شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم13%

شبهات وردود حول القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 578

شبهات وردود حول القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 578 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 297513 / تحميل: 13675
الحجم الحجم الحجم
شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

هذا.. ولسوف نرى أن أحمد أمين المصري يأخذ برأي ابن القفطي هذا. لكنه ينظر فيه إلى خصوص أئمة أهل البيتعليه‌السلام ، كما سيأتي بيانه، وبيان مدى خلطه وفساده في الفصل التالي.

وفيه دلالة على أن الفضل كان مخدوعاً، وعلى أن المأمون لم يكن مخلصاً فيما أقدم عليه..

د ـ : إنه لا بد لنا من الإشارة هنا إلى أن أكثر ثورات العلويين، التي قامت ضد المأمون ـ قبل البيعة للرضاعليه‌السلام طبعاً ـ كانت من بني الحسن، وبالتحديد من أولئك الذين يتخذون نحلة الزيدية، فأراد المأمون أن يقف في وجههم، ويقضي عليهم، وعلى نحلتهم تلك نهائياً، وإلى الأبد، فأقدم على ما أقدم عليه من البيعة للرضاعليه‌السلام بولاية العهد.

هذا.. وقد كانت نحلة الزيدية هذه ـ شائعة في تلك الفترة، وكانت تزداد قوة يوماً عن يوم، وكان للقائمين بها نفوذ واسع، وكلمة مسموعة، حتى إن المهدي قد استوزر يعقوب بن داوود، وهو زيدي، وآخاه، وفوضه جمع أمور الخلافة(١) .

وعلى حد تعبير الشبراوي: (.. فولاه الوزارة، وصارت الأوامر كلها بيديه، واستقل يعقوب حتى حسده جميع أقرانه..)(٢) .

____________

(١) البداية والنهاية ج ١٠ / ١٤٧، وغيره من كتب التاريخ، فراجع فصل: مصدر الخطر على العباسيين.

(٢) الإتحاف بحب الأشراف ص ١١٢.

٢٠١

بل كان: (لا ينفذ للمهدي كتاب إلى عامل، فيجوز، حتى يكتب يعقوب إلى أمينه وثقته بإنفاذه.)(١) .

وقد بلغ من نفوذ يعقوب هذا.. أن قال فيه بشار بن برد أبياته المشهورة، التي قدمناها، والتي يقول فيها: (إن الخليفة يعقوب ابن داوود).

وقد سعي بيعقوب هذا إلى المهدي: وقيل له: (.. إن الشرق والغرب في يد يعقوب، وأصحابه، وإنما يكفيه أن يكتب إليهم ؛ فيثوروا، في يوم واحد، فيأخذوا الدنيا)(٢) .

وذلك لأنه قد: (أرسل يعقوب هذا إلى الزيدية، وأتى بهم من كل أوب، وولاهم من أمور الخلافة في المشرق والمغرب كل جليل، وعمل نفيس، والدنيا كلها في يديه..)(٣) .

وإذا ما عرفنا أن معاوني يعقوب إنما كانوا هم: متفقهة الكوفة، والبصرة، وأهل الشام(٤) .. فإننا نعرف أن الاتجاه الزيدي سوف يؤثر كثيراً، وكثيراً جداً على الثقافة العامة، والاتجاهات الفكرية في ذلك العصر ـ كما حدث ذلك فعلاً.. حتى لقد صرح ابن النديم بأن:

(أكثر علماء المحدثين إلا قليلاً منهم، وكذلك قوم من الفقهاء، مثل: سفيان الثوري، وسفيان بن عيينة كانوا من الشيعة الزيدية.)(٥) وقد صرح المؤرخون أيضاً: بأن أصحاب الحديث جميعهم، قد

____________

(١) الطبري ج ١٠ / ٤٨٦، والكامل لابن الأثير ج ٥ / ٦٠، ومرآة الجنان ج ١ / ٤١٨.

(٢) الكامل لابن الأثير ج ٥ / ٦٦، ٦٧.

(٣) الطبري ج ١٠ / ٥٠٨، طبع ليدن، والوزراء والكتاب للجهشياري ص ١٥٨، والكامل لابن الأثير ج ٥ / ٦٦.

(٤) الطبري، طبع ليدن ج ١٠ / ٤٨٦.

(٥) الفهرست لابن النديم ص ٢٥٣.

٢٠٢

خرجوا مع إبراهيم بن عبد الله بن الحسن، أو أفتوا بالخروج معه(١) .

وعلى كل حال.. فإن ما يهمنا بيانه هنا: هو أن المأمون كان يريد

____________

(١) مقاتل الطالبيين ص ٣٧٧، وغيرها من الصفحات، وغيرها من الكتب. ويرى بعض أهل التحقيق: أن المقصود هو جميع أصحاب الحديث في الكوفة. ولكن الظاهر أن المراد: الجميع مطلقاً، كما يظهر من مراجعة مقاتل الطالبيين وغيره.

والأمر الذي تجدر الإشارة إليه هنا: هو أن فرقة من الزيدية، وفرقة من أصحاب الحديث، قد قالوا بالإمامة على النحو الذي يقول به الشيعة الإمامية، عندما جعل المأمون (الرضا)عليه‌السلام ولياً لعهده. لكنهم بعد وفاة الرضاعليه‌السلام رجعوا عن ذلك: قال النوبختي في فرق الشيعة ص ٨٦:

(.. وفرقة منهم تسمى (المحدثة) كانوا من أهل الإرجاء، وأصحاب الحديث، فدخلوا في القول بإمامة موسى بن جعفر، وبعده بإمامة علي بن موسى، وصاروا شيعة، رغبة في الدنيا وتصنعاً. فلما توفي علي بن موسىعليه‌السلام رجعوا إلى ما كانوا عليه.

وفرقة كانت من الزيدية الأقوياء، والبصراء، فدخلوا في إمامة علي بن موسىعليه‌السلام ، عندما أظهر المأمون فضله، وعقد بيعته، تصنعاً للدنيا، واستكانوا الناس بذلك دهراً. فلما توفي علي بن موسىعليه‌السلام رجعوا إلى قومهم من الزيدية.) وقد تقدم قول الشيبي: إنه قد التف حول الرضاعليه‌السلام (المرجئة، وأهل الحديث، والزيدية، ثم عادوا إلى مذاهبهم بعد موته..) وغير ذلك. والذي نريد أن نقوله هنا هو: أن (الإرجاء دين الملوك) على حد تعبير المأمون (على ما نقله عنه في ضحى الإسلام ج ٣ / ٣٢٦)، نقلاً عن طيفور في تاريخ بغداد.

وفي البداية والنهاية ج ١٠ / ٢٧٦: أن المأمون قال للنضر بن شميل: ما الإرجاء؟. قال: (دين يوافق الملوك، يصيبون به من دنياهم، وينقصون به من دينهم) قال: صدقت الخ. وليراجع كتاب بغداد ص ٥١، وعمدة القول بالإرجاء (القديم) هو: المغالاة في الشيخين، والتوقف في الصهرين، فالإرجاء والتشيع، وخصوصاً القول بإمامة موسى بن جعفر، وولده علي الرضا على طرفي نقيض ومن هنا كانت المساجلة الشعرية بين المأمون المظهر لحب علي وولده، وابن شكلة المرجي، يقول المأمون معرضا بابن شكلة:

إذا المرجي سرك أن تراه

يموت لحينه من قبل موته

فـجدد عـنده ذكرى علي

وصل على النبي وآل بيته

أما ابن شكلة فيقول معرضاً بالمأمون:

إذا الشيعي جمجم في مقال

فسرك أن يبوح بذات نفسه

فصل على النبي وصاحبيه

وزيـريه وجاريه برمسه

٢٠٣

= راجع: مروج الذهب ج ٣ / ٤١٧، والكنى والألقاب ج ١ / ٣٣١، وبعد هذا. فإنه لمن غرائب الأمور حقاً، الانتقال دفعة واحدة من القول بالإرجاء إلى التشيع، بل إلى الرفض (وهو الغلو في التشيع حسب مصطلحهم، والذي يتمثل بالقول بإمامة الأئمة الاثني عشرعليهم‌السلام ) وأغرب من ذلك العودة إلى الإرجاء بعد موت علي الرضاعليه‌السلام .

وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على مدى تأثير السياسة والمال في هؤلاء الذين أخذوا على عاتقهم ـ بادعائهم ـ مسؤولية الحفاظ على الدين والذود عن العقيدة، فإنهم كانوا في غاية الانحطاط الديني، يتلونون ـ طمعاً بالمال والشهرة ـ ألواناً، حتى إن ذلك يحملهم على القول بعقيدة، ثم القول بضدها، ثم الرجوع إلى المقالة الأولى، إذا رأوا أن الحاكم يرغب في ذلك، ويميل إليه، ولهذا أسموا بـ‍ (الحشوية) يعني: أتباع وحشو الملوك، وأذناب كل من غلب، ويقال لهم أيضاً (وهم في الحقيقة أهل الحديث): (الحشوية، والنابتة، والغثاء، والغثر) على ما في كتاب: تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة ص ٨٠.

وراجع أيضاً فرق الشيعة، ورسالة الجاحظ في بني أمية، وغير ذلك.

بل لقد أطلق عليهم المأمون نفسه لفظ (الحشوية) في مناقشته المشهورة للفقهاء والعلماء المذكور في العقد الفريد والبحار، وعيون أخبار الرضا وغير ذلك. وقال عنهم الزمخشري في مقام استعراضه للمذاهب والنحل، ومعتنقيها:

وإن قلت من أهل الحديث وحزبه

يـقولون تيس ليس يدري ويفهم

ويقابل كلمة (الحشوية) كلمة (الرافضة) التي شاع إطلاقها على الشيعة الإمامية.

ومعناها في الأصل: جند تركوا قائدهم. فحيث إن الشيعة لم يكونوا قائلين بإمامة أولئك المتغلبين، سموهم ب‍ـ (الرافضة) ولذا جاء في تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ١٦١: أن معاوية كتب إلى عمرو بن العاص:

 (أما بعد. فإنه قد كان من أمر علي وطلحة والزبير ما قد بلغك، فقد سقط إلينا مروان في رافضة أهل البصرة الخ..). ومثل ذلك ما في وقعة صفين لنصر بن مزاحم ص ٣٤، فالمراد بكلمة رافضة هنا هو ذلك المعنى اللغوي الذي أشرنا إليه، فسمي الشيعة بالرافضة، لأنهم ـ كما قلنا ـ رفضوا الانقياد لأولئك الحكام المتغلبين.

٢٠٤

= يقول السيد الحميري على ما جاء في ديوانه وغيره ـ يهجو البعض:

أبـوك ابن سارق عنز النبي

وأمـك بـنت أبـي جحدر

ونحن على رغمك الرافضون

لأهـل الـضلالة والـمنكر

ولكن قد جاء في الطبري، مطبعة الاستقامة ج ٦ ص ٤٩٨، والبداية والنهاية ج ٩ ص ٣٣٠، ومقدمة ابن خلدون ص ١٩٨، ومقالات الإسلاميين ج ١ ص ١٣٠، وغاية الاختصار ص ١٣٤: أن سبب تسمية الشيعة بـ‍ (الرافضة) هو أنهم عندما تركوا نصرة زيد بن علي في سنة ١٢٢ ه‍. قال لهم زيد: رفضتموني، رفضكم الله، وهذا كذب راج على بعض الشيعة أيضاً حيث ذكروا وذكر الطبري في نفس الصفحة المشار إليها آنفاً: أن التسمية كانت من المغيرة بن سعيد، لما رفضته الشيعة.. وكانت قضيته سنة ١١٩ ه‍.

ولكن الحقيقة هي أن التسمية بالرافضة كانت قبل سنتي ١٢٢ ه‍ و ١١٩ ه‍. فقد جاء في المحاسن للبرقي ص ١١٩ طبع النجف، باب الرافضة: أن الشيعة كانوا يشكون إلى الباقر المتوفى سنة ١١٤ أن الولاة قد استحلوا دماءهم وأموالهم باسم: (الرافضة) الخ.

وجاء في ميزان الاعتدال طبع سنة ١٩٦٣ م. ج ٢ ص ٥٨٤ بعد ذكره لإسناد طويل أن الشعبي المتوفى سنة ١٠٤ ه‍. قال لأحدهم: (ائتني بشيعي صغير، أخرج لك منه رافضياً كبيراً).

