شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم10%

شبهات وردود حول القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 578

شبهات وردود حول القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 578 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 297578 / تحميل: 13676
الحجم الحجم الحجم
شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

يقول الأُستاذ الطنطاوي: ويعتقد بعض العلماء اليوم أنّ تبادل الخواطر هو مستوى القوّة التي تُمكّن الشخص مِن نقل آرائه إلى شخصٍ آخر بدون أيّة واسطة مادّية أو ظاهريّة، فهل هذا الرأي مُمكن أو مُحتمل الوقوع؟ وإجابةً على ذلك يقول العالِم الإنجليزي (برسي): إنّ نقل الأفكار قد يحدث في أوقات شاذّة وحالات خاصّة، وذلك مالا يُعارض فيه أحد من الباحثينَ، ولكنّه لا ينطبق على الحالات العامّة، وذلك التبادل قد يُرى بوضوح بين الحشرات والحيوانات قد اقتربت حشرةً من أُخرى. قال: وبذلك نعرف أنّ الحيوانات تُكلّم بعضها بنقل الخواطر، والنَّمل من هذا القبيل، وأنّ الإنسان مُستعدّ لذلك؛ لأنّه من جُملة مواهبه، ولكن هذه المـَوهبة تجيء تارةً بطريق الوحي الخارق للعادة وتارةً بالتَمرين (١) .

فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً

زَعَموا أنّ القرآن ذَكَر مراحل تكوين الجنين فيما يُخالف العِلم الثابت اليوم!

ففي قوله تعالى: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) (٢) .

جاء في تفسير الجلالَين: ( عَلَقَةً ) دماً جامداً، ( مُضْغَةً ) لَحمَة قَدَر ما يُمضغ (٣) .

وهكذا جاء في تفسير المراغي (٤) وغيره مِن المتأخّرين.

ومعنى ذلك: أنّ النطفة تحوّلت دماً مُتخثّراً، وتحوّل الدم إلى مُضغةٍ أي لَحمَة شِبه ممضوغة أو بقدرها، ثمّ تحوّلت اللَحمة إلى العظام.

الأمر الذي يتنافى مع العِلم القائل بأنّ اللحم ينبت على العظام بعد خَلقها، كما هو صريح القرآن أيضاً وهذا يبدو متناقضاً ( فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ) !!

____________________

(١) تفسير الجواهر، ج١٣، ص١٥٨ - ١٥٩.

(٢) المؤمنون ٢٣: ١٢ - ١٤.

(٣) تفسير الجلالَين، ج٢، ص٤٤.

(٤) تفسير المراغي، ج١٨، ص٨.

٣٢١

غير أنّ هذه الشُبهة نشأت مِن خطأ هؤلاء المفسّرين وليست واردة على القرآن.

فقد كان تعبير القرآن أنّ النُطفة - وهي خليّة الذَكَر تمتزج ببويضة المرأة - تتحوّل إلى علقة: كُرة جرثوميّة لها خلايا آكلةً وقاضمةً تُعلّق بواسطتها وبواسطة حملات دقيقة بجدار الرحم، تتغذّى بدم المرأة، وهذه النُطفة الصغيرة العالقة تشبه دودة العَلَقة التي تَمتصّ الدم.

ثمّ إنّ هذه العَلَقَة تتحوّل إلى كُتلة غُضروفيّة تشبه ممضوغة العِلك في الفم، وتكون منشأ لتكوين العظام ثُمّ تكوين العضلات بعد بِضعة أيّام؛ لتكسو العظام أي تُغطّيها وتلتحم معها.

ومعنى ذلك: أنّ العِظام تسبق العضلات، ثُمّ تكسو العضلات العظام، وصدق الله العظيم حيث يقول: ( فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ) .

قال سيّد قطب: وهنا يَقف الإنسان مدهوشاً أمام ما كَشَف عنه القرآن من حقيقة في تكوين الجنين لم تُعرف على وجه الدقّة إلاّ أخيراً بعد تقدّم عِلم الأجنّة التشريحي، ذلك أنّ خلايا العظام غير خلايا اللحم (العضلات)، وقد ثبت أنّ خلايا العِظام هي الّتي تتكوّن أَوّلاً في الجنين، ولا تُشاهد خليّة واحدة من خلايا اللحم إلاّ بعد ظهور خلايا العِظام وتمام الهيكل العظمي للجنين، وهي الحقيقة التي يُسجّلها النصّ القرآني (١) .

وقد أشبعنا الكلام في ذلك عند الكلام عن إعجاز القرآن العلمي في الجزء السادس من التمهيد.

وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ

يبدو من ظاهر تعبير آيات قرآنيّة أنّ النجوم جُعلت شُهُباً يُرمى بها الشياطين، قال تعالى: ( وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ ) (٢) .

وقال ( إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى

____________________

(١) في ظِلال القرآن، ج ١٨، ص ١٦ - ١٧.

(٢) المـُلك ٦٧: ٥.

٣٢٢

الْمَلإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلاّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ) (١) .

وقال سبحانه: ( وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً ) (٢) .

وقال عزّ مَن قائل: ( وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * إِلاّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ ) (٣) .

غير خفيّ أنّ الشُهُب والنيازك إنّما تَحدث في الغلاف الغازي (الهواء) المحيط بالأرض؛ وقايةً لها، وقُدّر سُمكُه بأكثر من ثلاثمِئة كيلومتر، وذلك على أثر سقوط أحجار هي أشلاء متناثرة في الفضاء المتبقّية من كواكب اندثرت تعوم عبر الفضاء، فإذا ما اقتربت من الأرض انجذبت إليها بسرعة هائلة ما بين ٥٠ و ٦٠ كيلومتراً في الثانية، تخترق الهواء المحيط بالأرض، ولاحتكاكها الشديد بالهواء من جهةٍ ولتأثير الغازات الهوائيّة من جهةٍ أخرى تَحترق وتلتهب شعلة نار، لتتحوّل إلى ذرّات عالقة في الهواء مُكوّناً منها الغُبار الكوني، وهي في حال انقضاضها - وهي تشتعل ناراً - تُرى بصورة نجمة وهّاجة ذات ذَنب مستطيل تُدعى الشُهُب والنيازك.

فليست الشُهُب سِوى أحجار مُلتهبة في الهواء المحيط بالأرض، قريبة منها! فما وجه فَرضها نُجوماً في السماء يُرجم بها الشياطين الصاعدة إلى الملأ الأعلى؟!

لكن يجب أنْ نعلم قبل كلّ شيء أنّ التعابير القرآنيّة - وهي آخذة في الحديث عن كائنات ما وراء المادّة - ليس ينبغي الأخذ بظاهرها اللفظي؛ حيث الأفهام تقصر عن إدراك ما يفوق مستواها المادّي المحدود، والألفاظ أيضاً تضيق عن الإدلاء بتلك المفاهيم الرقيقة البعيدة عن متناول الحسّ.

وبتعبير اصطلاحي: إنّ الأفهام وكذا الألفاظ محدودة في إطار المادّة الكثيفة، فلا تَنال المجرّدات الرقيقة.

____________________

(١) الصافّات ٣٧: ٧ - ١٠.

(٢) الجنّ ٧٢: ٨ و ٩.

(٣) الحجر ١٥: ١٦ - ١٨.

٣٢٣

وعليه، فكلّ تعبير جاء بهذا الشأن إنّما هو مجاز واستعارة وتمثيل بِلا ريب.

فلا تَحسب مِن الملأ الأعلى عالَماً يشبه عالَمَنا الأسفل، سوى أنّه واقع في مكان فوق أجواء الفضاء؛ لأنّه تصوّر مادّي عن أمرٍ هو يفوق المادةّ ومُتجرّد عنها، وعليه، فَقِس كلّ ما جاء في أمثال هذه التعابير.

فلا تتصوّر من الشياطين أجساماً على مثال الأناسي والطيور، ولا رَجمها بمِثل رمي النُشّاب إليها، ولا مُرودها بمثل نفور الوحش، ولا استماعها في محاولة الصعود إلى الملأ الأعلى بالسارق المتسلّق على الحيطان، ولا قذفها بمثل قذف القنابل والبندقيات، ولا الحرس الذين ملئوا السماء بالجنود المتصاكّة في القِلاع، ولا رصدها بالكمين لها على غِرار ميادين القتال... إذ كلّ ذلك تشبيه وتمثيل وتقريب في التعبير لأمرٍ غير محسوس إلى الحسّ لغرض التفهيم، فهو تقريبٌ ذهني، أمّا الحقيقة فالبون شاسع والشُقّة واسعة والمسافة بينهما بعيدة غاية البُعد.

قال العلاّمة الطباطبائي: إنّ هذه التعابير في كلامه تعالى من قبيل الأمثال المضروبة؛ ليُتصوّر بها الأمور الخارجة عن محدودة الحسّ في صور المحسوسات للتقريب إلى الأذهان، وهو القائل عزّ وجلّ: ( وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاّ الْعَالِمُونَ ) (١) (أي لا يتعقّلها ولا يعرف مغزاها إلاّ مَن عَرف أنها أمثال ظاهريّة ضُربت للتقريب محضاً).

قال: وأمثال هذه التعابير كثير في القرآن كالحديث عن العرش والكرسي واللوح والكتاب وغيرها.

قال: وعلى هذا، فيكون المـُراد من السماء التي مَلأَتْها الملائكة: عالَماً ملكوتيّاً هو أعلا مرتبة من العالم المشهود، على مِثال اعتلاء السماء الدنيا من الأرض، والمـُراد من اقتراب الشياطين إليها واستراق السمع والقذف بالشُهب: اقترابهم من عالم الملائكة لغرض؛ الاطّلاع على أسرار الملكوت، وثَمّ طردهم بما لا يَطيقون تَحمّله مِن قذائف النور،

____________________

(١) العنكبوت ٢٩: ٤٣.

٣٢٤

أو محاولتهم لتلبيس الحقّ الظاهر، وثَمّ دحرهم ليعودوا خائبينَ (١) ( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ) (٢) .

والآيات من سورة الجنّ لعلّها إشارة إلى هذا المعنى، حيث هي ناظرة إلى بعثة نبيّ الإسلام، وقد أَيسَ الشيطان من أنْ يُعبد وعلا نفيره.

قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (ولقد سمعتُ رنّةَ الشيطان حين نَزل الوحي عليه (صلّى الله عليه وآله) فقلتُ: يا رسولَ الله، ما هذه الرنّة؟ فقال: هذا الشيطان قد أيسَ من عبادته) (٣) .

يقول تعالى في سورة الجنّ: ( قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناًَ عَجَباً - إلى قوله: - وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً ) (٤) ، فهي حكاية عن حالٍ حاضرة وَجَدَتها الجنّ حينما بُعث نبيّ الإسلام.

وبهذا يشير قوله تعالى: ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (٥) ، وقوله: ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً ) (٦) .

نعم، كانت تلك بُغية إبليس أنْ يتلاعب بوحي السماء ولكن في خيبة آيسة: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاّ إِذَا تَمَنَّى (ظهور شريعته) أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (٧) ، أي حاول إبليس الحؤول دون بلوغ أُمنيّة الأنبياء، فكان يَندحر ويَغلب الحقّ الباطل وتَفشل دسائسه في نهاية المطاف.

أمّا عند ظهور الإسلام فقد خاب هو وجنوده منذ بدء الأمر وخَسِر هنالك المـُبطلون.

قال الإمام الصادق (عليه السلام): (فلمـّا وُلد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حُجِب (إبليس) عن السبع السماوات ورُميت الشياطين بالنجوم...) (٨) .

____________________

(١) تفسير الميزان، ج ١٧، ص ١٣٠ نقلاً مع تصرّفٍ يسير.

(٢) الأنبياء ٢١: ١٨.

(٣) نهج البلاغة، الخطبة القاصعة، ص ٣٠١.

