شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم6%

شبهات وردود حول القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 578

شبهات وردود حول القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 578 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 297606 / تحميل: 13676
الحجم الحجم الحجم
شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

وقال الزمخشري: (مِن) الأُولى لابتداء الغاية، والثانية للتبعيض، والثالثة للبيان، أو الأَوّليان للابتداء والآخرة للتبعيض (١) ، فالمعنى على الأَوّل: ونُنزّل مِن السماء شيئاً من الجِبال الكائنة مِن البَرد، وعلى الثاني: ونُنزّل مِن السماء من جبالٍ فيها شيئاً من البرد، فقَدّر المفعول به ولم يَجعل (مِن) زائدةً.

والذي ذَكَره الزمخشري أصحّ؛ لأنّ التقدير شائع في كلام العرب ولا سيّما مع معلوميّتِه كما هنا، قال ابن مالك: وحذف ما يُعلم جائز، أمّ زيادة (مِن) في الإيجاب، فعلى فرض ثبوته فهو أمرٌ شاذّ، ولا يجوز حَمل القرآن عليه.

ومعنى الآية على ذلك: أنّه تعالى يُنزّل من السّماء ماءً من جبالٍ فيها - هي السُحب الرُكاميّة، وهي النوع الأَهمّ من السُحب؛ لأنّها قد تمتدّ عموديّاً عِبر ١٥ أو ٢٠ كيلومتراً، فتصل إلى طَبقات من الجوّ باردةٍ جدّاً تنخفض فيها درجة الحرارة إلى ٦٠ أو ٧٠ درجة مئويّة تحت الصفر؛ وبذلك يتكوّن البَرَد (خيوط ثلجيّة) في أَعالي تلك السُحب -.

وقوله: (مِن بَرد) بيان لتكوّن تلك السُحب الجباليّة (الرُكاميّة) ولو باعتبار قِمَمها المتكوّن فيها الخيوط الثلجيّة (البرد).

والمعروف علميّاً أنّ نموّ البَرد في أعالي السُحب الرُكاميّة يُعطي انفصال شحنات أو طاقات كهربائيّة سالبة، وأنّه عندما يَتساقط داخل السَّحابة ويصل في قاعدتها إلى طبقات مرتفعة الحرارة فوق الصفر يَذوب ذلك البَرد أو يتميّع ويُعطي انفصال شحنات كهربائيّة موجبة، وعندما لا يَقوى الهواء على عَزل الشُحنة السالبة العُليا عن الشُحنة الموجبة في أسفل يحدث التفريغ الكهربائي على هيئة بَرق، ويَنجم عن التسخين الشديد المـُفاجئ الذي يُحدثه البَرق أنْ يتمدّد الهواء فجأةً ويتمزّق مُحدثاً الرَعد. وما جَلجَلة الرَعد إلاّ عملية طبيعيّة بسبب سلسلة الانعكاسات التي تحدث من قواعد السُحب لصوت الرَعد الأصلي (٢) .

____________________

(١) الكشاف، ج ٣، ص ٢٤٦.

(٢) راجع ما سجّلناه بهذا في حقل الإعجاز العلمي للقرآن في التمهيد، ج ٦.

٣٤١

وبذلك يبدو وجهُ مناسبة التعقيب بقوله تعالى: ( يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ ) وكذا عند الحديث عن السَّحاب الثِقال (١) ، فإنّ البرق وليد هكذا سُحب رُكاميّة ثقيلة (جَبليّة).

قال سيّد قطب: إنّ يد الله تُزجي السَّحاب وتدفعه من مكانٍ إلى مكان، ثُمّ تؤلّف بينه وتجمعه، فإذا هو رُكام بعضه فوق بعض، فإذا ثَقُل خرج منه الماء والوَبْلُ الهاطل، وهو في هيئة الجبال الضخمة الكثيفة، فيها قِطع البَرد الثلجيّة الصغيرة... ومَشهد السُحب كالجبال لا يبدو كما يبدو لراكب الطائرة وهي تعلو فوق السُحب أو تسير بينها، فإذا المـَشهد مشهد الجبال حقّاً بضخامتها ومَساقطها وارتفاعاتها وانخفاضاتها، وإنّه لتعبير مُصوّر للحقيقة التي لم يرَها الناس إلاّ بعد ما رَكِبوا الطائرات (٢) ، بل ويُمكن مشاهدتها في الصحاري الواسعة عن بُعد.

٧ - ( وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ)

قال تعالى: ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ) (٣) .

ما تعني المثليّة؟ هل هي في الصُنع والإتقان؟ أم في العدد؟ وما هُنّ على هذا الفَرض؟

ولم تُذكر الأرض في القرآن إلاّ مفردةً سِوى في هذا الموضع، حيث شُبهة إرادة التعدّد إلى سبع أرضين، كما جاء في الحديث ودار على الألسن!

وفُسّر التعدّد من وجوه:

١ - سبع قطاع من الأرض على وجهها من أقاليم أو قارّات.

٢ - سبع طِباق من الأرض في قِشرتها المتركّبة من طَبقات (٤) .

____________________

(١) الرعد ١٣: ١٢، والجمع في (ثِقال) باعتبار كون (السَّحاب) اسم جنس يُفيد الجمع، واحدتها سَحابة.

(٢) في ظِلال القرآن، ج١٨، ص١٠٩ - ١١٠، المجلّد ٦.

(٣) الطلاق ٦٥: ١٢.

(٤) راجع: الميزان، ج١٩، ص٣٧٨، وتفسير نمونه، ج٢٤، ص٢٦١.

٣٤٢

٣ - الكواكب السبع السيّارة، كلّ كوكبة - ومنها أرضنا - أرض، والغلاف الهوائي المحيط بها سماء (١) .

٤ - فوق كلّ سماء بعد أرضنا أرض وفوقها سماء، فهناك سبع أرضين بعضها فوق بعض لسبع سماوات (٢) .

تقاسيم الأرض

قَسّم الأقدمون البلادَ الآهِلة من الرُبع المعمور في القطاع الشمالي إلى سبع مناطق جغرافيّة طولاً، وجاء المتأخّرون ليُقسّموها تارةً على حسب المناخ الطبيعي إلى سبعة أقاليم: واحدة استوائيّة، واثنتان حارّتان حتّى درجة ٥/٢٣ عرضاً في جانبَي خطّ الاستواء شمالاً وجنوباً، واثنتان اعتداليتَان ما بعد خطّ الميل الأعظم فإلى مدارَي الخطّ القطبي، والأخيرتان منطقتا القُطبَين الشمالي والجنوبي.

وأُخرى إلى قارات مأَلوفة، خمسة منها ظاهرة: آسيا، أُوربا، أفريقيا، استراليا، أمريكا، واثنتان هما قُطبا الشمال والجنوب في غطاء من الثلوج.

مُحتَملات ثلاثة

قال الحجّة البلاغي: يُحتَمل في قوله تعالى: ( وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنّ ) وجوه ثلاثة:

الأَوّل: أنْ يُراد مِثلهنّ في الطَبقات، باعتبار اختلاف طَبقات الأرض في البدائع والآثار.

الثاني: أنْ يُراد مِثلهنّ في عدد القِطع والمواضع المـُتعدّ بها كآسيا وأُوربا وأفريقيا وأمريكا الشماليّة وأمريكا الجنوبيّة واستراليا، وأرض لم تُكشف بعد أو لاشتها الحوادث البحريّة وفتّتتها بالكلّية، أو بقي منها بصورة جُزُر متفرّقة صغيرة، أو هي تحتَ القُطب الجنوبي على ما يَظنّ البعض.

____________________

(١) راجع: تفسير الجواهر، ج١، ص٤٩.

(٢) راجع: الهيئة والإسلام، ص١٧٩، وتفسير الميزان، ج١٩، ص٣٧٩ - ٣٨٠.

٣٤٣

الثالث: أنْ يُراد بالمـُماثل للسماوات هو غير أرضنا بل ما هو من نوعها، فيُراد منه ذات السيّارات على الهيئة الجديدة، أو ما هو مسكون من الكواكب ولم يَظهر للاكتشاف (١) .

أَرضون لا تُحصى

قال الشيخ الطنطاوي في تفسير الآية: أي وخَلق مِثلهنّ في العدد من الأرض، وهذا العدد ليس يقتضي الحصر، فإذا قلت: عندي جوادَان تَركب عليهما أنت وأخوك، فليس يَمنع أنْ يكون عندك ألف جواد وجواد، هكذا هنا.

فقد قال علماء الفَلك: إنّ أقلّ عدد مُمكن من الأَرضين الدائرة حول الشموس العظيمة التي نُسمّيها نُجوماً لا يقلّ عن ثلاثمِئة مليون أرض... هذا فيما يَعرفه الناس، وهذا القول مِن هؤلاء ظنّيٌّ، فلم يدّعِ أَحدٌ أنّه رأى وقَطع بشيءٍ من ذلك، اللّهمّ إلاّ علماء الأَرواح، فإنّهم لمـّا سأَلوها قالتْ: عندنا كواكب آهِلة بالسُكّان لا يُحصى عددها، وفيها سكّان أنتم بالنسبة إليهم كالنَّمل بالنسبة للإنسان، وأُيّد ذلك بما نُقل عن (غاليلو) عند ما أُحضرت روحه بعد الممات (٢) .

وهكذا ذكر الشيخ المراغي وعقّبه بما رُوي عن ابن مسعود: أنّ النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) قال: (ما السماوات السبع وما فيهنّ وما بينهنّ والأرضونَ السبع وما فيهنّ وما بينهنّ في الكرسي إلاّ كحَلقةٍ مُلقاة بأرضِ فلاةٍ) (٣) .

وروى ابن كثير أحاديث تَنمّ عن أَرضينَ سبع آهِلة بالسُكّان، وقد بُعث إليهم أنبياء كإبراهيم وموسى وعيسى ومُحمّد (عليهم السلام)، زعموا صحّة أسانيدها (٤) .

وهكذا رَوَوا روايات هي أشبه بروايات إسرائيليّة، وفيها الغثّ والسمين (٥) .

وفي حديث زينب العطّارة عن رسول (صلّى اللّه عليه وآله): (إنّ هذه الأرضينَ واقعة تحتَ الأرض التي نَعيش عليها واحدة تحت أُخرى كلّ واحدة بالنسبة إلى الأُخرى التي تحتها كحَلقةٍ مُلقاة في فلاة قفر، حتّى تنتهي إلى السابعة، والجميع على ظَهْر دِيك، له جناحَان إلى

____________________

(١) الهدى إلى دين المصطفى، ج٢، ص٧ - ٨.

(٢) تفسير الجواهر، ج٢٤، ص١٩٥.

(٣) تفسير المراغي، ج٢٨، ص١٥١.

(٤) تفسير ابن كثير، ج٤، ص٣٨٥.

(٥) راجع: الدرّ المنثور، ج٨، ص٢١٠ - ٢١٢، وجامع البيان، ج٢٨، ص٩٩.

٣٤٤

المشرق والمغرب ورِجلاه في التُخوم! والدِّيك على صخرةٍ، والصخرةُ على ظَهر حوتٍ، والحوت على بحرٍ مُظلم، والبحر على الهواء، والهواء على الثرى...) (١) .

وفي حديث الحسين بن خالد عن الرضا (عليه السلام): (هذه أرضُ الدنيا، والسماء الدنيا فوقها قبّةٌ، والأرض الثانية فوق السماء الثانية فوقها قبّةٌ، والأرض الثالثة فوق السماء الثانية، والسماء الثالثة فوقها قبّةٌ، حتّى الأرض السابعة فوق السماء السادسة. والسماء السابعة فوقها قبّةٌ، وعَرش الرحمان فوق السماء السابعة... ما تحتنا إلاّ أرض واحدة - هي الدنيا - وأنّ الستّ لهُنّ فَوقنا) (٢) .

وَرَووا عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): أنّ لهذه النجوم التي في السماء مُدُناً مثل المدائن التي في الأرض، مربوطة كلّ واحدة بالأُخرى بعمود من نور طوله مسيرة مِئتين وخمسين سنة، كما أنّ ما بين سماءٍ وأُخرى مسيرة خمسمِئة عام، وأنّ هناك بين النجوم وبين السماء الدنيا بِحاراً تَضرب الريحُ أمواجَها؛ ولذلك تستبين النجوم صِغاراً وكباراً، في حين أنّ جميعها في حجمٍ واحدٍ سواء (٣) .

وغالب الظنّ أنّها - أو جُلّها - أساطير إسرائيليّة تَسرّبت إلى التفسير والحديث، مُضافاً إليها وضع الأسناد!

المـُختار في تفسير (مِثلهنّ)

ليس في القرآن تصريح بالأَرَضين السبع، ولا إشارة سِوى ما هنا من احتمال إرادة العدد في المِثليّة! لكن تكرّر ذِكر الأرض في القرآن مفردةً إلى جنب السماوات جمعاً ممّا يُوهن جانب هذا الاحتمال.

( الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ... ) (٤) .

( إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا... ) (٥) .

____________________

(١) تفسير نور الثقلين للحويزي، ج٥، ص٣٦٤ - ٣٦٥.

(٢) تفسير البرهان، ج٨، ص٤٦.

(٣) بحار الأنوار، ج٥٥، ص ٩٠ - ٩١.

(٤) فاطر ٣٥: ١.

(٥) فاطر ٣٥: ٤١.

٣٤٥

( لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ... ) (١) .

( أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ... ) (٢) .

( وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ) (٣) .

( وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ... ) (٤) .

( لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ... ) (٥) .

( وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ... ) (٦) .

( سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ... ) (٧) .

( تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ... ) (٨) .

( قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ... ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا... ) (٩) .

إلى ما يَقرب من مِئتي موضع في القرآن، جاء اقتران الأرض واحدة بالسماوات سبعاً...!

فيا تُرى كيف يَصحّ اقتران الفرد بالجمع - في هذا الحجم من التَّكرار - لو كانت الأرض مَثل السماء في العدد السبع؟! ولا سيّما في آيات التكوين، ما المـُبرّر لذِكر الأرض واحدة لو كانت سبعاً؟!

على أن اللام ( وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنّ ) للعهد، أي الأرض المعهودة لدى المخاطبينَ وهم العرب يومذاك، ولا يعرفون سِوى هذه الأرض التي نعيش عليها! (١٠)

____________________

(١) النمل ٢٧: ٢٥.

(٢) لقمان ٣١: ٢٠.

(٣) الروم ٣٠: ٢٦.

(٤) النمل ٢٧: ٨٧.

(٥) الزمر ٣٩: ٦٣.

(٦) الشورى ٤٢: ٢٩.

(٧) الزخرف ٤٣: ٨٢.

(٨) الإسراء ١٧: ٤٤.

(٩) فصّلت ٤١: ٩ - ١٢.

(١٠) وحتّى البشريّة اليوم لا تعرف أَرضاً بهذا الاسم سِوى التي نعيش عليها، على أنّ الأرض اسمُ عَلَمٍ شخصي لهذه الكوكبة نظير أسامي الكواكب، وليست كالسماء اسم جنس عامّ؛ ومِن ثَمّ قالوا: كلّ ما عَلاكَ سماء وما تطؤه قدمك أرض! قال تعالى: ( وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ ) ، الرّحمان ٥٥: ١٠.

٣٤٦

فلابدّ أنّ هذه الأرض خُلقت مثل السماوات السبع، مَثَلاً في الإبداع والتكوين.

هذا، بالإضافة إلى أنّ التعبير بـ ( وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ ) - لو أُريد العدد - ليستدعي أن يكون من هذه الأرض (نفس كرة الأرض التي نعيش عليها) جُعلت سبعاً، الأمر الذي يعني سبع قِطاع منها وهي المناطق الكبرى المعمورة منها، وهذا هو المـُراد بالأَرضينَ السبع الواردة في الأدعية المأثورة وفي الأحاديث، ودارت على أَلسُن العارفين.

وإطلاق الأرض على المعمورة منها شائع في اللغة، وجاء في القرآن أيضاً حيث قوله تعالى - بشأن المـُفسدين -: ( أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ) (١) أي من البلاد العامرة حسبما فَسّره الفقهاء.

وكذا إطلاقها على مطلق البِقاع، كقوله تعالى: ( وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا ) (٢) ، والمـُراد البقعة المـَيتة منها.

وبعد، فإنّ قوله تعالى: ( اللّهُ الّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنّ ) ظاهرٌ كلّ الظهور في إرادة سماوات سبع، وجاءت بلفظ تنكير، وأرضٍ واحدة جاءت بلفظ تعريف، وأنّ المِثليّة تعني جانب الإبداع والتكوين، وعلى فَرض إرادة العدد فهي البِقاع والمناطق المـَعمورة منها؛ وَمِن ثَمَّ جاء بلفظ (ومن الأرض...) أي وجعل من هذه الأرض أيضاً سبعاً حسب المناطق، وإلاّ فلو كان أراد سبع كُرات مِن مِثل كُرة الأرض، لكان الأَولى أنْ يُعبّر بسبع سماوات وسبع أرضينَ، وكان أخصر وأوفى بالمعنى.

٨ - ( وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ)

يقول تعالى عن القرنين: ( حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) (٣) .

الحمأ: الطين النَّتِن الذي تَغيّر لونه إلى السواد، يَرسب تحت المياه الراكدة وعلى

____________________

(١) المائدة ٥: ٣٣.

(٢) يس ٣٦: ٣٣.

(٣) الكهف ١٨: ٨٦.

٣٤٧

ضفافها... وحمإٍ مسنون: (١) مُنتَن، وقُرئَ: (عينٍ حامية) أي دافية (حارّة).

قال المفسّرون: أراد ذو القرنَين أن يَبلغ بلاد المغرب، فاتّبع طريقاً تُوصله إليها، حتّى إذا انتهى من جهة المغرب بحيث لم يستطع تجاوزه ووقف على حافّة البحر الأطلانطي (المحيط الأطلسي) وجد الشمس تغرب في بحر خِضَمٍّ يضرب ماؤه إلى سواد الخُضرة، وكان معروفاً عند العرب ببحر الظُلمات، فقد سار إلى بلاد تونس ثُمّ مراكش ووصل إلى البحر المحيط، فوجد الشمس كأنّها تغيب فيه وهو أزرق اللون يضرب إلى السواد، كأنّه حَمِئة (٢) .

والمـُراد بالعين: لُجّة الماء، حيث البحر الواسع الأرجاء لا تُرى له نهاية.

قال سيّد قطب: والأرجح أنّه كان عند مصبّ أحد الأنهار (٣) ، حيث تكثر الأعشاب ويتجمّع حولها طين لزج هو الحمأ، وتوجد البِرَك وكأنّها عيون الماء... فرأى الشمس تغرب هناك ( وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) (٤) .

قلت: وسوف يأتي عند الكلام عن ذي القرنَين - وأنّه كُورُش الهخامنشي على الأرجح - أنّه في فتوحاته غرباً في آسيا الصغرى توقّف على المنطقة التي تُسمّى باسم: إقليم أيونيّة، وهو الإقليم الغربي من قارّة آسيا الصغرى المـُطلّ على مَضيق الدردنيل وبحر إيجه وما يُلاصق الساحل من جُزر وأشباه جزر، حين توقّف كورش عند شواطئ بحر إيجه - وهي جزء من سواحل تركيا على البحر المتوسّط - وجد الشاطئ كثير التعاريج، حيث تتداخل أَلسنة البحر داخل اليابس، ومِن أمثلة هذه الألسنة البحريّة خليخ هرمس ومندريس الأكبر ومندريس الأصغر... ويتعمّق خليج (أزمير) إلى الداخل بمقدار ١٢٠ كم، تحيط به الجبال البلّوريّة من الغرب إلى الشرق على حافّتيه، بحيث يتّخذ شكل العين، ويَصبّ فيه نهر (غديس) المياه العَكِرة المـُحمّلة بالطين البُركاني والتراب الأحمر من فوق هضبة الأناضول... وحين توقّف كورش عند (سارد) قرب أزمير تأمّل قرص

____________________

(١) في قوله تعالى: ( إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ) ، الحجر ١٥: ٢٨، وراجع الآية ٢٦ و٣٣ من نفس السورة.

(٢) راجع: تفسير المراغي، ج١٦، ص١٦.

(٣) واحد معاني العين، مصبّ ماء القناة.

(٤) في ظِلال القرآن، ج١٦، ص٦، المجلّد ٥، ص٤٠٩.

٣٤٨

الشمس وهو يسقط عند الغروب في هذا الخليج الذي يُشبه العين تماماً... واختلطت حُمرة الغَسَق بالطين الأحمر والأسود الذي يَلفظه نهر غديس في خليج أزمير... ولعلّها هي العين الحَمِئة (الضاربة بالسواد) التي ذَكَرها القرآن (١) .

أخطاء تأريخيّة!

زعموا أنّ في القرآن أخطاءً تأريخيّة تَجعله بمعزلٍ عن الوحي الذي لا يَحتمل الخطأ! فحاولوا جهدهم أنْ يعثروا على بيّنة من ذلك، ولكنّهم تعثّروا وفشلوا وخاب ظنّهم.

إذ ما حسبوه شاهداً لا يَعدو أوهاماً تُنبؤكَ عن مَبلغ جهلهم بمفاهيم القرآن ومصطلحاته الخاصّة!

مشكلة هامان

فمن ذلك ما زَعَموه بشأن (هامان) الذي جاء رِدفاً لاسم فرعون في مواضع من القرآن باعتباره وزيراً له أو من كِبار المسؤولينَ في بلاطه، وقد أمره فرعون ببناء صرحٍ - حسبوه بُرج بابل - ليَطّلع إلى إله موسى!

وقد أثارت مسألة (هامان) جدلاً كبيراً مُنذ قُرون على يد أبناء إسرائيل، وأخيراً على يد كبار المـُستشرقين أمثال (نولدكه) ازدراءً بشأن القرآن العظيم.

جاء اسم (هامان) في القرآن في ستّ مواضع:

( وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ) (٢) .

( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ) (٣) .

( وَقَالَ فِرْعَوْنُ... فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى ) (٤) .

____________________

(١) مفاهيم جغرافيّة، ص٢٤٣ - ٢٤٤.

(٢) القصص ٢٨: ٦.

(٣) القصص ٢٨: ٨.

(٤) القصص ٢٨: ٣٨.

٣٤٩

( وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ ) (١) .

( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ) (٢) .

( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى ) (٣) .

يَبدو من هذه الآيات أنّ (هامان) هو على الغالِب وزير فرعون؛ ولهذا أكّد المفسّرون أنّ هامان هذا كان وزير فرعون مصر الّذي حكم في عهد موسى (عليه السلام) والمشكلة الّتي انصبّت حوله ما إذا كان هامان قد بنى فعلاً بُرج بابل عِبر مسافات شاسعة في أرض العراق ممّا يلي الجانب الشرقي للفرات، وقد بقيت آثاره لحدّ الآن على بُعد أميال من مدينة الحلّة الفيحاء.

والبعض يقول إنّه بناه فعلاً وسخّر لذلك خمسين ألف عامل عَكفوا على بنائه، وعندما شيّده صَعَد فرعون إلى أعلاه ورمى بنشّابة ناحية السماء، فأراد اللّه أنْ يَفتنهم فردّه إليهم مُلطّخاً بالدم، وعندها قال فرعون: لقد قتلتُ إله موسى! والقصّة طويلة سطّرها أصحاب الأساطير فيما لفّقوه عن قصص الأنبياء.

غير أنّ المؤكّد أنّ بُرْجاً لا يرتفع من الأرض سِوى عدة عشرات الأمتار، لا يمكن أنْ يَبلغ به فرعون أسباب السماوات حتّى ولو صعد على أعالي الجبال الشامخات التي يُعدّ برج بابل تجاهها تلاًّ صغيراً؛ ولهذا قال الفخر الرازي: لعلّ فرعون قد أوهم ببناء البُرج لكنّه لم يفعل، أو أنّه قال ذلك ساخراً وليبيّن أنّه لا يمكن إثبات إله في السماء إلاّ بالصعود إليه (٤) .

وهكذا قال المراغي: وقال فرعون يا هامان ابن لي قصراً مُنيفاً عالي الذُّرا؛ علَّني

____________________

(١) العنكبوت ٢٩: ٣٩.

(٢) غافر ٤٠: ٢٣ و٢٤.

(٣) غافر ٤٠: ٣٦ و٣٧.

(٤) التفسير الكبير، ج٢٤، ص٢٥٣.

٣٥٠

أَبلغ أبواب السماء وطُرقها، حتّى إذا وصلتُ إليها رأيتُ إله موسى! لا يريد بذلك سِوى الاستهزاء والتهكّم وتكذيب دعوى الرسالة (١) .

قال سيّد قطب: هكذا يُموّه فرعون الطاغية ويُحاور ويُداور؛ كي لا يواجه الحقّ جهرةً ولا يعترف بدعوة الوحدانيّة التي تهزّ عرشه وتُهدّد الأساطير التي قام عليها مُلكه، وبعيد عن الاحتمال أنْ يكون هذا فهم فرعون وإدراكه، وبعيد أن يكون جادّاً في البحث عن إله موسى على هذا النحو المادّي الساذج، إنّما هو الاستهتار والسخرية... وكلّ ذلك يدلّ على إصراره على ضلاله وتبجّحه في جحوده ( وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ (ولكن) وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاّ فِي تَبَابٍ ) (٢) صائر إلى الخيبة والدمار (٣) .