وفي كتاب: روض الأخبار المنتخب من ربيع الأبرار ص ٤٠، أن الشعبي قال: (أحبب آل محمد ولا تكن رافضياً، وأثبت وعيد الله، ولا تكن مرجئياً.). بل لدينا ما يدل على أن تسمية الشيعة بـ‍ (الرافضة) كان قبل سنة المئة، فقد جاء في المحاسن والمساوي للبيهقي ص ٢١٢، طبع دار صادر وأمالي السيد المرتضى ج ١ ص ٦٨ هامش: أن لما أنشد الفرزدق أبياته المشهورة في الإمام زين العابدين، المتوفى سنة ٩٥ ه‍ قال عبد الملك بن مروان المتوفى سنة ٨٦ ه‍ للفرزدق: (أرافضي أنت يا فرزدق؟!). وعلى كل حال: فإن ذلك كله قد كان قبل قضيتي زيد والمغيرة ابن سعيد بزمان بعيد.

٢٠٥

أن يقضي على الزيدية، ويكسر شوكتهم بالبيعة للإمام الرضاعليه‌السلام بولاية العهد، ولهذا نرى أنه قد طبق اللقب، الذي طالما دعا إليه الزيدية، واعترف به العباسيون، بل ودعوا إليه في بدء دعوتهم ودولتهم، ألا وهو لقب: (الرضا من آل محمد)، طبقه على علي ابن موسىعليه‌السلام ، فسماه: (الرضا من آل محمد)(١) . فأصبحت بذلك حجته قوية على الزيدية، بل لم يعد لهم حجة أصلاً. وأصبح يستطيع أن ينام قرير العين، إذ قد أصبح (الرضا من آل محمد) موجوداً، فالدعوة إلى غيره ستكون لا معنى لها البتة. ولسوف تكون مرفوضة من الناس جملة وتفصيلا. وكان ذلك بطبيعة الحال السبب الرئيسي في إضعاف الزيدية، وكسر شوكتهم، وشل حركتهم.

والذي ساهم إلى حد كبير في إضعافهم، وشل حركتهم، هو اختياره الإمامعليه‌السلام بالذات، حيث إنه الرجل الذي لا يمكن لأحد كائناً من كان أن ينكر فضله، وعلمه، وتقواه، وسائر صفاته ومزاياه، التي لم تكن لأحد في زمانه على الإطلاق، فليس لهم بعد طريق للاعتراض عليه: بأن الذي اختاره لولاية عهده، والخلافة من بعده، ليس أهلاً لما أهله له. ولو أنهم ادعوا ذلك لما صدقهم أحد، ولكانت الدائرة حينئذ في ذلك عليهم، والخسران لهم دون غيرهم.

____________

(١) راجع: الفخري في الآداب السلطانية، ص ٢١٧، وضحى الإسلام ج ٣ ص ٢٩٤، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٤٧، والطبري، وابن الأثير، والقلقشندي وأبو الفرج. والمفيد وكل من تعرض من المؤرخين لولاية العهد. بل لقد صرح نفس المأمون بذلك في وثيقة ولاية العهد، وهذا يكفي في المقام.. ولقد قال دعبل:

أيا عجباً منهم يسمونك الرضا

ويـلقاك منهم كلحة وغضون

وهناك نصوص أخرى مفادها: أنه سمي الرضا، لرضا أعدائه، وأوليائه به، وعزى الشيبي في كتابه: الصلة بين التصوف والتشيع ص ١٣٨: عزا رضا أعدائه به إلى قوة شخصيتهعليه‌السلام .. أما نحن فنقول: إنه ليس من اليسير أبداً، أن تنال شخصية رضا كل أحد، حتى أعدائها. اللهم إلا إذا كان هناك سر إلهي، اختصت به تلك الشخصية، دون غيرها من سائر بني الإنسان..

٢٠٦

فذلكة لا بد منها:

هذا.. ولا يسعنا هنا إلا أن نشير إلى أن المأمون، لم يخترع أسلوباً جديداً للتصدي للزيدية، والحد من نفوذهم، وكسر شوكتهم، ببيعته للرضاعليه‌السلام ، إذ أنه كان قد استوحى هذه الفكرة من سلفة المهدي، الذي كان قد استوزر يعقوب بن داوود الزيدي، ليحد من نشاط الزيدية، ويكسر شوكتهم. وكان قد نجح في ذلك إلى حد ما: إذ لا يحدثنا التاريخ عن تحركات زيدية خطيرة ضد المهدي، بعد استيزاره ليعقوب، وتقريبه للزيدية، كتلك الأحداث التي حدثت ضد المنصور، وخصوصاً ثورة محمد وإبراهيم ابني عبد الله. كما يلاحظ أن تقريب العباسيين للزيدية في عصر المهدي، وتسليطهم على شؤون الدولة وإداراتها، لم يؤثر في الوضع العام أثراً يخشاه العباسيون، وذلك بلا شك مما يشجع المأمون على الإقدام على ما كان قد عقد العزم عليه، بجنان ثابت وإرادة راسخة.

يضاف إلى ذلك: أن سهولة إبعاد العباسيين لهم عن مراكز القوة، ومناصب الحكم على يد المهدي نفسه، الذي نكب يعقوب بن داوود، الوزير الزيدي، حيث لم تصاحبه ردة فعل، ولا نتج عنه أية حادثة تذكر ضد العباسيين، لا حقيرة، ولا خطيرة.. هو الذي شجع المأمون على أن يستوحي نفس الفكرة، ويلعب نفس اللعبة، ويتبع نفس طريقة المهدي. في مواجهتهم، وكسر شوكتهم، بالبيعة للرضاعليه‌السلام بولاية العهد بعده. وعلى كل حال، فإن هذا أسلوب قديم اتبعه العباسيون في دعوتهم الأولى أيضاً، حيث بايعوا للعلويين، وأظهروا أن الدعوة لهم وباسمهم..

ثم كانت النتيجة هي ما يعلمه كل أحد، حيث انقلبوا عليهم يوسعونهم قتلاً وعسفاً، وتشريداً عندما خافوهم. فلم يعودوا بحاجة إليهم.

ه‍ ـ : أضف إلى ذلك ما تقدم أن المأمون كان يعلم قبل أي شخص آخر بطبيعة العلاقات التي كانت قائمة بين الأئمةعليهم‌السلام ، وبين الزيدية، حيث إنها كانت على درجة من السوء والتدهور. وكان عدم التفاهم، والانسجام فيما بينهم واضحاً للعيان..

٢٠٧

حتى لقد شكى الأئمةعليهم‌السلام منهم، وصرحوا: بأن الناس قد نصبوا العداوة لشيعتهم، أما الزيدية فقد نصبوا العداوة لهم أنفسهم(١) ، وفي الكافي رواية مفادها: إنه عليه‌السلام قال إنهم قبل أن يصلوا إلى الحكم كانوا لا يطيعونهم فكيف تكون حالهم معهم لو أنهم وصلوا إلى الحكم وتبوءوا كرسي الرئاسة.

وقد رأينا: أن عبد الله بن الحسن، عندما جاء يعرض على الإمام الصادقعليه‌السلام كتاب أبي سلمة، الذي يدعوه فيه للقدوم إلى الكوفة، لتكون الدعوة له، وباسمه، فنهاه الإمامعليه‌السلام عن ذلك ـ رأيناه ـ ينازع الإمام الصادق الكلام، حتى قال له:

____________

(١) راجع: الوافي للفيض ج ١ ص ١٤٣، باب: الناصب ومجالسته.

هذا. ولا يمنع ذلك ما ورد عنهم عليهم‌السلام من أن خروج الزيدية وغيرهم على الحكام يدرؤا به عنهم، وعن شيعتهم: فقد جاء في السرائر قسم المستطرفات ص ٤٧٦ أنه: (ذكر بين يدي أبي عبد الله من خرج من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال عليه‌السلام : ((لا أزال أنا وشيعتي بخير ما خرج الخارجي من آل محمد ..)) إلخ وذلك لأن اصطدامهم مع الحكام كان يصرف أنظار الحكام إليهم، ويفسح المجال أمام أهل البيت وشيعتهم إلى حد ما. ولم يكن هناك مجال لاتهام الأئمة وشيعتهم بالتواطؤ معهم، مع ما كان يراه الحكام من عدم الانسجام الظاهر بين الأئمة وبين الزيدية، وغيرهم من الثائرين وسلبية كل فريق منهما تجاه الآخر..

وأخيراً.. فلا بد لنا هنا من الإشارة إلى أن ثورات العلويين، سواء على الحكم الأموي، أو الحكم العباسي، قد ساهمت في أن يبقى حق العلويين في الحكم متحفظاً بقوته وحيويته في ضمير الأمة، ووجدانها. ولم تؤثر عليه حملات القمع والتضليل، التي كان الحكم القائم آنذاك يمارسها ضدهم، وضد هذا الحق الثابت لأهل البيتعليهم‌السلام بالنص.

٢٠٨

(والله، ما يمنعك من ذلك إلا الحسد) إلخ وقد انصرف عبد الله آخر الأمر مغضباً(١) .

ورأينا أيضاً أنه في موقف آخر له مع الإمام الصادقعليه‌السلام يتهمه بنفس هذه التهمة، ويصمه بعين هذه الوصمة، وذلك عندما أرادوا البيعة لولده محمد، وأبدى الإمامعليه‌السلام رأيه في ذلك. ذلك الرأي الذي كشفت الأيام عن صحته وسداده(٢) .

بل لقد كان عيسى بن زيد يقول لمحمد بن عبد الله: (.. من خالفك من آل أبي طالب، فأمكني أضرب عنقه.)(٣) وقد تجرأ عيسى هذا أيضاً على الإمام الصادق بكلام لا نحب ذكره.

وأما موقف محمد بن عبد الله نفسه مع الإمام الصادقعليه‌السلام ، فأشهر من أن يذكر، حيث إنه سجن الإمامعليه‌السلام ، واستصفى أمواله، وأسمعه كلاماً قاسياً، لا يليق بمقام الإمام وسنه(٤) .

إلى آخر ما هنالك مما يدل على كرههم، وحقدهم على الأئمةعليهم‌السلام . أو بالأحرى حسدهم لهم..

____________

(١) راجع: مروج الذهب ج ٣ ص ٣٥٤، ٣٥٥، وغيره من المصادر.

(٢) الصواعق المحرقة ص ١٢١، وينابيع المودة للحنفي ص ٣٣٢، ٣٦١، ومقاتل الطالبيين ص ٢٥٥، ٢٥٦، ٢٧٠، وغير ذلك.. وفي هذا الأخير: أن عبد الله ابن الحسن لم يرض باستدعاء الإمام، ولا وافق عليه، عندما أرادوا البيعة لولده محمد، وبعد أن أقنعوه، وحضر الإمام، جرى بينهما ما جرى.

(٣) قاموس الرجال ج ٧ ص ٢٧٠.

(٤) قاموس الرجال ج ٧ ص ٢٧٠، و ج ٨ ص ٢٤٢، ٢٤٣ والبحار ج ٤٧ ص ٢٨٤، ٢٥٨.

٢٠٩

والمأمون.. كان يعلم بذلك كله، ويدركه كل الإدراك، ولهذا فإننا لا نستبعد أنه ـ وهو الداهية الدهياء ـ قد أراد أيضاً في جملة ما أراد: أن يوقع الفتنة بين آل علي أنفسهم. أي: بين الأئمة، والمتشيعين لهم، وبين الزيدية، ويقف هو في موقف المتفرج المتربص حتى إذا أضعف كل واحد من الفريقين الفريق الآخر، ولم يعد فيهما بقية.. انقض هو عليهما، وقضى عليهما بأهون سبيل.

بل إن بعض الباحثين يرى: أنه أراد من لعبته هذه: (.. ضرباً للثائرين العلويين من إخوة علي بن موسى بأخيهم.)(١) .

ولو أننا استبعدنا كل ذلك، فلا أقل ـ كما قلنا ـ من أن حجته أصبحت قوية على الزيدية، وعلى كل من يدعو إلى (الرضا من آل محمد)، ولم يعد يخشى أحداً منهم، بعد أن أصبح (الرضا من آل محمد) موجوداً.