(٤) الجنّ ٧٢: ١ - ٩.

(٥) الحجر ١٥: ٩.

(٦) الفتح ٤٨: ٢٨.

(٧) الحجّ ٢٢: ٥٢.

(٨) الأمالي للصدوق، ص ٢٥٣، المجلس ٤٨، وبحار الأنوار، ج ١٥، ص ٢٥٧.

٣٢٥

وفي حديث الرضا عن أبيه الكاظم عن أبيه الصادق (عليهم السلام) في جواب مُساءَلة اليهود: (أنّ الجنّ كانوا يَسترقون السمعَ قَبل مَبعث النبيّ (صلّى الله عليه وآله) فمُنِعت مِن أوان رسالته بالرجوم وانقضاض النجوم وبُطلان (عمل) الكَهَنة والسحرة) (١) .

وهكذا حاول الشيخ الطنطاوي تأويل ظواهر التعابير الواردة في هذه الآيات إلى إرادة التمثيل، قال - ما مُلخّصه -: إنّ العلوم التي عَرفها الناس تُراد لأَمرَين: إمّا لمعرفة الحقائق لإكمال العقول، أو لنظام المعايش والصناعات لتربية الجسم، وإلى الأَوّل أشار بقوله تعالى: ( وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً ) (٢) ، وإلى الثاني قوله: ( وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ ) (٣) ، وكلّ مَن خالف هاتَين الطريقتَين فهو على أحد حالَين: إمّا أنْ يُريد ابتزاز أموال الناس بالاستعلاء بلا فائدة، وإمّا أنْ يُريد الصيت والشُهرة وكسب الجاه، وكلاهما لا نفع في عِلمه ولا فضل له.

فمَن طلب العِلم أو أكثر في الذِكر؛ ليكون عالةً على الأُمّة فهو داخلٌ في نوع الشيطان الرجيم، مرجوم مُبعدٌ عن إدراك الحقائق ومُعذّبٌ بالذّل والهوان، وهذا مِثال قوله تعالى:) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإِ الأَعْلَى (فلا يعرفون حقائق الأشياء) وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُوراً ) بما رُكّب فيهم من الشهوات وما اُبتلوا من العاهات ( وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ ) أي في أَمل متواصل مُلازم لهم مدى الحياة، فلو حاول أنْ يَخطِف خَطفة من الحقائق حالت دون بلوغه لها الأميال الباطلة ( فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ) (٤) .

نعم ( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ ) (٥) ، ولا شكّ أنّها كناية عن حرمانهم العناية الربّانيّة المـُفاضة مِن مَلكوت أعلى، الأمر الذي أُنعِمَ به الرّبانيّون في هذه الحياة: ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ ) (٦) ، فملائكة الرَحمة تَهبط إليهم وهم في مواضعهم آمنون مستقرّون سائرون في طريقهم صُعُداً إلى قمّة الكمال.

____________________

(١) بحار الأنوار، ج ١٧، ص ٢٢٦ عن قرب الإسناد للحميري، ص ١٣٣.

(٢) الحجر ١٥: ١٦.

(٣) الأعراف ٧: ١٠، الحجر ١٥: ٢٠.

(٤) الصافّات ٣٧: ٦ - ١٠. راجع: تفسير الجواهر، ج ٨، ص ١٣، وج ١٨، ص ١٠.

(٥) الأعراف ٧: ٤٠.

(٦) فصّلت ٤١: ٣٠.

٣٢٦

وكذلك قوله تعالى: ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ) (١) ، أي آخذ في الصعود إلى سماء العزّ والشرف والسعادة. ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) (٢) ، فما هذا الصعود وهذا الرفع؛ إلاّ ترفيعاً في مدارج الكمال.

وهكذا جاء التعبير بفتح أبواب السماء كنايةً عن هطول المطر ( فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ ) (٣) ، وأمثال هذا التعبير في القرآن كثير (٤) ، والجميع مَجاز وليس على الحقيقة سواء في المعنويّات أم الماديّات، فلو كان عيباً لعَابَه العرب أصحاب اللغة العَرباء في الجزيرة، لا أرباب اللغة العجماء من وراء البحار.

وأمّا النجوم التي يُرجم بها الشياطين (أبالسة الجنّ والإنس) فهم العلماء الربّانيّون المتلألئون في أُفق السماء، يقومون في وجه أهل الزيغ والباطل فيَرجموهم بقذائف الحُجج الدامغة ودلائل البيّنات الباهرة، ويَرمونهم من كلّ جانب دحوراً.

فسماء المعرفة مُلئت حرساً شديداً وشُهُباً. قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (يَحمل هذا الدِّين في كلِّ قَرن عدولٌ يَنفون عنه تأويل المـُبطلينَ وتحريف الغالينَ وانتحال الجاهلين...) (٥) .

وقد أطلق النُجوم على أئمة الهُدى ومصابيح الدُجى من آل بيت الرسول (عليهم السلام) فقد روى عليّ بن إبراهيم في تفسير قوله تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ) (٦) قال: النُجوم آل مُحمّد (صلّى الله عليه وآله) (٧) .

وفي حديث سلمان الفارسي رضوان الله عليه قال: خَطَبنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقال: (مَعاشرَ الناسِ، إنّي راحل عنكم عن قريب ومُنطلق إلى المـَغيب، أُوصيكم في عترتي خيراً وإيّاكم والبِدع، فإنّ كلّ بِدعةٍ ضلالة وكلّ ضلالة وأهلها في النار، معاشرَ الناسِ، مَن افتقدَ الشمس فليتمسّك بالقمر، ومَن افتقدَ القمر فليتمسّك بالفرقَدَين، ومَن افتقدَ الفرقَدَين فليَتمسّك بالنجوم الزاهرة بعدي، أقول قولي واستغفر اللّه لي ولكم).

____________________

(١) إبراهيم ١٤: ٢٤.

(٢) فاطر ٣٥: ١٠.

(٣) القمر ٥٤: ١١.

(٤) الأنعام ٦: ٤٤، الأعراف ٧: ٩٦، الحجر ١٥: ١٤، النبأ ٧٨: ١٩.

(٥) بحار الأنوار، ج٢، ص٩٣، رقم ٢٢ من كتاب العلم.

(٦) الأنعام ٦: ٩٧.

(٧) تفسير القميّ، ج١، ص٢١١.

٣٢٧

قال سلمان: فتَبِعتُه وقد دَخل بيت عائشة وسألتُه عن تفسير كلامه فقال - ما ملخّصه -: (أنا الشمس وعليٌّ القمر، والفرقَدان الحسن والحسين، وأمّا النجوم الزاهرة فالأئمة مِن وُلد الحسين واحداً بعد واحد...) (١) (كلّما غابَ نجمٌ طلعَ نجمٌ إلى يوم القيامة) كما في حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس رحمة اللّه عليهما قاله في شأن أهل البيت (عليهم السلام) (٢) .

وفي حديث أبي ذر رضوان اللّه عليه التعبير عنهم بـ (النُجُوم الهادية) (٣) وأمثال ذلك كثير.

سبع سماوات عُلا

قال تعالى: ( الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ - إلى قوله: - وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ ) (٤) .

ظاهر التعبير أنّ السماوات السبع هي أجواء وفضاءات متراكبة بعضُها فوق بعضٍ؛ لتكون الجميع محيطةً بالأرض من كلّ الجوانب ( وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً ) (٥) ، حيث الفوقيّة بالنسبة إلى جسم كريّ - هي الأرض - إنّما تعني الإحاطة بها من كلّ جانب.

وأيضاً فإنّ السماء الدنيا - وهو الفضاء الفسيح المـُحيط بالأرض - هي التي تَزينَّت بزينة الكواكب ( أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا ) (٦) ، والظاهر يقتضي التركيز فيها، وإنْ كان مِن المـُحتمل تَجلّلها بما تُشِعّ عليها الكواكبُ من أنوار!

ويبدو أنّ هذا الفضاء الواسع الأرجاء - بما فيه من أَنجم زاهرة وكواكب مضيئة لامعة - هي السماء الأُولى الدنيا، ومن ورائها فضاءات ستٌّ في أبعادٍ مُترامية، هي مليئة بالحياة لا يعلم بها سِوى صانعها الحكيم، ( وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلاً ) (٧) .

والعقل لا يفسح المجال لإنكار ما لم يَبلغه العلم، وهو في بدء مراحله الآخذة إلى الكمال.

____________________

(١) بحار الأنوار، ج٣٦، ص ٢٨٩، عن كتاب كفاية الأثر للخزّار الرازي، باب ما جاء عن سلمان في النصّ على الأئمة الاثني عشر، ص٢٩٣.

(٢) بحار الأنوار، ج٤٠، ص٢٠٣ عن جامع الأخبار للصدوق، ص١٥.

(٣) راجع: بحار الأنوار، ج٢٨، ص٢٧٥.

(٤) الملك ٦٧: ٣ - ٥.

(٥) النبأ ٧٨: ١٢.

(٦) ق ٥٠: ٦.

(٧) الإسراء ١٧: ٨٥.

٣٢٨

نعم، يزداد العلم يقيناً - كلّما رَصَد ظاهرة كونيّة - أنّ ما بَلَغه ضئيل جدّاً بالنسبة إلى ما لم يبلغه، ويزداد ضآلةً كلّما تقدّم إلى الأمام؛ حيث عَظَمة فُسحة الكون تَزداد اُبّهةً وكبرياءً كلّما كُشف عن سرٍّ من أسرار الوجود وربّما إلى غير نهاية، لاسيّما والكون في اتّساع مطّرد: ( وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ) (١) .

هذا وقد حاول بعضهم - في تَكلّفٍ ظاهر - التطبيق مع ما بَلغه العِلم قديماً وفي الجديد مِن غير ضرورة تدعو إلى ذلك، ولعلّ الأناة حتّى يأتي يوم يساعد التوفيق على حلّ هذا المجهول من غير تكلّفٍ، كانت أفضل.

يقول سيّد قطب: لا ضرورة لمحاولة تطبيق هذه النصوص على ما يَصل إليه عِلمنا؛ لأنّ علمنا لا يُحيط بالكون حتّى نقول على وجه التحقيق: هذا ما يريده القرآن، ولن يصحّ أنْ نقول هكذا إلاّ يوم يَعلم الإنسان تَركيبَ الكون كلّه عِلماً يقيناً، وهيهات... (٢)

وإليك بعض محاولات القوم: حاول بعض القُدامى تطبيق التعبير الوارد في القرآن على فرضيّة بطلميوس لهيئة الأفلاك التي هي مَدارات الكواكب فيما حَسبه حول الأرض (٣) ، ولكن من غير جَدوى؛ لأنّ الأفلاك في مزعومتِه تسعة؛ ومِن ثَمَّ أضافوا على

____________________

(١) الذاريات ٥١: ٤٧.

(٢) في ظِلال القرآن، ج٢٨، ص١٥٢.

(٣) زَعموا أنّ الأرض في مركز العالَم، وأنّ القمر وعطارد والزُهرة والشمس والمرّيخ والمشتري وزحل سيّارات حولها، في مَدارات هي أفلاك بعضها فوق بعض بنفس الترتيب، وكلّ وأحدٍ منها في فَلكٍ دائر حول الأرض من الغرب إلى الشرق في حركةٍ معاكسةٍ لحركتها اليوميّة من الشرق إلى الغرب على أثر تحريك الفَلك التاسع، المـُسمّى عندهم بفَلك الأفلاك أو بالفَلك الأطلس؛ لعدم وجود نجم فيه وأمّا النجوم الثوابت فهي مركوزة في الفَلك الثامن، فهذه تسعة أفلاك مُحيطة بالأرض بعضها فوق بعض.

وهكذا جاء في إنجيل برنابا من كلام المسيح (عليه السلام): أنّ السماوات تسع، فيها السيّارات، وتَبعُد إحداها عن الأُخرى مسيرة خمسمِئة عام.

