شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم13%

شبهات وردود حول القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 578

شبهات وردود حول القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 578 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 297493 / تحميل: 13675
الحجم الحجم الحجم
شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

( بيان‏)

هذا هو الفصل الثاني من الآيات يعرّف الحاقّة ببعض أشراطها و نبذة ممّا يقع فيها.

قوله تعالى: ( فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ ) قد تقدّم أنّ النفخ في الصور كناية عن البعث و الإحضار لفصل القضاء، و في توصيف النفخة بالواحدة إشارة إلى مضيّ الأمر و نفوذ القدرة فلا وهن فيه حتّى يحتاج إلى تكرار النفخة، و الّذي يسبق إلى الفهم من سياق الآيات أنّها النفخة الثانية الّتي تحيي الموتى.

قوله تعالى: ( وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً ) الدكّ أشدّ الدقّ و هو كسر الشي‏ء و تبديله إلى أجزاء صغار، و حمل الأرض و الجبال إحاطة القدرة بها، و توصيف الدكّة بالواحدة للإشارة إلى سرعة تفتّتهما بحيث لا يفتقر إلى دكّة ثانية.

قوله تعالى: ( فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ ) أي قامت القيامة.

قوله تعالى: ( وَ انْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ ) انشقاق الشي‏ء انفصال شطر منه من شطر آخر، و واهية من الوهي بمعنى الضعف، و قيل: من الوهي بمعنى شقّ الأديم و الثوب و نحوهما.

و يمكن أن تكون الآية أعني قوله:( وَ انْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ وَ الْمَلَكُ عَلى‏ أَرْجائِها ) في معنى قوله:( وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَ نُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا ) الفرقان: 25.

قوله تعالى: ( وَ الْمَلَكُ عَلى‏ أَرْجائِها وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) قال الراغب: رجا البئر و السماء و غيرهما جانبها و الجمع أرجاء قال تعالى:( وَ الْمَلَكُ عَلى‏ أَرْجائِها ) انتهى، و الملك - كما قيل - يطلق على الواحد و الجمع و المراد به في

٦١

الآية الجمع.

و قوله:( وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) ضمير( فَوْقَهُمْ ) على ظاهر ما يقتضيه السياق للملائكة، و قيل: الضمير للخلائق.

و ظاهر كلامه أنّ للعرش اليوم حملة من الملائكة قال تعالى:( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ) المؤمن: 7 و قد وردت الروايات أنّهم أربعة، و ظاهر الآية أعني قوله:( وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) أنّ الحملة يوم القيامة ثمانية و هل هم من الملائكة أو من غيرهم؟ الآية ساكتة عن ذلك و إن كان لا يخلو السياق من إشعار ما بأنّهم من الملائكة.

و من الممكن - كما تقدّمت الإشارة إليه - أن يكون الغرض من ذكر انشقاق السماء و كون الملائكة على أرجائها و كون حملة العرش يومئذ ثمانية بيان ظهور الملائكة و السماء و العرش للإنسان يومئذ، قال تعالى:( وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ) الزمر: 75.

قوله تعالى: ( يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى‏ مِنْكُمْ خافِيَةٌ ) الظاهر أنّ المراد به العرض على الله كما قال تعالى:( وعُرِضُوا عَلى‏ رَبِّكَ صَفًّا ) الكهف: 48، و العرض إراءة البائع سلعته للمشتري ببسطها بين يديه، فالعرض يومئذ على الله و هو يوم القضاء إبراز ما عند الإنسان من اعتقاد و عمل إبرازاً لا يخفى معه عقيدة خافية و لا فعلة خافية و ذلك بتبدّل الغيب شهادة و السرّ علناً قال:( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) الطارق: 9، و قال:( يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى‏ عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْ‏ءٌ ) المؤمن: 16.

و قد تقدّم في أبحاثنا السابقة أنّ ما عدّ في كلامه تعالى من خصائص يوم القيامة كاختصاص الملك بالله، و كون الأمر له، و أن لا عاصم منه، و بروز الخلق له و عدم خفاء شي‏ء منهم عليه و غير ذلك، كلّ ذلك دائميّة الثبوت له تعالى، و إنّما المراد ظهور هذه الحقائق يومئذ ظهوراً لا ستر عليه و لا مرية فيه.

٦٢

فالمعنى: يومئذ يظهر أنّكم في معرض على علم الله و يظهر كلّ فعلة خافية من أفعالكم.

قوله تعالى: ( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ) قال في المجمع، هاؤم أمر للجماعة بمنزلة هاكم، تقول للواحد: هاء يا رجل، و للاثنين: هاؤما يا رجلان، و للجماعة: هاؤم يا رجال، و للمرأة: هاء يا امرأة بكسر الهمزة و ليس بعدها ياء، و للمرأتين: هاؤما، و للنساء: هاؤنّ. هذه لغة أهل الحجاز.

و تميم و قيس يقولون: هاء يا رجل مثل قول أهل الحجاز، و للاثنين: هاءا، و للجماعة: هاؤا، و للمرأة: هائي، و للنساء هاؤنّ.

و بعض العرب يجعل مكان الهمزة كافاً فيقول: هاك هاكما هاكم هاك هاكما هاكنّ، و معناه: خذ و تناول، و يؤمر بها و لا ينهى. انتهى.

و الآية و ما بعدها إلى قوله:( الْخاطِؤُنَ ) بيان تفصيليّ لاختلاف حال الناس يومئذ من حيث السعادة و الشقاء، و قد تقدّم في تفسير قوله تعالى:( فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ) إسراء: 71 كلام في معنى إعطاء الكتاب باليمين، و الظاهر أنّ قوله:( هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ) خطاب للملائكة، و الهاء في( كِتابِيَهْ ) و كذا في أواخر الآيات التالية للوقف و تسمّى هاء الاستراحة.

و المعنى: فأمّا من اُوتي كتابه بيمينه فيقول للملائكة: خذوا و اقرأوا كتابيه أي إنّها كتاب يقضي بسعادتي.

قوله تعالى: ( إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ ) الظنّ بمعنى اليقين، و الآية تعليل لما يتحصّل من الآية السابقة و محصّل التعليل إنّما كان كتابي كتاب اليمين و قاضياً بسعادتي لأنّي أيقنت في الدنيا أنّي ساُلاقي حسابي فآمنت بربّي و أصلحت عملي.

قوله تعالى: ( فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ ) أي يعيش عيشة يرضاها فنسبة الرضا إلى العيشة من المجاز العقليّ.

٦٣

قوله تعالى: ( فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ - إلى قوله -الْخالِيَةِ ) أي هو في جنّة عالية قدراً فيها ما لا عين رأت و لا اُذن سمعت و لا خطر على قلب بشر.

و قوله:( قُطُوفُها دانِيَةٌ ) القطوف جمع قطف بالكسر فالسكون و هو ما يجتنى من الثمر و المعنى: أثمارها قريبة منه يتناوله كيف يشاء.

و قوله:( كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ ) أي يقال لهم: كلوا و اشربوا من جميع ما يؤكل فيها و ما يشرب حال كونه هنيئاً لكم بما قدّمتم من الإيمان و العمل الصالح في الدنيا الّتي تقضّت أيّامها.

قوله تعالى: ( وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وَ لَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ ) و هؤلاء هم الطائفة الثانية و هم الأشقياء المجرمون يؤتون صحيفة أعمالهم بشمالهم و قد مرّ الكلام في معناه في سورة الإسراء، و هؤلاء يتمنّون أن لو لم يكونوا يؤتون كتابهم و يدرون ما حسابهم يتمنّون ذلك لما يشاهدون من أليم العذاب المعدّ لهم.

قوله تعالى: ( يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ ) ذكروا أنّ ضمير( لَيْتَها ) للموتة الاُولى الّتي ذاقها الإنسان في الدنيا.

و المعنى: يا ليت الموتة الاُولى الّتي ذقتها كانت قاضية عليّ تقضي بعدمي فكنت انعدمت و لم اُبعث حيّاً فأقع في ورطة العذاب الخالد و اُشاهد ما اُشاهد.

قوله تعالى: ( ما أَغْنى‏ عَنِّي مالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ ) كلمتا تحسّر يقولهما حيث يرى خيبة سعيه في الدنيا فإنّه كان يحسب أنّ مفتاح سعادته في الحياة هو المال و السلطان يدفعان عنه كلّ مكروه و يسلّطانه على كلّ ما يحبّ و يرضى فبذل كلّ جهده في تحصيلهما و أعرض عن ربّه و عن كلّ حقّ يدعى إليه و كذّب داعيه فلمّا شاهد تقطّع الأسباب و أنّه في يوم لا ينفع فيه مال و لا بنون ذكر عدم نفع ماله و بطلان سلطانه تحسّراً و توجّعاً و ما ذا ينفع التحسّر.؟

قوله تعالى: ( خُذُوهُ فَغُلُّوهُ - إلى قوله -فَاسْلُكُوهُ ) حكاية أمره تعالى الملائكة بأخذه و إدخاله النار، و التقدير يقال للملائكة خذوه إلخ، و( فَغُلُّوهُ ) أمر من الغلّ بالفتح

٦٤

و هو الشدّ بالغلّ الّذي يجمع بين اليد و الرجل و العنق.

و قوله:( ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ) أي أدخلوه النار العظيمة و ألزموه إيّاها.

و قوله:( ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ ) السلسلة القيد، و الذرع الطول، و الذراع بُعد ما بين المرفق و رأس الأصابع و هو واحد الطول و سلوكه فيه جعله فيه، و المحصّل ثمّ اجعلوه في قيد طوله سبعون ذراعاً.

قوله تعالى: ( إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ وَ لا يَحُضُّ عَلى‏ طَعامِ الْمِسْكِينِ ) الحضّ التحريض و الترغيب، و الآيتان في مقام التعليل للأمر بالأخذ و الإدخال في النار أي إنّ الأخذ ثمّ التصلية في الجحيم و السلوك في السلسلة لأجل أنّه كان لا يؤمن بالله العظيم و لا يحرّض على طعام المسكين أي يساهل في أمر المساكين و لا يبالي بما يقاسونه.

قوله تعالى: ( فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ - إلى قوله -الْخاطِؤُنَ ) الحميم الصديق و الآية تفريع على قوله:( إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ ) إلخ، و المحصّل: أنّه لمّا كان لا يؤمن بالله العظيم فليس له اليوم ههنا صديق ينفعه أي شفيع يشفع له إذ لا مغفرة لكافر فلا شفاعة.

و قوله:( وَ لا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ ) الغسلين الغسالة و كأنّ المراد به ما يسيل من أبدان أهل النار من قيح و نحوه و الآية عطف على قوله في الآية السابقة:( حَمِيمٌ ) و متفرّع على قوله:( وَ لا يَحُضُّ ) إلخ، و المحصّل: أنّه لمّا كان لا يحرّض على طعام المسكين فليس له اليوم ههنا طعام إلّا من غسلين أهل النار.

و قوله:( لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ ) وصف لغسلين و الخاطؤن المتلبّسون بالخطيئة و الإثم.

