شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم13%

شبهات وردود حول القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 578

شبهات وردود حول القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 578 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 297447 / تحميل: 13674
الحجم الحجم الحجم
شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

إن كان حسناً ، ولا يوحشك إلاّ هو إن كان قبيحاً .

واعلم أنّك إن تنصر الله ينصرك ويثبّت أقدامك ، فإنّ الله تعالى ضمن إعزاز مَن يعزّه ، ونصر مَن ينصره ، وقال سبحانه :( إن تنصروا الله ينصركم ويثبّت أقدامكم ) (١) .

وقال سبحانه :( ولينصرنّ الله مَن ينصره ) (٢) .

وقال : كيف أنتم إذا ظهر فيكم البدع حتّى يربوا فيها الصغير ، ويهرم الكبير ، ويسلم عليها الأعاجم ، فإذا ظهرت البدع قيل سنّة ، وإذا عمل بالسنّة قيل بدعة ، قيل : ومتى يكون ذلك ؟ قال : إذا ابتعتم الدنيا بعمل الآخرة .

وقال ابن عباس : لا يأتي على الناس زمان إلاّ أماتوا فيه سنّة ، وأحيوا فيه بدعة حتّى تموت السنن ، وتحيى البدع ، وبعد فو الله ما أهلك الناس وأزالهم عن المحجّة قديماً وحديثاً إلاّ علماء السوء ، قعدوا على طريق الآخرة فمنعوا الناس سلوكها والوصول إليها ، وشكّكوهم فيها .

مثال ذلك مثل رجل كان عطشاناً فرأى جرّة مملوءة فيها ماء ، فأراد أن يشرب منها فقال له الرجل : لا تدخل يدك فيها فإنّ فيها أفعى يلسعك وقد ملأها سمّاً ، فامتنع الرجل من ذلك ، ثم إنّ المخبر بذلك أخذ يدخل يده فيها ، فقال العطشان : لو كان فيها سّماً لما أدخل يده .

وكذلك حال الناس مع علماء السوء ، زهّدوا الناس في الدنيا ورغبوا هم فيها ، ومنعوا الناس من الدخول إلى الولاة والتعظيم لهم ودخلوا هم إليهم ، وعظّموهم ومدحوهم ، وحسّنوا إليهم أفعالهم ، ووعدوهم بالسلامة ، لا بل قالوا لهم : قد رأينا لكم المنامات بعظيم المنازل والقبول ، ففتنوهم وغرّوهم ، ونسوا قول

____________

(١) محمد : ٧ .

(٢) الحج : ٤٠ .

١٤١

الله تعالى :( إنّ الأبرار لفي نعيم * وإنّ الفجّار لفي جحيم ) (١) .

وقوله تعالى :( ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع ) (٢) .

وقوله تعالى :( يوم يعضّ الظالم على يديه ) (٣) .

وقوله تعالى :( يوم لا يغني مولىً عن مولىً شيئاً ) (٤) .

وقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :الجنّة محرّمة على جسد غذّي بالحرام (٥) .

وقول أمير المؤمنينعليه‌السلام :ليس من شيعتي مَن أكل مال امرء حرام (٦) .

وقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :لا يشمّ ريح الجنّة جسد نبت على الحرام .

وقالعليه‌السلام :إنّ أحدكم ليرفع يده إلى السماء فيقول : يا رب يا رب ، ومطعمه حرام ، وملبسه حرام ، فأيّ دعاء يُستجاب له ؟! وأيّ عمل يُقبل منه ؟! وهو ينفق من غير حلٍّ ، إن حجّ حجّ بحرام ، وإن تزوّج تزوّج بحرام ، وإن صام أفطر على حرام ، فيا ويحه ، أما علم أنّ الله تعالى طيّب لا يقبل إلاّ الطيّب ، وقد قال في كتابه : ( إنّما يتقبّل الله من المتقين ) (٧) .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :ليكون عليكم أُمراء سوء ، فمَن صدّقهم في قولهم ، وأعانهم على ظلمهم ، وغشى أبوابهم ، فليس منّي ولست منه ، ولن يرد عليّ الحوض .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لحذيفة :كيف أنت يا حذيفة إذا كانت أُمراء إن

____________

(١) الإنفطار : ١٣ ـ ١٤ .

(٢) غافر : ١٨ .

(٣) الفرقان : ٢٧ .

(٤) الدخان : ٤١ .

(٥) كنز العمال ٤ : ١٤ ح٩٢٦١ .

(٦) البحار ١٠٤ : ٢٩٦ ح١٧; عن مجموعة ورام .

(٧) المائدة : ٢٧ .

١٤٢

أطعتموهم أكفروكم ، وإن عصيتموهم قتلوكم ؟! ، فقال حذيفة : كيف أصنع يا رسول الله ؟ قال :جاهدهم إن قويت ، واهرب عنهم إن ضعفت .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :صنفان من أُمّتي إذا صلحا صلح الناس ، وإذا فسدا فسد الناس : الأُمراء والعلماء (١) .

وقال الله تعالى :( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسّكم النار ) (٢) .

وقال :( ولا تطغوا فيحلّ عليكم غضبي ) (٣) ، والله ما فسدت أمور الناس إلاّ بفساد هذين الصنفين ، وخصوصاً الجائر في قضائه ، والقابل الرشا في الحكم .

ولقد أحسن أبو نواس في قوله :

إذا خان الأمير وكاتباه

وقاضي الأمر داهن في القضاءِ

فويل ثمّ ويلٌ ثمّ ويل

لقاضي الأرض من قاضي السماءِ

وجاء في تفسير قوله تعالى :( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ . ) (٤) الآية ، نزلت فيمن يخالط السلاطين والظلمة .

وقالعليه‌السلام :الإسلام علانية باللسان ، والإيمان سرّ بالقلب ، والتقوى عمل بالجوارح ، كيف تكون مسلماً ولا تسلم الناس منك ؟ وكيف تكون مؤمناً ولا تأمنك الناس ؟ وكيف تكون تقيّاً والناس يتّقون من شرّك وأذاك ؟ .

وقال :إنّ مَن ادعى حبّنا وهو لا يعمل [عملنا ولا يقول] (٥) بقولنا ، فليس منّا ولا نحن منه ، أما سمعوا قول الله تعالى يقول مخبراً عن نبيّه : ( قل إن كنتم تحبّون الله فاتبعوني يحببكم الله ) (٦) .

____________

(١) الخصال : ٣٦ ح١٢ باب الاثنين ، عنه البحار ٢ : ٤٩ ح١٠ .

(٢) هود : ١١٣ .

(٣) طه : ٨١ .

(٤) المجادلة : ٢٢ .

(٥) أثبتناه من ( ب ) .

(٦) آل عمران : ٣١ .

١٤٣

ولمّا بايع أصحابه أخذ عليهم العهد والميثاق بالسمع لله تعالى وله بالطاعة في العسر واليسر ، وعلى أن يقولوا الحق أينما كانوا ، وأن لا تأخذهم في الله لومة لائم ، وقال : إنّ الله تعالى ليحصي على العبد كل شيء حتّى أنينه في مرضه ، والشاهد على ذلك قوله تعالى :

( ما يلفظ من قول إلاّ لديه رقيب عتيد ) (١) .

وقوله تعالى :( إنّ عليكم لحافظين * كراماً كاتبين * يعلمون ما تفعلون ) (٢) .

وقوله تعالى :( إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ) (٣) .

____________

(١) ق : ١٨ .

(٢) الانفطار : ١٠ ـ ١٢ .

(٣) البقرة : ٢٨٤ .

١٤٤

الباب الثامن عشر : في عقاب الزّنا والربا

قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :إنّ لأهل النار صرخة من نتن فروج الزناة ، فإيّاكم والزنا فإنّ فيه ست خصال ، ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة فأمّا التي في الدنيا : فإنّه يذهب ببهاء الوجه ، ويورث الفقر ، وينقص العمر ، وأمّا التي في الآخرة : يوجب سخط الله ، وسوء الحساب ، وعظم العذاب ، إنّ الزناة يأتون يوم القيامة تشتعل فروجهم ناراً ، يعرفون بنتن فروجهم (١) .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :إنّ الله مستخلفكم في الدنيا فانظروا كيف تعملون ، فاتقوا الزنا والربا والرياء (٢) .

قيل : قالت المعتزلة يوماً في مجلس الرضاعليه‌السلام :إنّ أعظم الكبائر القتل ، لقوله تعالى : ( ومَن يقتل مؤمناً متعمّداً فجزاؤه جهنّم خالداً فيها . ) (٣) .

____________

(١) الكافي ٥ : ٥٤١ ح٣ ، مَن لا يحضره الفقيه ٣ : ٥٧٣ ح٤٩٦٠ باختلاف ، وفي معالم الزلفى : ٣٣٧ .

(٢) الرياء ، لم يرد في ( ب ) و ( ج ) .

(٣) النساء : ٩٣ .

١٤٥

قال الرضاعليه‌السلام :أعظم من القتل عندي إثماً ، وأقبح منه بلاءً الزنا وأدوم ؛ لأنّ القاتل لم يفسد بضرب المقتول غيره ، ولا بعده فساد ، والزاني قد أفسد النسل إلى يوم القيامة ، وأحلّ المحارم فلم يبق في المجلس فقيه إلاّ قبّل يده وأقرّ بما قال .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :إذا كانت خمس منكم رميتم بخمس : إذا أكلتم الربا رميتم بالخسف ، وإذا ظهر فيكم الزنا أُخذتم بالموت ، وإذا جارت الحكّام ماتت البهائم ، وإذا ظلم أهل الملّة ذهبت الدولة ، وإذا تركتم السنّة ظهرت البدعة .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :ما نقض قوم عهدهم إلاّ سلّط عليهم عدوّهم ، وما جار قوم إلاّ كثر القتل بينهم ، وما منع قوم الزكاة إلاّ حبس القطر عنهم ، ولا ظهرت فيهم الفاحشة إلاّ نشأ فيهم الموت ، وما بخس قوم المكيال والميزان إلاّ أُخذوا بالسنين .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :إذا عملت أُمّتي خمس عشرة خصلة حلّ بهم البلاء : إذا كان الفيء دولاً ، والأمانة مغنماً ، والصدقة مغرماً ، وأطاع الرجل امرأته ، وعصى أُمّه ، وبرّ صديقه ، وجفا أباه ، وارتفعت الأصوات في المساجد وأُكرم الرجل مخافة شرّه ، وكان زعيم القوم أرذلهم ، ولبسوا الحرير ، واتخذوا القينات والمعازف (١) ، وشربوا الخمور ، وكثر الزنا ، فارتقبوا عند ذلك ريحاً حمراء ، وخسفاً ومسخاً ، وظهور العدو عليكم ثم لا تنصرون (٢) .

____________

(١) في ( ج ) : المغنّيات .

(٢) عنه الوسائل ١٢ : ٢٣١ ح٣١ .

١٤٦

الباب التاسع عشر : [ وصايا وحكم بليغة ]

وصيّة لقمان لابنه بعلوم وحكمة ، قال : يا بني ! لا يكن الديك أكيس منك وأكثر محافظة على الصلوات ، ألا تراه عند كلّ صلاة يؤذّن لها ، وبالأسحار يعلن بصوته وأنت نائم .

وقال : يا بني ! مَن لا يملك لسانه يندم ، ومَن يكثر المراء يشتم ، ومَن يدخل مداخل السوء يُتّهم ، ومَن يُصاحب صاحب السوء لا يسلم ، ومَن يجالس العلماء يغنم ، يا بني ! لا تؤخّر التوبة فإنّ الموت يأتي بغتة ، يا بني ! اجعل غناك في قلبك ، وإذا افتقرت فلا تحدّث الناس بفقرك فتهون عليهم ، ولكن اسأل الله من فضله .