ولمـّا تُرجمت فلسفة اليونان إلى العربيّة، ودَرَسها علماء الإسلام وَثقوا بأنّ الأفلاك تسعة، وقال بعضهم: هي سبع سماوات، والكرسي فَلك الثوابت، والعرش هو الفَلك المـُحيط.

والغريب أنّ مِثل مُحيي الدين ابن عربي اغترّ بهذه الغريبة وحسبها حقيقة وبنى عليها معارفَه الإشراقيّة فيما زعم، (راجع: الفتوحات المكّيّة، الباب ٣٧١ والفصل الثالث منه، ج٣، ص٤١٦ و٤٣٣، وكذا الفصّ الإدريسي من فصوص الحكم، ج١، ص٧٥)، وهكذا شيخنا العلاّمة بهاء الدين العاملي في كتابه تشريح الأفلاك، وهو عجيب!

ولقد أَعجبني كلام أبي الحسن علي بن عيسى الرّمّاني المـُعتزلي في تفسير الآية، حيث أنكر إرادة الأفلاك البطلميوسيّة من السماوات السبع في القرآن؛ محتجّاً بأنّه تفسير يُخالف ظاهر النصّ، راجع: تفسير التبيان للشيخ الطوسي، ج١، ص ١٢٧.

٣٢٩

السماوات السبع - الواردة في القرآن - العرش والكرسي؛ ليَكتمل التسع ويحصل التطابق بين القرآن وفرضيّةٍ أساسُها الحَدسُ والتخمينُ المجرّد.

وأمّا المحدَثون فحاولوا التطبيق على النظرة الكوبرنيكيّة الحديثة، حيث الشمس هي نواة منظومتها والكُرات دائرة حولها ومنها الأرض مع قمرها (١) .

زَعَموا أنّ المـُراد بالسماوات السبع، هي الأجرام السماويّة، الكُرات الدائرة حول الشمس، تُرى فوق الأرض في أُفقها. فالسماوات - في تعبير القرآن على هذا الفرض - هي الأجرام العالقة في جوّ السماء (وكان جديراً أنْ يُقال - بَدلَ السماوات - السماويّات).

يقول الشيخ الطنطاوي: هذا هو الذي عرفه الإنسان اليوم من السماوات. فَقَايسَ بين ما ذَكَره علماء الإسكندريّة بالأمس، ويبن ما عرفه الإنسان الآن، إنّ عظمة اللّه تَجلّت في هذا الزمان..

إذن فما جاء في إنجيل برنابا مَبنيّاً على عِلم الإسكندرون أصبح لا قيمة له بالنسبة للكشف الحديث الذي يُوافق القرآن (٢) .

ويزداد تَبّجُحاً قائلاً: إذن دين الإسلام صار الكشف الحديث مُوافقاً له، وهذه معجزة جديدة جاءت في زماننا.

ثُمَّ يورد أسئلةً وُجّهت إليه، منها: التعبير بالسبع، فيجيب: أنّ العدد غير حاصر، فسواء قُلت سبعاً أو ألفاً فذلك كلّه صحيح؛ إذ كلّ ذلك من فعل اللّه دالّ على جماله وكماله.

____________________

(١) جاءت النظرية على الأَساس التالي:

١ - الشمس: نَواة المنظومة.

٢ - نجمة فلكان: بُعدها عن الشمس ١٣ مليون ميلاً، ودورها المحوري ١٨ ساعة، ودورها حول الشمس ٢٠ يوماً.

٣ - كوكب عطارد: بُعدها ٣٥ مليون ميلاً دَورها المحوري ٢٤ ساعة و٥ دقائق، حول الشمس ٨٨ يوماً.

٤ - الزُهرة: بُعدها ٦٦ مليون ميلاً، دَورها المحوري ٢٣ ساعة و٢٢ دقيقة، حول الشمس ٢٢٥ يوماً.

٥ - الأرض: بُعدها ٩٣ مليون ميلاً، دَورها المحوري ٢٤ ساعة، حول الشمس ٣٦٥ يوماً.

٦ - المرّيخ: بُعدها ١٤٠ مليون ميلاً، دَورها المحوري ٢٤ ساعة و٣٨ دقيقة، حول الشمس ٦٨٧ يوماً.

٧ - المشتري: بُعدها ٤٧٦ مليون ميلاً، دَورها المحوري ١٠ ساعات، حول الشمس ١٢ سنة.

٨ - زُحل: بُعدها ٨٧٦ مليون ميلاً، دَورها المحوري ١٠ ساعات و ١٥ دقيقة، حول الشمس ٢٩ سنة ونصفاً.

٩ - أُورانوس: بُعدها ١٧٥٣ مليون ميلاً، دَورها المحوري ١٠ ساعات، حول الشمس ٨٤ سنة وأُسبوعا.

١٠ - نبتون: بُعدها ٢٧٤٦ مليون ميلاً، دَورها المحوري مجهول، حول الشمس ١٦٤ سنة و٢٨٥ يوماً.

راجع: الهيئة والإسلام للسيّد هبة الدين الشهرستاني، ص٦١ - ٦٢.

(٢) تفسير الجواهر، ج١، ص٤٩ الطبعة الثانية.

٣٣٠

وأخيراً يقول: إنّ ما قُلناه ليس القصد منه أنْ يَخضع القرآن للمباحث (العلميّة) فإنّه ربّما يَبطل المذهب الحديث كما بَطل المذهب القديم، فالقرآن فوق الجميع، وإنّما التطبيق؛ كان ليأنس المؤمنون بالعلم ولا ينفروا منه لظاهر مخالفته لألفاظ القرآن في نظرهم (١) .

وللسيّد هبة الدين الشهرستاني - علاّمة بغداد في عصره - محاولة أُخرى للتطبيق، فَفَرض من كلّ كُرة دائرة حول الشمس ومنها الأرض أرضاً والجوّ المحيط بها سماءً، فهناك أَرَضون سبع وسماوات سبع، الأُولى: في أرضنا وسماؤها الغلاف الهوائي المحيط بها، والأرض الثانية: هي الزُهرة وسماؤها الغلاف البخاري المحيط بها، والثالثة: عطارد وسماؤها المحيط بها، الرابعة: المرّيخ وسماؤها المحيط بها، الخامسة: المشتري وسماؤها المحيط بها، السادسة: زُحل وسماؤها المحيط بها، السابعة: أورانوس وسماؤها المحيط بها.

قال: ترتيبنا المـُختار تنطبق عليه مقالات الشريعة الإسلاميّة ويُوافق الهيئة الكوبرنيكيّة.

وأسند ذلك إلى حديث عن الإمام الرضا (عليه السلام) سنوافيك به عند الكلام عن الأَرَضين (٢) .

وذكر الحجّة البلاغي أنّ السماوات السبع لا يمتنع انطباقها على كلّ واحدة من الهيئتَين القديمة والجديدة، فيُمكن أنْ يُقال على الهيئة القديمة: إنّ السماوات السبع هي أفلاك السيّارات السبع، وإنّ فَلك الثوابت هو الكرسي في قوله تعالى: ( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ) (٣) ، وإنّ الفَلك الأطلس المـُدير - على ما زَعَموا - هو العرش في قوله تعالى: ( رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) (٤) .

ويُمكن أنْ يُقال على الهيئة الجديدة: إنّ السماوات السبع هي أفلاكٌ خمسٌ من السيّارات مع فَلكَي (الأرض) و(فلكان) والعرش والكرسي هما فَلَكا (نبتون) و(أُورانوس)، وأمّا الشمس فهي مركز الأفلاك، والقمر تابع للأرض وفَلَكه جزء من فَلَكها (٥) .

____________________

(١) المصدر: ص ٥٠ - ٥١ بتصرّف وتلخيص.

(٢) الهيئة والإسلام، ص١٧٧ - ١٧٩.

(٣) البقرة ٢: ٢٥٥.

(٤) المؤمنون ٢٣: ٨٦.

(٥) الهدى إلى دين المصطفى للبلاغي، ج٢، ص٧.

٣٣١

قال: والحاصل أنّ كلاًّ مِن وضعَي الهيئة القديمة والجديدة يُمكن من حيث انطباق الحركات المحسوسة عليه، ولكنّه يُمكن أنْ يتعدّاه التحقيق إلى وضعٍ ثالث ورابع، فلا يَحسُن الجزم بشيءٍ ما لم يُشاهد بالتفصيل أو بصراحة الوحي، لكنّ الحِكمة تقتضي أنْ لا يتولّى الوحي بصراحته بالتفصيل (١) .

وبعد، فالطريقة السليمة هي التي سَلكها سيّدنا العلاّمة الطباطبائي، يقول:

إنّ المـُستفاد من ظاهر الآيات الكريمة - وليست نصّاً - أنّ السماء الدنيا هي عالم النجوم والكواكب فوقنا، وأنّ السماوات السبع هي أجواء متطابقة أقربُها منّا عالم النُجوم، ولم يَصف لنا القرآن شيئاً مِن الستّ الباقية سِوى أنّها طِباق، وليس المراد بها الأَجرام العلوية سواء من مَنظُومتنا الشمسيّة أو غيرها.

وما وَرد مِن كون السماوات مأوى الملائكة يَهبطون منها ويَعرجون إليها، ولها أبواب تُفتَّح لنزول البركات، كلّ ذلك يكشف عن أنّ لهذه الأُمور نوع تعلّق بها لا كتعلّقها بالجسمانيّات، فإنّ للملائكة عوالم ملكوتيّة مُترتّبة سماوات سبعاً ونُسب ما لها من الآثار إلى ظاهر هذه السماوات؛ بلحاظ ما لها من العلوّ والإحاطة والشمول، وهو تسامح في التعبير تقريباً إلى الأذهان الساذجة (٢) .

ولبعض العلماء الباحثين في المسائل الروحيّة في إنجلترا - (هو: جيمس آرثر فندلاي من مواليد ١٨٨٣م) - تصوير عن السماوات السبع يَشبه تصويرنا بعض الشيء: يرى من كُرة الأرض واقعة في وسط أبهاء وفضاءات تُحيط بها من كلّ الجوانب، في شكل كُراتٍ مُتخلِّلةٍ بعضُها بعضاً ومتراكبة إلى سبعة أطباق، كلّ طبقة ذات سطحَين أعلى وأسفل، مِلءُ ما بينهما الحياة النابضة، يُسمّى المجموع العالَم الأكبر الذي نعيش فيه، نحن في الوسط على وجه الأرض.

وهذه الأجواء المتراكبة تُحيط بنا طِباقاً بعضها فوق بعض إلى سبع طَبقات، وإنْ شئت فعبّر بسبع سماوات؛ لأنّها مبنيّة في جهةٍ أعلى فوق رؤوسنا، وإليك الصورة حسبما رَسَمها في كتابه (الكون المنشور).

____________________

(١) المصدر: ج٢، ص٦.

(٢) تفسير الميزان، ج١٧، ص٣٩٢ - ٣٩٣.

٣٣٢

شَكل الأرض في الوسط تَحيط بها سبع أطباق هي سماوات عُلى:

في هذا الشَكل - كما رَسَمه (جيمس آرثر فندلاي) - نجد العالم الأَكبر في صورة أبهاء متراكبة بعضها فوق بعض مملوءة بالحياة، ويُرى الحياة في حركتها إلى أعلى وأسفل في شكل خُطوطٍ مُنحنية على السطوح، وتُمثّل الصُلبان الصغيرة الحياة على الأرض، أمّا النُقط فتُمثّل الحياة الأثيريّة ويُلاحظ أنّها ليست مقصورة على السطوح وحدَها؛ لأنّ الفضاءات بين السطوح مِلؤها الحياة سابحة فيها! (١)

____________________

(١) راجع: ملحق كتابه (على حافّة العالم الأثيري) تَرجمة أحمد فهمي أبو الخير (ط٣)، ص١٩٩.