٦٥

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، في قوله تعالى:( وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) أخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يحمله اليوم أربعة و يوم القيامة ثمانية.

أقول: و في تقييد الحاملين في الآية بقوله:( يَوْمَئِذٍ ) إشعار بل ظهور في اختصاص العدد بالقيامة.

و في تفسير القمّيّ، و في حديث آخر قال: حمله ثمانية أربعة من الأوّلين و أربعة من الآخرين فأمّا الأربعة من الأوّلين فنوح و إبراهيم و موسى و عيسى، و أمّا الأربعة من الآخرين فمحمّد و عليّ و الحسن و الحسينعليهم‌السلام .

أقول: و في غير واحد من الروايات أنّ الثمانية مخصوصة بيوم القيامة، و في بعضها أنّ حملة العرش - و العرش العلم - أربعة منّا و أربعة ممّن شاء الله.

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إنّه إذا كان يوم القيامة يدعى كلّ اُناس بإمامه الّذي مات في عصره فإن أثبته اُعطي كتابه بيمينه لقوله:( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ‏ ) فمن اُوتي كتابه بيمينه فاُولئك يقرؤن كتابهم، و اليمين إثبات الإمام لأنه كتابه يقرؤه - إلى أن قال - و من أنكر كان من أصحاب الشمال الّذين قال الله:( وَ أَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ فِي سَمُومٍ وَ حَمِيمٍ وَ ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ ) إلخ.

أقول: و في عدّة من الروايات تطبيق قوله:( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ) إلخ، على عليّعليه‌السلام ، و في بعضها عليه و على شيعته، و كذا تطبيق قوله:( وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ ) إلخ، على أعدائه، و هي من الجري دون التفسير.

و في الدرّ المنثور، أخرج الحاكم و صحّحه عن أبي سعيد الخدريّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لو أنّ دلوا من غسلين يهراق في الدنيا لأنتن بأهل الدنيا.

و فيه، أخرج البيهقيّ في شعب الإيمان عن صعصعة بن صوحان قال: جاء أعرابي

٦٦

إلى عليّ بن أبي طالب فقال: كيف هذا الحرف: لا يأكله إلّا الخاطون؟ كلّ و الله يخطو. فتبسّم عليّ و قال: يا أعرابيّ( لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ ) قال: صدقت و الله يا أميرالمؤمنين ما كان الله ليسلم عبده.

ثمّ التفت عليّ إلى أبي الأسود فقال: إنّ الأعاجم قد دخلت في الدين كافّة فضع للناس شيئاً يستدلّون به على صلاح ألسنتهم فرسم لهم الرفع و النصب و الخفض.

و في تفسير البرهان، عن ابن بابويه في الدروع الواقية في حديث عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : و لو أنّ ذراعاً من السلسلة الّتي ذكرها الله في كتابه وضع على جميع جبال الدنيا لذابت عن حرّها.

٦٧

( سورة الحاقّة الآيات 38 - 52)

فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ( 38 ) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ ( 39 ) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ( 40 ) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ ( 41 ) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ ( 42 ) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ( 43 ) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ( 44 ) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ( 45 ) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ( 46 ) فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ( 47 ) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ( 48 ) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ ( 49 ) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ ( 50 ) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ ( 51 ) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ( 52 )

( بيان‏)

هذا هو الفصل الثالث من آيات السورة يؤكّد ما تقدّم من أمر الحاقّة بلسان تصديق القرآن الكريم ليثبت بذلك حقّيّة ما أنبأ به من أمر القيامة.

قوله تعالى: ( فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَ ما لا تُبْصِرُونَ ) ظاهر الآية أنّه إقسام بما هو مشهود لهم و ما لا يشاهدون أي الغيب و الشهادة فهو إقسام بمجموع الخليقة و لا يشمل ذاته المتعالية فإنّ من البعيد من أدب القرآن أن يجمع الخالق و الخلق في صفّ واحد و يعظّمه تعالى و ما صنع تعظيماً مشتركاً في عرض واحد.

و في الإقسام نوع تعظيم و تجليل للمقسم به و خلقه تعالى بما أنّه خلقه جليل جميل لأنّه تعالى جميل لا يصدر منه إلّا الجميل و قد استحسن تعالى فعل نفسه و أثنى

٦٨

على نفسه بخلقه في قوله:( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلَقَهُ ) الم السجدة: 7، و قوله:( فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) المؤمنون: 14 فليس للموجودات منه تعالى إلّا الحسن و ما دون ذلك من مساءة فمن أنفسها و بقياس بعضها إلى بعض.

و في اختيار ما يبصرون و ما لا يبصرون للأقسام به على حقّيّة القرآن ما لا يخفى من المناسبة فإنّ النظام الواحد المتشابك أجزاؤه الجاري في مجموع العالم يقضي بتوحّده تعالى و مصير الكلّ إليه و ما يترتّب عليه من بعث الرسل و إنزال الكتب و القرآن خير كتاب سماويّ يهدي إلى الحقّ في جميع ذلك و إلى طريق مستقيم.

و ممّا تقدّم يظهر عدم استقامة ما قيل: إنّ المراد بما تبصرون و ما لا تبصرون الخلق و الخالق فإنّ السياق لا يساعد عليه، و كذا ما قيل: إنّ المراد النعم الظاهرة و الباطنة، و ما قيل: إنّ المراد الجنّ و الإنس و الملائكة أو الأجسام و الأرواح أو الدنيا و الآخرة أو ما يشاهد من آثار القدرة و ما لا يشاهد من أسرارها فاللفظ أعمّ مدلولاً من جميع ذلك.

قوله تعالى: ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ) الضمير للقرآن، و المستفاد من السياق أنّ المراد برسول كريم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو تصديق لرسالته قبال ما كانوا يقولون إنّه شاعر أو كاهن.

و لا ضير في نسبة القرآن إلى قوله فإنّه إنّما ينسب إليه بما أنّه رسول و الرسول بما أنّه رسول لا يأتي إلّا بقول مرسلة، و قد بيّن ذلك فضل بيان بقوله بعد:( تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ) .

و قيل: المراد برسول كريم جبريل، و السياق لا يؤيّده إذ لو كان هو المراد لكان الأنسب نفي كونه ممّا نزلت به الشياطين كما فعل في سورة الشعراء.

على أنّ قوله بعد:( وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ) و ما يتلوه إنّما يناسب كونهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو المراد برسول كريم.

قوله تعالى: ( وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ ) نفي أن يكون القرآن

٦٩

نظماً ألّفه شاعر و لم يقل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شعراً و لم يكن شاعراً.

و قوله:( قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ ) توبيخ لمجتمعهم حيث إنّ الأكثرين منهم لم يؤمنوا و ما آمن به إلّا قليل منهم.

قوله تعالى: ( وَ لا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ ) نفي أن يكون القرآن كهانة و النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كاهنا يأخذ القرآن من الجنّ و هم يُلقونه إليه.

و قوله:( قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ ) توبيخ أيضاً لمجتمعهم.

قوله تعالى: ( تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ) أي منزل من ربّ العالمين و ليس من صنع الرسول نسبه إلى الله كما تقدّمت الإشارة إليه.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ - إلى قوله -حاجِزِينَ ) يقال: تقوّل على فلان أي اختلق قولاً من نفسه و نسبه إليه، و الوتين - على ما ذكره الراغب - عرق يسقي الكبد و إذا انقطع مات صاحبه، و قيل: هو رباط القلب.

و المعنى:( وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا ) هذا الرسول الكريم الّذي حمّلناه رسالتنا و أرسلناه إليكم بقرآن نزّلناه عليه و اختلق( بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ) و نسبه إلينا( لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ) كما يقبض على المجرم فيؤخذ بيده أو المراد قطعنا منه يده اليمنى أو المراد لانتقمنا منه بالقوّة كما في رواية القمّيّ( ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ ) و قتلناه لتقوّله علينا( فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ‏ ) تحجبونه عنّا و تنجونه من عقوبتنا و إهلاكنا.

و هذا تهديد للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على تقدير أن يفتري على الله كذباً و ينسب إليه شيئاً لم يقله و هو رسول من عنده أكرمه بنبوّته و اختاره لرسالته.

فالآيات في معنى قوله:( لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَ ضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً ) إسراء: 75، و كذا قوله في الأنبياء بعد ذكر نعمه العظمى عليهم:( وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) الأنعام: 88.

فلا يرد أنّ مقتضى الآيات أنّ كلّ من ادّعى النبوّة و افترى على الله الكذب أهلكه الله و عاقبه في الدنيا أشدّ العقاب و هو منقوض ببعض مدّعي النبوّة من الكذّابين.

٧٠

و ذلك أنّ التهديد في الآية متوجّه إلى الرسول الصادق في رسالته لو تقوّل على الله و نسب إليه بعض ما ليس منه لا مطلق مدّعي النبوّة المفتري على الله في دعواه النبوّة و إخباره عن الله تعالى.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ) يذكّرهم كرامة تقواهم و معارف المبدأ و المعاد بحقائقها، و يعرّفهم درجاتهم عند الله و مقاماتهم في الآخرة و الجنّة و ما هذا شأنه لا يكون تقوّلاً و افتراء فالآية مسوقة حجّة على كون القرآن منزّهاً عن التقوّل و الفرية.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ وَ إِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ ) ستظهر لهم يوم الحسرة.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) قد تقدّم كلام في نظيرتي الآيتين في آخر سورة الواقعة، و السورتان متّحدتان في الغرض و هو وصف يوم القيامة و متّحدتان في سياق خاتمتهما و هي الإقسام على حقّيّة القرآن المنبئ عن يوم القيامة، و قد ختمت السورتان بكون القرآن و ما أنبأ به عن وقوع الواقعة حقّ اليقين ثمّ الأمر بتسبيح اسم الربّ العظيم المنزّه عن خلق العالم باطلاً لا معاد فيه و عن أن يبطل المعارف الحقّة الّتي يعطيها القرآن في أمر المبدأ و المعاد.

٧١

( سورة المعارج مكّيّة و هي أربع و أربعون آية)

( سورة المعارج الآيات 1 - 18)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ( 1 ) لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ( 2 ) مِّنَ اللهِ ذِي الْمَعَارِجِ ( 3 ) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ( 4 ) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا ( 5 ) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا ( 6 ) وَنَرَاهُ قَرِيبًا ( 7 ) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ ( 8 ) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ( 9 ) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا ( 10 ) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ ( 11 ) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ ( 12 ) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ ( 13 ) وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ ( 14 ) كَلَّا إِنَّهَا لَظَىٰ ( 15 ) نَزَّاعَةً لِّلشَّوَىٰ ( 16 ) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ ( 17 ) وَجَمَعَ فَأَوْعَىٰ ( 18 )

( بيان‏)

الّذي يعطيه سياق السورة أنّها تصف يوم القيامة بما اُعدّ فيه من أليم العذاب للكافرين. تبتدئ السورة فتذكر سؤال سائل سأل عذاباً من الله للكافرين فتشير إلى أنّه واقع ليس له دافع قريب غير بعيد كما يحسبونه ثمّ تصف اليوم الّذي يقع فيه و العذاب الّذي اُعدّ لهم فيه و تستثني المؤمنين الّذين قاموا بوظائف الاعتقاد الحقّ و العمل الصالح.