يا بني ! كذب مَن يقول : الشرّ يقطع بالشرّ ، ألا ترى إنّ النار لا تطفئ بالنار ولكن بالماء ، وكذلك الشرّ لا يطفئ إلاّ بالخير ، يا بني ! لا تشمت بالمصائب ، ولا تعيّر المبتلي ، ولا تمنع المعروف فإنّه ذخيرة لك في الدنيا والآخرة .

يا بني ! ثلاثة تجب مداراتهم : المريض والسلطان والمرأة ، وكن قنعاً تعش غنيّاً ، وكن متّقياً تكن عزيزاً ، يا بني ! إنّك من حين سقطت من بطن أُمّك استدبرت

١٤٧

الدنيا واستقبلت الآخرة ، وأنت كل يوم إلى ما استقبلت أقرب منك ممّا استدبرت ، فتزوّد لدار أنت مستقبلها ، وعليك بالتقوى فإنّه أربح التجارات ، وإذا أحدثت ذنباً فأتبعه بالاستغفار والندم والعزم على ترك العود لمثله .

واجعل الموت نصب عينيك ، والوقوف بين يدي خالقك ، وتمثّل شهادة جوارحك عليك بعملك ، والملائكة الموكّلين بك تستحي(١) منهم ومن ربّك الذي هو مشاهدك ، وعليك بالموعظة فاعمل بها ، فإنّها عند العاقل أحلى من العسل الشهد ، وهي في السفيه أشقّ من صعود الدرجة على الشيخ الكبير ، ولا تسمع الملاهي فإنّها تنسك الآخرة ، ولكن احضر الجنائز ، و زُر المقابر ، وتذكّر الموت وما بعده من الأهوال فتأخذ حذرك .

يا بني استعذ بالله من شرار النساء ، وكن من خيارهنّ على حذر ، يا بني لا تفرح بظلم أحد بل احزن على ظلم من ظلمته ، يا بني الظلم ظلمات ويوم القيامة حسرات ، وإذا دعتك القدرة إلى ظلم من هو دونك فاذكر قدرة الله عليك .

يا بني تعلّم من العلماء ما جهلت ، وعلّم الناس ممّا علمت تذكر بذلك في الملكوت ، يا بني أغنى الناس مَن قنع بما في يديه ، وأفقرهم مَن مد عينيه إلى ما في أيدي الناس ، وعليك يا بني باليأس ممّا في أيدي الناس ، والوثوق بوعد الله ، واسع فيما فرض عليك ، ودع السعي فيما ضمن لك ، وتوكّل على الله في كل أُمورك يكفيك ، وإذا صلّيت فصلّ صلاة مودّع تظنّ أن لا تبقى بعدها أبداً .

وإيّاك وما يُعتذر منه فإنّه لا يُعتذر من خير ، وأحبب للناس ما تحب لنفسك ، واكره لهم ما تكرهه لنفسك ، ولا تقل ما لا تعلم ، واجهد أن يكون اليوم خيراً لك من أمس ، وغداً خيراً لك من اليوم ، فإنّه مَن استوى يوماه فهو مغبون ، ومَن كان يومه شرّاً من أمسه فهو ملعون ، وارض بما قسّم الله لك فإنّه سبحانه يقول : أعظم عبادي

____________

(١) في ( ب ) : لم لا تستحي منهم .

١٤٨

ذنباً مَن لم يرض بقضائي ، ولم يشكر نعمائي ، ولم يصبر على بلائي .

وأوصى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معاذ بن جبل ، فقال له : أوصيك باتقاء الله ، وصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وخفض الجناح ، والوفاء بالعهد ، وترك الخيانة ، وحسن الجوار ، وصلة الأرحام ، ورحمة اليتيم ، ولين الكلام ، وبذل السلام وحسن العمل ، وقصر الأمل ، وتوكيد الإيمان ، والتفقّه في الدين ، وتدبّر القرآن ، وذكر الآخرة ، والجزع من الحساب ، وكثرة ذكر الموت ، ولا تسب مسلماً ، ولا تطع آثماً ، ولا تقطع رحماً ، ولا ترض بقبيح تكن كفاعله ، واذكر الله عند كل شجر ومدر وبالأسحار وعلى كل حال يذكرك ، فإنّ الله تعالى ذاكر مَن ذكره ، وشاكر مَن شكره ، وجدّد لكل ذنب توبة ، السرّ بالسرّ والعلانية بالعلانية .

واعلم أنّ أصدق الحديث كتاب الله(١) ، وأوثق العرى التقوى ، وأشرف الذكر ذكر الله تعالى ، وأحسن القصص القرآن ، وشرّ الأمور محدثاتها ، وأحسن الهدى هدى الأنبياء ، وأشرف الموت الشهادة ، وأعمى العمى الضلالة بعد الهدى ، وخير العلم ما نفع ، وشرّ العمى عمى القلب ، واليد العليا خير من اليد السفلى ، وما قلّ وكفى خير ممّا كثر وألهى .

وشرّ المعذرة عند الموت ، وشرّ الندامة يوم القيامة ، ومن أعظم الخطايا اللسان الكذوب ، وخير الغنى غنى النفس ، وخير الزاد التقوى ، ورأس الحكمة مخافة الله تعالى في السر والعلانية ، وخير ما أُلقي في القلب اليقين ، وأنّ جماع الإثم الكذب والارتياب ، والنساء حبائل الشيطان ، والشباب شعبة من الجنون ، وشرّ الكسب كسب الربا ، وشرّ المأثم أكل مال اليتيم .

السعيد مَن وُعظ بغيره ، وليس لجسم نبت على الحرام إلاّ النار ، ومَن تغذّى بالحرام فالنار أولى به ، ولا يستجاب له دعاء ، والصلاة نور ، والصدقة حرز ،

____________

(١) في ( ب ) : كلام الله .

١٤٩

والصوم جُنّة حصينة ، والسكينة مغنم وتركها مغرم ، وعلى العاقل أن يكون له ساعة يناجي فيها ربّه ، وساعة يتفكّر فيها في صنع الله ، وساعة يحاسب فيها نفسه ، وساعة يتخلّى فيها لحاجته من حلال .

وعلى العاقل أن لا يكون ضاعناً(١) إلاّ في ثلاث(٢) : تزوّد لمعاد ، ومرمّة لمعاش ، لذّة في غير محرّم ، وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه ، مقبلاً على شأنه ، حافظاً للسانه .

وفي توراة موسىعليه‌السلام : عجبت لمَن أيقن بالموت كيف يفرح ، ولمَن أيقن بالحساب كيف يذنب ، ولمَن أيقن بالقدر كيف يحزن ، ولمَن أيقن بالنار كيف يضحك ، ولمَن رأى تقلّب الدنيا بأهلها كيف يطمئنّ إليها ، ولمَن أيقن بالجزاء كيف لا يعمل ، لا عقل كالدين ، ولا ورع كالكف ، ولا حسب كحسن الخلق .

وقال أبو ذر : أوصاني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم [ بسبع خصال ](٣) : حب المساكين والدنو منهم ، وهجران الأغنياء ، وأن أصل رحمي ، وأن لا أتكلّم بغير الحق ، ولا أخاف في الله لومة لائم ، وأن أنظر إلى مَن هو دوني ولا أنظر إلى مَن هو فوقي ، وأن أكثر من قول : ( سبحان الله والحمد الله ولا اله إلاّ الله والله اكبر ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم ) فهنّ الباقيات الصالحات .

وقال بعضهم : مَن سلك الجدد أمن العثار ، والصبر مطيّة السلامة ، والجزع مطيّة الندامة ، ومرارة الحلم أعذب من مرارة(٤) الانتقام ، وثمرة الحقد الندامة ، ومَن صبر على ما يكره أدرك ما يحب ، والصبر على المصيبة مصيبة للشامت بها ، والجزع عليها مصيبة ثانية لفوات الثواب وهي أعظم المصائب .

____________

(١) ضعن : سار (القاموس) .

(٢) في ( ج ) : أن يكون ساعياً في ثلاث .

(٣) أثبتناه من ( ب ) و ( ج ) .

(٤) في ( ج ) : حلاوة .

١٥٠

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :خير الرزق ما يكفي ، وخير الذكر ما يخفى ، وإنّي أوصيكم بتقوى الله ، وبحسن النظر لأنفسكم ، وقلّة الغفلة عن معادكم ، وابتياع ما يبقى بما يفنى .

واعلموا أنّها أيّام معدودة ، وأرزاق مقسومة ، وآجال معلومة ، والآخرة أبد لا أمد له ، وأجل لا منتهى له ، ونعيم لا زوال له ، فاعرفوا ما تريدون وما يُراد بكم ، واتركوا من الدنيا ما يشغلكم عن الآخرة ، واحذروا حسرة المفرطين ، وندامة المغترّين ، واستدركوا فيما بقي ما فات ، وتأهّبوا للرحيل من دار البوار إلى دار القرار ، واحذروا الموت أن يفجأكم على غرّة ويعجلكم عن التأهّب والاستعداد ، إنّ الله تعالى قال : ( فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون ) (١) .

فربّ ذي عقل شغله هواه عمّا خُلق له حتّى صار كمن لا عقل له ، ولا تعذروا أنفسكم في خطائها ، ولا تجادلوا بالباطل فيما يوافق هواكم ، واجعلوا همّكم نصر الحق من جهتكم أو من جهة مَن يجادلكم ، فإنّ الله تعالى يقول :( يا أيّها الذين آمنوا كونوا أنصار الله ) (٢) . فلا تكونوا أنصاراً لهواكم والشيطان .

واعلموا أنّه ما هدم الدين مثل إمام ضلالة وضلّ وأضلّ ، وجدالِ منافق بالباطل ، والدنيا قطعت رقاب طالبيها والراغبين إليها ، واعلموا أنّ القبر روضة من رياض الجنّة ، أو حفرة من حفر النار ، فمهّدوه بالعمل الصالح ، فمثل أحدكم يعمل الخير كمثل الرجل ينفذ كلامه يمهّد له ، قال الله تعالى : ( فلأنفسهم يمهدون ) (٣) .

وإذا رأيتم الله يعطي العبد ما يحب وهو مقيم على المعصية ، فاعلموا أنّ ذلك استدراج له ، قال الله تعالى : ( سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ) (٤) .

____________

(١) يس : ٥٠ .

(٢) الصف : ١٤ .

(٣) الروم : ٤٤ .

(٤) الأعراف : ١٨٢ .

١٥١

وسئل ابن عباس عن صفة الذين صدقوا الله المخافة ، فقال : هم قوم قلوبهم من الخوف قرحة ، وأعينهم باكية ، ودموعهم على خدودهم جارية ، يقولون : كيف نفرح والموت من ورائنا ، والقبر موردنا ، والقيامة موعدنا ، وعلى الله عرضنا ، وشهودنا جوارحنا ، والصراط على جهنّم طريقنا ، وعلى الله حسابنا .

فسبحان الله وتعالى ، فإنّا نعوذ به من ألسن واصفة ، وأعمال مخالفة مع قلوب عارفة ، فإنّ العمل ثمرة العلم ، والخشية والخوف ثمرة العمل ، والرجاء ثمرة اليقين ، ومَن اشتاق إلى الجنّة اجتهد في أسباب الوصول إليها ، ومَن حذر النار تباعد ممّا يدني إليها ، ومَن أحبّ لقاء الله استعدّ للقائه .