٣٣٣

مسائل ودلائل

هنا عدة أسئلة تستدعي الوقوف لديها:

١ - ( كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)

قال تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) (١) .

وقال: ( لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) (٢) .

هلاّ كان التعبير بالفَلَك مُتابعة لِما حَسبه بطلميوس؟

قلت: لا؛ لأنّ الفَلَك لفظة عربيّة قديمة يُراد بها الشيء المـُستدير، ومن الشيء مُستداره، قال ابن فارس: الفاء واللام والكاف أصل صحيح (٣) يدلّ على استدارةٍ في شيء، من ذلك (فَلْكَةُ المِغزل) لاستدارتها؛ ولذلك قيل: فَلَكَ ثديُ المرأة، إذا استدار، ومن هذا القياس: فَلَكُ السماء (٤) .

إذن، فكما أنّ السماء مستديرة حتّى في شكلها الظاهري، فكلّ ما يَسبح في فضائِها يَسير في مَسلك مُستدير؛ وبذلك صحّت استعارة هذا اللفظ.

والدليل على أنها استعارة هو استعمال اللفظة بشأن الليل والنهار أيضاً، أي أنّ لكلّ ظاهرة من الظواهر الكونيّة مَجراها الخاصّ وفي نظام رتيب لا تَجور ولا تَحور.

٢ - ( فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ)

قال تعالى: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ ) (٥) .

أو هل كانت الطرائق هنا هي مَدارات الأفلاك البطليميوسيّة؟

قلت: كلاّ، إنّها الطَرائق بمعنى مَجاري الأُمور في التدبير والتقدير والتي هي محلّها السماوات العُلا.

____________________

(١) الأنبياء ٢١: ٣٣.

(٢) يس ٣٦: ٤٠.

(٣) مقصوده من الأصل: كونها ذات أصالة عربيّة وليس مستعارة من لغةٍ أجنبيّة.

(٤) معجم مقاييس اللغة، ج٤، ص٤٥٢ - ٤٥٣.

(٥) المؤمنون ٢٣: ١٧.

٣٣٤

الطَرَائق: جمعُ الطَريقة بمعنى المـَذهب والمـَسلك الفكري والعقائدي وليس بمعنى سبيل الاستطراق على الأقدام، ولم تُستعمل في القرآن إلاّ بهذا المعنى:

يقول تعالى - حكايةً عن لسان الجنّ -: ( وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً ) (١) ، أي مَذاهب شتّى.

( وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ) (٢) ، أي بمَذهبكم القويم الأفضل.

( إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاّ يَوْماً ) (٣) ، وذاك يوم الحَشر يَتخافت المـُجرمون: كم لَبِثوا؟ فيقول بعضهم: عشراً. ويقول أَعقلهم وأَفضلهم بصيرةً: ( إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاّ يَوْماً ) .

( وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً ) (٤) ، أي الطريقة المـُثلى والمـَذهب الحقّ.

فالمقصود بالطَرَائق - في الآية الكريمة - هي طَرائق التدبير والتقدير، المـُتّخذة في السماوات حيث مُستقرّ الملائِكِ المدبِّرات أمراً والمقسّمات (٥) ، ( يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ) (٦) ، ( وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ) (٧) ، أي تقدير أرزاقكم وكلّما قُدّر لكم مِن مَجاري الأُمور، ( ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ ) (٨) ، ( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) (٩) .

فالتدبير في السماء ثُمّ التنزيل إلى الأرض ( وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاّ بِأَمْرِ رَبِّكَ ) (١٠) ، ( تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ) (١١) ، ومِن ثَمَّ تعقّب الآية بقوله تعالى: قال العلاّمة الطباطبائي: أي لستُم بمُنقطعينَ عنّا ولا بمَعزلٍ عن مراقبتِنا وتدبيرنا لشؤونكم، فهذه الطَرائق السبع إنّما جُعلت؛ ليستطرقَها رُسُل ربّكم في التقدير والتدبير والتنزيل (١٢) .

____________________

(١) الجن ٧٢: ١١.

(٢) طه ٢٠: ٦٣.

(٣) طه ٢٠: ١٠٤.

(٤) الجنّ ٧٢: ١٦.

(٥) النازعات ٧٩: ٥، والذرايات ٥١: ٤.

(٦) السجدة ٣٢: ٥.

(٧) الذاريات ٥١: ٢٢.

(٨) يونس ١٠: ٣.

(٩) الحجر ١٥: ٢١.

(١٠) مريم ١٠: ٦٤.

(١١) القدر ٩٧: ٤.

(١٢) راجع: الميزان، ج١٥، ص٢١.

٣٣٥

٣ - ( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ) (١)

ماذا يعنى بذات الحُبُك؟

الحُبُك: جمع الحَبِيكة بمعنى الطَريقة المـَتّخذة، قال الراغب. فمنهم مَن تصوّر منها الطَرائق المحسوسة بالنجوم والمـَجرّات، ومنهم مَن اعتبر ذلك بما فيه مِن الطَرائق المعقولة المـُدرَكة بالبصيرة.

والحُبُك: المـُنعطفات على وجه الماء الصافي تحصل على أثرِ هُبوب الرياح الخفيفة، وهي تكسّرات على وجه الماء كتجعّدات الشعر، ويُقال للشعر المـُجعَّد: حُبُك والواحد حِباك وحَبيكة، قاله الشيخ أبو جعفر الطوسي في التبيان.

من ذلك قول زهير يصف روضة:

مُكلَّلٌ بأُصولِ النَجْمِ تَنْسِجُهُ

ريحٌ خَريقٌ لضاحي مائِهِ حُبُكُ

مراده بالنَجم النبات الناعم، وشَبّه تربية الرياح له بالنَسج، كأنّه إكليل (تاج مزيّن بالجواهر) نَسَجته الريح، ووصف الريح بالخَريق، وهو العاصف.

ثُمّ وَصَف ضاحي مائِهِ - وهو الصافي الزُلال - بأنّ على وجهه قَسَمات وتَعاريج على أثر مَهبّ الرياح عليه، وهو منظر بهيج.

فعلى احتمال إرادة التعرّجات المتأرجحة من الآية، فهي إشارة إلى تلكُم التمرُّجات النوريّة التي تُجلِّل كَبْدَ السماء زينةً لها وبهجةً للناظرين، فسبحان الصانع العظيم!

٤ - ( أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً) (٢)

في هذه الآية تَوجّه الخطاب إلى عامّة الناس ولا سيّما الأُمَم السالفة الجاهلة حيث لا يعرفون من أطباق السماء شيئاً، فكيف يُعرض عليهم دليلاً على إتقان صنعه تعالى؟ (الآية في سورة نوح والخطاب عن لسانه موجّه إلى قومه).

____________________

(١) الذاريات ٥١: ٧.

(٢) نوح ٧١: ١٥.

٣٣٦

وهكذا قوله تعالى: ( أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ ) (١) .

وقوله: ( الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ) (٢) .

قلت: هذا بناءً على تفسير الطِباق بذات الطَبقات.

هكذا فسّره المشهور: طِباقاً، واحدة فوق أخرى كالقِباب بعضها فوق بعض (٣) .

لكنّ الطِباق هو بمعنى الوِفاق والتَماثل في الصُنع والإتقان، بدليل تفسيره بقوله تعالى: ( مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ ) ، أي كلّها في الصُنع والاستحكام متشاكل.

وقد أُشرِب هنا معنى الالتحام والتلاصق التامّ بين أجزائها مُراداً به الانسجام في الخَلق، بدليل قوله تعالى: ( هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ) أي انشقاق وخَلَل وعَدم انسجام، وكذا قوله: ( وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ ) أي منفرجات وخلاّت تُوجب فصل بعضها عن بعض بحيث تُضادّ النَظم القائم، الأمر الذي يستطيع كلّ إنسان - مهما كان مَبلَغه مِن العِلم - من الوقوف عليه إذا تأمّل في النَظم الساطي على السماوات والأرض.

٥ - ( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ) (٤)

( وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ ) (٥) ( تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً ) (٦) ، أو هل تعني البُرُوج هذه ما تصوّره الفلكيّون بشأن البروج الاثني عشر في أشكالٍ رَسَموها لرصد النجوم؟

قلت: المعنيّ بالبُرُوج هذه هي نفس النُجوم؛ تشبيهاً لها بالقصور الزاهية والحصون المنيعة الرفيعة، بدليل عطف السِراج - وهي الشمس الوهّاجة - والقمر المنير عليها.

____________________

(١) ق ٥٠: ٦.

(٢) الملك ٦٧: ٣.

(٣) راجع: مجمع البيان، ذيل الآية من سورة المـُلك والآية من سورة نوح، ج ١٠، ص ٣٢٢ و ٣٦٣، وروح المعاني للآلوسي، ج ٢٩، ص ٦ و٧٥، وتفسير المراغي، ج ٢٩، ص ٦ و ٨٥... وغيرها.

(٤) البروج ٨٥: ١.

(٥) الحجر ١٥: ١٦.

(٦) الفرقان ٢٥: ٦١.

٣٣٧

ولا صلة لها بالأَشكال الفَلكيّة الاثني عشر.

البُرج - في اللغة - بمعنى الحِصن والقصر وكلّ بناءٍ رفيع على شكلٍ مُستدير، فالنُجوم باعتبار إنارتها تبدو مُستديرةً، وباعتبار تلألؤها تبدو كعُبابات تَعوم على وجه السماء زينةً لها، وباعتبارها مراصد لحراسة السماء ( وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ ) (١) ، هي حُصون منيعة، فصحّ إطلاق البروج عليها من هذه الجوانب لا غيرها.

هذا، وقد خُلِط على لفيفٍ من المفسّرين فَحَسبوها منازل الشمس والقمر حسب ترسيم الفلكيّين (٢) .

وسيّدنا العلاّمة الطباطبائي وإنْ كان في تفسيره لسورتَي الحِجر والفُرقان قد ذهب مذهب المشهور، لكنّه (قدس سره) عَدَل عنه عند تفسيره لسورة البُروج، قال: البُروج، جمع بُرج وهو الأمر الظاهر ويَغلب استعماله في القصر العالي والبِناء المـُرتفع على سُور البلد، وهو المـُراد في الآية، فالمـُراد بالبُروج مواضع الكواكب من السماء، قال: وبذلك يَظهر أنّ تفسير البُروج (في الآيات الثلاث) بالبُروج الاثني عشر المـُصطلح عليها في عِلم النجوم غير سديد (٣) .

وقال الشيخ مُحمّد عَبده: وفُسّرت البُروج بالنُجوم وبالبُروج الفلكيّة وبالقُصور على التشبيه، ولا ريب في أنّ النُجوم أَبنية فخيمة عظيمة، فيصحّ إطلاق البُروج عليها تشبيهاً لها بما يُبنى من الحُصون والقُصور في الأرض (٤) .

٦ - ( وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ)

قال تعالى: ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ

____________________

(١) الحجر ١٥: ١٧.

(٢) تفسير القمي، ج ١، ص ٣٧٣، والميزان، ج ١٢، ص ١٤٣ و ١٥٤، وتفسير ابن كثير، ج ٢، ص ٥٤٨، وروح المعاني، ج ١٤، ص ٢٠.

(٣) تفسير الميزان، ج ٢٠، ص ٣٦٨.

(٤) تفسير جزء عمّ لمـُحمّد عبده، ص ٥٧.

٣٣٨

يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ ) (١) .

(يُزجي): يَسوق، (يُؤلّف بينه): يؤلّف بين متفرّقه، (يجعله رُكاماً): متكاثفاً، (فترى الوَدق): قَطرات المطر الآخِذة في الهُطول.

( وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ ) ؟

السؤال هنا: ماذا يعني بالجبال هذه؟ وماذا يكون المقصود مِن البَرد وهو الماء المتجمّد على أثر ضغط البرد؟ وكيف يكون هناك في السماء جبالٌ مِن بردٍ؟

وقد مرّ عليها أكثر المفسّرين القُدامى مرور الكرام، وبعضهم أَخذها على ظاهرها وقال: إنّ في السّماء جِبالاً من برد (من ثلج) يَنزل منها المطر، كما تنحدر المياه من جبال الأرض على أثر تراكم الثلوج عليها، عن الحسن والجبّائي (٢) وعن مجاهد والكلبي وأكثر المفسّرين: أنّ المراد بالسّماء هي المظلّة وبالجبال حقيقتها، قالوا: إنّ الله خَلَق في السّماء جِبالاً من برد كما خَلق في الأرض جبالاً من صخر، قال الآلوسي: وليس في العقل ما ينفيه من قاطع، فيجوز إبقاء الآية على ظاهرها كما قيل (٣) .

قال السيّد المرتضى: وجدتُ المفسّرين على اختلاف عباراتهم يذهبون إلى أنّه تعالى أراد: أنّ في السّماء جِبالاً من بردٍ، وفيهم مَن قال: ما قَدْرُه قَدْرُ جبال، يعني مِقدار جبال مِن كثرته.

قال: وأبو مسلم بن بحر الإصبهانيّ خاصّةً انفرد في هذا الموضع بتأويلٍ طريف، وهو أنْ قال: الجبال، ما جَبَل الله مِن بَرَد، وكلّ جسم شديد مُستحجِر فهو من الجبال، ألم ترَ إلى قوله تعالى في خَلق الأُمَم: ( وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ ) (٤) ، والناس يقولون: فلا مجبول على كذا.

وأورد عليه السيّد بأنّه يَلزمه أنّ جعل الجبال اسماً للبرد نفسه؛ من حيث كان مجبولاً مستحجراً! وهذا غلط؛ لأنّ الجبال وإن كانت في الأصل مشتقّة من الجَبْل

____________________

(١) النور ٢٤: ٤٣.

(٢) مجمع البيان، ج ٧، ص ١٤٨.

(٣) روح المعاني، ج ١٨، ص ١٧٢، وراجع: التفسير الكبير، ج ٢٤، ص ١٤.

(٤) الشعراء ٢٦: ١٨٤.

٣٣٩

والجَمْع، فقد صارت اسماً لذي هيئةٍ مخصوصة؛ ولهذا لا يُسمّي أحد من أهل اللغة كلَّ جسم ضُمَّ بعضه إلى بعض - مع استحجار أو غير استحجار - بأنّه جبل، ولا يخصّون بهذا اللفظ إلاّ أجساماً مخصوصةً... كما أنّ اسم الدابّة وإن كان مشتقّاً في الأصل من الدبيب فقد صار اسماً لبعض ما دبّ، ولا يعمّ كلّ ما وقع منه الدبيب.

قال: والأَولى أنْ يُريد بلفظة السماء - هنا - ما عَلا من الغَيم وارتفع فصار سماءً لنا؛ لأنّ سماء البيت وسماواته ما ارتفع منه، وأراد بالجبال التشبيه؛ لأنّ السحاب المتراكب المتراكم تُشبّهه العرب بالجِبال والجِمال، وهذا شائعٌ في كلامها، كأنّه تعالى قال: ويُنزّل من السحاب الذي يشبه الجِبال في تَراكُمِه بَرداً.

قال: وعلى هذا التفسير تكون (مِن) الأُولى والثانية لابتداء الغاية، والثالثة زائدة لا حكم لها، ويكون تقدير الكلام: ويُنزّل من جبالٍ في السماء بَرداً، فزادت (مِن) كما تزاد في قولهم: ما في الدار من أحد، وكم أعطيته من درهم، ومالك عندي من حقّ، وما أشبه ذلك.

وأضاف: إنّه قد ظهر مفعولٌ صحيحٌ لـ (نُنزّل)، ولا مفعول لهذا الفعل على سائر التأويلات (١) .

قلت: وهو تأويل وجيه لولا جانب زيادة (مِن) في الإيجاب.

قال ابن هشام: شرط زيادتها تقدّم نفي أو نهي أو استفهام ولم يشترطه الكوفيّون واستدلّوا بقول العرب، قد كان من مطر. وبقول عمر بن أبي ربيعة:

ويَنمي لها حبُّها عندَنا

فما قال مِن كاشحٍ لم يَضِرّ

أي فما قاله كاشحٌ - وهو الذي يُضمر العداوة - لم يَضرّ.

قال: وقال الفارسي في قوله تعالى: ( وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ ) : يجوز كون (مِن) الثانية والثالثة زائدتَين، فجوّز الزيادة في الإيجاب (٢) .

____________________

(١) الأمالي للسيّد المرتضى عَلَم الهدى، ج ٢، ص ٣٠٤ - ٣٠٦.

(٢) مغني اللبيب لابن هشام، حرف الميم، ج ١، ص ٣٢٥.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

قوله تعالى: ( إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَ كَفَرَ ) استثناء من المفعول المحذوف لقوله السابق:( فَذَكِّرْ ) و التقدير فذكّر الناس إلّا من تولّى منهم عن التذكرة و كفر إذ تذكرته لغو لا فائدة فيها، و معلوم أنّ التولّي و الكفر إنّما يكون بعد التذكرة فالمنفيّ بالاستثناء هو التذكرة بعد التذكرة كأنّه قيل: ذكّرهم و أدم التذكرة إلّا لمن ذكّرته فتولّى عنها و كفر، فليس عليك إدامة تذكرته بل أعرض عنه فيعذّبه الله العذاب الأكبر.

فقوله:( فَذَكِّرْ - إلى أن قال -إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَ كَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ ) في معنى قوله:( فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى‏ - إلى أن قال -وَ يَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى) الأعلى: 12 و قد تقدّم بيانه.

و قيل: الاستثناء من ضمير( عَلَيْهِمْ ) في قوله:( لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) و المعنى لست عليهم بمتسلّط إلّا على من تولّى منهم عن التذكرة و أقام على الكفر فسيُسلّطك الله عليه و يأمرك بالجهاد فتقاتله فتقتله.

و قيل: الاستثناء منقطع و المعنى لست عليهم بمتسلّط لكنّ من تولّى و كفر منهم يعذّبه الله العذاب الأكبر، و ما قدّمناه من الوجه أرجح و أقرب.

قوله تعالى: ( فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ ) هو عذاب جهنّم فالآية كما تقدّم محاذية لقوله في سورة الأعلى( الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى‏ ) .

قوله تعالى: ( إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ) الإياب الرجوع و( إِلَيْنا ) خبر إنّ و إنّما قدّم للتأكيد و لرعاية الفواصل دون الحصر إذ لا قائل برجوع الناس إلى غير الله سبحانه و الآية في مقام التعليل للتعذيب المذكور في الآية السابقة.

قوله تعالى: ( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ ) الكلام فيه كالكلام في الآية السابقة.

٤٠١

( بحث روائي‏)

في المجمع، و قال أبوعبداللهعليه‌السلام : كلّ ناصب و إن تعبّد و اجتهد يصير إلى هذه الآية( عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تَصْلى‏ ناراً حامِيَةً ) .

أقول: و رواه في ثواب الأعمال، مسنداً و لفظه: كلّ ناصب و إن تعبّد و اجتهد يصير إلى هذه الغاية( عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تَصْلى‏ ناراً حامِيَةً ) .

و فيه، عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الضريع شي‏ء في النار يشبه الشوك أمرّ من الصبر و أنتن من الجيفة و أشدّ حرّاً من النار سمّاه الله الضريع.

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً ) قال: الهزل و الكذب.

و فيه،: في قوله تعالى:( لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) قال: بحافظ و لا كاتب عليهم.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و عبد بن حميد و مسلم و الترمذيّ و النسائيّ و ابن ماجة و ابن جرير و الحاكم و ابن مردويه و البيهقيّ في الأسماء و الصفات عن جابر قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اُمرت أن اُقاتل الناس حتّى يقولوا: لا إله إلّا الله فإذا قالوها عصموا منيّ دماءهم و أموالهم إلّا بحقّها و حسابهم على الله ثمّ قرأ( فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) .

أقول: لا دلالة في الرواية على كون الاستثناء من ضمير( عَلَيْهِمْ ) و هو ظاهر.

و فيه، و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَ كَفَرَ ) يريد من لم يتّعظ و لم يصدّقك و جحد ربوبيّتي و كفر نعمتي( فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ ) يريد الغليظ الشديد الدائم( إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ) يريد مصيرهم( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ ) يريد جزاءهم.

و في النهج: و سئلعليه‌السلام : كيف يحاسب الله الخلق على كثرتهم؟ قال: كما يرزقهم على كثرتهم. قيل: فكيف يحاسبهم و لا يرونه؟ قال: كما يرزقهم و لا يرونه.

٤٠٢

و فيه، قال الصادقعليه‌السلام : كلّ اُمّة يحاسبها إمام زمانها، و يعرف الأئمّة أولياءهم و أعداءهم بسيماهم و هو قوله:( وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ‏ ) الحديث.

أقول: قد تقدّم توضيح معنى الحديث في تفسير الآية من سورة الأعراف، و روي هذا المعنى في البصائر، عن الصادقعليه‌السلام مسنداً و في الكافي، عن الباقر و الكاظمعليهما‌السلام و في الفقيه، عن الهاديعليه‌السلام في الزيارة الجامعة.

٤٠٣

( سورة الفجر مكّيّة و هي ثلاثون آية)

( سورة الفجر الآيات 1 - 30)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالْفَجْرِ ( 1 ) وَلَيَالٍ عَشْرٍ ( 2 ) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ( 3 ) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ( 4 ) هَلْ فِي ذَٰلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ ( 5 ) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ( 6 ) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ ( 7 ) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ( 8 ) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ ( 9 ) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ ( 10 ) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ ( 11 ) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ ( 12 ) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ( 13 ) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ( 14 ) فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ( 15 ) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ( 16 ) كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ( 17 ) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ ( 18 ) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا ( 19 ) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ( 20 ) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ( 21 ) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ( 22 ) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ ( 23 ) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ( 24 ) فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ ( 25 ) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ( 26 ) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ( 27 ) ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ( 28 ) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ( 29 ) وَادْخُلِي جَنَّتِي ( 30 )

٤٠٤

( بيان‏)

في السورة ذمّ التعلّق بالدنيا المتعقّب للطغيان و الكفران و إيعاد أهله بأشدّ عذاب الله في الدنيا و الآخرة فتبيّن أنّ الإنسان لقصور نظره و سوء فكره يرى أنّ ما آتاه الله من نعمه من كرامته على الله و أنّ ما يتلبّس به من الفقر و العدم من هوانه فيطغى و يفسد في الأرض إذا وجد و يكفر إذا فقد و قد اشتبه عليه الأمر فما يصيبه من القدرة و الثروة و من الفقر و ضيق المعاش امتحان و ابتلاء إلهيّ ليظهر به ما ذا يقدّم من دنياه لاُخراه.

فليس الأمر على ما يتوهّمه الإنسان و يقوله بل الأمر كما سيتذكره إذا وقع الحساب و حضر العذاب أنّ ما أصابه من فقر أو غنى أو قوّة أو ضعف كان امتحاناً إلهيّاً و كان يمكنه أن يقدّم من يومه لغده فلم يفعل و آثر العقاب على الثواب فليس ينال الحياة السعيدة في الآخرة إلّا النفس المطمئنّة إلى ربّها المسلمة لأمره الّتي لا تتزلزل بعواصف الابتلاءات و لا يطغيه الوجدان و لا يكفره الفقدان.

و السورة مكّيّة بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: ( وَ الْفَجْرِ وَ لَيالٍ عَشْرٍ وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ وَ اللَّيْلِ إِذا يَسْرِ هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ) الفجر الصبح و الشفع الزوج، قال الراغب: الشفع ضمّ الشي‏ء إلى مثله و يقال للمشفوع شفع. انتهى. و سري الليل مضيّه و إدباره، و الحجر العقل فقوله:( وَ الْفَجْرِ ) إقسام بالصبح و كذا الحال فيما عطف عليه من ليال و الشفع و الوتر و اللّيل.

