شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم10%

شبهات وردود حول القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 578

شبهات وردود حول القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 578 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 297575 / تحميل: 13676
الحجم الحجم الحجم
شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

الحدوث وعبر البقاء جميعاً (١) .

وعليه أيضاً نزلت الآية: ( يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (٢) ، أي يُمكنه تعالى أنْ يُزيل شيئاً عمّا قدّر فيه ويُبدّله إلى غيره، حسب عِلمه تعالى في الأَزل بالمصالح والمفاسد المـُقتضية في أوقاتها وظروفها الخاصّة، فهو تعالى كلّ يوم في شأن (٣) .

ومِثلها قوله تعالى: ( وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) (٤) ، وذلك أنّهم؛ لفَرط جهلهم أنكروا إمكان التبديل في الخلق والتدبير - سواء في التشريع والتكوين - حَسبوا من التغييرات الحاصلة في طول التشريع أنّها افتراءٌ على اللّه، الأمر الذي يدلّ على غباوتهم وجهلهم بمقام حِكمته تعالى الماضية في الخَلق والتدبير على طول خطّ الوجود.

وهذا المعنى هو المستفاد من عقيدتهم بأنّه تعالى بعد ما فَرغ من خَلق السماوات والأرض خلال الستة الأيّام استراح في اليوم السابع وهو يوم السبت، جاء في سِفر التكوين: (فأكملتُ السماوات والأرض وكلّ جُندها، وفَرِغ اللّه في اليوم السابع مِن عملِه الذي عَمل، فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل) (٥) .

* * *

وقد يُقال: إنّ هذا المعنى لا ينسجم مع ذيل الآية ( يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ) ؛ حيث يستدعي هذا التعبير أن يكون النظر في صدر الآية إلى أمر البُخل والتقتير في الرزق (٦) .

غير أنّ ذِكر الإنفاق كيف يشاء - في ذيل الآية -: جاء بياناً لأَحدِ مصاديقِ بسط يده تعالى وشمول قُدرته، وليس ناظراً إلى الانحصار فيه؛ ولعلّ ذكر ذلك كان بسبب ما واجَه المسلمين في إبّان أمرهم مِن الضيق وعدم التوفّر في تهيئة التجهيز الكافي والحصول على الإمكانات اللازمة، فأخذتْ اليهود في الطعن عليهم بأنّ ذلك هو المـُقدّر لهم، وليس بوِسعِه تعالى أنْ يفسح لهم المـَجال أو يُوسِع عليهم في المعاش.

____________________

(١) تفسير الميزان، ج١، ص٢٥٣ - ٢٥٤.

(٢) الرعد ١٣: ٣٩.

(٣) الرحمان ٥٥: ٢٩.

(٤) النحل ١٦: ١٠١.

(٥) سِفر التكوين، الإصحاح ٢/١.

(٦) راجع: تفسير الميزان، ج٦، ص٣١.

٣٦١

وإلاّ فوِجهة الآية عامّة كنظيراتها، والعِبرة بعموم اللفظ دون خصوص المـُورد.

قولة اليهود: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ!!

قال تعالى: ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ) (١) .

عُزَير - مُصغّراً - هو الذي يسمّيه أهل الكتاب (عَزْرا) قال الشيخ مُحمّد عَبده: والظاهر أنّ يهود العرب هم الذين صَغّروا بالصيغة العربيّة للتحبيب وصَرَفوه، وعنهم أَخذ المسلمون، والتصرّف في أسماء الأعلام المنقولة إلى لغةٍ أُخرى معروف عند جميع الأُمَم، حتّى أنّ (يسوع) قَلَبَته العرب فقالت: (عيسى).

وعَزْرا هذا هو الذي أَحيى شريعة اليهود بعد اندراسها، وكَتَب أسفارَهم من جديد بعد ضَياعها لمدّة تقرب من قَرنَينِ، بعد كارثة بخت نصّر الذي شتّت شملهم وأحرق كُتبهم وأَخرب معابدهم، ووضع السيف في رقابهم، وأَسَر الباقين إلى أرض بابل حتّى فرّج عنهم الملك داريوش عند ما فتح بابل، وساعدهم على المـُراجعة إلى أرض فلسطين فيمَن عَزم على الرجوع إليها من اليهود وعلى رأسهم عَزرا - وهو عجوزٌ قد طَعن في السنّ - فأعاد بناء الهيكل على حساب مَلِك فارس، وقام بإحياء الشريعة وكتابة الأسفار نحو سنة ٤٥٧ ق. م (٢) ، جَمعها من صدور الرجال والمـَحفوظ لديهم من بقايا آثار التوراة، فكانت له منزلة رفيعة عند اليهود ممّا يقرب من مرتبة نبيّ اللّه موسى (عليه السلام)؛ لأنّه أحيا الشريعة الموسويّة من جديد وأعاد حياتها بعد الضياع والاندراس.

وهذا هو السرّ في تلقيبه بابن اللّه تشريفاً بمقامه الرفيع عندهم، كما قالوا ( نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ) (٣) ، أي مُقرّبون لديه تعالى مَقربة الوَلد مِن والدهِ.

ولعلّ تلقيب المسيح بابن اللّه أيضاً من هذا الباب تشريفاً بموضعه عند اللّه العزيز.

وجُملة القول: إنّ اليهود كانوا وما زالوا يُقدّسون عُزَيراً هذا، حتّى أنّ بعضهم أو

____________________

(١) التوبة ٩: ٣٠.

(٢) راجع: سِفر عَزْرا، الإصحاح السابع.

(٣) المائدة ٥: ١٨.

٣٦٢

جُلّهم أَطلق عليه لقب ابن اللّه، فهو تلقيبُ تكريمٍ كما في تلقيب يعقوب بإسرائيل أي القٌدرة الغالبة الإلهيّة، وداود بمعنى المحبوب لدى اللّه، وجبرائيل أي الرجل الإلهي، وعزّئيل أي عزّته تعالى، كلّ هذه ألقاب تشريفيّة تكريماً بمقام المـُتلقّبين بها.

لكن الفيلسوف اليهودي (فلو) الاسكندري المعاصر للمسيح يقول: إنّ لله ابناً هو كلمتُه التي خَلق بها الأشياء، فعلى هذا لا يبعُد أن يكون بعض اليهود المتقدّمين على البعثة المـُحمّديّة - على المبعوث وآله صلوات ربّ العالمين - قد قالوا إنّ عُزَيراً ابن اللّه بهذا المعنى، كما شاع عند النصارى أنّ تلقيب المسيح بابن اللّه هو من هذا الباب (١) .

قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ

قالوا: لم يَعهد من تأريخ مصر القديمة أنّ ملوكها استوزَروا أجانب في سُلطانهم، فمَن هذا المـَلِك الذي استوزرَ يوسف العِبراني لإدارة شؤون الاقتصاد في البلاد؟

( وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي (أي أجعله من خاصّتي) فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) (٢) ، فأصبح يوسف عزيز مصر!

وتَحذلق بعضهم القول بعدم معهوديّة التوزير من أبناء اليهود (٣) ولم يدرِ المسكين أنّ يوسف سَبق اليهوديّة بقرون! وكان الذي خوّله إرادة شؤون الاقتصاد من المـُلوك الرُعاة (الهِكسوس) وهم أجانب ومِن جالية الشعوب الهنديّة الأُوروبيّة تغلّبوا على الشعب المصري وحكموا البلاد قسراً، والذي بدأ حوالي سنة ١٨٠٠ ق. م، وهو العهد الذي يُمثّل الأُسرتَين الخامسة عشرة والسادسة عشرة ثُمّ السابعة عشرة في الشمال حتّى عام ١٥٧٠ ق. م، ليقوم (أحمس الأَوّل) في وجههم ويَطردهم ويُؤسّس الدولة الحديثة الأُسرات من الثامنة عشرة إلى آخر العشرين، وكان إذ ذاك أوان خروج العِبرانيّين من مصر

____________________

(١) راجع: تفسير المنار، ج١٠، ص٣٢٢ - ٣٢٨.

(٢) يوسف ١٢: ٥٤ و٥٥.

(٣) شجاع الدين شفا في كتابه (تولّدي ديكر)، ص٢٨٦.

٣٦٣

على عهد موسى وفرعون (١) .

عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ

ويسترسل (نولدكه) في توهّماته عن القرآن، ليزعم أنّ هذا التعبير بشأن صعيد مصر الذي تشح فيه الأمطار يَنمّ عن جهلٍ بموضع هذا البلد الذي تعود خُصوبته إلى فيضان النيل لا الأمطار، جاء في فقرةٍ من كتابه (... Sketches ص٣٠ - ٣١) حول هامان ومريم: (بالإضافة إلى هذا التصوّر غير المعقول، يوجد تحويرات مزاجيّة شتّى، بعضها يدعو للسُخرية ويُنسب إلى محمّدٍ نفسه، والمثال على جهله لكلّ الأُمور خارج الجزيرة هو جَعْلُ الخُصوبة في مصر - التي تشحّ فيها الأمطار - مرهونةً بالأمطار وليس بفيضان النيل) (٢) .

هذا الانتقاد في غاية الغَباء وينمّ عن جهل (نولدكه) - المستشرق - للّغة العربيّة وللشؤون المصريّة بالذات.

لقد جاء في الآية التي يستشهد بها ما يلي: ( ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ) (٣) .

وكلمة (يُغاث) تَحتمل أن تكون من (الغَوث) - وهو النُصرة - أو مِن (الغيث) أي المطر، ( فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ) (٤) أي استَنصَره؛ ومِن ثَمّ جاء في تفسير الآية ( عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ ) أي يُنْجى الناسُ من الجَدب ومحنة القحط، قالوا: ويكون من قولهم: أغاثه اللّه، إذا أَنقذه من كَربٍ أو غمّ، يُنقَذُ الناس فيه من كَرب الجَدب، وقوله ( وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ) أي يَعصرون السِّمسم دُهناً والعِنب خمراً والزيتون زيتاً، وهذا يَدلّ على ذهاب الجَدب وحصول الخِصب ووفور الخير (٥) .

____________________

(١) راجع: الموسوعة المصريّة (تأريخ مصر القديمة)، مجلّد أوّل، الجزء الأوّل، ص٣٨ - ٤٢، وقاموس الكتاب المقدّس، ص٩٦٨ و٩٦٩، وقصص الأنبياء للنجّار، ص١٤٩.

(٢) راجع: الدفاع عن القرآن، ص١٨٦.

(٣) يوسف ١٢: ٤٩.

(٤) القصص ٢٨: ١٥.

(٥) راجع: التفسير الكبير، ج١٨، ص١٥١.

٣٦٤

أمّا لو أُخذت من (الغيث) أي المطر فيكون المعنى: فيه يُمْطَرون، غير أنّ بلاد مصر العُليا تَنعم بغزارة الأمطار أربعة أشهر متتالية في فصل الشتاء، فالمصريّون الّذين يعيشون في الصعيد في الدلتا يعلمون جيّداً أنّ الأمطار تتساقط بغزارة خلال فصل الشتاء أي خلال أربعة أشهر (من ديسمبر إلى مارس)، وأنّ زراعة القمح والبِرس والشعير والفول وأمثالها تعتمد أساساً على الأمطار الّتي تتساقط هذه الفترة، الأمر الذي يجهله أمثال (نولدكه) مِن المتخصّصين في الدراسات العربيّة الإسلاميّة، وهو لم تطأ قدمه بعدُ البلدان الإسلاميّة ولم يغادر أُوربا طَوال عمره (١٨٣٦ - ١٩٣١م)، فلا غَرْوَ أن يخطأ (نولدكه) خطأً مزدوجاً، فهو لم يَفهم النصّ العربي للآية، ثُمّ إنّه يؤكّد أنّ المطر يكاد يَنعدم في مصر، وأهلُها لم يشعروا أبداً باحتياجهم له! وهو الخطأ الذي لا يقع فيه أحد من صبية مصر! على حدّ تعبير الأُستاذ البدوي (١) .

