شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم10%

شبهات وردود حول القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 578

شبهات وردود حول القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 578 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 297639 / تحميل: 13678
الحجم الحجم الحجم
شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

وأمّا عن سبب عمى ابن عباس ، فقد ذكرت في الجزء الرابع من الحلقة الأولى ما يغني عن إعادته.

وأمّا عن مشاورته عائشة وأم سلمة وأبا هريرة وجماعة من الصحابة فلم يرخصوا له في إجراء العملية ، وقالوا له : أرأيت إن متّ في هذه الأيام كيف تصنع بصلاتك؟

وبهذا أثبت الراوي جهل ابن عباس بوظيفته الشرعية ، فهو لا يعلم كيف يعمل فيستفتي عائشة وأبا هريرة وبعض الصحابة!!

فأين أثر دعاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم له بأن يفقهه في الدين ويعلّمه الحكمة؟!

وأين صارت شهادة عائشة في سنة ( 35 هـ ) فسألت : من ولي أمارة الموسم؟ فقيل لها : ابن عباس ، قالت : أنّه أعلم الناس بالحج! فكيف صار الآن لا يعرف تكليفه الشرعي؟!

وهو الذي قال عنه طاووس : ( رأيت سبعين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا تدارؤا صاروا إلى قول ابن عباس ).

وقد مرّت بنا هذه الأقوال وغيرها في الجزء الثاني من هذه الحلقة فراجعها تجدها مع مصادرها.

وقد قرأنا شواهد ومشاهد في أعقاب حرب الجمل فيها مواقف متشنجة بين ابن عباس وعائشة ، فكيف نستغفل عقولنا ونقبل ما رواه الرواة ممن طُبعوا على حبّ أم المؤمنين ، فصارا يبنون لها أهرامات من الفضائل تفوق أهرامات مصر الفرعونية!

٣٠١

( الحديث الرابع ) :

ما رواه الزركشي عن ابن عباس في بدعية صلاة ركعتين بعد العصر ، حيث روي : ( أنّ معاوية صلى صلاة العصر ثم قام ابن الزبير فصلى بعدها ، فقال معاوية : يا بن عباس ما هاتان الركعتان؟ فقال : بدعة وصاحبها صاحب بدعة ، ولمّا فرغ ابن الزبير سألهما عما قالاه فأخبراه ، قال : ما ابتدعت ، ولكن حدثتني خالتي عائشة. فأرسل معاوية إليها ، فقالت : صدق ، حدثتني أم سلمة ، فأرسل إلى أم سلمة : أنّ عائشة حدثتنا عنكِ بكذا ، فذكرت أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم صلى ذات يوم بعد العصر ( فقمت وراءه فصليت ) فلما أنفتل قال : ما شأنك؟ قلت : رأيتك يا نبيّ الله صليت وصليت معك ، فقال : إنّ عاملاً لي على الصدقات قدم عليَّ فجمعت عليه ).

ثم روى الزركشي عن الصحيحين ، عن كريب : أنّ ابن عباس وابن أزهر والمسور أرسلوا إلى عائشة لأنّهم أخبروا أنّها تصليها والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم نهى عنها ، فقالت : سلوا أم سلمة ثم ذكر نحو ما سبق.

فهذا الحديث يدلّ على مخالفة عائشة لنهي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عن الإتيان بهما ، وأنّ ابن عباس كان هو وعمر يضربان الناس عنها. فالأحرى أن يعدّ الزركشي هذا الحديث ممّا إستدركه ابن عباس على عائشة لا العكس! لكن الزركشي شغوف بلملمة أخبار عائشة مع الصحابة وإن إستلزم ذلك توهيناً لها من حيث يدري ولا يدري.

