفعله بعض الفِرَق أو الجماعات أو الزعماء يكون له تأثير في جملتها، وأنّ المـُنكَر الذي يَفعله بعضهم إذا لم يَنكر عليه جمهورُهم ويزيلوه يُؤاخذون به كلّهم، قال تعالى: ( وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ) (3) ، وهذا مِن سُنَن الاجتماع البشري أنّ المصائب والرزايا التي تحلّ بالأُمَم بفشوّ المفاسد والرذائل فيها لا تختصّ باللذين تلبّسوا بتلك المفاسد وحدهم، كما وأنّ الأَوبئة التي تحدث بكثرة الأقذار في الشعب وغير ذلك من الإسراف في الشهوات تكون عامّةً أيضاً (4) .

* * *

قال الراوندي وسألوا عن قوله تعالى: ( فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ ) (5) .

قالوا: كيف جَمَع اللّه بينه وبين قوله: ( لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ ) ؟ (6) وهذا خلاف الأَوّل؛ لأنّه قال أَوّلاً: (نبذناه) مطلقاً، ثُمّ قال: (لولا أنْ تَداركه لنُبذ بالعَراء) فجَعَله شرطاً!

____________________

(1) جاء ذلك في حديثَين عن ابن عبّاس، نقلها الطبري في التفسير، ج10، ص78.

(2) التوبة 9: 30.

(3) الأنفال 8: 25.

(4) تفسير المنار، ج10، ص326 - 327.

(5) الصافّات 37: 145.

(6) القلم 68: 49.

٣٠٨

الجواب: معنى ذلك: لولا أنّا رحمناه بإجابة دعائه لنَبذناه حين نبذناه بالعَراء مذموماً... فالآية الثانية لا تنفي النبذ بل تنفي النبذ في حالة كونه مذموماً، فلا تنافي بين الآيتَين.

قال: وسألوا: عن قوله تعالى: ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ ) (1) ، في حين أنّ اسم أبيه في التوراة تارح، قال: والصحيح أنّ آزر ما كان أباً لإبراهيم.

وقد ذكرنا في موضعه أنّ آزر كان عمّاً له، ويقال: إنّه تزوّج بأُمّ إبراهيم بعد موت أبيه تارح، فكان إبراهيم ربيبه وابن أخيه، واستعمال الأب في مثل هذا متعارف.

قال: وسألوا: عن قوله: ( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً ) ، ثُمّ قال: ( قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا ) (2) ، وهذا يدلّ على أنّ غيره لا يعلم بمدّة لبثِهم، في حين أنّه أَعلَمَنا بذلك في الآية الأُولى!

الجواب: أنّ هذا ردّ على اختلافهم في مدّة اللبث حيث لا عِلم لهم بذلك؛ ولذلك بيّنها وأَعلَمَهم بها، وهذا يدلّ على حصر العلم بذلك على اللّه لا غيره، (وسوف نذكر أنّ الآية نَقلٌ لقولهم، فهو مَقول لهم وليس منه تعالى).

قال: وسألوا: عن قوله تعالى: ( يَاأُخْتَ هَارُونَ ) (3) ، ولم يكن لها أخ بهذا الاسم!

وقد استوفينا الكلام في ذلك، وأنّه لم يُرِد الأُخوة في النَسب، بل الانتساب إلى قبيل هارون؛ حيث كانت من أحفاده، كما يقال: يا أخا كليب، وهو متعارف.

قال: وسألوا: عن التَّكرار في سورَتي الرحمان والمـُرسلات، وكذا التَّكرار في بعض القِصَص التي جاءت في القرآن، قالوا: أليس التكرار يُخلّ بفصاحة الكلام؟

لكن التكرير، سواء أكان في المعنى، نحو: أَطعني ولا تَعصني، أم في اللفظ والمعنى معاً نحو: عجّل عجّل، فإنّما هو للتأكيد والمبالغة، وقد يزيد تزييناً في الكلام وروعةً بالغة، وإنّما ذمّ أهل البلاغة التكرار الواقع فضلاً في الكلام ممّا لا فائدة فيه، فهو من اللغو الذي يتحاشاه الكلام البليغ.