وروي أنّ الله تعالى يقول في بعض كتبه :يا ابن آدم أنا حيٌّ لا أموت ، أطعني فيما أمرتك أجعلك حيّاً لا تموت ، يا ابن آدم أنا أقول للشيء كن فيكون ، أطعني فيما أمرتك أجعلك تقول للشيء كن فيكون (١) .

ولذلك قال الله تعالى في كتابه العزيز :( ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون * نزلاً من غفور رحيم ) (٢) .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :ثلاث مهلكات وثلاث منجيات ، فأمّا المهلكات : فشحٌّ مطاع ، وهوىً متّبع ، وإعجاب المرء بنفسه ، وأمّا المنجيات : فخشية الله في السر والعلانية ، والقصد في الغنى والفقر ، والعدل في الرضا والغضب (٣) .

وقال الحسنعليه‌السلام :لقد أصحبت (٤) أقواماً كأنّهم كانوا ينظرون إلى الجنّة ونعيمها ، والنار وجحيمها ، يحسبهم الجاهل مرضى وما بهم من مرض ، أو قد خولطوا وإنّما خالطهم أمر عظيم ، خوف الله ومهابته في قلوبهم .

____________

(١) عنه مستدرك الوسائل ١١ : ٢٥٨ ح١٢٩٢٨ .

(٢) فصلت : ٣١ـ٣٢ .

(٣) الخصال : ٨٤ ح١١ باب٣ ، عنه البحار ٧٠ : ٦ ح٢ .

(٤) في ( ألف ) و ( ج ) : أصبحت .

١٥٢

كانوا يقولون ليس لنا في الدنيا من حاجة ، ليس لها خُلقنا ولا بالسعي لها أُمرنا ، أنفقوا أموالهم ، وبذلوا دماءهم ، اشتروا بذلك رضى خالقهم ، علموا أنّ الله اشترى منهم أموالهم وأنفسهم بالجنّة فباعوه ، ربحت تجارتهم ، وعظمت سعادتهم ، أفلحوا وأنجحوا ، فاقتفوا آثارهم رحمكم الله ، واقتدوا بهم فإنّ الله تعالى وصف لنبيّه صفة آبائه إبراهيم وإسماعيل وذرّيتهما ، وقال : ( فبهداهم اقتده ) (١) .

واعلموا عباد الله أنّكم مأخوذون بالإقتداء بهم والإتباع لهم ، فجدّوا واجتهدوا واحذروا أن تكونوا أعواناً للظالم ، فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : مَن مشى (٢) مع ظالم ليعينه على ظلمه فقد خرج من ربقة الإسلام ، ومَن حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد حادّ الله ورسوله ، ومَن أعان ظالماً ليبطل حقّاً لمسلم فقد برئ من ذمّة الإسلام ومن ذمّة الله ومن ذمّة رسوله .

ومَن دعا لظالم بالبقاء فقد أحبّ أن يعصى الله ، ومَن ظُلم بحضرته مؤمن أو اغتيب وكان قادراً على نصره ولم ينصره فقد باء بغضب من الله ورسوله ، ومَن نصره فقد استوجب الجنّة من الله تعالى .

وإنّ الله أوحى إلى داودعليه‌السلام :قل لفلان الجبّار : إنّي لم أبعثك لتجمع الدنيا على الدنيا ، ولكن لترد عنّي دعوة المظلوم وتنصره ، فإنّي آليت على نفسي أن أنصره وأنتصر له ممّن ظُلم بحضرته ولم ينصره (٣) .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :مَن آذى مؤمناً ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه : آيساً من رحمة الله ، وكان كمَن هدم الكعبة والبيت المقدس ، وقتل عشرة آلاف من الملائكة .

____________

(١) الأنعام : ٩٠ .

(٢) في ( ج ) : مضى .

(٣) عنه البحار ١٤ : ٤٠ ح٢٤ .

١٥٣

وقال رفاعة بن أعين : قال لي الصادقعليه‌السلام :ألا أخبرك بأشد الناس عذاباً يوم القيامة ؟ قلت : بلى يا مولاي ، قال : أشد الناس عذاباً يوم القيامة مَن أعان على مؤمن بشطر كلمة ، ثم قال : ألا أخبرك بأشد من ذلك ؟ فقلت : بلى يا سيّدي ، فقال : مَن أعاب على شيء من قوله أو فعله .

ثم قال :اُدن منّي أزدك أحرفاً أُخر ، ما آمن بالله ولا برسوله ولا بولايتنا أهل البيت من أتاه المؤمن في حاجة لم يضحك في وجهه ، فإن كان عنده قضاها له ، وإن لم تكن عنده تكلّفها له حتّى يقضيها له ، فإن لم يكن كذلك فلا ولاية بيننا وبينه ولو علم الناس ما للمؤمن عند الله لخضعت له الرقاب ، وإنّ الله تعالى اشتق للمؤمن اسماً من أسمائه ، فالله تعالى هو المؤمن سبحانه وسمّى عبده مؤمناً تشريفاً له وتكريماً ، وأنّه يوم القيامة يؤمن على الله تعالى فيجيز إيمانه (١) .

وقال الله تعالى :ليأذن بحرب منّي مَن آذى مؤمناً وأخافه .

وكان عيسىعليه‌السلام يقول :يا معشر الحواريين تحبّبوا إلى الله ببغض أهل المعاصي ، وتقرّبوا إلى الله بالبعد عنهم ، والتمسوا رضاه في غضبهم ، وإذا جلستم فجالسوا مَن يزيد في عملكم منطقه ، ويذكركم الله رؤيته ، ويرغبكم في الآخرة عمله (٢) .

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام لأبي ذر :ألزم قلبك الفكر ، ولسانك الذكر ، وجسدك العبادة ، وعينيك البكاء من خشية الله ، ولا تهتم برزق غد ، والزم المساجد فإنّ عمّارها هم أهل الله ، وخاصّته قرّاء كتابه والعاملون به .

وقالعليه‌السلام :المروءة ست ، ثلاث في السفر وثلاث في الحضر : فالذي في الحضر تلاوة القرآن ، وعمارة المساجد ، واتخاذ الإخوان في الله ، وأمّا الذي في

____________

(١) البحار ٧٥ : ١٧٦ ح١٢ باختلاف .

(٢) مجموعة ورام ٢ : ٢٣٥ ، عنه البحار ١٤ : ٢٣٠ ح٦٥ باختصار .

١٥٤

السفر : بذل الزاد ، وحسن الخلق ، والمعاشرة بالمعروف (١) .

وكان الحسنعليه‌السلام يقول :يا ابن آدم مَن مثلك وقد خلّى ربّك بينه وبينك ، متى شئت أن تدخل عليه توضّأت وقمت بين يديه ، ولم يجعل بينك وبينه حجّاباً ولا بوّاباً ، تشكو إليه همومك وفاقتك ، وتطلب منه حوائجك ، وتستعينه على أمورك ، وكان يقول :أهل المسجد زوّار الله ، وحق على المزور التحفة لزائره .

وروي : إنّ المتنخّم في المسجد يجد بها خزياً في وجهه يوم القيامة .

وكان الناس في المساجد ثلاثة أصناف : صنف في الصلاة ، وصنف في تلاوة القرآن ، وصنف في تعليم العلوم ، فأصبحوا صنف في البيع والشراء ، وصنف في غيبة الناس ، وصنف في الخصومات وأقوال الباطل .

وقالعليه‌السلام :ليعلم الذي يتنخّم في القبلة أنّه يُبعث وهي في وجهه .

وقال : يقول الله تعالى :المصلّي يناجيني ، والمنفق يقرضني [ في الغنى ] (٢) ، والصائم يتقرّب إليّ .

وقال :إنّ الرجلين يكونان في صلاة واحدة وبينهما مثل ما بين السماء والأرض من فضل الثواب .

____________

(١) الخصال : ٣٢٤ ح١١ باب ٦ ، عنه البحار ٧٦ : ٣١١ ح٢ .

(٢) أثبتناه من ( ج ) .

١٥٥

الباب العشرون : في قراءة القرآن المجيد

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :إن هذه القلوب لتصدئ كما يصدئ الحديد ، وأنّ جلاءها قراءة القرآن (١) .

وقال ابن عباس : قارئ القرآن التابع له لا يضل في الدنيا ، ولا يشقى في الآخرة .

وقال : ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون ، وبنهاره إذا الناس غافلون ، وببكائه إذا الناس ضاحكون ، وبورعه إذا الناس يطمعون ، وبخشوعه إذا الناس يمزحون ، وبحزنه إذا الناس يفرحون ، وبصمته إذا الناس يخوضون .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :القرآن على خمسة أوجه ، حلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال ، فاعملوا بالحلال ، واجتنبوا الحرام ، واتبعوا المحكم ، وآمنوا بالمتشابه ، واعتبروا بالأمثال ، وما آمن بالقرآن مَن استحلّ محارمه ، وشرّ الناس

____________

(١) كنز العمّال ١ : ٥٤٥ ح٢٤٤١ .

١٥٦

مَن يقرأ القرآن ولا يرعوي عن شيء به .

وقال جعفر بن محمدعليهما‌السلام في قوله تعالى :( الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته ) (١) قال : يرتلون آياته ، ويتفقّهون فيه ، ويعملون بأحكامه ، ويرجون وعده ، ويخافون وعيده ، ويعتبرون بقصصه ، ويأتمرون بأوامره ، ويتناهون عن نواهيه .

ما هو والله حفظ آياته ، ودرس حروفه ، وتلاوة سوره ، ودرس أعشاره وأخماسه ، حفظوا حروفه وأضاعوا حدوده ، وانّما هو تدبّر آياته ، والعمل بأحكامه ، قال الله تعالى : ( كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته ) (٢) .

واعلموا رحمكم الله أنّ سبيل الله سبيل واحدة وجماعها الهدى ، ومصير العامل بها الجنّة والمخالف لها النار ، وإنّما الإيمان ليس بالتمنّي ولكن ما ثبت بالقلب ، وعملت به الجوارح ، وصدّقته الأعمال الصالحة ، واليوم فقد ظهر الجفاء ، وقلّ الوفاء ، وتركت السنّة ، وظهرت البدعة ، وتواخا الناس على الفجور ، وذهب منهم الحياء ، وزالت المعرفة ، وبقيت الجهالة ، ما ترى إلاّ مترفاً صاحب دنيا ، لها يرضى ولها يغضب وعليها يقاتل ، ذهب الصالحون وبقيت تفالة كتفالة الشعير وحثالة التمر .

وقال الحسنعليه‌السلام :ما بقي في الدنيا بقيّة غير هذا القرآن ، فاتخذوه إماماً يدلّكم على هداكم ، وإنّ أحق الناس بالقرآن مَن عمل به وإن لم يحفظه ، وأبعدهم منه مَن لم يعمل به وإن كان يقرأه .

وقال :مَن قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ .

وقال :إنّ هذا القرآن يجيء يوم القيامة قائداً وسائقاً ، يقود قوماً إلى الجنّة ، أحلّوا حلاله وحرّموا حرامه وآمنوا بمتشابهه ، ويسوق قوماً إلى النار ، ضيّعوا

____________

(١) البقرة : ١٢١ .

(٢) ص : ٢٩ .

١٥٧

حدوده وأحكامه واستحلّوا محارمه .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :رتلوا القرآن ولا تنثروه نثراً ، ولا تهذوه هذّ الشعر (١) ، قفوا عند عجائبه وحرّكوا به القلوب ، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة .

وخطبصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال :لا خير في العيش إلاّ لعالم ناطق أو مستمع واع ، أيّها الناس إنّكم في زمن هدنة وإنّ السير بكم سريع ، وقد رأيتم الليل والنهار كيف يبليان كل جديد ، ويقرّبان كل بعيد ، ويأتيان بكل موعود .