٣٠٢

( الحديث الخامس ) :

ما رواه الزركشي عن ابن عباس فهو لا يستبطن كذبه متناً فقط ، بل تكفي آفة سنده ، فقد أعلّه المنذري بيزيد بن أبي زياد ، وقال غير واحد من الأئمة أنّه لا يحتج بحديثه ، ومهما يكن حال السند ، فإنّ ما رواه ابن عباس كما في المتن هو أولى بالقبول لحضوره مع أهل البيت مراسيم الدفن.

ولكن هلّم الخطب فيما روته عائشة فهو محلّ الشك في صدقه ، إذ لم تكن حاضرة حين التكفين! أليس هي التي كانت مع النساء اللواتي يلتدمن كما تقول هي فيما رواه أحمد في مسنده عنها ، قالت : ( مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين سحري ونحري ، وفي دولتي لم أظلم فيه أحداً ، فمن سفهي وحداثة سني أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبض وهو في حجري ، ثم وضعت رأسه على وسادة وقمت التدم مع النساء وأضرب وجهي )(1) ، وقد قالت أيضاً : ( ما علمنا بدفن رسول الله حتى سمعنا صوت المساحي من جوف الليل ( ليلة الأربعاء )(2) .

فمتى حضرت التكفين ورأت ثياب الكفن؟!

فكلّ ما ورد عنها في هذا الشأن مشكوك في صحته ، لأنّها تريد إستبعاد عليّ عليه السلام وأهل البيت عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

____________________

(1) مسند أحمد 6 / 274.

(2) الإستيعاب 1 / 47.

٣٠٣

وأنكى من ذلك إستبدالهم بآل أبي بكر! فهلمّ وأقرأ ما روته من خبر الحلّة التي أشتريت ليكفن فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأدرجوه فيها ثم نزعت عنه.

فلنقرأ الخبر برواية ابن قدامة المقدسي الحنبلي في كتابه ( المغني ) وهو غير متهم عليها ، فقال في الخبر : ( وهو أصح حديث روي في كفن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وعائشة أقرب إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأعرف بأحواله ، ولهذا لما ذكر لها قول الناس أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كُفن في برد ، قالت : قد أتي بالبُرد ولكنهم لم يكفنوه فيه ، فحفظت ما أغفله غيرها. وقالت أيضاً : أدرج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في حلّة يمنية كانت لعبد الله بن أبي بكر ، ثم نزعت عنه ، فرفع عبد الله بن أبي بكر الحلّة وقال : أكفن فيها ، ثم قال : لم يكفن فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتصدق بها ). قال ابن قدامة : رواه مسلم(1) .

أقول : فهل تطلب أثراً بعد عين ، وتريد سخفاً بعد ميَن؟

فعائشة وعبد الله بن أبي بكر بطلا الحضور في الإحتضار والتكفين! وليذهب أهل البيت عليهم السلام جميعاً في غيابات الحقد الدفين ، كما تريد أم المؤمنين ، وليكتب الزركشي ما يزركش به أخبارها ولو على حساب الآخرين.

على أن ابن شهاب الزهري ـ وهو غير متهم على عائشة ـ قال : ولم يله إلاّ أقاربه(2) .

____________________

(1) المغني 2 / 329.

(2) أنظر دلائل النبوة للبيهقي 7 / 234 ، عن هامش ، التمهيد لابن عبد البر 9 / 358 ط الإحياء للتراث العربي.

٣٠٤

( الحديث السادس ) :

ما رواه الزركشي عن عكرمة عن ابن عباس في حديث ( رأى ربّه مرتين ) ، وإنكار عائشة عليه الرؤية ، والخبر الذي رواه في سنده من قال فيه ابن المبارك : أرم به ، لكن الزركشي لم يرم به ، بل أطال في جميع ما يتعلق بالموضوع وحكى قول ابن خزيمة : أنّ الخطاب وقع لعائشة على قدر عقلها.

وحكى قول أحمد : ما زلت منكراً لهذا الحديث وما أدري ما وجهه.