____________________

(1) الأنعام 6: 74.

(2) الكهف 18: 25 و26.

(3) مريم 19: 28.

٣٠٩

انتهى ما أَردنا نَقلَه من كتاب الخرائج والجرائح للراوندي، وربّما عَمدنا إلى النقل بالمعنى أو مع يسيرٍ مِن إضافات أو تغييرات للاستزادة من الإيضاح (1) .

أمّا التَّكرار في القِصَص فقد ذَكَرنا: (2) أنّها في كلّ مرّة تهدف إلى نكتةٍ غير التي جاءت في غيرها؛ ومِن ثَمّ فإنّها ليست بتكرار في حقيقتها.

____________________

(1) الخرائج والجرائح، ج3، ص1014 - 1017، وراجع: البحار، ج89، ص141 - 146.

(2) راجع: التمهيد، ج5.

٣١٠

الباب الرابع

هل هناك في القرآن مُخالفات مع العِلم أو التأريخ أو الأدب؟

حاشاه:

( قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ ) الزمر: 28

( كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاّ كَذِباً ) الكهف: 5

( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ) البقرة: 176

٣١١

مُخالفات علميّة؟!

هل هناك في القرآن ما يُخالف العِلم؟

كلاّ ( مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنُّونَ ) (1) .

زعموا أنّ في القرآن ما يُخالف العِلم واتّخذوه شاهداً على أنّه ليس من كلام اللّه العالم بحقائق الأُمور ( لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ ) (2) .

ولنضع اليد على مواردٍ زَعَموا فيها الخلاف:

( وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ)

قالوا: ومِن الأحياء ما ليس له زوج كالخلايا والحيوانات الابتدائيّة والدِيدان تتكاثر من غير ما حصول لِقاح جنسي، وهكذا بعض الثِّمار تنعقد من غير لِقاح ومن غير أن يكون فيها ذكر وأُنثى!

لكنّها شُبهة فارغة وحُسبان عقيم:

____________________

(1) الجاثية 45: 24.

(2) النساء 4: 166.

٣١٢

أَوّلاً: ليست في الآية صَراحة بمسألة الزوجيّة مِن ذكرٍ وأُنثى (اللِقاح الجنسي) حسب المـُتبادر إلى الأذهان، فلعلّ المـُراد: التزاوج الصنفي أي المتعدّد من كلّ صنف، كما في قوله تعالى: ( فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ ) (1) أي صِنفان كنايةً عن التعدّد مِن أصناف مُتماثلة؛ ذلك لأنّ الفاكهة ليس فيها ذكر وأُنثى وليس فيها لِقاح، إنّما اللِقاح في البذرة لا الثمرة.

ومِثله قوله تعالى: ( وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) (2) ، أي صنفَين متماثلَين، والثمرة نفسها ليس فيها تزاوج جنسي.

وكذلك الآية: ( وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ) (3) لعلّها كأُختيها أُريد بها الصنفان مِن كلّ نوع، كنايةً عن التماثل في تعدّد الأشكال والألوان، كما في قوله سبحانه: ( وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ) (4) أي متماثلاً وغير متماثل.

وإطلاق لفظ التزاوج وإرادة التماثل والتشاكل في الصنف أو النوع غير عزيز، قال تعالى: ( أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ) (5) أي مِن كلّ نوعٍ متشاكل، وقوله: ( وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى ) (6) ، قال الراغب: أي أنواعاً متشابهةً، وقوله: ( ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ) (7) أي أصناف.

وقد يُراد بالزوج القَرين أي المـُصاحِب المـُرافِق في أمرٍ له شأن، قال الراغب: يُقال لكلّ قرينَين في الحيوانات المتزاوجة وغيرها: زوج، ولكلّ ما يقترن بآخر مماثلاً له أو مضادّاً: زوج، قال تعالى: ( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ ) (8) أي قُرناءهم ممّن تَبِعوهم، ( إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ ) (9) أي أشباهاً وقُرناء، ( وَكُنْتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاثَةً ) (10) أي قُرناء ثلاثة، وقوله تعالى: ( وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ) (11) فقد قيل في معناه: قُرن كلّ شيعة بمَن شايعهم (12) .