والعجب أنّه لم يَطّلع على ما كَتبه (سال Sale ) في تَرجمة القرآن التي أَنجزها وانتشرت خلال القرن الثامن عشر، إنّه يترجم الآية هكذا:

Then shall there come, after this a year wherein men shall have plenty of rain ، end wherein they shall press wine and oil .

ونجده في ملاحظةٍ سجّلها في أسفل الصفحة يقول علينا أن نُفنّد ما كَتَبه بعض المؤلّفين القدامى، فلقد كانت تمطر عادةً في الشتاء خاصّة في الوجه البحري، وقد لُوحظ الثلج في الإسكندريّة على نقيض ما يزعمه ( Seneca ) صراحةً، فعلاً تُصبح الأمطار أكثر ندرةً في الوجه القبلي في اتجاه شلاّلات النيل، وعلى أيّة حالٍ فإنّنا نفترض أنّ الأمطار التي ذُكرت هنا - في الآية - قُصد بها تلك التي تَسقط في (إثيوبيا) وتُسبّب ارتفاع منسوب النيل (٢) .

____________________

(١) معدّل الأمطار التي تسقط في الإسكندريّة وشمال الدلتا يُقدّر بـ ٢٠٦ ملم، وفي القاهرة ٣٣ ملم، انظر: Suggate . l.s . Africa ، London ، Harap ، ١٩٧٤ (الدفاع عن القرآن، ص١٨٧ - ١٨٨).

(٢) The Koran ، translated into Englis c h from the original Arabic by George Sale هذه الترجمة صَدرت عام ١٧٣٤ (الدفاع عن القرآن، ص١٨٧).

٣٦٥

فيا تُرى كيف لم يَطّلع (نولدكه) على هذه الترجمة وهذه المـُلاحظة التي سجّلها (سال) وكانت في متناوله؟!

فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ

قال تعالى - فيما حكاه خطاباً لفرعون حينما أَدركه الغَرَق -: ( فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ) (١) ، وذلك عندما أَيقن بالغَرَق وقال: ( آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) (٢) ، قال تعالى: ( آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) (٣) .

قال هاشم العربي: وهذا يدلّ على أنّه تعالى نجّى فرعون من الغَرَق؛ ومِن ثَمّ يُناقض ما وَرد في سائر الآيات مِن أنّه تعالى أَغَرقه ومَن معه جميعاً (٤) .

وسَخَّف تأويلَ المفسّرين ذلك بإنقاذ جسده مِن قَعر البحر وجَعْله طافياً على وجه الماء، أو نَبذ الأمواج له إلى نَجوة (مكان مرتفع) من ساحل البحر؛ ليكون عبرةً للآتينَ، حيث يَجدوه مطروحاً بلا روح على الأرض، قال: هذا تأويل يُخالف ظاهر التعبير؛ حيث المـُتبادر من النجاة هو الخلاص من الغَرَق، قال: على أنّه ليس في ذلك (طفو الجسد على وجه الماء أو طرحه على الساحل) آيةٌ؛ لأنّ هذه حال أكثر الغَرقَى تطفو جُثَثُهم على الماء أو يُلقيها البحر بالساحل (٥) .

لكنّه لم يُمعن النظر في التعبير بالبَدن، وهي الجُثّة بلا روح، فلو كان أَراد تَنجيتَه لجاء التعبير: (ننجّيك) بلا زيادة قوله: (ببدنك)، فهذه الزيادة دَلّتنا على اختصاص البَدن (الجسد بلا روح) بالنجاة.

والمـُراد بالنجاة هو الخلاص ببدنِه سليماً مِن مقضمة الحيوانات البحريّة ومن غير أن يتفتّت أشلاءً أو يتفسّخ.

____________________

(١) يونس ١٠: ٩٢.

(٢) يونس ١٠: ٩٠.

(٣) يونس ١٠: ٩١، وراجع الإسراء ١٧: ١٠٣، والزخرف ٤٣: ٥٥، والقصص ٢٨: ٤٠.

(٤) ملحق ترجمة كتاب الإسلام، ص٣٧٩ - ٣٨٠.

(٥) راجع ما كتبه الشيخ الطنطاوي بهذا الشأن في تفسير الجواهر، ج٦، ص٨١ و١٠٥.

٣٦٦

الأمر الذي بقيَ معجزةً خالدةً، فها هو جسد فرعون المـُنحّط، معروض للعامّة، وقد شاهدتُه في متحف بريطانيا الأثري، وجُثث أُخرى معروضةً هناك وفي مَتاحف مصر أيضاً.

مَن هو فرعون موسى؟

وفرعون هذا يقال: إنّه (توت عنخ أمون) من ملوك الأُسرة الثامنة عشرة وكانت مدّة مُلكه ما بين (١٣٤٨ - ١٣٣٧ق. م) أي قبل ثلاثة آلاف وثلاثمِئة سنة تقريباً (١) .

وقيل: هو منفطا (منفتاح) الأَوَّل من الأُسرة التاسعة عشرة (١٢٢٣ - ١٢١١ ق. م). وقيل: ابنه (سيتي) الثاني (١٢٠٧ - ١٢٠٢ ق. م) (٢) .

وفي أيّامه اختلّ الأَمن وسادت القلاقل وهَلك سيتي بعد أنْ مَلَك مدّةً قصيرةً، وقد عُثر على جُثّته في قبر (أمنهوتب) الثاني بطيبة، فانفرد الوُلاة كلٌّ بولايته؛ ومِن ثَمَّ كثر وفود الأجانب على مصر (٣) .

ولقد صدق اللّه سبحانه حيث يقول: ( كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ ) (٤) .

( كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) (٥)

هل ورثت بنو إسرائيل ديار مصر بعد غَرَق فرعون وجنوده؟

ليس في الآية تصريح بذلك، وإنّما هو الاستيلاء على ديارٍ كان مُلوك مصر مُسيطرينَ عليها، وليس على نحو الشُمول، ففي سورة الأعراف - بعد أنْ ذَكَر قصّة الغَرَق - قال: ( وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا

____________________

(١) تفسير الجواهر، ج٦، ص٨١ - ٨٢.

(٢) دائرة معارف القَرن العشرين، ج٩، ص٣٠، وراجع: الموسوعة المصريّة (تأريخ مصر القديمة وآثارها): المجلّد الأَوّل، الجزء الأَوّل، ص٥٩.

(٣) المصدر.

(٤) الدخان ٤٤: ٢٥ - ٢٨.

(٥) الشعراء ٢٦: ٥٩.

٣٦٧

فِيهَا ) (١) ، والأرض المباركة هي أرض فلسطين والشامات (٢) ، وهي عامرة بوِفرة الخِصب وكثرة الأرزاق، ومشارق الأرض ومغاربها إشارةً إلى سُلطان داود وسليمان على بني إسرائيل وأنّهما أقاما دولةً واسعة الأرجاء في فلسطين امتدّت إلى شرق البلاد وغربها في عرضٍ عريض.

وأمّا قوله تعالى: ( كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ ) (٣) ؛ فلعلّه أراد الفَوضى التي حصلت بعد هلاك (سيتي) الثاني وتواترت وفود الأجانب على البلاد كما قدّمنا (٤) ، وإن كان أُريد بهم قوم إسرائيل فيُحمل على إرادة أرض فلسطين كالآية السابقة.

شُبهة وجود اللَحن في القرآن

قالوا: وأيّ باطل بعد الخطأ واللَحن تبتغون؟ وقد رَوَيتم عن عائشة أنّها قالت: ثلاثة أحرف في كتاب اللّه هُنّ خطأٌ من الكاتب:

١ - قوله: ( إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ ) (٥) .

٢ - قوله: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ ) (٦) .

٣ - قوله: ( وَالْمُقِيمِينَ الصّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزّكَاةَ ) (٧) .

ورَوَيتم عن عثمان: أنّه نَظَر في المـُصحف بعد ما رُفع إليه فقال: أرى فيه لَحناً وستُقيمه العرب بألسنتها (٨) .

وَنَسبوا إلى التابعي الكبير سعيد بن جُبير أنّه زَعَم أنّ في القرآن لَحناً في أربعة مواضع، وذَكَر الموارد الثلاثة، وزاد الرابعة قوله تعالى: ( فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ) (٩) .

____________________

(١) الأعراف ٧: ١٣٧.

(٢) جاء هذا التعبير بشأن أرض فلسطين وما والاها في مواضع من القرآن: الإسراء ١٧: ١، الأنبياء ٢١: ٧١، الأعراف ٧: ١٣٧.

(٣) الدخان ٤٤: ٢٨.

(٤) راجع: دائرة معارف القَرن العشرين، ج٩، ص٣٠.

(٥) طه ٢٠: ٦٣.

(٦) المائدة ٥: ٦٩.

(٧) النساء ٤: ١٦٢.

(٨) راجع: تأويل مشكل القرآن، ص٢٥ - ٢٦.

(٩) المصاحف للسجستاني، ص٣٣ - ٣٤، والآية ١٠ من سورة المنافقين.

٣٦٨

وقالوا في قوله تعالى ( يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ) : (١) كان ينبغي التأنيث في العدد؛ لأنّ التقدير: وعشرة أيّام!

وهكذا زَعَم مَن لا دراية له من المـُستشرقين وأَذنابهم أنّ في القرآن لَحناً، وتَغافلوا عن أنْ لو كان الأمر على ذلك لاتخذه مناوئو الإسلام من أَوَّل يومه ذريعةً للغَمز فيه وهم عربٌ أَقحاحٌ، ولم يكن يَصل الدور إلى هؤلاء الأجانب الأسقاط (٢) .

ليس في القرآن لَحن

لاشكّ أنّ القرآن من أقدم أسناد اللغة ذوات الاعتبار، ولا مجال للترديد في حجّيته واعتباره بعد حضوره في عصرٍ كان العرب في أَوْج حضارتها الأدبيّة الراقية، وكانوا أعداء ألدّاء له يتحيّنون الفُرص للغَمز فيه من أيّ جهةٍ كانت، لولا اعترافاتهم الصريحة باعتلائه الشامخ في الأدب الرفيع، فهل يُعقل أنْ يكون في القرآن مسارب للغَمز فيه تَغَافَلها أولئك الأقحاح ليَتعرّف إليها هؤلاء الأذناب؟

على أنّ الصحيح من كلّ لغة هو ما حَفظته أسنادهم العتيدة، ولتكون هي المعيار في تمييز السليم عن السقيم، هذا ابن مالك - إمام في النحو والأدب ولغة العرب - يَجعل القرآن قدوةً في تنظيم قواعد اللغة وترصيف أدبها، يقول:

وسَبْقُ حالٍ ما بحرفٍ جُرَّ قَدْ

أَبَوا ولا أمنَعُه فَقَدْ وَرَدَ

يعني: أنّ بعض النُحاة ذهبوا إلى عدم جواز تقدّم الحال على ذي حالٍ مجرور بحرف، ولكنّي أُجيز ذلك، استناداً إلى وروده في سندٍ قويم وهو القرآن الكريم، في قوله تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ كَافَّةً لِلنَّاسِ ) (٣) ، لتكون (كافّةً) حالاً من (الناس).

فقد جَعَل القرآن سنداً قطعياً لقاعدة لغوية، دون العكس على ما زَعَمه الزاعمون.

فكلّ ما جاء في القرآن هو الحجّة والسند القاطع لفهم مجاري الأدب الرفيع.

____________________

(١) البقرة ٢: ٢٣٤.

(٢) انظر: تأريخ القرآن لنولديكه، ج٣، ص٢ - ٤، آراء المستشرقين حول القرآن، ج٢، ص٥٥٥ - ٥٧٤.