الهدف التاسع:

كما أنه ببيعته للإمام الرضاعليه‌السلام بولاية العهد، وقبول الإمامعليه‌السلام بذلك.. يكون قد حصل على اعتراف من العلويين، على أعلى مستوى بشرعية الخلافة العباسية، ولقد صرح المأمون بأن ذلك، كان من جملة أهدافه، حيث قال: (.. فأردنا أن نجعله ولي عهدنا، ليكون دعاؤه لنا، وليعترف بالملك والخلافة لنا..) وسنتكلم حول تصريحات المأمون هذه بنوع من التفصيل في فصل: مع بعض خطط المأمون، وغيره إن شاء الله تعالى.

نعود إلى القول: إن تصريح المأمون هذا يعطينا: أن قبول الإمام بأن يكون ولي عهد المأمون، إنما يعني بالنسبة للمأمون: أن الإمام يكون قد أقر بأن الخلافة ليست له دون غيره، ولا في العلويين دون غيرهم، وأنه كما يمكن أن يكون هو جديراً بها، وأهلا لها، وكذلك غيره يمكن أن يكون كذلك. وليتمكن المأمون بذلك من محاربة العلويين بنفس السلاح الذي بأيديهم، وليصير ـ من ثم ـ من الصعب استجابة الناس لهم، إذا دعوا لأية ثورة ضد حكم اعترفوا هم بشرعيته، وأيدوه، وتعاونوا معه من قبل، وعلى أعلى مستوى ومن أعظم شخصية فيهم.

____________

(١) هو الدكتور كامل مصطفى الشيبي في كتابه: الصلاة بين التصوف والتشيع ص ٢١٩.

٢١٠

بل لقد كان يريد أن يحصل من العلويين على اعتراف بأن الحكم حق للعباسيين فقط. أما هم، فليس لهم فيه أدنى نصيب، وما فعله المأمون من إسناد ولاية العهد لواحد منهم، ما كان إلا تفضلاً وكرماً، ومن أجل أن يجمع شمل البيتين العلوي والعباسي، وتصفو القلوب ويمحو ما كان من أمر الرشيد وغيره من أسلافه مع العلويين.

ولقد حاول المأمون أن ينتزع من الإمام اعترافا بأن الخلافة حق للعباسيين، شفاهاً أيضاً فكانت النتيجة عكس ما أراد المأمون، وذلك عندما عرض بالمن على الإمام بأن جعله ولي عهده، فأجابه الإمامعليه‌السلام : بأن هذا الأمر لم يزده في النعمة شيئاً، وأنه وهو في المدينة كانت كتبه تنفذ في المشرق والمغرب.

كما أن المأمون قد قال لحميد بن مهران، وجمع من العباسيين: (.. وليعتقد فيه المفتونون به، بأنه ليس مما ادعى في قليل، ولا كثير، وأن هذا الأمر لنا دونه.) ولسوف يأتي الكلام عن هذه التصريحات إن شاء الله كما قلنا.

وبعد.. فإنه لا يكون من المبالغة في شيء لو قلنا: إن حصول المأمون على اعتراف من العلويين، ومن الإمام الرضاعليه‌السلام خاصة، بشرعية خلافته، وخلافة، بني أبيه أخطر على العلويين من الأسلوب الذي انتهجه أسلافه من أمويين وعباسيين ضدهم،: من قتلهم، وتشريدهم، وسلب أموالهم، إلى غير ذلك مما هو معروف ومشهور.

الهدف العاشر:

يضاف إلى ذلك، أنه يكون قد حصل على اعتراف ضمني من الإمام بشرعية تصرفاته، طيلة فترة ولاية العهد، وليعطي الناس ـ من ثم ـ الصورة التي يريدها عن الحكم والحاكم، وليؤكد للملأ أجمع: أن الحاكم هذا هو سلوكه، وهذه هي تصرفاته: من كان، ومهما كان، وإذن فليس لهم بعد حق في أن يتطلعوا إلى حكومة أحد على أن بها شيئاً جديداً، ولا أن ينظروا إلى جهة على أنها يمكن أن يكون بها المنقذ لهم، والمخرج من الظلمات إلى النور، حتى ولو كانت تلك الجهة هي آل بيت نبيهم، فإنه من الطبيعي أن يتبع السياسيون أساليب، ويتكلموا بأشياء كثيرة، ينسبونها بمجرد وصولهم إلى الحكم، وتسلمهم لازمة السلطة، فإن تلك لا تعدو كونها تكتيكات، ووعودا انتخابية، يحتاجون إليها في ظروف معينة، ثم يستغنون عنها.. كما كانت الحال في وعود المأمون، التي أشرنا إليها فيما تقدم.

٢١١

وهكذا.. فيكون سكوت الإمام في فترة ولاية العهد، عن تصرفات الهيئة الحاكمة، دالا على رضاه بها، ويعتبر إمضاء لها.. وبعد هذا.

فلا يجب أن يكون من العسير على الناس أن يتصوروا طبيعة وماهية حكم الإمام، وكل من يقدر له أن يصل الحكم والسلطان، سواء من العلويين، أو من غيرهم.

وإذا كانت الصورة واحدة، والجوهر واحد، والاختلاف إنما هو فقط في الاسم والعنوان، فليس لهم بعد حق، أو على الأقل ما الداعي لهم، لأن يطلبوا حكماً أفضل، أو حكاماً أعدل، فإنه طلب لغير موجود، وسعي وراء مفقود.

الهدف الحادي عشر:

هذا.. وبعد أن يكون المأمون قد حصل على كل ما قدمناه، وحقن دماء العباسيين، واستوثقت له الممالك، ولم يعد هناك ما يعكر صفو حياته(١) ، وقوي مركزه، وارتفع بالخلافة من الحضيض المهين، الذي أوصلها إليه أسلافه إلى أوج العظمة، والتمكن والمجد. وأعطاها من القوة والمنعة، ووهبها من الحياة في ضمير الأمة ووجدانها ما هي بأمس الحاجة إليه.. ولتتمكن من ثم من الصمود في وجه أية عاصفة، وإخماد أية ثورة، ومقاومة كل الأنواء، وذلك هو حلمه الكبير، الذي طالما جهد في تحقيقه إنه بعد أن يكون قد حصل على كل ذلك وسواه مما قدمناه:

____________

(١) لقد صرح الذهبي في الجزء الأول من كتابه (العبر) بأنه في سنة ٢٠٠ ه‍. استوثقت الممالك للمأمون. وهذه هي نفس السنة التي أتي فيها بالإمامعليه‌السلام من المدينة إلى مرو.. ولكن اليافعي في مرآة الجنان ج ٢ ص ٨: قد جعل ذلك في سنة ٢٠٣: أي في السنة التي تخلص فيها المأمون من الإمام الرضاعليه‌السلام بواسطة السم الذي دسه إليه.. وفي اليعقوبي ج ٢ ص ٤٥٢ طبع صادر: أنه في السنة التي غادر فيها المأمون خراسان: (لم تبق ناحية من نواحي خراسان يخاف خلافها).

٢١٢

يكون قد أفسح لنظام حكمه المجال ـ تلقائيا ـ لتصفية حساباته مع خصومه، أياً كانوا. وبأي وسيلة كانت، وبهدوء، وراحة فكر واطمئنان إن اقتضى الأمر ذلك.

كما أنه يكون قد مهد الطريق لتنفيذ الجزء الثاني ـ ولعله الأهم ـ من خطته الجهنمية، بعيداً عن الشبهات، ودون أن يتعرض لتهمة أحد، أو شك من أحد..

ألا وهو: القضاء على العلويين بالقضاء على أعظم شخصية فيهم. وليكون بذلك قد قضى نهائياً، وإلى الأبد، على أكبر مصدر للخطر، يمكن أن يتهدده، ويتهدد خلافته ومركزه.

إنه يريد زعزعة ثقة الناس بهم، واستئصال تعاطفهم معهم، وليحوله ـ إن استطاع ـ إلى كره ومقت، بالطرق التي لا تمس العواطف والمشاعر، ولا تثير الكثير من الشكوك والشبهات.

يظهر ذلك في محاولاته إسقاط الإمام إجتماعياً، والوضع منه قليلاً قليلاً، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر، وليدبر فيه في نهاية الأمر بما يحسم عنه مواد بلائه.. كما صرح لحميد بن مهران، وجمع من العباسيين، وسنتكلم بنوع من التفصيل عن محاولات المأمون هذه، التي باءت كلها بالفشل الذريع، وعادت عليه بالخسران، لأن الإمامعليه‌السلام كان قد أحبطها عليه، بل لقد كان لها من النتائج العكسية بالنسبة إليه ما جعله يتعجل بتصفية الإمام جسديا، بعد أن أشرف هو منهعليه‌السلام على الهلاك.. بالطريقة التي حسب أنها سوف لا تثير الكثير من الشكوك والشبهات.

ملاحظة لا بد منها:

ومن الأمور الجديرة بالملاحظة هنا: أن المأمون كان يقدر أن مجرد جعل ولاية العهد للإمام، سوف يكون كافيا لتحطيمه إجتماعياً، وإسقاطه نهائياً من أعين الناس، حيث يظهر لهم بالعمل ـ لا بالقول: أن الإمام رجل دنيا فقط، وأن تظاهره بالزهد والتقوى ما هو إلا طلاء زائف، لا واقع له، ولا حقيقة وراءه. ولسوف تكون النتيجة هي تشويه سمعة الإمامعليه‌السلام ، وزعزعة ثقة الناس به، وذلك بسبب الفارق الكبير بالسن، بين الخليفة الفعلي، وبين ولي عهده، إذ إن ولي العهد لا يكبر الخليفة الفعلي بسنتين، أو ثلاثة، أو خمسة، لا.. بل أكثر من ذلك بكثير، إنه يكبره بـ‍(٢٢) سنة،

٢١٣

وإنه لمن الأمور غير الطبيعية أبداً: أن يقبل ولاية العهد، وهو يكبر الخليفة الفعلي بهذا المقدار الكبير من السنين، ولسوف يكون قبوله لها ـ مع هذا الفارق بينهما ـ موجبا لجعله عرضة لشكوك الناس، وظنونهم، ولسوف يتسبب بوضع علامات استفهام كبيرة حوله.. كما كان الحال، بالنسبة لسؤال محمد بن عرفة، وكلام الريان المتقدم.. ولسوف يفسر(١) ذلك من أولئك الذين لا يدركون حقيقة ما يجري، وما يحدث، ـ وما أكثرهم ـ بتفسيرات تنسجم مع رغائب المأمون، وأهدافه. لأنهم سوف يرون أن زهدهعليه‌السلام بالدنيا، ليس إلا ستاراً تختفي وراءه مطامعه فيها، وحبه المستميت لها، حتى إنه ليطمع أن يعيش إلى ما بعد الخليفة الفعلي، الذي هو أصغر من ولده، ويصل إلى الحكم.. وباختصار نقول:

إنه يريد أن: (.. يعتقد فيه المفتونون به بأنه: ليس ما ادعى في قليل ولا كثير.) حسبما صرح به هو نفسه.. وعلى حد قول الإمام نفسه، الذي كان يدرك خطة المأمون هذه: (.. أن يقول الناس: إن علي بن موسى، لم يزهد في الدنيا، بل زهدت الدنيا فيه، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعا بالخلافة؟!.). كما سيأتي.

____________

(١) ولكنا، مع ذلك نجد: أن قسما من أصحاب الرضاعليه‌السلام ، ممن كانوا يراقبون الأحداث بوعي ودراية، كانوا يدركون نوايا المأمون وأهدافه هذه ففي البحار ج ٤٩ ص ٢٩٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٩: أنه قد سئل أبو الصلت: (كيف طابت نفس المأمون بقتل الرضا مع إكرامه ومحبته له، وما جعل له من ولاية العهد بعده؟! فقال: إن المأمون كان يكرمه ويحبه لمعرفته بفضله، وجعل له ولاية العهد من بعده، ليري الناس أنه راغب في الدنيا، فلما لم يظهر منه إلا ما ازداد به فضلاً عندهم، ومحلاً في نفوسهم، جلب عليه إلخ.).