ثم الحديث في متنه : ( قال ابن عباس : ( رأى محمد ربّه ) ، وابن عباس لم يكن يقول بالرؤية البصرية كما هو واضح من لفظ الحديث الذي ذكره الزركشي نقلا ًعن الترمذي في التفسير ، وهو مخالف لقول الله تعالى :( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) (1) .

وفي سنده من هو مخدوش ، ورواية مسلم له في الصحيح لا تضفي عليه شرعية أبداً ـ فكم في كتابي الصحيح من حديث غير صحيح ـ وسيأتي عن ابن عباس في جواب نجدة بن عامر ـ عويمر ـ الخارجي وقد سأله : ( كيف معرفتك بربّك؟ فأجابه أعرفه بما عرّف به نفسه تبارك وتعالى من غير رؤية ، وأصفه بما وصف به نفسه ، لا يدرك بالحواس ، ولا يقاس بالناس ) ، فهذا ينفي صحة نسبة القول بالرؤية البصرية إليه ، وسيأتي خبره مع نجدة فيما يأتي.

____________________

(1) الأنعام / 103.

٣٠٥

ومجرد رواية الترمذي عن عكرمة ذلك ، لا يضفي عليه الصحة.

ولم لا يكون الخبر من بعض أكاذيب عكرمة على مولاه ، وقد مرّت بعض الشواهد على ذلك ، كما سيأتي غيرها.

( الحديث السابع ) :

ما ذكره الزركشي في إحالة ابن عباس معرفة الوتر عليها ـ في حديث رواه مسلم في صحيحه ـ وأنّ سعد بن هشام سأل ابن عباس عن الوتر ، فقال : ( ألا أنبئك بأعلم أهل الأرض بوتر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال : نعم ، قال عائشة )(1) .

أقول : إنّ هذا الحديث الذي ذكره لا يصح الإعتماد عليه! لإختلاف النقل عن عائشة ، فقيل : الإختلاف منها ، وقيل : هو من الرواة عنها ، كما ذكره الزركشي نفسه.

وكيف نصدّق نحن بالخبر ، وابن عباس الذي كان يبيت في بيت خالته ميمونة ليحفظ ما يأتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من صلاة وأذكار ـ وقد مرّت في الحلقة الأولى في الجزء الأوّل عدّة شواهد على هذا ـ فكيف صار لا يعلم عن صلاة الوتر شيئاً حتى أحال على أعلم أهل الأرض؟ يا لها من دعوى عريضة مريضة!!

لكن زوامل الأسفار يكتبون ما راق لهم ، أو يملى عليهم من السلطات الحاكمة من رفعهم عائشة إلى مقام لم تكن فيه عالمة ولا حالمة.

____________________

(1) صحيح مسلم 2 / 269 ط صبيح.

٣٠٦

( الحديث الثامن ) :

ما ذكره الزركشي من حديث عائشة وقد ردت على ابن عباس قراءته قوله تعالى :( وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ) بالتخفيف ، فذكر الزركشي ما أخرجه البخاري في صحيحه في التفيسر عن ابن أبي مليكة قال ابن عباس :( حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ) (1) الخ بالتخفيف إلى آخر الخبر ، بينما كانت عائشة تقرؤها( كُذّبُوا ) مثقلة.

أقول : ما مرّ من إختلاف القراءة فيه نظر! فإنّ القراءة بالتخفيف هي قراءة أهل البيت عليهم السلام عليّ وزين العابدين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وزيد بن علي وابن عباس ، وهي أيضاً قراءة ابن مسعود وسعيد بن جبير وعكرمة والضحاك والأعمش وغيرهم ، وهي قراءة أهل الكوفة(2) .

وقد أطنب الطبري في تفسيره ، فساق ثماني عشرة رواية عن ابن عباس مؤداها متفق عليه بين الرواة عن ابن عباس ، وأوّلها بسند الطبري ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن ابن عباس ، في قوله :( حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ) (3) ، قال : ( لمّا أُيست الرسل أن يستجيب لهم قومهم ، وظنّ قومهم أنّ الرسل قد كذبوهم جاءهم النصر على ذلك ، فننجي من نشاء )(4) .