و لعلّ ظاهر قوله:( وَ الْفَجْرِ ) أنّ المراد به مطلق الفجر و لا يبعد أيضاً أن يراد به فجر يوم النحر و هو عاشر ذي الحجّة.

و قيل: المراد فجر ذي الحجّة، و قيل: فجر المحرّم أوّل السنة و قيل: فجر يوم الجمعة، و قيل فجر ليلة جمع، و قيل: المراد به صلاة الفجر، و قيل: النهار كلّه

٤٠٥

و قيل: فجر العيون من الصخور و غيرها و هي وجوه رديّة.

و قوله:( وَ لَيالٍ عَشْرٍ ) لعلّ المراد بها الليالي العشر من أوّل ذي الحجّة إلى عاشرها و التنكير للتفخيم.

و قيل: المراد بها الليالي العشر من آخر شهر رمضان، و قيل: الليالي العشر من أوّله، و قيل الليالي العشر من أوّل المحرّم، و قيل: المراد عبادة ليال عشر على تقدير أن يراد بالفجر صلاة الفجر.

و قوله( وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ ) يقبل الانطباق على يوم التروية و يوم عرفة و هو الأنسب على تقدير أن يراد بالفجر و ليال عشر فجر ذي الحجّة و العشر الأوّل من لياليها.

و قيل: المراد صلاتاً الشفع و الوتر في آخر الليل، و قيل: مطلق الصلاة فمنها شفع و منها وتر، و قيل: الشفع يوم النحر و الوتر يوم عرفة، و قيل: الشفع جميع الخلق لأنّه قال:( وَ خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً ) النبأ: 8 و الوتر هو الله تعالى، و على هذه الأقوال روايات ستوافيك في البحث الروائيّ الآتي إن شاء الله.

و قيل: المراد الزوج و الفرد من العدد، و في الإقسام بهما تذكير بالعدد لما في ضبط المقادير به من عظيم النعمة من الله سبحانه، و قيل: الشفع و الوتر جميع المخلوقات لأنّ الأشياء إمّا زوج و إمّا فرد، و قيل: الوتر آدم شفع بزوجته، و قيل: الشفع الأيّام و الليالي و الوتر اليوم الّذي لا ليل بعده و هو يوم القيامة، و قيل: الشفع الصفا و المروة و الوتر البيت الحرام، و قيل: الشفع أيّام عاد و الوتر لياليها، و قيل: الشفع أبواب الجنّة و هي ثمانية و الوتر أبواب جهنّم و هي سبعة إلى غير ذلك و هي كثيرة أنّهاها بعضهم إلى ستّة و ثلاثين قولاً و لا يخلو أكثرها من تحكّم.

و قوله:( وَ اللَّيْلِ إِذا يَسْرِ ) أي يمضي فهو كقوله:( وَ اللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ) المدّثر: 33 و ظاهره أنّ اللّام للجنس فالمراد به مطلق آخر الليل، و قيل: المراد به ليلة المزدلفة و هي ليلة النحر الّتي يسري فيها الحاجّ من عرفات إلى المزدلفة فيجتمع فيها على طاعة الله ثمّ يغدوا منها إلى منى و هو كما ترى و خاصّة على القول بكون المراد بليال

٤٠٦

عشر هو الليالي العشر الأوائل منها.

و قوله:( هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ) الإشارة بذلك إلى ما تقدّم من القسم، و الاستفهام للتقرير، و المعنى أنّ في ذلك الّذي قدّمناه قسماً كافياً لمن له عقل يفقه به القول و يميّز الحقّ من الباطل، و إذا أقسم الله سبحانه بأمر - و لا يقسم إلّا بما له شرف و منزلة - كان من القول الحقّ المؤكّد الّذي لا ريب في صدقه.

و جواب الأقسام المذكورة محذوف يدلّ عليه ما سيذكر من عذاب أهل الطغيان و الكفران في الدنيا و الآخرة و ثواب النفوس المطمئنّة، و أنّ إنعامه تعالى على من أنعم عليه و إمساكه عنه فيمن أمسك إنّما هو ابتلاء و امتحان.

و حذف الجواب و الإشارة إليه على طريق التكنية أوقع و آكد في باب الإنذار و التبشير.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ ) هم عاد الاُولى قوم هود تكرّرت قصّتهم في القرآن الكريم و اُشير إلى أنّهم كانوا بالأحقاف، و قد قدّمنا ما يتحصّل من قصصهم في القرآن الكريم في تفسير سورة هود.

قوله تعالى: ( إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ ) العماد و جمعه عمد ما يعتمد عليه الأبنية، و ظاهر الآيتين أنّ إرم كانت مدينة لهم معمورة عديمة النظير ذات قصور عالية و عمد ممدّدة، و قد انقطعت أخبار القوم عهدهم و انمحت آثارهم، فلا سبيل إلى الحصول على تفصيل حالهم تطمئنّ إليها النفس إلّا ما قصّة القرآن الكريم من إجمال قصّتهم أنّهم كانوا بعد قوم نوح قاطنين بالأحقاف و كانوا ذوي بسطة في الخلق اُولي قوّة و بطش شديد، و كان لهم تقدّم و رقي في المدنيّة و الحضارة لهم بلاد عامرة و أراض خصبة ذات جنّات و نخيل و زروع و مقام كريم و قد تقدّمت القصّة.

و قيل: المراد بإرم قوم عاد - و هو في الأصل اسم أبيهم سمّوا باسم أبيهم كما يقال: قريش و يراد به القرشيّون و يطلق إسرائيل و يراد به بنو إسرائيل - و المراد بكونهم ذات عماد كونهم اُولي قوّة و سطوة.

٤٠٧

و المعنى: أ لم تر كيف فعل ربّك بقوم عاد الّذين هم قوم إرم ذوو القوّة و الشدّة الّذين لم يخلق مثلهم في بسطة الجسم و القوّة و البطش في البلاد أو في أقطار الأرض و لا يخلو من بعد من ظاهر اللفظ.

و أبعد منه ما قيل: إنّ المراد بكونهم ذات العماد أنّهم كانوا أهل عمد سيّارة في الربيع فإذا هاج النبت رجعوا إلى منازلهم.

و من الأساطير قصّة جنّة إرم المشهورة المرويّة عن وهب بن منبّه و كعب الأحبار.

قوله تعالى: ( وَ ثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ ) الجوب القطع أي قطعوا صخر الجبال بنحتها بيوتاً فهو في معنى قوله:( وَ تَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً ) الشعراء: 149.

قوله تعالى: ( وَ فِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ ) هو فرعون موسى، و سمّي ذا الأوتاد - على ما في بعض الروايات - لأنّه كان إذا أراد أن يعذّب رجلاً بسطه على الأرض و وتد يديه و رجليه بأربعة أوتاد في الأرض و ربّما بسطه على خشب و فعل به ذلك، و يؤيّده ما حكاه الله من قوله يهدّد السحرة إذ آمنوا بموسى:( وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ) طه: 71 فإنّهم كانوا يوتّدون يدي المصلوب و رجليه على خشبة الصليب.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ ) صفة للمذكورين من عاد و ثمود و فرعون، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ ) صبّ الماء معروف و صبّ سوط العذاب كناية عن التعذيب المتتابع المتواتر الشديد، و تنكير عذاب للتفخيم.

و المعنى فأنزل ربّك على كلّ من هؤلاء الطاغين المكثرين للفساد إثر طغيانهم و إكثارهم الفساد عذاباً شديداً متتابعاً متوالياً لا يوصف.

قوله تعالى: ( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ ) المرصاد المكان الّذي يرصد منه و يرقب و كونه تعالى على المرصاد استعارة تمثيليّة شبّه فيها حفظه تعالى لأعمال عباده بمن

٤٠٨

يقعد على المرصاد يرقب من يراد رقوبه فيأخذه حين يمرّ به و هو لا يشعر فالله سبحانه رقيب يرقب أعمال عباده حتّى إذا طغوا و أكثروا الفساد أخذهم بأشدّ العذاب.

و في الآية تعليل ما تقدّم من حديث تعذيب الطغاة المكثرين للفساد من الماضين و في قوله:( رَبَّكَ ) بإضافة الربّ إلى ضمير الخطاب تلويح إلى أنّ سنّة العذاب جارية في اُمّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما جرت عليه في الاُمم الماضين.

قوله تعالى: ( فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ) متفرّع على ما قبله، فيه تفصيل حال الإنسان إذا اُوتي من نعم الدنيا أو حرم كأنّه قيل: إنّ الإنسان تحت رقوب إلهيّ يرصده ربّه هل يصلح أو يفسد؟ و يبتليه و يمتحنه فيما آتاه من نعمة أو حرمة هذا هو الأمر في نفسه و أمّا الإنسان فإنّه إذا أنعم الله عليه بنعمة حسب أنّ ذلك إكرام إلهيّ له أن يفعل بها ما يشاء فيطغى و يكثر الفساد، و إذا أمسك و قدر عليه رزقه حسب أنّه إهانة إلهيّة فيكفر و يجزع.

فقوله:( فَأَمَّا الْإِنْسانُ ) المراد به النوع بحسب الطبع الأوّليّ فاللّام للجنس دون الاستغراق.

و قوله:( إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ ) أي امتحنه و اختبره، و العامل في الظرف محذوف تقديره كائنا إذا إلخ و قيل: العامل فيه( فَيَقُولُ ) .

و قوله:( فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ ) تفسير للابتلاء، و المراد بالإكرام و التنعيم الصوريّان و إن شئت فقل: الإكرام و التنعيم حدوثاً لا بقاء أي إنّه تعالى أكرمه و آتاه النعمة ليشكره و يعبده لكنّه جعلها نقمة على نفسه تستتبع العذاب.

و قوله:( فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ) أي جعلني على كرامة منه بالنعم الّتي آتانيها و إن شئت فقل: القدرة و الجدة الموهوبتان إكرام و تنعيم حدوثاً و بقاء فلي أن أفعل ما أشاء.

و الجملة أعني قوله:( فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ) حكاية ما يراه الإنسان بحسب الطبع، و قول الإنسان:( رَبِّي أَكْرَمَنِ ) الظاهر في نسبة التدبير إلى الله سبحانه

٤٠٩

- و لا يقول به الوثنيّة و المنكرون للصانع - مبنيّ على اعترافه بحسب الفطرة به تعالى و إن استنكف عنه لساناً، و أيضاً لرعاية المقابلة مع قوله:( إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ ) .

قوله تعالى: ( وَ أَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ ) أي و أمّا إذا ما امتحنه و اختبره فضيق عليه رزقه فيقول ربّي أذلّني و استخفّ بي.

و يظهر من مجموع الآيتين أوّلاً حيث كرّر الابتلاء و أثبته في صورتي التنعيم و الإمساك عنه أنّ إيتاء النعم و الإمساك عنه جميعاً من الابتلاء و الامتحان الإلهيّ كما قال:( وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً ) الأنبياء: 35 لا كما يراه الإنسان.

و ثانياً أنّ إيتاء النعم بما أنّه فضل و رحمة إكرام إن لم يبدّلها الإنسان نقما على نفسه.

و ثالثاً أنّ الآيتين معاً تفيدان أنّ الإنسان يرى سعادته في الحياة هي التنعّم في الدنيا بنعم الله تعالى و هو الكرامة عنده و الحرمان منه شقاء عنده و الحال أنّ الكرامة هي في التقرّب إليه تعالى بالإيمان و العمل الصالح سواء في ذلك الغنى و الفقر و أي وجدان و فقدان فإنّما ذلك بلاء و امتحان.

و لهم في معنى الآيتين وجوه اُخر تركنا التعرّض لها لقلّة الجدوى.