وعلى أيّة حال، فليس في القرآن ما يشير بأنّه بنى الصَرح وصعده ورمى بسهمه حسبما سطّره أصحاب الأساطير، كلّ ذلك لم يَذكره القرآن ولا جاء في التوراة (٤) ، ولم يُعرف المصدر الذي اعتمده هؤلاء القصّاصون ومهنتهم الاختلاق.

* * *

وأمّا مسألة هامان فهل كان لفرعون وزيرٌ بهذا الاسم؟

قال الإمام الرازي: قالت اليهود: أطبق الباحثون عن تواريخ بني إسرائيل وفرعون أنّ هامان لم يكن على عهد فرعون وموسى وإنّما جاء بعدهما بزمانٍ مديدٍ ودهرٍ داهر، فالقول بأنّ هامان كان وزيراً لفرعون، خطأٌ في التأريخ، على أنّه لو كان لم يكن رجلاً خامل الذِكر لم يسجّله التأريخ ولا جاء ذِكره في تأريخ حياة بني إسرائيل (٥) .

نعم، جاء في العهد القديم سِفر (أستير) الإصحاح الثالث: أنّ هامان بن همداثا كان وزيراً للملك الفارسي (خشايارشا) الذي تصدّى للمـُلك بعد أبيه (داريوش الكبير) سنة (٤٨٦ ق م) (٦) أي بَعْدَ فرعون موسى بِعِدَّة قرون، وكان مقرّباً لديه، ثُمّ غَضب عليه وصَلَبه

____________________

(١) تفسير المراغي، ج٢٤، ص٧١.

(٢) غافر ٤٠: ٣٧.

(٣) في ظِلال القرآن، المجلّد ٧، ص١٨٣ - ١٨٤، ج٢٤، ص٧١ - ٧٢.

(٤) قصص الأنبياء لعبد الوهاب النجّار، ص١٨٦.

(٥) التفسير الكبير، ج٢٧، ص٦٦.

(٦) راجع: تأريخ إيران، ص٩٢.

٣٥١

وجَعَل مكانه رجلاً من اليهود اسمه (مردخاي) وكان عمّ المـَلِكة أستير زوجة الملك (١) .

وهكذا زَعم المستشرق الألماني (تيودور نولدكه) ( Theodore Noldeke ) في مقالٍ نشره أَوّلاً حوالي عام ١٨٨٧م في دائرة المعارف البريطانيّة (الطبعة٩) (٢) ، وأعاد نشره في كتابه تأريخ القرآن عام ١٨٩٢م (٣) .

غير أنّ المصادر التأريخيّة - الإيرانيّة وغيرها - خلوٌ عن ذِكر رجل بهذا الاسم استَوزَرَه المـَلِك (خشايارشا) ثُمّ عَزله وصَلبه وأقام مكانه رجلاً باسم (مَرْدُخاي) - كما تقوله التوراة الإسرائيليّة -! وغالب الظنّ أنّه من أساطيرهم هم البائدة ولا واقع لها أساساً.

على أنّ (هامان) الذي جاء ذِكره في القرآن - مُرْدَفاً باسم فرعون وقارون - اسم مُعرَّب قطعاً، كما هي العادة عند العرب عند التلهّج بألفاظ أجنبيّة حتّى العِبريّات حسب المعهود، فإبراهيم، مُعرّب أبراهام، أصله أب رام أي الجدّ الأعلى، وموسى، مُعرَّب مُوشِى أي المـُشال من الماء، وسامِري، معرّب شمروني حسبما نذكر وغير ذلك، وقد قيل: إنّ (هامان) معرّب (آمون) أو (أمانا) كان يُلقَّب به رؤساء كَهَنة مَعبد أمون كبير آلهة المصريّين في مدينة طيبة في أعالي النيل.

ولا غَرْوَ فإنّ المنسوب إلى مكان مقدّس يَحمل اسمه بالطبع، كما أنّ فرعون هو لقب سلاطين مصر كان بمعنى البيت الأعظم، نظير ما لُقّب الخلفاء العثمانيون بالباب العالي (٤) .

وتُمثّل بعض النقوش القديمة (البيت الأعظم) الذي يَجلس فيه المـَلِك للحكم والذي تتجمّع فيه دواوين الحكومة، وقد اشتقّت من اسم هذا البيت الأعظم الذي كان المصريّون يُطلقون عليه لفظ (بيرو) والذي تَرجمه اليهود إلى (فرعوه) أو (فرعون)،

____________________

(١) العهد القديم، ص٧٨٢، وراجع: قاموس الكتاب المقدّس ص٩١٨.

(٢) راجع: Encyclopaedia pitanica ، ٩ eme ed . tome XVI ، p ٥٩٧ (دائرة المعارف البريطانيّة، ص٥٩٧، الطبعة التاسعة).

(٣) راجع: المقال في كتابه ٥٨ - ٢١. The Sketches from Eastern History ، ١٨٩٢، pp ٢١ - ٥٨ (الدفاع عن القرآن ضدّ منتقديه، ص١٨٤).

(٤) راجع: قاموس الكتاب المقدّس، ص٦٤٩، والموسوعة المصريّة، ص١٢٤؛ وفرهنك معين، قسم الأعلام، ج٥، ص٦١.

٣٥٢

اشتُقّ مِن اسمه لقب المـَلِك نفسه (١) .

وهكذا عاد اسم (هامان) مُعرّب (آمون) أُطلق على كبير كَهَنة معبد (آمون) الذي حاز مُنذ الأُسرة التاسعة عشر مكانةً كبيرةً لدى فرعون لدرجةٍ أنّه استولى على إقليم أعالي النيل، وأصبح قائد كلّ الجيوش وكبير خِزانة الإمبراطوريّة، والمـُشرف الأعلى على معابد الآلهة (٢) .

ولقد كان وزير فرعون يُراقب فعلاً كلّ أعمال البناء العموميّة والماليّة (٣) ، وكان المـُشرف الأعلى على كلّ أعمال الملك، (٤) وبالتالي كان كبير كَهَنة (آمون) يَشغل مَنصِب وزير فرعون.

فاسم (هامان) في القرآن يُمثّل اسم (آمون)، ويَسهل التقريب بين الاسمين عند ما نعرف أنّ (آمون) يُنطق كذلك (أمانا) ويُقصد منه بالاختصار (كَبير كَهَنة) مِثلما كان اسم فرعون - وهو اسم البيت الأعظم للحكومة - أصبح لقباً يُلقّب به مُلوك مصر الذين يحكمون البلاد، فهامان لقب كبير كَهَنة (آمون) الذي كان يَشغل منصِب وزارة فرعون في الشؤون الماليّة والعمرانيّة (٥) .

____________________

(١) راجع: قصة الحضارة لول ديورانت، ج ٢، ص٩٣، وترجمته الفارسيّة (تأريخ تمدّن) ج١، ص١٩٥.

(٢) راجع: تأريخ مصر لبرستيد، ص٥٢٠.

(٣) راجع: ثقافة فراعين مصر لدوماس، ١٩٦٥م، ص١٥٨ (باريس).

(٤) المصدر. وراجع: الدفاع عن القرآن ضدّ مُنتقديه لعبد الرحمان بدوي، ص١٨٦.

(٥) انظر: Encyclopeadia pitanica , ١، p ٣٢١،col ، ١: coll .١: ed ١٩٨٢ (دائرة المعارف البريطانيّة، ج١، ص ٣٢١، العامود الأَوّل، طبع ١٩٨٢).

جاء فيه: (مَملَكة مصر كانت في ذلك العهد (عهد الأسرتَين التاسعة عشر والعشرين) تُدار أُمورها على كاهل الديانة. وكانت تحكم البلاد آلهة على وِفق العقائد الرسميّة السائدة، وهؤلاء الآلهة مثل: أمان تهى بز باى ميليوبولس، كانوا يحكمون البلاد، ويرسمون خُطط الحكم لملوك مصر، وكانت السياسة الحاكمة هي التي تُمليها ممثّلو كَهَنة معبد، وإدارة البلاد إلى هؤلاء الكهنة، ومِن ثَمَّ حصل هؤلاء - إلى جنب القداسة - على ثروات طائلة...) واليك نصّ العبارة بالإنجليزيّة:

The religion of ancient Egypt was static and traditional, urging that the gods had given a good order and that IT was necessary for man to hold firmly to the order. When changes did occur, religion tried to incorporate them into the system as though they came from the

٣٥٣

فأَوقِد لي يا هامان على الطين!

( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى... ) (١) .

أي فاصنع لي آجرّاً، واجعل لي منه قصراً شامخاً وبناءً عالياً؛ كي أصعد وأرتقي إلى السماء فأَطّلع إلى إله موسى؟

هذا... وقد لَهَج بعض مَن لا خُبرة له: أنّ البناء بالآجرّ والجصّ لم يُعهد ذلك الحين، وإنّما كانت البنايات بالأحجار والصخور كالأهرام والهيكل الكبير ببعلبك والمسرح الروماني ببُصرى وغيرها.

لكن ذهب عنه: أنّ صناعة الآجرّ واستخدامه في البنايات - وحتّى الرفيعة - قد تَقادم عهدها مُنذ بداية حياة الإنسان الحضاريّة بما يَقرب من خمسة آلاف سنة قبل الميلاد، وحتّى في مصر القديمة عثروا على طوابيق (جمع طابوق معرّب تاوه: الآجرّ الكبير) في حَفريّات في قاع النيل يعود تأريخها إلى (٥٠٠٠ ق م). وهكذا وَجَدوا مقابر على ساحل النيل مبنيّة بالآجرّ ومغلّفة بالأخشاب ممّا يعود تأريخها إلى (٣٠٠٠ ق م).

هذا فضلاً عن بنايات آجرّيّة في بلاد مُجاورة كبُرجِ بابل وكذا مَعابد آشور والسومريّين (٢٥٠٠ ق م)، وأخيراً فطاقُ كسرى من بنايات شاهبور الأَوّل (٢٤١م).

____________________

creation. By the time Akhenaton took the thronze as fourth pharaoh named Amenhotep, the ١٨th dynasty (١٥٣٩ J ١٢٩٢Bc) had run for nearly ٢٠٠years, and there had been a century of imperial conquest and control of foreig lands. Egypt dominated palestine, phoenicia, and Nubia. The nation was powerful, rich, and courted by lesser princes. To maintain these gains, a military and political group controlled the cuntrolled the culture. Since the Egyptian state had always been thocratic, ruled by a god or god or gods, according to traditional beliefs, this group interlicked with the priesthood. The richest and most powerful of the gods, such as Amon lf Htebes or Re of Heliopolis, it wsa held, dictated the purpose of the state. the king had to apply to the gods for oracles direccting his major activities. In return for wealith, elegance, and the role of the Ieading actor in a drama of imperial success, the pharaoh had reliquished his religious (and military) authority to athers . ( see also lndex: New Kinqdom ).

(١) القصص ٢٨: ٣٨.

٣٥٤

وغير ذلك كثير وكان معروفاً ذلك العهد، بل وقَبْله بكثير، وإليك بعض الحديث عن ذلك:

صناعة الآجُرّ واستخدامه مُنذ عهد قديم!

لعلّ مِن أقدم صنائع الإنسان هي صَنعة الآجُرّ من الطين المشويّ بالنار، ابتدعها الإنسان مُنذ أنْ اكتشف النار وعرف مفعولها في التأثير على الطين اللازب في صنعة الخَزَف والآجُرّ والفخّار، واستخدم الآجرّ في بنايات ضخمة مُنذ عهد قديم، قد يرجع إلى عهد الحَجر منذ أكثر من خمسة آلاف سنة قبل الميلاد.

فقد عَثَروا في حفريّات مِن قاع النيل بمصر على قطعات مِن الآجُرّ المصنوع مِن وَحَلِ النيل ممزوجاً مع بَعَرات الإبل، يعود تأريخها إلى أبعد من خمسة آلاف سنة قبل الميلاد، وهكذا وُجِدَت على ساحل النيل آثار مقابر سُقوفها مبنيّة بالآجرّ ومغلّفة بالأخشاب، ويعود عهدها إلى ما يقرب من ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد.

وقد استعمل الآشوريّون الآجُرّ والجصّ في بِناياتهم التقليديّة والأقواس الهلاليّة على الدروب والمحاريب في شماليّ العراق، ويعود تأريخها إلى حدود ألفي عام قبل الميلاد.

يقول (ديورانت): هناك حوالي مدينة (أُور) عاصمة مُلك السومريّين، في سُهول بين النهرَين وعلى ضِفاف مَصبّ دجلة والفرات وشواطئ خليج فارس، وُجِدَت الكثير من آثار بنايات ضخمة مبنيّة بالآجُرّ والجصّ، وفي حجم وعلى أشكال مُربّعة مُسطّحة نظير ما يُستعمل اليوم لكنّه أفخم وأَمتن، ويعود تأريخها إلى أكثر من ألفين وخمسمِئة عام قبل الميلاد.

