شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم10%

شبهات وردود حول القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 578

شبهات وردود حول القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 578 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 297496 / تحميل: 13675
الحجم الحجم الحجم
شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

( بيان‏)

هذا هو الفصل الثاني من الآيات يعرّف الحاقّة ببعض أشراطها و نبذة ممّا يقع فيها.

قوله تعالى: ( فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ ) قد تقدّم أنّ النفخ في الصور كناية عن البعث و الإحضار لفصل القضاء، و في توصيف النفخة بالواحدة إشارة إلى مضيّ الأمر و نفوذ القدرة فلا وهن فيه حتّى يحتاج إلى تكرار النفخة، و الّذي يسبق إلى الفهم من سياق الآيات أنّها النفخة الثانية الّتي تحيي الموتى.

قوله تعالى: ( وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً ) الدكّ أشدّ الدقّ و هو كسر الشي‏ء و تبديله إلى أجزاء صغار، و حمل الأرض و الجبال إحاطة القدرة بها، و توصيف الدكّة بالواحدة للإشارة إلى سرعة تفتّتهما بحيث لا يفتقر إلى دكّة ثانية.

قوله تعالى: ( فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ ) أي قامت القيامة.

قوله تعالى: ( وَ انْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ ) انشقاق الشي‏ء انفصال شطر منه من شطر آخر، و واهية من الوهي بمعنى الضعف، و قيل: من الوهي بمعنى شقّ الأديم و الثوب و نحوهما.

و يمكن أن تكون الآية أعني قوله:( وَ انْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ وَ الْمَلَكُ عَلى‏ أَرْجائِها ) في معنى قوله:( وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَ نُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا ) الفرقان: 25.

قوله تعالى: ( وَ الْمَلَكُ عَلى‏ أَرْجائِها وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) قال الراغب: رجا البئر و السماء و غيرهما جانبها و الجمع أرجاء قال تعالى:( وَ الْمَلَكُ عَلى‏ أَرْجائِها ) انتهى، و الملك - كما قيل - يطلق على الواحد و الجمع و المراد به في

٦١

الآية الجمع.

و قوله:( وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) ضمير( فَوْقَهُمْ ) على ظاهر ما يقتضيه السياق للملائكة، و قيل: الضمير للخلائق.

و ظاهر كلامه أنّ للعرش اليوم حملة من الملائكة قال تعالى:( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ) المؤمن: 7 و قد وردت الروايات أنّهم أربعة، و ظاهر الآية أعني قوله:( وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) أنّ الحملة يوم القيامة ثمانية و هل هم من الملائكة أو من غيرهم؟ الآية ساكتة عن ذلك و إن كان لا يخلو السياق من إشعار ما بأنّهم من الملائكة.

و من الممكن - كما تقدّمت الإشارة إليه - أن يكون الغرض من ذكر انشقاق السماء و كون الملائكة على أرجائها و كون حملة العرش يومئذ ثمانية بيان ظهور الملائكة و السماء و العرش للإنسان يومئذ، قال تعالى:( وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ) الزمر: 75.

قوله تعالى: ( يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى‏ مِنْكُمْ خافِيَةٌ ) الظاهر أنّ المراد به العرض على الله كما قال تعالى:( وعُرِضُوا عَلى‏ رَبِّكَ صَفًّا ) الكهف: 48، و العرض إراءة البائع سلعته للمشتري ببسطها بين يديه، فالعرض يومئذ على الله و هو يوم القضاء إبراز ما عند الإنسان من اعتقاد و عمل إبرازاً لا يخفى معه عقيدة خافية و لا فعلة خافية و ذلك بتبدّل الغيب شهادة و السرّ علناً قال:( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) الطارق: 9، و قال:( يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى‏ عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْ‏ءٌ ) المؤمن: 16.

و قد تقدّم في أبحاثنا السابقة أنّ ما عدّ في كلامه تعالى من خصائص يوم القيامة كاختصاص الملك بالله، و كون الأمر له، و أن لا عاصم منه، و بروز الخلق له و عدم خفاء شي‏ء منهم عليه و غير ذلك، كلّ ذلك دائميّة الثبوت له تعالى، و إنّما المراد ظهور هذه الحقائق يومئذ ظهوراً لا ستر عليه و لا مرية فيه.

٦٢

فالمعنى: يومئذ يظهر أنّكم في معرض على علم الله و يظهر كلّ فعلة خافية من أفعالكم.

قوله تعالى: ( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ) قال في المجمع، هاؤم أمر للجماعة بمنزلة هاكم، تقول للواحد: هاء يا رجل، و للاثنين: هاؤما يا رجلان، و للجماعة: هاؤم يا رجال، و للمرأة: هاء يا امرأة بكسر الهمزة و ليس بعدها ياء، و للمرأتين: هاؤما، و للنساء: هاؤنّ. هذه لغة أهل الحجاز.

و تميم و قيس يقولون: هاء يا رجل مثل قول أهل الحجاز، و للاثنين: هاءا، و للجماعة: هاؤا، و للمرأة: هائي، و للنساء هاؤنّ.

و بعض العرب يجعل مكان الهمزة كافاً فيقول: هاك هاكما هاكم هاك هاكما هاكنّ، و معناه: خذ و تناول، و يؤمر بها و لا ينهى. انتهى.

و الآية و ما بعدها إلى قوله:( الْخاطِؤُنَ ) بيان تفصيليّ لاختلاف حال الناس يومئذ من حيث السعادة و الشقاء، و قد تقدّم في تفسير قوله تعالى:( فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ) إسراء: 71 كلام في معنى إعطاء الكتاب باليمين، و الظاهر أنّ قوله:( هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ) خطاب للملائكة، و الهاء في( كِتابِيَهْ ) و كذا في أواخر الآيات التالية للوقف و تسمّى هاء الاستراحة.

و المعنى: فأمّا من اُوتي كتابه بيمينه فيقول للملائكة: خذوا و اقرأوا كتابيه أي إنّها كتاب يقضي بسعادتي.

قوله تعالى: ( إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ ) الظنّ بمعنى اليقين، و الآية تعليل لما يتحصّل من الآية السابقة و محصّل التعليل إنّما كان كتابي كتاب اليمين و قاضياً بسعادتي لأنّي أيقنت في الدنيا أنّي ساُلاقي حسابي فآمنت بربّي و أصلحت عملي.

قوله تعالى: ( فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ ) أي يعيش عيشة يرضاها فنسبة الرضا إلى العيشة من المجاز العقليّ.

٦٣

قوله تعالى: ( فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ - إلى قوله -الْخالِيَةِ ) أي هو في جنّة عالية قدراً فيها ما لا عين رأت و لا اُذن سمعت و لا خطر على قلب بشر.

و قوله:( قُطُوفُها دانِيَةٌ ) القطوف جمع قطف بالكسر فالسكون و هو ما يجتنى من الثمر و المعنى: أثمارها قريبة منه يتناوله كيف يشاء.

و قوله:( كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ ) أي يقال لهم: كلوا و اشربوا من جميع ما يؤكل فيها و ما يشرب حال كونه هنيئاً لكم بما قدّمتم من الإيمان و العمل الصالح في الدنيا الّتي تقضّت أيّامها.

قوله تعالى: ( وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وَ لَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ ) و هؤلاء هم الطائفة الثانية و هم الأشقياء المجرمون يؤتون صحيفة أعمالهم بشمالهم و قد مرّ الكلام في معناه في سورة الإسراء، و هؤلاء يتمنّون أن لو لم يكونوا يؤتون كتابهم و يدرون ما حسابهم يتمنّون ذلك لما يشاهدون من أليم العذاب المعدّ لهم.

قوله تعالى: ( يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ ) ذكروا أنّ ضمير( لَيْتَها ) للموتة الاُولى الّتي ذاقها الإنسان في الدنيا.

و المعنى: يا ليت الموتة الاُولى الّتي ذقتها كانت قاضية عليّ تقضي بعدمي فكنت انعدمت و لم اُبعث حيّاً فأقع في ورطة العذاب الخالد و اُشاهد ما اُشاهد.

قوله تعالى: ( ما أَغْنى‏ عَنِّي مالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ ) كلمتا تحسّر يقولهما حيث يرى خيبة سعيه في الدنيا فإنّه كان يحسب أنّ مفتاح سعادته في الحياة هو المال و السلطان يدفعان عنه كلّ مكروه و يسلّطانه على كلّ ما يحبّ و يرضى فبذل كلّ جهده في تحصيلهما و أعرض عن ربّه و عن كلّ حقّ يدعى إليه و كذّب داعيه فلمّا شاهد تقطّع الأسباب و أنّه في يوم لا ينفع فيه مال و لا بنون ذكر عدم نفع ماله و بطلان سلطانه تحسّراً و توجّعاً و ما ذا ينفع التحسّر.؟

قوله تعالى: ( خُذُوهُ فَغُلُّوهُ - إلى قوله -فَاسْلُكُوهُ ) حكاية أمره تعالى الملائكة بأخذه و إدخاله النار، و التقدير يقال للملائكة خذوه إلخ، و( فَغُلُّوهُ ) أمر من الغلّ بالفتح

٦٤

و هو الشدّ بالغلّ الّذي يجمع بين اليد و الرجل و العنق.

و قوله:( ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ) أي أدخلوه النار العظيمة و ألزموه إيّاها.

و قوله:( ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ ) السلسلة القيد، و الذرع الطول، و الذراع بُعد ما بين المرفق و رأس الأصابع و هو واحد الطول و سلوكه فيه جعله فيه، و المحصّل ثمّ اجعلوه في قيد طوله سبعون ذراعاً.

قوله تعالى: ( إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ وَ لا يَحُضُّ عَلى‏ طَعامِ الْمِسْكِينِ ) الحضّ التحريض و الترغيب، و الآيتان في مقام التعليل للأمر بالأخذ و الإدخال في النار أي إنّ الأخذ ثمّ التصلية في الجحيم و السلوك في السلسلة لأجل أنّه كان لا يؤمن بالله العظيم و لا يحرّض على طعام المسكين أي يساهل في أمر المساكين و لا يبالي بما يقاسونه.

قوله تعالى: ( فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ - إلى قوله -الْخاطِؤُنَ ) الحميم الصديق و الآية تفريع على قوله:( إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ ) إلخ، و المحصّل: أنّه لمّا كان لا يؤمن بالله العظيم فليس له اليوم ههنا صديق ينفعه أي شفيع يشفع له إذ لا مغفرة لكافر فلا شفاعة.

و قوله:( وَ لا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ ) الغسلين الغسالة و كأنّ المراد به ما يسيل من أبدان أهل النار من قيح و نحوه و الآية عطف على قوله في الآية السابقة:( حَمِيمٌ ) و متفرّع على قوله:( وَ لا يَحُضُّ ) إلخ، و المحصّل: أنّه لمّا كان لا يحرّض على طعام المسكين فليس له اليوم ههنا طعام إلّا من غسلين أهل النار.

و قوله:( لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ ) وصف لغسلين و الخاطؤن المتلبّسون بالخطيئة و الإثم.

٦٥

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، في قوله تعالى:( وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) أخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يحمله اليوم أربعة و يوم القيامة ثمانية.

أقول: و في تقييد الحاملين في الآية بقوله:( يَوْمَئِذٍ ) إشعار بل ظهور في اختصاص العدد بالقيامة.

و في تفسير القمّيّ، و في حديث آخر قال: حمله ثمانية أربعة من الأوّلين و أربعة من الآخرين فأمّا الأربعة من الأوّلين فنوح و إبراهيم و موسى و عيسى، و أمّا الأربعة من الآخرين فمحمّد و عليّ و الحسن و الحسينعليهم‌السلام .