٧٢

و هذا السياق يشبه سياق السور المكّيّة غير أنّ المنقول عن بعضهم أنّ قوله:( وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ) مدني و الاعتبار يؤيّده لأنّ ظاهره الزكاة و قد شرّعت بالمدينة بعد الهجرة، و كون هذه الآية مدنيّة يستتبع كون الآيات الحافّة بها الواقعة تحت الاستثناء و هي أربع عشرة آية (قوله:إِلَّا الْمُصَلِّينَ - إلى قوله -فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ‏ ) مدنيّة لما في سياقها من الاتّحاد و استلزام البعض للبعض.

و مدنيّة هذه الآيات الواقعة تحت الاستثناء تستدعي ما استثنيت منه و هو على الأقل ثلاث آيات (قوله:إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً - إلى قوله -مَنُوعاً ).

على أنّ قوله:( فَما لِلَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ) متفرّع على ما قبله تفرّعاً ظاهراً و هو ما بعده إلى آخر السورة ذو سياق واحد فتكون هذه الآيات أيضاً مدنيّة.

و من جهة اُخرى مضامين هذا الفصل من الآيات تناسب حال المنافقين الحافّين حول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن اليمين و عن الشمال عزين و هم الرادّون لبعض ما أنزل الله من الحكم و خاصّة قوله:( أَ يَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ ) إلخ، و قوله:( عَلى‏ أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ ) إلخ على ما سيجي‏ء، و موطن ظهور هذا النفاق المدينة لا مكّة، و لا ضير في التعبير عن هؤلاء بالّذين كفروا فنظير ذلك موجود في سورة التوبة و غيرها.

على أنّهم رووا أنّ السورة نزلت في قول القائل:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ ) الأنفال: 32 و قد تقدّم في تفسير الآية أنّ سياقها و الّتي بعدها سياق مدنيّ لا مكّي. لكنّ المرويّ عن الصادقعليه‌السلام أنّ المراد بالحقّ المعلوم في الآية حق يسمّيه صاحب المال في ماله غير الزكاة المفروضة.

و لا عبرة بما نسب إلى اتّفاق المفسّرين أنّ السورة مكّيّة على أنّ الخلاف ظاهر و كذا ما نسب إلى ابن عبّاس أنّها نزلت بعد سورة الحاقّة.

قوله تعالى: ( سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ) السؤال بمعنى الطلب و الدعاء، و لذا عدّي بالباء كما في قوله:( يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ ) الدخان: 55 و قيل: الفعل مضمّن معنى الاهتمام و الاعتناء و لذا عدّي بالباء، و قيل: الباء زائدة للتأكيد،

٧٣

و مآل الوجوه واحد و هو طلب العذاب من الله كفراً و عتوّاً.

و قيل: الباء بمعنى عن كما في قوله:( فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً ) الفرقان: 59، و فيه أنّ كونها في الآية المستشهد بها بمعنى عن ممنوع. على أنّ سياق الآيات التالية و خاصّة قوله:( فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا ) لا يلائم كون السؤال بمعنى الاستفسار و الاستخبار.

فالآية تحكي سؤال العذاب و طلبه عن بعض من كفر طغياناً و كفراً، و قد وصف العذاب المسؤل من الأوصاف بما يدلّ على إجابة الدعاء بنوع من التهكّم و التحقير و هو قوله:( واقِعٍ ) و قوله:( لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ) .

و المعنى سأل سائل من الكفّار عذاباً للكافرين من الله سيصيبهم و يقع عليهم لا محالة و لا دافع له أي إنّه واقع عليهم سأل أو لم يسأل ففيه جواب تحقيريّ و إجابة لمسؤله تهكّماً.

قوله تعالى: ( لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ) للكافرين متعلّق بعذاب و صفة له، و كذا قوله:( لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ) و قد مرّت الإشارة إلى معنى الآية.

قوله تعالى: ( مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ ) الجارّ و المجرور متعلّق بقوله:( دافِعٌ ) أي ليس له دافع من جانب الله و من المعلوم أنّه لو اندفع لم يندفع إلّا من جانب الله سبحانه، و من المحتمل أن يتعلّق بقوله:( بِعَذابٍ ) .

و المعارج جمع معرج و فسّروه بالمصاعد و هي الدرجات و هي مقامات الملكوت الّتي يعرج إليها الملائكة عند رجوعهم إلى الله سبحانه على ما يفسّره قوله بعد:( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ ) إلخ فله سبحانه معارج الملكوت و مقاماتها المترتّبة علوّاً و شرفاً الّتي تعرج فيها الملائكة و الروح بحسب قربهم من الله و ليست بمقامات وهميّة اعتباريّة.

و قيل: المراد بالمعارج الدرجات الّتي يصعد فيها الاعتقاد الحقّ و العمل الصالح قال تعالى:( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) الفاطر 10، و قال:( وَ لكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى‏ مِنْكُمْ ) الحجّ: 37.

و قيل: المراد به مقامات القرب الّتي يعرج إليها المؤمنون بالإيمان و العمل

٧٤

الصالح قال تعالى:( هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَ اللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ ) آل عمران: 163 و قال:( لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ ) الأنفال: 4 و قال:( رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ ) المؤمن: 15.

و الحقّ أنّ مآل الوجهين إلى الوجه الأوّل، و الدرجات المذكورة حقيقيّة ليست بالوهميّة الاعتباريّة.

قوله تعالى: ( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) المراد بهذا اليوم يوم القيامة على ما يفيده سياق الآيات التالية.

و المراد بكون مقدار هذا اليوم خمسين ألف سنة على ما ذكروا أنّه بحيث لو وقع في الدنيا و انطبق على الزمان الجاري فيها كان مقداره من الزمان خمسين ألف سنة من سني الدنيا.

و المراد بعروج الملائكة و الروح إليه يومئذ رجوعهم إليه تعالى عند رجوع الكلّ إليه فإنّ يوم القيامة يوم بروز سقوط الوسائط و تقطّع الأسباب و ارتفاع الروابط بينها و بين مسبّباتها و الملائكة وسائط موكّلة على اُمور العالم و حوادث الكون فإذا تقطّعت الأسباب عن مسبّباتها و زيّل الله بينهم و رجع الكلّ إلى الله عزّ اسمه رجعوا إليه و عرجوا معارجهم فحفّوا من حول عرش ربّهم و صفّوا قال تعالى:( وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ) الزمر 75، و قال:( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا ) النبأ: 38.

و الظاهر أنّ المراد بالروح الروح الّذي هو من أمره تعالى كما قال:( قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) إسراء: 85 و هو غير الملائكة كما هو ظاهر قوله تعالى:( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ) النحل: 2.

فلا يعبأ بما قيل: إنّ المراد بالروح جبرئيل و إن اُطلق عليه الروح الأمين و روح القدس في قوله:( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى‏ قَلْبِكَ ) الشعراء: 194 و قوله:( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ ) النحل: 103 فإنّ المقيّد غير المطلق.

قوله تعالى: ( فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا ) لمّا كان سؤال السائل للعذاب عن تعنّت

٧٥

و استكبار و هو ممّا يشقّ تحمّله أمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصبر و وصفه بالجميل - و الجميل من الصبر ما ليس فيه شائبة الجزع و الشكوى - و علّله بأنّ اليوم بما فيه من العذاب قريب.

قوله تعالى: ( إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَ نَراهُ قَرِيباً ) ضميراً( يَرَوْنَهُ ) و( نَراهُ ) للعذاب أو ليوم القيامة بما فيه من العذاب الواقع و يؤيّد الأوّل قوله فيما بعد:( يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ) إلخ.

و المراد بالرؤية الاعتقاد بنوع من العناية المجازيّة و رؤيتهم ذلك بعيداً ظنّهم أنّه بعيد من الإمكان فإنّ سؤال العذاب من الله سبحانه استكباراً عن دينه و ردّاً لحكمه لا يجامع الإيمان بالمعاد و إن تفوّه به السائل، و رؤيته تعالى ذلك قريباً علمه بتحقّقه و كلّ ما هو آت قريب.

و في الآيتين تعليل أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصبر الجميل فإنّ تحمّل الأذى و الصبر على المكاره يهون على الإنسان إذا استيقن أنّ الفرج قريب و تذكّر ذلك فالكلام في معنى قولنا فاصبر على تعنّتهم و استكبارهم في سؤالهم العذاب صبراً جميلاً لا يشوبه جزع و شكوى فإنّا نعلم أنّ العذاب قريب على خلاف ما يستبعدونه، و علمنا لا يتخلّف عن الواقع بل هو نفس الواقع.

قوله تعالى: ( يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ) المهل المذاب من المعدنيّات كالنحاس و الذهب و غيرهما، و قيل: درديّ الزيت، و قيل: عكر القطران(1) .

و الظرف متعلّق بقوله:( واقِعٍ ) على ما يفيده السياق.

قوله تعالى: ( وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ ) العهن مطلق الصوف، و لعلّ المراد المنفوش منه كما في قوله تعالى:( وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ) القارعة: 5.

و قيل: هو الصوف الأحمر، و قيل: المصبوغ ألواناً لأنّ الجبال ذات ألوان مختلفة فمنها جدد بيض و حمر و غرابيب سود(2) .

____________________

(1) أي ردية و خبيثه‏.

(2) كما في الآية من سورة فاطر.

٧٦

قوله تعالى: ( وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ) الحميم القريب الّذي تهتمّ بأمره و تشفق عليه.

إشارة إلى شدّة اليوم فالإنسان يومئذ تشغله نفسه عن غيره حتّى أنّ الحميم لا يسأل حميمه عن حاله لاشتغاله بنفسه.

قوله تعالى: ( يُبَصَّرُونَهُمْ ) الضميران للأحماء المعلوم من السياق و التبصير الإراءة و الإيضاح أي يُرى و يوضح الأحماء للأحماء فلا يسألونهم عن حالهم اشتغالاً بأنفسهم.

و الجملة مستأنفة في معنى الجواب عن سؤال مقدّر كأنّه لمّا قيل: لا يسأل حميم حميماً سئل فقيل: هل يرى الأحماء يومئذ أحماءهم؟ فاُجيب: يبصّرونهم و يمكن أن يكون( يُبَصَّرُونَهُمْ ) صفة( حَمِيماً ) .

و من ردي‏ءً التفسير قول بعضهم: إنّ معنى قوله:( يُبَصَّرُونَهُمْ ) يبصّر الملائكة الكفّار، و ما قيل: إنّ المعنى يبصّر المؤمنون أعداءهم من الكفّار و ما هم فيه من العذاب فيشمتون بهم، و ما قيل: إنّ المعنى يبصّر أتباع الضلالة رؤساءهم. و هي جميعاً وجوه لا دليل عليها.

قوله تعالى: ( يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَ صاحِبَتِهِ وَ أَخِيهِ وَ فَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ ) قال في المجمع: المودّة مشتركة بين التمنّي و بين المحبّة يقال: وددت الشي‏ء أي تمنّيته و وددته أي أحببته أودّ فيهما جميعاً. انتهى، و يمكن أن يكون استعماله بمعنى التمنّي من باب التضمين.