ومدينة (بابل) وهي أقدم وأشهر وأكبر مُدن الشرق القديم، قُرب الحلّة وعلى مسافة ٨٠ كم من بغداد - العراق اليوم، كانت بِناياتها الفخمة والقصور وبيوت الأشراف مبنيّة بالآجرّ، وكذا المعابد والأبراج العالية، ومنها بُرج بابل المعروف مبنيّ بالآجرّ، وقد استوعبت بناية البرج أكثر من خمسة وثمانين مليون آجُرّة، منها البقايا المـُبعثرة هناك،

٣٥٥

وهي على شَكل مُربّع مُسطّح متين جدّاً، كأنّه مصنوع اليوم، ويُقال لها: الطابَق - والمعروف بالعراق: الطابوق - ويعني الآجرّ الكبير، مُعرّب (تاوه) الفارسيّة.

وهذه المدنية عريقة في القِدَم، على ما جاء في وصف التوراة، باعتبارها كتاب تأريخ، ومِن آثارها المتبقّية: باب عشتار وبَلاط نبوخذ نصّر والطريق المـُلوكي، المفروش بالآجرّ الضخمة ومِلاطها القار، حسب وصف التوراة، وقد شاهدتُه بعين الوصف حينما زُرتُ البُرج بالعراق.

جاء في سِفر التكوين: أنّ الذُرّية مِن وُلد نوح ارتحلوا شرقيّ الأرض حتّى أَتَوا أرض شنعار (سهول بين النهرين - العراق) وسكنوا هناك وبَنَوا مدينةً فخمةً بلِبناتٍ مشويّةٍ على النار شيّاً، قالوا: هلمـّ نَبنِ لأنفسنا مدينةً وبُرجاً رأسه بالسماء، فجعلوا مكان اللِبن الآجرّ وبَدل الجصّ القار (١) ، وهكذا بَنَوا القصور والأبراج العالية يومذاك، ويعود تأريخ أكثر البنايات المتبقّية حتّى اليوم إلى أكثر من ألفين وخمسمِئة عام قبل الميلاد (٢) .

قولة اليهود: يد اللّه مغلولة!

قال تعالى: ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ) (٣) .

قال الشيخ مُحمّد عَبده: وقد جَعل بعضُ أهل الجَدل الآية من المـُشكلات؛ لأنّ يهود عصره يُنكرون صدور هذا القول عنهم، ولأنّه يُخالف عقائدهم ومقتضى دينهم، وممّا قالوه في حلّ الإشكال: إنّهم قالوا ذلك على سبيل الإلزام، فإنّهم لمـّا سمعوا قوله تعالى: ( مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ ) (٤) قالوا: من احتاج إلى القَرض كان فقيراً عاجزاً مغلولَ اليدَين، بل قالوا ما هو أبعد من هذا في تعليل قولهم والخَرْص في بيان مرادهم منه،

____________________

(١) سِفر التكوين، إصحاح ١١/٢ - ٤.

(٢) راجع: دائرة المعارف الإسلاميّة الكبرى، ج١، ص٣٧ - ٣٨، وقصّة الحضارة: الجزء الأَوّل من المجلّد الأَوّل، ص٢٦، ولغت نامه دهخدا، وفرهنك معين، وتأريخ مصر القديمة (الموسوعة المصريّة): الجزء الأَوّل، المجلّد الأَوّل: وتأريخ إيران، ص١٨٢ - ١٨٤.

(٣) المائدة ٥: ٦٤.

(٤) البقرة ٢: ٢٤٥، الحديد ٥٧: ١١.

٣٥٦

وما هو إلاّ غفلة عن جرأة أمثالهم في كلّ عصرٍ على مِثل هذا القول البعيد عن الأدب بُعدَ صاحبه عن حقيقة الإيمان، ممّن ليس لهم من الدِّين إلاّ العصبيّة الجنسيّة والتقاليد القشريّة، فلا إشكال في صدوره عن بعض المـُجازفين مِن اليهود في عصر النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) وقد كان أكثرهم فاسقينَ فاسدينَ.

وطالما سَمِعنا ممّن يُعدَّونَ من المسلمينَ في عصرنا مِثله في الشكوى مِن اللّه عزّ وجلّ، والاعتراض عليه عند الضيق وفي إبّان المصائب.

وعبارة الآية لا تدلّ على أنّ هذا القول يقوله جميع اليهود في كلّ عصر حتّى يُجعل إنكار بعضهم له في بعض العصور وجهاً للإشكال في الآية، وإنّما عَزَاه إلى جنسهم - في حين أنّه قول بعضهم وهو (فنحاص) رأس يهود بني قينقاع وفي روايةٍ: النباش بن قيس أحد رجالهم، وفي أُخرى: أنّه حُيَي بن أخطب - لأنّه أثرُ ما فشا فيهم من الجُرأة على اللّه وتركِ إنكار المـُنكر، والمـُقرّ للمـُنكر شريك الفاعل له.

على أنّ الناس في كلّ زمان يَعزون إلى الأُمّة ما يَسمعونه مِن بعض أفرادها - ولا سيّما إذا كان من أكابر القوم - إذا كان مِثله لا يُنكر فيهم، والقرآن يُسند إلى المتأخّرين ما قَاَله وفَعَله سلفُهم مُنذ قُرون، بِناءً على قاعدة تكافل الأُمّة وكونها كالشخص الواحد، ومِثل هذا الأُسلوب مألوفٌ في كلام الناس أيضاً (١) .

مقصوده من بعض أهل الجدل هو الإمام الرازي في تفسير الكبير (٢) ، لكن ليس يهود عصره هم الذين أنكروا صدور مثل هذا القول عن سَلفهم، بل حتّى في زماننا هذا اعترضت الجالية اليهوديّة القاطنة في إيران وقدّمت اعتراضها إلى المجمع الإسلامي مُستعلمةً منشأ انتساب هذا القول إليهم.

كما أنّ ظاهر القرآن أنّ هذا هو عقيدة أسلافهم باعتبارهم أُمّة، لا بالنظر إلى آحادٍ عاصروا عهد الرسالة قالوها عن جهالةٍ أو مجازفةٍ عابرة، الأمر الذي لا يستدعي نزول قرآنٍ بشأنه!

____________________

(١) تفسير المنار، ج٦، ص٤٥٣.

(٢) راجع: ج١٢، ص٤٠.

٣٥٧

فلابدّ هناك من منشأ يمسّ عقيدتهم بالذات عقيدةً إسرائيليّةً عتيدة استدعت هذا الذمّ الشامل.

وأكثر المفسّرين على أنّ هذا القول صَدر عنهم على سبيل الإلزام (أي على طريقة الاستلزام) وهي طريقة جدليّة يُحاوَلُ فيها تبكيتُ الخصم بالأخذ عليه بما يستلزمه مذهبُه، أي لازمُ رأيه بالذات وإن لم يكن من عقيدة صاحب الحجّة، قالوا: لمـّا كثر الحثّ والترغيب على إقراض اللّه بالإنفاق في سبيله وبذل الصدقات - وجاء ذلك في كثيرٍ من الآيات - فعند ذلك جَعلت اليهود تستهزئ بعقيدة المسلمين في ربّهم؛ حيث فرضوه فقيراً مُحتاجاً إلى الاستقراض، وقالوا تهكّماً وسُخراً: ( إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ ) (١) ، فمَن كان فقيراً كان عاجزاً مكتوف اليدَين (٢) .

ويرى العلاّمة الطباطبائي أنّ هذا الوجه أقرب إلى النظر (٣) .

لكن في التفسير الوارد عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام): أنّ قولتهم هذه تعني عقيدتهم بأنّ اللّه قد فَرغ من الأمر فلا يُحدث شيئاً بعد الّذي قدّره اللّه في الأَزل، (جفّ القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة) (٤) فلا تغيير بعد ذلك التقدير، تلك كانت عقيدة اليهود السائدة، وتسرّبت ضمن الإسرائيليّات إلى أحاديث العامّة، فردّ اللّه عليهم بأنّ يديه مبسوطتان يتصرّف حيث يريد، ( يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (٥) ، ( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) (٦) ، ( فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ) (٧) ، ( يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (٨) .

روى الشيخ بإسناده إلى هشام بن سالم عن الإمام جعفر بن مُحمّد الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ) (٩) قال: كانوا يقولون: قد فَرغ من الأمر (١٠) .

وقال الإمام عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام) لسليمان بن حفص المروزي، مُتكلّم خراسان - وقد استعظم مسألة البداء في التكوين -: (أَحسبُك ضاهيتَ اليهودَ في هذا

____________________

(١) آل عمران ٣: ١٨١.

(٢) مجمع البيان، ج٢، ص٥٤٧.

(٣) تفسير الميزان، ج٦، ص٣٢.

(٤) راجع: صحيح البخاري، باب القدر، ج٨، ص١٥٢.

(٥) الرعد ١٣: ٣٩.

(٦) الرحمان ٥٥: ٢٩.

(٧) هود ١١: ١٠٧، البروج ٨٥: ١٦.

(٨) فاطر ٣٥: ١.

(٩) المائدة ٥: ٦٤.

(١٠) بحار الأنوار، ج٤، ص١١٣، رقم ٣٥.

٣٥٨

الباب! قال: أعوذ باللّه من ذلك، وما قالت اليهود؟ قال: قالت اليهود: ( يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ) يَعنون أنّ اللّه قد فَرغ مِن الأمر فليس يُحدث شيئاً) (١) .

وروى الصدوق بإسناده إلى إسحاق بن عمّار عمّن سمعه عن الصادق (عليه السلام) أنّه قال في الآية الشريفة: (لم يَعنوا أنّه هكذا (أي مكتوف اليد) ولكنّهم قالوا: قد فَرغ من الأمر فلا يَزيد ولا ينقص، فقال اللّه جلّ جلاله تكذيباً لقولهم: ( غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ) (٢) ، ألم تسمع اللّه عزّ وجلّ يقول: ( يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) ) (٣) .

قال عليّ بن إبراهيم - في تفسير الآية -: قالوا: قد فَرغ من الأمر لا يُحدث اللّه غير ما قدّره في التقدير الأَوّل، بل يداه مبسوطتان يُنفق كيف يشاء، أي يُقدّم ويُؤخّر ويزيد وينقص وله البَداء والمشيئة (٤) .

وهكذا روى العيّاشي في تفسيره عن حمّاد عن الصادق (عليه السلام) (٥) .

ورواياتنا بهذا المعنى متضافرة.

وقد تعرّض الراغب الأصفهاني لذلك أيضاً قال: قيل: إنّهم لمـّا سمعوا أنّ اللّه قد قضى كلّ شيء قالوا: إذن يد اللّه مغلولة أي في حكم المقيّد لكونها فارغة (٦) .

ويبدو من كثير من الآيات القرآنيّة التي واجهت اليهود بالذات دفعاً لمزعومتهم أنْ لا تبديل بعد تقرير، أنّ هناك عقيدةً كانت تسود اليهود في عدم إمكان التغيير عمّا كان عليه الأَزل، الأمر الذي يشير بجانب من قضية الجبر في الخَلق والتدبير ممّا كانت عليه الأُمَم الجاهلة، ومنهم بنو إسرائيل، فهناك في حادث تَحول القبلة اعترضت اليهود على هذا التحويل، فنزلت الآية ( وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) (٧) .

قال ابن عبّاس: إنّ اليهود استنكروا تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة.

____________________

(١) المصدر: ص٩٦، رقم ٢، وراجع: عيون أخبار الرضا، ج١، ص١٤٥، باب ١٣، رقم ١.

(٢) المائدة ٥: ٦٤.

(٣) الرعد ١٣: ٣٩، راجع: كتاب التوحيد للصدوق، ص١٦٧، باب ٢٥، رقم ١.

(٤) تفسير القمي، ج١، ص١٧١.

(٥) تفسير العيّاشي، ج١، ص٣٣٠، رقم ١٤٧.

(٦) المفردات، ص٣٦٣.

(٧) البقرة ٢: ١١٥

٣٥٩

واختاره الجبّائي أيضاً (١) .

وبهذا الشأن أيضاً نزلت الآية ( مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ) (٢) .

قال العلاّمة الطباطبائي: النسخ في الآية يعمّ التبديل في التشريع وفي التكوين معاً وذلك؛ نظراً لعموم التعليل في ذيل الآية، حيث عُلّل إمكان النسخ - وهو مطلق إزالة الشيء عمّا كان عليه وتبديله إلى غيره - بعموم القُدرة أَوّلاً، وبشمول مُلكه للكائنات السماويّة والأرضيّة جميعاً.