____________________

(1) الرحمان 55: 52.                                   (2) الرعد 13: 3.

(3) الذاريات 51: 49.                                (4) الأنعام 6: 141.

(5) الشعراء 26: 7.                                                (6) طه 20: 53.

(7) الزمر 39: 6.                                       (8) الصافّات 37: 22.

(9) الحجر 15: 88.                                    (10) الواقعة 56: 7.

(11) التكوير 81: 7.                                   (12) المفردات، ص215 و216.

٣١٣

وهكذا ذَكر المفسّرون القُدامى وهم أعرف وأقرب عهداً بنزول القرآن وبمواقع الكلام الذي خاطب به العرب آنذاك.

قال الحسن - في قوله تعالى: ( وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ) -: السماء زَوجٌ والأرض زَوجٌ، والشتاء زَوجٌ والصيف زَوجُ، والليل زَوجُ والنهار زَوجُ، حتّى يصير إلى اللّه الفرد الذي لا يُشبهه شيء (1) .

وعن قتادة - في قوله تعالى: ( قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) - (2) قال: مِن كلّ صنفٍ اثنين.

قال الطبري: وقال بعض أهل العِلم بكلام العرب مِن الكوفيّين: الزوجان - في كلام العرب - الاثنان، قال: ويُقال: عليه زَوجا نِعَالٍ إذا كانت عليه نَعْلان، ولا يقال: عليه زَوج نِعالٍ، وكذلك: عنده زَوجا حَمام، وعليه زَوجا قيود، قال: أَلا تسمع إلى قوله تعالى: ( وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى‏ ) (3) فإنّما هما اثنان.

قال: وقال بعض البصريّين من أهل العربيّة - في قوله: ( قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) -: جَعَل الزوجَين الضربَين الذُكور والإناث، قال: وزَعَم يونس أنّ قول الشاعر:

وأنت امرؤٌ تَعدو على كلِّ غرّةٍ

فتُخطي فيها مرّةً وتصيبُ (4)

يعني به (بالمرء) الذئب، وهذا أشذّ من ذلك (أي إطلاق المرء على الذئب أشذّ من إطلاق الزوج على كلّ ذي صنف).

وقال آخر: الزوج اللون، وكلّ ضَربٍ يُدعى لوناً، واستشهد ببيت الأعشى:

وكلُّ زوجٍ مِن الديباجِ يَلبَسُهُ

أَبو قُدامَة محبوّاً بِذاكَ مَعاً (5)

وقال لبيد:

وذي بَهجةٍ كَنَّ المقانِبُ صوتَه

وزيّنه أزواج نُورٍ مشرَّب (6)

____________________

(1) جامع البيان، ج12، ص26 ذيل الآية هود 11: 40.

(2) هود 11: 40.

(3) النجم 53: 45.

(4) خطاب إلى الذئب - في استعارةٍ تخييليّة - بأنّه يحمل على ما تغافل من صيدٍ فقد يُصيبه وقد لا يُصبيه.

(5) أي وكلُّ صنفٍ من الديباج - الثوب المنسوج من الحرير - يلبسه ويحتبي به.

(6) جامع البيان، ج12، ص25 - 26، ومعنى البيت: أنّ أصوات المقانِب وهي جماعة الخيل تجتمع للغارة، كَنّ المقانب: =

٣١٤

قال ابن منظور: والزوج، الصنف من كلّ شيء. وفي التنزيل ( وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ) (1) ، قيل: مِن كلِّ لونٍ أو ضربٍ حَسِنٍ من النبات، وفي التهذيب: والزوج اللون، وقوله تعالى: ( وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ) (2) معناه: ألوان وأنواع من العذاب، ووصفه بالأزواج؛ لأنّه عنى به الأنواع من العذاب والأصناف منه (3) .