و قال: و الافتداء الضرر عن الشي‏ء ببدل منه انتهى، و قال: الفصيلة الجماعة المنقطعة عن جملة القبيلة برجوعها إلى اُبوّة خاصّة عن اُبوّة عامّة. انتهى، و ذكر بعضهم أنّ الفصيلة عشيرته الأقربين الّذين فصل عنهم كالآباء الأدنين.

و سياق هذه الآيات سياق الإضراب و الترقّي بالنسبة إلى قوله:( وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ) فيفيد أنّ المجرم يبلغ به شدّة العذاب إلى أن يتمنّى أن يفتدي من العذاب بأحبّ أقاربه و أكرمهم عليه بنيه و صاحبته و أخيه و فصيلته و جميع من في الأرض ثمّ ينجيه الافتداء فيودّ ذلك فضلاً عن عدم سؤاله عن حال حميمه.

٧٧

و المعنى( يَوَدُّ ) و يتمنّى( الْمُجْرِمُ ) و هو المتلبّس بالأجرام أعمّ من الكافر( لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ ) و هذا هو الّذي يتمنّاه، و الجملة قائمة مقام مفعول يودّ.( بِبَنِيهِ ) الّذين هم أحبّ الناس عنده( وَ صاحِبَتِهِ ) الّتي كانت سكنا له و كان يحبّها و ربّما قدّمها على أبويه( وَ أَخِيهِ ) الّذي كان شقيقه و ناصره( وَ فَصِيلَتِهِ ) من عشيرته الأقربين( الَّتِي تُؤْوِيهِ ) و تضمّه إليها( وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) من اُولي العقل( ثُمَّ يُنْجِيهِ ) هذا الافتداء.

قوله تعالى: ( كَلَّا إِنَّها لَظى‏ نَزَّاعَةً لِلشَّوى‏ تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى وَ جَمَعَ فَأَوْعى) كلّا للردع، و ضمير( إِنَّها ) لجهنّم أو للنار و سمّيت لظى لكونها تتلظّى و تشتعل، و النزّاعة اسم مبالغة من النزع بمعنى الاقتلاع، و الشوى الأطراف كاليد و الرجل يقال: رماه فأشواه أي أصاب شواه كذا قال الراغب، و إيعاء المال إمساكه في وعاء.

فقوله:( كَلَّا ) ردع لتمنّيه النجاة من العذاب بالافتداء و قد علّل الردع بقوله:( إِنَّها لَظى) إلخ و محصّله أنّ جهنّم نار مشتعلة محرقة للأطراف شأنها أنّها تطلب المجرمين لتعذّبهم فلا تصرف عنهم بافتداء كائناً ما كان.

فقوله:( إِنَّها لَظى‏ ) أي نار صفتها الاشتعال لا تنعزل عن شأنها و لا تخمد، و قوله:( نَزَّاعَةً لِلشَّوى‏ ) أي صفتها إحراق الأطراف و اقتلاعها لا يبطل ما لها من الأثر فيمن تعذّبه.

و قوله:( تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى وَ جَمَعَ فَأَوْعى‏ ) أي تطلب من أدبر عن الدعوة الإلهيّة إلى الإيمان بالله و أعرض عن عبادته تعالى و جمع المال فأمسكه في وعائه و لم ينفق منه للسائل و المحروم.

و هذا المعنى هو المناسب لسياق الاستثناء الآتي و ذكر الصلاة و الإنفاق فيه.

٧٨

( بحث روائي‏)

في المجمع، حدّثنا السيّد أبوالحمد قال: حدّثنا الحاكم أبوالقاسم الحسكاني و ساق السند عن جعفر بن محمّد الصادق عن آبائهعليهم‌السلام قال: لما نصب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّا و قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه، طار ذلك في البلاد فقدم على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النعمان بن الحارث الفهريّ.

فقال: أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلّا الله و أنّك رسول الله و أمرتنا بالجهاد و الحجّ و الصوم و الصلاة و الزكاة فقبلناها ثمّ لم ترض حتّى نصبت هذا الغلام فقلت: من كنت مولاه فعليّ مولاه، فهذا شي‏ء منك أو أمر من عند الله؟ فقال: و الله الّذي لا إله إلّا هو إنّ هذا من الله.

فولى النعمان بن الحارث و هو يقول: اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء فرماه الله بحجر على رأسه فقتله و أنزل الله تعالى:( سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ) .

أقول: و هذا المعنى مروي بغير طريق من طرق الشيعة، و قد ردّ الحديث بعضهم بأنّه موضوع لكون سورة المعارج مكّيّة، و قد عرفت الكلام في مكّيّة السورة.

و في الدرّ المنثور، أخرج الفاريابيّ و عبد بن حميد و النسائيّ و ابن أبي حاتم و الحاكم و صحّحه و ابن مردويه عن ابن عبّاس في قوله:( سَأَلَ سائِلٌ ) قال هو النضر بن الحارث قال: اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء.

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن السدّيّ: في قوله:( سَأَلَ سائِلٌ ) قال. نزلت بمكّة في النضر بن الحارث و قد قال:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ) الآية و كان عذابه يوم بدر.

أقول: و هذا المعنى مرويّ أيضاً عن غير السدّيّ، و في بعض رواياتهم أنّ

٧٩

القائل:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ) الآية هو الحارث بن علقمة رجل من عبد الدار، و في بعضها أنّ سائل العذاب هو أبوجهل بن هشام سأله يوم بدر و لازمه مدنيّة السورة و المعتمد على أيّ حال نزول السورة بعد قول القائل:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ) الآية و قد تقدّم كلام في سياق الآية.

و في أمالي الشيخ، بإسناده إلى أبي عبداللهعليه‌السلام في حديث: ألا فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا فإنّ في القيامة خمسين موقفاً كلّ موقف مثل ألف سنة ممّا تعدّون ثمّ تلا هذه الآية( فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) .

أقول: و روي هذا المعنى في روضة الكافي، عن حفص بن غياث عنهعليه‌السلام .

و في المجمع، روى أبوسعيد الخدريّ قال: قيل لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما أطول هذا اليوم فقال: و الّذي نفس محمّد بيده إنّه ليخفّ على المؤمن حتّى يكون أخفّ عليه من صلاة مكتوبة يصلّيها في الدنيا.

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، عن عدّة من الجوامع عن أبي سعيد عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ) قال: الرصاص الذائب و النحاس كذلك تذوب السماء.

و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( يُبَصَّرُونَهُمْ ) يقول: يعرّفونهم ثمّ لا يتساءلون.

و فيه في قوله تعالى:( نَزَّاعَةً لِلشَّوى‏ ) قال: تنزع عينه و تسودّ وجهه.

و فيه في قوله تعالى:( تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى ) قال: تجرّه إليها.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

اقتضاء حالتهم هم ولكنّ اللهَ يفعل ما يشاء حسب حِكمته وإرادته، وليس شيء حتماً عليه ما دامت الحِكمة هي الحاكمة على فِعالِه تعالى وتقدّس، وإرادته تعالى هي الساطية على تدبير عالم الوجود دنياً وآخرةً، لا رادّ لقضائه.

وبذلك أشار في قوله تعالى: ( قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاّ مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ) (١) ، فأَوعدهم بالخلود، لكنّ الوعيدَ ليس لِزاماً عليه مادام الله يفعل ما يشاء وِفق حِكمته وعِلمه القديم.

لكنّه تعالى أكّد وعده بشأن السُعداء أنْ سيدوم لهم النعيم ولو تغيّرت المشيئة بالبقاء في الجنّة فرضاً؛ ليطمئنّوا على ثقةٍ من دوام عنايته تعالى بهم أبداً.

فهؤلاء وأولئك خالدونَ حيث هم، مادامت السماوات والأرض - وهو تعبير يُلقي في الذهن صفةَ الدوام والاستمرار حسب الاستعمال الدارج - (٢) وقد علّق السياق هذا الاستمرار بمشيئة الله في كلتا الحالتَين، وكلّ قرارٍ وكلّ سُنّةٍ معلّقة بمشيئة الله في النهاية، فمشيئة الله هي التي اقتضت السُنّة وليست مقيّدةً بها ولا محصورةً فيها، إنّما هي طليقة تُبدّل هذه السنّة حين يشاء الله: ( إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ) .

وزاد السياق في حالة الذين سُعدوا ما يُطمئنّهم إلى أنّ مشيئة الله اقتضت أن يكون عطاؤه لهم غير مقطوع، حتّى على فرض تبديل إقامتهم في الجنّة، وهو مطلقُ فرضٍ يُذكر لتقرير حرّيّة المشيئة بعد ما يوهم التقييد (٣) .

* * *

وقوله تعالى: ( لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاّ الْمَوْتَةَ الأُولَى ) (٤) (إلاّ) هو بمعنى (سوى) مثلها في قوله: ( وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاّ مَا قَدْ سَلَفَ ) (٥) ، يريد سِوى ما سلف في الجاهليّة قبل النهي، فالمعنى في الآية الأُولى: أنّهم لا يذوقون الموت بعد موتهم

____________________

(١) الأنعام ٦: ١٢٨.

(٢) وللتعبيرات ظِلال، وظِلّ هذا التعبير هنا هو المقصود.

(٣) راجع: في ظِلال القرآن، المجلّد ٤، ص ٦٢٧، ج ١٢، ص ١٤١.

(٤) الدخان ٤٤: ٥٦.

(٥) النساء ٤: ٢٢.

٣٠١

الأَوّل (١) .

وقوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً ) (٢) ، قالوا: ليس الودّ ممّا يُجعل، وإنّما هو شيءٌ يحصل في القلب، فلا يُقال: يَجعل لك حبّاً، بل يُقال: يُحبّك.

والجواب: أنّ المراد جعل الودّ أي خَلقه في قلوب المؤمنين. قال ابن قتيبة: فإنّه ليس على تأوّلهم، وإنّما أراد أنّه يَجعل لهم في قلوب العباد محبّةً، فأنت ترى المـُخلص المجتهد مُحبَّبا إلى البرّ والفاجر، مَهيباً مذكوراً بالجميل، ونحوه قوله تعالى في قصّة موسى (عليه السلام): ( وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي ) (٣) ، لم يُرِد في هذا الموضع أنّي أحببتك وإن كان يُحبّه، وإنّما أراد أنّه حبّبه إلى القلوب وقرّبه من النفوس، فكان ذلك سبباً لنجاته من فرعون، حتّى استحياه في الوقت الذي كان يقتل فيه وِلدَان بني إسرائيل (٤) .

* * *

وقالوا: في قوله تعالى: ( وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً ) (٥) ، السُبات هو النوم، فكيف يُجعل نومنا نوماً؟

لكن السُبات هاهنا ليس بمعنى النوم، بل هو بمعنى الراحة، أي جعلنا النوم راحةً لأبدانكم، ومنه قيل: يوم السبت؛ لأنّ الخلقَ اجتمع في يوم الجمعة، وكان الفراغ منه يوم السبت، فقيل لبني إسرائيل: استريحوا في هذا اليوم ولا تعملوا شيئاً، فسُمّي يوم السبت أي يوم الراحة.