فقال له المقداد : يا نبي الله وما الهدنة ؟ فقال :دار بلاء وانقطاع ، فإذا التبست عليكم الأمور كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن ، فإنّه شافع مشفّع وشاهد مصدّق ، مَن جعله أمامه قاده إلى الجنّة ، ومَن جعله خلفه قاده (٢) إلى النار ، وهو أوضح دليل إلى خير سبيل ، ظاهره حكم وباطنه علم ، لا تحصى عجائبه ولا تنقضي غرائبه ، هو حبل الله المتين وصراطه المستقيم ، مَن قال به صدق ، ومَن حكم به عدل ، ومَن عمل به فاز ، فإنّ المؤمن الذي يقرأ القرآن كالأترجة طعمها طيّب وريحها طيّب ، وإنّ الكافر كالحنظلة طعمها مرّ ورائحتها كريهة (٣) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :ألا أدلّكم على أكسل الناس وأبخل الناس وأسرق الناس وأجفى الناس وأعجز الناس ؟ فقالوا : بلى يا رسول الله .

فقال :أكسل الناس عبد صحيح فارغ لا يذكر الله بشفة ولا لسان ، وأبخل الناس رجل اجتاز على مسلم فلم يسلّم عليه ، وأمّا أسرق الناس فرجل يسرق من صلاته ، تلفّ كما يلفّ الثوب الخلق فيضرب به وجهه (٤) ، وأجفى الناس رجل ذكرت بين يديه فلم يصلّ عليّ ، وأعجز الناس مَن عجز عن الدعاء (٥) .

____________

(١) تهدروه هدر الشعر ، (خل) .

(٢) في ( ج ) : ساقه .

(٣) أورده المصنف في أعلام الدين : ٣٣٣ ، عنه البحار ٧٧ : ١٧٧ .

(٤) في ( ب ) : وجه صاحبها .

(٥) راجع البحار ٨٤ : ٢٥٧ ح٥٥ ، عن عدة الداعي .

١٥٨

الباب الحادي والعشرون: يتضمّن خطبة بليغة على سورة

قال : أيّها الناس تدبّروا القرآن المجيد ، فقد دلّكم على الأمر الرشيد ، وسلّموا لله أمره فإنّه فعّال لما يُريد ، واحذروا يوم الوعيد ، واعملوا بطاعته فهذا شأن العبيد ، واحذروا غضبه فكم قصم من جبّار عنيد ،( ق والقرآن المجيد ) (١) .

أين مَن بنى وشاد وطول ، وتأمّر على الناس وساد في الأوّل ، وظنّ جهالة منه وجرأة أنّه لا يتحوّل ، عاد الزمان عليه سالباً ما خُوّل ، فسقوا إذ فسقوا كأساً على هلاكهم عوّل ،( أفعيينا بالخلق الأوّل بل هم في لبس من خلق جديد ) .

فيا مَن أنذره يومه وأمسه ، وحادثه بالعبر قمره وشمسه ، واستلب منه ولده وأخوه وعرسه ، وهو يسعى في الخطايا مستتر(٢) وقد دنا حبسه ( ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ) .

أما علمت أنّك مسؤول عن الزمان ، مشهود عليك يوم تنطق عليك

____________

(١) الآيات الواردة في هذا الباب كلّها من سورة ( ق ) .

(٢) في ( ج ) : مشمّراً .

١٥٩

الأركان ، محفوظ عليك ما عملت في زمان الإمكان ،( إذ يتلقّى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد * ما يلفظ من قول إلاّ لديه رقيب عتيد ) .

وكأنّك بالموت وقد اختطفك اختطاف البرق ، ولم تقدر على دفعه بملك الغرب والشرق ، وندمت على تفريطك بعد اتساع الخرق ، وتأسفت على ترك الأولى والأخرى أحق ،( وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد ) .

ثم ترحّلت من القصور إلى القبور ، وبقيت وحيداً على ممرّ الدهور كالأسير المحصور ،( ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد ) ، فحينئذ أعاد الأجسام من صنعها ، وألّف أشتاتها بقدرته ، وجمعها وناداها بنفخة الصور فأسمعها ،( وجآءت كل نفس معها سائق وشهيد ) .

فهرب منك الأخ وتنسى أخاك ، ويعرض عنك الصديق ويرفضك ولاءك(١) ، ويتجافاك صاحبك ويجحد الآءك ، وتلقى من الأهوال كلّما أعجزك وساءك ، وتنسى أولادك وتنسى نساءك ،( لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ) .

وتجري دموع الأسف وابلاً ورذاذاً ، وتسقط الأكباد من الحسرات أفلاذاً ، ولهب لهيب النار إلى الكفّار فجعلهم جذاذاً ، ولا يجد العاصي من النار لنفسه ملجأً ولا معاذاً ،( وقال قرينه هذا ما لديّ عتيد ) .

يوم تقوم الزبانية إلى الكفّار ، ويبادر مَن يسوقهم سوقاً عنيفاً والدموع تتحادر ، وتثب النار [ إلى الكفار ](٢) كوثوب الليث إذا استاخر(٣) ، فيذلّ زفيرها كل مَن عزّ وفاخر ،( الذي جعل مع الله إلهاً آخر فألقياه في العذاب الشديد ) .

____________

(١) في ( ج ) : يرفض ولاءك .

(٢) أثبتناه من ( ج ) .

(٣) في ( ج ) : شاخر .

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

وقال الزمخشري: (مِن) الأُولى لابتداء الغاية، والثانية للتبعيض، والثالثة للبيان، أو الأَوّليان للابتداء والآخرة للتبعيض (١) ، فالمعنى على الأَوّل: ونُنزّل مِن السماء شيئاً من الجِبال الكائنة مِن البَرد، وعلى الثاني: ونُنزّل مِن السماء من جبالٍ فيها شيئاً من البرد، فقَدّر المفعول به ولم يَجعل (مِن) زائدةً.

والذي ذَكَره الزمخشري أصحّ؛ لأنّ التقدير شائع في كلام العرب ولا سيّما مع معلوميّتِه كما هنا، قال ابن مالك: وحذف ما يُعلم جائز، أمّ زيادة (مِن) في الإيجاب، فعلى فرض ثبوته فهو أمرٌ شاذّ، ولا يجوز حَمل القرآن عليه.

ومعنى الآية على ذلك: أنّه تعالى يُنزّل من السّماء ماءً من جبالٍ فيها - هي السُحب الرُكاميّة، وهي النوع الأَهمّ من السُحب؛ لأنّها قد تمتدّ عموديّاً عِبر ١٥ أو ٢٠ كيلومتراً، فتصل إلى طَبقات من الجوّ باردةٍ جدّاً تنخفض فيها درجة الحرارة إلى ٦٠ أو ٧٠ درجة مئويّة تحت الصفر؛ وبذلك يتكوّن البَرَد (خيوط ثلجيّة) في أَعالي تلك السُحب -.

وقوله: (مِن بَرد) بيان لتكوّن تلك السُحب الجباليّة (الرُكاميّة) ولو باعتبار قِمَمها المتكوّن فيها الخيوط الثلجيّة (البرد).

والمعروف علميّاً أنّ نموّ البَرد في أعالي السُحب الرُكاميّة يُعطي انفصال شحنات أو طاقات كهربائيّة سالبة، وأنّه عندما يَتساقط داخل السَّحابة ويصل في قاعدتها إلى طبقات مرتفعة الحرارة فوق الصفر يَذوب ذلك البَرد أو يتميّع ويُعطي انفصال شحنات كهربائيّة موجبة، وعندما لا يَقوى الهواء على عَزل الشُحنة السالبة العُليا عن الشُحنة الموجبة في أسفل يحدث التفريغ الكهربائي على هيئة بَرق، ويَنجم عن التسخين الشديد المـُفاجئ الذي يُحدثه البَرق أنْ يتمدّد الهواء فجأةً ويتمزّق مُحدثاً الرَعد. وما جَلجَلة الرَعد إلاّ عملية طبيعيّة بسبب سلسلة الانعكاسات التي تحدث من قواعد السُحب لصوت الرَعد الأصلي (٢) .

____________________

(١) الكشاف، ج ٣، ص ٢٤٦.

(٢) راجع ما سجّلناه بهذا في حقل الإعجاز العلمي للقرآن في التمهيد، ج ٦.

٣٤١

وبذلك يبدو وجهُ مناسبة التعقيب بقوله تعالى: ( يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ ) وكذا عند الحديث عن السَّحاب الثِقال (١) ، فإنّ البرق وليد هكذا سُحب رُكاميّة ثقيلة (جَبليّة).

قال سيّد قطب: إنّ يد الله تُزجي السَّحاب وتدفعه من مكانٍ إلى مكان، ثُمّ تؤلّف بينه وتجمعه، فإذا هو رُكام بعضه فوق بعض، فإذا ثَقُل خرج منه الماء والوَبْلُ الهاطل، وهو في هيئة الجبال الضخمة الكثيفة، فيها قِطع البَرد الثلجيّة الصغيرة... ومَشهد السُحب كالجبال لا يبدو كما يبدو لراكب الطائرة وهي تعلو فوق السُحب أو تسير بينها، فإذا المـَشهد مشهد الجبال حقّاً بضخامتها ومَساقطها وارتفاعاتها وانخفاضاتها، وإنّه لتعبير مُصوّر للحقيقة التي لم يرَها الناس إلاّ بعد ما رَكِبوا الطائرات (٢) ، بل ويُمكن مشاهدتها في الصحاري الواسعة عن بُعد.

٧ - ( وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ)

قال تعالى: ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ) (٣) .

ما تعني المثليّة؟ هل هي في الصُنع والإتقان؟ أم في العدد؟ وما هُنّ على هذا الفَرض؟

ولم تُذكر الأرض في القرآن إلاّ مفردةً سِوى في هذا الموضع، حيث شُبهة إرادة التعدّد إلى سبع أرضين، كما جاء في الحديث ودار على الألسن!

وفُسّر التعدّد من وجوه:

١ - سبع قطاع من الأرض على وجهها من أقاليم أو قارّات.

٢ - سبع طِباق من الأرض في قِشرتها المتركّبة من طَبقات (٤) .

____________________

(١) الرعد ١٣: ١٢، والجمع في (ثِقال) باعتبار كون (السَّحاب) اسم جنس يُفيد الجمع، واحدتها سَحابة.

(٢) في ظِلال القرآن، ج١٨، ص١٠٩ - ١١٠، المجلّد ٦.

(٣) الطلاق ٦٥: ١٢.

(٤) راجع: الميزان، ج١٩، ص٣٧٨، وتفسير نمونه، ج٢٤، ص٢٦١.

٣٤٢

٣ - الكواكب السبع السيّارة، كلّ كوكبة - ومنها أرضنا - أرض، والغلاف الهوائي المحيط بها سماء (١) .

٤ - فوق كلّ سماء بعد أرضنا أرض وفوقها سماء، فهناك سبع أرضين بعضها فوق بعض لسبع سماوات (٢) .

تقاسيم الأرض

قَسّم الأقدمون البلادَ الآهِلة من الرُبع المعمور في القطاع الشمالي إلى سبع مناطق جغرافيّة طولاً، وجاء المتأخّرون ليُقسّموها تارةً على حسب المناخ الطبيعي إلى سبعة أقاليم: واحدة استوائيّة، واثنتان حارّتان حتّى درجة ٥/٢٣ عرضاً في جانبَي خطّ الاستواء شمالاً وجنوباً، واثنتان اعتداليتَان ما بعد خطّ الميل الأعظم فإلى مدارَي الخطّ القطبي، والأخيرتان منطقتا القُطبَين الشمالي والجنوبي.