قال: وذلك أنّ الإنكار المـُتوهّم في المقام أو الإنكار الواقع من اليهود - على ما نُقل في شأن نزول الآية بالنسبة إلى معنى النسخ - يتعلّق من وجهين:

الأَوّل: أن الكائن - سواء في التشريع أم في التكوين - إذا كان ذا مصلحة، فزواله يُوجب فَوات المصلحة التي كان يحتويها.

الثاني: أنّ الإيجاد إذا تحقّق أصبح الموجود ضرورةً لا يتغيّر عمّا وقع عليه، فهو قبل الوجود كان أمراً اختيارياً ولكنّه بعد الوجود خرج عن الاختيار وأصبح ضرورةً غير اختياريّة.

قال: ومِرجع ذلك إلى نفي إطلاق قُدرته تعالى، فلا تعمّ الكائن الحادث بعد حدوثه، وإنّما القُدرة خاصّة بحال الحدوث ولا تَشمل حالة البقاء، وهو كما قالت اليهود: (يد الله مغلولة).

قال: وقد أَلمـَح سبحانه وتعالى إلى الردّ على الوجه الأَوّل بقوله: ( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )، فلا موضع لتوهّم فوات المصلحة القديمة بعد إمكان التعويض عنها بمصلحةٍ مِثلها أو خيرٍ منها، وعن الوجه الثاني بقوله: ( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) أي له التصرّف في مُلكه حيثما يشاء، وهو دالّ على عموم القُدرة، في بدء

____________________

(١) مجمع البيان، ج١، ص١٩١.

(٢) البقرة ٢: ١٠٦ و١٠٧.

٣٦٠

الحدوث وعبر البقاء جميعاً (1) .

وعليه أيضاً نزلت الآية: ( يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (2) ، أي يُمكنه تعالى أنْ يُزيل شيئاً عمّا قدّر فيه ويُبدّله إلى غيره، حسب عِلمه تعالى في الأَزل بالمصالح والمفاسد المـُقتضية في أوقاتها وظروفها الخاصّة، فهو تعالى كلّ يوم في شأن (3) .

ومِثلها قوله تعالى: ( وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) (4) ، وذلك أنّهم؛ لفَرط جهلهم أنكروا إمكان التبديل في الخلق والتدبير - سواء في التشريع والتكوين - حَسبوا من التغييرات الحاصلة في طول التشريع أنّها افتراءٌ على اللّه، الأمر الذي يدلّ على غباوتهم وجهلهم بمقام حِكمته تعالى الماضية في الخَلق والتدبير على طول خطّ الوجود.

وهذا المعنى هو المستفاد من عقيدتهم بأنّه تعالى بعد ما فَرغ من خَلق السماوات والأرض خلال الستة الأيّام استراح في اليوم السابع وهو يوم السبت، جاء في سِفر التكوين: (فأكملتُ السماوات والأرض وكلّ جُندها، وفَرِغ اللّه في اليوم السابع مِن عملِه الذي عَمل، فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل) (5) .

* * *

وقد يُقال: إنّ هذا المعنى لا ينسجم مع ذيل الآية ( يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ) ؛ حيث يستدعي هذا التعبير أن يكون النظر في صدر الآية إلى أمر البُخل والتقتير في الرزق (6) .

غير أنّ ذِكر الإنفاق كيف يشاء - في ذيل الآية -: جاء بياناً لأَحدِ مصاديقِ بسط يده تعالى وشمول قُدرته، وليس ناظراً إلى الانحصار فيه؛ ولعلّ ذكر ذلك كان بسبب ما واجَه المسلمين في إبّان أمرهم مِن الضيق وعدم التوفّر في تهيئة التجهيز الكافي والحصول على الإمكانات اللازمة، فأخذتْ اليهود في الطعن عليهم بأنّ ذلك هو المـُقدّر لهم، وليس بوِسعِه تعالى أنْ يفسح لهم المـَجال أو يُوسِع عليهم في المعاش.

____________________

(1) تفسير الميزان، ج1، ص253 - 254.

(2) الرعد 13: 39.

(3) الرحمان 55: 29.

(4) النحل 16: 101.

(5) سِفر التكوين، الإصحاح 2/1.

(6) راجع: تفسير الميزان، ج6، ص31.

٣٦١

وإلاّ فوِجهة الآية عامّة كنظيراتها، والعِبرة بعموم اللفظ دون خصوص المـُورد.

قولة اليهود: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ!!

قال تعالى: ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ) (1) .

عُزَير - مُصغّراً - هو الذي يسمّيه أهل الكتاب (عَزْرا) قال الشيخ مُحمّد عَبده: والظاهر أنّ يهود العرب هم الذين صَغّروا بالصيغة العربيّة للتحبيب وصَرَفوه، وعنهم أَخذ المسلمون، والتصرّف في أسماء الأعلام المنقولة إلى لغةٍ أُخرى معروف عند جميع الأُمَم، حتّى أنّ (يسوع) قَلَبَته العرب فقالت: (عيسى).

وعَزْرا هذا هو الذي أَحيى شريعة اليهود بعد اندراسها، وكَتَب أسفارَهم من جديد بعد ضَياعها لمدّة تقرب من قَرنَينِ، بعد كارثة بخت نصّر الذي شتّت شملهم وأحرق كُتبهم وأَخرب معابدهم، ووضع السيف في رقابهم، وأَسَر الباقين إلى أرض بابل حتّى فرّج عنهم الملك داريوش عند ما فتح بابل، وساعدهم على المـُراجعة إلى أرض فلسطين فيمَن عَزم على الرجوع إليها من اليهود وعلى رأسهم عَزرا - وهو عجوزٌ قد طَعن في السنّ - فأعاد بناء الهيكل على حساب مَلِك فارس، وقام بإحياء الشريعة وكتابة الأسفار نحو سنة 457 ق. م (2) ، جَمعها من صدور الرجال والمـَحفوظ لديهم من بقايا آثار التوراة، فكانت له منزلة رفيعة عند اليهود ممّا يقرب من مرتبة نبيّ اللّه موسى (عليه السلام)؛ لأنّه أحيا الشريعة الموسويّة من جديد وأعاد حياتها بعد الضياع والاندراس.

وهذا هو السرّ في تلقيبه بابن اللّه تشريفاً بمقامه الرفيع عندهم، كما قالوا ( نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ) (3) ، أي مُقرّبون لديه تعالى مَقربة الوَلد مِن والدهِ.

ولعلّ تلقيب المسيح بابن اللّه أيضاً من هذا الباب تشريفاً بموضعه عند اللّه العزيز.

وجُملة القول: إنّ اليهود كانوا وما زالوا يُقدّسون عُزَيراً هذا، حتّى أنّ بعضهم أو

____________________

(1) التوبة 9: 30.

(2) راجع: سِفر عَزْرا، الإصحاح السابع.

(3) المائدة 5: 18.

٣٦٢

جُلّهم أَطلق عليه لقب ابن اللّه، فهو تلقيبُ تكريمٍ كما في تلقيب يعقوب بإسرائيل أي القٌدرة الغالبة الإلهيّة، وداود بمعنى المحبوب لدى اللّه، وجبرائيل أي الرجل الإلهي، وعزّئيل أي عزّته تعالى، كلّ هذه ألقاب تشريفيّة تكريماً بمقام المـُتلقّبين بها.

لكن الفيلسوف اليهودي (فلو) الاسكندري المعاصر للمسيح يقول: إنّ لله ابناً هو كلمتُه التي خَلق بها الأشياء، فعلى هذا لا يبعُد أن يكون بعض اليهود المتقدّمين على البعثة المـُحمّديّة - على المبعوث وآله صلوات ربّ العالمين - قد قالوا إنّ عُزَيراً ابن اللّه بهذا المعنى، كما شاع عند النصارى أنّ تلقيب المسيح بابن اللّه هو من هذا الباب (1) .

قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ

قالوا: لم يَعهد من تأريخ مصر القديمة أنّ ملوكها استوزَروا أجانب في سُلطانهم، فمَن هذا المـَلِك الذي استوزرَ يوسف العِبراني لإدارة شؤون الاقتصاد في البلاد؟

( وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي (أي أجعله من خاصّتي) فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) (2) ، فأصبح يوسف عزيز مصر!

وتَحذلق بعضهم القول بعدم معهوديّة التوزير من أبناء اليهود (3) ولم يدرِ المسكين أنّ يوسف سَبق اليهوديّة بقرون! وكان الذي خوّله إرادة شؤون الاقتصاد من المـُلوك الرُعاة (الهِكسوس) وهم أجانب ومِن جالية الشعوب الهنديّة الأُوروبيّة تغلّبوا على الشعب المصري وحكموا البلاد قسراً، والذي بدأ حوالي سنة 1800 ق. م، وهو العهد الذي يُمثّل الأُسرتَين الخامسة عشرة والسادسة عشرة ثُمّ السابعة عشرة في الشمال حتّى عام 1570 ق. م، ليقوم (أحمس الأَوّل) في وجههم ويَطردهم ويُؤسّس الدولة الحديثة الأُسرات من الثامنة عشرة إلى آخر العشرين، وكان إذ ذاك أوان خروج العِبرانيّين من مصر

____________________

(1) راجع: تفسير المنار، ج10، ص322 - 328.

(2) يوسف 12: 54 و55.

(3) شجاع الدين شفا في كتابه (تولّدي ديكر)، ص286.

٣٦٣

على عهد موسى وفرعون (1) .

عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ

ويسترسل (نولدكه) في توهّماته عن القرآن، ليزعم أنّ هذا التعبير بشأن صعيد مصر الذي تشح فيه الأمطار يَنمّ عن جهلٍ بموضع هذا البلد الذي تعود خُصوبته إلى فيضان النيل لا الأمطار، جاء في فقرةٍ من كتابه (... Sketches ص30 - 31) حول هامان ومريم: (بالإضافة إلى هذا التصوّر غير المعقول، يوجد تحويرات مزاجيّة شتّى، بعضها يدعو للسُخرية ويُنسب إلى محمّدٍ نفسه، والمثال على جهله لكلّ الأُمور خارج الجزيرة هو جَعْلُ الخُصوبة في مصر - التي تشحّ فيها الأمطار - مرهونةً بالأمطار وليس بفيضان النيل) (2) .

هذا الانتقاد في غاية الغَباء وينمّ عن جهل (نولدكه) - المستشرق - للّغة العربيّة وللشؤون المصريّة بالذات.

لقد جاء في الآية التي يستشهد بها ما يلي: ( ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ) (3) .

وكلمة (يُغاث) تَحتمل أن تكون من (الغَوث) - وهو النُصرة - أو مِن (الغيث) أي المطر، ( فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ) (4) أي استَنصَره؛ ومِن ثَمّ جاء في تفسير الآية ( عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ ) أي يُنْجى الناسُ من الجَدب ومحنة القحط، قالوا: ويكون من قولهم: أغاثه اللّه، إذا أَنقذه من كَربٍ أو غمّ، يُنقَذُ الناس فيه من كَرب الجَدب، وقوله ( وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ) أي يَعصرون السِّمسم دُهناً والعِنب خمراً والزيتون زيتاً، وهذا يَدلّ على ذهاب الجَدب وحصول الخِصب ووفور الخير (5) .

____________________

(1) راجع: الموسوعة المصريّة (تأريخ مصر القديمة)، مجلّد أوّل، الجزء الأوّل، ص38 - 42، وقاموس الكتاب المقدّس، ص968 و969، وقصص الأنبياء للنجّار، ص149.

(2) راجع: الدفاع عن القرآن، ص186.

(3) يوسف 12: 49.

(4) القصص 28: 15.

(5) راجع: التفسير الكبير، ج18، ص151.

٣٦٤

أمّا لو أُخذت من (الغيث) أي المطر فيكون المعنى: فيه يُمْطَرون، غير أنّ بلاد مصر العُليا تَنعم بغزارة الأمطار أربعة أشهر متتالية في فصل الشتاء، فالمصريّون الّذين يعيشون في الصعيد في الدلتا يعلمون جيّداً أنّ الأمطار تتساقط بغزارة خلال فصل الشتاء أي خلال أربعة أشهر (من ديسمبر إلى مارس)، وأنّ زراعة القمح والبِرس والشعير والفول وأمثالها تعتمد أساساً على الأمطار الّتي تتساقط هذه الفترة، الأمر الذي يجهله أمثال (نولدكه) مِن المتخصّصين في الدراسات العربيّة الإسلاميّة، وهو لم تطأ قدمه بعدُ البلدان الإسلاميّة ولم يغادر أُوربا طَوال عمره (1836 - 1931م)، فلا غَرْوَ أن يخطأ (نولدكه) خطأً مزدوجاً، فهو لم يَفهم النصّ العربي للآية، ثُمّ إنّه يؤكّد أنّ المطر يكاد يَنعدم في مصر، وأهلُها لم يشعروا أبداً باحتياجهم له! وهو الخطأ الذي لا يقع فيه أحد من صبية مصر! على حدّ تعبير الأُستاذ البدوي (1) .