٢١٤

وعن الريان قال: دخلت على الرضا، فقلت: يا ابن رسول الله، إن الناس يقولون: إنك قبلت ولاية العهد، مع إظهارك الزهد في الدنيا؟!، فقالعليه‌السلام :((قد علم الله كراهتي..)) (١) وقد أشرنا إلى سؤال محمد بن عرفة، وكلام الريان فيما تقدم.

وعلى أي شيء يبكي المأمون، ومن أجل أي شيء يشقى ويتعب، ويسهر الليالي، ويتحمل المشاق.. إلا على هذا.. إن هذا هو أجل أمنياته وأغلاها.

سؤال وجوابه:

قد يدور بخلد القارئ أن ما ذكرناه هنا: فيما يتعلق بالفارق الكبير بالسن، ينافي ما تقدم من أن المأمون كان يريد الحصول على قاعدة شعبية، والارتفاع بالخلافة من الحضيض الخ.

ولكن الحقيقة هي:

أنه لا منافاة هناك.. ويمكن للمأمون أن يقصد كل ذلك من البيعة، لأن مقدار التفاوت بالسن بين الإمامعليه‌السلام والمأمون، لم يكن مما يعرفه الكثيرون، ولا مما يلتفت إليه عوام الناس في بادئ الأمر، لأنهم يأخذون الأمور على ظواهرها، ولا يتنبهون إلى مثل ذلك، إلا بعد تنبيه وتذكير، فللوهلة الأولى تجوز عليهم الخدعة، ويقدرون خطوة المأمون هذه، وتنتعش الآمال في نفوسهم بالحياة الهنيئة السعيدة، تحت ظلم حكم بدا أنه يتخذ العدل ديدنا، والإنصاف طريقة..

____________

(١) علل الشرايع ص ٢٣٨، والبحار ج ٤٩ ص ١٣٠، وأمالي الصدوق ص ٤٤، ٤٥.

٢١٥

ثم.. وبعد أن يجند المأمون أجهزة إعلامه، من أجل تسميم الأفكار، يجد أن نفوس الناس مهيأة ومستعدة لتقبل ما يلقى إليها. ويكون لديه ـ باعتقاده ـ من الحجج ما يكفي لإسقاط الإمام، وزعزعة ثقة الناس به. ولا يؤثر ذلك بعد ذلك على الحكم، فإن الحكم يكون قد استنفذ أغراضه من البيعة. وحصل على ما يريد الحصول عليه منها.. هذا ولا بد لنا هنا من ملاحظة أن المأمون وأجهزة إعلامه كانوا في مقابل وصم الإمام بالرغبة بالدنيا والتفاني في سبيلها.. يشيعون بين الناس عن المأمون عكس ذلك تمام، فيطلب المأمون من وزيره أن يشيع عنه الزهد، والورع والتقوى(١) .. وأنه لا يريد مما أقدم عليه الأخير الأمة ومصلحتها، حيث قد اختار لولاية عهده أفضل رجل قدر عليه، رغم أن ذلك الرجل هو من ذلك البيت الذي لا يجهل أحد موقفه من حكم العباسيين، وموقف العباسيين منه كما يتضح ذلك من وثيقة ولاية العهد، وغيرها.

رأي الناس فيمن يتصدى للحكم:

لعل من الواضح أن كثيراً من الناس كانوا يرون ـ في تلك الفترة من الزمن ـ لقصر نظرهم، وقلة معرفتهم: أن هناك منافاة بين الزهد والورع، والتقوى، وبين المنصب، وأنهما لا يتفقان، ولا يجتمعان.

____________

(١) تاريخ التمدن الإسلامي ج ٤ ص ٢٦١.

٢١٦

وقد رأينا الكثيرين يمتنعون على تولي المناصب للحكام، لما يرونه من المنافاة المشار إليها.

ولعل سر فهمهم هذا: هو أنهم كانوا قد اعتادوا من الحكام التجاوز على الحقوق، والدماء، والأموال، وعلى أحكام الدين، والنواميس الإنسانية، بشكل عام. والزهد والورع لا يتلائم مع ذلك كله، ولا ينسجم معه.

ولكن الحقيقة هي: أن لا منافاة بينهما أبداً، فإن الحكم إذا كان وسيلة لإيصال الخير إلى الآخرين، ورفع الظلم عنهم، وإشاعة العدل، إقامة شريعة الله تعالى، فيجب السعي إليه، والعمل من أجله، وفي سبيله.. بل إذا لزم من ترك السعي إليه، تضييع الحقوق، وانهيار صرح العدل، والخروج على أحكام الدين، فإن ترك السعي هذا، يكون هو المنافي للزهد والورع والتقوى..

ولقد قاد النبيعليه‌السلام الأمة، وقبله قادها سليمان بن داوود، وغيره، وبعده الإمام علي بن أبي طالب، وولده الحسن، ثم الحسين، وهكذا..

وحال هؤلاء في الزهد والورع، لا يحتاج إلى مزيد بيان، وإقامة برهان، بل لم يكن على ظهرها أزهد، ولا أتقى، ولا أفضل، ولا أورع منهم، عدوهم يعرف منهم ذلك تماماً كما يعرفه منهم صديقهم. فعدا عن الأنبياء الذين كانوا القمة في الورع والزهد والتقوى، نرى الإمام عليعليه‌السلام قمة في ذلك أيضاً، وقد رقع مدرعته حتى استحيا من راقعها، وكان راقعها هو ولده (الإمام الحسنعليه‌السلام )(١) . وكان يصلي في بيت المال ركعتين شكراً لله، بعد فراغ المال منه. وكان يقول:((إليك عني يا دنيا غري غيري، أبي تعرضت؟!..)) الخ وهو الذي قال فيه عدوه معاوية: (لو كان له بيتان: بيت من تبر، وآخر من تبن، لأنفق تبره قبل تبنه.). إلى غير ذلك مما لا مجال لنا لتتبعه واستقصائه..

____________

(١) راجع: الدرة النجفية ص ٣٠٣، طبعة حجرية.

٢١٧

العلويون يدركون نوايا المأمون:

إن نوايا المأمون تجاه العلويين، ومحاولاته لإسقاطهم إجتماعياً، وابتزازهم سياسياً.. حتى إذا أخفق في ذلك راح يختلهم واحداً فواحداً، كلما واتاه الظرف، وسنحت له الفرصة.. لم يكن العلويون يجهلونها، بل كانوا يدركونها كل الإدراك، ولم تكن تخدعهم تلك الشعارات والأساليب المبهرجة. وحسبنا هنا أن نذكر في مقام التدليل على هذا: أن المأمون كتب لعبد الله بن موسى، بعد وفاة الرضا، يعده بأنه يجعله ولي عهده، ويقول له: (ما ظننت أن أحداً من آل أبي طالب يخافني بعد ما عملته بالرضا).

فأجابه عبد الله يقول: (وصل إلي كتابك، وفهمته، تختلني فيه عن نفسي مثل القانص، وتحتال علي حيلة المغتال، القاصد لسفك دمي. وعجبت من بذلك العهد، ولايته لي بعدك، كأنك تظن: أنه لم يبلغني ما فعلته بالرضا؟! ففي أي شيء ظننت أني أرغب من ذلك؟ أفي الملك الذي غرتك حلاوته؟!.

إلى أن يقول: أم في العنب المسموم الذي قتلت به الرضا؟!).

ويقول له أيضاً ـ والظاهر أنه نص آخر للرسالة ـ: (هبني لا ثأر لي عندك، وعند آبائك المستحلين لدمائنا الآخذين حقنا، الذين جاهروا في أمرنا، فحذرناهم. وكنت ألطف حيلة منهم، بما استعملته من الرضا بنا، والتستر لمحننا، تختل واحداً،

____________

(١) ترجمة الإمام عليعليه‌السلام من تاريخ ابن عساكر بتحقيق المحمودي ج ٣ ص ٥٨ ـ ٦٠.

٢١٨

فواحداً منا الخ..)(١) .

ولا بد من ملاحظة: منافاة وعده هذا لعبد الله بن موسى بأن يجعل له ولاية العهد.. للرسالة التي أرسلها إلى العباسيين في بغداد، فور وفاة الرضاعليه‌السلام ، ويعدهم فيها بأن يجعل ولاية العهد فيهم، وسنشير إلى رسالته لهم في فصل: مع بعض خطط المأمون إن شاء الله وعلى كل حال.. فإننا نستطيع أن نفهم من هذه الرسالة التي لعبد الله بن موسى أموراً، نشير إلى بعضها:

أولاً: إن المأمون كان قد جعل ولاية العهد وسيلة لختل الشخصيات التي كان يخشاها، والغدر بها، إذ إن من المقبول والطبيعي ـ كما يرى البعض ـ أن يكون ولي العهد هو الذي يتآمر، ويدبر للتخلص من الخليفة الفعلي، ليختصر المسافة، ويصل إلى الحكم، الذي ينتظر الوصول إليه، والحصول عليه بفارغ الصبر. وليس من الطبيعي، ولا من المقبول أن يتآمر الخليفة على ولي عهده، إلا إذا كان يريد أن يجعل الخلافة لمن هو أعز عليه منه، وهذا ما نفاه المأمون عن نفسه في أكثر من مناسبة.

وهكذا.. فإن النتيجة تكون: أن الخليفة الفعلي يكون آخر من يتهم في ولي العهد، إذا ما راح ضحية التآمر والاغتيال، وعرف الناس ذلك. وهذا بلا شك من جملة ما كان يريده المأمون، ويسعى إليه.

ثانياً: إن المأمون رغم الصعوبات التي واجهها في فترة تولية الرضاعليه‌السلام العهد.. يبدو أنه كان يعتبر نفسه منتصراً وناجحاً في لعبته تلك، ولذلك نرى أنه قد حاول تكرار نفس اللعبة مع عبد الله بن موسى. ولكن يقظة هذا الأخير، الذي كانت ظروفه تختلف عن ظروف الإمامعليه‌السلام قد فوتت عليه الفرصة، وأعادته. بخفي حنين.

____________

(١) مقاتل الطالبيين للأصفهاني ص ٦٢٨، إلى ص ٦٣١، وسنورد الرسالة في أواخر هذا الكتاب إن شاء الله.

٢١٩

كما أننا لا نستبعد أن المأمون قد أراد بالإضافة إلى ذلك التستر على غدره بالرضاعليه‌السلام ، بعد أن كان قد افتضح واشتهر، رغم محاولاته الجادة للتستر والكتمان.

ثالثاً: ما تقدمت الإشارة إليه من أن إكرامه للعلويين، والرضا بهم، والتستر لمحنهم، ما كان منه إلا ضمن خطة مرسومة، وإلا سياسة منه ودهاء، من أجل أن يأمن العلويون جانبه، ويطمئنوا إليه، كما يدل عليه قوله لعبد الله بن موسى: (ما ظننت أحداً من آل أبي طالب يخافني بعد ما عملته بالرضا) وقد قدمنا أنه أشار إلى ذلك أيضاً في كتابه للعباسيين، فلا نعيد..

رابعاً: أنه لم يستطع أن يخفي عن العلويين ـ كما لم يستطع أن يخفي عن غيرهم ـ غدره بالإمام الرضاعليه‌السلام ، وسمه له بالعنب، وكذلك غدره بغيره من العلويين. وسر ذلك واضح، فإن جميع الدلائل والشواهد كانت متوفرة على ذلك، كما سيأتي بيان جانب من ذلك في فصول هذا الكتاب بنوع من التفصيل.

موقف الإمام في مواجهة مؤامرات المأمون:

لقد رأينا كيف أن المأمون أراد من لعبته تلك، التغلب على المشاكل التي كان يواجهها، والاستفادة في تقوية دعائم خلافته، وخلافة العباسيين بشكل عام.. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما هو موقف الإمامعليه‌السلام نفسه من لعبة المأمون تلك، وخططه، وأهدافه؟، وهل أفسح المجال للمأمون ليحقق كل ما يريد تحقيقه، ويصل إلى ما

كان يريد الوصول إليه؟.. وهل كانت لديه خطط من نوع معين، وأهداف معينة كان يسعى من أجل الوصول إليها، والحصول عليها؟!.