وأمّا لفظة (اثنين) فلا يُراد بها العدد وإنّما هو التكثّر مَحضاً، كما في قوله تعالى: ( ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ ) (4) أي كرّةً بعد أُخرى، وهكذا، وجاءت لفظة (اثنين) تأكيداً على هذا المعنى، كما في قوله تعالى: ( لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ ) (5) - خطاباً مع المشركين - أي لا تتّخذوا مع اللّه آلهةً أُخرى، ومِن ثَمَّ عقّبه بقوله: ( إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ) ، فهو كقوله تعالى: ( لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ ) (6) أي آلهةً أُخرى كما في قوله: ( وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً ) (7) فهو نهي عن التعدّد في الآلهة، صِيغت في قالب التثنية.

قال أبو عليّ: الزوجان - في قوله تعالى: ( مِن كُلّ زَوْجَيْنِ... ) - يُراد به الشياع من جنسه ولا يُراد عدد الاثنين، كما قال الشاعر:

فاعمد لِما يَعلو فَما لك بالذي

لا تَستطيع مِن الأُمورِ يَدانِ

يريد: الأيدي والقُوى الكثيرة كي يستطيع التغلّب على الأُمور.

قال: ويُبيّن هذا المعنى أيضاً قول الفرزدق:

وكلُّ رَفيقَي كُلِّ رَحلٍ وَإِن هُما

تَعاطى القَنا قَوماهُما أَخوانِ (8)

إذ رفيقَان اثنان لا يكونان رفيقَي كلِّ رَحل، وإنّما يريد الرُفقاء كلّ واحد مع صاحبه يكونان رفيقَين (9) .

____________________

= سترت أي فاقت صوته، وكان ممّا يزيّنه الأزواج من النور جمع نَوار وهي البقرة تنفر من الفحل، والمشرّب: ما ارتوى من الحيوان.

(1) الحجّ 22: 5.

(2) ص 38: 58.

(3) لسان العرب، ج2، ص293.

(4) الملك 67: 4.

(5) النحل 16: 51.

(6) الإسراء 17: 39.

(7) مريم 19: 81.

(8) تعاطى، مخفّف تَعاطَيا، حذف اللام للضرورة، جامع الشواهد، ص324.

(9) راجع: مجمع البيان، ج5، ص161.

٣١٥

وعليه، فالزوجان في الآية لعلّه أُريد بهما الصنفان المتماثلان أو المتقابلان - كما فَهِمَه المفسّرون القُدامى - فلا موضع فيها للاعتراض كما زَعَمَه الزاعم.

وهكذا على التفسير الآخر، قال به بعض القُدامى، قالوا بالتركيب المزدوج في ذوات الأشياء حسبما قرّرته الفلسفة: إنّ كلّ شيءٍ مُتركّب في ماهيّته من جوهرٍ وعَرضٍ وفي وجوده مِن مادّة وصورة، وهكذا.

قال الراغب - في قوله تعالى: ( سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ ) (1) ، وقوله: ( وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ) (2) -: تنبيهٌ أنّ الأشياء كلّها مركّبة من جوهرٍ وعرضٍ ومادّةٍ وصورة، وأنْ لا شيء يتعرّى مِن تركيب يقتضي كونه مصنوعاً وأنّه لابدّ له مِن صانع؛ تنبيهاً أنّه تعالى هو الفرد.

وقوله: ( خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ) ، بيّن أنّ كلّ ما في العالم زوج مِن حيث أنّ له ضدّاً أو مِثلاً أو تركيباً مّا، بل لا ينفكّ بوجهٍ من تركيب، قال: وإنّما ذَكَرها هنا زوجَين؛ تنبيهاً أنّ الشيء وإن لم يكن له ضدّ ولا مِثل فإنّه لا ينفكّ من تركيب جوهرٍ وعرض، وذلك زوجان (3) .