والعجب أنّه لم يَطّلع على ما كَتبه (سال Sale ) في تَرجمة القرآن التي أَنجزها وانتشرت خلال القرن الثامن عشر، إنّه يترجم الآية هكذا:

Then shall there come, after this a year wherein men shall have plenty of rain ، end wherein they shall press wine and oil .

ونجده في ملاحظةٍ سجّلها في أسفل الصفحة يقول علينا أن نُفنّد ما كَتَبه بعض المؤلّفين القدامى، فلقد كانت تمطر عادةً في الشتاء خاصّة في الوجه البحري، وقد لُوحظ الثلج في الإسكندريّة على نقيض ما يزعمه ( Seneca ) صراحةً، فعلاً تُصبح الأمطار أكثر ندرةً في الوجه القبلي في اتجاه شلاّلات النيل، وعلى أيّة حالٍ فإنّنا نفترض أنّ الأمطار التي ذُكرت هنا - في الآية - قُصد بها تلك التي تَسقط في (إثيوبيا) وتُسبّب ارتفاع منسوب النيل (2) .

____________________

(1) معدّل الأمطار التي تسقط في الإسكندريّة وشمال الدلتا يُقدّر بـ 206 ملم، وفي القاهرة 33 ملم، انظر: Suggate . l.s . Africa ، London ، Harap ، 1974 (الدفاع عن القرآن، ص187 - 188).

(2) The Koran ، translated into Englis c h from the original Arabic by George Sale هذه الترجمة صَدرت عام 1734 (الدفاع عن القرآن، ص187).

٣٦٥

فيا تُرى كيف لم يَطّلع (نولدكه) على هذه الترجمة وهذه المـُلاحظة التي سجّلها (سال) وكانت في متناوله؟!

فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ

قال تعالى - فيما حكاه خطاباً لفرعون حينما أَدركه الغَرَق -: ( فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ) (1) ، وذلك عندما أَيقن بالغَرَق وقال: ( آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) (2) ، قال تعالى: ( آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) (3) .

قال هاشم العربي: وهذا يدلّ على أنّه تعالى نجّى فرعون من الغَرَق؛ ومِن ثَمّ يُناقض ما وَرد في سائر الآيات مِن أنّه تعالى أَغَرقه ومَن معه جميعاً (4) .

وسَخَّف تأويلَ المفسّرين ذلك بإنقاذ جسده مِن قَعر البحر وجَعْله طافياً على وجه الماء، أو نَبذ الأمواج له إلى نَجوة (مكان مرتفع) من ساحل البحر؛ ليكون عبرةً للآتينَ، حيث يَجدوه مطروحاً بلا روح على الأرض، قال: هذا تأويل يُخالف ظاهر التعبير؛ حيث المـُتبادر من النجاة هو الخلاص من الغَرَق، قال: على أنّه ليس في ذلك (طفو الجسد على وجه الماء أو طرحه على الساحل) آيةٌ؛ لأنّ هذه حال أكثر الغَرقَى تطفو جُثَثُهم على الماء أو يُلقيها البحر بالساحل (5) .

لكنّه لم يُمعن النظر في التعبير بالبَدن، وهي الجُثّة بلا روح، فلو كان أَراد تَنجيتَه لجاء التعبير: (ننجّيك) بلا زيادة قوله: (ببدنك)، فهذه الزيادة دَلّتنا على اختصاص البَدن (الجسد بلا روح) بالنجاة.

والمـُراد بالنجاة هو الخلاص ببدنِه سليماً مِن مقضمة الحيوانات البحريّة ومن غير أن يتفتّت أشلاءً أو يتفسّخ.

____________________

(1) يونس 10: 92.

(2) يونس 10: 90.

(3) يونس 10: 91، وراجع الإسراء 17: 103، والزخرف 43: 55، والقصص 28: 40.

(4) ملحق ترجمة كتاب الإسلام، ص379 - 380.

(5) راجع ما كتبه الشيخ الطنطاوي بهذا الشأن في تفسير الجواهر، ج6، ص81 و105.

٣٦٦

الأمر الذي بقيَ معجزةً خالدةً، فها هو جسد فرعون المـُنحّط، معروض للعامّة، وقد شاهدتُه في متحف بريطانيا الأثري، وجُثث أُخرى معروضةً هناك وفي مَتاحف مصر أيضاً.

مَن هو فرعون موسى؟

وفرعون هذا يقال: إنّه (توت عنخ أمون) من ملوك الأُسرة الثامنة عشرة وكانت مدّة مُلكه ما بين (1348 - 1337ق. م) أي قبل ثلاثة آلاف وثلاثمِئة سنة تقريباً (1) .

وقيل: هو منفطا (منفتاح) الأَوَّل من الأُسرة التاسعة عشرة (1223 - 1211 ق. م). وقيل: ابنه (سيتي) الثاني (1207 - 1202 ق. م) (2) .

وفي أيّامه اختلّ الأَمن وسادت القلاقل وهَلك سيتي بعد أنْ مَلَك مدّةً قصيرةً، وقد عُثر على جُثّته في قبر (أمنهوتب) الثاني بطيبة، فانفرد الوُلاة كلٌّ بولايته؛ ومِن ثَمَّ كثر وفود الأجانب على مصر (3) .

ولقد صدق اللّه سبحانه حيث يقول: ( كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ ) (4) .

( كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) (5)

هل ورثت بنو إسرائيل ديار مصر بعد غَرَق فرعون وجنوده؟

ليس في الآية تصريح بذلك، وإنّما هو الاستيلاء على ديارٍ كان مُلوك مصر مُسيطرينَ عليها، وليس على نحو الشُمول، ففي سورة الأعراف - بعد أنْ ذَكَر قصّة الغَرَق - قال: ( وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا

____________________

(1) تفسير الجواهر، ج6، ص81 - 82.

(2) دائرة معارف القَرن العشرين، ج9، ص30، وراجع: الموسوعة المصريّة (تأريخ مصر القديمة وآثارها): المجلّد الأَوّل، الجزء الأَوّل، ص59.

(3) المصدر.

(4) الدخان 44: 25 - 28.

(5) الشعراء 26: 59.

٣٦٧

فِيهَا ) (1) ، والأرض المباركة هي أرض فلسطين والشامات (2) ، وهي عامرة بوِفرة الخِصب وكثرة الأرزاق، ومشارق الأرض ومغاربها إشارةً إلى سُلطان داود وسليمان على بني إسرائيل وأنّهما أقاما دولةً واسعة الأرجاء في فلسطين امتدّت إلى شرق البلاد وغربها في عرضٍ عريض.

وأمّا قوله تعالى: ( كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ ) (3) ؛ فلعلّه أراد الفَوضى التي حصلت بعد هلاك (سيتي) الثاني وتواترت وفود الأجانب على البلاد كما قدّمنا (4) ، وإن كان أُريد بهم قوم إسرائيل فيُحمل على إرادة أرض فلسطين كالآية السابقة.

شُبهة وجود اللَحن في القرآن

قالوا: وأيّ باطل بعد الخطأ واللَحن تبتغون؟ وقد رَوَيتم عن عائشة أنّها قالت: ثلاثة أحرف في كتاب اللّه هُنّ خطأٌ من الكاتب:

1 - قوله: ( إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ ) (5) .

2 - قوله: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ ) (6) .

3 - قوله: ( وَالْمُقِيمِينَ الصّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزّكَاةَ ) (7) .

ورَوَيتم عن عثمان: أنّه نَظَر في المـُصحف بعد ما رُفع إليه فقال: أرى فيه لَحناً وستُقيمه العرب بألسنتها (8) .

وَنَسبوا إلى التابعي الكبير سعيد بن جُبير أنّه زَعَم أنّ في القرآن لَحناً في أربعة مواضع، وذَكَر الموارد الثلاثة، وزاد الرابعة قوله تعالى: ( فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ) (9) .

____________________

(1) الأعراف 7: 137.

(2) جاء هذا التعبير بشأن أرض فلسطين وما والاها في مواضع من القرآن: الإسراء 17: 1، الأنبياء 21: 71، الأعراف 7: 137.

(3) الدخان 44: 28.

(4) راجع: دائرة معارف القَرن العشرين، ج9، ص30.

(5) طه 20: 63.

(6) المائدة 5: 69.

(7) النساء 4: 162.

(8) راجع: تأويل مشكل القرآن، ص25 - 26.

(9) المصاحف للسجستاني، ص33 - 34، والآية 10 من سورة المنافقين.

٣٦٨

وقالوا في قوله تعالى ( يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ) : (1) كان ينبغي التأنيث في العدد؛ لأنّ التقدير: وعشرة أيّام!

وهكذا زَعَم مَن لا دراية له من المـُستشرقين وأَذنابهم أنّ في القرآن لَحناً، وتَغافلوا عن أنْ لو كان الأمر على ذلك لاتخذه مناوئو الإسلام من أَوَّل يومه ذريعةً للغَمز فيه وهم عربٌ أَقحاحٌ، ولم يكن يَصل الدور إلى هؤلاء الأجانب الأسقاط (2) .

ليس في القرآن لَحن

لاشكّ أنّ القرآن من أقدم أسناد اللغة ذوات الاعتبار، ولا مجال للترديد في حجّيته واعتباره بعد حضوره في عصرٍ كان العرب في أَوْج حضارتها الأدبيّة الراقية، وكانوا أعداء ألدّاء له يتحيّنون الفُرص للغَمز فيه من أيّ جهةٍ كانت، لولا اعترافاتهم الصريحة باعتلائه الشامخ في الأدب الرفيع، فهل يُعقل أنْ يكون في القرآن مسارب للغَمز فيه تَغَافَلها أولئك الأقحاح ليَتعرّف إليها هؤلاء الأذناب؟

على أنّ الصحيح من كلّ لغة هو ما حَفظته أسنادهم العتيدة، ولتكون هي المعيار في تمييز السليم عن السقيم، هذا ابن مالك - إمام في النحو والأدب ولغة العرب - يَجعل القرآن قدوةً في تنظيم قواعد اللغة وترصيف أدبها، يقول:

وسَبْقُ حالٍ ما بحرفٍ جُرَّ قَدْ

أَبَوا ولا أمنَعُه فَقَدْ وَرَدَ

يعني: أنّ بعض النُحاة ذهبوا إلى عدم جواز تقدّم الحال على ذي حالٍ مجرور بحرف، ولكنّي أُجيز ذلك، استناداً إلى وروده في سندٍ قويم وهو القرآن الكريم، في قوله تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ كَافَّةً لِلنَّاسِ ) (3) ، لتكون (كافّةً) حالاً من (الناس).

فقد جَعَل القرآن سنداً قطعياً لقاعدة لغوية، دون العكس على ما زَعَمه الزاعمون.

فكلّ ما جاء في القرآن هو الحجّة والسند القاطع لفهم مجاري الأدب الرفيع.

____________________

(1) البقرة 2: 234.

(2) انظر: تأريخ القرآن لنولديكه، ج3، ص2 - 4، آراء المستشرقين حول القرآن، ج2، ص555 - 574.

(3) سبأ 34: 28.

٣٦٩

* * *

فما زَعَمه الزاعمون من وجود لَحنٍ في كتاب اللّه فإنّما هو؛ لقصور فهمٍ وعدم اضطلاع بمباني اللغة الأصيلة وإليك توضيحاً لهذا الجانب:

أمّا قوله تعالى: ( إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ ) (1) فالقراءة الصحيحة المـُتّبعة وهي قراءة حفص وجمهور المسلمين هي القراءة بالتخفيف، مخفّفاً عن المثقّلة؛ بدليل وجود اللام في الخبر، وكان أبو عمرو بن العلاء - وهو أعلم أهل زمانه بالقرآن والعربيّة وآدابها - يقول: إنّي لأَستحيي أنْ أقرأ بالتشديد ورفع الاسم، فالخطأ موجّه إلى تلك القراءة المرفوضة وليس في القرآن، الذي يلهج به عامّة المسلمين وعلى رأسهم قراءة حفص ذات الإسناد الذهبي إلى الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام).

أمّا الحَمل على لغة بَلْحَرث بن كعب، حيث كانوا يلهجون في المثنّى بالألف مطلقاً - كما فعله ابن قتيبة - (2) فغير سديد؛ لأنّ القرآن نزل وِفق اللغة الفُصحى ولا يُحمل على الشواذّ المنبوذة (3) .