وأصل السبت التمدّد، ومَن تمدّد فقد استراح، ومنه قيل: رجل مسبوت، ويقال: سَبَتَت المرأة شعرها: إذا نقضته من العَقصِ وأرسلته، قال أبو وَجْزة السعدي:

وإِنْ سَبَّتَتهُ مالَ جَثلاً كأنّه

سَدى واِثلاتٍ مِن نَواسِجِ خَثعَما (٦)

____________________

(١) تأويل مشكل القرآن، ص ٧٨.

(٢) مريم ١٩: ٩٦.

(٣) طه ٢٠: ٣٩.

(٤) تأويل مشكل القرآن، ص ٧٩.

(٥) النبأ ٧٨: ٩.

(٦) الجَثل هنا بمعنى: المنثور المتفتّت، من جثلته الريح: إذا استخفته فنثرته، والسَدى: خيوط تنسجها النساء بالمغزل. والواثلات: الناسجات، تأويل مشكل القرآن، ص ٨٠.

٣٠٢

مطاعن ردّ عليها قطب الدِّين الراوندي (١)

عقد في كتابه القيّم (الخرائج والجرائح) باباً ردّ فيه على مطاعن المخالفينَ في القرآن (٢) ، وهو بحثٌ موجزٌ لطيفٌ وتحقيقٌ وافٍ دقيقٌ ذو فوائد جمّة نُورده هنا بالمناسبة:

قالوا: إنّ في القرآن تفاوتاً، كقوله: ( لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ ) (٣) ، في هذا تكرير بغير فائدة فيه؛ لأنّ قوله (قوم من قوم) يُغني عن قوله: (نساءٌ من نساء)، فالنساء يَدخُلنَ في قوم، يُقال: هؤلاء قوم فلان، للرجال والنساء من عشيرته!

الجواب: إنّ (قوم) لا يقع في حقيقة اللغة إلاّ على الرجال، ولا يُقال للنساء التي ليس فيهنّ رجل: هؤلاء قوم فلان، وإنّما سُمّي الرجال قوماً؛ لأنّهم القائمون بالأمور عند الشدائد، ويدلّ عليه قول زهير:

وما أَدري وَسَوف إِخالُ أدري

أَقَومٌ آلُ حِصنٍ أم نساءُ

وقالوا: في قوله تعالى: ( الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي ) (٤) تفاوت (أي تهافت) كيف تكون العيون في غطاءٍ عن الذِكر؟ وإنّما المناسب أن تكون الأسماع في غطاءٍ عن الذِكر!

الجواب: إنّ الله أراد بذلك عُميان القلوب، وعَمى القلب كناية عن عدم وعي الذِكر، يقال: عَمى قلبُ فلان، وفلان أعمى القلب، إذا لم يفهم ولم يعِ ما يُلقى إليه من الذِكر الحكيم؛ ومِن ثَمّ جاء تعقيب الآية بقوله: ( وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً ) .

قال تعالى: ( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا

____________________

(١) هو أبو الحسن سعيد بن هبة الله المشتهر بالقطب الراوندي، نِسبَةً إلى راوند من قُرى كاشان قائمة إلى اليوم، عالِم مبتحّر ومحدّث فقيه من أعاظم علماء الإماميّة في القرن السادس (توفي سنة ٥٧٣)، هو من مشايخ ابن شهر آشوب وغيره، من أكابر أعيان العلماء في وقته له مصنّفات جليلة، منها: الخرائج والجرائح، وقصص الأنبياء، ولبّ اللباب، وشرح نهج البلاغة، وبحقٍّ أَسماه (منهاج البراعة).

(٢) أورده بكامله المجلسي في البحار، ج ٨٩، ص ١٤١ - ١٤٦.

(٣) الحجرات ٤٩: ١١.

(٤) الكهف ١٨: ١٠١.

٣٠٣

فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) (١) .

فأعيُن القلب إذا كانت في غطاء فإنّ الآذان حينذاك لا تسمع والأبصار لا تُبصر؛ لأنّ القلب لا يعي.

وبَصَرُ القلوب وعَماها هو المؤثّر في باب الدِّين، إمّا وعياً أو غلقاً، قال تعالى: ( وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا ) (٢) ، والأكنّة: الأغطية.

فكان غِطاء التَعامي في القلوب هو العامل المؤثّر في عدم سماع الآذان وعدم إبصار العيون.

وقالوا: في قوله تعالى: ( أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ) : (٣) ما نسبة الكتاب من عِلم الغيب؟ ثُمّ إنّ قريش كانوا أُمّيّين فكيف فَرَضَهم يكتبون؟

الجواب: إنّ معنى الكتابة هنا الحُكم، يُريد: أَعندهم عِلم الغيب فهم يَحكمون، ومِثله قول الجعدي:

ومالَ الولاءُ بِالبَلاء فمِلتُم

وما ذاك حكمُ اللّه إذ هو يكتب

(أي يحكم)، ومِثله قوله الآخرعلى ما استشهد به الجوهري في الصحاح:

يا ابنةَ عمّي كتابُ الله أَخرجني

عنكم وهلْ أَمنَعَنَّ الله ما فَعَلا

وقال ابن الأعرابي: الكاتب عندهم، العالم، قال تعالى: ( أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ) أي يعلمون (٤) .

وقالوا: في قوله تعالى: ( وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ * كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ * الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) (٥) كيف هذا التنظير ولا تناسب بين الكلامَينِ، ولا وجه وشبه لهذا التشبيه؟!

وهكذا في قوله تعالى: ( لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ ) (٦) ، ما وجه هذا التشبيه؟

____________________

(١) الحجّ ٢٢: ٤٦.

(٢) الأنعام ٦: ٢٥.

(٣) الطور ٥٢: ٤١، القلم ٦٨: ٤٧.

(٤) راجع: الصحاح للجوهري، مادّة (كَتَب)، ج١، ص٢٠٨.

(٥) الحجر ١٥: ٨٩ - ٩١.

(٦) الأنفال ٨: ٤ - ٥.

٣٠٤

وكذا قالوا: في قوله تعالى: ( وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ ) (١) .

الجواب: إنّ القرآن نزل على لسان العرب، وفيه حذف وإيماء، ووحي وإشارة، فقوله: ( أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ ) فيه حَذفٌ، كأنّه قال: أنا النذير المبين عذاباً، مِثل ما أنزل على المـُقتسمين، فحُذف العذاب؛ إذ كان الإنذار يدلّ عليه، كقوله في موضعٍ: ( أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ) (٢) .

وأمّا قوله: فإنّ المسلمين يوم بدر اختلفوا في الأنفال، وجادل كثيرٌ منهم رسولَ اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) فيما فعله في الأنفال، فأنزل اللّه سبحانه: ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ (يجعلها لمن يشاء) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ (أي فرّقوها بينكم على السواء) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ (فيما بعدُ) إ ِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) (٣) .

ثُمّ يَصِف المؤمنين، وبعده يقول: ( كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ ) ، يعني: إنّ كراهتهم الآن في الغنائم ككراهتهم يومذاك في الخروج معك.

وأمّا قوله: ( وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * كَمَا أَرْسَلْنَا... ) ، فإنّه أراد: ولأُتّم نعمتي عليكم كإرسالي فيكم رسولاً أنعمتُ به عليكُم يُبيّنُ لكم... (٤) .

* * *

سألوا: عن قوله تعالى: ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ) (٥) ، وهم لمْ يقولوا بذلك؟!

الجواب: إنّها نسبة تشريفيّة تفخيماً لمقامهما وتعظيماً لشأنهما لديه تعالى: فإذ كان العبد مُنعّماً بتربيةٍ صالحة ومورد عنايةٍ بالغةٍ منه تعالى شاع في الأوائل نسبةُ بنوّته له سبحانه، كما هي العادة عند العرب في المتربّي تربيةً صالحةً نسبته إلى المربّي نسبة الوَلَد إلى والده الكريم.

____________________

(١) البقرة ٢ ١٥٠ و١٥١.

(٢) فصّلت ٤١: ١٣.

(٣) الأنفال ٨: ١.

(٤) الخرائج والجرائح، ج٣، ص١٠١٠ - ١٠١٣ بتصرّف وتوضيح.

(٥) التوبة ٩: ٣٠.

٣٠٥

قالوا: الآباء ثلاثة: أبٌ ولَّدك (١) ، وأبٌ زوَّجك، وأبٌ علَّمك.

وعن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بشأن مُحمّد بن أبي بكر: (مُحمّدٌ ابني من صُلب أبي بكر)، أي تربيتي وخاصّتي.

ويقال: لكلّ منتسب إلى شيء: ابنه، كما في أبناء الدنيا، وأبناء بلد كذا، وهكذا أبناء الإسلام وأبناء الحمية ونحو ذلك ممّا هو متعارف.

وقال سُحَيم بن وثيل الرياحي:

أَنا ابنُ جَلا وَطَلاّعِ الثنايا

مَتى أَضعِ العِمامَةَ تَعرِفوني

ينتسب إلى جَلاء الأُمور والكشف عن خباياها، والتطلّع على الجبال والتلال..

وفي خطبة الإمام السجّاد (عليه السلام) بجامع دمشق: (أيها النّاس، أنا ابنُ مكّة ومِنى، أنا ابنُ زمزم والصَّفا...) (٢) .

وكذا فيما حكاه اللّه تعالى عن اليهود والنصارى في قولهم: ( نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ) (٣) ، أي أخصّاؤه والمتقرّبون لديه.

قال الراوندي: وإنّما خصُّوا عُزَيراً بكونه ابن اللّه؛ لأنّه هو الذي أعاد عليهم الحياة الدينيّة بعد خلاصهم من أَسر بابل، وكَتَب لهم التوراة بعد ضياعِها في كارثة بخت نصّر، فكان موضعه لدى اليهود موضع نبيّ الله موسى (عليه السلام)، ولولاه لضاعت شريعة اليهود وذهبت معالم إسرائيل أَدراج الرياح.

وعُزَير هذا هو: عَزْرا بن سِرايا بن عَزَرْيا بن حِلْقِيّا (٤) ، وقد صغّرته العرب وعرّبته على عادتهم في تعريب الأسماء وتغييرها، كما غيّروا (يسوع) بعيسى.

كان (عَزرا) معاصراً للمـَلِك الهخامنشي (أرْتَ خَشْتَر = اردشير أَوّل) المـُلقّب بـ (دراز دست) والذي تَزعّم المـُلك بعد أبيه (خشيارشا) سنة ٤٦٥ ق. م (٥) ، وفي السنة السابعة لمـُلكه (٤٥٨ ق. م) بعث الكاتب المضطلع (عَزرا) مع جماعة من اليهود، الذي أُطلقوا من ذي قبلُ مِن أسر بابل، إلى (أورشليم) وجهّزهم بالمال والعتاد، وأَمَره أنْ يَعمر

____________________

(١) وَلَّدَه - بتشديد اللام - وبالتخفيف: كان سبب ولادته.