(٣) سبأ ٣٤: ٢٨.

٣٦٩

* * *

فما زَعَمه الزاعمون من وجود لَحنٍ في كتاب اللّه فإنّما هو؛ لقصور فهمٍ وعدم اضطلاع بمباني اللغة الأصيلة وإليك توضيحاً لهذا الجانب:

أمّا قوله تعالى: ( إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ ) (١) فالقراءة الصحيحة المـُتّبعة وهي قراءة حفص وجمهور المسلمين هي القراءة بالتخفيف، مخفّفاً عن المثقّلة؛ بدليل وجود اللام في الخبر، وكان أبو عمرو بن العلاء - وهو أعلم أهل زمانه بالقرآن والعربيّة وآدابها - يقول: إنّي لأَستحيي أنْ أقرأ بالتشديد ورفع الاسم، فالخطأ موجّه إلى تلك القراءة المرفوضة وليس في القرآن، الذي يلهج به عامّة المسلمين وعلى رأسهم قراءة حفص ذات الإسناد الذهبي إلى الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام).

أمّا الحَمل على لغة بَلْحَرث بن كعب، حيث كانوا يلهجون في المثنّى بالألف مطلقاً - كما فعله ابن قتيبة - (٢) فغير سديد؛ لأنّ القرآن نزل وِفق اللغة الفُصحى ولا يُحمل على الشواذّ المنبوذة (٣) .

* * *

وأمّا الرَفعُ في المعطوف عن منصوب (إنّ) في قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ ) (٤) قَبل استكمال الخبر؛ فلكونه عطفاً على محلّ الاسم وهو رفع بالابتدائيّة، ورُجّح ذلك لوجهين:

أحدهما: مُناسبة الواو في (هادوا) في حين عدم ظهور إعراب الاسم بسبب البناء، قال الفرّاء: ويجوز ذلك إذا كان الاسم ممّا لم يَتبيّن فيه الإعراب، كالمـُضمر والموصول (٥) ، كقول الضابئ بن الحارث البرجمي:

فمَن يكُ أمسى بالمدينةِ رحلُهُ

فإنّي وقيّارٌ بها لغريبُ

____________________

(١) طه ٢٠: ٦٣.

(٢) راجع: تأويل مشكل القرآن، ص٥٠.

(٣) وقد أَسَهب ابن قتيبة في هذا المجال، وذكر أشياء فيها فوائد كثيرة، فراجع، وقد فصّلنا الكلام حول الآية في كتابنا (صيانة القران من التحريف)، ص١٨٢ - ١٨٣، طبق ١٤١٨.

(٤) المائدة ٥: ٦٩.

(٥) مجمع البيان، ج٣، ص٢٢٤.

٣٧٠

وقال بشر بن حازم:

وإلاّ فاعلَموا أنّا وأنتم

بُغاةٌ ما بَقينا في شِقاق

ورجّح ذلك في الآية رعايةً لمـُناسبة الواو في (هادوا) نظير العطف على الجِوار، قال الكسائي: هو نسقٌ على ما في (هادوا) (١) .

كما رجّح النَصب على الأصل في آيةٍ أُخرى نظيرتها أيضاً لمناسبة الجِوار، وذلك في قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ ) (٢) لمـُناسبة الياء في (النصارى) (٣) .

ثانيهما: ما ذَكَره ابن قتيبة، قال: جواز الرفع في مِثل ذلك إنّما كان؛ لأجل عدم تغيير في مفهوم الابتدائيّة سواء قبل دخول (إنّ) أو بعده، حيث إنّها تزيد معنى التحقيق ولا تزيد معنى آخر سِوى ما كانت الجملة تفيدها ذاتاً؛ ومِن ثَمّ لا يجوز ذلك في المعطوف على اسم (لعلّ) أو (ليتَ) لزيادة معنى الترجّي أو التمنّي في مفهوم الكلام.

وقال: رُفع (الصابئون) لأنّه ردٌّ (أي عطف) على موضع الاسم وموضعه رُفع؛ لأنّ (إنّ) مبتدأةٌ ولم تُحدث في مفهوم الكلام معنىً كما تُحدث أخواتها؛ أَلا إنّك تقول (زيد قائم) ثُمّ تقول (إنّ زيداً قائم)، ولا يكون بين الكلامَينِ فرقٌ في المعنى، سِوى زيادة التأكيد، لكنّك إذا قلتَ (زيدٌ قائم) ثُمّ (لعلّ زيداً قائم) أو (ليتَ زيداً قائم) فقد أَحدثتَ معنى الشكّ (الترجّي) أو التمنّي في مفهوم الكلام؛ ومِن ثَمّ لا يجوز الرفع في المعطوف على الاسم في غير (إنّ) من سائر أخواتها (٤) .

وأمّا النَصب في (المقيمين) من قوله تعالى: ( لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ) (٥) - وطرفاه على الرفع - فلأنّه على القطع؛ لأجل المـَدح والاختصاص، وهو شائع في اللغة.

____________________

(١) المصدر.

(٢) البقرة ٢: ٦٢.

(٣) مجمع البيان، ج٣، ص٢٢٥.

(٤) تأويل مشكل القرآن، ص٥٢.

(٥) النساء ٤: ١٦٢.

٣٧١

ونظيره قوله تعالى في موضعٍ آخر: ( وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ) (١) ، قال سيبويه - في باب ما يُنتصب في التعظيم والمدح -: وسمعنا بعض العرب يقول: الحمد لله ربَّ العالمين - بنصب الربّ - فسألت عنها يونس فزعم أنّها عربيّة (٢) ، قال: ومنها (والمقيمين) و(الصابرين) فقُطع إلى النصب مدحاً، وهذا باب شائع في العربيّة، وتكلّم فيه سيبويه بتفصيل (٣) .

وهكذا قال أبو عبيد، قال: هو نصبٌ على تَطاول الكلام بالنسق، أي للإيفاد بالكلام تطريةً تُخرجه على تطاول النسق، فيجوز القطع إلى النصب وإلى الرفع تطريةً للكلام وإخراجه عن نسقٍ واحد، وأنشد للخِرِنْق بنت هفّان:

لا يَبعَدن قومي الذين هُمُ

سُمُّ العُداةِ وآفة الجُزْرِ

النازلينَ بكلِّ مُعتَركٍ

والطيّبون معاقِدَ الأُزرِ (٤)

* * *

وأمّا الجزم في (وأَكنْ) معطوفاً على (فأَصَّدَقَ) فمحمول على موضع (فأصّدّق) لو لم يكن فيه الفاء، وموضعه جزم، جواباً لـ (لولا) في قوله تعالى: ( فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ) (٥) ، وهو من العطف على التوهّم، وهو شائع في اللغة، كما في قول الشاعر:

فأَبلوني بليّتكم لعلّي

أصالِحُكم وأستدرجْ نَوَيّاً

فجزم (أستدرج) معطوفاً على موضع (أصالحُكم) بتوهّم أنّه لو لم يكن قبلها (لعلّي)؛ لأنّه قال: فأبلوني بليّتكم أصالِحْكم واستدرج (٦) .

وللفرّاء هنا كلامٌ مُسهبٌ أتى فيه بفوائد جمّة، نذكره على طوله:

____________________

(١) البقرة ٢: ١٧٧.

(٢) كان سيبويه يحترم آراء يونس، ويأخذها حجّة، والزَعم هنا بمعنى الرأي والنظر.

(٣) راجع: كتاب سيبويه، ج١، ص٢٨٨ - ٢٩١.

(٤) تأويل مشكل القرآن، ص٥٣.

(٥) المنافقون ٦٣: ١٠.

(٦) راجع: تأويل مشكل القرآن، ص٥٦.

٣٧٢

قال: فإذا أَدخلتَ في جواب الاستفهام فاءً نَصبت، كما قال اللّه تبارك وتعالى: ( رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ ) (١) .

فإذا جئت بالمعطُوف التي تكون في الجزاء وقد أجبته بالفاء كان لك في العطف ثلاثة أوجه:

١ - إنْ شِئت رفعتَ العطف، مثل قولك: إنْ تأتني فإنّي أهل ذاك، وتُؤجَرُ وتُحمدُ، وهو وجه الكلام.

٢ - وإن شِئت جزمتَ، وتجعله كالمردود على موضع الفاء.

والرفع على ما بعد الفاء، وقد قرأَتْ القرّاء: ( مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ ) (٢) ، رُفع وجُزم.

وكذلك ( إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ ) (٣) ، جُزم ورُفع.

ولو نصبتَ على ما تنصب عليه عطوف الجزاء إذا استغنى لأَصبت، كما قال الشاعر وهو النابغة الذبياني:

فإنْ يَهلِكِ النعمانُ تُعْرَ مَطِيَّهُ

وتُخبأَ في جوفِ العياب قُطوعُها

وإنْ جزمت عطفاً على ما نصبت تردّه على الأَوّل كان صواباً، كما قال الشاعر بعد هذا البيت:

وتنحَطْ حصانٌ آخر الليلِ نَحطَةً

وتُخبأَ في جوفِ العياب قُطوعُها

وهو كثير في الشعر والكلام، وأكثر ما يكون النص في المعطوف إذا لم تكن في جواب الجزاء الفاء، فإذا كانت الفاءُ فهو الرفع والجزم.

____________________

(١) وقد عدّ (لولا) هنا في أدوات الاستفهام، وهذا المعنى ذكره الهروي - كما في المغني لابن هشام: حرف اللام، ج١، ٢٧٥ والطبعة الحجريّة، ص١٤٤ ومَثّل له بالآية، وقال الأمير في التعليقة على المـُغني: الاستفهام هنا بعيدٌ جداً، ورجّح أنْ يكون معنى العرض أو التحضيض.

(٢) الأعراف ٧: ١٨٦.

(٣) البقرة ٢: ٢٧١.

٣٧٣

٣ - وإذا أجبت الاستفهام بالفاء فنصبت فانصب العطوف، وإنْ جزمتها فصواب، من ذلك قوله تعالى: ( لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ ) (١) ، رددت (وأكنْ) على موضع الفاء؛ لأنّها في محلّ جزمٍ، إذ كان الفعل إذا وقع موقعها بغير الفاء جُزم، والنصب على أنْ تردّه على ما بعدها، فتقول: (وأكون)، وهي قراءة عبد اللّه بن مسعود (وأكون) بالواو.

وقد قَرأَ بها بعض القرّاء (هو أبو عمرو بن العلاء)، قال: وأرى ذلك صواباً (أي القراءة بالواو مع عدم كَتَبها في المـُصحف)؛ لأنّ الواو ربّما حُذفت من الكتاب وهي تُراد، لكثرة ما تُنقص وتُزاد في الكلام...

وقال بعض الشعراء (هو أبو داود الأيادي):

فأبلوني بليّتكم لعلّي

أُصالِحُكُم وَأَسْتَدْرِجْ نويّاً

فجُزم (أَسْتَدْرِجْ) فإنْ شِئت رَدَدتَه إلى موضع الفاء المضمرة في (لعلّي)، وإنْ شِئت جعلته في موضع رفع فسكّنت الجيم لكثرة توالي الحركات، وقد قرأ بعض القرّاء ( لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ ) (٢) بالجزم وهم يَنوون الرفع، وقرأوا ( أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ) (٣) ، والرفع أحبّ إليَّ من الجزم (٤) .

* * *

وأمّا قوله تعالى: ( أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشـْراً ) (٥) فليس التقدير (عشرة أيام) إنّما التقدير في مِثل ذلك عند العرب (عشر ليال). كما في قولهم: لخمس بقين أو خَلون من رجب، والتقدير في حساب الأيّام عند العرب بالليالي دون وضح النهار؛ ومِن ثَمّ تُحسب الليلة من أَوّل الشهر من الشهر، ويبدأ كلّ شهر بليلة أَوّله، فالنهار تابعٌ للّيل كما في آخر الشهر.