* * *

وأمّا الرَفعُ في المعطوف عن منصوب (إنّ) في قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ ) (4) قَبل استكمال الخبر؛ فلكونه عطفاً على محلّ الاسم وهو رفع بالابتدائيّة، ورُجّح ذلك لوجهين:

أحدهما: مُناسبة الواو في (هادوا) في حين عدم ظهور إعراب الاسم بسبب البناء، قال الفرّاء: ويجوز ذلك إذا كان الاسم ممّا لم يَتبيّن فيه الإعراب، كالمـُضمر والموصول (5) ، كقول الضابئ بن الحارث البرجمي:

فمَن يكُ أمسى بالمدينةِ رحلُهُ

فإنّي وقيّارٌ بها لغريبُ

____________________

(1) طه 20: 63.

(2) راجع: تأويل مشكل القرآن، ص50.

(3) وقد أَسَهب ابن قتيبة في هذا المجال، وذكر أشياء فيها فوائد كثيرة، فراجع، وقد فصّلنا الكلام حول الآية في كتابنا (صيانة القران من التحريف)، ص182 - 183، طبق 1418.

(4) المائدة 5: 69.

(5) مجمع البيان، ج3، ص224.

٣٧٠

وقال بشر بن حازم:

وإلاّ فاعلَموا أنّا وأنتم

بُغاةٌ ما بَقينا في شِقاق

ورجّح ذلك في الآية رعايةً لمـُناسبة الواو في (هادوا) نظير العطف على الجِوار، قال الكسائي: هو نسقٌ على ما في (هادوا) (1) .

كما رجّح النَصب على الأصل في آيةٍ أُخرى نظيرتها أيضاً لمناسبة الجِوار، وذلك في قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ ) (2) لمـُناسبة الياء في (النصارى) (3) .

ثانيهما: ما ذَكَره ابن قتيبة، قال: جواز الرفع في مِثل ذلك إنّما كان؛ لأجل عدم تغيير في مفهوم الابتدائيّة سواء قبل دخول (إنّ) أو بعده، حيث إنّها تزيد معنى التحقيق ولا تزيد معنى آخر سِوى ما كانت الجملة تفيدها ذاتاً؛ ومِن ثَمّ لا يجوز ذلك في المعطوف على اسم (لعلّ) أو (ليتَ) لزيادة معنى الترجّي أو التمنّي في مفهوم الكلام.

وقال: رُفع (الصابئون) لأنّه ردٌّ (أي عطف) على موضع الاسم وموضعه رُفع؛ لأنّ (إنّ) مبتدأةٌ ولم تُحدث في مفهوم الكلام معنىً كما تُحدث أخواتها؛ أَلا إنّك تقول (زيد قائم) ثُمّ تقول (إنّ زيداً قائم)، ولا يكون بين الكلامَينِ فرقٌ في المعنى، سِوى زيادة التأكيد، لكنّك إذا قلتَ (زيدٌ قائم) ثُمّ (لعلّ زيداً قائم) أو (ليتَ زيداً قائم) فقد أَحدثتَ معنى الشكّ (الترجّي) أو التمنّي في مفهوم الكلام؛ ومِن ثَمّ لا يجوز الرفع في المعطوف على الاسم في غير (إنّ) من سائر أخواتها (4) .

وأمّا النَصب في (المقيمين) من قوله تعالى: ( لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ) (5) - وطرفاه على الرفع - فلأنّه على القطع؛ لأجل المـَدح والاختصاص، وهو شائع في اللغة.

____________________

(1) المصدر.

(2) البقرة 2: 62.

(3) مجمع البيان، ج3، ص225.

(4) تأويل مشكل القرآن، ص52.

(5) النساء 4: 162.

٣٧١

ونظيره قوله تعالى في موضعٍ آخر: ( وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ) (1) ، قال سيبويه - في باب ما يُنتصب في التعظيم والمدح -: وسمعنا بعض العرب يقول: الحمد لله ربَّ العالمين - بنصب الربّ - فسألت عنها يونس فزعم أنّها عربيّة (2) ، قال: ومنها (والمقيمين) و(الصابرين) فقُطع إلى النصب مدحاً، وهذا باب شائع في العربيّة، وتكلّم فيه سيبويه بتفصيل (3) .

وهكذا قال أبو عبيد، قال: هو نصبٌ على تَطاول الكلام بالنسق، أي للإيفاد بالكلام تطريةً تُخرجه على تطاول النسق، فيجوز القطع إلى النصب وإلى الرفع تطريةً للكلام وإخراجه عن نسقٍ واحد، وأنشد للخِرِنْق بنت هفّان:

لا يَبعَدن قومي الذين هُمُ

سُمُّ العُداةِ وآفة الجُزْرِ

النازلينَ بكلِّ مُعتَركٍ

والطيّبون معاقِدَ الأُزرِ (4)

* * *

وأمّا الجزم في (وأَكنْ) معطوفاً على (فأَصَّدَقَ) فمحمول على موضع (فأصّدّق) لو لم يكن فيه الفاء، وموضعه جزم، جواباً لـ (لولا) في قوله تعالى: ( فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ) (5) ، وهو من العطف على التوهّم، وهو شائع في اللغة، كما في قول الشاعر:

فأَبلوني بليّتكم لعلّي

أصالِحُكم وأستدرجْ نَوَيّاً

فجزم (أستدرج) معطوفاً على موضع (أصالحُكم) بتوهّم أنّه لو لم يكن قبلها (لعلّي)؛ لأنّه قال: فأبلوني بليّتكم أصالِحْكم واستدرج (6) .

وللفرّاء هنا كلامٌ مُسهبٌ أتى فيه بفوائد جمّة، نذكره على طوله:

____________________

(1) البقرة 2: 177.

(2) كان سيبويه يحترم آراء يونس، ويأخذها حجّة، والزَعم هنا بمعنى الرأي والنظر.

(3) راجع: كتاب سيبويه، ج1، ص288 - 291.

(4) تأويل مشكل القرآن، ص53.

(5) المنافقون 63: 10.

(6) راجع: تأويل مشكل القرآن، ص56.

٣٧٢

قال: فإذا أَدخلتَ في جواب الاستفهام فاءً نَصبت، كما قال اللّه تبارك وتعالى: ( رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ ) (1) .

فإذا جئت بالمعطُوف التي تكون في الجزاء وقد أجبته بالفاء كان لك في العطف ثلاثة أوجه:

1 - إنْ شِئت رفعتَ العطف، مثل قولك: إنْ تأتني فإنّي أهل ذاك، وتُؤجَرُ وتُحمدُ، وهو وجه الكلام.

2 - وإن شِئت جزمتَ، وتجعله كالمردود على موضع الفاء.

والرفع على ما بعد الفاء، وقد قرأَتْ القرّاء: ( مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ ) (2) ، رُفع وجُزم.

وكذلك ( إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ ) (3) ، جُزم ورُفع.

ولو نصبتَ على ما تنصب عليه عطوف الجزاء إذا استغنى لأَصبت، كما قال الشاعر وهو النابغة الذبياني:

فإنْ يَهلِكِ النعمانُ تُعْرَ مَطِيَّهُ

وتُخبأَ في جوفِ العياب قُطوعُها

وإنْ جزمت عطفاً على ما نصبت تردّه على الأَوّل كان صواباً، كما قال الشاعر بعد هذا البيت:

وتنحَطْ حصانٌ آخر الليلِ نَحطَةً

وتُخبأَ في جوفِ العياب قُطوعُها

وهو كثير في الشعر والكلام، وأكثر ما يكون النص في المعطوف إذا لم تكن في جواب الجزاء الفاء، فإذا كانت الفاءُ فهو الرفع والجزم.

____________________

(1) وقد عدّ (لولا) هنا في أدوات الاستفهام، وهذا المعنى ذكره الهروي - كما في المغني لابن هشام: حرف اللام، ج1، 275 والطبعة الحجريّة، ص144 ومَثّل له بالآية، وقال الأمير في التعليقة على المـُغني: الاستفهام هنا بعيدٌ جداً، ورجّح أنْ يكون معنى العرض أو التحضيض.

(2) الأعراف 7: 186.

(3) البقرة 2: 271.

٣٧٣

3 - وإذا أجبت الاستفهام بالفاء فنصبت فانصب العطوف، وإنْ جزمتها فصواب، من ذلك قوله تعالى: ( لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ ) (1) ، رددت (وأكنْ) على موضع الفاء؛ لأنّها في محلّ جزمٍ، إذ كان الفعل إذا وقع موقعها بغير الفاء جُزم، والنصب على أنْ تردّه على ما بعدها، فتقول: (وأكون)، وهي قراءة عبد اللّه بن مسعود (وأكون) بالواو.

وقد قَرأَ بها بعض القرّاء (هو أبو عمرو بن العلاء)، قال: وأرى ذلك صواباً (أي القراءة بالواو مع عدم كَتَبها في المـُصحف)؛ لأنّ الواو ربّما حُذفت من الكتاب وهي تُراد، لكثرة ما تُنقص وتُزاد في الكلام...

وقال بعض الشعراء (هو أبو داود الأيادي):

فأبلوني بليّتكم لعلّي

أُصالِحُكُم وَأَسْتَدْرِجْ نويّاً

فجُزم (أَسْتَدْرِجْ) فإنْ شِئت رَدَدتَه إلى موضع الفاء المضمرة في (لعلّي)، وإنْ شِئت جعلته في موضع رفع فسكّنت الجيم لكثرة توالي الحركات، وقد قرأ بعض القرّاء ( لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ ) (2) بالجزم وهم يَنوون الرفع، وقرأوا ( أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ) (3) ، والرفع أحبّ إليَّ من الجزم (4) .

* * *

وأمّا قوله تعالى: ( أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشـْراً ) (5) فليس التقدير (عشرة أيام) إنّما التقدير في مِثل ذلك عند العرب (عشر ليال). كما في قولهم: لخمس بقين أو خَلون من رجب، والتقدير في حساب الأيّام عند العرب بالليالي دون وضح النهار؛ ومِن ثَمّ تُحسب الليلة من أَوّل الشهر من الشهر، ويبدأ كلّ شهر بليلة أَوّله، فالنهار تابعٌ للّيل كما في آخر الشهر.

____________________

(1) المنافقون 63: 10.

(2) الأنبياء 21: 103.

(3) هود 11: 28.

(4) راجع: معاني القرآن، ج1، ص86 - 88.

(5) البقرة 2: 234.

٣٧٤

( وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً) (1)

قالوا: فيه لَحن، أَوّلاً تأنيث العدد مع أنّ التمييز مُذكّر، وثانياً جمع التمييز، والصحيح إفراده هنا (2) .

لكن الكلام يتمّ بالعدد من غير ما حاجةٍ إلى ذِكر التمييز، كما في نظائره من قولك: قطّعتُ اللحم أربعاً، أي أربع قطع، وجئناك خمسةً، أي خمسة أشخاص، ( وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ ) (3) ، أي بعشر ليالٍ، ( يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ) (4) ، أي عشر ليال؛ وذلك لأنّ الاعتبار بحساب الليالي - كما قدّمنا - ( إِنْ لَّبِثْتُمْ إِلاّ عَـشْراً ) (5) ، ( فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ ) (6) ، ( عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ) (7) ، أي خازناً.

كلّ ذلك لمعلوميّة المعدود من غير حاجة إلى ذِكره، وكذا هنا، إذ قولك: فرّقتهم اثنتي عشرة، تعني: اثنتي عشرة فِرقةٍ، (وحذف ما يُعلم جائز)، بل ذِكره إمّا تأكيدٌ أو حشوٌ زائد.

قال المفسّرون: (أسباطاً) بدلٌ من (اثنتي عشرة)، تقديره: وفرّقناهم فِرَقاً أسباطاً وجعلناهم أُمَماً متفرّقة لا مُجتمعة، وهذا نَكال بهم من أَوّل يومِهم، حيث تفرّقهم في الرأي وعن إتّباع الرسول منذ البدء، على خلاف ما حَظيت به هذه الأُمّة من الاجتماع ووحدة الكلمة والتفافهم حول الرسول ( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) (8) ، الأمر الذي أراده بشأن كلّ اُمّةٍ من الأُمَم رُغم تفرّقهم وتشعّبهم فِرَقاً ( وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً (أي قطعاً كزُبرِ الحديد أي صفحاته) كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ) (9) ، الأمر الذي مُنيَ به بنو إسرائيل حيث تشتّتهم وتطاحنهم في الحياة.

____________________

(1) الأعراف 7: 160.

(2) هاشم العرب في ملحق ترجمة كتاب الإسلام، ص417.

(3) الأعراف 7: 142.

(4) البقرة 2: 234.

(5) طه 20: 103.

(6) القصص 28: 27.

(7) المدّثر 74: 30.

(8) الأنبياء 21: 92.

(9) المؤمنون 23: 52 و53.