أقول: و في غير واحد من الروايات أنّ الثمانية مخصوصة بيوم القيامة، و في بعضها أنّ حملة العرش - و العرش العلم - أربعة منّا و أربعة ممّن شاء الله.

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إنّه إذا كان يوم القيامة يدعى كلّ اُناس بإمامه الّذي مات في عصره فإن أثبته اُعطي كتابه بيمينه لقوله:( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ‏ ) فمن اُوتي كتابه بيمينه فاُولئك يقرؤن كتابهم، و اليمين إثبات الإمام لأنه كتابه يقرؤه - إلى أن قال - و من أنكر كان من أصحاب الشمال الّذين قال الله:( وَ أَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ فِي سَمُومٍ وَ حَمِيمٍ وَ ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ ) إلخ.

أقول: و في عدّة من الروايات تطبيق قوله:( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ) إلخ، على عليّعليه‌السلام ، و في بعضها عليه و على شيعته، و كذا تطبيق قوله:( وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ ) إلخ، على أعدائه، و هي من الجري دون التفسير.

و في الدرّ المنثور، أخرج الحاكم و صحّحه عن أبي سعيد الخدريّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لو أنّ دلوا من غسلين يهراق في الدنيا لأنتن بأهل الدنيا.

و فيه، أخرج البيهقيّ في شعب الإيمان عن صعصعة بن صوحان قال: جاء أعرابي

٦٦

إلى عليّ بن أبي طالب فقال: كيف هذا الحرف: لا يأكله إلّا الخاطون؟ كلّ و الله يخطو. فتبسّم عليّ و قال: يا أعرابيّ( لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ ) قال: صدقت و الله يا أميرالمؤمنين ما كان الله ليسلم عبده.

ثمّ التفت عليّ إلى أبي الأسود فقال: إنّ الأعاجم قد دخلت في الدين كافّة فضع للناس شيئاً يستدلّون به على صلاح ألسنتهم فرسم لهم الرفع و النصب و الخفض.

و في تفسير البرهان، عن ابن بابويه في الدروع الواقية في حديث عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : و لو أنّ ذراعاً من السلسلة الّتي ذكرها الله في كتابه وضع على جميع جبال الدنيا لذابت عن حرّها.

٦٧

( سورة الحاقّة الآيات 38 - 52)

فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ( 38 ) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ ( 39 ) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ( 40 ) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ ( 41 ) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ ( 42 ) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ( 43 ) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ( 44 ) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ( 45 ) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ( 46 ) فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ( 47 ) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ( 48 ) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ ( 49 ) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ ( 50 ) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ ( 51 ) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ( 52 )

( بيان‏)

هذا هو الفصل الثالث من آيات السورة يؤكّد ما تقدّم من أمر الحاقّة بلسان تصديق القرآن الكريم ليثبت بذلك حقّيّة ما أنبأ به من أمر القيامة.

قوله تعالى: ( فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَ ما لا تُبْصِرُونَ ) ظاهر الآية أنّه إقسام بما هو مشهود لهم و ما لا يشاهدون أي الغيب و الشهادة فهو إقسام بمجموع الخليقة و لا يشمل ذاته المتعالية فإنّ من البعيد من أدب القرآن أن يجمع الخالق و الخلق في صفّ واحد و يعظّمه تعالى و ما صنع تعظيماً مشتركاً في عرض واحد.

و في الإقسام نوع تعظيم و تجليل للمقسم به و خلقه تعالى بما أنّه خلقه جليل جميل لأنّه تعالى جميل لا يصدر منه إلّا الجميل و قد استحسن تعالى فعل نفسه و أثنى

٦٨

على نفسه بخلقه في قوله:( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلَقَهُ ) الم السجدة: 7، و قوله:( فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) المؤمنون: 14 فليس للموجودات منه تعالى إلّا الحسن و ما دون ذلك من مساءة فمن أنفسها و بقياس بعضها إلى بعض.

و في اختيار ما يبصرون و ما لا يبصرون للأقسام به على حقّيّة القرآن ما لا يخفى من المناسبة فإنّ النظام الواحد المتشابك أجزاؤه الجاري في مجموع العالم يقضي بتوحّده تعالى و مصير الكلّ إليه و ما يترتّب عليه من بعث الرسل و إنزال الكتب و القرآن خير كتاب سماويّ يهدي إلى الحقّ في جميع ذلك و إلى طريق مستقيم.

و ممّا تقدّم يظهر عدم استقامة ما قيل: إنّ المراد بما تبصرون و ما لا تبصرون الخلق و الخالق فإنّ السياق لا يساعد عليه، و كذا ما قيل: إنّ المراد النعم الظاهرة و الباطنة، و ما قيل: إنّ المراد الجنّ و الإنس و الملائكة أو الأجسام و الأرواح أو الدنيا و الآخرة أو ما يشاهد من آثار القدرة و ما لا يشاهد من أسرارها فاللفظ أعمّ مدلولاً من جميع ذلك.

قوله تعالى: ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ) الضمير للقرآن، و المستفاد من السياق أنّ المراد برسول كريم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو تصديق لرسالته قبال ما كانوا يقولون إنّه شاعر أو كاهن.

و لا ضير في نسبة القرآن إلى قوله فإنّه إنّما ينسب إليه بما أنّه رسول و الرسول بما أنّه رسول لا يأتي إلّا بقول مرسلة، و قد بيّن ذلك فضل بيان بقوله بعد:( تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ) .

و قيل: المراد برسول كريم جبريل، و السياق لا يؤيّده إذ لو كان هو المراد لكان الأنسب نفي كونه ممّا نزلت به الشياطين كما فعل في سورة الشعراء.

على أنّ قوله بعد:( وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ) و ما يتلوه إنّما يناسب كونهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو المراد برسول كريم.

قوله تعالى: ( وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ ) نفي أن يكون القرآن

٦٩

نظماً ألّفه شاعر و لم يقل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شعراً و لم يكن شاعراً.

و قوله:( قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ ) توبيخ لمجتمعهم حيث إنّ الأكثرين منهم لم يؤمنوا و ما آمن به إلّا قليل منهم.

قوله تعالى: ( وَ لا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ ) نفي أن يكون القرآن كهانة و النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كاهنا يأخذ القرآن من الجنّ و هم يُلقونه إليه.

و قوله:( قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ ) توبيخ أيضاً لمجتمعهم.

قوله تعالى: ( تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ) أي منزل من ربّ العالمين و ليس من صنع الرسول نسبه إلى الله كما تقدّمت الإشارة إليه.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ - إلى قوله -حاجِزِينَ ) يقال: تقوّل على فلان أي اختلق قولاً من نفسه و نسبه إليه، و الوتين - على ما ذكره الراغب - عرق يسقي الكبد و إذا انقطع مات صاحبه، و قيل: هو رباط القلب.

و المعنى:( وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا ) هذا الرسول الكريم الّذي حمّلناه رسالتنا و أرسلناه إليكم بقرآن نزّلناه عليه و اختلق( بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ) و نسبه إلينا( لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ) كما يقبض على المجرم فيؤخذ بيده أو المراد قطعنا منه يده اليمنى أو المراد لانتقمنا منه بالقوّة كما في رواية القمّيّ( ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ ) و قتلناه لتقوّله علينا( فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ‏ ) تحجبونه عنّا و تنجونه من عقوبتنا و إهلاكنا.

و هذا تهديد للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على تقدير أن يفتري على الله كذباً و ينسب إليه شيئاً لم يقله و هو رسول من عنده أكرمه بنبوّته و اختاره لرسالته.

فالآيات في معنى قوله:( لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَ ضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً ) إسراء: 75، و كذا قوله في الأنبياء بعد ذكر نعمه العظمى عليهم:( وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) الأنعام: 88.

فلا يرد أنّ مقتضى الآيات أنّ كلّ من ادّعى النبوّة و افترى على الله الكذب أهلكه الله و عاقبه في الدنيا أشدّ العقاب و هو منقوض ببعض مدّعي النبوّة من الكذّابين.

٧٠

و ذلك أنّ التهديد في الآية متوجّه إلى الرسول الصادق في رسالته لو تقوّل على الله و نسب إليه بعض ما ليس منه لا مطلق مدّعي النبوّة المفتري على الله في دعواه النبوّة و إخباره عن الله تعالى.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ) يذكّرهم كرامة تقواهم و معارف المبدأ و المعاد بحقائقها، و يعرّفهم درجاتهم عند الله و مقاماتهم في الآخرة و الجنّة و ما هذا شأنه لا يكون تقوّلاً و افتراء فالآية مسوقة حجّة على كون القرآن منزّهاً عن التقوّل و الفرية.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ وَ إِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ ) ستظهر لهم يوم الحسرة.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) قد تقدّم كلام في نظيرتي الآيتين في آخر سورة الواقعة، و السورتان متّحدتان في الغرض و هو وصف يوم القيامة و متّحدتان في سياق خاتمتهما و هي الإقسام على حقّيّة القرآن المنبئ عن يوم القيامة، و قد ختمت السورتان بكون القرآن و ما أنبأ به عن وقوع الواقعة حقّ اليقين ثمّ الأمر بتسبيح اسم الربّ العظيم المنزّه عن خلق العالم باطلاً لا معاد فيه و عن أن يبطل المعارف الحقّة الّتي يعطيها القرآن في أمر المبدأ و المعاد.

٧١

( سورة المعارج مكّيّة و هي أربع و أربعون آية)

( سورة المعارج الآيات 1 - 18)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ( 1 ) لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ( 2 ) مِّنَ اللهِ ذِي الْمَعَارِجِ ( 3 ) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ( 4 ) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا ( 5 ) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا ( 6 ) وَنَرَاهُ قَرِيبًا ( 7 ) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ ( 8 ) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ( 9 ) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا ( 10 ) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ ( 11 ) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ ( 12 ) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ ( 13 ) وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ ( 14 ) كَلَّا إِنَّهَا لَظَىٰ ( 15 ) نَزَّاعَةً لِّلشَّوَىٰ ( 16 ) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ ( 17 ) وَجَمَعَ فَأَوْعَىٰ ( 18 )

( بيان‏)

الّذي يعطيه سياق السورة أنّها تصف يوم القيامة بما اُعدّ فيه من أليم العذاب للكافرين. تبتدئ السورة فتذكر سؤال سائل سأل عذاباً من الله للكافرين فتشير إلى أنّه واقع ليس له دافع قريب غير بعيد كما يحسبونه ثمّ تصف اليوم الّذي يقع فيه و العذاب الّذي اُعدّ لهم فيه و تستثني المؤمنين الّذين قاموا بوظائف الاعتقاد الحقّ و العمل الصالح.

٧٢

و هذا السياق يشبه سياق السور المكّيّة غير أنّ المنقول عن بعضهم أنّ قوله:( وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ) مدني و الاعتبار يؤيّده لأنّ ظاهره الزكاة و قد شرّعت بالمدينة بعد الهجرة، و كون هذه الآية مدنيّة يستتبع كون الآيات الحافّة بها الواقعة تحت الاستثناء و هي أربع عشرة آية (قوله:إِلَّا الْمُصَلِّينَ - إلى قوله -فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ‏ ) مدنيّة لما في سياقها من الاتّحاد و استلزام البعض للبعض.

و مدنيّة هذه الآيات الواقعة تحت الاستثناء تستدعي ما استثنيت منه و هو على الأقل ثلاث آيات (قوله:إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً - إلى قوله -مَنُوعاً ).