____________________

(١) المنافقون ٦٣: ١٠.

(٢) الأنبياء ٢١: ١٠٣.

(٣) هود ١١: ٢٨.

(٤) راجع: معاني القرآن، ج١، ص٨٦ - ٨٨.

(٥) البقرة ٢: ٢٣٤.

٣٧٤

( وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً) (١)

قالوا: فيه لَحن، أَوّلاً تأنيث العدد مع أنّ التمييز مُذكّر، وثانياً جمع التمييز، والصحيح إفراده هنا (٢) .

لكن الكلام يتمّ بالعدد من غير ما حاجةٍ إلى ذِكر التمييز، كما في نظائره من قولك: قطّعتُ اللحم أربعاً، أي أربع قطع، وجئناك خمسةً، أي خمسة أشخاص، ( وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ ) (٣) ، أي بعشر ليالٍ، ( يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ) (٤) ، أي عشر ليال؛ وذلك لأنّ الاعتبار بحساب الليالي - كما قدّمنا - ( إِنْ لَّبِثْتُمْ إِلاّ عَـشْراً ) (٥) ، ( فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ ) (٦) ، ( عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ) (٧) ، أي خازناً.

كلّ ذلك لمعلوميّة المعدود من غير حاجة إلى ذِكره، وكذا هنا، إذ قولك: فرّقتهم اثنتي عشرة، تعني: اثنتي عشرة فِرقةٍ، (وحذف ما يُعلم جائز)، بل ذِكره إمّا تأكيدٌ أو حشوٌ زائد.

قال المفسّرون: (أسباطاً) بدلٌ من (اثنتي عشرة)، تقديره: وفرّقناهم فِرَقاً أسباطاً وجعلناهم أُمَماً متفرّقة لا مُجتمعة، وهذا نَكال بهم من أَوّل يومِهم، حيث تفرّقهم في الرأي وعن إتّباع الرسول منذ البدء، على خلاف ما حَظيت به هذه الأُمّة من الاجتماع ووحدة الكلمة والتفافهم حول الرسول ( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) (٨) ، الأمر الذي أراده بشأن كلّ اُمّةٍ من الأُمَم رُغم تفرّقهم وتشعّبهم فِرَقاً ( وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً (أي قطعاً كزُبرِ الحديد أي صفحاته) كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ) (٩) ، الأمر الذي مُنيَ به بنو إسرائيل حيث تشتّتهم وتطاحنهم في الحياة.

____________________

(١) الأعراف ٧: ١٦٠.

(٢) هاشم العرب في ملحق ترجمة كتاب الإسلام، ص٤١٧.

(٣) الأعراف ٧: ١٤٢.

(٤) البقرة ٢: ٢٣٤.

(٥) طه ٢٠: ١٠٣.

(٦) القصص ٢٨: ٢٧.

(٧) المدّثر ٧٤: ٣٠.

(٨) الأنبياء ٢١: ٩٢.

(٩) المؤمنون ٢٣: ٥٢ و٥٣.

٣٧٥

( وَنُقَدِّسُ لَكَ) (١)

زَعَم المـُتعرّب (هاشم العربي) أنّ في ذلك لَحناً؛ حيث زيادة اللام من غير حاجة إليها وكان الصواب (نقدّسك) لأنّ الفعل متعدٍّ بنفسه، اللّهمّ إلاّ أنْ يُقدَّر المفعول به شيئاً من الأشياء، الأمر الذي يزيد في إبهام الكلام (٢) .

لكنّه لم يدرِ الفَرق بين (قَدَّسَه) و(قدّس له)!

يقال: قَدَّسه أي نَزَّهه ومَجَّده، أما إذا قيل: قَدَّس له، فيعني: تطهير النفس تمهيداً لإمكان الحضور لدى ساحة قُدسه تعالى.

قال أرباب اللغة: يقال: قَدّس الرّجلُ اللّهَ، أي نَزّهه ووَصَفه بكونه قُدُّوساً، والقُدّوس: المـُتنزّه عن العُيوب والنقائص، وقَدَّس للّه، أي طهّر نفسه له، وذلك بأنْ مهّدها لإمكانِ الاستفاضةِ من أنوار الملكوت.

كانت الملائكة ترى من بني آدم ذواتاً منكدِرة لا تصلح للاستجلاء بجلاءٍ يَليق بمقام القُدس الأعلى، فعرضت نفسها وهي صالحة للاقتراب من مقام القرب الأدنى.

لكنّه تعالى أعلم بالمصالح فيما يُقدّر ويُدبّر. ( قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ) (٣) .

ثُمَّ على فرض التقدير في الكلام فإنّه ليس على ما فَرَضَه المتعرّب من الإبهام، قال الراغب: ( وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ) أي نُطهّر الأشياء ارتساماً لك (٤) ، أي بدلاً من بني آدم - حيث يُفسدون في الأرض أي يَعبثون بوجوه الأشياء ليُغيّروها إلى جهة الفساد - نقوم نحن بتطهير الأشياء وتصقيلها إلى حيث الصفاء والجَلاء التامّ، الأمر الذي يتحقّق منه الامتثال التامّ لما أراده تعالى من الطهارة والنزاهة في خليقته جمعاء.

ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ

قال تعالى: ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (٥) .

____________________

(١) البقرة ٢: ٣٠.

(٢) ملحق ترجمة كتاب الإسلام، ص٤٣٤.

(٣) البقرة ٢: ٣٠.

(٤) المفردات، ص٣٩٦.

(٥) آل عمران ٣: ٥٩.

٣٧٦

قالوا: وكان ينبغي أنْ يقول: ثُمّ قال له كنْ فكان.

قال بعضهم - تجاسراً على كتاب اللّه -: آثر الرويّ على المعنى، فآثر الإخلال بالمعنى ليستقيم له الرويّ، وزاد بشاعةً في القول: قد سَاقه إليه ما أَلفه لسانُه - يَعني مُحمّداً (صلّى اللّه عليه وآله) حيث كرّره في ستّة مواضع من كتابه بصيغة المضارع، ممّا كان متناسباً فيها غير ما هنا (١) .

لكن المسكين ذَهب عنه أنّ هذه الجُملة تُمثّل كلمة التكوين وليست تكليفاً بالقول؛ ومِن ثَمَّ كان المسيح (عليه السلام) كلمة اللّه ألقاها إلى مريم (٢) .

قال الشيخ مُحمّد عَبده: يجوز أن تكون كلمة التكوين مجموع (كن فيكون) والمعنى: ثُمَّ قال له كلمة التكوين التي هي عبارة عن توجّه الإرادة إلى الشيء ووجوده بها حالاً، قال: ويظهر هذا في مِثل قوله تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ ) (٣) ، ولو كان القول للتكليف لم يَظهر هذا؛ لأنّ قول التكليف من صفة الكلام، وقول التكوين من صفة المشيئة (٤) .

فلفظة (كن) تُمثّل إرادته تعالى المـُتعلّقة بتكوين شيء، و(فيكون) تُمثّل تكوين الشيء حالاً فورَ إرادته تعالى، الأمر الذي يَتمثّل في لفظة المضارع الدالّة على التحقّق في الحال، ولا يصلح لذلك صيغة الماضي إلاّ بتأويله إلى إرادة الحال أي (فكان في الحال)، وهذا ممّا يكفله صيغة المضارع من غير تأويل، وهذا هو معنى قولهم: (فيكون) حكايةُ حالٍ ماضية.(٥) أي وإن كان الأمر قد مضى، لكنّها حكاية عن أمر كان حالاً في ظرفه: فقد تَكَوَّن الشيء حالاً فورَ الإرادة، وهذا من تصوير الحال الماضية كما يقول أهل المعاني.

فمعنى قوله (كن فيكون): أنْ لا فاصل زمنيّاً بين إرادته تعالى وتكوين الشيء ( وَمَا أَمْرُنَا إِلاّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ) (٦) ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (٧) ، أي لا فاصل

____________________

(١) هاشم العربي في ملحق ترجمة كتاب الإسلام، ص ٤١٧ - ٤١٨.

(٢) إشارة إلى الآية ١٧١ من سورة النساء.

(٣) الأنعام ٦: ٧٣.

(٤) تفسير المنار، ج٣، ص٣١٩.

(٥) الكشّاف، ج١، ص٣٦٨.

(٦) القمر ٥٤: ٥٠.

(٧) يس ٣٦: ٨٢.

٣٧٧

- عند إرادته تعالى لتكوين شيء - بين هذه الإرادة وتكوين ذاك الشيء حالاً.

قال الحجّة البلاغي: (فيكون) فعل مضارع دالّ على الثبوت، لبيان الملازمة الدائمة بين قوله (كن) وبين تكوّن الشيء بهذا الأمر لا محالة، وبهذه القُدرة التامّة والمـُلازمة الدائمة خُلق عيسى من غير فَحل، إذ قال له: (كن).

وهو كلام صادر في مقام الاحتجاج بالتمثيل، ولا تقوم الحجّة بهذا التمثيل ولا يحصل المراد منه في الاحتجاج إلاّ ببيان الملازمة.

وهذا بخلاف ما لو قال: كن فكان؛ لأنّ هذا الأُسلوب (الثاني) لا يُفيد إلاّ أنّ آدم كان، سواءٌ أَكان ذلك باتفاق أم بملازمة خاصّة بذلك الكون أو عامّة، وهو أمرٌ معلوم لا فائدة في بيانه ولا حجّة فيه على خَلق عيسى من غير فحل، فلا يكون التفريع لو قيل: كن فكان، إلاّ لغواً في كلام متهافت (١) .

والخلاصة: أنّ المـُضارعة هنا يدلّ على المـُلازمة الدائمة بين قولة (كن) والتكوين، فصحّ جريانه بشأن آدم والمسيح على سواء، وهذا على خلاف ما لو قيل (فكان)؛ لاحتمال مجرّد الاتفاق وليس عن ملازمةٍ دائمة... وهو تنبّه لطيف أَفادته قريحة شيخنا العلاّمة البلاغي المهديّ بهداية اللّه تعالى، فرحمة اللّه عليه مِن مجاهد في سبيل اللّه بالعلم والعمل الدائب، أفاض اللّه عليه شآبيب رضوانه، آمين.

( وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) (٢)

قال هاشم العربي: كان الصواب أنْ يقول: وكان قدّامهم... (٣)

قلت: ما أقبح بالرجل لا عِلم له بالعربيّة وهو يتجرّأ في تخطئة أقدم وأقوم كلام عربي رصين، القرآن أصحّ سند عتيد حَفِظ على العرب لغتَهم الأصيلة، ولا تزال العرب تعرف أصالتها من القرآن وتَستلهم أساليب كلامها من تعابير القرآن، هذا ما يبدو من العرب خضوعهم تجاه عظمة القرآن، سواءٌ أكانوا ممّن آمنوا به وصدّقوه وحياً - وهم

____________________

(١) الهدى إلى دين المصطفى، ج١، ص٣٨٠.

(٢) الكهف ١٨: ٧٩.

(٣) ملحق ترجمة كتاب الإسلام، ص٤٢٦.

٣٧٨

الأكثرية الساحقة - أم الذين بقوا على جاهليّتهم الأُولى وهم النَزر اليسير، لكنّهم جميعاً بَخعوا أمام كبرياء هذا الكتاب وجبروت هذا الكلام.

فيا لصاحبنا المسكين يُخطّئ ويُصوّب فيما لا شأن له!

إنّ كلمة (وراء) في هكذا موارد من استعمالاتها يُراد بها: الكارثة الخطيرة التي تَتَعقّبهم في مسيرة الحياة، والمعنى أنّهم سائرون لاهينَ، وتلاحقهم داهيةٌ دَهماءٌ تسعى وراءهم للنيل منهم وهم غافلون عنها غير مبالين بها، وهو مِن ألطف الكنايات.