الحقيقة هي: أن الإمامعليه‌السلام قد استطاع، بما اتبعه من خطة حكيمة، وسلوك مثالي: أن يضيع على المأمون كافة الفرص، ويجعله يبوء بالخيبة والخسران، ويمنى بالفشل الذريع، حتى لقد أشرف المأمون منه على الهلاك، وبدا الارتباك واضحاً في كل تصرفاته، وأقواله، وأفعاله..

وسيأتي في الفصول الآتية في القسمين: الثالث، والرابع بيان بعض ما يتعلق بذلك إن شاء الله.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

اقتضاء حالتهم هم ولكنّ اللهَ يفعل ما يشاء حسب حِكمته وإرادته، وليس شيء حتماً عليه ما دامت الحِكمة هي الحاكمة على فِعالِه تعالى وتقدّس، وإرادته تعالى هي الساطية على تدبير عالم الوجود دنياً وآخرةً، لا رادّ لقضائه.

وبذلك أشار في قوله تعالى: ( قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاّ مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ) (١) ، فأَوعدهم بالخلود، لكنّ الوعيدَ ليس لِزاماً عليه مادام الله يفعل ما يشاء وِفق حِكمته وعِلمه القديم.

لكنّه تعالى أكّد وعده بشأن السُعداء أنْ سيدوم لهم النعيم ولو تغيّرت المشيئة بالبقاء في الجنّة فرضاً؛ ليطمئنّوا على ثقةٍ من دوام عنايته تعالى بهم أبداً.

فهؤلاء وأولئك خالدونَ حيث هم، مادامت السماوات والأرض - وهو تعبير يُلقي في الذهن صفةَ الدوام والاستمرار حسب الاستعمال الدارج - (٢) وقد علّق السياق هذا الاستمرار بمشيئة الله في كلتا الحالتَين، وكلّ قرارٍ وكلّ سُنّةٍ معلّقة بمشيئة الله في النهاية، فمشيئة الله هي التي اقتضت السُنّة وليست مقيّدةً بها ولا محصورةً فيها، إنّما هي طليقة تُبدّل هذه السنّة حين يشاء الله: ( إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ) .

وزاد السياق في حالة الذين سُعدوا ما يُطمئنّهم إلى أنّ مشيئة الله اقتضت أن يكون عطاؤه لهم غير مقطوع، حتّى على فرض تبديل إقامتهم في الجنّة، وهو مطلقُ فرضٍ يُذكر لتقرير حرّيّة المشيئة بعد ما يوهم التقييد (٣) .

* * *

وقوله تعالى: ( لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاّ الْمَوْتَةَ الأُولَى ) (٤) (إلاّ) هو بمعنى (سوى) مثلها في قوله: ( وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاّ مَا قَدْ سَلَفَ ) (٥) ، يريد سِوى ما سلف في الجاهليّة قبل النهي، فالمعنى في الآية الأُولى: أنّهم لا يذوقون الموت بعد موتهم

____________________

(١) الأنعام ٦: ١٢٨.

(٢) وللتعبيرات ظِلال، وظِلّ هذا التعبير هنا هو المقصود.

(٣) راجع: في ظِلال القرآن، المجلّد ٤، ص ٦٢٧، ج ١٢، ص ١٤١.

(٤) الدخان ٤٤: ٥٦.

(٥) النساء ٤: ٢٢.

٣٠١

الأَوّل (١) .

وقوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً ) (٢) ، قالوا: ليس الودّ ممّا يُجعل، وإنّما هو شيءٌ يحصل في القلب، فلا يُقال: يَجعل لك حبّاً، بل يُقال: يُحبّك.

والجواب: أنّ المراد جعل الودّ أي خَلقه في قلوب المؤمنين. قال ابن قتيبة: فإنّه ليس على تأوّلهم، وإنّما أراد أنّه يَجعل لهم في قلوب العباد محبّةً، فأنت ترى المـُخلص المجتهد مُحبَّبا إلى البرّ والفاجر، مَهيباً مذكوراً بالجميل، ونحوه قوله تعالى في قصّة موسى (عليه السلام): ( وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي ) (٣) ، لم يُرِد في هذا الموضع أنّي أحببتك وإن كان يُحبّه، وإنّما أراد أنّه حبّبه إلى القلوب وقرّبه من النفوس، فكان ذلك سبباً لنجاته من فرعون، حتّى استحياه في الوقت الذي كان يقتل فيه وِلدَان بني إسرائيل (٤) .

* * *

وقالوا: في قوله تعالى: ( وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً ) (٥) ، السُبات هو النوم، فكيف يُجعل نومنا نوماً؟

لكن السُبات هاهنا ليس بمعنى النوم، بل هو بمعنى الراحة، أي جعلنا النوم راحةً لأبدانكم، ومنه قيل: يوم السبت؛ لأنّ الخلقَ اجتمع في يوم الجمعة، وكان الفراغ منه يوم السبت، فقيل لبني إسرائيل: استريحوا في هذا اليوم ولا تعملوا شيئاً، فسُمّي يوم السبت أي يوم الراحة.

وأصل السبت التمدّد، ومَن تمدّد فقد استراح، ومنه قيل: رجل مسبوت، ويقال: سَبَتَت المرأة شعرها: إذا نقضته من العَقصِ وأرسلته، قال أبو وَجْزة السعدي:

وإِنْ سَبَّتَتهُ مالَ جَثلاً كأنّه

سَدى واِثلاتٍ مِن نَواسِجِ خَثعَما (٦)

____________________

(١) تأويل مشكل القرآن، ص ٧٨.

(٢) مريم ١٩: ٩٦.

(٣) طه ٢٠: ٣٩.

(٤) تأويل مشكل القرآن، ص ٧٩.

(٥) النبأ ٧٨: ٩.

(٦) الجَثل هنا بمعنى: المنثور المتفتّت، من جثلته الريح: إذا استخفته فنثرته، والسَدى: خيوط تنسجها النساء بالمغزل. والواثلات: الناسجات، تأويل مشكل القرآن، ص ٨٠.

٣٠٢

مطاعن ردّ عليها قطب الدِّين الراوندي (١)

عقد في كتابه القيّم (الخرائج والجرائح) باباً ردّ فيه على مطاعن المخالفينَ في القرآن (٢) ، وهو بحثٌ موجزٌ لطيفٌ وتحقيقٌ وافٍ دقيقٌ ذو فوائد جمّة نُورده هنا بالمناسبة:

قالوا: إنّ في القرآن تفاوتاً، كقوله: ( لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ ) (٣) ، في هذا تكرير بغير فائدة فيه؛ لأنّ قوله (قوم من قوم) يُغني عن قوله: (نساءٌ من نساء)، فالنساء يَدخُلنَ في قوم، يُقال: هؤلاء قوم فلان، للرجال والنساء من عشيرته!

الجواب: إنّ (قوم) لا يقع في حقيقة اللغة إلاّ على الرجال، ولا يُقال للنساء التي ليس فيهنّ رجل: هؤلاء قوم فلان، وإنّما سُمّي الرجال قوماً؛ لأنّهم القائمون بالأمور عند الشدائد، ويدلّ عليه قول زهير:

وما أَدري وَسَوف إِخالُ أدري

أَقَومٌ آلُ حِصنٍ أم نساءُ

وقالوا: في قوله تعالى: ( الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي ) (٤) تفاوت (أي تهافت) كيف تكون العيون في غطاءٍ عن الذِكر؟ وإنّما المناسب أن تكون الأسماع في غطاءٍ عن الذِكر!

الجواب: إنّ الله أراد بذلك عُميان القلوب، وعَمى القلب كناية عن عدم وعي الذِكر، يقال: عَمى قلبُ فلان، وفلان أعمى القلب، إذا لم يفهم ولم يعِ ما يُلقى إليه من الذِكر الحكيم؛ ومِن ثَمّ جاء تعقيب الآية بقوله: ( وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً ) .

قال تعالى: ( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا

____________________

(١) هو أبو الحسن سعيد بن هبة الله المشتهر بالقطب الراوندي، نِسبَةً إلى راوند من قُرى كاشان قائمة إلى اليوم، عالِم مبتحّر ومحدّث فقيه من أعاظم علماء الإماميّة في القرن السادس (توفي سنة ٥٧٣)، هو من مشايخ ابن شهر آشوب وغيره، من أكابر أعيان العلماء في وقته له مصنّفات جليلة، منها: الخرائج والجرائح، وقصص الأنبياء، ولبّ اللباب، وشرح نهج البلاغة، وبحقٍّ أَسماه (منهاج البراعة).

(٢) أورده بكامله المجلسي في البحار، ج ٨٩، ص ١٤١ - ١٤٦.

(٣) الحجرات ٤٩: ١١.

(٤) الكهف ١٨: ١٠١.

٣٠٣

فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) (١) .

فأعيُن القلب إذا كانت في غطاء فإنّ الآذان حينذاك لا تسمع والأبصار لا تُبصر؛ لأنّ القلب لا يعي.

وبَصَرُ القلوب وعَماها هو المؤثّر في باب الدِّين، إمّا وعياً أو غلقاً، قال تعالى: ( وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا ) (٢) ، والأكنّة: الأغطية.

فكان غِطاء التَعامي في القلوب هو العامل المؤثّر في عدم سماع الآذان وعدم إبصار العيون.

وقالوا: في قوله تعالى: ( أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ) : (٣) ما نسبة الكتاب من عِلم الغيب؟ ثُمّ إنّ قريش كانوا أُمّيّين فكيف فَرَضَهم يكتبون؟

الجواب: إنّ معنى الكتابة هنا الحُكم، يُريد: أَعندهم عِلم الغيب فهم يَحكمون، ومِثله قول الجعدي:

ومالَ الولاءُ بِالبَلاء فمِلتُم

وما ذاك حكمُ اللّه إذ هو يكتب

(أي يحكم)، ومِثله قوله الآخرعلى ما استشهد به الجوهري في الصحاح:

يا ابنةَ عمّي كتابُ الله أَخرجني

عنكم وهلْ أَمنَعَنَّ الله ما فَعَلا

وقال ابن الأعرابي: الكاتب عندهم، العالم، قال تعالى: ( أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ) أي يعلمون (٤) .

وقالوا: في قوله تعالى: ( وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ * كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ * الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) (٥) كيف هذا التنظير ولا تناسب بين الكلامَينِ، ولا وجه وشبه لهذا التشبيه؟!

وهكذا في قوله تعالى: ( لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ ) (٦) ، ما وجه هذا التشبيه؟

____________________

(١) الحجّ ٢٢: ٤٦.

(٢) الأنعام ٦: ٢٥.

(٣) الطور ٥٢: ٤١، القلم ٦٨: ٤٧.

(٤) راجع: الصحاح للجوهري، مادّة (كَتَب)، ج١، ص٢٠٨.

(٥) الحجر ١٥: ٨٩ - ٩١.

(٦) الأنفال ٨: ٤ - ٥.

٣٠٤

وكذا قالوا: في قوله تعالى: ( وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ ) (١) .

الجواب: إنّ القرآن نزل على لسان العرب، وفيه حذف وإيماء، ووحي وإشارة، فقوله: ( أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ ) فيه حَذفٌ، كأنّه قال: أنا النذير المبين عذاباً، مِثل ما أنزل على المـُقتسمين، فحُذف العذاب؛ إذ كان الإنذار يدلّ عليه، كقوله في موضعٍ: ( أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ) (٢) .

وأمّا قوله: فإنّ المسلمين يوم بدر اختلفوا في الأنفال، وجادل كثيرٌ منهم رسولَ اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) فيما فعله في الأنفال، فأنزل اللّه سبحانه: ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ (يجعلها لمن يشاء) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ (أي فرّقوها بينكم على السواء) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ (فيما بعدُ) إ ِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) (٣) .

ثُمّ يَصِف المؤمنين، وبعده يقول: ( كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ ) ، يعني: إنّ كراهتهم الآن في الغنائم ككراهتهم يومذاك في الخروج معك.

وأمّا قوله: ( وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * كَمَا أَرْسَلْنَا... ) ، فإنّه أراد: ولأُتّم نعمتي عليكم كإرسالي فيكم رسولاً أنعمتُ به عليكُم يُبيّنُ لكم... (٤) .

* * *

سألوا: عن قوله تعالى: ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ) (٥) ، وهم لمْ يقولوا بذلك؟!