على أنّ قوله:( فَما لِلَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ) متفرّع على ما قبله تفرّعاً ظاهراً و هو ما بعده إلى آخر السورة ذو سياق واحد فتكون هذه الآيات أيضاً مدنيّة.

و من جهة اُخرى مضامين هذا الفصل من الآيات تناسب حال المنافقين الحافّين حول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن اليمين و عن الشمال عزين و هم الرادّون لبعض ما أنزل الله من الحكم و خاصّة قوله:( أَ يَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ ) إلخ، و قوله:( عَلى‏ أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ ) إلخ على ما سيجي‏ء، و موطن ظهور هذا النفاق المدينة لا مكّة، و لا ضير في التعبير عن هؤلاء بالّذين كفروا فنظير ذلك موجود في سورة التوبة و غيرها.

على أنّهم رووا أنّ السورة نزلت في قول القائل:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ ) الأنفال: 32 و قد تقدّم في تفسير الآية أنّ سياقها و الّتي بعدها سياق مدنيّ لا مكّي. لكنّ المرويّ عن الصادقعليه‌السلام أنّ المراد بالحقّ المعلوم في الآية حق يسمّيه صاحب المال في ماله غير الزكاة المفروضة.

و لا عبرة بما نسب إلى اتّفاق المفسّرين أنّ السورة مكّيّة على أنّ الخلاف ظاهر و كذا ما نسب إلى ابن عبّاس أنّها نزلت بعد سورة الحاقّة.

قوله تعالى: ( سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ) السؤال بمعنى الطلب و الدعاء، و لذا عدّي بالباء كما في قوله:( يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ ) الدخان: 55 و قيل: الفعل مضمّن معنى الاهتمام و الاعتناء و لذا عدّي بالباء، و قيل: الباء زائدة للتأكيد،

٧٣

و مآل الوجوه واحد و هو طلب العذاب من الله كفراً و عتوّاً.

و قيل: الباء بمعنى عن كما في قوله:( فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً ) الفرقان: 59، و فيه أنّ كونها في الآية المستشهد بها بمعنى عن ممنوع. على أنّ سياق الآيات التالية و خاصّة قوله:( فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا ) لا يلائم كون السؤال بمعنى الاستفسار و الاستخبار.

فالآية تحكي سؤال العذاب و طلبه عن بعض من كفر طغياناً و كفراً، و قد وصف العذاب المسؤل من الأوصاف بما يدلّ على إجابة الدعاء بنوع من التهكّم و التحقير و هو قوله:( واقِعٍ ) و قوله:( لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ) .

و المعنى سأل سائل من الكفّار عذاباً للكافرين من الله سيصيبهم و يقع عليهم لا محالة و لا دافع له أي إنّه واقع عليهم سأل أو لم يسأل ففيه جواب تحقيريّ و إجابة لمسؤله تهكّماً.

قوله تعالى: ( لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ) للكافرين متعلّق بعذاب و صفة له، و كذا قوله:( لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ) و قد مرّت الإشارة إلى معنى الآية.

قوله تعالى: ( مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ ) الجارّ و المجرور متعلّق بقوله:( دافِعٌ ) أي ليس له دافع من جانب الله و من المعلوم أنّه لو اندفع لم يندفع إلّا من جانب الله سبحانه، و من المحتمل أن يتعلّق بقوله:( بِعَذابٍ ) .

و المعارج جمع معرج و فسّروه بالمصاعد و هي الدرجات و هي مقامات الملكوت الّتي يعرج إليها الملائكة عند رجوعهم إلى الله سبحانه على ما يفسّره قوله بعد:( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ ) إلخ فله سبحانه معارج الملكوت و مقاماتها المترتّبة علوّاً و شرفاً الّتي تعرج فيها الملائكة و الروح بحسب قربهم من الله و ليست بمقامات وهميّة اعتباريّة.

و قيل: المراد بالمعارج الدرجات الّتي يصعد فيها الاعتقاد الحقّ و العمل الصالح قال تعالى:( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) الفاطر 10، و قال:( وَ لكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى‏ مِنْكُمْ ) الحجّ: 37.

و قيل: المراد به مقامات القرب الّتي يعرج إليها المؤمنون بالإيمان و العمل

٧٤

الصالح قال تعالى:( هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَ اللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ ) آل عمران: 163 و قال:( لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ ) الأنفال: 4 و قال:( رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ ) المؤمن: 15.

و الحقّ أنّ مآل الوجهين إلى الوجه الأوّل، و الدرجات المذكورة حقيقيّة ليست بالوهميّة الاعتباريّة.

قوله تعالى: ( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) المراد بهذا اليوم يوم القيامة على ما يفيده سياق الآيات التالية.

و المراد بكون مقدار هذا اليوم خمسين ألف سنة على ما ذكروا أنّه بحيث لو وقع في الدنيا و انطبق على الزمان الجاري فيها كان مقداره من الزمان خمسين ألف سنة من سني الدنيا.

و المراد بعروج الملائكة و الروح إليه يومئذ رجوعهم إليه تعالى عند رجوع الكلّ إليه فإنّ يوم القيامة يوم بروز سقوط الوسائط و تقطّع الأسباب و ارتفاع الروابط بينها و بين مسبّباتها و الملائكة وسائط موكّلة على اُمور العالم و حوادث الكون فإذا تقطّعت الأسباب عن مسبّباتها و زيّل الله بينهم و رجع الكلّ إلى الله عزّ اسمه رجعوا إليه و عرجوا معارجهم فحفّوا من حول عرش ربّهم و صفّوا قال تعالى:( وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ) الزمر 75، و قال:( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا ) النبأ: 38.

و الظاهر أنّ المراد بالروح الروح الّذي هو من أمره تعالى كما قال:( قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) إسراء: 85 و هو غير الملائكة كما هو ظاهر قوله تعالى:( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ) النحل: 2.

فلا يعبأ بما قيل: إنّ المراد بالروح جبرئيل و إن اُطلق عليه الروح الأمين و روح القدس في قوله:( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى‏ قَلْبِكَ ) الشعراء: 194 و قوله:( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ ) النحل: 103 فإنّ المقيّد غير المطلق.

قوله تعالى: ( فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا ) لمّا كان سؤال السائل للعذاب عن تعنّت

٧٥

و استكبار و هو ممّا يشقّ تحمّله أمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصبر و وصفه بالجميل - و الجميل من الصبر ما ليس فيه شائبة الجزع و الشكوى - و علّله بأنّ اليوم بما فيه من العذاب قريب.

قوله تعالى: ( إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَ نَراهُ قَرِيباً ) ضميراً( يَرَوْنَهُ ) و( نَراهُ ) للعذاب أو ليوم القيامة بما فيه من العذاب الواقع و يؤيّد الأوّل قوله فيما بعد:( يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ) إلخ.

و المراد بالرؤية الاعتقاد بنوع من العناية المجازيّة و رؤيتهم ذلك بعيداً ظنّهم أنّه بعيد من الإمكان فإنّ سؤال العذاب من الله سبحانه استكباراً عن دينه و ردّاً لحكمه لا يجامع الإيمان بالمعاد و إن تفوّه به السائل، و رؤيته تعالى ذلك قريباً علمه بتحقّقه و كلّ ما هو آت قريب.

و في الآيتين تعليل أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصبر الجميل فإنّ تحمّل الأذى و الصبر على المكاره يهون على الإنسان إذا استيقن أنّ الفرج قريب و تذكّر ذلك فالكلام في معنى قولنا فاصبر على تعنّتهم و استكبارهم في سؤالهم العذاب صبراً جميلاً لا يشوبه جزع و شكوى فإنّا نعلم أنّ العذاب قريب على خلاف ما يستبعدونه، و علمنا لا يتخلّف عن الواقع بل هو نفس الواقع.

قوله تعالى: ( يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ) المهل المذاب من المعدنيّات كالنحاس و الذهب و غيرهما، و قيل: درديّ الزيت، و قيل: عكر القطران(1) .

و الظرف متعلّق بقوله:( واقِعٍ ) على ما يفيده السياق.

قوله تعالى: ( وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ ) العهن مطلق الصوف، و لعلّ المراد المنفوش منه كما في قوله تعالى:( وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ) القارعة: 5.

و قيل: هو الصوف الأحمر، و قيل: المصبوغ ألواناً لأنّ الجبال ذات ألوان مختلفة فمنها جدد بيض و حمر و غرابيب سود(2) .

____________________

(1) أي ردية و خبيثه‏.

(2) كما في الآية من سورة فاطر.

٧٦

قوله تعالى: ( وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ) الحميم القريب الّذي تهتمّ بأمره و تشفق عليه.

إشارة إلى شدّة اليوم فالإنسان يومئذ تشغله نفسه عن غيره حتّى أنّ الحميم لا يسأل حميمه عن حاله لاشتغاله بنفسه.

قوله تعالى: ( يُبَصَّرُونَهُمْ ) الضميران للأحماء المعلوم من السياق و التبصير الإراءة و الإيضاح أي يُرى و يوضح الأحماء للأحماء فلا يسألونهم عن حالهم اشتغالاً بأنفسهم.

و الجملة مستأنفة في معنى الجواب عن سؤال مقدّر كأنّه لمّا قيل: لا يسأل حميم حميماً سئل فقيل: هل يرى الأحماء يومئذ أحماءهم؟ فاُجيب: يبصّرونهم و يمكن أن يكون( يُبَصَّرُونَهُمْ ) صفة( حَمِيماً ) .

و من ردي‏ءً التفسير قول بعضهم: إنّ معنى قوله:( يُبَصَّرُونَهُمْ ) يبصّر الملائكة الكفّار، و ما قيل: إنّ المعنى يبصّر المؤمنون أعداءهم من الكفّار و ما هم فيه من العذاب فيشمتون بهم، و ما قيل: إنّ المعنى يبصّر أتباع الضلالة رؤساءهم. و هي جميعاً وجوه لا دليل عليها.

قوله تعالى: ( يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَ صاحِبَتِهِ وَ أَخِيهِ وَ فَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ ) قال في المجمع: المودّة مشتركة بين التمنّي و بين المحبّة يقال: وددت الشي‏ء أي تمنّيته و وددته أي أحببته أودّ فيهما جميعاً. انتهى، و يمكن أن يكون استعماله بمعنى التمنّي من باب التضمين.

و قال: و الافتداء الضرر عن الشي‏ء ببدل منه انتهى، و قال: الفصيلة الجماعة المنقطعة عن جملة القبيلة برجوعها إلى اُبوّة خاصّة عن اُبوّة عامّة. انتهى، و ذكر بعضهم أنّ الفصيلة عشيرته الأقربين الّذين فصل عنهم كالآباء الأدنين.

و سياق هذه الآيات سياق الإضراب و الترقّي بالنسبة إلى قوله:( وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ) فيفيد أنّ المجرم يبلغ به شدّة العذاب إلى أن يتمنّى أن يفتدي من العذاب بأحبّ أقاربه و أكرمهم عليه بنيه و صاحبته و أخيه و فصيلته و جميع من في الأرض ثمّ ينجيه الافتداء فيودّ ذلك فضلاً عن عدم سؤاله عن حال حميمه.

٧٧

و المعنى( يَوَدُّ ) و يتمنّى( الْمُجْرِمُ ) و هو المتلبّس بالأجرام أعمّ من الكافر( لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ ) و هذا هو الّذي يتمنّاه، و الجملة قائمة مقام مفعول يودّ.( بِبَنِيهِ ) الّذين هم أحبّ الناس عنده( وَ صاحِبَتِهِ ) الّتي كانت سكنا له و كان يحبّها و ربّما قدّمها على أبويه( وَ أَخِيهِ ) الّذي كان شقيقه و ناصره( وَ فَصِيلَتِهِ ) من عشيرته الأقربين( الَّتِي تُؤْوِيهِ ) و تضمّه إليها( وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) من اُولي العقل( ثُمَّ يُنْجِيهِ ) هذا الافتداء.