وأُخرى إلى قارات مأَلوفة، خمسة منها ظاهرة: آسيا، أُوربا، أفريقيا، استراليا، أمريكا، واثنتان هما قُطبا الشمال والجنوب في غطاء من الثلوج.

مُحتَملات ثلاثة

قال الحجّة البلاغي: يُحتَمل في قوله تعالى: ( وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنّ ) وجوه ثلاثة:

الأَوّل: أنْ يُراد مِثلهنّ في الطَبقات، باعتبار اختلاف طَبقات الأرض في البدائع والآثار.

الثاني: أنْ يُراد مِثلهنّ في عدد القِطع والمواضع المـُتعدّ بها كآسيا وأُوربا وأفريقيا وأمريكا الشماليّة وأمريكا الجنوبيّة واستراليا، وأرض لم تُكشف بعد أو لاشتها الحوادث البحريّة وفتّتتها بالكلّية، أو بقي منها بصورة جُزُر متفرّقة صغيرة، أو هي تحتَ القُطب الجنوبي على ما يَظنّ البعض.

____________________

(١) راجع: تفسير الجواهر، ج١، ص٤٩.

(٢) راجع: الهيئة والإسلام، ص١٧٩، وتفسير الميزان، ج١٩، ص٣٧٩ - ٣٨٠.

٣٤٣

الثالث: أنْ يُراد بالمـُماثل للسماوات هو غير أرضنا بل ما هو من نوعها، فيُراد منه ذات السيّارات على الهيئة الجديدة، أو ما هو مسكون من الكواكب ولم يَظهر للاكتشاف (١) .

أَرضون لا تُحصى

قال الشيخ الطنطاوي في تفسير الآية: أي وخَلق مِثلهنّ في العدد من الأرض، وهذا العدد ليس يقتضي الحصر، فإذا قلت: عندي جوادَان تَركب عليهما أنت وأخوك، فليس يَمنع أنْ يكون عندك ألف جواد وجواد، هكذا هنا.

فقد قال علماء الفَلك: إنّ أقلّ عدد مُمكن من الأَرضين الدائرة حول الشموس العظيمة التي نُسمّيها نُجوماً لا يقلّ عن ثلاثمِئة مليون أرض... هذا فيما يَعرفه الناس، وهذا القول مِن هؤلاء ظنّيٌّ، فلم يدّعِ أَحدٌ أنّه رأى وقَطع بشيءٍ من ذلك، اللّهمّ إلاّ علماء الأَرواح، فإنّهم لمـّا سأَلوها قالتْ: عندنا كواكب آهِلة بالسُكّان لا يُحصى عددها، وفيها سكّان أنتم بالنسبة إليهم كالنَّمل بالنسبة للإنسان، وأُيّد ذلك بما نُقل عن (غاليلو) عند ما أُحضرت روحه بعد الممات (٢) .

وهكذا ذكر الشيخ المراغي وعقّبه بما رُوي عن ابن مسعود: أنّ النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) قال: (ما السماوات السبع وما فيهنّ وما بينهنّ والأرضونَ السبع وما فيهنّ وما بينهنّ في الكرسي إلاّ كحَلقةٍ مُلقاة بأرضِ فلاةٍ) (٣) .

وروى ابن كثير أحاديث تَنمّ عن أَرضينَ سبع آهِلة بالسُكّان، وقد بُعث إليهم أنبياء كإبراهيم وموسى وعيسى ومُحمّد (عليهم السلام)، زعموا صحّة أسانيدها (٤) .

وهكذا رَوَوا روايات هي أشبه بروايات إسرائيليّة، وفيها الغثّ والسمين (٥) .

وفي حديث زينب العطّارة عن رسول (صلّى اللّه عليه وآله): (إنّ هذه الأرضينَ واقعة تحتَ الأرض التي نَعيش عليها واحدة تحت أُخرى كلّ واحدة بالنسبة إلى الأُخرى التي تحتها كحَلقةٍ مُلقاة في فلاة قفر، حتّى تنتهي إلى السابعة، والجميع على ظَهْر دِيك، له جناحَان إلى

____________________

(١) الهدى إلى دين المصطفى، ج٢، ص٧ - ٨.

(٢) تفسير الجواهر، ج٢٤، ص١٩٥.

(٣) تفسير المراغي، ج٢٨، ص١٥١.

(٤) تفسير ابن كثير، ج٤، ص٣٨٥.

(٥) راجع: الدرّ المنثور، ج٨، ص٢١٠ - ٢١٢، وجامع البيان، ج٢٨، ص٩٩.

٣٤٤

المشرق والمغرب ورِجلاه في التُخوم! والدِّيك على صخرةٍ، والصخرةُ على ظَهر حوتٍ، والحوت على بحرٍ مُظلم، والبحر على الهواء، والهواء على الثرى...) (١) .

وفي حديث الحسين بن خالد عن الرضا (عليه السلام): (هذه أرضُ الدنيا، والسماء الدنيا فوقها قبّةٌ، والأرض الثانية فوق السماء الثانية فوقها قبّةٌ، والأرض الثالثة فوق السماء الثانية، والسماء الثالثة فوقها قبّةٌ، حتّى الأرض السابعة فوق السماء السادسة. والسماء السابعة فوقها قبّةٌ، وعَرش الرحمان فوق السماء السابعة... ما تحتنا إلاّ أرض واحدة - هي الدنيا - وأنّ الستّ لهُنّ فَوقنا) (٢) .

وَرَووا عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): أنّ لهذه النجوم التي في السماء مُدُناً مثل المدائن التي في الأرض، مربوطة كلّ واحدة بالأُخرى بعمود من نور طوله مسيرة مِئتين وخمسين سنة، كما أنّ ما بين سماءٍ وأُخرى مسيرة خمسمِئة عام، وأنّ هناك بين النجوم وبين السماء الدنيا بِحاراً تَضرب الريحُ أمواجَها؛ ولذلك تستبين النجوم صِغاراً وكباراً، في حين أنّ جميعها في حجمٍ واحدٍ سواء (٣) .

وغالب الظنّ أنّها - أو جُلّها - أساطير إسرائيليّة تَسرّبت إلى التفسير والحديث، مُضافاً إليها وضع الأسناد!

المـُختار في تفسير (مِثلهنّ)

ليس في القرآن تصريح بالأَرَضين السبع، ولا إشارة سِوى ما هنا من احتمال إرادة العدد في المِثليّة! لكن تكرّر ذِكر الأرض في القرآن مفردةً إلى جنب السماوات جمعاً ممّا يُوهن جانب هذا الاحتمال.

( الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ... ) (٤) .

( إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا... ) (٥) .

____________________

(١) تفسير نور الثقلين للحويزي، ج٥، ص٣٦٤ - ٣٦٥.

(٢) تفسير البرهان، ج٨، ص٤٦.

(٣) بحار الأنوار، ج٥٥، ص ٩٠ - ٩١.

(٤) فاطر ٣٥: ١.

(٥) فاطر ٣٥: ٤١.

٣٤٥

( لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ... ) (١) .

( أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ... ) (٢) .

( وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ) (٣) .

( وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ... ) (٤) .

( لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ... ) (٥) .

( وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ... ) (٦) .

( سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ... ) (٧) .

( تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ... ) (٨) .

( قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ... ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا... ) (٩) .

إلى ما يَقرب من مِئتي موضع في القرآن، جاء اقتران الأرض واحدة بالسماوات سبعاً...!

فيا تُرى كيف يَصحّ اقتران الفرد بالجمع - في هذا الحجم من التَّكرار - لو كانت الأرض مَثل السماء في العدد السبع؟! ولا سيّما في آيات التكوين، ما المـُبرّر لذِكر الأرض واحدة لو كانت سبعاً؟!

على أن اللام ( وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنّ ) للعهد، أي الأرض المعهودة لدى المخاطبينَ وهم العرب يومذاك، ولا يعرفون سِوى هذه الأرض التي نعيش عليها! (١٠)

____________________

(١) النمل ٢٧: ٢٥.

(٢) لقمان ٣١: ٢٠.

(٣) الروم ٣٠: ٢٦.

(٤) النمل ٢٧: ٨٧.

(٥) الزمر ٣٩: ٦٣.

(٦) الشورى ٤٢: ٢٩.

(٧) الزخرف ٤٣: ٨٢.

(٨) الإسراء ١٧: ٤٤.

(٩) فصّلت ٤١: ٩ - ١٢.

(١٠) وحتّى البشريّة اليوم لا تعرف أَرضاً بهذا الاسم سِوى التي نعيش عليها، على أنّ الأرض اسمُ عَلَمٍ شخصي لهذه الكوكبة نظير أسامي الكواكب، وليست كالسماء اسم جنس عامّ؛ ومِن ثَمّ قالوا: كلّ ما عَلاكَ سماء وما تطؤه قدمك أرض! قال تعالى: ( وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ ) ، الرّحمان ٥٥: ١٠.

٣٤٦

فلابدّ أنّ هذه الأرض خُلقت مثل السماوات السبع، مَثَلاً في الإبداع والتكوين.

هذا، بالإضافة إلى أنّ التعبير بـ ( وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ ) - لو أُريد العدد - ليستدعي أن يكون من هذه الأرض (نفس كرة الأرض التي نعيش عليها) جُعلت سبعاً، الأمر الذي يعني سبع قِطاع منها وهي المناطق الكبرى المعمورة منها، وهذا هو المـُراد بالأَرضينَ السبع الواردة في الأدعية المأثورة وفي الأحاديث، ودارت على أَلسُن العارفين.

وإطلاق الأرض على المعمورة منها شائع في اللغة، وجاء في القرآن أيضاً حيث قوله تعالى - بشأن المـُفسدين -: ( أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ) (١) أي من البلاد العامرة حسبما فَسّره الفقهاء.

وكذا إطلاقها على مطلق البِقاع، كقوله تعالى: ( وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا ) (٢) ، والمـُراد البقعة المـَيتة منها.

وبعد، فإنّ قوله تعالى: ( اللّهُ الّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنّ ) ظاهرٌ كلّ الظهور في إرادة سماوات سبع، وجاءت بلفظ تنكير، وأرضٍ واحدة جاءت بلفظ تعريف، وأنّ المِثليّة تعني جانب الإبداع والتكوين، وعلى فَرض إرادة العدد فهي البِقاع والمناطق المـَعمورة منها؛ وَمِن ثَمَّ جاء بلفظ (ومن الأرض...) أي وجعل من هذه الأرض أيضاً سبعاً حسب المناطق، وإلاّ فلو كان أراد سبع كُرات مِن مِثل كُرة الأرض، لكان الأَولى أنْ يُعبّر بسبع سماوات وسبع أرضينَ، وكان أخصر وأوفى بالمعنى.

٨ - ( وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ)

يقول تعالى عن القرنين: ( حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) (٣) .

الحمأ: الطين النَّتِن الذي تَغيّر لونه إلى السواد، يَرسب تحت المياه الراكدة وعلى

____________________

(١) المائدة ٥: ٣٣.

(٢) يس ٣٦: ٣٣.

(٣) الكهف ١٨: ٨٦.

٣٤٧

ضفافها... وحمإٍ مسنون: (١) مُنتَن، وقُرئَ: (عينٍ حامية) أي دافية (حارّة).