وهذا كما في قوله تعالى: ( وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) (١) ، ( مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئاً ) (٢) ، ( مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ ) (٣) ، ( وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ) (٤) .

وهكذا جاء استعماله في الشعر الجاهلي، قال لبيد:

أَليسَ ورائي إنْ تراختْ مَنيّتي

لُزُوُمُ العَصا تُحنى عليها الأَصابعُ

وقال عبيد:

أَليسَ ورائي إن تراخت مَنيّتي

أدبُّ مع الوِلدان أزحفُ كالنسرِ

وقال المرقش:

ليسَ على طولِ الحياة ندمٌ

ومِن وراء المرء مالا يعلمُ (٥)

قوله: أَليسَ ورائي، أي أَليس يتعقبني لزوم العصا؟ وهو تعبير كنائي عن الانتظار لهم في منتهى خطّ المسير، فكان قول المفسّرين: أمامهم، هو لازم المعنى ولم يُريدوا ترجمة اللفظة.

( وَطُورِ سِينِينَ) (٦)

قال المتكلّف: هذا ممّا أخطأ القرآن فيه مُراعياً للرويّ، والوجه: سيناء كما جاء في

____________________

(١) المؤمنون ٢٣: ١٠٠.

(٢) الجاثية ٤٥: ١٠.

(٣) إبراهيم ١٤: ١٦.

(٤) إبراهيم ١٤: ١٧.

(٥) راجع: الهدى إلى دين المصطفى، ج١، ص٣٥٢.

(٦) التين ٩٥: ٢.

٣٧٩

سورة المؤمنون ( وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ ) (١) .

لكنّه تَجاهلَ استعمال اللفظة بكِلا الوجهَين في العهد القديم:

كانت البريّة التي خَرَجَ إليها بنو إسرائيل - بعد اجتيازهم بحر سوف (البحر الأحمر) ومنطقتي شور وإيليم - تُسمّى بريّة (سين) والتي تنتهي إلى جبل سيناء.

جاء في سِفر الخروج: (ثُمّ ارتحلوا من إيليم وأتى كلّ جماعة بني إسرائيل إلى برّية سين التي بين إيليم وسيناء) (٢) .

وسِيناء - بكسر السين - اسم جبل (حوريب) (٣) وعَبّر عنه بسينيم أيضاً، كما أنّ الوادي كلّه سُمّي بسيناء (٤) وسينيم باعتبار فخامة هذا الجبل الواقع فيه، جاء في سِفر إشعياء: (هؤلاء من بعيد يأتون وهؤلاء من الشمال ومن المغرب وهؤلاء من أرض سينيم) (٥) .

قال جيمس هاكس: فَسَّره جماعة بوادي (سين) و(سيناء)؛ نظراً للمناسبة القريبة الملحوظة في عبارة الكتاب (٦) .

وهكذا جاءت اللفظة في القرآن مُعرّبةً (سيناء) بفتح السين، و(سينين) بقلب الميم نوناً كما هي العادة الجارية في لغة العرب، فلم يكن هناك تَضايق من جهة الرويّ كما زَعم.

ومِن المـُحتمل القريب أنّ (سينيم) جمع (سين) باعتبار أنّ الجمع في العِبريّة يأتي بالياء والميم، كما في (جَمَليم) و(حَمُوريم) و(رَكْبيم) جمع (جَمَل) و(حَمُور) و(رَكْب) (٧) ، وعليه فقد أتى القرآن بسينين جمعاً بالياء والنون على النهج العربي وذلك قد التئم الرويّ من غير تَكلّف الأمر الذي اشتبه على المعرّب، وكم له من نظير!

____________________

(١) راجع: ملحق ترجمة كتاب الإسلام، ص٤١٨، والآية ٢٠ من سورة المؤمنون.

(٢) سِفر الخروج، الإصحاح ١٦/١.

(٣) راجع: قاموس الكتاب المـُقدّس، ص٤٩٨ مادة (سيناء).

(٤) راجع: سِفر الخروج، الإصحاح ١٩/١: (جاؤوا إلى بريّة سيناء فنزلوا في البرّية، هناك نَزَل بنو إسرائيل مقابل الجبل) وفي الإصحاح ١٩/١٨: (فوقفوا في أَسفل الجبل، وكان جبل سيناء كلّه يُدخّن من أجل أنّ الرّبّ نَزَل عليه بالنار).

(٥) سفر ِإشعياء، الإصحاح، ٤٩ /١٢.

(٦) قاموس الكتاب المـُقدّس، ص٥٠٤.

(٧) راجع: الرِحلة المدرسيّة، ج١، ص٧٤ - ٧٥.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

قوله تعالى: ( إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَ كَفَرَ ) استثناء من المفعول المحذوف لقوله السابق:( فَذَكِّرْ ) و التقدير فذكّر الناس إلّا من تولّى منهم عن التذكرة و كفر إذ تذكرته لغو لا فائدة فيها، و معلوم أنّ التولّي و الكفر إنّما يكون بعد التذكرة فالمنفيّ بالاستثناء هو التذكرة بعد التذكرة كأنّه قيل: ذكّرهم و أدم التذكرة إلّا لمن ذكّرته فتولّى عنها و كفر، فليس عليك إدامة تذكرته بل أعرض عنه فيعذّبه الله العذاب الأكبر.

فقوله:( فَذَكِّرْ - إلى أن قال -إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَ كَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ ) في معنى قوله:( فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى‏ - إلى أن قال -وَ يَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى) الأعلى: 12 و قد تقدّم بيانه.

و قيل: الاستثناء من ضمير( عَلَيْهِمْ ) في قوله:( لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) و المعنى لست عليهم بمتسلّط إلّا على من تولّى منهم عن التذكرة و أقام على الكفر فسيُسلّطك الله عليه و يأمرك بالجهاد فتقاتله فتقتله.

و قيل: الاستثناء منقطع و المعنى لست عليهم بمتسلّط لكنّ من تولّى و كفر منهم يعذّبه الله العذاب الأكبر، و ما قدّمناه من الوجه أرجح و أقرب.

قوله تعالى: ( فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ ) هو عذاب جهنّم فالآية كما تقدّم محاذية لقوله في سورة الأعلى( الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى‏ ) .

قوله تعالى: ( إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ) الإياب الرجوع و( إِلَيْنا ) خبر إنّ و إنّما قدّم للتأكيد و لرعاية الفواصل دون الحصر إذ لا قائل برجوع الناس إلى غير الله سبحانه و الآية في مقام التعليل للتعذيب المذكور في الآية السابقة.

قوله تعالى: ( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ ) الكلام فيه كالكلام في الآية السابقة.

٤٠١

( بحث روائي‏)

في المجمع، و قال أبوعبداللهعليه‌السلام : كلّ ناصب و إن تعبّد و اجتهد يصير إلى هذه الآية( عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تَصْلى‏ ناراً حامِيَةً ) .

أقول: و رواه في ثواب الأعمال، مسنداً و لفظه: كلّ ناصب و إن تعبّد و اجتهد يصير إلى هذه الغاية( عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تَصْلى‏ ناراً حامِيَةً ) .

و فيه، عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الضريع شي‏ء في النار يشبه الشوك أمرّ من الصبر و أنتن من الجيفة و أشدّ حرّاً من النار سمّاه الله الضريع.

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً ) قال: الهزل و الكذب.

و فيه،: في قوله تعالى:( لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) قال: بحافظ و لا كاتب عليهم.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و عبد بن حميد و مسلم و الترمذيّ و النسائيّ و ابن ماجة و ابن جرير و الحاكم و ابن مردويه و البيهقيّ في الأسماء و الصفات عن جابر قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اُمرت أن اُقاتل الناس حتّى يقولوا: لا إله إلّا الله فإذا قالوها عصموا منيّ دماءهم و أموالهم إلّا بحقّها و حسابهم على الله ثمّ قرأ( فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) .

أقول: لا دلالة في الرواية على كون الاستثناء من ضمير( عَلَيْهِمْ ) و هو ظاهر.

و فيه، و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَ كَفَرَ ) يريد من لم يتّعظ و لم يصدّقك و جحد ربوبيّتي و كفر نعمتي( فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ ) يريد الغليظ الشديد الدائم( إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ) يريد مصيرهم( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ ) يريد جزاءهم.

و في النهج: و سئلعليه‌السلام : كيف يحاسب الله الخلق على كثرتهم؟ قال: كما يرزقهم على كثرتهم. قيل: فكيف يحاسبهم و لا يرونه؟ قال: كما يرزقهم و لا يرونه.

٤٠٢

و فيه، قال الصادقعليه‌السلام : كلّ اُمّة يحاسبها إمام زمانها، و يعرف الأئمّة أولياءهم و أعداءهم بسيماهم و هو قوله:( وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ‏ ) الحديث.

أقول: قد تقدّم توضيح معنى الحديث في تفسير الآية من سورة الأعراف، و روي هذا المعنى في البصائر، عن الصادقعليه‌السلام مسنداً و في الكافي، عن الباقر و الكاظمعليهما‌السلام و في الفقيه، عن الهاديعليه‌السلام في الزيارة الجامعة.

٤٠٣

( سورة الفجر مكّيّة و هي ثلاثون آية)

( سورة الفجر الآيات 1 - 30)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالْفَجْرِ ( 1 ) وَلَيَالٍ عَشْرٍ ( 2 ) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ( 3 ) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ( 4 ) هَلْ فِي ذَٰلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ ( 5 ) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ( 6 ) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ ( 7 ) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ( 8 ) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ ( 9 ) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ ( 10 ) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ ( 11 ) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ ( 12 ) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ( 13 ) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ( 14 ) فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ( 15 ) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ( 16 ) كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ( 17 ) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ ( 18 ) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا ( 19 ) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ( 20 ) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ( 21 ) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ( 22 ) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ ( 23 ) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ( 24 ) فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ ( 25 ) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ( 26 ) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ( 27 ) ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ( 28 ) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ( 29 ) وَادْخُلِي جَنَّتِي ( 30 )

٤٠٤

( بيان‏)

في السورة ذمّ التعلّق بالدنيا المتعقّب للطغيان و الكفران و إيعاد أهله بأشدّ عذاب الله في الدنيا و الآخرة فتبيّن أنّ الإنسان لقصور نظره و سوء فكره يرى أنّ ما آتاه الله من نعمه من كرامته على الله و أنّ ما يتلبّس به من الفقر و العدم من هوانه فيطغى و يفسد في الأرض إذا وجد و يكفر إذا فقد و قد اشتبه عليه الأمر فما يصيبه من القدرة و الثروة و من الفقر و ضيق المعاش امتحان و ابتلاء إلهيّ ليظهر به ما ذا يقدّم من دنياه لاُخراه.

فليس الأمر على ما يتوهّمه الإنسان و يقوله بل الأمر كما سيتذكره إذا وقع الحساب و حضر العذاب أنّ ما أصابه من فقر أو غنى أو قوّة أو ضعف كان امتحاناً إلهيّاً و كان يمكنه أن يقدّم من يومه لغده فلم يفعل و آثر العقاب على الثواب فليس ينال الحياة السعيدة في الآخرة إلّا النفس المطمئنّة إلى ربّها المسلمة لأمره الّتي لا تتزلزل بعواصف الابتلاءات و لا يطغيه الوجدان و لا يكفره الفقدان.

و السورة مكّيّة بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: ( وَ الْفَجْرِ وَ لَيالٍ عَشْرٍ وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ وَ اللَّيْلِ إِذا يَسْرِ هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ) الفجر الصبح و الشفع الزوج، قال الراغب: الشفع ضمّ الشي‏ء إلى مثله و يقال للمشفوع شفع. انتهى. و سري الليل مضيّه و إدباره، و الحجر العقل فقوله:( وَ الْفَجْرِ ) إقسام بالصبح و كذا الحال فيما عطف عليه من ليال و الشفع و الوتر و اللّيل.