قوله تعالى: ( كَلَّا إِنَّها لَظى‏ نَزَّاعَةً لِلشَّوى‏ تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى وَ جَمَعَ فَأَوْعى) كلّا للردع، و ضمير( إِنَّها ) لجهنّم أو للنار و سمّيت لظى لكونها تتلظّى و تشتعل، و النزّاعة اسم مبالغة من النزع بمعنى الاقتلاع، و الشوى الأطراف كاليد و الرجل يقال: رماه فأشواه أي أصاب شواه كذا قال الراغب، و إيعاء المال إمساكه في وعاء.

فقوله:( كَلَّا ) ردع لتمنّيه النجاة من العذاب بالافتداء و قد علّل الردع بقوله:( إِنَّها لَظى) إلخ و محصّله أنّ جهنّم نار مشتعلة محرقة للأطراف شأنها أنّها تطلب المجرمين لتعذّبهم فلا تصرف عنهم بافتداء كائناً ما كان.

فقوله:( إِنَّها لَظى‏ ) أي نار صفتها الاشتعال لا تنعزل عن شأنها و لا تخمد، و قوله:( نَزَّاعَةً لِلشَّوى‏ ) أي صفتها إحراق الأطراف و اقتلاعها لا يبطل ما لها من الأثر فيمن تعذّبه.

و قوله:( تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى وَ جَمَعَ فَأَوْعى‏ ) أي تطلب من أدبر عن الدعوة الإلهيّة إلى الإيمان بالله و أعرض عن عبادته تعالى و جمع المال فأمسكه في وعائه و لم ينفق منه للسائل و المحروم.

و هذا المعنى هو المناسب لسياق الاستثناء الآتي و ذكر الصلاة و الإنفاق فيه.

٧٨

( بحث روائي‏)

في المجمع، حدّثنا السيّد أبوالحمد قال: حدّثنا الحاكم أبوالقاسم الحسكاني و ساق السند عن جعفر بن محمّد الصادق عن آبائهعليهم‌السلام قال: لما نصب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّا و قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه، طار ذلك في البلاد فقدم على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النعمان بن الحارث الفهريّ.

فقال: أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلّا الله و أنّك رسول الله و أمرتنا بالجهاد و الحجّ و الصوم و الصلاة و الزكاة فقبلناها ثمّ لم ترض حتّى نصبت هذا الغلام فقلت: من كنت مولاه فعليّ مولاه، فهذا شي‏ء منك أو أمر من عند الله؟ فقال: و الله الّذي لا إله إلّا هو إنّ هذا من الله.

فولى النعمان بن الحارث و هو يقول: اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء فرماه الله بحجر على رأسه فقتله و أنزل الله تعالى:( سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ) .

أقول: و هذا المعنى مروي بغير طريق من طرق الشيعة، و قد ردّ الحديث بعضهم بأنّه موضوع لكون سورة المعارج مكّيّة، و قد عرفت الكلام في مكّيّة السورة.

و في الدرّ المنثور، أخرج الفاريابيّ و عبد بن حميد و النسائيّ و ابن أبي حاتم و الحاكم و صحّحه و ابن مردويه عن ابن عبّاس في قوله:( سَأَلَ سائِلٌ ) قال هو النضر بن الحارث قال: اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء.

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن السدّيّ: في قوله:( سَأَلَ سائِلٌ ) قال. نزلت بمكّة في النضر بن الحارث و قد قال:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ) الآية و كان عذابه يوم بدر.

أقول: و هذا المعنى مرويّ أيضاً عن غير السدّيّ، و في بعض رواياتهم أنّ

٧٩

القائل:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ) الآية هو الحارث بن علقمة رجل من عبد الدار، و في بعضها أنّ سائل العذاب هو أبوجهل بن هشام سأله يوم بدر و لازمه مدنيّة السورة و المعتمد على أيّ حال نزول السورة بعد قول القائل:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ) الآية و قد تقدّم كلام في سياق الآية.

و في أمالي الشيخ، بإسناده إلى أبي عبداللهعليه‌السلام في حديث: ألا فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا فإنّ في القيامة خمسين موقفاً كلّ موقف مثل ألف سنة ممّا تعدّون ثمّ تلا هذه الآية( فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) .

أقول: و روي هذا المعنى في روضة الكافي، عن حفص بن غياث عنهعليه‌السلام .

و في المجمع، روى أبوسعيد الخدريّ قال: قيل لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما أطول هذا اليوم فقال: و الّذي نفس محمّد بيده إنّه ليخفّ على المؤمن حتّى يكون أخفّ عليه من صلاة مكتوبة يصلّيها في الدنيا.

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، عن عدّة من الجوامع عن أبي سعيد عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ) قال: الرصاص الذائب و النحاس كذلك تذوب السماء.

و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( يُبَصَّرُونَهُمْ ) يقول: يعرّفونهم ثمّ لا يتساءلون.

و فيه في قوله تعالى:( نَزَّاعَةً لِلشَّوى‏ ) قال: تنزع عينه و تسودّ وجهه.

و فيه في قوله تعالى:( تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى ) قال: تجرّه إليها.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

وقال الزمخشري: (مِن) الأُولى لابتداء الغاية، والثانية للتبعيض، والثالثة للبيان، أو الأَوّليان للابتداء والآخرة للتبعيض (١) ، فالمعنى على الأَوّل: ونُنزّل مِن السماء شيئاً من الجِبال الكائنة مِن البَرد، وعلى الثاني: ونُنزّل مِن السماء من جبالٍ فيها شيئاً من البرد، فقَدّر المفعول به ولم يَجعل (مِن) زائدةً.

والذي ذَكَره الزمخشري أصحّ؛ لأنّ التقدير شائع في كلام العرب ولا سيّما مع معلوميّتِه كما هنا، قال ابن مالك: وحذف ما يُعلم جائز، أمّ زيادة (مِن) في الإيجاب، فعلى فرض ثبوته فهو أمرٌ شاذّ، ولا يجوز حَمل القرآن عليه.

ومعنى الآية على ذلك: أنّه تعالى يُنزّل من السّماء ماءً من جبالٍ فيها - هي السُحب الرُكاميّة، وهي النوع الأَهمّ من السُحب؛ لأنّها قد تمتدّ عموديّاً عِبر ١٥ أو ٢٠ كيلومتراً، فتصل إلى طَبقات من الجوّ باردةٍ جدّاً تنخفض فيها درجة الحرارة إلى ٦٠ أو ٧٠ درجة مئويّة تحت الصفر؛ وبذلك يتكوّن البَرَد (خيوط ثلجيّة) في أَعالي تلك السُحب -.

وقوله: (مِن بَرد) بيان لتكوّن تلك السُحب الجباليّة (الرُكاميّة) ولو باعتبار قِمَمها المتكوّن فيها الخيوط الثلجيّة (البرد).

والمعروف علميّاً أنّ نموّ البَرد في أعالي السُحب الرُكاميّة يُعطي انفصال شحنات أو طاقات كهربائيّة سالبة، وأنّه عندما يَتساقط داخل السَّحابة ويصل في قاعدتها إلى طبقات مرتفعة الحرارة فوق الصفر يَذوب ذلك البَرد أو يتميّع ويُعطي انفصال شحنات كهربائيّة موجبة، وعندما لا يَقوى الهواء على عَزل الشُحنة السالبة العُليا عن الشُحنة الموجبة في أسفل يحدث التفريغ الكهربائي على هيئة بَرق، ويَنجم عن التسخين الشديد المـُفاجئ الذي يُحدثه البَرق أنْ يتمدّد الهواء فجأةً ويتمزّق مُحدثاً الرَعد. وما جَلجَلة الرَعد إلاّ عملية طبيعيّة بسبب سلسلة الانعكاسات التي تحدث من قواعد السُحب لصوت الرَعد الأصلي (٢) .

____________________

(١) الكشاف، ج ٣، ص ٢٤٦.

(٢) راجع ما سجّلناه بهذا في حقل الإعجاز العلمي للقرآن في التمهيد، ج ٦.

٣٤١

وبذلك يبدو وجهُ مناسبة التعقيب بقوله تعالى: ( يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ ) وكذا عند الحديث عن السَّحاب الثِقال (١) ، فإنّ البرق وليد هكذا سُحب رُكاميّة ثقيلة (جَبليّة).

قال سيّد قطب: إنّ يد الله تُزجي السَّحاب وتدفعه من مكانٍ إلى مكان، ثُمّ تؤلّف بينه وتجمعه، فإذا هو رُكام بعضه فوق بعض، فإذا ثَقُل خرج منه الماء والوَبْلُ الهاطل، وهو في هيئة الجبال الضخمة الكثيفة، فيها قِطع البَرد الثلجيّة الصغيرة... ومَشهد السُحب كالجبال لا يبدو كما يبدو لراكب الطائرة وهي تعلو فوق السُحب أو تسير بينها، فإذا المـَشهد مشهد الجبال حقّاً بضخامتها ومَساقطها وارتفاعاتها وانخفاضاتها، وإنّه لتعبير مُصوّر للحقيقة التي لم يرَها الناس إلاّ بعد ما رَكِبوا الطائرات (٢) ، بل ويُمكن مشاهدتها في الصحاري الواسعة عن بُعد.

٧ - ( وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ)

قال تعالى: ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ) (٣) .

ما تعني المثليّة؟ هل هي في الصُنع والإتقان؟ أم في العدد؟ وما هُنّ على هذا الفَرض؟

ولم تُذكر الأرض في القرآن إلاّ مفردةً سِوى في هذا الموضع، حيث شُبهة إرادة التعدّد إلى سبع أرضين، كما جاء في الحديث ودار على الألسن!

وفُسّر التعدّد من وجوه:

١ - سبع قطاع من الأرض على وجهها من أقاليم أو قارّات.

٢ - سبع طِباق من الأرض في قِشرتها المتركّبة من طَبقات (٤) .

____________________

(١) الرعد ١٣: ١٢، والجمع في (ثِقال) باعتبار كون (السَّحاب) اسم جنس يُفيد الجمع، واحدتها سَحابة.

(٢) في ظِلال القرآن، ج١٨، ص١٠٩ - ١١٠، المجلّد ٦.

(٣) الطلاق ٦٥: ١٢.

(٤) راجع: الميزان، ج١٩، ص٣٧٨، وتفسير نمونه، ج٢٤، ص٢٦١.

٣٤٢

٣ - الكواكب السبع السيّارة، كلّ كوكبة - ومنها أرضنا - أرض، والغلاف الهوائي المحيط بها سماء (١) .

٤ - فوق كلّ سماء بعد أرضنا أرض وفوقها سماء، فهناك سبع أرضين بعضها فوق بعض لسبع سماوات (٢) .

تقاسيم الأرض

قَسّم الأقدمون البلادَ الآهِلة من الرُبع المعمور في القطاع الشمالي إلى سبع مناطق جغرافيّة طولاً، وجاء المتأخّرون ليُقسّموها تارةً على حسب المناخ الطبيعي إلى سبعة أقاليم: واحدة استوائيّة، واثنتان حارّتان حتّى درجة ٥/٢٣ عرضاً في جانبَي خطّ الاستواء شمالاً وجنوباً، واثنتان اعتداليتَان ما بعد خطّ الميل الأعظم فإلى مدارَي الخطّ القطبي، والأخيرتان منطقتا القُطبَين الشمالي والجنوبي.