____________________

(1) يوسف / 110.

(2) مجمع البيان 5 / 465 ط الأعلمي.

(3) يوسف / 110.

(4) تفسير الطبري 13 / 82 ـ 83.

٣٠٧

وما جاء في بعضها أنّ ابن عباس قال : إنّهم ـ أي الأنبياء ـ بشر ، أي أنّهم هم الذين ظنوا ، فهذا وهم في الفهم ، فابن عباس لم يقل ذلك.

وقد ورد في ( عيون أخبار الرضا عليه السلام ) للشيخ الصدوق ، بسنده : عن علي بن محمد بن الجهم : أنّ المأمون قال لأبي الحسن ـ الرضا عليه السلام ـ : فأخبرني عن قول الله تعالى :( حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا ) (1) ؟ قال الرضا عليه السلام : يقول الله : حتى إذا استيأس الرسل من قومهم فظن قومهم أنّ الرسل قد كذبوا ، جاء الرسل نصرُنا.

وهذا هو عين ما رواه ثلاثة من تلاميذ ابن عباس ، كما في ( الدر المنثور ) للسيوطي في تفسير الآية ، قال : ( أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابراهيم ، عن أبي حمزة الجزري ، قال : صنعت طعاماً فدعوت ناساً من أصحابنا منهم : سعيد بن جبير ، والضحاك بن مزاحم ، فسأل فتى من قريش سعيد بن جبير ، فقال : يا أبا عبد الله كيف تقرأ هذا الحرف ، فإنّي إذا أتيت عليه تمنيت أنّي لا أقرأ هذه السورة( حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا ) ؟ قال : نعم ، حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يصدّقوهم وظنّ المرسَل إليهم أنّ الرسل قد كُذبوا فقال الضحاك : لو رحلت في هذه إلى اليمن لكان قليلاً )(2) .

ومهما يكن فحسب القارئ من فقاهة السيدة عائشة أنّها لم تكن ترى

____________________

(1) يوسف / 110.

(2) الدر المنثور 4 / 41.

٣٠٨

نفسها أم المؤمنين رجالاً ونساءً! بينما كانت أم المؤمنين أم سلمة ترى أنّها أم المؤمنين رجالاً ونساءاً. أخرج ابن سعد في ( الطبقات ) بسنده : ( عن مسروق ، عن عائشة في قوله :( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ) (1) . قال : فقالت لها أمرأة : يا أمه ، فقالت عائشة : أنا أم رجالكم ولست أم نسائكم ، قال : فذكرت هذا الحديث لعبد الله بن موسى المخزومي ، فقال : أخبرني مصعب بن عبد الله بن أبي أمية عن أم سلمة ، أنّها قالت : أنا أم الرجال منكم والنساء )(2) .

أقول : وأحسب أنّ عائشة قالتها في ساعة غضب على النساء اللاتي كنّ يسألنها عن شرعية خروجها في حرب الجمل كأم جميع وأضرابها.

وإلى هنا فلنترك الأفغاني ونبعده قصياً ، بعد أن قرأناه نَسِيّاً وفَرِيّاً. ولنبصّر القارئ بأنّ الزركشي لم يكن دقيقاً في إختياره اسم كتابه ، إذ تبيّن أنّ ما ذكره تحت عنوان ( استدراكها على ابن عباس ) لم يكن خالياً من الإلباس ، وما ذكره لو يصح ولا يَصح ـ لا يعني أنّ بين عائشة وابن عباس من الوئام ما يصح معه زعم التواصل والتساؤل في الأحكام ، بل أنّ ابن عباس وعائشة عاشا بعد حرب الجمل متهاجرَيْن تقريباً ، وبقيا على حالهما كذلك حتى ماتت عائشة ، ولعلّه اشتدت المهاجرة والمخاصمة في عهد معاوية حين تناصرت هي وإياه على عداوة أهل البيت عليهم السلام. وكان ابن

____________________

(1) الأحزاب / 6.