الجواب: إنّها نسبة تشريفيّة تفخيماً لمقامهما وتعظيماً لشأنهما لديه تعالى: فإذ كان العبد مُنعّماً بتربيةٍ صالحة ومورد عنايةٍ بالغةٍ منه تعالى شاع في الأوائل نسبةُ بنوّته له سبحانه، كما هي العادة عند العرب في المتربّي تربيةً صالحةً نسبته إلى المربّي نسبة الوَلَد إلى والده الكريم.

____________________

(١) البقرة ٢ ١٥٠ و١٥١.

(٢) فصّلت ٤١: ١٣.

(٣) الأنفال ٨: ١.

(٤) الخرائج والجرائح، ج٣، ص١٠١٠ - ١٠١٣ بتصرّف وتوضيح.

(٥) التوبة ٩: ٣٠.

٣٠٥

قالوا: الآباء ثلاثة: أبٌ ولَّدك (١) ، وأبٌ زوَّجك، وأبٌ علَّمك.

وعن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بشأن مُحمّد بن أبي بكر: (مُحمّدٌ ابني من صُلب أبي بكر)، أي تربيتي وخاصّتي.

ويقال: لكلّ منتسب إلى شيء: ابنه، كما في أبناء الدنيا، وأبناء بلد كذا، وهكذا أبناء الإسلام وأبناء الحمية ونحو ذلك ممّا هو متعارف.

وقال سُحَيم بن وثيل الرياحي:

أَنا ابنُ جَلا وَطَلاّعِ الثنايا

مَتى أَضعِ العِمامَةَ تَعرِفوني

ينتسب إلى جَلاء الأُمور والكشف عن خباياها، والتطلّع على الجبال والتلال..

وفي خطبة الإمام السجّاد (عليه السلام) بجامع دمشق: (أيها النّاس، أنا ابنُ مكّة ومِنى، أنا ابنُ زمزم والصَّفا...) (٢) .

وكذا فيما حكاه اللّه تعالى عن اليهود والنصارى في قولهم: ( نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ) (٣) ، أي أخصّاؤه والمتقرّبون لديه.

قال الراوندي: وإنّما خصُّوا عُزَيراً بكونه ابن اللّه؛ لأنّه هو الذي أعاد عليهم الحياة الدينيّة بعد خلاصهم من أَسر بابل، وكَتَب لهم التوراة بعد ضياعِها في كارثة بخت نصّر، فكان موضعه لدى اليهود موضع نبيّ الله موسى (عليه السلام)، ولولاه لضاعت شريعة اليهود وذهبت معالم إسرائيل أَدراج الرياح.

وعُزَير هذا هو: عَزْرا بن سِرايا بن عَزَرْيا بن حِلْقِيّا (٤) ، وقد صغّرته العرب وعرّبته على عادتهم في تعريب الأسماء وتغييرها، كما غيّروا (يسوع) بعيسى.

كان (عَزرا) معاصراً للمـَلِك الهخامنشي (أرْتَ خَشْتَر = اردشير أَوّل) المـُلقّب بـ (دراز دست) والذي تَزعّم المـُلك بعد أبيه (خشيارشا) سنة ٤٦٥ ق. م (٥) ، وفي السنة السابعة لمـُلكه (٤٥٨ ق. م) بعث الكاتب المضطلع (عَزرا) مع جماعة من اليهود، الذي أُطلقوا من ذي قبلُ مِن أسر بابل، إلى (أورشليم) وجهّزهم بالمال والعتاد، وأَمَره أنْ يَعمر

____________________

(١) وَلَّدَه - بتشديد اللام - وبالتخفيف: كان سبب ولادته.

(٢) بحار الأنوار، ج٤٥، ص١٣٨.

(٣) المائدة ٥: ١٨.

(٤) راجع: سِفر عَزرا، إصحاح ٧.

(٥) تأريخ إيران لحسن بيرنيا، ص٩٩.

٣٠٦

البيت ويُحيي شريعة اللّه من جديد، وأرسل معه كتاباً فيه الدُستور الكامل لإعادة شريعة بني إسرائيل وإحياء مراسيم شعائرهم، وأنْ يُعيّن حُكّاماً وقُضاةً، ويَعمر البلاد حسب شريعة السماء (١) .

جاء في دائرة المعارف اليهوديّة الإنجليزيّة (طبعة ١٩٠٣ م) أنّ عصر عَزرا هو ربيع التأريخ للأُمّة اليهوديّة الذي تفتّحت فيه أزهاره وعَبِق شذا أوراده، وأنّه جديرٌ بأن يكون هو ناشر الشريعة لو لم يكن جاء بها موسى، فقد كانت نُسيت ولكن عَزرا أعادها وأحياها (٢) .

ولذلك يقول (عَزرا) شاكراً للّه تعالى: (مُبارك الربّ إله آبائنا الذي جَعل مِثل هذا في قلب المـَلِك؛ لأجل تزيين بيت الربّ الذي في اُورشليم، وقد بَسط عليَّ رحمةً أمام المـَلِك ومُشيريه وأمام جميع رؤساء المـَلِك المـُقتدرين...) (٣) ، الأمر الذي جَعَل من (عَزرا) مكانته الشامخة في بني إسرائيل، ولقّبوه بابن اللّه، تكريماً لمقامه الرفيع.

وجُملةُ القول: أنّ اليهود وما زالوا يُقدّسون (عُزَيراً) هذا، وأدّى هذا التقديس إلى أنْ يُطلقوا عليه لقب (ابن اللّه) تكريماً، ولعلّه وفي الأدوار اللاحقة زَعَم بعضهم أنّه لقبٌ حقيقي، كما نُقل عن فيلسوفهم (فيلو) - وهو قريب من فلسفة وَثَنِيي الهند التي هي أصل عقيدة النصارى - كان يهوديّاً من الإسكندريّة ومعاصراً للمسيح (عليه السلام)، كان يقول: إنّ لله ابناً هو كلمتُه التي خَلَق منها الأشياء، ومنه اتّخذ النصارى هذا اللقب للمسيح (عليه السلام).

قال الشيخ مُحمّد عَبده: فعلى هذا لا يُبعد أن يكون بعض المتقدّمين على عصر البعثة المـُحمّديّة قد قالوا: إنّ عُزيراً ابن اللّه بهذا المعنى (٤) .

قال الطبرسي: قيل: وإنّما قال ذلك جماعة من قَبلُ وقد انقرضوا (٥) ، وهكذا قال الراوندي: قالت طائفة من اليهود: عُزير ابن اللّه، ولم يَقل ذلك كلّ اليهود، وهذا خُصوصٌ خَرج مَخرج العُموم (٦) .

____________________

(١) راجع: سِفر عَزرا، إصحاح ٧/٨ - ٢٦.

(٢) تفسير المنار، ج١٠، ص٣٢٢.

(٣) سِفر عزرا، إصحاح ٧/٧ - ٨.

(٤) تفسير المنار، ج١٠، ص٣٢٦ و٣٢٨.

(٥) مجمع البيان، ج٥، ص٢٣.

(٦) الخرائج والجرائح، ج٣، ص١٠١٤.

٣٠٧

وقد رُوي عن ابن عبّاس قال: أتى رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) سلام بن مشكم ونعمان بن أوفى وأبو أنس وشاس بن قيس ومالك بن الصيف - من وجوه يهود المدينة - فقالوا: كيف نَتّبِعُك وقد تركتَ قبلتنا ولا ترى عُزيراً ابناً للّه وقد أعاد علينا التوراة بعد الاندراس وأحيى شريعتنا بعد الانطماس؟! (١) .

ومع ذلك: فإنّ القرآن ينسب إليهم هذا القول تعنّتاً وجدلاً منهم، وليس على حقيقته: ( ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ ) (٢) ؛ حيث نَسبوا إلى اللّه البنات وزعموا أنّ الملائكة إناثاً، قولاً بلا هَوادَة، وعقيدةً من غير مستند.

قال مُحمّد عَبده: وقد جرى أُسلوب القرآن على أنْ ينسب إلى أُمّةٍ أو جماعةٍ أقوالاً وأفعالاً مُستندة إليهم في جملتهم، وهي ممّا صدر عن بعضهم، والمراد من هذا الأسلوب تقرير أنّ الأُمّة تُعدّ متكافلة في شؤونها العامّة، وأنّ ما يفعله بعض الفِرَق أو الجماعات أو الزعماء يكون له تأثير في جملتها، وأنّ المـُنكَر الذي يَفعله بعضهم إذا لم يَنكر عليه جمهورُهم ويزيلوه يُؤاخذون به كلّهم، قال تعالى: ( وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ) (٣) ، وهذا مِن سُنَن الاجتماع البشري أنّ المصائب والرزايا التي تحلّ بالأُمَم بفشوّ المفاسد والرذائل فيها لا تختصّ باللذين تلبّسوا بتلك المفاسد وحدهم، كما وأنّ الأَوبئة التي تحدث بكثرة الأقذار في الشعب وغير ذلك من الإسراف في الشهوات تكون عامّةً أيضاً (٤) .

* * *

قال الراوندي وسألوا عن قوله تعالى: ( فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ ) (٥) .

قالوا: كيف جَمَع اللّه بينه وبين قوله: ( لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ ) ؟ (٦) وهذا خلاف الأَوّل؛ لأنّه قال أَوّلاً: (نبذناه) مطلقاً، ثُمّ قال: (لولا أنْ تَداركه لنُبذ بالعَراء) فجَعَله شرطاً!

____________________

(١) جاء ذلك في حديثَين عن ابن عبّاس، نقلها الطبري في التفسير، ج١٠، ص٧٨.

(٢) التوبة ٩: ٣٠.

(٣) الأنفال ٨: ٢٥.

(٤) تفسير المنار، ج١٠، ص٣٢٦ - ٣٢٧.

(٥) الصافّات ٣٧: ١٤٥.

(٦) القلم ٦٨: ٤٩.

٣٠٨

الجواب: معنى ذلك: لولا أنّا رحمناه بإجابة دعائه لنَبذناه حين نبذناه بالعَراء مذموماً... فالآية الثانية لا تنفي النبذ بل تنفي النبذ في حالة كونه مذموماً، فلا تنافي بين الآيتَين.

قال: وسألوا: عن قوله تعالى: ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ ) (١) ، في حين أنّ اسم أبيه في التوراة تارح، قال: والصحيح أنّ آزر ما كان أباً لإبراهيم.

وقد ذكرنا في موضعه أنّ آزر كان عمّاً له، ويقال: إنّه تزوّج بأُمّ إبراهيم بعد موت أبيه تارح، فكان إبراهيم ربيبه وابن أخيه، واستعمال الأب في مثل هذا متعارف.

قال: وسألوا: عن قوله: ( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً ) ، ثُمّ قال: ( قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا ) (٢) ، وهذا يدلّ على أنّ غيره لا يعلم بمدّة لبثِهم، في حين أنّه أَعلَمَنا بذلك في الآية الأُولى!

الجواب: أنّ هذا ردّ على اختلافهم في مدّة اللبث حيث لا عِلم لهم بذلك؛ ولذلك بيّنها وأَعلَمَهم بها، وهذا يدلّ على حصر العلم بذلك على اللّه لا غيره، (وسوف نذكر أنّ الآية نَقلٌ لقولهم، فهو مَقول لهم وليس منه تعالى).

قال: وسألوا: عن قوله تعالى: ( يَاأُخْتَ هَارُونَ ) (٣) ، ولم يكن لها أخ بهذا الاسم!

وقد استوفينا الكلام في ذلك، وأنّه لم يُرِد الأُخوة في النَسب، بل الانتساب إلى قبيل هارون؛ حيث كانت من أحفاده، كما يقال: يا أخا كليب، وهو متعارف.

قال: وسألوا: عن التَّكرار في سورَتي الرحمان والمـُرسلات، وكذا التَّكرار في بعض القِصَص التي جاءت في القرآن، قالوا: أليس التكرار يُخلّ بفصاحة الكلام؟

لكن التكرير، سواء أكان في المعنى، نحو: أَطعني ولا تَعصني، أم في اللفظ والمعنى معاً نحو: عجّل عجّل، فإنّما هو للتأكيد والمبالغة، وقد يزيد تزييناً في الكلام وروعةً بالغة، وإنّما ذمّ أهل البلاغة التكرار الواقع فضلاً في الكلام ممّا لا فائدة فيه، فهو من اللغو الذي يتحاشاه الكلام البليغ.