وأُخرى إلى قارات مأَلوفة، خمسة منها ظاهرة: آسيا، أُوربا، أفريقيا، استراليا، أمريكا، واثنتان هما قُطبا الشمال والجنوب في غطاء من الثلوج.

مُحتَملات ثلاثة

قال الحجّة البلاغي: يُحتَمل في قوله تعالى: ( وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنّ ) وجوه ثلاثة:

الأَوّل: أنْ يُراد مِثلهنّ في الطَبقات، باعتبار اختلاف طَبقات الأرض في البدائع والآثار.

الثاني: أنْ يُراد مِثلهنّ في عدد القِطع والمواضع المـُتعدّ بها كآسيا وأُوربا وأفريقيا وأمريكا الشماليّة وأمريكا الجنوبيّة واستراليا، وأرض لم تُكشف بعد أو لاشتها الحوادث البحريّة وفتّتتها بالكلّية، أو بقي منها بصورة جُزُر متفرّقة صغيرة، أو هي تحتَ القُطب الجنوبي على ما يَظنّ البعض.

____________________

(١) راجع: تفسير الجواهر، ج١، ص٤٩.

(٢) راجع: الهيئة والإسلام، ص١٧٩، وتفسير الميزان، ج١٩، ص٣٧٩ - ٣٨٠.

٣٤٣

الثالث: أنْ يُراد بالمـُماثل للسماوات هو غير أرضنا بل ما هو من نوعها، فيُراد منه ذات السيّارات على الهيئة الجديدة، أو ما هو مسكون من الكواكب ولم يَظهر للاكتشاف (١) .

أَرضون لا تُحصى

قال الشيخ الطنطاوي في تفسير الآية: أي وخَلق مِثلهنّ في العدد من الأرض، وهذا العدد ليس يقتضي الحصر، فإذا قلت: عندي جوادَان تَركب عليهما أنت وأخوك، فليس يَمنع أنْ يكون عندك ألف جواد وجواد، هكذا هنا.

فقد قال علماء الفَلك: إنّ أقلّ عدد مُمكن من الأَرضين الدائرة حول الشموس العظيمة التي نُسمّيها نُجوماً لا يقلّ عن ثلاثمِئة مليون أرض... هذا فيما يَعرفه الناس، وهذا القول مِن هؤلاء ظنّيٌّ، فلم يدّعِ أَحدٌ أنّه رأى وقَطع بشيءٍ من ذلك، اللّهمّ إلاّ علماء الأَرواح، فإنّهم لمـّا سأَلوها قالتْ: عندنا كواكب آهِلة بالسُكّان لا يُحصى عددها، وفيها سكّان أنتم بالنسبة إليهم كالنَّمل بالنسبة للإنسان، وأُيّد ذلك بما نُقل عن (غاليلو) عند ما أُحضرت روحه بعد الممات (٢) .

وهكذا ذكر الشيخ المراغي وعقّبه بما رُوي عن ابن مسعود: أنّ النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) قال: (ما السماوات السبع وما فيهنّ وما بينهنّ والأرضونَ السبع وما فيهنّ وما بينهنّ في الكرسي إلاّ كحَلقةٍ مُلقاة بأرضِ فلاةٍ) (٣) .

وروى ابن كثير أحاديث تَنمّ عن أَرضينَ سبع آهِلة بالسُكّان، وقد بُعث إليهم أنبياء كإبراهيم وموسى وعيسى ومُحمّد (عليهم السلام)، زعموا صحّة أسانيدها (٤) .

وهكذا رَوَوا روايات هي أشبه بروايات إسرائيليّة، وفيها الغثّ والسمين (٥) .

وفي حديث زينب العطّارة عن رسول (صلّى اللّه عليه وآله): (إنّ هذه الأرضينَ واقعة تحتَ الأرض التي نَعيش عليها واحدة تحت أُخرى كلّ واحدة بالنسبة إلى الأُخرى التي تحتها كحَلقةٍ مُلقاة في فلاة قفر، حتّى تنتهي إلى السابعة، والجميع على ظَهْر دِيك، له جناحَان إلى

____________________

(١) الهدى إلى دين المصطفى، ج٢، ص٧ - ٨.

(٢) تفسير الجواهر، ج٢٤، ص١٩٥.

(٣) تفسير المراغي، ج٢٨، ص١٥١.

(٤) تفسير ابن كثير، ج٤، ص٣٨٥.

(٥) راجع: الدرّ المنثور، ج٨، ص٢١٠ - ٢١٢، وجامع البيان، ج٢٨، ص٩٩.

٣٤٤

المشرق والمغرب ورِجلاه في التُخوم! والدِّيك على صخرةٍ، والصخرةُ على ظَهر حوتٍ، والحوت على بحرٍ مُظلم، والبحر على الهواء، والهواء على الثرى...) (١) .

وفي حديث الحسين بن خالد عن الرضا (عليه السلام): (هذه أرضُ الدنيا، والسماء الدنيا فوقها قبّةٌ، والأرض الثانية فوق السماء الثانية فوقها قبّةٌ، والأرض الثالثة فوق السماء الثانية، والسماء الثالثة فوقها قبّةٌ، حتّى الأرض السابعة فوق السماء السادسة. والسماء السابعة فوقها قبّةٌ، وعَرش الرحمان فوق السماء السابعة... ما تحتنا إلاّ أرض واحدة - هي الدنيا - وأنّ الستّ لهُنّ فَوقنا) (٢) .

وَرَووا عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): أنّ لهذه النجوم التي في السماء مُدُناً مثل المدائن التي في الأرض، مربوطة كلّ واحدة بالأُخرى بعمود من نور طوله مسيرة مِئتين وخمسين سنة، كما أنّ ما بين سماءٍ وأُخرى مسيرة خمسمِئة عام، وأنّ هناك بين النجوم وبين السماء الدنيا بِحاراً تَضرب الريحُ أمواجَها؛ ولذلك تستبين النجوم صِغاراً وكباراً، في حين أنّ جميعها في حجمٍ واحدٍ سواء (٣) .

وغالب الظنّ أنّها - أو جُلّها - أساطير إسرائيليّة تَسرّبت إلى التفسير والحديث، مُضافاً إليها وضع الأسناد!

المـُختار في تفسير (مِثلهنّ)

ليس في القرآن تصريح بالأَرَضين السبع، ولا إشارة سِوى ما هنا من احتمال إرادة العدد في المِثليّة! لكن تكرّر ذِكر الأرض في القرآن مفردةً إلى جنب السماوات جمعاً ممّا يُوهن جانب هذا الاحتمال.

( الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ... ) (٤) .

( إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا... ) (٥) .

____________________

(١) تفسير نور الثقلين للحويزي، ج٥، ص٣٦٤ - ٣٦٥.

(٢) تفسير البرهان، ج٨، ص٤٦.

(٣) بحار الأنوار، ج٥٥، ص ٩٠ - ٩١.

(٤) فاطر ٣٥: ١.

(٥) فاطر ٣٥: ٤١.

٣٤٥

( لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ... ) (١) .

( أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ... ) (٢) .

( وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ) (٣) .

( وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ... ) (٤) .

( لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ... ) (٥) .

( وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ... ) (٦) .

( سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ... ) (٧) .

( تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ... ) (٨) .

( قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ... ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا... ) (٩) .

إلى ما يَقرب من مِئتي موضع في القرآن، جاء اقتران الأرض واحدة بالسماوات سبعاً...!

فيا تُرى كيف يَصحّ اقتران الفرد بالجمع - في هذا الحجم من التَّكرار - لو كانت الأرض مَثل السماء في العدد السبع؟! ولا سيّما في آيات التكوين، ما المـُبرّر لذِكر الأرض واحدة لو كانت سبعاً؟!

على أن اللام ( وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنّ ) للعهد، أي الأرض المعهودة لدى المخاطبينَ وهم العرب يومذاك، ولا يعرفون سِوى هذه الأرض التي نعيش عليها! (١٠)

____________________

(١) النمل ٢٧: ٢٥.

(٢) لقمان ٣١: ٢٠.

(٣) الروم ٣٠: ٢٦.

(٤) النمل ٢٧: ٨٧.

(٥) الزمر ٣٩: ٦٣.

(٦) الشورى ٤٢: ٢٩.

(٧) الزخرف ٤٣: ٨٢.

(٨) الإسراء ١٧: ٤٤.

(٩) فصّلت ٤١: ٩ - ١٢.

(١٠) وحتّى البشريّة اليوم لا تعرف أَرضاً بهذا الاسم سِوى التي نعيش عليها، على أنّ الأرض اسمُ عَلَمٍ شخصي لهذه الكوكبة نظير أسامي الكواكب، وليست كالسماء اسم جنس عامّ؛ ومِن ثَمّ قالوا: كلّ ما عَلاكَ سماء وما تطؤه قدمك أرض! قال تعالى: ( وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ ) ، الرّحمان ٥٥: ١٠.

٣٤٦

فلابدّ أنّ هذه الأرض خُلقت مثل السماوات السبع، مَثَلاً في الإبداع والتكوين.

هذا، بالإضافة إلى أنّ التعبير بـ ( وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ ) - لو أُريد العدد - ليستدعي أن يكون من هذه الأرض (نفس كرة الأرض التي نعيش عليها) جُعلت سبعاً، الأمر الذي يعني سبع قِطاع منها وهي المناطق الكبرى المعمورة منها، وهذا هو المـُراد بالأَرضينَ السبع الواردة في الأدعية المأثورة وفي الأحاديث، ودارت على أَلسُن العارفين.

وإطلاق الأرض على المعمورة منها شائع في اللغة، وجاء في القرآن أيضاً حيث قوله تعالى - بشأن المـُفسدين -: ( أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ) (١) أي من البلاد العامرة حسبما فَسّره الفقهاء.

وكذا إطلاقها على مطلق البِقاع، كقوله تعالى: ( وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا ) (٢) ، والمـُراد البقعة المـَيتة منها.

وبعد، فإنّ قوله تعالى: ( اللّهُ الّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنّ ) ظاهرٌ كلّ الظهور في إرادة سماوات سبع، وجاءت بلفظ تنكير، وأرضٍ واحدة جاءت بلفظ تعريف، وأنّ المِثليّة تعني جانب الإبداع والتكوين، وعلى فَرض إرادة العدد فهي البِقاع والمناطق المـَعمورة منها؛ وَمِن ثَمَّ جاء بلفظ (ومن الأرض...) أي وجعل من هذه الأرض أيضاً سبعاً حسب المناطق، وإلاّ فلو كان أراد سبع كُرات مِن مِثل كُرة الأرض، لكان الأَولى أنْ يُعبّر بسبع سماوات وسبع أرضينَ، وكان أخصر وأوفى بالمعنى.

٨ - ( وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ)

يقول تعالى عن القرنين: ( حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) (٣) .

الحمأ: الطين النَّتِن الذي تَغيّر لونه إلى السواد، يَرسب تحت المياه الراكدة وعلى

____________________

(١) المائدة ٥: ٣٣.

(٢) يس ٣٦: ٣٣.

(٣) الكهف ١٨: ٨٦.

٣٤٧

ضفافها... وحمإٍ مسنون: (١) مُنتَن، وقُرئَ: (عينٍ حامية) أي دافية (حارّة).