(٢) بحار الأنوار، ج٤٥، ص١٣٨.

(٣) المائدة ٥: ١٨.

(٤) راجع: سِفر عَزرا، إصحاح ٧.

(٥) تأريخ إيران لحسن بيرنيا، ص٩٩.

٣٠٦

البيت ويُحيي شريعة اللّه من جديد، وأرسل معه كتاباً فيه الدُستور الكامل لإعادة شريعة بني إسرائيل وإحياء مراسيم شعائرهم، وأنْ يُعيّن حُكّاماً وقُضاةً، ويَعمر البلاد حسب شريعة السماء (١) .

جاء في دائرة المعارف اليهوديّة الإنجليزيّة (طبعة ١٩٠٣ م) أنّ عصر عَزرا هو ربيع التأريخ للأُمّة اليهوديّة الذي تفتّحت فيه أزهاره وعَبِق شذا أوراده، وأنّه جديرٌ بأن يكون هو ناشر الشريعة لو لم يكن جاء بها موسى، فقد كانت نُسيت ولكن عَزرا أعادها وأحياها (٢) .

ولذلك يقول (عَزرا) شاكراً للّه تعالى: (مُبارك الربّ إله آبائنا الذي جَعل مِثل هذا في قلب المـَلِك؛ لأجل تزيين بيت الربّ الذي في اُورشليم، وقد بَسط عليَّ رحمةً أمام المـَلِك ومُشيريه وأمام جميع رؤساء المـَلِك المـُقتدرين...) (٣) ، الأمر الذي جَعَل من (عَزرا) مكانته الشامخة في بني إسرائيل، ولقّبوه بابن اللّه، تكريماً لمقامه الرفيع.

وجُملةُ القول: أنّ اليهود وما زالوا يُقدّسون (عُزَيراً) هذا، وأدّى هذا التقديس إلى أنْ يُطلقوا عليه لقب (ابن اللّه) تكريماً، ولعلّه وفي الأدوار اللاحقة زَعَم بعضهم أنّه لقبٌ حقيقي، كما نُقل عن فيلسوفهم (فيلو) - وهو قريب من فلسفة وَثَنِيي الهند التي هي أصل عقيدة النصارى - كان يهوديّاً من الإسكندريّة ومعاصراً للمسيح (عليه السلام)، كان يقول: إنّ لله ابناً هو كلمتُه التي خَلَق منها الأشياء، ومنه اتّخذ النصارى هذا اللقب للمسيح (عليه السلام).

قال الشيخ مُحمّد عَبده: فعلى هذا لا يُبعد أن يكون بعض المتقدّمين على عصر البعثة المـُحمّديّة قد قالوا: إنّ عُزيراً ابن اللّه بهذا المعنى (٤) .

قال الطبرسي: قيل: وإنّما قال ذلك جماعة من قَبلُ وقد انقرضوا (٥) ، وهكذا قال الراوندي: قالت طائفة من اليهود: عُزير ابن اللّه، ولم يَقل ذلك كلّ اليهود، وهذا خُصوصٌ خَرج مَخرج العُموم (٦) .

____________________

(١) راجع: سِفر عَزرا، إصحاح ٧/٨ - ٢٦.

(٢) تفسير المنار، ج١٠، ص٣٢٢.

(٣) سِفر عزرا، إصحاح ٧/٧ - ٨.

(٤) تفسير المنار، ج١٠، ص٣٢٦ و٣٢٨.

(٥) مجمع البيان، ج٥، ص٢٣.

(٦) الخرائج والجرائح، ج٣، ص١٠١٤.

٣٠٧

وقد رُوي عن ابن عبّاس قال: أتى رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) سلام بن مشكم ونعمان بن أوفى وأبو أنس وشاس بن قيس ومالك بن الصيف - من وجوه يهود المدينة - فقالوا: كيف نَتّبِعُك وقد تركتَ قبلتنا ولا ترى عُزيراً ابناً للّه وقد أعاد علينا التوراة بعد الاندراس وأحيى شريعتنا بعد الانطماس؟! (١) .

ومع ذلك: فإنّ القرآن ينسب إليهم هذا القول تعنّتاً وجدلاً منهم، وليس على حقيقته: ( ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ ) (٢) ؛ حيث نَسبوا إلى اللّه البنات وزعموا أنّ الملائكة إناثاً، قولاً بلا هَوادَة، وعقيدةً من غير مستند.

قال مُحمّد عَبده: وقد جرى أُسلوب القرآن على أنْ ينسب إلى أُمّةٍ أو جماعةٍ أقوالاً وأفعالاً مُستندة إليهم في جملتهم، وهي ممّا صدر عن بعضهم، والمراد من هذا الأسلوب تقرير أنّ الأُمّة تُعدّ متكافلة في شؤونها العامّة، وأنّ ما يفعله بعض الفِرَق أو الجماعات أو الزعماء يكون له تأثير في جملتها، وأنّ المـُنكَر الذي يَفعله بعضهم إذا لم يَنكر عليه جمهورُهم ويزيلوه يُؤاخذون به كلّهم، قال تعالى: ( وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ) (٣) ، وهذا مِن سُنَن الاجتماع البشري أنّ المصائب والرزايا التي تحلّ بالأُمَم بفشوّ المفاسد والرذائل فيها لا تختصّ باللذين تلبّسوا بتلك المفاسد وحدهم، كما وأنّ الأَوبئة التي تحدث بكثرة الأقذار في الشعب وغير ذلك من الإسراف في الشهوات تكون عامّةً أيضاً (٤) .

* * *

قال الراوندي وسألوا عن قوله تعالى: ( فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ ) (٥) .

قالوا: كيف جَمَع اللّه بينه وبين قوله: ( لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ ) ؟ (٦) وهذا خلاف الأَوّل؛ لأنّه قال أَوّلاً: (نبذناه) مطلقاً، ثُمّ قال: (لولا أنْ تَداركه لنُبذ بالعَراء) فجَعَله شرطاً!

____________________

(١) جاء ذلك في حديثَين عن ابن عبّاس، نقلها الطبري في التفسير، ج١٠، ص٧٨.

(٢) التوبة ٩: ٣٠.

(٣) الأنفال ٨: ٢٥.

(٤) تفسير المنار، ج١٠، ص٣٢٦ - ٣٢٧.

(٥) الصافّات ٣٧: ١٤٥.

(٦) القلم ٦٨: ٤٩.

٣٠٨

الجواب: معنى ذلك: لولا أنّا رحمناه بإجابة دعائه لنَبذناه حين نبذناه بالعَراء مذموماً... فالآية الثانية لا تنفي النبذ بل تنفي النبذ في حالة كونه مذموماً، فلا تنافي بين الآيتَين.

قال: وسألوا: عن قوله تعالى: ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ ) (١) ، في حين أنّ اسم أبيه في التوراة تارح، قال: والصحيح أنّ آزر ما كان أباً لإبراهيم.

وقد ذكرنا في موضعه أنّ آزر كان عمّاً له، ويقال: إنّه تزوّج بأُمّ إبراهيم بعد موت أبيه تارح، فكان إبراهيم ربيبه وابن أخيه، واستعمال الأب في مثل هذا متعارف.

قال: وسألوا: عن قوله: ( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً ) ، ثُمّ قال: ( قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا ) (٢) ، وهذا يدلّ على أنّ غيره لا يعلم بمدّة لبثِهم، في حين أنّه أَعلَمَنا بذلك في الآية الأُولى!

الجواب: أنّ هذا ردّ على اختلافهم في مدّة اللبث حيث لا عِلم لهم بذلك؛ ولذلك بيّنها وأَعلَمَهم بها، وهذا يدلّ على حصر العلم بذلك على اللّه لا غيره، (وسوف نذكر أنّ الآية نَقلٌ لقولهم، فهو مَقول لهم وليس منه تعالى).

قال: وسألوا: عن قوله تعالى: ( يَاأُخْتَ هَارُونَ ) (٣) ، ولم يكن لها أخ بهذا الاسم!

وقد استوفينا الكلام في ذلك، وأنّه لم يُرِد الأُخوة في النَسب، بل الانتساب إلى قبيل هارون؛ حيث كانت من أحفاده، كما يقال: يا أخا كليب، وهو متعارف.

قال: وسألوا: عن التَّكرار في سورَتي الرحمان والمـُرسلات، وكذا التَّكرار في بعض القِصَص التي جاءت في القرآن، قالوا: أليس التكرار يُخلّ بفصاحة الكلام؟

لكن التكرير، سواء أكان في المعنى، نحو: أَطعني ولا تَعصني، أم في اللفظ والمعنى معاً نحو: عجّل عجّل، فإنّما هو للتأكيد والمبالغة، وقد يزيد تزييناً في الكلام وروعةً بالغة، وإنّما ذمّ أهل البلاغة التكرار الواقع فضلاً في الكلام ممّا لا فائدة فيه، فهو من اللغو الذي يتحاشاه الكلام البليغ.

____________________

(١) الأنعام ٦: ٧٤.

(٢) الكهف ١٨: ٢٥ و٢٦.

(٣) مريم ١٩: ٢٨.

٣٠٩

انتهى ما أَردنا نَقلَه من كتاب الخرائج والجرائح للراوندي، وربّما عَمدنا إلى النقل بالمعنى أو مع يسيرٍ مِن إضافات أو تغييرات للاستزادة من الإيضاح (١) .

أمّا التَّكرار في القِصَص فقد ذَكَرنا: (٢) أنّها في كلّ مرّة تهدف إلى نكتةٍ غير التي جاءت في غيرها؛ ومِن ثَمّ فإنّها ليست بتكرار في حقيقتها.

____________________

(١) الخرائج والجرائح، ج٣، ص١٠١٤ - ١٠١٧، وراجع: البحار، ج٨٩، ص١٤١ - ١٤٦.

(٢) راجع: التمهيد، ج٥.

٣١٠

الباب الرابع

هل هناك في القرآن مُخالفات مع العِلم أو التأريخ أو الأدب؟

حاشاه:

( قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ ) الزمر: ٢٨

( كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاّ كَذِباً ) الكهف: ٥

( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ) البقرة: ١٧٦

٣١١

مُخالفات علميّة؟!

هل هناك في القرآن ما يُخالف العِلم؟

كلاّ ( مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنُّونَ ) (١) .

زعموا أنّ في القرآن ما يُخالف العِلم واتّخذوه شاهداً على أنّه ليس من كلام اللّه العالم بحقائق الأُمور ( لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ ) (٢) .

ولنضع اليد على مواردٍ زَعَموا فيها الخلاف:

( وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ)

قالوا: ومِن الأحياء ما ليس له زوج كالخلايا والحيوانات الابتدائيّة والدِيدان تتكاثر من غير ما حصول لِقاح جنسي، وهكذا بعض الثِّمار تنعقد من غير لِقاح ومن غير أن يكون فيها ذكر وأُنثى!

لكنّها شُبهة فارغة وحُسبان عقيم:

____________________

(١) الجاثية ٤٥: ٢٤.

(٢) النساء ٤: ١٦٦.