قال المفسّرون: أراد ذو القرنَين أن يَبلغ بلاد المغرب، فاتّبع طريقاً تُوصله إليها، حتّى إذا انتهى من جهة المغرب بحيث لم يستطع تجاوزه ووقف على حافّة البحر الأطلانطي (المحيط الأطلسي) وجد الشمس تغرب في بحر خِضَمٍّ يضرب ماؤه إلى سواد الخُضرة، وكان معروفاً عند العرب ببحر الظُلمات، فقد سار إلى بلاد تونس ثُمّ مراكش ووصل إلى البحر المحيط، فوجد الشمس كأنّها تغيب فيه وهو أزرق اللون يضرب إلى السواد، كأنّه حَمِئة (٢) .

والمـُراد بالعين: لُجّة الماء، حيث البحر الواسع الأرجاء لا تُرى له نهاية.

قال سيّد قطب: والأرجح أنّه كان عند مصبّ أحد الأنهار (٣) ، حيث تكثر الأعشاب ويتجمّع حولها طين لزج هو الحمأ، وتوجد البِرَك وكأنّها عيون الماء... فرأى الشمس تغرب هناك ( وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) (٤) .

قلت: وسوف يأتي عند الكلام عن ذي القرنَين - وأنّه كُورُش الهخامنشي على الأرجح - أنّه في فتوحاته غرباً في آسيا الصغرى توقّف على المنطقة التي تُسمّى باسم: إقليم أيونيّة، وهو الإقليم الغربي من قارّة آسيا الصغرى المـُطلّ على مَضيق الدردنيل وبحر إيجه وما يُلاصق الساحل من جُزر وأشباه جزر، حين توقّف كورش عند شواطئ بحر إيجه - وهي جزء من سواحل تركيا على البحر المتوسّط - وجد الشاطئ كثير التعاريج، حيث تتداخل أَلسنة البحر داخل اليابس، ومِن أمثلة هذه الألسنة البحريّة خليخ هرمس ومندريس الأكبر ومندريس الأصغر... ويتعمّق خليج (أزمير) إلى الداخل بمقدار ١٢٠ كم، تحيط به الجبال البلّوريّة من الغرب إلى الشرق على حافّتيه، بحيث يتّخذ شكل العين، ويَصبّ فيه نهر (غديس) المياه العَكِرة المـُحمّلة بالطين البُركاني والتراب الأحمر من فوق هضبة الأناضول... وحين توقّف كورش عند (سارد) قرب أزمير تأمّل قرص

____________________

(١) في قوله تعالى: ( إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ) ، الحجر ١٥: ٢٨، وراجع الآية ٢٦ و٣٣ من نفس السورة.

(٢) راجع: تفسير المراغي، ج١٦، ص١٦.

(٣) واحد معاني العين، مصبّ ماء القناة.

(٤) في ظِلال القرآن، ج١٦، ص٦، المجلّد ٥، ص٤٠٩.

٣٤٨

الشمس وهو يسقط عند الغروب في هذا الخليج الذي يُشبه العين تماماً... واختلطت حُمرة الغَسَق بالطين الأحمر والأسود الذي يَلفظه نهر غديس في خليج أزمير... ولعلّها هي العين الحَمِئة (الضاربة بالسواد) التي ذَكَرها القرآن (١) .

أخطاء تأريخيّة!

زعموا أنّ في القرآن أخطاءً تأريخيّة تَجعله بمعزلٍ عن الوحي الذي لا يَحتمل الخطأ! فحاولوا جهدهم أنْ يعثروا على بيّنة من ذلك، ولكنّهم تعثّروا وفشلوا وخاب ظنّهم.

إذ ما حسبوه شاهداً لا يَعدو أوهاماً تُنبؤكَ عن مَبلغ جهلهم بمفاهيم القرآن ومصطلحاته الخاصّة!

مشكلة هامان

فمن ذلك ما زَعَموه بشأن (هامان) الذي جاء رِدفاً لاسم فرعون في مواضع من القرآن باعتباره وزيراً له أو من كِبار المسؤولينَ في بلاطه، وقد أمره فرعون ببناء صرحٍ - حسبوه بُرج بابل - ليَطّلع إلى إله موسى!

وقد أثارت مسألة (هامان) جدلاً كبيراً مُنذ قُرون على يد أبناء إسرائيل، وأخيراً على يد كبار المـُستشرقين أمثال (نولدكه) ازدراءً بشأن القرآن العظيم.

جاء اسم (هامان) في القرآن في ستّ مواضع:

( وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ) (٢) .

( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ) (٣) .

( وَقَالَ فِرْعَوْنُ... فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى ) (٤) .

____________________

(١) مفاهيم جغرافيّة، ص٢٤٣ - ٢٤٤.

(٢) القصص ٢٨: ٦.

(٣) القصص ٢٨: ٨.

(٤) القصص ٢٨: ٣٨.

٣٤٩

( وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ ) (١) .

( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ) (٢) .

( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى ) (٣) .

يَبدو من هذه الآيات أنّ (هامان) هو على الغالِب وزير فرعون؛ ولهذا أكّد المفسّرون أنّ هامان هذا كان وزير فرعون مصر الّذي حكم في عهد موسى (عليه السلام) والمشكلة الّتي انصبّت حوله ما إذا كان هامان قد بنى فعلاً بُرج بابل عِبر مسافات شاسعة في أرض العراق ممّا يلي الجانب الشرقي للفرات، وقد بقيت آثاره لحدّ الآن على بُعد أميال من مدينة الحلّة الفيحاء.

والبعض يقول إنّه بناه فعلاً وسخّر لذلك خمسين ألف عامل عَكفوا على بنائه، وعندما شيّده صَعَد فرعون إلى أعلاه ورمى بنشّابة ناحية السماء، فأراد اللّه أنْ يَفتنهم فردّه إليهم مُلطّخاً بالدم، وعندها قال فرعون: لقد قتلتُ إله موسى! والقصّة طويلة سطّرها أصحاب الأساطير فيما لفّقوه عن قصص الأنبياء.

غير أنّ المؤكّد أنّ بُرْجاً لا يرتفع من الأرض سِوى عدة عشرات الأمتار، لا يمكن أنْ يَبلغ به فرعون أسباب السماوات حتّى ولو صعد على أعالي الجبال الشامخات التي يُعدّ برج بابل تجاهها تلاًّ صغيراً؛ ولهذا قال الفخر الرازي: لعلّ فرعون قد أوهم ببناء البُرج لكنّه لم يفعل، أو أنّه قال ذلك ساخراً وليبيّن أنّه لا يمكن إثبات إله في السماء إلاّ بالصعود إليه (٤) .

وهكذا قال المراغي: وقال فرعون يا هامان ابن لي قصراً مُنيفاً عالي الذُّرا؛ علَّني

____________________

(١) العنكبوت ٢٩: ٣٩.

(٢) غافر ٤٠: ٢٣ و٢٤.

(٣) غافر ٤٠: ٣٦ و٣٧.

(٤) التفسير الكبير، ج٢٤، ص٢٥٣.

٣٥٠

أَبلغ أبواب السماء وطُرقها، حتّى إذا وصلتُ إليها رأيتُ إله موسى! لا يريد بذلك سِوى الاستهزاء والتهكّم وتكذيب دعوى الرسالة (١) .

قال سيّد قطب: هكذا يُموّه فرعون الطاغية ويُحاور ويُداور؛ كي لا يواجه الحقّ جهرةً ولا يعترف بدعوة الوحدانيّة التي تهزّ عرشه وتُهدّد الأساطير التي قام عليها مُلكه، وبعيد عن الاحتمال أنْ يكون هذا فهم فرعون وإدراكه، وبعيد أن يكون جادّاً في البحث عن إله موسى على هذا النحو المادّي الساذج، إنّما هو الاستهتار والسخرية... وكلّ ذلك يدلّ على إصراره على ضلاله وتبجّحه في جحوده ( وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ (ولكن) وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاّ فِي تَبَابٍ ) (٢) صائر إلى الخيبة والدمار (٣) .

وعلى أيّة حال، فليس في القرآن ما يشير بأنّه بنى الصَرح وصعده ورمى بسهمه حسبما سطّره أصحاب الأساطير، كلّ ذلك لم يَذكره القرآن ولا جاء في التوراة (٤) ، ولم يُعرف المصدر الذي اعتمده هؤلاء القصّاصون ومهنتهم الاختلاق.

* * *

وأمّا مسألة هامان فهل كان لفرعون وزيرٌ بهذا الاسم؟

قال الإمام الرازي: قالت اليهود: أطبق الباحثون عن تواريخ بني إسرائيل وفرعون أنّ هامان لم يكن على عهد فرعون وموسى وإنّما جاء بعدهما بزمانٍ مديدٍ ودهرٍ داهر، فالقول بأنّ هامان كان وزيراً لفرعون، خطأٌ في التأريخ، على أنّه لو كان لم يكن رجلاً خامل الذِكر لم يسجّله التأريخ ولا جاء ذِكره في تأريخ حياة بني إسرائيل (٥) .

نعم، جاء في العهد القديم سِفر (أستير) الإصحاح الثالث: أنّ هامان بن همداثا كان وزيراً للملك الفارسي (خشايارشا) الذي تصدّى للمـُلك بعد أبيه (داريوش الكبير) سنة (٤٨٦ ق م) (٦) أي بَعْدَ فرعون موسى بِعِدَّة قرون، وكان مقرّباً لديه، ثُمّ غَضب عليه وصَلَبه

____________________

(١) تفسير المراغي، ج٢٤، ص٧١.

(٢) غافر ٤٠: ٣٧.

(٣) في ظِلال القرآن، المجلّد ٧، ص١٨٣ - ١٨٤، ج٢٤، ص٧١ - ٧٢.

(٤) قصص الأنبياء لعبد الوهاب النجّار، ص١٨٦.

(٥) التفسير الكبير، ج٢٧، ص٦٦.

(٦) راجع: تأريخ إيران، ص٩٢.

٣٥١

وجَعَل مكانه رجلاً من اليهود اسمه (مردخاي) وكان عمّ المـَلِكة أستير زوجة الملك (١) .

وهكذا زَعم المستشرق الألماني (تيودور نولدكه) ( Theodore Noldeke ) في مقالٍ نشره أَوّلاً حوالي عام ١٨٨٧م في دائرة المعارف البريطانيّة (الطبعة٩) (٢) ، وأعاد نشره في كتابه تأريخ القرآن عام ١٨٩٢م (٣) .

غير أنّ المصادر التأريخيّة - الإيرانيّة وغيرها - خلوٌ عن ذِكر رجل بهذا الاسم استَوزَرَه المـَلِك (خشايارشا) ثُمّ عَزله وصَلبه وأقام مكانه رجلاً باسم (مَرْدُخاي) - كما تقوله التوراة الإسرائيليّة -! وغالب الظنّ أنّه من أساطيرهم هم البائدة ولا واقع لها أساساً.

على أنّ (هامان) الذي جاء ذِكره في القرآن - مُرْدَفاً باسم فرعون وقارون - اسم مُعرَّب قطعاً، كما هي العادة عند العرب عند التلهّج بألفاظ أجنبيّة حتّى العِبريّات حسب المعهود، فإبراهيم، مُعرّب أبراهام، أصله أب رام أي الجدّ الأعلى، وموسى، مُعرَّب مُوشِى أي المـُشال من الماء، وسامِري، معرّب شمروني حسبما نذكر وغير ذلك، وقد قيل: إنّ (هامان) معرّب (آمون) أو (أمانا) كان يُلقَّب به رؤساء كَهَنة مَعبد أمون كبير آلهة المصريّين في مدينة طيبة في أعالي النيل.

ولا غَرْوَ فإنّ المنسوب إلى مكان مقدّس يَحمل اسمه بالطبع، كما أنّ فرعون هو لقب سلاطين مصر كان بمعنى البيت الأعظم، نظير ما لُقّب الخلفاء العثمانيون بالباب العالي (٤) .