____________________

(١) الأنعام ٦: ٧٤.

(٢) الكهف ١٨: ٢٥ و٢٦.

(٣) مريم ١٩: ٢٨.

٣٠٩

انتهى ما أَردنا نَقلَه من كتاب الخرائج والجرائح للراوندي، وربّما عَمدنا إلى النقل بالمعنى أو مع يسيرٍ مِن إضافات أو تغييرات للاستزادة من الإيضاح (١) .

أمّا التَّكرار في القِصَص فقد ذَكَرنا: (٢) أنّها في كلّ مرّة تهدف إلى نكتةٍ غير التي جاءت في غيرها؛ ومِن ثَمّ فإنّها ليست بتكرار في حقيقتها.

____________________

(١) الخرائج والجرائح، ج٣، ص١٠١٤ - ١٠١٧، وراجع: البحار، ج٨٩، ص١٤١ - ١٤٦.

(٢) راجع: التمهيد، ج٥.

٣١٠

الباب الرابع

هل هناك في القرآن مُخالفات مع العِلم أو التأريخ أو الأدب؟

حاشاه:

( قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ ) الزمر: ٢٨

( كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاّ كَذِباً ) الكهف: ٥

( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ) البقرة: ١٧٦

٣١١

مُخالفات علميّة؟!

هل هناك في القرآن ما يُخالف العِلم؟

كلاّ ( مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنُّونَ ) (١) .

زعموا أنّ في القرآن ما يُخالف العِلم واتّخذوه شاهداً على أنّه ليس من كلام اللّه العالم بحقائق الأُمور ( لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ ) (٢) .

ولنضع اليد على مواردٍ زَعَموا فيها الخلاف:

( وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ)

قالوا: ومِن الأحياء ما ليس له زوج كالخلايا والحيوانات الابتدائيّة والدِيدان تتكاثر من غير ما حصول لِقاح جنسي، وهكذا بعض الثِّمار تنعقد من غير لِقاح ومن غير أن يكون فيها ذكر وأُنثى!

لكنّها شُبهة فارغة وحُسبان عقيم:

____________________

(١) الجاثية ٤٥: ٢٤.

(٢) النساء ٤: ١٦٦.

٣١٢

أَوّلاً: ليست في الآية صَراحة بمسألة الزوجيّة مِن ذكرٍ وأُنثى (اللِقاح الجنسي) حسب المـُتبادر إلى الأذهان، فلعلّ المـُراد: التزاوج الصنفي أي المتعدّد من كلّ صنف، كما في قوله تعالى: ( فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ ) (١) أي صِنفان كنايةً عن التعدّد مِن أصناف مُتماثلة؛ ذلك لأنّ الفاكهة ليس فيها ذكر وأُنثى وليس فيها لِقاح، إنّما اللِقاح في البذرة لا الثمرة.

ومِثله قوله تعالى: ( وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) (٢) ، أي صنفَين متماثلَين، والثمرة نفسها ليس فيها تزاوج جنسي.

وكذلك الآية: ( وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ) (٣) لعلّها كأُختيها أُريد بها الصنفان مِن كلّ نوع، كنايةً عن التماثل في تعدّد الأشكال والألوان، كما في قوله سبحانه: ( وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ) (٤) أي متماثلاً وغير متماثل.

وإطلاق لفظ التزاوج وإرادة التماثل والتشاكل في الصنف أو النوع غير عزيز، قال تعالى: ( أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ) (٥) أي مِن كلّ نوعٍ متشاكل، وقوله: ( وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى ) (٦) ، قال الراغب: أي أنواعاً متشابهةً، وقوله: ( ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ) (٧) أي أصناف.

وقد يُراد بالزوج القَرين أي المـُصاحِب المـُرافِق في أمرٍ له شأن، قال الراغب: يُقال لكلّ قرينَين في الحيوانات المتزاوجة وغيرها: زوج، ولكلّ ما يقترن بآخر مماثلاً له أو مضادّاً: زوج، قال تعالى: ( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ ) (٨) أي قُرناءهم ممّن تَبِعوهم، ( إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ ) (٩) أي أشباهاً وقُرناء، ( وَكُنْتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاثَةً ) (١٠) أي قُرناء ثلاثة، وقوله تعالى: ( وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ) (١١) فقد قيل في معناه: قُرن كلّ شيعة بمَن شايعهم (١٢) .

____________________

(١) الرحمان ٥٥: ٥٢.                                   (٢) الرعد ١٣: ٣.

(٣) الذاريات ٥١: ٤٩.                                (٤) الأنعام ٦: ١٤١.

(٥) الشعراء ٢٦: ٧.                                                (٦) طه ٢٠: ٥٣.

(٧) الزمر ٣٩: ٦.                                       (٨) الصافّات ٣٧: ٢٢.

(٩) الحجر ١٥: ٨٨.                                    (١٠) الواقعة ٥٦: ٧.

(١١) التكوير ٨١: ٧.                                   (١٢) المفردات، ص٢١٥ و٢١٦.

٣١٣

وهكذا ذَكر المفسّرون القُدامى وهم أعرف وأقرب عهداً بنزول القرآن وبمواقع الكلام الذي خاطب به العرب آنذاك.

قال الحسن - في قوله تعالى: ( وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ) -: السماء زَوجٌ والأرض زَوجٌ، والشتاء زَوجٌ والصيف زَوجُ، والليل زَوجُ والنهار زَوجُ، حتّى يصير إلى اللّه الفرد الذي لا يُشبهه شيء (١) .

وعن قتادة - في قوله تعالى: ( قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) - (٢) قال: مِن كلّ صنفٍ اثنين.

قال الطبري: وقال بعض أهل العِلم بكلام العرب مِن الكوفيّين: الزوجان - في كلام العرب - الاثنان، قال: ويُقال: عليه زَوجا نِعَالٍ إذا كانت عليه نَعْلان، ولا يقال: عليه زَوج نِعالٍ، وكذلك: عنده زَوجا حَمام، وعليه زَوجا قيود، قال: أَلا تسمع إلى قوله تعالى: ( وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى‏ ) (٣) فإنّما هما اثنان.

قال: وقال بعض البصريّين من أهل العربيّة - في قوله: ( قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) -: جَعَل الزوجَين الضربَين الذُكور والإناث، قال: وزَعَم يونس أنّ قول الشاعر:

وأنت امرؤٌ تَعدو على كلِّ غرّةٍ

فتُخطي فيها مرّةً وتصيبُ (٤)

يعني به (بالمرء) الذئب، وهذا أشذّ من ذلك (أي إطلاق المرء على الذئب أشذّ من إطلاق الزوج على كلّ ذي صنف).

وقال آخر: الزوج اللون، وكلّ ضَربٍ يُدعى لوناً، واستشهد ببيت الأعشى:

وكلُّ زوجٍ مِن الديباجِ يَلبَسُهُ

أَبو قُدامَة محبوّاً بِذاكَ مَعاً (٥)

وقال لبيد:

وذي بَهجةٍ كَنَّ المقانِبُ صوتَه

وزيّنه أزواج نُورٍ مشرَّب (٦)

____________________

(١) جامع البيان، ج١٢، ص٢٦ ذيل الآية هود ١١: ٤٠.

(٢) هود ١١: ٤٠.

(٣) النجم ٥٣: ٤٥.

(٤) خطاب إلى الذئب - في استعارةٍ تخييليّة - بأنّه يحمل على ما تغافل من صيدٍ فقد يُصيبه وقد لا يُصبيه.

(٥) أي وكلُّ صنفٍ من الديباج - الثوب المنسوج من الحرير - يلبسه ويحتبي به.

(٦) جامع البيان، ج١٢، ص٢٥ - ٢٦، ومعنى البيت: أنّ أصوات المقانِب وهي جماعة الخيل تجتمع للغارة، كَنّ المقانب: =

٣١٤

قال ابن منظور: والزوج، الصنف من كلّ شيء. وفي التنزيل ( وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ) (١) ، قيل: مِن كلِّ لونٍ أو ضربٍ حَسِنٍ من النبات، وفي التهذيب: والزوج اللون، وقوله تعالى: ( وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ) (٢) معناه: ألوان وأنواع من العذاب، ووصفه بالأزواج؛ لأنّه عنى به الأنواع من العذاب والأصناف منه (٣) .

وأمّا لفظة (اثنين) فلا يُراد بها العدد وإنّما هو التكثّر مَحضاً، كما في قوله تعالى: ( ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ ) (٤) أي كرّةً بعد أُخرى، وهكذا، وجاءت لفظة (اثنين) تأكيداً على هذا المعنى، كما في قوله تعالى: ( لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ ) (٥) - خطاباً مع المشركين - أي لا تتّخذوا مع اللّه آلهةً أُخرى، ومِن ثَمَّ عقّبه بقوله: ( إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ) ، فهو كقوله تعالى: ( لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ ) (٦) أي آلهةً أُخرى كما في قوله: ( وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً ) (٧) فهو نهي عن التعدّد في الآلهة، صِيغت في قالب التثنية.

قال أبو عليّ: الزوجان - في قوله تعالى: ( مِن كُلّ زَوْجَيْنِ... ) - يُراد به الشياع من جنسه ولا يُراد عدد الاثنين، كما قال الشاعر:

فاعمد لِما يَعلو فَما لك بالذي

لا تَستطيع مِن الأُمورِ يَدانِ

يريد: الأيدي والقُوى الكثيرة كي يستطيع التغلّب على الأُمور.

قال: ويُبيّن هذا المعنى أيضاً قول الفرزدق:

وكلُّ رَفيقَي كُلِّ رَحلٍ وَإِن هُما

تَعاطى القَنا قَوماهُما أَخوانِ (٨)

إذ رفيقَان اثنان لا يكونان رفيقَي كلِّ رَحل، وإنّما يريد الرُفقاء كلّ واحد مع صاحبه يكونان رفيقَين (٩) .

____________________

= سترت أي فاقت صوته، وكان ممّا يزيّنه الأزواج من النور جمع نَوار وهي البقرة تنفر من الفحل، والمشرّب: ما ارتوى من الحيوان.

(١) الحجّ ٢٢: ٥.

(٢) ص ٣٨: ٥٨.

(٣) لسان العرب، ج٢، ص٢٩٣.

(٤) الملك ٦٧: ٤.

(٥) النحل ١٦: ٥١.

(٦) الإسراء ١٧: ٣٩.

(٧) مريم ١٩: ٨١.

(٨) تعاطى، مخفّف تَعاطَيا، حذف اللام للضرورة، جامع الشواهد، ص٣٢٤.

(٩) راجع: مجمع البيان، ج٥، ص١٦١.

٣١٥

وعليه، فالزوجان في الآية لعلّه أُريد بهما الصنفان المتماثلان أو المتقابلان - كما فَهِمَه المفسّرون القُدامى - فلا موضع فيها للاعتراض كما زَعَمَه الزاعم.

وهكذا على التفسير الآخر، قال به بعض القُدامى، قالوا بالتركيب المزدوج في ذوات الأشياء حسبما قرّرته الفلسفة: إنّ كلّ شيءٍ مُتركّب في ماهيّته من جوهرٍ وعَرضٍ وفي وجوده مِن مادّة وصورة، وهكذا.

قال الراغب - في قوله تعالى: ( سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ ) (١) ، وقوله: ( وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ) (٢) -: تنبيهٌ أنّ الأشياء كلّها مركّبة من جوهرٍ وعرضٍ ومادّةٍ وصورة، وأنْ لا شيء يتعرّى مِن تركيب يقتضي كونه مصنوعاً وأنّه لابدّ له مِن صانع؛ تنبيهاً أنّه تعالى هو الفرد.

وقوله: ( خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ) ، بيّن أنّ كلّ ما في العالم زوج مِن حيث أنّ له ضدّاً أو مِثلاً أو تركيباً مّا، بل لا ينفكّ بوجهٍ من تركيب، قال: وإنّما ذَكَرها هنا زوجَين؛ تنبيهاً أنّ الشيء وإن لم يكن له ضدّ ولا مِثل فإنّه لا ينفكّ من تركيب جوهرٍ وعرض، وذلك زوجان (٣) .