قال المفسّرون: أراد ذو القرنَين أن يَبلغ بلاد المغرب، فاتّبع طريقاً تُوصله إليها، حتّى إذا انتهى من جهة المغرب بحيث لم يستطع تجاوزه ووقف على حافّة البحر الأطلانطي (المحيط الأطلسي) وجد الشمس تغرب في بحر خِضَمٍّ يضرب ماؤه إلى سواد الخُضرة، وكان معروفاً عند العرب ببحر الظُلمات، فقد سار إلى بلاد تونس ثُمّ مراكش ووصل إلى البحر المحيط، فوجد الشمس كأنّها تغيب فيه وهو أزرق اللون يضرب إلى السواد، كأنّه حَمِئة (٢) .

والمـُراد بالعين: لُجّة الماء، حيث البحر الواسع الأرجاء لا تُرى له نهاية.

قال سيّد قطب: والأرجح أنّه كان عند مصبّ أحد الأنهار (٣) ، حيث تكثر الأعشاب ويتجمّع حولها طين لزج هو الحمأ، وتوجد البِرَك وكأنّها عيون الماء... فرأى الشمس تغرب هناك ( وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) (٤) .

قلت: وسوف يأتي عند الكلام عن ذي القرنَين - وأنّه كُورُش الهخامنشي على الأرجح - أنّه في فتوحاته غرباً في آسيا الصغرى توقّف على المنطقة التي تُسمّى باسم: إقليم أيونيّة، وهو الإقليم الغربي من قارّة آسيا الصغرى المـُطلّ على مَضيق الدردنيل وبحر إيجه وما يُلاصق الساحل من جُزر وأشباه جزر، حين توقّف كورش عند شواطئ بحر إيجه - وهي جزء من سواحل تركيا على البحر المتوسّط - وجد الشاطئ كثير التعاريج، حيث تتداخل أَلسنة البحر داخل اليابس، ومِن أمثلة هذه الألسنة البحريّة خليخ هرمس ومندريس الأكبر ومندريس الأصغر... ويتعمّق خليج (أزمير) إلى الداخل بمقدار ١٢٠ كم، تحيط به الجبال البلّوريّة من الغرب إلى الشرق على حافّتيه، بحيث يتّخذ شكل العين، ويَصبّ فيه نهر (غديس) المياه العَكِرة المـُحمّلة بالطين البُركاني والتراب الأحمر من فوق هضبة الأناضول... وحين توقّف كورش عند (سارد) قرب أزمير تأمّل قرص

____________________

(١) في قوله تعالى: ( إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ) ، الحجر ١٥: ٢٨، وراجع الآية ٢٦ و٣٣ من نفس السورة.

(٢) راجع: تفسير المراغي، ج١٦، ص١٦.

(٣) واحد معاني العين، مصبّ ماء القناة.

(٤) في ظِلال القرآن، ج١٦، ص٦، المجلّد ٥، ص٤٠٩.

٣٤٨

الشمس وهو يسقط عند الغروب في هذا الخليج الذي يُشبه العين تماماً... واختلطت حُمرة الغَسَق بالطين الأحمر والأسود الذي يَلفظه نهر غديس في خليج أزمير... ولعلّها هي العين الحَمِئة (الضاربة بالسواد) التي ذَكَرها القرآن (١) .

أخطاء تأريخيّة!

زعموا أنّ في القرآن أخطاءً تأريخيّة تَجعله بمعزلٍ عن الوحي الذي لا يَحتمل الخطأ! فحاولوا جهدهم أنْ يعثروا على بيّنة من ذلك، ولكنّهم تعثّروا وفشلوا وخاب ظنّهم.

إذ ما حسبوه شاهداً لا يَعدو أوهاماً تُنبؤكَ عن مَبلغ جهلهم بمفاهيم القرآن ومصطلحاته الخاصّة!

مشكلة هامان

فمن ذلك ما زَعَموه بشأن (هامان) الذي جاء رِدفاً لاسم فرعون في مواضع من القرآن باعتباره وزيراً له أو من كِبار المسؤولينَ في بلاطه، وقد أمره فرعون ببناء صرحٍ - حسبوه بُرج بابل - ليَطّلع إلى إله موسى!

وقد أثارت مسألة (هامان) جدلاً كبيراً مُنذ قُرون على يد أبناء إسرائيل، وأخيراً على يد كبار المـُستشرقين أمثال (نولدكه) ازدراءً بشأن القرآن العظيم.

جاء اسم (هامان) في القرآن في ستّ مواضع:

( وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ) (٢) .

( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ) (٣) .

( وَقَالَ فِرْعَوْنُ... فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى ) (٤) .

____________________

(١) مفاهيم جغرافيّة، ص٢٤٣ - ٢٤٤.

(٢) القصص ٢٨: ٦.

(٣) القصص ٢٨: ٨.

(٤) القصص ٢٨: ٣٨.

٣٤٩

( وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ ) (١) .

( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ) (٢) .

( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى ) (٣) .

يَبدو من هذه الآيات أنّ (هامان) هو على الغالِب وزير فرعون؛ ولهذا أكّد المفسّرون أنّ هامان هذا كان وزير فرعون مصر الّذي حكم في عهد موسى (عليه السلام) والمشكلة الّتي انصبّت حوله ما إذا كان هامان قد بنى فعلاً بُرج بابل عِبر مسافات شاسعة في أرض العراق ممّا يلي الجانب الشرقي للفرات، وقد بقيت آثاره لحدّ الآن على بُعد أميال من مدينة الحلّة الفيحاء.

والبعض يقول إنّه بناه فعلاً وسخّر لذلك خمسين ألف عامل عَكفوا على بنائه، وعندما شيّده صَعَد فرعون إلى أعلاه ورمى بنشّابة ناحية السماء، فأراد اللّه أنْ يَفتنهم فردّه إليهم مُلطّخاً بالدم، وعندها قال فرعون: لقد قتلتُ إله موسى! والقصّة طويلة سطّرها أصحاب الأساطير فيما لفّقوه عن قصص الأنبياء.

غير أنّ المؤكّد أنّ بُرْجاً لا يرتفع من الأرض سِوى عدة عشرات الأمتار، لا يمكن أنْ يَبلغ به فرعون أسباب السماوات حتّى ولو صعد على أعالي الجبال الشامخات التي يُعدّ برج بابل تجاهها تلاًّ صغيراً؛ ولهذا قال الفخر الرازي: لعلّ فرعون قد أوهم ببناء البُرج لكنّه لم يفعل، أو أنّه قال ذلك ساخراً وليبيّن أنّه لا يمكن إثبات إله في السماء إلاّ بالصعود إليه (٤) .

وهكذا قال المراغي: وقال فرعون يا هامان ابن لي قصراً مُنيفاً عالي الذُّرا؛ علَّني

____________________

(١) العنكبوت ٢٩: ٣٩.

(٢) غافر ٤٠: ٢٣ و٢٤.

(٣) غافر ٤٠: ٣٦ و٣٧.

(٤) التفسير الكبير، ج٢٤، ص٢٥٣.

٣٥٠

أَبلغ أبواب السماء وطُرقها، حتّى إذا وصلتُ إليها رأيتُ إله موسى! لا يريد بذلك سِوى الاستهزاء والتهكّم وتكذيب دعوى الرسالة (١) .

قال سيّد قطب: هكذا يُموّه فرعون الطاغية ويُحاور ويُداور؛ كي لا يواجه الحقّ جهرةً ولا يعترف بدعوة الوحدانيّة التي تهزّ عرشه وتُهدّد الأساطير التي قام عليها مُلكه، وبعيد عن الاحتمال أنْ يكون هذا فهم فرعون وإدراكه، وبعيد أن يكون جادّاً في البحث عن إله موسى على هذا النحو المادّي الساذج، إنّما هو الاستهتار والسخرية... وكلّ ذلك يدلّ على إصراره على ضلاله وتبجّحه في جحوده ( وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ (ولكن) وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاّ فِي تَبَابٍ ) (٢) صائر إلى الخيبة والدمار (٣) .

وعلى أيّة حال، فليس في القرآن ما يشير بأنّه بنى الصَرح وصعده ورمى بسهمه حسبما سطّره أصحاب الأساطير، كلّ ذلك لم يَذكره القرآن ولا جاء في التوراة (٤) ، ولم يُعرف المصدر الذي اعتمده هؤلاء القصّاصون ومهنتهم الاختلاق.

* * *

وأمّا مسألة هامان فهل كان لفرعون وزيرٌ بهذا الاسم؟

قال الإمام الرازي: قالت اليهود: أطبق الباحثون عن تواريخ بني إسرائيل وفرعون أنّ هامان لم يكن على عهد فرعون وموسى وإنّما جاء بعدهما بزمانٍ مديدٍ ودهرٍ داهر، فالقول بأنّ هامان كان وزيراً لفرعون، خطأٌ في التأريخ، على أنّه لو كان لم يكن رجلاً خامل الذِكر لم يسجّله التأريخ ولا جاء ذِكره في تأريخ حياة بني إسرائيل (٥) .

نعم، جاء في العهد القديم سِفر (أستير) الإصحاح الثالث: أنّ هامان بن همداثا كان وزيراً للملك الفارسي (خشايارشا) الذي تصدّى للمـُلك بعد أبيه (داريوش الكبير) سنة (٤٨٦ ق م) (٦) أي بَعْدَ فرعون موسى بِعِدَّة قرون، وكان مقرّباً لديه، ثُمّ غَضب عليه وصَلَبه

____________________

(١) تفسير المراغي، ج٢٤، ص٧١.

(٢) غافر ٤٠: ٣٧.

(٣) في ظِلال القرآن، المجلّد ٧، ص١٨٣ - ١٨٤، ج٢٤، ص٧١ - ٧٢.

(٤) قصص الأنبياء لعبد الوهاب النجّار، ص١٨٦.

(٥) التفسير الكبير، ج٢٧، ص٦٦.

(٦) راجع: تأريخ إيران، ص٩٢.

٣٥١

وجَعَل مكانه رجلاً من اليهود اسمه (مردخاي) وكان عمّ المـَلِكة أستير زوجة الملك (١) .

وهكذا زَعم المستشرق الألماني (تيودور نولدكه) ( Theodore Noldeke ) في مقالٍ نشره أَوّلاً حوالي عام ١٨٨٧م في دائرة المعارف البريطانيّة (الطبعة٩) (٢) ، وأعاد نشره في كتابه تأريخ القرآن عام ١٨٩٢م (٣) .

غير أنّ المصادر التأريخيّة - الإيرانيّة وغيرها - خلوٌ عن ذِكر رجل بهذا الاسم استَوزَرَه المـَلِك (خشايارشا) ثُمّ عَزله وصَلبه وأقام مكانه رجلاً باسم (مَرْدُخاي) - كما تقوله التوراة الإسرائيليّة -! وغالب الظنّ أنّه من أساطيرهم هم البائدة ولا واقع لها أساساً.

على أنّ (هامان) الذي جاء ذِكره في القرآن - مُرْدَفاً باسم فرعون وقارون - اسم مُعرَّب قطعاً، كما هي العادة عند العرب عند التلهّج بألفاظ أجنبيّة حتّى العِبريّات حسب المعهود، فإبراهيم، مُعرّب أبراهام، أصله أب رام أي الجدّ الأعلى، وموسى، مُعرَّب مُوشِى أي المـُشال من الماء، وسامِري، معرّب شمروني حسبما نذكر وغير ذلك، وقد قيل: إنّ (هامان) معرّب (آمون) أو (أمانا) كان يُلقَّب به رؤساء كَهَنة مَعبد أمون كبير آلهة المصريّين في مدينة طيبة في أعالي النيل.

ولا غَرْوَ فإنّ المنسوب إلى مكان مقدّس يَحمل اسمه بالطبع، كما أنّ فرعون هو لقب سلاطين مصر كان بمعنى البيت الأعظم، نظير ما لُقّب الخلفاء العثمانيون بالباب العالي (٤) .