قوله تعالى: ( كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَ لا تَحَاضُّونَ عَلى‏ طَعامِ الْمِسْكِينِ ) ردع لقولهم: إنّ الكرامة هي في الغنى و التنعّم، و في الفقر و الفقدان هوان و مذلّة، و المعنى ليس كما تقولون و إنّما إيتاؤه تعالى النعمة و إمساكه عنه كلّ ذلك ابتلاء و امتحان يختبر به حال الإنسان من حيث عبوديّته.

و في قوله:( بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ) إلخ إضراب يؤكّد الردع بذكر بعض التنعّم الّذي لا يجامع الكرامة البتّة كعدم إكرامهم اليتيم بأكل تراثه و منعه منه و عدم التحريض على إطعام المسكين حبّاً للمال فالفطرة الإنسانيّة لا يرتاب في أن لا كرامة في غنى هذا شأنه.

و في الإضراب مضافاً إلى أصل الردع تقريع و لتشديد هذا التقريع وقع الالتفات من الغيبة إلى الخطاب.

٤١٠

فقوله:( بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ) عدم إكرامه حرمانه من تراث أبيه - كما كانوا يحرمون صغار الأولاد من الإرث - و تركه صفر الكفّ بلغ به الجهد ما بلغ كما تؤيّده الآية التالية( وَ تَأْكُلُونَ التُّراثَ ) إلخ.

و قوله:( وَ لا تَحَاضُّونَ عَلى‏ طَعامِ الْمِسْكِينِ ) أصله و لا تتحاضّون، و هو تحريض بعضهم بعضاً على التصدّق على المساكين المعدمين، و منشأه حبّ المال كما في الآية الآتية( وَ تُحِبُّونَ الْمالَ ) إلخ.

قوله تعالى: ( وَ تَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا ) اللمّ أكل الإنسان نصيب نفسه و غيره و أكله ما يجده من دون أن يميّز الطيّب من الخبيث، و الآية تفسير لعدم إكرامهم اليتيم كما تقدّم.

قوله تعالى: ( وَ تُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا ) الجمّ الكثير العظيم، و الآية تفسّر عدم تحاضّهم على طعام المسكين كما تقدّم.

قوله تعالى: ( كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ) الدكّ هو الدقّ الشديد، و المراد بالظرف حضور يوم القيامة.

ردع ثان عمّا يقوله الإنسان في حالي الغنى و الفقر، و قوله:( إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ ) إلخ في مقام التعليل للردع، و محصّل المعنى ليس كما يقوله الإنسان فإنّه سيتذكّر إذا قامت القيامة إنّ الحياة الدنيا و ما فيها من الغنى و الفقر و أضرابهما لم تكن مقصودة بالذات بل كانت ابتلاء و امتحاناً من الله تعالى يميّز به السعيد من الشقيّ و يهيّئ الإنسان فيها ما يعيش به في الآخرة و قد التبس عليه الأمر فحسبها كرامة مقصودة بالذات فاشتغل بها و لم يقدّم لحياته الآخرة شيئاً فيتمنّى عند ذلك و يقول: يا ليتني قدّمت لحياتي و لن يصرف التمنّي عنه شيئاً من العذاب.

قوله تعالى: ( وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ) نسبة المجي‏ء إليه تعالى من المتشابه الّذي يحكمه قوله تعالى:( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ ) الشورى: 11 و ما ورد في آيات القيامة من خواصّ اليوم كتقطّع الأسباب و ارتفاع الحجب عنهم و ظهور أنّ الله هو الحقّ المبين.

٤١١

و إلى ذلك يرجع ما ورد في الروايات أنّ المراد بمجيئه تعالى مجي‏ء أمره قال تعالى:( وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ) الانفطار: 19، و يؤيّد هذا الوجه بعض التأييد قوله تعالى( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَ الْمَلائِكَةُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ ) البقرة: 210 إذا انضمّ إلى قوله:( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ ) النحل: 33 و عليه فهناك مضاف محذوف و التقدير جاء أمر ربّك أو نسبة المجي‏ء إليه تعالى من المجاز العقليّ.

و الكلام في نسبة المجي‏ء إلى الملائكة و كونهم صفّا صفّا كما مرّ.

قوله تعالى: ( وَ جِي‏ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ) إلى آخر الآية لا يبعد أن يكون المراد بالمجي‏ء بجهنّم إبرازها لهم كما في قوله تعالى:( وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى‏ ) النازعات: 36 و قوله:( وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ ) الشعراء: 91، و قوله:( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ق: 22.

و قوله:( يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ) أي يتذكّر أجلى التذكّر أنّ ما كان يؤتاه في الحياة الدنيا من خير أو شرّ كان من ابتلاء الله و امتحانه و أنّه قصر في أمره، هذا ما يفيده السياق.

و قوله:( وَ أَنَّى لَهُ الذِّكْرى) أي و من أين له الذكرى كناية عن عدم انتفاعه بها فإنّ الذكرى إنّما تنفع فيما أمكنه أن يتدارك ما فرّط فيه بتوبة و عمل صالح و اليوم يوم الجزاء لا يوم الرجوع و العمل.

قوله تعالى: ( يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي ) أي لحياتي هذه و هي الحياة الآخرة أو المراد الحياة الحقيقيّة و هي الحياة الآخرة على ما نبّه تعالى عليه بقوله:( وَ ما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) العنكبوت: 64.

و المراد بالتقديم للحياة تقديم العمل الصالح للحياة الآخرة و ما في الآية تمنّ يتمنّاه الإنسان عند ما يتذكّر يوم القيامة و يشاهد أنّه لا ينفعه.

قوله تعالى: ( فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ وَ لا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ ) ضميراً عذابه

٤١٢

و وثاقه لله تعالى و المعنى فيومئذ لا يعذّب عذاب الله أحد من الخلق و لا يوثق وثاق الله أحد من الخلق أي إنّ عذابه و وثاقه تعالى يومئذ فوق عذاب الخلق و وثاقهم، تشديد في الوعيد.

و قرئ( لا يُعَذِّبُ ) بفتح الذال و( وَ لا يُوثِقُ ) بفتح الثاء بالبناء للمفعول و ضميراً عذابه و وثاقه على هذا للإنسان و المعنى لا يعذّب أحد يومئذ مثل عذاب الإنسان و لا يوثق أحد يومئذ مثل وثاقه.

قوله تعالى: ( يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ) الّذي يعطيه سياق المقابلة بين هذه النفس بما ذكر لها من الأوصاف و عيّن لها من حسن المنقلب و بين الإنسان المذكور قبل بما ذكر له من وصف التعلّق بالدنيا و الطغيان و الفساد و الكفران، و ما اُوعد من سوء المصير هو أنّ النفس المطمئنّة هي الّتي تسكن إلى ربّها و ترضى بما رضي به فترى نفسها عبداً لا يملك لنفسه شيئاً من خير أو شرّ أو نفع أو ضرّ و يرى الدنيا دار مجاز و ما يستقبله فيها من غنى أو فقر أو أيّ نفع و ضرّ ابتلاء و امتحاناً إلهيّاً فلا يدعوه تواتر النعم عليه إلى الطغيان و إكثار الفساد و العلوّ و الاستكبار، و لا يوقعه الفقر و الفقدان في الكفر و ترك الشكر بل هو في مستقرّ من العبوديّة لا ينحرف عن مستقيم صراطه بإفراط أو تفريط.

قوله تعالى: ( ارْجِعِي إِلى‏ رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً ) خطاب ظرفه جميع يوم القيامة من لدن إحيائها إلى استقرارها في الجنّة بل من حين نزول الموت إلى دخول جنّة الخلد و ليس خطاباً واقعاً بعد الحساب كما ذكره بعضهم.

و توصيفها بالراضية لأنّ اطمئنانها إلى ربّها يستلزم رضاها بما قدّر و قضى تكويناً أو حكم به تشريعاً فلا تسخطها سانحة و لا تزيغها معصية، و إذا رضي العبد من ربّه رضي الربّ منه إذ لا يسخطه تعالى إلّا خروج العبد من زيّ العبوديّة فإذا لزم طريق العبوديّة استوجب ذلك رضى ربّه و لذا عقّب قوله( راضِيَةً ) بقوله:( مَرْضِيَّةً ) .

قوله تعالى: ( فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَ ادْخُلِي جَنَّتِي ) تفريع على قوله:( ارْجِعِي

٤١٣

إِلى‏ رَبِّكِ ) و فيه دلالة على أنّ صاحب النفس المطمئنّة في زمرة عباد الله حائز مقام العبوديّة.

و ذلك أنّه لمّا اطمأنّ إلى ربّه انقطع عن دعوى الاستقلال و رضي بما هو الحقّ من ربّه فرأى ذاته و صفاته و أفعاله ملكاً طلقاً لربّه فلم يرد فيما قدّر و قضى و لا فيما أمر و نهي إلّا ما أراده ربّه، و هذا ظهور العبوديّة التامّة في العبد ففي قوله:( فَادْخُلِي فِي عِبادِي ) تقرير لمقام عبوديّتها.

و في قوله:( وَ ادْخُلِي جَنَّتِي ) تعيين لمستقرّها، و في إضافة الجنّة إلى ضمير التكلّم تشريف خاصّ، و لا يوجد في كلامه تعالى إضافة الجنّة إلى نفسه تعالى و تقدّس إلّا في هذه الآية.

( بحث روائي‏)

في المجمع: في قوله تعالى:( وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ ) ، و قيل: الشفع الخلق لأنّه قال:( وَ خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً ) و الوتر الله تعالى: عن عطيّة العوفيّ و أبي صالح و ابن عبّاس و مجاهد و هي رواية أبي سعيد الخدريّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و قيل: الشفع و الوتر الصلاة منها شفع و منها وتر: و هي رواية عن ابن حصين عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و قيل: الشفع يوم النحر و الوتر يوم عرفة: عن ابن عبّاس و عكرمة و الضحّاك، و هي رواية جابر عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الوجه فيه أنّ يوم النحر يشفّع بيوم نفر بعده و يتفرّد يوم عرفة بالموقف، و قيل: الشفع يوم التروية و الوتر يوم عرفة: و روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام .

أقول: الروايات الثلاث المشار إليها مرويّة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من طرق أهل السنّة و يمكن الجمع بينها بأنّ المراد مطلق الشفع و الوتر و الروايات من قبيل الإشارة إلى بعض المصاديق.

و في تفسير القمّيّ:( وَ لَيالٍ عَشْرٍ ) قال: عشر ذي الحجّة( وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ ) قال: الشفع ركعتان و الوتر ركعة، و في حديث: الشفع الحسن و الحسين و الوتر أمير

٤١٤

المؤمنينعليهم‌السلام ( وَ اللَّيْلِ إِذا يَسْرِ ) قال: هي ليلة جمع.

و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله:( لِذِي حِجْرٍ ) يقول: لذي عقل.

و في العلل، بإسناده إلى أبان الأحمر قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( وَ فِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ ) لأيّ شي‏ء سمّي ذا الأوتاد؟ فقال: لأنّه كان إذا عذّب رجلاً بسطه على الأرض على وجهه و مدّ يديه و رجليه فأوتدها بأربعة أوتاد في الأرض. و ربّما بسطه على خشب منبسط فوتّد رجليه و يديه بأربعة أوتاد ثمّ تركه على حاله حتّى يموت فسمّاه الله عزّوجلّ فرعون ذا الأوتاد.

و في المجمع: في قوله تعالى:( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ ) وروي عن عليّعليه‌السلام أنّه قال: إنّ معناه أنّ ربّك قادر أن يجزي أهل المعاصي جزاءهم.

أقول: بناء الرواية على أخذ الجملة استعارة تمثيليّة.

و فيه، عن الصادقعليه‌السلام أنّه قال: المرصاد قنطرة على الصراط لا يجوزها عبد بمظلمة عبد.