ثانياً: فلنفرض إرادة اللِقاح الجنسي بين ذكرٍ وأُنثى في عامّة الأشياء، كما فَهِمَه المتأخّرون؛ وليكون ذلك دليلاً على الإعجاز العلمي في القرآن، فلا دليل على عدم الاطّراد حسبما زَعَمه المعترض. فإنّ اللقاح التناسلي ظاهرة طبيعيّة مطّردة في عامّة الأحياء نباتها وحيوانها وحتّى الدِيدان والحيوانات الأَوّليّة بصورةٍ عامّة على ما أثبته علم الأحياء.

قال المراغي - في قوله تعالى: ( وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) (٤) -: أي وجَعَل فيها من كلّ أصناف الثمرات زوجَين اثنين ذكراً وأُنثى حيت تكوّنها، فقد أثبت العلم حديثاً أنّ الشجر والزرع لا يُولّدان الثمر والحبّ إلاّ مِن اثنين ذكرٍ وأُنثى، وعضو التذكير قد يكون في شجرة وعضو التأنيث في شجرة أُخرى كالنَّخل، وما كان العُضوَان فيه في شجرة واحدة، إمّا أن يكونا معاً في زهرةٍ واحدة كالقُطن، وإمّا أن يكون كلّ منهما في زهرة

____________________

(١) يس ٣٦: ٣٦.

(٢) الذاريات ٥١: ٤٩.

(٣) المفردات، ص٢١٦.

(٤) الرعد ١٣: ٣.

٣١٦

وحدها كالقَرع مثلاً (١) ، وهكذا ذَكَر الطنطاوي في تفسيره (٢) وغيره.

قال العلاّمة الطباطبائي: ما ذكروه وإن كان من الحقائق العلميّة التي لا غُبار عليها إلاّ أنّه لا يُساعد عليه ظاهر الآية من سورة الرعد، نعم يتناسب مع ما في سورة يس من قوله تعالى: ( سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا.... ) والآية ١٠ من سورة لقمان، والآية ٤٩ من سورة الذاريات (٣) .

قال سيّد قطب: وهذه حقيقة عجيبة تكشف عن قاعدة الخَلق في هذا الأرض - وربّما في هذا الكون؛ إذ أنّ التعبير لا يُخصّص الأرض - قاعدة الزوجيّة في الخَلق، وهي ظاهرة في الأحياء. ولكن كلمة (شيء) تشمل غير الأحياء أيضاً، والتعبير يُقرّر أنّ الأشياء كالأحياء مخلوقة على أساس الزوجيّة.

وحين نتذكّر أنّ هذا النصّ عَرفه البشر مُنذ أربعة عشر قَرناً وأنّ فكرة عُموم الزوجيّة - حتّى في الأحياء - لم تكن معروفة حينذاك فضلاً على عُموم الزوجيّة في كلّ شيء، حين نتذكّر هذا نَجدُنا أمام أمرٍ عجيبٍ عظيم، وهو يُطلعنا على الحقائق الكونيّة في هذه الصورة العجيبة المبكّرة كلّ التبكير!

كما أنّ هذا النصّ يَجعلنا نُرجّح أنّ البحوث العلميّة سائرة في طريق الوصول إلى الحقيقة، وهي تكاد تُقرّر أنّ بناء الكون كلّه يرجع إلى الذرّة، وأنّ الذرّة مؤلّفة من زوج مِن الكهرباء - موجب وسالب -. فقد تكون تلك البحوث إذن على طريق الحقيقة في ضوء هذا النصّ العجيب (٤) .

وجاء في مجلّة عالَم الفِكر الكويتيّة العدد الثالث (ج١، ص١١٤): ممّا يَستوقف الذهن إشارة القرآن أنّ أصل الكائنات جميعاً تتكوّن من زوجَين اثنين... وقد اكتشف العلم الحديث وحدة التركيب الذرّي للكائنات على اختلافها وأنّ الذرّة الواحدة تتكوّن من إلكترون وبروتون، أي من زوجَين... (٥)

____________________

(١) تفسير المراغي، ج١٣، ص٦٦.

(٢) تفسير الجواهر للطنطاوي، ج٧، ص٨٠.

(٣) تفسير الميزان، ج١١، ص٣٢١.

(٤) في ظِلال القرآن، ج٢٧، ص٢٤، مجلّد ٧، ص٥٨٧ - ٥٨٨.

(٥) بنقل مُغنية في تفسيره المبين، ص٦٩٥ ذيل الآية ٤٩ من سورة الذاريات.

٣١٧

وقد أثبت عِلم الأحياء الحديث أنّ الأحياء برُمّتها إنّما تتوالد وتتكاثر بالازدواج التناسلي، وحتّى في الحيوانات الابتدائيّة ذوات الخليّة الواحدة (أميبا) والدِيدان أيضاً.

ففي مُستعمرة الفلفكس (مجموعة خلايا كثيرة تتألّف من نحو ١٢٠٠٠ خليّة مرتبطة ببعضها بواسطة خيوط بروتوبلازمية فيتمّ بذلك الاتصال الفسلجي بين الوحدات) تظهر خلايا التناسل الذكرية والأُنثويّة بشكل حُجَيرتَين: إحداهما حُجَيرة تناسل ذكريّة، والأُخرى حُجَيرة تناسل أُنثويّة (١) ، وهكذا تحتوي كلّ دودةٍ على أعضاء تناسل ذكرية وأُنثويّة نامية ويتمّ الإخصاب داخل جسم الدودة فتخرج البيوض مُخصّبة لتُعيد دورة حياة جديدة (٢) ، وفي مِثل الدِيدان التي تتكاثر بالانقسام فإنّ جهاز التناسل يوجد في نفس الحيوان بشكل أعضاء تناسليّة ذكريّة وأُنثويّة، على ما شرحه علم الأحياء (٣) .

( وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (٤)

كانت العرب ولعلّ البشريّة جَمعاء ترى مِن القلب - ومَحلّه الصدر - مَركزاً للتعقّل والإدراك وكذا سائر الصفات النفسيّة؛ وذلك باعتبار كونه منشأ الحيويّة في الإنسان، فمِن القلب تنبثّ الحياة وتزدهر الحيويّة في الإنسان، ومنها النشاط الفكري وتجوال الخواطر وسائر أحوال النفس من حبٍّ وبغضٍ وابتهاجٍ وامتعاض!

هذا مع العلم بأنّ البشريّة عرفت - منذ أُلوف السنين - أنّ مركز الإدراك هو المـُخّ ومَحلّه الدِماغ من الرأس، ومنه اشتقاق الرِئاسة لمركزيّة التدبير.

إذن لم تكن مركزيّة الدِماغ للإدراك ممّا تَجهله العرب وسائر الناس، فما وجه التوفيق؟

وقد رجّح ابن سينا أن يكون المـُدِرك هو القلب وأنّ الدِماغ وسيلةٌ للإدراك، فكما أنّ الإبصار والسَمع يحصلان في مراكزهما من المخّ وتكون العين والأُذُن وسطاً لهذا الحصول،

____________________

(١) راجع: كتاب الحَيَوان للدراسات العليا في جامعة بغداد، ص٣٩، الشكل ١٤.

(٢) المصدر: ص٨٦.

(٣) المصدر: ص١٠٥.

(٤) الحجّ ٢٢: ٤٦.

٣١٨

كذلك الدِماغ وسط للإدراك والتفكير (١) ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ) (٢) .

وبذلك يتلخّص الإنسان - في نشاطه الفكري والعلمي - في قلبه، ويتّحد القلب مع النفس والروح في التعبير عن حقيقة الإنسان ذاته، ( قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) (٣) أي نفسي.

قال العلاّمة الطباطبائي: لَمّا شاهد الإنسانُ أنّ الشعور والحسّ قد يَبطل في الحيوان، أو يغيب عنه بإغماءٍ أو صرعٍ ونحوهما، ولا تَبطل الحياة مادام القلب نابضاً، قطع بأنّ منشأ الحياة هو القلب وسرت منه إلى سائر الأعضاء، وأنّ الآثار الروحيّة وكذا الأحاسيس المـُتواجدة في الإنسان - مِن مِثل الشعور والإرادة والحبّ والبغض والرجاء والخوف - كلّها للقلب، بعناية أنّه أَوّل متعلّق للروح، وهذا لا ينافي كون كلّ عضوٍ من الأعضاء مبدأ لعملٍ يخصّه، كالدماغ للفكر والعين للإبصار والأُذُن للسمع والرئتَين للتنفّس ونحو ذلك، فإنّها جميعاً مَنزلة الآلات والوسط إلى ذلك.

قال: ويتأيّد ذلك بما وَجَدَته التجارب العلميّة في الطيور، لا تموت بفقد الدماغ، سِوى أنّها تفقد الشعور والإحساس، وتبقى على هذه الحال حتّى تموت بفقد الموادّ الغذائيّة وإيقاف نبضات القلب.

والبحوث العلميّة لم تُوفّق لحدّ الآن للعثور على مصدر الأحكام الجسديّة أعني عرش التدبير في البدن، إذ أنّها في عين التشتّت والتفرّق في بِنيَتِها ونوعية عملها، هي مجتمعة تحت لواءٍ واحد ومؤتمرة بأوامر أميرٍ واحد، وحدة حقيقية من غير انفصام.

وليس ينبغي زَعمُ التغافل عن شأن الدِماغ وما يَخصّه من أمر الإدراك، وقد تنبّه الإنسان لِما عليه الرأس مِن الأهميّة في استواء الجسد مُنذ أقدم الزمان، وقد جرى على ألسنتهم التشبيه بالرأس والاشتقاق منه حيثما يُريدون التعبير بالمبدئيّة في أيّ شيء.

____________________

(١) راجع: تفسير الميزان، ج٢، ص٢٣٦.

(٢) ق ٥٠: ٣٧.

(٣) البقرة ٢: ٢٦٠.

٣١٩

ولكن مع ذلك نَراهم ينسبون الإدراك والشعور وكذا صفات النفس - ممّا للشعور فيه حظّ - إلى القلب المـُراد به الروح الساطية على البدن والمـُدبّرة له، كما يَنسبونها إلى النفس بمعنى الذات، فلا فرق بين أنْ يُقال: هَواكَ قلبي أو هَوتك نفسي. فأُطلق القلب وأُريد به النفس؛ باعتبار كونه مبدأ جميع الإدراكات (العقليّة) والصفات (النفسيّة)، وفي القرآن الشيء الكثير من ذلك: قال تعالى: ( يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ ) (١) ( يَضِيقُ صَدْرُكَ ) (٢) ، ( بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ ) (٣) ، ( إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) (٤) ، إلى غيرها من آيات (٥) .

( فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا)

قال تعالى: ( حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا ) (٦) .

أَفهل تتكلّم النمل؟ وكيف يستمع سليمان إلى كلامها؟!

والنملة وكذا سائر الحشرات ليس لها صوت وإنّما تَتَبادل أخبارَها وتتفاهم بعضها مع بعض عن طريقة إشعاع أمواج لاسلكيّة، وهكذا تتلقّى الأخبار وكذا عن طريقة الشمّ، ممّا لا صلة له بالكلام الصوتي.

لكن العُمدة أنّ للحيوانات برُمّتها مَنطِقاً أي طريقة خاصّة للتفاهم مع بعضها، سواء أكان ذلك عن طريقة إيجاد أصوات خاصة كما في الدوابّ والطيور أم بطريقة أُخرى (إشعاع أمواج لاسلكيّة) كما في الحشرات، الأمر الذي يمكن الوقوف عليه بطريقةٍ مّا، وبالفعل قد عُرف شيء من مَنطِق البهائم وحتّى بعض الحيتان في البحار، ولا يستحيل في قدرة اللّه تعالى أنْ يُعلّم نبيّه مَنطِق الطير وسائر الحيوان، يقول تعالى - حكايةً عن سليمان -: ( عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ) (٧) .

____________________

(١) الأنعام ٦: ١٢٥.

(٢) الحجر ١٥: ٩٧.

(٣) الأحزاب ٣٣: ١٠.

(٤) المائدة ٥: ٧.

(٥) تفسير الميزان، ج٢، ص٢٣٤ - ٢٣٥.

(٦) النمل ٢٧: ١٨ و١٩.

(٧) النمل ٢٧: ١٦.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578