ثانياً: فلنفرض إرادة اللِقاح الجنسي بين ذكرٍ وأُنثى في عامّة الأشياء، كما فَهِمَه المتأخّرون؛ وليكون ذلك دليلاً على الإعجاز العلمي في القرآن، فلا دليل على عدم الاطّراد حسبما زَعَمه المعترض. فإنّ اللقاح التناسلي ظاهرة طبيعيّة مطّردة في عامّة الأحياء نباتها وحيوانها وحتّى الدِيدان والحيوانات الأَوّليّة بصورةٍ عامّة على ما أثبته علم الأحياء.

قال المراغي - في قوله تعالى: ( وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) (4) -: أي وجَعَل فيها من كلّ أصناف الثمرات زوجَين اثنين ذكراً وأُنثى حيت تكوّنها، فقد أثبت العلم حديثاً أنّ الشجر والزرع لا يُولّدان الثمر والحبّ إلاّ مِن اثنين ذكرٍ وأُنثى، وعضو التذكير قد يكون في شجرة وعضو التأنيث في شجرة أُخرى كالنَّخل، وما كان العُضوَان فيه في شجرة واحدة، إمّا أن يكونا معاً في زهرةٍ واحدة كالقُطن، وإمّا أن يكون كلّ منهما في زهرة

____________________

(1) يس 36: 36.

(2) الذاريات 51: 49.

(3) المفردات، ص216.

(4) الرعد 13: 3.

٣١٦

وحدها كالقَرع مثلاً (1) ، وهكذا ذَكَر الطنطاوي في تفسيره (2) وغيره.

قال العلاّمة الطباطبائي: ما ذكروه وإن كان من الحقائق العلميّة التي لا غُبار عليها إلاّ أنّه لا يُساعد عليه ظاهر الآية من سورة الرعد، نعم يتناسب مع ما في سورة يس من قوله تعالى: ( سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا.... ) والآية 10 من سورة لقمان، والآية 49 من سورة الذاريات (3) .

قال سيّد قطب: وهذه حقيقة عجيبة تكشف عن قاعدة الخَلق في هذا الأرض - وربّما في هذا الكون؛ إذ أنّ التعبير لا يُخصّص الأرض - قاعدة الزوجيّة في الخَلق، وهي ظاهرة في الأحياء. ولكن كلمة (شيء) تشمل غير الأحياء أيضاً، والتعبير يُقرّر أنّ الأشياء كالأحياء مخلوقة على أساس الزوجيّة.

وحين نتذكّر أنّ هذا النصّ عَرفه البشر مُنذ أربعة عشر قَرناً وأنّ فكرة عُموم الزوجيّة - حتّى في الأحياء - لم تكن معروفة حينذاك فضلاً على عُموم الزوجيّة في كلّ شيء، حين نتذكّر هذا نَجدُنا أمام أمرٍ عجيبٍ عظيم، وهو يُطلعنا على الحقائق الكونيّة في هذه الصورة العجيبة المبكّرة كلّ التبكير!

كما أنّ هذا النصّ يَجعلنا نُرجّح أنّ البحوث العلميّة سائرة في طريق الوصول إلى الحقيقة، وهي تكاد تُقرّر أنّ بناء الكون كلّه يرجع إلى الذرّة، وأنّ الذرّة مؤلّفة من زوج مِن الكهرباء - موجب وسالب -. فقد تكون تلك البحوث إذن على طريق الحقيقة في ضوء هذا النصّ العجيب (4) .

وجاء في مجلّة عالَم الفِكر الكويتيّة العدد الثالث (ج1، ص114): ممّا يَستوقف الذهن إشارة القرآن أنّ أصل الكائنات جميعاً تتكوّن من زوجَين اثنين... وقد اكتشف العلم الحديث وحدة التركيب الذرّي للكائنات على اختلافها وأنّ الذرّة الواحدة تتكوّن من إلكترون وبروتون، أي من زوجَين... (5)

____________________

(1) تفسير المراغي، ج13، ص66.

(2) تفسير الجواهر للطنطاوي، ج7، ص80.

(3) تفسير الميزان، ج11، ص321.