و عن الغوالي، عن الصادقعليه‌السلام في حديث في تفسير قوله تعالى:( وَ ذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ) إنّما ظنّ بمعنى استيقن أنّ الله تعالى لن يضيّق عليه رزقه أ لا تسمع قول الله تعالى:( وَ أَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ ) أي ضيّق عليه.

و في تفسير القمّيّ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله:( كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ) قال: هي الزلزلة.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن عليّ بن أبي طالب قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هل تدرون ما تفسير هذه الآية( كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ - إلى قوله -وَ جِي‏ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ) قال: إذا كان يوم القيامة تقاد جهنّم بسبعين ألف زمام بيد سبعين ألف ملك فتشرد شردة لو لا أنّ الله حبسها لأحرقت السماوات و الأرض.

أقول: و هو مرويّ أيضاً عن أبي سعيد و ابن مسعود و من طرق الشيعة في أمالي

٤١٥

الشيخ، بإسناده عن داود بن سليمان عن الرضا عن آبائه عن عليّعليه‌السلام عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في العيون، في باب ما جاء عن الرضا من أخبار التوحيد بإسناده عن عليّ بن فضال عن أبيه قال: سألت الرضاعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ) فقال: إنّ الله سبحانه لا يوصف بالمجي‏ء و الذهاب تعالى عن الانتقال إنّما يعني بذلك و جاء أمر ربّك.

و في الكافي، بإسناده عن سدير الصيرفيّ قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام : جعلت فداك يا ابن رسول الله هل يكره المؤمن على قبض روحه؟ قال: لا و الله إنّه إذا أتاه ملك الموت ليقبض روحه جزع عند ذلك فيقول ملك الموت: يا وليّ الله لا تجزع فوالّذي بعث محمّداً لأنّي أبرّ بك و أشفق عليك من والد رحيم لو حضرك، افتح عينيك فانظر.

قال: و يمثّل له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أميرالمؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسين و الأئمّة من ذرّيّتهمعليهم‌السلام فيقال له: هذا رسول الله و أميرالمؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسين و الأئمّةعليهم‌السلام رفقاؤك.

قال: فيفتح عينيه فينظر فينادي روحه مناد من قبل ربّ العزّة فيقول: يا أيّتها النفس المطمئنّة إلى محمّد و أهل بيته ارجعي إلى ربّك راضية بالولاية مرضيّة بالثواب فادخلي في عبادي يعني محمّداً و أهل بيته و ادخلي جنّتي فما من شي‏ء أحبّ إليه من استلال روحه و اللحوق بالمنادي.

أقول: و روى هذا المعنى القمّيّ في تفسيره و البرقيّ في المحاسن.

٤١٦

( سورة البلد مكّيّة و هي عشرون آية)

( سورة البلد الآيات 1 - 20)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ( 1 ) وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ( 2 ) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ( 3 ) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ( 4 ) أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ( 5 ) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا ( 6 ) أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ ( 7 ) أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ ( 8 ) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ ( 9 ) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ( 10 ) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ( 11 ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ( 12 ) فَكُّ رَقَبَةٍ ( 13 ) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ( 14 ) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ ( 15 ) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ( 16 ) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ ( 17 ) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ( 18 ) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ( 19 ) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ ( 20 )

( بيان‏)

تذكر السورة أنّ خلقة الإنسان مبنيّة على التعب و المشقّة فلا تجد شأناً من شؤن الحياة إلّا مقروناً بمرارة الكدّ و التعب من حين يلج في جثمانه الروح إلى أن يموت فلا راحة له عارية من التعب و المشقّة و لا سعادة له خالصة من الشقاء و المشأمة إلّا في الدار الآخرة عند الله.

فليتحمّل ثقل التكاليف الإلهيّة بالصبر على الطاعة و عن المعصية و ليجدّ في نشر الرحمة على المبتلين بنوائب الدهر كاليتم و الفقر و المرض و أضرابها حتّى يكون

٤١٧

من أصحاب الميمنة و إلّا فآخرته كاُولاه و هو من أصحاب المشأمة عليهم نار مؤصدة.

و سياق آيات السورة، يشبه السياق المكّيّ فيؤيّد به كون السورة مكّيّة و قد ادّعى بعضهم عليه الإجماع، و قيل: السورة مدنيّة و السياق لا يساعد عليه، و قيل: مدنيّة إلّا أربع آيات من أوّلها و سيأتي في البحث الروائيّ التالي إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ( لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ ) ذكروا أنّ المراد بهذا البلد مكّة و تؤيّده مكّيّة سياق السورة و قوله:( وَ والِدٍ وَ ما وَلَدَ ) خاصّة بناء على كون المراد بوالد هو إبراهيمعليه‌السلام على ما سيجي‏ء.

قوله تعالى: ( وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ ) حال من هذا البلد، و وضع الظاهر موضع الضمير في قوله:( بِهذَا الْبَلَدِ ) للدلالة على عظم شأنه و الاعتناء بأمره و هو البلد الحرام، و الحلّ مصدر كالحلول بمعنى الإقامة و الاستقرار في مكان و المصدر بمعنى الفاعل.

و المعنى اُقسم بهذا البلد و الحال أنك حالٌ به مقيم فيه و في ذلك تنبيه على تشرّف مكّة بحلولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها و كونها مولده و مقامه.

و قيل: الجملة معترضة بين القسم و المقسم به و المراد بالحلّ المستحلّ الّذي لا حرمة له قال في الكشاف: و اعترض بين القسم و المقسم عليه بقوله:( وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ ) يعني و من المكابدة أنّ مثلك على عظم حرمتك يستحلّ بهذا البلد الحرام كما يستحلّ الصيد في غير الحرم - عن شرحبيل - يحرّمون أن يقتلوا بها صيداً و يعضدوا(1) بها شجرة و يستحلّون إخراجك و قتلك، و فيه تثبيت من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بعث على‏ احتمال ما كان يكابد من أهل مكّة و تعجيب من حالهم في عداوته انتهى.

ثمّ قال: أو سلّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقسم ببلده أنّ الإنسان لا يخلو من مقاساة الشدائد و اعترض بأن وعده فتح مكّة تتميماً للتسلية و التنفيس عنه فقال:( وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ ) يعني و أنت حلّ به في المستقبل تصنع فيه ما تريد من القتل و الأسر إلى آخر ما قال، و محصّله تفسير الحلّ بمعنى المحلّ ضدّ المحرم، و المعنى و سنحلّ لك يوم فتح مكّة حيناً فنقاتل و تقتل فيه من شئت.

____________________

(1) عضد الشجرة: قطعها و نثر ورقها للإبل. و شرحبيل راوي الحديث.

٤١٨

قوله تعالى: ( وَ والِدٍ وَ ما وَلَدَ ) لزوم نوع من التناسب و الارتباط بين القسم و المقسم عليه يستدعي أن يكون المراد بوالد و ما ولد من بينه و بين البلد المقسم به نسبة ظاهرة و ينطبق على إبراهيم و ولده إسماعيلعليهما‌السلام و هما السببان الأصليّان لبناء بلدة مكّة و البانيان للبيت الحرام قال تعالى:( وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ ) البقرة: 127 و إبراهيمعليه‌السلام هو الّذي سأل الله أن يجعل مكّة بلداً آمنا قال تعالى:( وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً ) إبراهيم: 35. و تنكير( والِدٍ ) للتعظيم و التفخيم، و التعبير بقوله( وَ ما وَلَدَ ) دون أن يقال: و من ولد، للدلالة على التعجيب من أمره مدحاً كما في قوله:( وَ اللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ ) آل عمران: 36.

و المعنى و اُقسم بوالد عظيم الشأن هو إبراهيم و ما ولد من ولد عجيب أمره مبارك أثره و هو إسماعيل ابنه و هما البانيان لهذا البلد فمفاد الآيات الثلاث الإقسام بمكّة المشرّفة و بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذي هو حلّ فيها و بإبراهيم و إسماعيل اللّذين بنياها.

و قيل: المراد بالوالد إبراهيم و بما ولد جميع أولاده من العرب.

و فيه أنّ من البعيد أن يقارن الله سبحانه بين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و إبراهيمعليه‌السلام و بين أمثال أبي لهب و أبي جهل و غيرهم من أئمّة الكفر فيقسم بهم جميعاً في سياق، و قد تبرّأ إبراهيمعليه‌السلام ممّن لم يتّبعه من بنيه على التوحيد إذ قال فيما حكاه الله:( وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) إبراهيم: 36.

فعلى من يفسّر ما ولد بأولاد إبراهيم أن يخصّهم بالمسلمين من ذرّيّته كما في دعاء إبراهيم و إسماعيل عند بنائهما الكعبة على ما حكاه الله:( رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَ أَرِنا مَناسِكَنا وَ تُبْ عَلَيْنا ) البقرة: 128.

و قيل: المراد بوالد و ما ولد، آدمعليه‌السلام و ذرّيّته جميعاً بتقريب أنّ المقسم عليه بهذه الأقسام خلق الإنسان في كبد و قد سنّ الله في خلق هذا النوع و إبقاء وجوده سنّة الولادة فقد أقسم في هذه الآيات بمحصول هذه السنّة و هو الوالد و ما ولد على أنّ الإنسان في كدّ و تعب بحسب نوع خلقته من حين يحيى إلى حين يموت.

٤١٩

و هذا الوجه في نفسه لا بأس به لكن يبقى عليه بيان المناسبة بين بلدة مكّة و بين والد و كلّ مولود في الجمع بينهما في الأقسام.

و قيل: المراد بهما آدم و الصالحون من ذرّيّته، و كأنّ الوجه فيه تنزيهه تعالى من أن يقسم بأعدائه الطغاة و المفسدين من الكفّار و الفسّاق.

و قيل: المراد بهما كلّ والد و كلّ مولود و قيل: من يلد و من لا يلد منهم بأخذ( ما ) في( ما وَلَدَ ) نافية لا موصولة.

و قيل: المراد بوالد هو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بما ولد اُمّته لأنّه بمنزلة الأب لاُمّته و هي وجوه بعيدة.

قوله تعالى: ( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ ) الكبد الكدّ و التعب، و الجملة جواب القسم فاشتمال الكبد على خلق الإنسان و إحاطة الكدّ و التعب به في جميع شؤن حياته ممّا لا يخفى على ذي لبّ فليس يقصد نعمة من نعم الدنيا إلّا خالصة في طيبها محضة في هنائها و لا ينال شيئاً منها إلّا مشوبة بما ينغّص العيش مقرونة بمقاساة و مكابدة مضافاً إلى ما يصيبه من نوائب الدهر و يفاجئه من طوارق الحدثان.

قوله تعالى: ( أَ يَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ) بمنزلة النتيجة لحجّة الآية السابقة تقريرها أنّ الإنسان لمّا كانت خلقته مبنيّة على كبد مظروفة له لا ينال قطّ شيئاً ممّا يريد إلّا دون ما يريد أو غير ما يريد فهو محاط في خلقه مغلوب في إرادته مقهور فيما قدّر له من الأمر و الّذي يغلبه في إرادته و يقهره على التلبّس بما قدّر له و هو الله سبحانه يقدر عليه من كلّ جهة فله أن يتصرّف فيه بما شاء و يأخذه إذا أراد.

فليس للإنسان أن يحسب أن لن يقدر عليه أحد فيدعوه ذلك إلى أن يعلو على الله و يستكبر عن عبادته أو يعطيه في بعض ما أمر به كالإنفاق في سبيله فيستكثره و يمتنّ به على الله أو يمكر به تعالى بعد ما عمله رياء و سمعة عملاً لوجه الكريم فيقول: أهلكت مالاً لبدا.

قوله تعالى: ( يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً ) اللبد الكثير، سياق الآية و ما يتلوها من الآيات إلى آخر السورة مشعر بأنه كان هناك بعض من أظهر الإسلام أو مال إليه

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578