(2) الطبقات الكبرى 8 / 128.

٣٠٩

عباس رجل الساعة والساحة المناصر لأهل البيت عليهم السلام ، كما يظهر بوضوح من مواقفه مع الأمويين وشيعتهم ، كما كانت عائشة تدعمهم فيما ترويه لهم من أحاديث ، والشواهد على ذلك متوفرة.

فقد أخرج الحافظ الكنجي الشافعي في ( كفاية الطالب ) وعنه الأربلي في ( كشف الغمة ) قال : ( روى الكنجي بسنده المنتهى إلى أبي صالح قال : ذكر عليّ بن أبي طالب عليه السلام عند عائشة وابن عباس حاضر ، فقالت عائشة : كان من أكرم رجالنا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فقال ابن عباس : وأيّ شيء يمنعه عن ذاك؟ اصطفاه الله لنصرة رسوله ، وارتضاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأخوّته ، واختاره لكريمته ، وجعله أبا ذريته ووصيّه من بعده ، فإن ابتغيتِ شرفاً فهو في أكرم منبت وأورق عود ، وإن أردتِ إسلاماً فأوفر بحظه وأجزل بنصيبه ، وإن أردتِ شجاعته فبَهمة حرب وقاضية حتم ، يصافح السيوف أنساً ، لا يجد لوقعها حسّاً ، ولا ينهنه نعنعة ، ولا تفله الجموع ، الله ينجده ، وجبرئيل يرفده ، ودعوة الرسول تعضده ، أحدّ الناس لساناً ، وأظهرهم بياناً ، وأصدعهم بالصواب في أسرع جواب ، عظته أقلّ من عمله ، وعمله يعجز عنه أهل دهره ، فعليه رضوان الله ، وعلى مبغضيه لعائن الله )(1) .

وإنّما قال ابن عباس رضي الله عنه هذا لأنّه كان يعلم من عائشة موقفها المتشنج إزاء أهل البيت عليهم السلام خصوصاً الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وحتى

____________________

(1) كشف الغمة 1 / 363 ، كما في البحار 40 / 51 ط الجديدة.

٣١٠

الحسن والحسين عليهما السلام ، فلم تكن تأذن لهما بالدخول عليها ، وإذا أذنت احتجبت منهما ، وكان ابن عباس يشجب موقفها هذا ، فقد أخرج ابن سعد في ( الطبقات الكبير ) بسنده عن عكرمة قال : ( سمعت ابن عباس يقول ـ وبلغه أنّ عائشة احتجبت من الحسن بن علي ـ فقال : إنّ رؤيته لها لحلّ )(1) .

وقد مرّت بنا في الجزء الخامس من الحلقة الأولى محاورة ابن عباس مع عائشة عند موت الحسن عليه السلام فليرجع القارئ إليها. فهي محاورة تكشف عن مبلغ التشنج عند الطرفين المتباعدين المتباغضين.

وقد إستدام حقد عائشة حتى عند موتها ، فقد أخرج أحمد بن حنبل في مسنده بسنده عن ذكوان مولى عائشة : ( أنّه استأذن لابن عباس على عائشة وهي تموت وعندها ابن أخيها عبد الله بن عبد الرحمن ، فقال : هذا ابن عباس يستأذن عليك وهو من خير بنيك.

فقالت : دعني من ابن عباس ومن تزكيته.

فقال لها عبد الله بن عبد الرحمن : إنّه قارئ لكتاب الله فقيه في دين الله ، فأئذني له فليسلّم عليك وليودّعك.

قالت : فأئذن له إن شئت.