و لعلّ ظاهر قوله:( وَ الْفَجْرِ ) أنّ المراد به مطلق الفجر و لا يبعد أيضاً أن يراد به فجر يوم النحر و هو عاشر ذي الحجّة.

و قيل: المراد فجر ذي الحجّة، و قيل: فجر المحرّم أوّل السنة و قيل: فجر يوم الجمعة، و قيل فجر ليلة جمع، و قيل: المراد به صلاة الفجر، و قيل: النهار كلّه

٤٠٥

و قيل: فجر العيون من الصخور و غيرها و هي وجوه رديّة.

و قوله:( وَ لَيالٍ عَشْرٍ ) لعلّ المراد بها الليالي العشر من أوّل ذي الحجّة إلى عاشرها و التنكير للتفخيم.

و قيل: المراد بها الليالي العشر من آخر شهر رمضان، و قيل: الليالي العشر من أوّله، و قيل الليالي العشر من أوّل المحرّم، و قيل: المراد عبادة ليال عشر على تقدير أن يراد بالفجر صلاة الفجر.

و قوله( وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ ) يقبل الانطباق على يوم التروية و يوم عرفة و هو الأنسب على تقدير أن يراد بالفجر و ليال عشر فجر ذي الحجّة و العشر الأوّل من لياليها.

و قيل: المراد صلاتاً الشفع و الوتر في آخر الليل، و قيل: مطلق الصلاة فمنها شفع و منها وتر، و قيل: الشفع يوم النحر و الوتر يوم عرفة، و قيل: الشفع جميع الخلق لأنّه قال:( وَ خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً ) النبأ: 8 و الوتر هو الله تعالى، و على هذه الأقوال روايات ستوافيك في البحث الروائيّ الآتي إن شاء الله.

و قيل: المراد الزوج و الفرد من العدد، و في الإقسام بهما تذكير بالعدد لما في ضبط المقادير به من عظيم النعمة من الله سبحانه، و قيل: الشفع و الوتر جميع المخلوقات لأنّ الأشياء إمّا زوج و إمّا فرد، و قيل: الوتر آدم شفع بزوجته، و قيل: الشفع الأيّام و الليالي و الوتر اليوم الّذي لا ليل بعده و هو يوم القيامة، و قيل: الشفع الصفا و المروة و الوتر البيت الحرام، و قيل: الشفع أيّام عاد و الوتر لياليها، و قيل: الشفع أبواب الجنّة و هي ثمانية و الوتر أبواب جهنّم و هي سبعة إلى غير ذلك و هي كثيرة أنّهاها بعضهم إلى ستّة و ثلاثين قولاً و لا يخلو أكثرها من تحكّم.

و قوله:( وَ اللَّيْلِ إِذا يَسْرِ ) أي يمضي فهو كقوله:( وَ اللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ) المدّثر: 33 و ظاهره أنّ اللّام للجنس فالمراد به مطلق آخر الليل، و قيل: المراد به ليلة المزدلفة و هي ليلة النحر الّتي يسري فيها الحاجّ من عرفات إلى المزدلفة فيجتمع فيها على طاعة الله ثمّ يغدوا منها إلى منى و هو كما ترى و خاصّة على القول بكون المراد بليال

٤٠٦

عشر هو الليالي العشر الأوائل منها.

و قوله:( هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ) الإشارة بذلك إلى ما تقدّم من القسم، و الاستفهام للتقرير، و المعنى أنّ في ذلك الّذي قدّمناه قسماً كافياً لمن له عقل يفقه به القول و يميّز الحقّ من الباطل، و إذا أقسم الله سبحانه بأمر - و لا يقسم إلّا بما له شرف و منزلة - كان من القول الحقّ المؤكّد الّذي لا ريب في صدقه.

و جواب الأقسام المذكورة محذوف يدلّ عليه ما سيذكر من عذاب أهل الطغيان و الكفران في الدنيا و الآخرة و ثواب النفوس المطمئنّة، و أنّ إنعامه تعالى على من أنعم عليه و إمساكه عنه فيمن أمسك إنّما هو ابتلاء و امتحان.

و حذف الجواب و الإشارة إليه على طريق التكنية أوقع و آكد في باب الإنذار و التبشير.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ ) هم عاد الاُولى قوم هود تكرّرت قصّتهم في القرآن الكريم و اُشير إلى أنّهم كانوا بالأحقاف، و قد قدّمنا ما يتحصّل من قصصهم في القرآن الكريم في تفسير سورة هود.

قوله تعالى: ( إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ ) العماد و جمعه عمد ما يعتمد عليه الأبنية، و ظاهر الآيتين أنّ إرم كانت مدينة لهم معمورة عديمة النظير ذات قصور عالية و عمد ممدّدة، و قد انقطعت أخبار القوم عهدهم و انمحت آثارهم، فلا سبيل إلى الحصول على تفصيل حالهم تطمئنّ إليها النفس إلّا ما قصّة القرآن الكريم من إجمال قصّتهم أنّهم كانوا بعد قوم نوح قاطنين بالأحقاف و كانوا ذوي بسطة في الخلق اُولي قوّة و بطش شديد، و كان لهم تقدّم و رقي في المدنيّة و الحضارة لهم بلاد عامرة و أراض خصبة ذات جنّات و نخيل و زروع و مقام كريم و قد تقدّمت القصّة.

و قيل: المراد بإرم قوم عاد - و هو في الأصل اسم أبيهم سمّوا باسم أبيهم كما يقال: قريش و يراد به القرشيّون و يطلق إسرائيل و يراد به بنو إسرائيل - و المراد بكونهم ذات عماد كونهم اُولي قوّة و سطوة.

٤٠٧

و المعنى: أ لم تر كيف فعل ربّك بقوم عاد الّذين هم قوم إرم ذوو القوّة و الشدّة الّذين لم يخلق مثلهم في بسطة الجسم و القوّة و البطش في البلاد أو في أقطار الأرض و لا يخلو من بعد من ظاهر اللفظ.

و أبعد منه ما قيل: إنّ المراد بكونهم ذات العماد أنّهم كانوا أهل عمد سيّارة في الربيع فإذا هاج النبت رجعوا إلى منازلهم.

و من الأساطير قصّة جنّة إرم المشهورة المرويّة عن وهب بن منبّه و كعب الأحبار.

قوله تعالى: ( وَ ثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ ) الجوب القطع أي قطعوا صخر الجبال بنحتها بيوتاً فهو في معنى قوله:( وَ تَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً ) الشعراء: 149.

قوله تعالى: ( وَ فِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ ) هو فرعون موسى، و سمّي ذا الأوتاد - على ما في بعض الروايات - لأنّه كان إذا أراد أن يعذّب رجلاً بسطه على الأرض و وتد يديه و رجليه بأربعة أوتاد في الأرض و ربّما بسطه على خشب و فعل به ذلك، و يؤيّده ما حكاه الله من قوله يهدّد السحرة إذ آمنوا بموسى:( وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ) طه: 71 فإنّهم كانوا يوتّدون يدي المصلوب و رجليه على خشبة الصليب.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ ) صفة للمذكورين من عاد و ثمود و فرعون، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ ) صبّ الماء معروف و صبّ سوط العذاب كناية عن التعذيب المتتابع المتواتر الشديد، و تنكير عذاب للتفخيم.

و المعنى فأنزل ربّك على كلّ من هؤلاء الطاغين المكثرين للفساد إثر طغيانهم و إكثارهم الفساد عذاباً شديداً متتابعاً متوالياً لا يوصف.

قوله تعالى: ( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ ) المرصاد المكان الّذي يرصد منه و يرقب و كونه تعالى على المرصاد استعارة تمثيليّة شبّه فيها حفظه تعالى لأعمال عباده بمن

٤٠٨

يقعد على المرصاد يرقب من يراد رقوبه فيأخذه حين يمرّ به و هو لا يشعر فالله سبحانه رقيب يرقب أعمال عباده حتّى إذا طغوا و أكثروا الفساد أخذهم بأشدّ العذاب.

و في الآية تعليل ما تقدّم من حديث تعذيب الطغاة المكثرين للفساد من الماضين و في قوله:( رَبَّكَ ) بإضافة الربّ إلى ضمير الخطاب تلويح إلى أنّ سنّة العذاب جارية في اُمّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما جرت عليه في الاُمم الماضين.

قوله تعالى: ( فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ) متفرّع على ما قبله، فيه تفصيل حال الإنسان إذا اُوتي من نعم الدنيا أو حرم كأنّه قيل: إنّ الإنسان تحت رقوب إلهيّ يرصده ربّه هل يصلح أو يفسد؟ و يبتليه و يمتحنه فيما آتاه من نعمة أو حرمة هذا هو الأمر في نفسه و أمّا الإنسان فإنّه إذا أنعم الله عليه بنعمة حسب أنّ ذلك إكرام إلهيّ له أن يفعل بها ما يشاء فيطغى و يكثر الفساد، و إذا أمسك و قدر عليه رزقه حسب أنّه إهانة إلهيّة فيكفر و يجزع.

فقوله:( فَأَمَّا الْإِنْسانُ ) المراد به النوع بحسب الطبع الأوّليّ فاللّام للجنس دون الاستغراق.

و قوله:( إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ ) أي امتحنه و اختبره، و العامل في الظرف محذوف تقديره كائنا إذا إلخ و قيل: العامل فيه( فَيَقُولُ ) .

و قوله:( فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ ) تفسير للابتلاء، و المراد بالإكرام و التنعيم الصوريّان و إن شئت فقل: الإكرام و التنعيم حدوثاً لا بقاء أي إنّه تعالى أكرمه و آتاه النعمة ليشكره و يعبده لكنّه جعلها نقمة على نفسه تستتبع العذاب.

و قوله:( فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ) أي جعلني على كرامة منه بالنعم الّتي آتانيها و إن شئت فقل: القدرة و الجدة الموهوبتان إكرام و تنعيم حدوثاً و بقاء فلي أن أفعل ما أشاء.

و الجملة أعني قوله:( فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ) حكاية ما يراه الإنسان بحسب الطبع، و قول الإنسان:( رَبِّي أَكْرَمَنِ ) الظاهر في نسبة التدبير إلى الله سبحانه

٤٠٩

- و لا يقول به الوثنيّة و المنكرون للصانع - مبنيّ على اعترافه بحسب الفطرة به تعالى و إن استنكف عنه لساناً، و أيضاً لرعاية المقابلة مع قوله:( إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ ) .

قوله تعالى: ( وَ أَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ ) أي و أمّا إذا ما امتحنه و اختبره فضيق عليه رزقه فيقول ربّي أذلّني و استخفّ بي.

و يظهر من مجموع الآيتين أوّلاً حيث كرّر الابتلاء و أثبته في صورتي التنعيم و الإمساك عنه أنّ إيتاء النعم و الإمساك عنه جميعاً من الابتلاء و الامتحان الإلهيّ كما قال:( وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً ) الأنبياء: 35 لا كما يراه الإنسان.

و ثانياً أنّ إيتاء النعم بما أنّه فضل و رحمة إكرام إن لم يبدّلها الإنسان نقما على نفسه.

و ثالثاً أنّ الآيتين معاً تفيدان أنّ الإنسان يرى سعادته في الحياة هي التنعّم في الدنيا بنعم الله تعالى و هو الكرامة عنده و الحرمان منه شقاء عنده و الحال أنّ الكرامة هي في التقرّب إليه تعالى بالإيمان و العمل الصالح سواء في ذلك الغنى و الفقر و أي وجدان و فقدان فإنّما ذلك بلاء و امتحان.

و لهم في معنى الآيتين وجوه اُخر تركنا التعرّض لها لقلّة الجدوى.