وتُمثّل بعض النقوش القديمة (البيت الأعظم) الذي يَجلس فيه المـَلِك للحكم والذي تتجمّع فيه دواوين الحكومة، وقد اشتقّت من اسم هذا البيت الأعظم الذي كان المصريّون يُطلقون عليه لفظ (بيرو) والذي تَرجمه اليهود إلى (فرعوه) أو (فرعون)،

____________________

(١) العهد القديم، ص٧٨٢، وراجع: قاموس الكتاب المقدّس ص٩١٨.

(٢) راجع: Encyclopaedia pitanica ، ٩ eme ed . tome XVI ، p ٥٩٧ (دائرة المعارف البريطانيّة، ص٥٩٧، الطبعة التاسعة).

(٣) راجع: المقال في كتابه ٥٨ - ٢١. The Sketches from Eastern History ، ١٨٩٢، pp ٢١ - ٥٨ (الدفاع عن القرآن ضدّ منتقديه، ص١٨٤).

(٤) راجع: قاموس الكتاب المقدّس، ص٦٤٩، والموسوعة المصريّة، ص١٢٤؛ وفرهنك معين، قسم الأعلام، ج٥، ص٦١.

٣٥٢

اشتُقّ مِن اسمه لقب المـَلِك نفسه (١) .

وهكذا عاد اسم (هامان) مُعرّب (آمون) أُطلق على كبير كَهَنة معبد (آمون) الذي حاز مُنذ الأُسرة التاسعة عشر مكانةً كبيرةً لدى فرعون لدرجةٍ أنّه استولى على إقليم أعالي النيل، وأصبح قائد كلّ الجيوش وكبير خِزانة الإمبراطوريّة، والمـُشرف الأعلى على معابد الآلهة (٢) .

ولقد كان وزير فرعون يُراقب فعلاً كلّ أعمال البناء العموميّة والماليّة (٣) ، وكان المـُشرف الأعلى على كلّ أعمال الملك، (٤) وبالتالي كان كبير كَهَنة (آمون) يَشغل مَنصِب وزير فرعون.

فاسم (هامان) في القرآن يُمثّل اسم (آمون)، ويَسهل التقريب بين الاسمين عند ما نعرف أنّ (آمون) يُنطق كذلك (أمانا) ويُقصد منه بالاختصار (كَبير كَهَنة) مِثلما كان اسم فرعون - وهو اسم البيت الأعظم للحكومة - أصبح لقباً يُلقّب به مُلوك مصر الذين يحكمون البلاد، فهامان لقب كبير كَهَنة (آمون) الذي كان يَشغل منصِب وزارة فرعون في الشؤون الماليّة والعمرانيّة (٥) .

____________________

(١) راجع: قصة الحضارة لول ديورانت، ج ٢، ص٩٣، وترجمته الفارسيّة (تأريخ تمدّن) ج١، ص١٩٥.

(٢) راجع: تأريخ مصر لبرستيد، ص٥٢٠.

(٣) راجع: ثقافة فراعين مصر لدوماس، ١٩٦٥م، ص١٥٨ (باريس).

(٤) المصدر. وراجع: الدفاع عن القرآن ضدّ مُنتقديه لعبد الرحمان بدوي، ص١٨٦.

(٥) انظر: Encyclopeadia pitanica , ١، p ٣٢١،col ، ١: coll .١: ed ١٩٨٢ (دائرة المعارف البريطانيّة، ج١، ص ٣٢١، العامود الأَوّل، طبع ١٩٨٢).

جاء فيه: (مَملَكة مصر كانت في ذلك العهد (عهد الأسرتَين التاسعة عشر والعشرين) تُدار أُمورها على كاهل الديانة. وكانت تحكم البلاد آلهة على وِفق العقائد الرسميّة السائدة، وهؤلاء الآلهة مثل: أمان تهى بز باى ميليوبولس، كانوا يحكمون البلاد، ويرسمون خُطط الحكم لملوك مصر، وكانت السياسة الحاكمة هي التي تُمليها ممثّلو كَهَنة معبد، وإدارة البلاد إلى هؤلاء الكهنة، ومِن ثَمَّ حصل هؤلاء - إلى جنب القداسة - على ثروات طائلة...) واليك نصّ العبارة بالإنجليزيّة:

The religion of ancient Egypt was static and traditional, urging that the gods had given a good order and that IT was necessary for man to hold firmly to the order. When changes did occur, religion tried to incorporate them into the system as though they came from the

٣٥٣

فأَوقِد لي يا هامان على الطين!

( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى... ) (١) .

أي فاصنع لي آجرّاً، واجعل لي منه قصراً شامخاً وبناءً عالياً؛ كي أصعد وأرتقي إلى السماء فأَطّلع إلى إله موسى؟

هذا... وقد لَهَج بعض مَن لا خُبرة له: أنّ البناء بالآجرّ والجصّ لم يُعهد ذلك الحين، وإنّما كانت البنايات بالأحجار والصخور كالأهرام والهيكل الكبير ببعلبك والمسرح الروماني ببُصرى وغيرها.

لكن ذهب عنه: أنّ صناعة الآجرّ واستخدامه في البنايات - وحتّى الرفيعة - قد تَقادم عهدها مُنذ بداية حياة الإنسان الحضاريّة بما يَقرب من خمسة آلاف سنة قبل الميلاد، وحتّى في مصر القديمة عثروا على طوابيق (جمع طابوق معرّب تاوه: الآجرّ الكبير) في حَفريّات في قاع النيل يعود تأريخها إلى (٥٠٠٠ ق م). وهكذا وَجَدوا مقابر على ساحل النيل مبنيّة بالآجرّ ومغلّفة بالأخشاب ممّا يعود تأريخها إلى (٣٠٠٠ ق م).

هذا فضلاً عن بنايات آجرّيّة في بلاد مُجاورة كبُرجِ بابل وكذا مَعابد آشور والسومريّين (٢٥٠٠ ق م)، وأخيراً فطاقُ كسرى من بنايات شاهبور الأَوّل (٢٤١م).

____________________

creation. By the time Akhenaton took the thronze as fourth pharaoh named Amenhotep, the ١٨th dynasty (١٥٣٩ J ١٢٩٢Bc) had run for nearly ٢٠٠years, and there had been a century of imperial conquest and control of foreig lands. Egypt dominated palestine, phoenicia, and Nubia. The nation was powerful, rich, and courted by lesser princes. To maintain these gains, a military and political group controlled the cuntrolled the culture. Since the Egyptian state had always been thocratic, ruled by a god or god or gods, according to traditional beliefs, this group interlicked with the priesthood. The richest and most powerful of the gods, such as Amon lf Htebes or Re of Heliopolis, it wsa held, dictated the purpose of the state. the king had to apply to the gods for oracles direccting his major activities. In return for wealith, elegance, and the role of the Ieading actor in a drama of imperial success, the pharaoh had reliquished his religious (and military) authority to athers . ( see also lndex: New Kinqdom ).

(١) القصص ٢٨: ٣٨.

٣٥٤

وغير ذلك كثير وكان معروفاً ذلك العهد، بل وقَبْله بكثير، وإليك بعض الحديث عن ذلك:

صناعة الآجُرّ واستخدامه مُنذ عهد قديم!

لعلّ مِن أقدم صنائع الإنسان هي صَنعة الآجُرّ من الطين المشويّ بالنار، ابتدعها الإنسان مُنذ أنْ اكتشف النار وعرف مفعولها في التأثير على الطين اللازب في صنعة الخَزَف والآجُرّ والفخّار، واستخدم الآجرّ في بنايات ضخمة مُنذ عهد قديم، قد يرجع إلى عهد الحَجر منذ أكثر من خمسة آلاف سنة قبل الميلاد.

فقد عَثَروا في حفريّات مِن قاع النيل بمصر على قطعات مِن الآجُرّ المصنوع مِن وَحَلِ النيل ممزوجاً مع بَعَرات الإبل، يعود تأريخها إلى أبعد من خمسة آلاف سنة قبل الميلاد، وهكذا وُجِدَت على ساحل النيل آثار مقابر سُقوفها مبنيّة بالآجرّ ومغلّفة بالأخشاب، ويعود عهدها إلى ما يقرب من ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد.

وقد استعمل الآشوريّون الآجُرّ والجصّ في بِناياتهم التقليديّة والأقواس الهلاليّة على الدروب والمحاريب في شماليّ العراق، ويعود تأريخها إلى حدود ألفي عام قبل الميلاد.

يقول (ديورانت): هناك حوالي مدينة (أُور) عاصمة مُلك السومريّين، في سُهول بين النهرَين وعلى ضِفاف مَصبّ دجلة والفرات وشواطئ خليج فارس، وُجِدَت الكثير من آثار بنايات ضخمة مبنيّة بالآجُرّ والجصّ، وفي حجم وعلى أشكال مُربّعة مُسطّحة نظير ما يُستعمل اليوم لكنّه أفخم وأَمتن، ويعود تأريخها إلى أكثر من ألفين وخمسمِئة عام قبل الميلاد.

ومدينة (بابل) وهي أقدم وأشهر وأكبر مُدن الشرق القديم، قُرب الحلّة وعلى مسافة ٨٠ كم من بغداد - العراق اليوم، كانت بِناياتها الفخمة والقصور وبيوت الأشراف مبنيّة بالآجرّ، وكذا المعابد والأبراج العالية، ومنها بُرج بابل المعروف مبنيّ بالآجرّ، وقد استوعبت بناية البرج أكثر من خمسة وثمانين مليون آجُرّة، منها البقايا المـُبعثرة هناك،

٣٥٥

وهي على شَكل مُربّع مُسطّح متين جدّاً، كأنّه مصنوع اليوم، ويُقال لها: الطابَق - والمعروف بالعراق: الطابوق - ويعني الآجرّ الكبير، مُعرّب (تاوه) الفارسيّة.

وهذه المدنية عريقة في القِدَم، على ما جاء في وصف التوراة، باعتبارها كتاب تأريخ، ومِن آثارها المتبقّية: باب عشتار وبَلاط نبوخذ نصّر والطريق المـُلوكي، المفروش بالآجرّ الضخمة ومِلاطها القار، حسب وصف التوراة، وقد شاهدتُه بعين الوصف حينما زُرتُ البُرج بالعراق.

جاء في سِفر التكوين: أنّ الذُرّية مِن وُلد نوح ارتحلوا شرقيّ الأرض حتّى أَتَوا أرض شنعار (سهول بين النهرين - العراق) وسكنوا هناك وبَنَوا مدينةً فخمةً بلِبناتٍ مشويّةٍ على النار شيّاً، قالوا: هلمـّ نَبنِ لأنفسنا مدينةً وبُرجاً رأسه بالسماء، فجعلوا مكان اللِبن الآجرّ وبَدل الجصّ القار (١) ، وهكذا بَنَوا القصور والأبراج العالية يومذاك، ويعود تأريخ أكثر البنايات المتبقّية حتّى اليوم إلى أكثر من ألفين وخمسمِئة عام قبل الميلاد (٢) .

قولة اليهود: يد اللّه مغلولة!

قال تعالى: ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ) (٣) .

قال الشيخ مُحمّد عَبده: وقد جَعل بعضُ أهل الجَدل الآية من المـُشكلات؛ لأنّ يهود عصره يُنكرون صدور هذا القول عنهم، ولأنّه يُخالف عقائدهم ومقتضى دينهم، وممّا قالوه في حلّ الإشكال: إنّهم قالوا ذلك على سبيل الإلزام، فإنّهم لمـّا سمعوا قوله تعالى: ( مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ ) (٤) قالوا: من احتاج إلى القَرض كان فقيراً عاجزاً مغلولَ اليدَين، بل قالوا ما هو أبعد من هذا في تعليل قولهم والخَرْص في بيان مرادهم منه،

____________________

(١) سِفر التكوين، إصحاح ١١/٢ - ٤.