(4) في ظِلال القرآن، ج27، ص24، مجلّد 7، ص587 - 588.

(5) بنقل مُغنية في تفسيره المبين، ص695 ذيل الآية 49 من سورة الذاريات.

٣١٧

وقد أثبت عِلم الأحياء الحديث أنّ الأحياء برُمّتها إنّما تتوالد وتتكاثر بالازدواج التناسلي، وحتّى في الحيوانات الابتدائيّة ذوات الخليّة الواحدة (أميبا) والدِيدان أيضاً.

ففي مُستعمرة الفلفكس (مجموعة خلايا كثيرة تتألّف من نحو 12000 خليّة مرتبطة ببعضها بواسطة خيوط بروتوبلازمية فيتمّ بذلك الاتصال الفسلجي بين الوحدات) تظهر خلايا التناسل الذكرية والأُنثويّة بشكل حُجَيرتَين: إحداهما حُجَيرة تناسل ذكريّة، والأُخرى حُجَيرة تناسل أُنثويّة (1) ، وهكذا تحتوي كلّ دودةٍ على أعضاء تناسل ذكرية وأُنثويّة نامية ويتمّ الإخصاب داخل جسم الدودة فتخرج البيوض مُخصّبة لتُعيد دورة حياة جديدة (2) ، وفي مِثل الدِيدان التي تتكاثر بالانقسام فإنّ جهاز التناسل يوجد في نفس الحيوان بشكل أعضاء تناسليّة ذكريّة وأُنثويّة، على ما شرحه علم الأحياء (3) .

( وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (4)

كانت العرب ولعلّ البشريّة جَمعاء ترى مِن القلب - ومَحلّه الصدر - مَركزاً للتعقّل والإدراك وكذا سائر الصفات النفسيّة؛ وذلك باعتبار كونه منشأ الحيويّة في الإنسان، فمِن القلب تنبثّ الحياة وتزدهر الحيويّة في الإنسان، ومنها النشاط الفكري وتجوال الخواطر وسائر أحوال النفس من حبٍّ وبغضٍ وابتهاجٍ وامتعاض!

هذا مع العلم بأنّ البشريّة عرفت - منذ أُلوف السنين - أنّ مركز الإدراك هو المـُخّ ومَحلّه الدِماغ من الرأس، ومنه اشتقاق الرِئاسة لمركزيّة التدبير.

إذن لم تكن مركزيّة الدِماغ للإدراك ممّا تَجهله العرب وسائر الناس، فما وجه التوفيق؟

وقد رجّح ابن سينا أن يكون المـُدِرك هو القلب وأنّ الدِماغ وسيلةٌ للإدراك، فكما أنّ الإبصار والسَمع يحصلان في مراكزهما من المخّ وتكون العين والأُذُن وسطاً لهذا الحصول،

____________________

(1) راجع: كتاب الحَيَوان للدراسات العليا في جامعة بغداد، ص39، الشكل 14.

(2) المصدر: ص86.

(3) المصدر: ص105.

(4) الحجّ 22: 46.

٣١٨

كذلك الدِماغ وسط للإدراك والتفكير (1) ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ) (2) .

وبذلك يتلخّص الإنسان - في نشاطه الفكري والعلمي - في قلبه، ويتّحد القلب مع النفس والروح في التعبير عن حقيقة الإنسان ذاته، ( قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) (3) أي نفسي.

قال العلاّمة الطباطبائي: لَمّا شاهد الإنسانُ أنّ الشعور والحسّ قد يَبطل في الحيوان، أو يغيب عنه بإغماءٍ أو صرعٍ ونحوهما، ولا تَبطل الحياة مادام القلب نابضاً، قطع بأنّ منشأ الحياة هو القلب وسرت منه إلى سائر الأعضاء، وأنّ الآثار الروحيّة وكذا الأحاسيس المـُتواجدة في الإنسان - مِن مِثل الشعور والإرادة والحبّ والبغض والرجاء والخوف - كلّها للقلب، بعناية أنّه أَوّل متعلّق للروح، وهذا لا ينافي كون كلّ عضوٍ من الأعضاء مبدأ لعملٍ يخصّه، كالدماغ للفكر والعين للإبصار والأُذُن للسمع والرئتَين للتنفّس ونحو ذلك، فإنّها جميعاً مَنزلة الآلات والوسط إلى ذلك.