٣٧٥

( وَنُقَدِّسُ لَكَ) (1)

زَعَم المـُتعرّب (هاشم العربي) أنّ في ذلك لَحناً؛ حيث زيادة اللام من غير حاجة إليها وكان الصواب (نقدّسك) لأنّ الفعل متعدٍّ بنفسه، اللّهمّ إلاّ أنْ يُقدَّر المفعول به شيئاً من الأشياء، الأمر الذي يزيد في إبهام الكلام (2) .

لكنّه لم يدرِ الفَرق بين (قَدَّسَه) و(قدّس له)!

يقال: قَدَّسه أي نَزَّهه ومَجَّده، أما إذا قيل: قَدَّس له، فيعني: تطهير النفس تمهيداً لإمكان الحضور لدى ساحة قُدسه تعالى.

قال أرباب اللغة: يقال: قَدّس الرّجلُ اللّهَ، أي نَزّهه ووَصَفه بكونه قُدُّوساً، والقُدّوس: المـُتنزّه عن العُيوب والنقائص، وقَدَّس للّه، أي طهّر نفسه له، وذلك بأنْ مهّدها لإمكانِ الاستفاضةِ من أنوار الملكوت.

كانت الملائكة ترى من بني آدم ذواتاً منكدِرة لا تصلح للاستجلاء بجلاءٍ يَليق بمقام القُدس الأعلى، فعرضت نفسها وهي صالحة للاقتراب من مقام القرب الأدنى.

لكنّه تعالى أعلم بالمصالح فيما يُقدّر ويُدبّر. ( قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ) (3) .

ثُمَّ على فرض التقدير في الكلام فإنّه ليس على ما فَرَضَه المتعرّب من الإبهام، قال الراغب: ( وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ) أي نُطهّر الأشياء ارتساماً لك (4) ، أي بدلاً من بني آدم - حيث يُفسدون في الأرض أي يَعبثون بوجوه الأشياء ليُغيّروها إلى جهة الفساد - نقوم نحن بتطهير الأشياء وتصقيلها إلى حيث الصفاء والجَلاء التامّ، الأمر الذي يتحقّق منه الامتثال التامّ لما أراده تعالى من الطهارة والنزاهة في خليقته جمعاء.

ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ

قال تعالى: ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (5) .

____________________

(1) البقرة 2: 30.

(2) ملحق ترجمة كتاب الإسلام، ص434.

(3) البقرة 2: 30.

(4) المفردات، ص396.

(5) آل عمران 3: 59.

٣٧٦

قالوا: وكان ينبغي أنْ يقول: ثُمّ قال له كنْ فكان.

قال بعضهم - تجاسراً على كتاب اللّه -: آثر الرويّ على المعنى، فآثر الإخلال بالمعنى ليستقيم له الرويّ، وزاد بشاعةً في القول: قد سَاقه إليه ما أَلفه لسانُه - يَعني مُحمّداً (صلّى اللّه عليه وآله) حيث كرّره في ستّة مواضع من كتابه بصيغة المضارع، ممّا كان متناسباً فيها غير ما هنا (1) .

لكن المسكين ذَهب عنه أنّ هذه الجُملة تُمثّل كلمة التكوين وليست تكليفاً بالقول؛ ومِن ثَمَّ كان المسيح (عليه السلام) كلمة اللّه ألقاها إلى مريم (2) .

قال الشيخ مُحمّد عَبده: يجوز أن تكون كلمة التكوين مجموع (كن فيكون) والمعنى: ثُمَّ قال له كلمة التكوين التي هي عبارة عن توجّه الإرادة إلى الشيء ووجوده بها حالاً، قال: ويظهر هذا في مِثل قوله تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ ) (3) ، ولو كان القول للتكليف لم يَظهر هذا؛ لأنّ قول التكليف من صفة الكلام، وقول التكوين من صفة المشيئة (4) .

فلفظة (كن) تُمثّل إرادته تعالى المـُتعلّقة بتكوين شيء، و(فيكون) تُمثّل تكوين الشيء حالاً فورَ إرادته تعالى، الأمر الذي يَتمثّل في لفظة المضارع الدالّة على التحقّق في الحال، ولا يصلح لذلك صيغة الماضي إلاّ بتأويله إلى إرادة الحال أي (فكان في الحال)، وهذا ممّا يكفله صيغة المضارع من غير تأويل، وهذا هو معنى قولهم: (فيكون) حكايةُ حالٍ ماضية.(5) أي وإن كان الأمر قد مضى، لكنّها حكاية عن أمر كان حالاً في ظرفه: فقد تَكَوَّن الشيء حالاً فورَ الإرادة، وهذا من تصوير الحال الماضية كما يقول أهل المعاني.

فمعنى قوله (كن فيكون): أنْ لا فاصل زمنيّاً بين إرادته تعالى وتكوين الشيء ( وَمَا أَمْرُنَا إِلاّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ) (6) ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (7) ، أي لا فاصل

____________________

(1) هاشم العربي في ملحق ترجمة كتاب الإسلام، ص 417 - 418.

(2) إشارة إلى الآية 171 من سورة النساء.

(3) الأنعام 6: 73.

(4) تفسير المنار، ج3، ص319.

(5) الكشّاف، ج1، ص368.

(6) القمر 54: 50.

(7) يس 36: 82.

٣٧٧

- عند إرادته تعالى لتكوين شيء - بين هذه الإرادة وتكوين ذاك الشيء حالاً.

قال الحجّة البلاغي: (فيكون) فعل مضارع دالّ على الثبوت، لبيان الملازمة الدائمة بين قوله (كن) وبين تكوّن الشيء بهذا الأمر لا محالة، وبهذه القُدرة التامّة والمـُلازمة الدائمة خُلق عيسى من غير فَحل، إذ قال له: (كن).

وهو كلام صادر في مقام الاحتجاج بالتمثيل، ولا تقوم الحجّة بهذا التمثيل ولا يحصل المراد منه في الاحتجاج إلاّ ببيان الملازمة.

وهذا بخلاف ما لو قال: كن فكان؛ لأنّ هذا الأُسلوب (الثاني) لا يُفيد إلاّ أنّ آدم كان، سواءٌ أَكان ذلك باتفاق أم بملازمة خاصّة بذلك الكون أو عامّة، وهو أمرٌ معلوم لا فائدة في بيانه ولا حجّة فيه على خَلق عيسى من غير فحل، فلا يكون التفريع لو قيل: كن فكان، إلاّ لغواً في كلام متهافت (1) .

والخلاصة: أنّ المـُضارعة هنا يدلّ على المـُلازمة الدائمة بين قولة (كن) والتكوين، فصحّ جريانه بشأن آدم والمسيح على سواء، وهذا على خلاف ما لو قيل (فكان)؛ لاحتمال مجرّد الاتفاق وليس عن ملازمةٍ دائمة... وهو تنبّه لطيف أَفادته قريحة شيخنا العلاّمة البلاغي المهديّ بهداية اللّه تعالى، فرحمة اللّه عليه مِن مجاهد في سبيل اللّه بالعلم والعمل الدائب، أفاض اللّه عليه شآبيب رضوانه، آمين.

( وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) (2)

قال هاشم العربي: كان الصواب أنْ يقول: وكان قدّامهم... (3)

قلت: ما أقبح بالرجل لا عِلم له بالعربيّة وهو يتجرّأ في تخطئة أقدم وأقوم كلام عربي رصين، القرآن أصحّ سند عتيد حَفِظ على العرب لغتَهم الأصيلة، ولا تزال العرب تعرف أصالتها من القرآن وتَستلهم أساليب كلامها من تعابير القرآن، هذا ما يبدو من العرب خضوعهم تجاه عظمة القرآن، سواءٌ أكانوا ممّن آمنوا به وصدّقوه وحياً - وهم

____________________

(1) الهدى إلى دين المصطفى، ج1، ص380.

(2) الكهف 18: 79.

(3) ملحق ترجمة كتاب الإسلام، ص426.

٣٧٨

الأكثرية الساحقة - أم الذين بقوا على جاهليّتهم الأُولى وهم النَزر اليسير، لكنّهم جميعاً بَخعوا أمام كبرياء هذا الكتاب وجبروت هذا الكلام.

فيا لصاحبنا المسكين يُخطّئ ويُصوّب فيما لا شأن له!

إنّ كلمة (وراء) في هكذا موارد من استعمالاتها يُراد بها: الكارثة الخطيرة التي تَتَعقّبهم في مسيرة الحياة، والمعنى أنّهم سائرون لاهينَ، وتلاحقهم داهيةٌ دَهماءٌ تسعى وراءهم للنيل منهم وهم غافلون عنها غير مبالين بها، وهو مِن ألطف الكنايات.

وهذا كما في قوله تعالى: ( وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) (1) ، ( مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئاً ) (2) ، ( مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ ) (3) ، ( وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ) (4) .

وهكذا جاء استعماله في الشعر الجاهلي، قال لبيد:

أَليسَ ورائي إنْ تراختْ مَنيّتي

لُزُوُمُ العَصا تُحنى عليها الأَصابعُ

وقال عبيد:

أَليسَ ورائي إن تراخت مَنيّتي

أدبُّ مع الوِلدان أزحفُ كالنسرِ

وقال المرقش:

ليسَ على طولِ الحياة ندمٌ

ومِن وراء المرء مالا يعلمُ (5)

قوله: أَليسَ ورائي، أي أَليس يتعقبني لزوم العصا؟ وهو تعبير كنائي عن الانتظار لهم في منتهى خطّ المسير، فكان قول المفسّرين: أمامهم، هو لازم المعنى ولم يُريدوا ترجمة اللفظة.

( وَطُورِ سِينِينَ) (6)

قال المتكلّف: هذا ممّا أخطأ القرآن فيه مُراعياً للرويّ، والوجه: سيناء كما جاء في

____________________

(1) المؤمنون 23: 100.

(2) الجاثية 45: 10.

(3) إبراهيم 14: 16.

(4) إبراهيم 14: 17.

(5) راجع: الهدى إلى دين المصطفى، ج1، ص352.

(6) التين 95: 2.

٣٧٩

سورة المؤمنون ( وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ ) (1) .

لكنّه تَجاهلَ استعمال اللفظة بكِلا الوجهَين في العهد القديم:

كانت البريّة التي خَرَجَ إليها بنو إسرائيل - بعد اجتيازهم بحر سوف (البحر الأحمر) ومنطقتي شور وإيليم - تُسمّى بريّة (سين) والتي تنتهي إلى جبل سيناء.

جاء في سِفر الخروج: (ثُمّ ارتحلوا من إيليم وأتى كلّ جماعة بني إسرائيل إلى برّية سين التي بين إيليم وسيناء) (2) .

وسِيناء - بكسر السين - اسم جبل (حوريب) (3) وعَبّر عنه بسينيم أيضاً، كما أنّ الوادي كلّه سُمّي بسيناء (4) وسينيم باعتبار فخامة هذا الجبل الواقع فيه، جاء في سِفر إشعياء: (هؤلاء من بعيد يأتون وهؤلاء من الشمال ومن المغرب وهؤلاء من أرض سينيم) (5) .

قال جيمس هاكس: فَسَّره جماعة بوادي (سين) و(سيناء)؛ نظراً للمناسبة القريبة الملحوظة في عبارة الكتاب (6) .

وهكذا جاءت اللفظة في القرآن مُعرّبةً (سيناء) بفتح السين، و(سينين) بقلب الميم نوناً كما هي العادة الجارية في لغة العرب، فلم يكن هناك تَضايق من جهة الرويّ كما زَعم.

ومِن المـُحتمل القريب أنّ (سينيم) جمع (سين) باعتبار أنّ الجمع في العِبريّة يأتي بالياء والميم، كما في (جَمَليم) و(حَمُوريم) و(رَكْبيم) جمع (جَمَل) و(حَمُور) و(رَكْب) (7) ، وعليه فقد أتى القرآن بسينين جمعاً بالياء والنون على النهج العربي وذلك قد التئم الرويّ من غير تَكلّف الأمر الذي اشتبه على المعرّب، وكم له من نظير!

____________________

(1) راجع: ملحق ترجمة كتاب الإسلام، ص418، والآية 20 من سورة المؤمنون.

(2) سِفر الخروج، الإصحاح 16/1.

(3) راجع: قاموس الكتاب المـُقدّس، ص498 مادة (سيناء).

(4) راجع: سِفر الخروج، الإصحاح 19/1: (جاؤوا إلى بريّة سيناء فنزلوا في البرّية، هناك نَزَل بنو إسرائيل مقابل الجبل) وفي الإصحاح 19/18: (فوقفوا في أَسفل الجبل، وكان جبل سيناء كلّه يُدخّن من أجل أنّ الرّبّ نَزَل عليه بالنار).

(5) سفر ِإشعياء، الإصحاح، 49 /12.

(6) قاموس الكتاب المـُقدّس، ص504.

(7) راجع: الرِحلة المدرسيّة، ج1، ص74 - 75.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578