٣١٢

أَوّلاً: ليست في الآية صَراحة بمسألة الزوجيّة مِن ذكرٍ وأُنثى (اللِقاح الجنسي) حسب المـُتبادر إلى الأذهان، فلعلّ المـُراد: التزاوج الصنفي أي المتعدّد من كلّ صنف، كما في قوله تعالى: ( فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ ) (١) أي صِنفان كنايةً عن التعدّد مِن أصناف مُتماثلة؛ ذلك لأنّ الفاكهة ليس فيها ذكر وأُنثى وليس فيها لِقاح، إنّما اللِقاح في البذرة لا الثمرة.

ومِثله قوله تعالى: ( وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) (٢) ، أي صنفَين متماثلَين، والثمرة نفسها ليس فيها تزاوج جنسي.

وكذلك الآية: ( وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ) (٣) لعلّها كأُختيها أُريد بها الصنفان مِن كلّ نوع، كنايةً عن التماثل في تعدّد الأشكال والألوان، كما في قوله سبحانه: ( وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ) (٤) أي متماثلاً وغير متماثل.

وإطلاق لفظ التزاوج وإرادة التماثل والتشاكل في الصنف أو النوع غير عزيز، قال تعالى: ( أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ) (٥) أي مِن كلّ نوعٍ متشاكل، وقوله: ( وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى ) (٦) ، قال الراغب: أي أنواعاً متشابهةً، وقوله: ( ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ) (٧) أي أصناف.

وقد يُراد بالزوج القَرين أي المـُصاحِب المـُرافِق في أمرٍ له شأن، قال الراغب: يُقال لكلّ قرينَين في الحيوانات المتزاوجة وغيرها: زوج، ولكلّ ما يقترن بآخر مماثلاً له أو مضادّاً: زوج، قال تعالى: ( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ ) (٨) أي قُرناءهم ممّن تَبِعوهم، ( إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ ) (٩) أي أشباهاً وقُرناء، ( وَكُنْتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاثَةً ) (١٠) أي قُرناء ثلاثة، وقوله تعالى: ( وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ) (١١) فقد قيل في معناه: قُرن كلّ شيعة بمَن شايعهم (١٢) .

____________________

(١) الرحمان ٥٥: ٥٢.                                   (٢) الرعد ١٣: ٣.

(٣) الذاريات ٥١: ٤٩.                                (٤) الأنعام ٦: ١٤١.

(٥) الشعراء ٢٦: ٧.                                                (٦) طه ٢٠: ٥٣.

(٧) الزمر ٣٩: ٦.                                       (٨) الصافّات ٣٧: ٢٢.

(٩) الحجر ١٥: ٨٨.                                    (١٠) الواقعة ٥٦: ٧.

(١١) التكوير ٨١: ٧.                                   (١٢) المفردات، ص٢١٥ و٢١٦.

٣١٣

وهكذا ذَكر المفسّرون القُدامى وهم أعرف وأقرب عهداً بنزول القرآن وبمواقع الكلام الذي خاطب به العرب آنذاك.

قال الحسن - في قوله تعالى: ( وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ) -: السماء زَوجٌ والأرض زَوجٌ، والشتاء زَوجٌ والصيف زَوجُ، والليل زَوجُ والنهار زَوجُ، حتّى يصير إلى اللّه الفرد الذي لا يُشبهه شيء (١) .

وعن قتادة - في قوله تعالى: ( قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) - (٢) قال: مِن كلّ صنفٍ اثنين.

قال الطبري: وقال بعض أهل العِلم بكلام العرب مِن الكوفيّين: الزوجان - في كلام العرب - الاثنان، قال: ويُقال: عليه زَوجا نِعَالٍ إذا كانت عليه نَعْلان، ولا يقال: عليه زَوج نِعالٍ، وكذلك: عنده زَوجا حَمام، وعليه زَوجا قيود، قال: أَلا تسمع إلى قوله تعالى: ( وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى‏ ) (٣) فإنّما هما اثنان.

قال: وقال بعض البصريّين من أهل العربيّة - في قوله: ( قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) -: جَعَل الزوجَين الضربَين الذُكور والإناث، قال: وزَعَم يونس أنّ قول الشاعر:

وأنت امرؤٌ تَعدو على كلِّ غرّةٍ

فتُخطي فيها مرّةً وتصيبُ (٤)

يعني به (بالمرء) الذئب، وهذا أشذّ من ذلك (أي إطلاق المرء على الذئب أشذّ من إطلاق الزوج على كلّ ذي صنف).

وقال آخر: الزوج اللون، وكلّ ضَربٍ يُدعى لوناً، واستشهد ببيت الأعشى:

وكلُّ زوجٍ مِن الديباجِ يَلبَسُهُ

أَبو قُدامَة محبوّاً بِذاكَ مَعاً (٥)

وقال لبيد:

وذي بَهجةٍ كَنَّ المقانِبُ صوتَه

وزيّنه أزواج نُورٍ مشرَّب (٦)

____________________

(١) جامع البيان، ج١٢، ص٢٦ ذيل الآية هود ١١: ٤٠.

(٢) هود ١١: ٤٠.

(٣) النجم ٥٣: ٤٥.

(٤) خطاب إلى الذئب - في استعارةٍ تخييليّة - بأنّه يحمل على ما تغافل من صيدٍ فقد يُصيبه وقد لا يُصبيه.

(٥) أي وكلُّ صنفٍ من الديباج - الثوب المنسوج من الحرير - يلبسه ويحتبي به.

(٦) جامع البيان، ج١٢، ص٢٥ - ٢٦، ومعنى البيت: أنّ أصوات المقانِب وهي جماعة الخيل تجتمع للغارة، كَنّ المقانب: =

٣١٤

قال ابن منظور: والزوج، الصنف من كلّ شيء. وفي التنزيل ( وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ) (١) ، قيل: مِن كلِّ لونٍ أو ضربٍ حَسِنٍ من النبات، وفي التهذيب: والزوج اللون، وقوله تعالى: ( وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ) (٢) معناه: ألوان وأنواع من العذاب، ووصفه بالأزواج؛ لأنّه عنى به الأنواع من العذاب والأصناف منه (٣) .

وأمّا لفظة (اثنين) فلا يُراد بها العدد وإنّما هو التكثّر مَحضاً، كما في قوله تعالى: ( ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ ) (٤) أي كرّةً بعد أُخرى، وهكذا، وجاءت لفظة (اثنين) تأكيداً على هذا المعنى، كما في قوله تعالى: ( لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ ) (٥) - خطاباً مع المشركين - أي لا تتّخذوا مع اللّه آلهةً أُخرى، ومِن ثَمَّ عقّبه بقوله: ( إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ) ، فهو كقوله تعالى: ( لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ ) (٦) أي آلهةً أُخرى كما في قوله: ( وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً ) (٧) فهو نهي عن التعدّد في الآلهة، صِيغت في قالب التثنية.

قال أبو عليّ: الزوجان - في قوله تعالى: ( مِن كُلّ زَوْجَيْنِ... ) - يُراد به الشياع من جنسه ولا يُراد عدد الاثنين، كما قال الشاعر:

فاعمد لِما يَعلو فَما لك بالذي

لا تَستطيع مِن الأُمورِ يَدانِ

يريد: الأيدي والقُوى الكثيرة كي يستطيع التغلّب على الأُمور.

قال: ويُبيّن هذا المعنى أيضاً قول الفرزدق:

وكلُّ رَفيقَي كُلِّ رَحلٍ وَإِن هُما

تَعاطى القَنا قَوماهُما أَخوانِ (٨)

إذ رفيقَان اثنان لا يكونان رفيقَي كلِّ رَحل، وإنّما يريد الرُفقاء كلّ واحد مع صاحبه يكونان رفيقَين (٩) .

____________________

= سترت أي فاقت صوته، وكان ممّا يزيّنه الأزواج من النور جمع نَوار وهي البقرة تنفر من الفحل، والمشرّب: ما ارتوى من الحيوان.

(١) الحجّ ٢٢: ٥.

(٢) ص ٣٨: ٥٨.

(٣) لسان العرب، ج٢، ص٢٩٣.

(٤) الملك ٦٧: ٤.

(٥) النحل ١٦: ٥١.

(٦) الإسراء ١٧: ٣٩.

(٧) مريم ١٩: ٨١.

(٨) تعاطى، مخفّف تَعاطَيا، حذف اللام للضرورة، جامع الشواهد، ص٣٢٤.

(٩) راجع: مجمع البيان، ج٥، ص١٦١.

٣١٥

وعليه، فالزوجان في الآية لعلّه أُريد بهما الصنفان المتماثلان أو المتقابلان - كما فَهِمَه المفسّرون القُدامى - فلا موضع فيها للاعتراض كما زَعَمَه الزاعم.

وهكذا على التفسير الآخر، قال به بعض القُدامى، قالوا بالتركيب المزدوج في ذوات الأشياء حسبما قرّرته الفلسفة: إنّ كلّ شيءٍ مُتركّب في ماهيّته من جوهرٍ وعَرضٍ وفي وجوده مِن مادّة وصورة، وهكذا.

قال الراغب - في قوله تعالى: ( سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ ) (١) ، وقوله: ( وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ) (٢) -: تنبيهٌ أنّ الأشياء كلّها مركّبة من جوهرٍ وعرضٍ ومادّةٍ وصورة، وأنْ لا شيء يتعرّى مِن تركيب يقتضي كونه مصنوعاً وأنّه لابدّ له مِن صانع؛ تنبيهاً أنّه تعالى هو الفرد.

وقوله: ( خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ) ، بيّن أنّ كلّ ما في العالم زوج مِن حيث أنّ له ضدّاً أو مِثلاً أو تركيباً مّا، بل لا ينفكّ بوجهٍ من تركيب، قال: وإنّما ذَكَرها هنا زوجَين؛ تنبيهاً أنّ الشيء وإن لم يكن له ضدّ ولا مِثل فإنّه لا ينفكّ من تركيب جوهرٍ وعرض، وذلك زوجان (٣) .

ثانياً: فلنفرض إرادة اللِقاح الجنسي بين ذكرٍ وأُنثى في عامّة الأشياء، كما فَهِمَه المتأخّرون؛ وليكون ذلك دليلاً على الإعجاز العلمي في القرآن، فلا دليل على عدم الاطّراد حسبما زَعَمه المعترض. فإنّ اللقاح التناسلي ظاهرة طبيعيّة مطّردة في عامّة الأحياء نباتها وحيوانها وحتّى الدِيدان والحيوانات الأَوّليّة بصورةٍ عامّة على ما أثبته علم الأحياء.

قال المراغي - في قوله تعالى: ( وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) (٤) -: أي وجَعَل فيها من كلّ أصناف الثمرات زوجَين اثنين ذكراً وأُنثى حيت تكوّنها، فقد أثبت العلم حديثاً أنّ الشجر والزرع لا يُولّدان الثمر والحبّ إلاّ مِن اثنين ذكرٍ وأُنثى، وعضو التذكير قد يكون في شجرة وعضو التأنيث في شجرة أُخرى كالنَّخل، وما كان العُضوَان فيه في شجرة واحدة، إمّا أن يكونا معاً في زهرةٍ واحدة كالقُطن، وإمّا أن يكون كلّ منهما في زهرة

____________________

(١) يس ٣٦: ٣٦.