وتُمثّل بعض النقوش القديمة (البيت الأعظم) الذي يَجلس فيه المـَلِك للحكم والذي تتجمّع فيه دواوين الحكومة، وقد اشتقّت من اسم هذا البيت الأعظم الذي كان المصريّون يُطلقون عليه لفظ (بيرو) والذي تَرجمه اليهود إلى (فرعوه) أو (فرعون)،

____________________

(١) العهد القديم، ص٧٨٢، وراجع: قاموس الكتاب المقدّس ص٩١٨.

(٢) راجع: Encyclopaedia pitanica ، ٩ eme ed . tome XVI ، p ٥٩٧ (دائرة المعارف البريطانيّة، ص٥٩٧، الطبعة التاسعة).

(٣) راجع: المقال في كتابه ٥٨ - ٢١. The Sketches from Eastern History ، ١٨٩٢، pp ٢١ - ٥٨ (الدفاع عن القرآن ضدّ منتقديه، ص١٨٤).

(٤) راجع: قاموس الكتاب المقدّس، ص٦٤٩، والموسوعة المصريّة، ص١٢٤؛ وفرهنك معين، قسم الأعلام، ج٥، ص٦١.

٣٥٢

اشتُقّ مِن اسمه لقب المـَلِك نفسه (١) .

وهكذا عاد اسم (هامان) مُعرّب (آمون) أُطلق على كبير كَهَنة معبد (آمون) الذي حاز مُنذ الأُسرة التاسعة عشر مكانةً كبيرةً لدى فرعون لدرجةٍ أنّه استولى على إقليم أعالي النيل، وأصبح قائد كلّ الجيوش وكبير خِزانة الإمبراطوريّة، والمـُشرف الأعلى على معابد الآلهة (٢) .

ولقد كان وزير فرعون يُراقب فعلاً كلّ أعمال البناء العموميّة والماليّة (٣) ، وكان المـُشرف الأعلى على كلّ أعمال الملك، (٤) وبالتالي كان كبير كَهَنة (آمون) يَشغل مَنصِب وزير فرعون.

فاسم (هامان) في القرآن يُمثّل اسم (آمون)، ويَسهل التقريب بين الاسمين عند ما نعرف أنّ (آمون) يُنطق كذلك (أمانا) ويُقصد منه بالاختصار (كَبير كَهَنة) مِثلما كان اسم فرعون - وهو اسم البيت الأعظم للحكومة - أصبح لقباً يُلقّب به مُلوك مصر الذين يحكمون البلاد، فهامان لقب كبير كَهَنة (آمون) الذي كان يَشغل منصِب وزارة فرعون في الشؤون الماليّة والعمرانيّة (٥) .

____________________

(١) راجع: قصة الحضارة لول ديورانت، ج ٢، ص٩٣، وترجمته الفارسيّة (تأريخ تمدّن) ج١، ص١٩٥.

(٢) راجع: تأريخ مصر لبرستيد، ص٥٢٠.

(٣) راجع: ثقافة فراعين مصر لدوماس، ١٩٦٥م، ص١٥٨ (باريس).

(٤) المصدر. وراجع: الدفاع عن القرآن ضدّ مُنتقديه لعبد الرحمان بدوي، ص١٨٦.

(٥) انظر: Encyclopeadia pitanica , ١، p ٣٢١،col ، ١: coll .١: ed ١٩٨٢ (دائرة المعارف البريطانيّة، ج١، ص ٣٢١، العامود الأَوّل، طبع ١٩٨٢).

جاء فيه: (مَملَكة مصر كانت في ذلك العهد (عهد الأسرتَين التاسعة عشر والعشرين) تُدار أُمورها على كاهل الديانة. وكانت تحكم البلاد آلهة على وِفق العقائد الرسميّة السائدة، وهؤلاء الآلهة مثل: أمان تهى بز باى ميليوبولس، كانوا يحكمون البلاد، ويرسمون خُطط الحكم لملوك مصر، وكانت السياسة الحاكمة هي التي تُمليها ممثّلو كَهَنة معبد، وإدارة البلاد إلى هؤلاء الكهنة، ومِن ثَمَّ حصل هؤلاء - إلى جنب القداسة - على ثروات طائلة...) واليك نصّ العبارة بالإنجليزيّة:

The religion of ancient Egypt was static and traditional, urging that the gods had given a good order and that IT was necessary for man to hold firmly to the order. When changes did occur, religion tried to incorporate them into the system as though they came from the

٣٥٣

فأَوقِد لي يا هامان على الطين!

( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى... ) (١) .

أي فاصنع لي آجرّاً، واجعل لي منه قصراً شامخاً وبناءً عالياً؛ كي أصعد وأرتقي إلى السماء فأَطّلع إلى إله موسى؟

هذا... وقد لَهَج بعض مَن لا خُبرة له: أنّ البناء بالآجرّ والجصّ لم يُعهد ذلك الحين، وإنّما كانت البنايات بالأحجار والصخور كالأهرام والهيكل الكبير ببعلبك والمسرح الروماني ببُصرى وغيرها.

لكن ذهب عنه: أنّ صناعة الآجرّ واستخدامه في البنايات - وحتّى الرفيعة - قد تَقادم عهدها مُنذ بداية حياة الإنسان الحضاريّة بما يَقرب من خمسة آلاف سنة قبل الميلاد، وحتّى في مصر القديمة عثروا على طوابيق (جمع طابوق معرّب تاوه: الآجرّ الكبير) في حَفريّات في قاع النيل يعود تأريخها إلى (٥٠٠٠ ق م). وهكذا وَجَدوا مقابر على ساحل النيل مبنيّة بالآجرّ ومغلّفة بالأخشاب ممّا يعود تأريخها إلى (٣٠٠٠ ق م).

هذا فضلاً عن بنايات آجرّيّة في بلاد مُجاورة كبُرجِ بابل وكذا مَعابد آشور والسومريّين (٢٥٠٠ ق م)، وأخيراً فطاقُ كسرى من بنايات شاهبور الأَوّل (٢٤١م).

____________________

creation. By the time Akhenaton took the thronze as fourth pharaoh named Amenhotep, the ١٨th dynasty (١٥٣٩ J ١٢٩٢Bc) had run for nearly ٢٠٠years, and there had been a century of imperial conquest and control of foreig lands. Egypt dominated palestine, phoenicia, and Nubia. The nation was powerful, rich, and courted by lesser princes. To maintain these gains, a military and political group controlled the cuntrolled the culture. Since the Egyptian state had always been thocratic, ruled by a god or god or gods, according to traditional beliefs, this group interlicked with the priesthood. The richest and most powerful of the gods, such as Amon lf Htebes or Re of Heliopolis, it wsa held, dictated the purpose of the state. the king had to apply to the gods for oracles direccting his major activities. In return for wealith, elegance, and the role of the Ieading actor in a drama of imperial success, the pharaoh had reliquished his religious (and military) authority to athers . ( see also lndex: New Kinqdom ).

(١) القصص ٢٨: ٣٨.

٣٥٤

وغير ذلك كثير وكان معروفاً ذلك العهد، بل وقَبْله بكثير، وإليك بعض الحديث عن ذلك:

صناعة الآجُرّ واستخدامه مُنذ عهد قديم!

لعلّ مِن أقدم صنائع الإنسان هي صَنعة الآجُرّ من الطين المشويّ بالنار، ابتدعها الإنسان مُنذ أنْ اكتشف النار وعرف مفعولها في التأثير على الطين اللازب في صنعة الخَزَف والآجُرّ والفخّار، واستخدم الآجرّ في بنايات ضخمة مُنذ عهد قديم، قد يرجع إلى عهد الحَجر منذ أكثر من خمسة آلاف سنة قبل الميلاد.

فقد عَثَروا في حفريّات مِن قاع النيل بمصر على قطعات مِن الآجُرّ المصنوع مِن وَحَلِ النيل ممزوجاً مع بَعَرات الإبل، يعود تأريخها إلى أبعد من خمسة آلاف سنة قبل الميلاد، وهكذا وُجِدَت على ساحل النيل آثار مقابر سُقوفها مبنيّة بالآجرّ ومغلّفة بالأخشاب، ويعود عهدها إلى ما يقرب من ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد.

وقد استعمل الآشوريّون الآجُرّ والجصّ في بِناياتهم التقليديّة والأقواس الهلاليّة على الدروب والمحاريب في شماليّ العراق، ويعود تأريخها إلى حدود ألفي عام قبل الميلاد.

يقول (ديورانت): هناك حوالي مدينة (أُور) عاصمة مُلك السومريّين، في سُهول بين النهرَين وعلى ضِفاف مَصبّ دجلة والفرات وشواطئ خليج فارس، وُجِدَت الكثير من آثار بنايات ضخمة مبنيّة بالآجُرّ والجصّ، وفي حجم وعلى أشكال مُربّعة مُسطّحة نظير ما يُستعمل اليوم لكنّه أفخم وأَمتن، ويعود تأريخها إلى أكثر من ألفين وخمسمِئة عام قبل الميلاد.

ومدينة (بابل) وهي أقدم وأشهر وأكبر مُدن الشرق القديم، قُرب الحلّة وعلى مسافة ٨٠ كم من بغداد - العراق اليوم، كانت بِناياتها الفخمة والقصور وبيوت الأشراف مبنيّة بالآجرّ، وكذا المعابد والأبراج العالية، ومنها بُرج بابل المعروف مبنيّ بالآجرّ، وقد استوعبت بناية البرج أكثر من خمسة وثمانين مليون آجُرّة، منها البقايا المـُبعثرة هناك،

٣٥٥

وهي على شَكل مُربّع مُسطّح متين جدّاً، كأنّه مصنوع اليوم، ويُقال لها: الطابَق - والمعروف بالعراق: الطابوق - ويعني الآجرّ الكبير، مُعرّب (تاوه) الفارسيّة.

وهذه المدنية عريقة في القِدَم، على ما جاء في وصف التوراة، باعتبارها كتاب تأريخ، ومِن آثارها المتبقّية: باب عشتار وبَلاط نبوخذ نصّر والطريق المـُلوكي، المفروش بالآجرّ الضخمة ومِلاطها القار، حسب وصف التوراة، وقد شاهدتُه بعين الوصف حينما زُرتُ البُرج بالعراق.

جاء في سِفر التكوين: أنّ الذُرّية مِن وُلد نوح ارتحلوا شرقيّ الأرض حتّى أَتَوا أرض شنعار (سهول بين النهرين - العراق) وسكنوا هناك وبَنَوا مدينةً فخمةً بلِبناتٍ مشويّةٍ على النار شيّاً، قالوا: هلمـّ نَبنِ لأنفسنا مدينةً وبُرجاً رأسه بالسماء، فجعلوا مكان اللِبن الآجرّ وبَدل الجصّ القار (١) ، وهكذا بَنَوا القصور والأبراج العالية يومذاك، ويعود تأريخ أكثر البنايات المتبقّية حتّى اليوم إلى أكثر من ألفين وخمسمِئة عام قبل الميلاد (٢) .

قولة اليهود: يد اللّه مغلولة!

قال تعالى: ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ) (٣) .

قال الشيخ مُحمّد عَبده: وقد جَعل بعضُ أهل الجَدل الآية من المـُشكلات؛ لأنّ يهود عصره يُنكرون صدور هذا القول عنهم، ولأنّه يُخالف عقائدهم ومقتضى دينهم، وممّا قالوه في حلّ الإشكال: إنّهم قالوا ذلك على سبيل الإلزام، فإنّهم لمـّا سمعوا قوله تعالى: ( مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ ) (٤) قالوا: من احتاج إلى القَرض كان فقيراً عاجزاً مغلولَ اليدَين، بل قالوا ما هو أبعد من هذا في تعليل قولهم والخَرْص في بيان مرادهم منه،

____________________

(١) سِفر التكوين، إصحاح ١١/٢ - ٤.