(٢) راجع: دائرة المعارف الإسلاميّة الكبرى، ج١، ص٣٧ - ٣٨، وقصّة الحضارة: الجزء الأَوّل من المجلّد الأَوّل، ص٢٦، ولغت نامه دهخدا، وفرهنك معين، وتأريخ مصر القديمة (الموسوعة المصريّة): الجزء الأَوّل، المجلّد الأَوّل: وتأريخ إيران، ص١٨٢ - ١٨٤.

(٣) المائدة ٥: ٦٤.

(٤) البقرة ٢: ٢٤٥، الحديد ٥٧: ١١.

٣٥٦

وما هو إلاّ غفلة عن جرأة أمثالهم في كلّ عصرٍ على مِثل هذا القول البعيد عن الأدب بُعدَ صاحبه عن حقيقة الإيمان، ممّن ليس لهم من الدِّين إلاّ العصبيّة الجنسيّة والتقاليد القشريّة، فلا إشكال في صدوره عن بعض المـُجازفين مِن اليهود في عصر النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) وقد كان أكثرهم فاسقينَ فاسدينَ.

وطالما سَمِعنا ممّن يُعدَّونَ من المسلمينَ في عصرنا مِثله في الشكوى مِن اللّه عزّ وجلّ، والاعتراض عليه عند الضيق وفي إبّان المصائب.

وعبارة الآية لا تدلّ على أنّ هذا القول يقوله جميع اليهود في كلّ عصر حتّى يُجعل إنكار بعضهم له في بعض العصور وجهاً للإشكال في الآية، وإنّما عَزَاه إلى جنسهم - في حين أنّه قول بعضهم وهو (فنحاص) رأس يهود بني قينقاع وفي روايةٍ: النباش بن قيس أحد رجالهم، وفي أُخرى: أنّه حُيَي بن أخطب - لأنّه أثرُ ما فشا فيهم من الجُرأة على اللّه وتركِ إنكار المـُنكر، والمـُقرّ للمـُنكر شريك الفاعل له.

على أنّ الناس في كلّ زمان يَعزون إلى الأُمّة ما يَسمعونه مِن بعض أفرادها - ولا سيّما إذا كان من أكابر القوم - إذا كان مِثله لا يُنكر فيهم، والقرآن يُسند إلى المتأخّرين ما قَاَله وفَعَله سلفُهم مُنذ قُرون، بِناءً على قاعدة تكافل الأُمّة وكونها كالشخص الواحد، ومِثل هذا الأُسلوب مألوفٌ في كلام الناس أيضاً (١) .

مقصوده من بعض أهل الجدل هو الإمام الرازي في تفسير الكبير (٢) ، لكن ليس يهود عصره هم الذين أنكروا صدور مثل هذا القول عن سَلفهم، بل حتّى في زماننا هذا اعترضت الجالية اليهوديّة القاطنة في إيران وقدّمت اعتراضها إلى المجمع الإسلامي مُستعلمةً منشأ انتساب هذا القول إليهم.

كما أنّ ظاهر القرآن أنّ هذا هو عقيدة أسلافهم باعتبارهم أُمّة، لا بالنظر إلى آحادٍ عاصروا عهد الرسالة قالوها عن جهالةٍ أو مجازفةٍ عابرة، الأمر الذي لا يستدعي نزول قرآنٍ بشأنه!

____________________

(١) تفسير المنار، ج٦، ص٤٥٣.

(٢) راجع: ج١٢، ص٤٠.

٣٥٧

فلابدّ هناك من منشأ يمسّ عقيدتهم بالذات عقيدةً إسرائيليّةً عتيدة استدعت هذا الذمّ الشامل.

وأكثر المفسّرين على أنّ هذا القول صَدر عنهم على سبيل الإلزام (أي على طريقة الاستلزام) وهي طريقة جدليّة يُحاوَلُ فيها تبكيتُ الخصم بالأخذ عليه بما يستلزمه مذهبُه، أي لازمُ رأيه بالذات وإن لم يكن من عقيدة صاحب الحجّة، قالوا: لمـّا كثر الحثّ والترغيب على إقراض اللّه بالإنفاق في سبيله وبذل الصدقات - وجاء ذلك في كثيرٍ من الآيات - فعند ذلك جَعلت اليهود تستهزئ بعقيدة المسلمين في ربّهم؛ حيث فرضوه فقيراً مُحتاجاً إلى الاستقراض، وقالوا تهكّماً وسُخراً: ( إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ ) (١) ، فمَن كان فقيراً كان عاجزاً مكتوف اليدَين (٢) .

ويرى العلاّمة الطباطبائي أنّ هذا الوجه أقرب إلى النظر (٣) .

لكن في التفسير الوارد عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام): أنّ قولتهم هذه تعني عقيدتهم بأنّ اللّه قد فَرغ من الأمر فلا يُحدث شيئاً بعد الّذي قدّره اللّه في الأَزل، (جفّ القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة) (٤) فلا تغيير بعد ذلك التقدير، تلك كانت عقيدة اليهود السائدة، وتسرّبت ضمن الإسرائيليّات إلى أحاديث العامّة، فردّ اللّه عليهم بأنّ يديه مبسوطتان يتصرّف حيث يريد، ( يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (٥) ، ( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) (٦) ، ( فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ) (٧) ، ( يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (٨) .

روى الشيخ بإسناده إلى هشام بن سالم عن الإمام جعفر بن مُحمّد الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ) (٩) قال: كانوا يقولون: قد فَرغ من الأمر (١٠) .

وقال الإمام عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام) لسليمان بن حفص المروزي، مُتكلّم خراسان - وقد استعظم مسألة البداء في التكوين -: (أَحسبُك ضاهيتَ اليهودَ في هذا

____________________

(١) آل عمران ٣: ١٨١.

(٢) مجمع البيان، ج٢، ص٥٤٧.

(٣) تفسير الميزان، ج٦، ص٣٢.

(٤) راجع: صحيح البخاري، باب القدر، ج٨، ص١٥٢.

(٥) الرعد ١٣: ٣٩.

(٦) الرحمان ٥٥: ٢٩.

(٧) هود ١١: ١٠٧، البروج ٨٥: ١٦.

(٨) فاطر ٣٥: ١.

(٩) المائدة ٥: ٦٤.

(١٠) بحار الأنوار، ج٤، ص١١٣، رقم ٣٥.

٣٥٨

الباب! قال: أعوذ باللّه من ذلك، وما قالت اليهود؟ قال: قالت اليهود: ( يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ) يَعنون أنّ اللّه قد فَرغ مِن الأمر فليس يُحدث شيئاً) (١) .

وروى الصدوق بإسناده إلى إسحاق بن عمّار عمّن سمعه عن الصادق (عليه السلام) أنّه قال في الآية الشريفة: (لم يَعنوا أنّه هكذا (أي مكتوف اليد) ولكنّهم قالوا: قد فَرغ من الأمر فلا يَزيد ولا ينقص، فقال اللّه جلّ جلاله تكذيباً لقولهم: ( غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ) (٢) ، ألم تسمع اللّه عزّ وجلّ يقول: ( يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) ) (٣) .

قال عليّ بن إبراهيم - في تفسير الآية -: قالوا: قد فَرغ من الأمر لا يُحدث اللّه غير ما قدّره في التقدير الأَوّل، بل يداه مبسوطتان يُنفق كيف يشاء، أي يُقدّم ويُؤخّر ويزيد وينقص وله البَداء والمشيئة (٤) .

وهكذا روى العيّاشي في تفسيره عن حمّاد عن الصادق (عليه السلام) (٥) .

ورواياتنا بهذا المعنى متضافرة.

وقد تعرّض الراغب الأصفهاني لذلك أيضاً قال: قيل: إنّهم لمـّا سمعوا أنّ اللّه قد قضى كلّ شيء قالوا: إذن يد اللّه مغلولة أي في حكم المقيّد لكونها فارغة (٦) .

ويبدو من كثير من الآيات القرآنيّة التي واجهت اليهود بالذات دفعاً لمزعومتهم أنْ لا تبديل بعد تقرير، أنّ هناك عقيدةً كانت تسود اليهود في عدم إمكان التغيير عمّا كان عليه الأَزل، الأمر الذي يشير بجانب من قضية الجبر في الخَلق والتدبير ممّا كانت عليه الأُمَم الجاهلة، ومنهم بنو إسرائيل، فهناك في حادث تَحول القبلة اعترضت اليهود على هذا التحويل، فنزلت الآية ( وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) (٧) .

قال ابن عبّاس: إنّ اليهود استنكروا تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة.

____________________

(١) المصدر: ص٩٦، رقم ٢، وراجع: عيون أخبار الرضا، ج١، ص١٤٥، باب ١٣، رقم ١.

(٢) المائدة ٥: ٦٤.

(٣) الرعد ١٣: ٣٩، راجع: كتاب التوحيد للصدوق، ص١٦٧، باب ٢٥، رقم ١.

(٤) تفسير القمي، ج١، ص١٧١.

(٥) تفسير العيّاشي، ج١، ص٣٣٠، رقم ١٤٧.

(٦) المفردات، ص٣٦٣.

(٧) البقرة ٢: ١١٥

٣٥٩

واختاره الجبّائي أيضاً (١) .

وبهذا الشأن أيضاً نزلت الآية ( مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ) (٢) .

قال العلاّمة الطباطبائي: النسخ في الآية يعمّ التبديل في التشريع وفي التكوين معاً وذلك؛ نظراً لعموم التعليل في ذيل الآية، حيث عُلّل إمكان النسخ - وهو مطلق إزالة الشيء عمّا كان عليه وتبديله إلى غيره - بعموم القُدرة أَوّلاً، وبشمول مُلكه للكائنات السماويّة والأرضيّة جميعاً.

قال: وذلك أنّ الإنكار المـُتوهّم في المقام أو الإنكار الواقع من اليهود - على ما نُقل في شأن نزول الآية بالنسبة إلى معنى النسخ - يتعلّق من وجهين:

الأَوّل: أن الكائن - سواء في التشريع أم في التكوين - إذا كان ذا مصلحة، فزواله يُوجب فَوات المصلحة التي كان يحتويها.

الثاني: أنّ الإيجاد إذا تحقّق أصبح الموجود ضرورةً لا يتغيّر عمّا وقع عليه، فهو قبل الوجود كان أمراً اختيارياً ولكنّه بعد الوجود خرج عن الاختيار وأصبح ضرورةً غير اختياريّة.

قال: ومِرجع ذلك إلى نفي إطلاق قُدرته تعالى، فلا تعمّ الكائن الحادث بعد حدوثه، وإنّما القُدرة خاصّة بحال الحدوث ولا تَشمل حالة البقاء، وهو كما قالت اليهود: (يد الله مغلولة).

قال: وقد أَلمـَح سبحانه وتعالى إلى الردّ على الوجه الأَوّل بقوله: ( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )، فلا موضع لتوهّم فوات المصلحة القديمة بعد إمكان التعويض عنها بمصلحةٍ مِثلها أو خيرٍ منها، وعن الوجه الثاني بقوله: ( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) أي له التصرّف في مُلكه حيثما يشاء، وهو دالّ على عموم القُدرة، في بدء

____________________

(١) مجمع البيان، ج١، ص١٩١.

(٢) البقرة ٢: ١٠٦ و١٠٧.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578