قوله تعالى: ( كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَ لا تَحَاضُّونَ عَلى‏ طَعامِ الْمِسْكِينِ ) ردع لقولهم: إنّ الكرامة هي في الغنى و التنعّم، و في الفقر و الفقدان هوان و مذلّة، و المعنى ليس كما تقولون و إنّما إيتاؤه تعالى النعمة و إمساكه عنه كلّ ذلك ابتلاء و امتحان يختبر به حال الإنسان من حيث عبوديّته.

و في قوله:( بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ) إلخ إضراب يؤكّد الردع بذكر بعض التنعّم الّذي لا يجامع الكرامة البتّة كعدم إكرامهم اليتيم بأكل تراثه و منعه منه و عدم التحريض على إطعام المسكين حبّاً للمال فالفطرة الإنسانيّة لا يرتاب في أن لا كرامة في غنى هذا شأنه.

و في الإضراب مضافاً إلى أصل الردع تقريع و لتشديد هذا التقريع وقع الالتفات من الغيبة إلى الخطاب.

٤١٠

فقوله:( بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ) عدم إكرامه حرمانه من تراث أبيه - كما كانوا يحرمون صغار الأولاد من الإرث - و تركه صفر الكفّ بلغ به الجهد ما بلغ كما تؤيّده الآية التالية( وَ تَأْكُلُونَ التُّراثَ ) إلخ.

و قوله:( وَ لا تَحَاضُّونَ عَلى‏ طَعامِ الْمِسْكِينِ ) أصله و لا تتحاضّون، و هو تحريض بعضهم بعضاً على التصدّق على المساكين المعدمين، و منشأه حبّ المال كما في الآية الآتية( وَ تُحِبُّونَ الْمالَ ) إلخ.

قوله تعالى: ( وَ تَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا ) اللمّ أكل الإنسان نصيب نفسه و غيره و أكله ما يجده من دون أن يميّز الطيّب من الخبيث، و الآية تفسير لعدم إكرامهم اليتيم كما تقدّم.

قوله تعالى: ( وَ تُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا ) الجمّ الكثير العظيم، و الآية تفسّر عدم تحاضّهم على طعام المسكين كما تقدّم.

قوله تعالى: ( كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ) الدكّ هو الدقّ الشديد، و المراد بالظرف حضور يوم القيامة.

ردع ثان عمّا يقوله الإنسان في حالي الغنى و الفقر، و قوله:( إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ ) إلخ في مقام التعليل للردع، و محصّل المعنى ليس كما يقوله الإنسان فإنّه سيتذكّر إذا قامت القيامة إنّ الحياة الدنيا و ما فيها من الغنى و الفقر و أضرابهما لم تكن مقصودة بالذات بل كانت ابتلاء و امتحاناً من الله تعالى يميّز به السعيد من الشقيّ و يهيّئ الإنسان فيها ما يعيش به في الآخرة و قد التبس عليه الأمر فحسبها كرامة مقصودة بالذات فاشتغل بها و لم يقدّم لحياته الآخرة شيئاً فيتمنّى عند ذلك و يقول: يا ليتني قدّمت لحياتي و لن يصرف التمنّي عنه شيئاً من العذاب.

قوله تعالى: ( وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ) نسبة المجي‏ء إليه تعالى من المتشابه الّذي يحكمه قوله تعالى:( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ ) الشورى: 11 و ما ورد في آيات القيامة من خواصّ اليوم كتقطّع الأسباب و ارتفاع الحجب عنهم و ظهور أنّ الله هو الحقّ المبين.

٤١١

و إلى ذلك يرجع ما ورد في الروايات أنّ المراد بمجيئه تعالى مجي‏ء أمره قال تعالى:( وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ) الانفطار: 19، و يؤيّد هذا الوجه بعض التأييد قوله تعالى( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَ الْمَلائِكَةُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ ) البقرة: 210 إذا انضمّ إلى قوله:( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ ) النحل: 33 و عليه فهناك مضاف محذوف و التقدير جاء أمر ربّك أو نسبة المجي‏ء إليه تعالى من المجاز العقليّ.

و الكلام في نسبة المجي‏ء إلى الملائكة و كونهم صفّا صفّا كما مرّ.

قوله تعالى: ( وَ جِي‏ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ) إلى آخر الآية لا يبعد أن يكون المراد بالمجي‏ء بجهنّم إبرازها لهم كما في قوله تعالى:( وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى‏ ) النازعات: 36 و قوله:( وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ ) الشعراء: 91، و قوله:( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ق: 22.

و قوله:( يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ) أي يتذكّر أجلى التذكّر أنّ ما كان يؤتاه في الحياة الدنيا من خير أو شرّ كان من ابتلاء الله و امتحانه و أنّه قصر في أمره، هذا ما يفيده السياق.

و قوله:( وَ أَنَّى لَهُ الذِّكْرى) أي و من أين له الذكرى كناية عن عدم انتفاعه بها فإنّ الذكرى إنّما تنفع فيما أمكنه أن يتدارك ما فرّط فيه بتوبة و عمل صالح و اليوم يوم الجزاء لا يوم الرجوع و العمل.

قوله تعالى: ( يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي ) أي لحياتي هذه و هي الحياة الآخرة أو المراد الحياة الحقيقيّة و هي الحياة الآخرة على ما نبّه تعالى عليه بقوله:( وَ ما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) العنكبوت: 64.

و المراد بالتقديم للحياة تقديم العمل الصالح للحياة الآخرة و ما في الآية تمنّ يتمنّاه الإنسان عند ما يتذكّر يوم القيامة و يشاهد أنّه لا ينفعه.

قوله تعالى: ( فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ وَ لا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ ) ضميراً عذابه

٤١٢

و وثاقه لله تعالى و المعنى فيومئذ لا يعذّب عذاب الله أحد من الخلق و لا يوثق وثاق الله أحد من الخلق أي إنّ عذابه و وثاقه تعالى يومئذ فوق عذاب الخلق و وثاقهم، تشديد في الوعيد.

و قرئ( لا يُعَذِّبُ ) بفتح الذال و( وَ لا يُوثِقُ ) بفتح الثاء بالبناء للمفعول و ضميراً عذابه و وثاقه على هذا للإنسان و المعنى لا يعذّب أحد يومئذ مثل عذاب الإنسان و لا يوثق أحد يومئذ مثل وثاقه.

قوله تعالى: ( يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ) الّذي يعطيه سياق المقابلة بين هذه النفس بما ذكر لها من الأوصاف و عيّن لها من حسن المنقلب و بين الإنسان المذكور قبل بما ذكر له من وصف التعلّق بالدنيا و الطغيان و الفساد و الكفران، و ما اُوعد من سوء المصير هو أنّ النفس المطمئنّة هي الّتي تسكن إلى ربّها و ترضى بما رضي به فترى نفسها عبداً لا يملك لنفسه شيئاً من خير أو شرّ أو نفع أو ضرّ و يرى الدنيا دار مجاز و ما يستقبله فيها من غنى أو فقر أو أيّ نفع و ضرّ ابتلاء و امتحاناً إلهيّاً فلا يدعوه تواتر النعم عليه إلى الطغيان و إكثار الفساد و العلوّ و الاستكبار، و لا يوقعه الفقر و الفقدان في الكفر و ترك الشكر بل هو في مستقرّ من العبوديّة لا ينحرف عن مستقيم صراطه بإفراط أو تفريط.

قوله تعالى: ( ارْجِعِي إِلى‏ رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً ) خطاب ظرفه جميع يوم القيامة من لدن إحيائها إلى استقرارها في الجنّة بل من حين نزول الموت إلى دخول جنّة الخلد و ليس خطاباً واقعاً بعد الحساب كما ذكره بعضهم.

و توصيفها بالراضية لأنّ اطمئنانها إلى ربّها يستلزم رضاها بما قدّر و قضى تكويناً أو حكم به تشريعاً فلا تسخطها سانحة و لا تزيغها معصية، و إذا رضي العبد من ربّه رضي الربّ منه إذ لا يسخطه تعالى إلّا خروج العبد من زيّ العبوديّة فإذا لزم طريق العبوديّة استوجب ذلك رضى ربّه و لذا عقّب قوله( راضِيَةً ) بقوله:( مَرْضِيَّةً ) .

قوله تعالى: ( فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَ ادْخُلِي جَنَّتِي ) تفريع على قوله:( ارْجِعِي

٤١٣

إِلى‏ رَبِّكِ ) و فيه دلالة على أنّ صاحب النفس المطمئنّة في زمرة عباد الله حائز مقام العبوديّة.

و ذلك أنّه لمّا اطمأنّ إلى ربّه انقطع عن دعوى الاستقلال و رضي بما هو الحقّ من ربّه فرأى ذاته و صفاته و أفعاله ملكاً طلقاً لربّه فلم يرد فيما قدّر و قضى و لا فيما أمر و نهي إلّا ما أراده ربّه، و هذا ظهور العبوديّة التامّة في العبد ففي قوله:( فَادْخُلِي فِي عِبادِي ) تقرير لمقام عبوديّتها.

و في قوله:( وَ ادْخُلِي جَنَّتِي ) تعيين لمستقرّها، و في إضافة الجنّة إلى ضمير التكلّم تشريف خاصّ، و لا يوجد في كلامه تعالى إضافة الجنّة إلى نفسه تعالى و تقدّس إلّا في هذه الآية.

( بحث روائي‏)

في المجمع: في قوله تعالى:( وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ ) ، و قيل: الشفع الخلق لأنّه قال:( وَ خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً ) و الوتر الله تعالى: عن عطيّة العوفيّ و أبي صالح و ابن عبّاس و مجاهد و هي رواية أبي سعيد الخدريّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و قيل: الشفع و الوتر الصلاة منها شفع و منها وتر: و هي رواية عن ابن حصين عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و قيل: الشفع يوم النحر و الوتر يوم عرفة: عن ابن عبّاس و عكرمة و الضحّاك، و هي رواية جابر عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الوجه فيه أنّ يوم النحر يشفّع بيوم نفر بعده و يتفرّد يوم عرفة بالموقف، و قيل: الشفع يوم التروية و الوتر يوم عرفة: و روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام .

أقول: الروايات الثلاث المشار إليها مرويّة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من طرق أهل السنّة و يمكن الجمع بينها بأنّ المراد مطلق الشفع و الوتر و الروايات من قبيل الإشارة إلى بعض المصاديق.

و في تفسير القمّيّ:( وَ لَيالٍ عَشْرٍ ) قال: عشر ذي الحجّة( وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ ) قال: الشفع ركعتان و الوتر ركعة، و في حديث: الشفع الحسن و الحسين و الوتر أمير

٤١٤

المؤمنينعليهم‌السلام ( وَ اللَّيْلِ إِذا يَسْرِ ) قال: هي ليلة جمع.

و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله:( لِذِي حِجْرٍ ) يقول: لذي عقل.

و في العلل، بإسناده إلى أبان الأحمر قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( وَ فِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ ) لأيّ شي‏ء سمّي ذا الأوتاد؟ فقال: لأنّه كان إذا عذّب رجلاً بسطه على الأرض على وجهه و مدّ يديه و رجليه فأوتدها بأربعة أوتاد في الأرض. و ربّما بسطه على خشب منبسط فوتّد رجليه و يديه بأربعة أوتاد ثمّ تركه على حاله حتّى يموت فسمّاه الله عزّوجلّ فرعون ذا الأوتاد.

و في المجمع: في قوله تعالى:( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ ) وروي عن عليّعليه‌السلام أنّه قال: إنّ معناه أنّ ربّك قادر أن يجزي أهل المعاصي جزاءهم.

أقول: بناء الرواية على أخذ الجملة استعارة تمثيليّة.

و فيه، عن الصادقعليه‌السلام أنّه قال: المرصاد قنطرة على الصراط لا يجوزها عبد بمظلمة عبد.