(٢) الذاريات ٥١: ٤٩.

(٣) المفردات، ص٢١٦.

(٤) الرعد ١٣: ٣.

٣١٦

وحدها كالقَرع مثلاً (١) ، وهكذا ذَكَر الطنطاوي في تفسيره (٢) وغيره.

قال العلاّمة الطباطبائي: ما ذكروه وإن كان من الحقائق العلميّة التي لا غُبار عليها إلاّ أنّه لا يُساعد عليه ظاهر الآية من سورة الرعد، نعم يتناسب مع ما في سورة يس من قوله تعالى: ( سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا.... ) والآية ١٠ من سورة لقمان، والآية ٤٩ من سورة الذاريات (٣) .

قال سيّد قطب: وهذه حقيقة عجيبة تكشف عن قاعدة الخَلق في هذا الأرض - وربّما في هذا الكون؛ إذ أنّ التعبير لا يُخصّص الأرض - قاعدة الزوجيّة في الخَلق، وهي ظاهرة في الأحياء. ولكن كلمة (شيء) تشمل غير الأحياء أيضاً، والتعبير يُقرّر أنّ الأشياء كالأحياء مخلوقة على أساس الزوجيّة.

وحين نتذكّر أنّ هذا النصّ عَرفه البشر مُنذ أربعة عشر قَرناً وأنّ فكرة عُموم الزوجيّة - حتّى في الأحياء - لم تكن معروفة حينذاك فضلاً على عُموم الزوجيّة في كلّ شيء، حين نتذكّر هذا نَجدُنا أمام أمرٍ عجيبٍ عظيم، وهو يُطلعنا على الحقائق الكونيّة في هذه الصورة العجيبة المبكّرة كلّ التبكير!

كما أنّ هذا النصّ يَجعلنا نُرجّح أنّ البحوث العلميّة سائرة في طريق الوصول إلى الحقيقة، وهي تكاد تُقرّر أنّ بناء الكون كلّه يرجع إلى الذرّة، وأنّ الذرّة مؤلّفة من زوج مِن الكهرباء - موجب وسالب -. فقد تكون تلك البحوث إذن على طريق الحقيقة في ضوء هذا النصّ العجيب (٤) .

وجاء في مجلّة عالَم الفِكر الكويتيّة العدد الثالث (ج١، ص١١٤): ممّا يَستوقف الذهن إشارة القرآن أنّ أصل الكائنات جميعاً تتكوّن من زوجَين اثنين... وقد اكتشف العلم الحديث وحدة التركيب الذرّي للكائنات على اختلافها وأنّ الذرّة الواحدة تتكوّن من إلكترون وبروتون، أي من زوجَين... (٥)

____________________

(١) تفسير المراغي، ج١٣، ص٦٦.

(٢) تفسير الجواهر للطنطاوي، ج٧، ص٨٠.

(٣) تفسير الميزان، ج١١، ص٣٢١.

(٤) في ظِلال القرآن، ج٢٧، ص٢٤، مجلّد ٧، ص٥٨٧ - ٥٨٨.

(٥) بنقل مُغنية في تفسيره المبين، ص٦٩٥ ذيل الآية ٤٩ من سورة الذاريات.

٣١٧

وقد أثبت عِلم الأحياء الحديث أنّ الأحياء برُمّتها إنّما تتوالد وتتكاثر بالازدواج التناسلي، وحتّى في الحيوانات الابتدائيّة ذوات الخليّة الواحدة (أميبا) والدِيدان أيضاً.

ففي مُستعمرة الفلفكس (مجموعة خلايا كثيرة تتألّف من نحو ١٢٠٠٠ خليّة مرتبطة ببعضها بواسطة خيوط بروتوبلازمية فيتمّ بذلك الاتصال الفسلجي بين الوحدات) تظهر خلايا التناسل الذكرية والأُنثويّة بشكل حُجَيرتَين: إحداهما حُجَيرة تناسل ذكريّة، والأُخرى حُجَيرة تناسل أُنثويّة (١) ، وهكذا تحتوي كلّ دودةٍ على أعضاء تناسل ذكرية وأُنثويّة نامية ويتمّ الإخصاب داخل جسم الدودة فتخرج البيوض مُخصّبة لتُعيد دورة حياة جديدة (٢) ، وفي مِثل الدِيدان التي تتكاثر بالانقسام فإنّ جهاز التناسل يوجد في نفس الحيوان بشكل أعضاء تناسليّة ذكريّة وأُنثويّة، على ما شرحه علم الأحياء (٣) .

( وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (٤)

كانت العرب ولعلّ البشريّة جَمعاء ترى مِن القلب - ومَحلّه الصدر - مَركزاً للتعقّل والإدراك وكذا سائر الصفات النفسيّة؛ وذلك باعتبار كونه منشأ الحيويّة في الإنسان، فمِن القلب تنبثّ الحياة وتزدهر الحيويّة في الإنسان، ومنها النشاط الفكري وتجوال الخواطر وسائر أحوال النفس من حبٍّ وبغضٍ وابتهاجٍ وامتعاض!

هذا مع العلم بأنّ البشريّة عرفت - منذ أُلوف السنين - أنّ مركز الإدراك هو المـُخّ ومَحلّه الدِماغ من الرأس، ومنه اشتقاق الرِئاسة لمركزيّة التدبير.

إذن لم تكن مركزيّة الدِماغ للإدراك ممّا تَجهله العرب وسائر الناس، فما وجه التوفيق؟

وقد رجّح ابن سينا أن يكون المـُدِرك هو القلب وأنّ الدِماغ وسيلةٌ للإدراك، فكما أنّ الإبصار والسَمع يحصلان في مراكزهما من المخّ وتكون العين والأُذُن وسطاً لهذا الحصول،

____________________

(١) راجع: كتاب الحَيَوان للدراسات العليا في جامعة بغداد، ص٣٩، الشكل ١٤.

(٢) المصدر: ص٨٦.

(٣) المصدر: ص١٠٥.

(٤) الحجّ ٢٢: ٤٦.

٣١٨

كذلك الدِماغ وسط للإدراك والتفكير (١) ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ) (٢) .

وبذلك يتلخّص الإنسان - في نشاطه الفكري والعلمي - في قلبه، ويتّحد القلب مع النفس والروح في التعبير عن حقيقة الإنسان ذاته، ( قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) (٣) أي نفسي.

قال العلاّمة الطباطبائي: لَمّا شاهد الإنسانُ أنّ الشعور والحسّ قد يَبطل في الحيوان، أو يغيب عنه بإغماءٍ أو صرعٍ ونحوهما، ولا تَبطل الحياة مادام القلب نابضاً، قطع بأنّ منشأ الحياة هو القلب وسرت منه إلى سائر الأعضاء، وأنّ الآثار الروحيّة وكذا الأحاسيس المـُتواجدة في الإنسان - مِن مِثل الشعور والإرادة والحبّ والبغض والرجاء والخوف - كلّها للقلب، بعناية أنّه أَوّل متعلّق للروح، وهذا لا ينافي كون كلّ عضوٍ من الأعضاء مبدأ لعملٍ يخصّه، كالدماغ للفكر والعين للإبصار والأُذُن للسمع والرئتَين للتنفّس ونحو ذلك، فإنّها جميعاً مَنزلة الآلات والوسط إلى ذلك.

قال: ويتأيّد ذلك بما وَجَدَته التجارب العلميّة في الطيور، لا تموت بفقد الدماغ، سِوى أنّها تفقد الشعور والإحساس، وتبقى على هذه الحال حتّى تموت بفقد الموادّ الغذائيّة وإيقاف نبضات القلب.

والبحوث العلميّة لم تُوفّق لحدّ الآن للعثور على مصدر الأحكام الجسديّة أعني عرش التدبير في البدن، إذ أنّها في عين التشتّت والتفرّق في بِنيَتِها ونوعية عملها، هي مجتمعة تحت لواءٍ واحد ومؤتمرة بأوامر أميرٍ واحد، وحدة حقيقية من غير انفصام.

وليس ينبغي زَعمُ التغافل عن شأن الدِماغ وما يَخصّه من أمر الإدراك، وقد تنبّه الإنسان لِما عليه الرأس مِن الأهميّة في استواء الجسد مُنذ أقدم الزمان، وقد جرى على ألسنتهم التشبيه بالرأس والاشتقاق منه حيثما يُريدون التعبير بالمبدئيّة في أيّ شيء.

____________________

(١) راجع: تفسير الميزان، ج٢، ص٢٣٦.

(٢) ق ٥٠: ٣٧.

(٣) البقرة ٢: ٢٦٠.

٣١٩

ولكن مع ذلك نَراهم ينسبون الإدراك والشعور وكذا صفات النفس - ممّا للشعور فيه حظّ - إلى القلب المـُراد به الروح الساطية على البدن والمـُدبّرة له، كما يَنسبونها إلى النفس بمعنى الذات، فلا فرق بين أنْ يُقال: هَواكَ قلبي أو هَوتك نفسي. فأُطلق القلب وأُريد به النفس؛ باعتبار كونه مبدأ جميع الإدراكات (العقليّة) والصفات (النفسيّة)، وفي القرآن الشيء الكثير من ذلك: قال تعالى: ( يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ ) (١) ( يَضِيقُ صَدْرُكَ ) (٢) ، ( بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ ) (٣) ، ( إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) (٤) ، إلى غيرها من آيات (٥) .

( فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا)

قال تعالى: ( حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا ) (٦) .

أَفهل تتكلّم النمل؟ وكيف يستمع سليمان إلى كلامها؟!

والنملة وكذا سائر الحشرات ليس لها صوت وإنّما تَتَبادل أخبارَها وتتفاهم بعضها مع بعض عن طريقة إشعاع أمواج لاسلكيّة، وهكذا تتلقّى الأخبار وكذا عن طريقة الشمّ، ممّا لا صلة له بالكلام الصوتي.

لكن العُمدة أنّ للحيوانات برُمّتها مَنطِقاً أي طريقة خاصّة للتفاهم مع بعضها، سواء أكان ذلك عن طريقة إيجاد أصوات خاصة كما في الدوابّ والطيور أم بطريقة أُخرى (إشعاع أمواج لاسلكيّة) كما في الحشرات، الأمر الذي يمكن الوقوف عليه بطريقةٍ مّا، وبالفعل قد عُرف شيء من مَنطِق البهائم وحتّى بعض الحيتان في البحار، ولا يستحيل في قدرة اللّه تعالى أنْ يُعلّم نبيّه مَنطِق الطير وسائر الحيوان، يقول تعالى - حكايةً عن سليمان -: ( عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ) (٧) .

____________________

(١) الأنعام ٦: ١٢٥.

(٢) الحجر ١٥: ٩٧.

(٣) الأحزاب ٣٣: ١٠.

(٤) المائدة ٥: ٧.

(٥) تفسير الميزان، ج٢، ص٢٣٤ - ٢٣٥.

(٦) النمل ٢٧: ١٨ و١٩.

(٧) النمل ٢٧: ١٦.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578