(٢) راجع: دائرة المعارف الإسلاميّة الكبرى، ج١، ص٣٧ - ٣٨، وقصّة الحضارة: الجزء الأَوّل من المجلّد الأَوّل، ص٢٦، ولغت نامه دهخدا، وفرهنك معين، وتأريخ مصر القديمة (الموسوعة المصريّة): الجزء الأَوّل، المجلّد الأَوّل: وتأريخ إيران، ص١٨٢ - ١٨٤.

(٣) المائدة ٥: ٦٤.

(٤) البقرة ٢: ٢٤٥، الحديد ٥٧: ١١.

٣٥٦

وما هو إلاّ غفلة عن جرأة أمثالهم في كلّ عصرٍ على مِثل هذا القول البعيد عن الأدب بُعدَ صاحبه عن حقيقة الإيمان، ممّن ليس لهم من الدِّين إلاّ العصبيّة الجنسيّة والتقاليد القشريّة، فلا إشكال في صدوره عن بعض المـُجازفين مِن اليهود في عصر النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) وقد كان أكثرهم فاسقينَ فاسدينَ.

وطالما سَمِعنا ممّن يُعدَّونَ من المسلمينَ في عصرنا مِثله في الشكوى مِن اللّه عزّ وجلّ، والاعتراض عليه عند الضيق وفي إبّان المصائب.

وعبارة الآية لا تدلّ على أنّ هذا القول يقوله جميع اليهود في كلّ عصر حتّى يُجعل إنكار بعضهم له في بعض العصور وجهاً للإشكال في الآية، وإنّما عَزَاه إلى جنسهم - في حين أنّه قول بعضهم وهو (فنحاص) رأس يهود بني قينقاع وفي روايةٍ: النباش بن قيس أحد رجالهم، وفي أُخرى: أنّه حُيَي بن أخطب - لأنّه أثرُ ما فشا فيهم من الجُرأة على اللّه وتركِ إنكار المـُنكر، والمـُقرّ للمـُنكر شريك الفاعل له.

على أنّ الناس في كلّ زمان يَعزون إلى الأُمّة ما يَسمعونه مِن بعض أفرادها - ولا سيّما إذا كان من أكابر القوم - إذا كان مِثله لا يُنكر فيهم، والقرآن يُسند إلى المتأخّرين ما قَاَله وفَعَله سلفُهم مُنذ قُرون، بِناءً على قاعدة تكافل الأُمّة وكونها كالشخص الواحد، ومِثل هذا الأُسلوب مألوفٌ في كلام الناس أيضاً (١) .

مقصوده من بعض أهل الجدل هو الإمام الرازي في تفسير الكبير (٢) ، لكن ليس يهود عصره هم الذين أنكروا صدور مثل هذا القول عن سَلفهم، بل حتّى في زماننا هذا اعترضت الجالية اليهوديّة القاطنة في إيران وقدّمت اعتراضها إلى المجمع الإسلامي مُستعلمةً منشأ انتساب هذا القول إليهم.

كما أنّ ظاهر القرآن أنّ هذا هو عقيدة أسلافهم باعتبارهم أُمّة، لا بالنظر إلى آحادٍ عاصروا عهد الرسالة قالوها عن جهالةٍ أو مجازفةٍ عابرة، الأمر الذي لا يستدعي نزول قرآنٍ بشأنه!

____________________

(١) تفسير المنار، ج٦، ص٤٥٣.

(٢) راجع: ج١٢، ص٤٠.

٣٥٧

فلابدّ هناك من منشأ يمسّ عقيدتهم بالذات عقيدةً إسرائيليّةً عتيدة استدعت هذا الذمّ الشامل.

وأكثر المفسّرين على أنّ هذا القول صَدر عنهم على سبيل الإلزام (أي على طريقة الاستلزام) وهي طريقة جدليّة يُحاوَلُ فيها تبكيتُ الخصم بالأخذ عليه بما يستلزمه مذهبُه، أي لازمُ رأيه بالذات وإن لم يكن من عقيدة صاحب الحجّة، قالوا: لمـّا كثر الحثّ والترغيب على إقراض اللّه بالإنفاق في سبيله وبذل الصدقات - وجاء ذلك في كثيرٍ من الآيات - فعند ذلك جَعلت اليهود تستهزئ بعقيدة المسلمين في ربّهم؛ حيث فرضوه فقيراً مُحتاجاً إلى الاستقراض، وقالوا تهكّماً وسُخراً: ( إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ ) (١) ، فمَن كان فقيراً كان عاجزاً مكتوف اليدَين (٢) .

ويرى العلاّمة الطباطبائي أنّ هذا الوجه أقرب إلى النظر (٣) .

لكن في التفسير الوارد عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام): أنّ قولتهم هذه تعني عقيدتهم بأنّ اللّه قد فَرغ من الأمر فلا يُحدث شيئاً بعد الّذي قدّره اللّه في الأَزل، (جفّ القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة) (٤) فلا تغيير بعد ذلك التقدير، تلك كانت عقيدة اليهود السائدة، وتسرّبت ضمن الإسرائيليّات إلى أحاديث العامّة، فردّ اللّه عليهم بأنّ يديه مبسوطتان يتصرّف حيث يريد، ( يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (٥) ، ( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) (٦) ، ( فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ) (٧) ، ( يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (٨) .

روى الشيخ بإسناده إلى هشام بن سالم عن الإمام جعفر بن مُحمّد الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ) (٩) قال: كانوا يقولون: قد فَرغ من الأمر (١٠) .

وقال الإمام عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام) لسليمان بن حفص المروزي، مُتكلّم خراسان - وقد استعظم مسألة البداء في التكوين -: (أَحسبُك ضاهيتَ اليهودَ في هذا

____________________

(١) آل عمران ٣: ١٨١.

(٢) مجمع البيان، ج٢، ص٥٤٧.

(٣) تفسير الميزان، ج٦، ص٣٢.

(٤) راجع: صحيح البخاري، باب القدر، ج٨، ص١٥٢.

(٥) الرعد ١٣: ٣٩.

(٦) الرحمان ٥٥: ٢٩.

(٧) هود ١١: ١٠٧، البروج ٨٥: ١٦.

(٨) فاطر ٣٥: ١.

(٩) المائدة ٥: ٦٤.

(١٠) بحار الأنوار، ج٤، ص١١٣، رقم ٣٥.

٣٥٨

الباب! قال: أعوذ باللّه من ذلك، وما قالت اليهود؟ قال: قالت اليهود: ( يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ) يَعنون أنّ اللّه قد فَرغ مِن الأمر فليس يُحدث شيئاً) (١) .

وروى الصدوق بإسناده إلى إسحاق بن عمّار عمّن سمعه عن الصادق (عليه السلام) أنّه قال في الآية الشريفة: (لم يَعنوا أنّه هكذا (أي مكتوف اليد) ولكنّهم قالوا: قد فَرغ من الأمر فلا يَزيد ولا ينقص، فقال اللّه جلّ جلاله تكذيباً لقولهم: ( غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ) (٢) ، ألم تسمع اللّه عزّ وجلّ يقول: ( يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) ) (٣) .

قال عليّ بن إبراهيم - في تفسير الآية -: قالوا: قد فَرغ من الأمر لا يُحدث اللّه غير ما قدّره في التقدير الأَوّل، بل يداه مبسوطتان يُنفق كيف يشاء، أي يُقدّم ويُؤخّر ويزيد وينقص وله البَداء والمشيئة (٤) .

وهكذا روى العيّاشي في تفسيره عن حمّاد عن الصادق (عليه السلام) (٥) .

ورواياتنا بهذا المعنى متضافرة.

وقد تعرّض الراغب الأصفهاني لذلك أيضاً قال: قيل: إنّهم لمـّا سمعوا أنّ اللّه قد قضى كلّ شيء قالوا: إذن يد اللّه مغلولة أي في حكم المقيّد لكونها فارغة (٦) .

ويبدو من كثير من الآيات القرآنيّة التي واجهت اليهود بالذات دفعاً لمزعومتهم أنْ لا تبديل بعد تقرير، أنّ هناك عقيدةً كانت تسود اليهود في عدم إمكان التغيير عمّا كان عليه الأَزل، الأمر الذي يشير بجانب من قضية الجبر في الخَلق والتدبير ممّا كانت عليه الأُمَم الجاهلة، ومنهم بنو إسرائيل، فهناك في حادث تَحول القبلة اعترضت اليهود على هذا التحويل، فنزلت الآية ( وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) (٧) .

قال ابن عبّاس: إنّ اليهود استنكروا تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة.

____________________

(١) المصدر: ص٩٦، رقم ٢، وراجع: عيون أخبار الرضا، ج١، ص١٤٥، باب ١٣، رقم ١.

(٢) المائدة ٥: ٦٤.

(٣) الرعد ١٣: ٣٩، راجع: كتاب التوحيد للصدوق، ص١٦٧، باب ٢٥، رقم ١.

(٤) تفسير القمي، ج١، ص١٧١.

(٥) تفسير العيّاشي، ج١، ص٣٣٠، رقم ١٤٧.

(٦) المفردات، ص٣٦٣.

(٧) البقرة ٢: ١١٥

٣٥٩

واختاره الجبّائي أيضاً (١) .

وبهذا الشأن أيضاً نزلت الآية ( مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ) (٢) .

قال العلاّمة الطباطبائي: النسخ في الآية يعمّ التبديل في التشريع وفي التكوين معاً وذلك؛ نظراً لعموم التعليل في ذيل الآية، حيث عُلّل إمكان النسخ - وهو مطلق إزالة الشيء عمّا كان عليه وتبديله إلى غيره - بعموم القُدرة أَوّلاً، وبشمول مُلكه للكائنات السماويّة والأرضيّة جميعاً.

قال: وذلك أنّ الإنكار المـُتوهّم في المقام أو الإنكار الواقع من اليهود - على ما نُقل في شأن نزول الآية بالنسبة إلى معنى النسخ - يتعلّق من وجهين:

الأَوّل: أن الكائن - سواء في التشريع أم في التكوين - إذا كان ذا مصلحة، فزواله يُوجب فَوات المصلحة التي كان يحتويها.

الثاني: أنّ الإيجاد إذا تحقّق أصبح الموجود ضرورةً لا يتغيّر عمّا وقع عليه، فهو قبل الوجود كان أمراً اختيارياً ولكنّه بعد الوجود خرج عن الاختيار وأصبح ضرورةً غير اختياريّة.

قال: ومِرجع ذلك إلى نفي إطلاق قُدرته تعالى، فلا تعمّ الكائن الحادث بعد حدوثه، وإنّما القُدرة خاصّة بحال الحدوث ولا تَشمل حالة البقاء، وهو كما قالت اليهود: (يد الله مغلولة).

قال: وقد أَلمـَح سبحانه وتعالى إلى الردّ على الوجه الأَوّل بقوله: ( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )، فلا موضع لتوهّم فوات المصلحة القديمة بعد إمكان التعويض عنها بمصلحةٍ مِثلها أو خيرٍ منها، وعن الوجه الثاني بقوله: ( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) أي له التصرّف في مُلكه حيثما يشاء، وهو دالّ على عموم القُدرة، في بدء

____________________

(١) مجمع البيان، ج١، ص١٩١.

(٢) البقرة ٢: ١٠٦ و١٠٧.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578