و عن الغوالي، عن الصادقعليه‌السلام في حديث في تفسير قوله تعالى:( وَ ذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ) إنّما ظنّ بمعنى استيقن أنّ الله تعالى لن يضيّق عليه رزقه أ لا تسمع قول الله تعالى:( وَ أَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ ) أي ضيّق عليه.

و في تفسير القمّيّ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله:( كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ) قال: هي الزلزلة.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن عليّ بن أبي طالب قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هل تدرون ما تفسير هذه الآية( كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ - إلى قوله -وَ جِي‏ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ) قال: إذا كان يوم القيامة تقاد جهنّم بسبعين ألف زمام بيد سبعين ألف ملك فتشرد شردة لو لا أنّ الله حبسها لأحرقت السماوات و الأرض.

أقول: و هو مرويّ أيضاً عن أبي سعيد و ابن مسعود و من طرق الشيعة في أمالي

٤١٥

الشيخ، بإسناده عن داود بن سليمان عن الرضا عن آبائه عن عليّعليه‌السلام عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في العيون، في باب ما جاء عن الرضا من أخبار التوحيد بإسناده عن عليّ بن فضال عن أبيه قال: سألت الرضاعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ) فقال: إنّ الله سبحانه لا يوصف بالمجي‏ء و الذهاب تعالى عن الانتقال إنّما يعني بذلك و جاء أمر ربّك.

و في الكافي، بإسناده عن سدير الصيرفيّ قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام : جعلت فداك يا ابن رسول الله هل يكره المؤمن على قبض روحه؟ قال: لا و الله إنّه إذا أتاه ملك الموت ليقبض روحه جزع عند ذلك فيقول ملك الموت: يا وليّ الله لا تجزع فوالّذي بعث محمّداً لأنّي أبرّ بك و أشفق عليك من والد رحيم لو حضرك، افتح عينيك فانظر.

قال: و يمثّل له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أميرالمؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسين و الأئمّة من ذرّيّتهمعليهم‌السلام فيقال له: هذا رسول الله و أميرالمؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسين و الأئمّةعليهم‌السلام رفقاؤك.

قال: فيفتح عينيه فينظر فينادي روحه مناد من قبل ربّ العزّة فيقول: يا أيّتها النفس المطمئنّة إلى محمّد و أهل بيته ارجعي إلى ربّك راضية بالولاية مرضيّة بالثواب فادخلي في عبادي يعني محمّداً و أهل بيته و ادخلي جنّتي فما من شي‏ء أحبّ إليه من استلال روحه و اللحوق بالمنادي.

أقول: و روى هذا المعنى القمّيّ في تفسيره و البرقيّ في المحاسن.

٤١٦

( سورة البلد مكّيّة و هي عشرون آية)

( سورة البلد الآيات 1 - 20)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ( 1 ) وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ( 2 ) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ( 3 ) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ( 4 ) أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ( 5 ) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا ( 6 ) أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ ( 7 ) أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ ( 8 ) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ ( 9 ) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ( 10 ) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ( 11 ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ( 12 ) فَكُّ رَقَبَةٍ ( 13 ) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ( 14 ) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ ( 15 ) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ( 16 ) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ ( 17 ) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ( 18 ) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ( 19 ) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ ( 20 )

( بيان‏)

تذكر السورة أنّ خلقة الإنسان مبنيّة على التعب و المشقّة فلا تجد شأناً من شؤن الحياة إلّا مقروناً بمرارة الكدّ و التعب من حين يلج في جثمانه الروح إلى أن يموت فلا راحة له عارية من التعب و المشقّة و لا سعادة له خالصة من الشقاء و المشأمة إلّا في الدار الآخرة عند الله.

فليتحمّل ثقل التكاليف الإلهيّة بالصبر على الطاعة و عن المعصية و ليجدّ في نشر الرحمة على المبتلين بنوائب الدهر كاليتم و الفقر و المرض و أضرابها حتّى يكون

٤١٧

من أصحاب الميمنة و إلّا فآخرته كاُولاه و هو من أصحاب المشأمة عليهم نار مؤصدة.

و سياق آيات السورة، يشبه السياق المكّيّ فيؤيّد به كون السورة مكّيّة و قد ادّعى بعضهم عليه الإجماع، و قيل: السورة مدنيّة و السياق لا يساعد عليه، و قيل: مدنيّة إلّا أربع آيات من أوّلها و سيأتي في البحث الروائيّ التالي إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ( لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ ) ذكروا أنّ المراد بهذا البلد مكّة و تؤيّده مكّيّة سياق السورة و قوله:( وَ والِدٍ وَ ما وَلَدَ ) خاصّة بناء على كون المراد بوالد هو إبراهيمعليه‌السلام على ما سيجي‏ء.

قوله تعالى: ( وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ ) حال من هذا البلد، و وضع الظاهر موضع الضمير في قوله:( بِهذَا الْبَلَدِ ) للدلالة على عظم شأنه و الاعتناء بأمره و هو البلد الحرام، و الحلّ مصدر كالحلول بمعنى الإقامة و الاستقرار في مكان و المصدر بمعنى الفاعل.

و المعنى اُقسم بهذا البلد و الحال أنك حالٌ به مقيم فيه و في ذلك تنبيه على تشرّف مكّة بحلولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها و كونها مولده و مقامه.

و قيل: الجملة معترضة بين القسم و المقسم به و المراد بالحلّ المستحلّ الّذي لا حرمة له قال في الكشاف: و اعترض بين القسم و المقسم عليه بقوله:( وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ ) يعني و من المكابدة أنّ مثلك على عظم حرمتك يستحلّ بهذا البلد الحرام كما يستحلّ الصيد في غير الحرم - عن شرحبيل - يحرّمون أن يقتلوا بها صيداً و يعضدوا(1) بها شجرة و يستحلّون إخراجك و قتلك، و فيه تثبيت من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بعث على‏ احتمال ما كان يكابد من أهل مكّة و تعجيب من حالهم في عداوته انتهى.

ثمّ قال: أو سلّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقسم ببلده أنّ الإنسان لا يخلو من مقاساة الشدائد و اعترض بأن وعده فتح مكّة تتميماً للتسلية و التنفيس عنه فقال:( وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ ) يعني و أنت حلّ به في المستقبل تصنع فيه ما تريد من القتل و الأسر إلى آخر ما قال، و محصّله تفسير الحلّ بمعنى المحلّ ضدّ المحرم، و المعنى و سنحلّ لك يوم فتح مكّة حيناً فنقاتل و تقتل فيه من شئت.

____________________

(1) عضد الشجرة: قطعها و نثر ورقها للإبل. و شرحبيل راوي الحديث.

٤١٨

قوله تعالى: ( وَ والِدٍ وَ ما وَلَدَ ) لزوم نوع من التناسب و الارتباط بين القسم و المقسم عليه يستدعي أن يكون المراد بوالد و ما ولد من بينه و بين البلد المقسم به نسبة ظاهرة و ينطبق على إبراهيم و ولده إسماعيلعليهما‌السلام و هما السببان الأصليّان لبناء بلدة مكّة و البانيان للبيت الحرام قال تعالى:( وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ ) البقرة: 127 و إبراهيمعليه‌السلام هو الّذي سأل الله أن يجعل مكّة بلداً آمنا قال تعالى:( وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً ) إبراهيم: 35. و تنكير( والِدٍ ) للتعظيم و التفخيم، و التعبير بقوله( وَ ما وَلَدَ ) دون أن يقال: و من ولد، للدلالة على التعجيب من أمره مدحاً كما في قوله:( وَ اللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ ) آل عمران: 36.

و المعنى و اُقسم بوالد عظيم الشأن هو إبراهيم و ما ولد من ولد عجيب أمره مبارك أثره و هو إسماعيل ابنه و هما البانيان لهذا البلد فمفاد الآيات الثلاث الإقسام بمكّة المشرّفة و بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذي هو حلّ فيها و بإبراهيم و إسماعيل اللّذين بنياها.

و قيل: المراد بالوالد إبراهيم و بما ولد جميع أولاده من العرب.

و فيه أنّ من البعيد أن يقارن الله سبحانه بين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و إبراهيمعليه‌السلام و بين أمثال أبي لهب و أبي جهل و غيرهم من أئمّة الكفر فيقسم بهم جميعاً في سياق، و قد تبرّأ إبراهيمعليه‌السلام ممّن لم يتّبعه من بنيه على التوحيد إذ قال فيما حكاه الله:( وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) إبراهيم: 36.

فعلى من يفسّر ما ولد بأولاد إبراهيم أن يخصّهم بالمسلمين من ذرّيّته كما في دعاء إبراهيم و إسماعيل عند بنائهما الكعبة على ما حكاه الله:( رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَ أَرِنا مَناسِكَنا وَ تُبْ عَلَيْنا ) البقرة: 128.

و قيل: المراد بوالد و ما ولد، آدمعليه‌السلام و ذرّيّته جميعاً بتقريب أنّ المقسم عليه بهذه الأقسام خلق الإنسان في كبد و قد سنّ الله في خلق هذا النوع و إبقاء وجوده سنّة الولادة فقد أقسم في هذه الآيات بمحصول هذه السنّة و هو الوالد و ما ولد على أنّ الإنسان في كدّ و تعب بحسب نوع خلقته من حين يحيى إلى حين يموت.

٤١٩

و هذا الوجه في نفسه لا بأس به لكن يبقى عليه بيان المناسبة بين بلدة مكّة و بين والد و كلّ مولود في الجمع بينهما في الأقسام.

و قيل: المراد بهما آدم و الصالحون من ذرّيّته، و كأنّ الوجه فيه تنزيهه تعالى من أن يقسم بأعدائه الطغاة و المفسدين من الكفّار و الفسّاق.

و قيل: المراد بهما كلّ والد و كلّ مولود و قيل: من يلد و من لا يلد منهم بأخذ( ما ) في( ما وَلَدَ ) نافية لا موصولة.

و قيل: المراد بوالد هو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بما ولد اُمّته لأنّه بمنزلة الأب لاُمّته و هي وجوه بعيدة.

قوله تعالى: ( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ ) الكبد الكدّ و التعب، و الجملة جواب القسم فاشتمال الكبد على خلق الإنسان و إحاطة الكدّ و التعب به في جميع شؤن حياته ممّا لا يخفى على ذي لبّ فليس يقصد نعمة من نعم الدنيا إلّا خالصة في طيبها محضة في هنائها و لا ينال شيئاً منها إلّا مشوبة بما ينغّص العيش مقرونة بمقاساة و مكابدة مضافاً إلى ما يصيبه من نوائب الدهر و يفاجئه من طوارق الحدثان.

قوله تعالى: ( أَ يَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ) بمنزلة النتيجة لحجّة الآية السابقة تقريرها أنّ الإنسان لمّا كانت خلقته مبنيّة على كبد مظروفة له لا ينال قطّ شيئاً ممّا يريد إلّا دون ما يريد أو غير ما يريد فهو محاط في خلقه مغلوب في إرادته مقهور فيما قدّر له من الأمر و الّذي يغلبه في إرادته و يقهره على التلبّس بما قدّر له و هو الله سبحانه يقدر عليه من كلّ جهة فله أن يتصرّف فيه بما شاء و يأخذه إذا أراد.

فليس للإنسان أن يحسب أن لن يقدر عليه أحد فيدعوه ذلك إلى أن يعلو على الله و يستكبر عن عبادته أو يعطيه في بعض ما أمر به كالإنفاق في سبيله فيستكثره و يمتنّ به على الله أو يمكر به تعالى بعد ما عمله رياء و سمعة عملاً لوجه الكريم فيقول: أهلكت مالاً لبدا.

قوله تعالى: ( يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً ) اللبد الكثير، سياق الآية و ما يتلوها من الآيات إلى آخر السورة مشعر بأنه كان هناك بعض من أظهر الإسلام أو مال إليه

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578