قال: ويتأيّد ذلك بما وَجَدَته التجارب العلميّة في الطيور، لا تموت بفقد الدماغ، سِوى أنّها تفقد الشعور والإحساس، وتبقى على هذه الحال حتّى تموت بفقد الموادّ الغذائيّة وإيقاف نبضات القلب.

والبحوث العلميّة لم تُوفّق لحدّ الآن للعثور على مصدر الأحكام الجسديّة أعني عرش التدبير في البدن، إذ أنّها في عين التشتّت والتفرّق في بِنيَتِها ونوعية عملها، هي مجتمعة تحت لواءٍ واحد ومؤتمرة بأوامر أميرٍ واحد، وحدة حقيقية من غير انفصام.

وليس ينبغي زَعمُ التغافل عن شأن الدِماغ وما يَخصّه من أمر الإدراك، وقد تنبّه الإنسان لِما عليه الرأس مِن الأهميّة في استواء الجسد مُنذ أقدم الزمان، وقد جرى على ألسنتهم التشبيه بالرأس والاشتقاق منه حيثما يُريدون التعبير بالمبدئيّة في أيّ شيء.

____________________

(1) راجع: تفسير الميزان، ج2، ص236.

(2) ق 50: 37.

(3) البقرة 2: 260.

٣١٩

ولكن مع ذلك نَراهم ينسبون الإدراك والشعور وكذا صفات النفس - ممّا للشعور فيه حظّ - إلى القلب المـُراد به الروح الساطية على البدن والمـُدبّرة له، كما يَنسبونها إلى النفس بمعنى الذات، فلا فرق بين أنْ يُقال: هَواكَ قلبي أو هَوتك نفسي. فأُطلق القلب وأُريد به النفس؛ باعتبار كونه مبدأ جميع الإدراكات (العقليّة) والصفات (النفسيّة)، وفي القرآن الشيء الكثير من ذلك: قال تعالى: ( يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ ) (1) ( يَضِيقُ صَدْرُكَ ) (2) ، ( بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ ) (3) ، ( إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) (4) ، إلى غيرها من آيات (5) .

( فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا)

قال تعالى: ( حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا ) (6) .

أَفهل تتكلّم النمل؟ وكيف يستمع سليمان إلى كلامها؟!

والنملة وكذا سائر الحشرات ليس لها صوت وإنّما تَتَبادل أخبارَها وتتفاهم بعضها مع بعض عن طريقة إشعاع أمواج لاسلكيّة، وهكذا تتلقّى الأخبار وكذا عن طريقة الشمّ، ممّا لا صلة له بالكلام الصوتي.

لكن العُمدة أنّ للحيوانات برُمّتها مَنطِقاً أي طريقة خاصّة للتفاهم مع بعضها، سواء أكان ذلك عن طريقة إيجاد أصوات خاصة كما في الدوابّ والطيور أم بطريقة أُخرى (إشعاع أمواج لاسلكيّة) كما في الحشرات، الأمر الذي يمكن الوقوف عليه بطريقةٍ مّا، وبالفعل قد عُرف شيء من مَنطِق البهائم وحتّى بعض الحيتان في البحار، ولا يستحيل في قدرة اللّه تعالى أنْ يُعلّم نبيّه مَنطِق الطير وسائر الحيوان، يقول تعالى - حكايةً عن سليمان -: ( عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ) (7) .

____________________

(1) الأنعام 6: 125.

(2) الحجر 15: 97.

(3) الأحزاب 33: 10.

(4) المائدة 5: 7.

(5) تفسير الميزان، ج2، ص234 - 235.

(6) النمل 27: 18 و19.

(7) النمل 27: 16.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578