قال : فإذن له ، فدخل ابن عباس ثم سلّم وجلس ، وقال : أبشري أم المؤمنين

____________________

(1) الطبقات الكبرى8 / 128ط ليدن.

٣١١

فقالت : دعني يا بن عباس من هذا ، فو الله لوددت أنّي كنت نسياً منسيّاً(1) (2) . فقد جزعت حين احتضرت. فقيل لها ، فقالت : أعترض في حلقي يوم الجمل )(3) .

وإلى هنا ننهي الحديث عن ابن عباس مع عائشة ، ونستقبل بقية محاوراته مع معاوية وأشياعه.

____________________

(1) مسند أحمد 1 / 349 ط الأولى و 5 / 90 برقم ( 3262 ) ط شاكر.

(2) قال شاكر : في هامش الحديث برقم ( 2496 ) إسناده صحيح وهو مطول 1905 ، ورواه البخاري 8 / 371 ـ 372 مختصرا.

(3) ربيع الأبرار للزمخشري 3 / 345.

٣١٢

محاورات ابن عباس مع معاوية

قميصّ عثمان أضحى مضربَ المثل

لكلّ ثائرة من أخبث الحيل

في كلّ واقعة كذباً مخادعةً

صار الشعار لعيّابين في الدوَل

لو ينشر اليوم عثمانٌ لطالبهم

مع القصاص له بالغُنم من نفَل

فليته لو وعى نصحاً لجنّبه

تلك المآسي ولكن شاب عن عَذَل

فكان ما كان من أمرٍ تخيّره

شيخٌ ضعيفٌ هوى في حمأة الزَلَل

فأورث الناس آلاماً بمقتله

زلّت به النعل فالتاثته بالوَحَل

فأوّل القوم من نادوا بمقتله

ثاروا له اليوم يا للقلب الحَوِل

هم ناقموا الأمس قد جاؤا بأمّهمُ

وسيرّوا عسكراً في وقعة الجَمَل

وعاهل الشام أدلى في قليبهم

فقد رأى فرصة وافت لمهتبل

فحرب صفين قد أورى شرارتها

في النهروان فأورت كُلِّ ذي شُعلِ

حتى الطفوف وقتل السبط من ذَحل

حرق الخيام بتلك النار لم يَزل

ما ثأر عثمان أحماهم وأغضبهم

لولا الخلافة عادت للإمام عليّ

تلكم قريشُ لتأبى أن ترى رجلا

بالأمس قاتلهم واليوم فيه يلي

٣١٣

فأعصبوا قتل عثمان بحيدرة

أبناءُ من سجدوا دهراً إلى هُبل

هذا عليّ وهذي بعضُ محنته

أن يعصبوه دماً من خاتم الرّسُل

قال الزمخشري : قميص عثمان الذي قتل فيه ، مَثَلٌ فيما يهيّج الحزن ويجدّد الحسرة والبكاء ، وعن عمرو بن العاص : أنّه لمّا أحسّ من العسكر فتوراً أشار على معاوية بأن يبرز لهم قميص عثمان ، فلمّا وقعت عيونهم عليه ، ارتفعت صيحتهم بالبكاء والنحيب ، وجدّوا في الحرب فعندها قال حرّك لها حوارها تحنّ(1) .

مَن هم قتلة عثمان؟ هل هم بنو هاشم؟ أم هم بنو أمية؟

هذا سؤال قد يثير استغراباً لدى القارئ إذ لم يرد في التاريخ أنّ واحداً من هؤلاء قد شارك في قتل عثمان ، مباشرة ، فلماذا إذن السؤال؟

والجواب يُعرف من الأبيات المتقدمة ، وعلى هذا الوتر كانت أصابع معاوية تضرب وأبواقه تعزف بأنّ عليّاً قتل عثمان! وإذا حوقق قال : آوى قتلته!

ولم يكن ابن عباس بعيداً عن مرمى معاوية في حجارته لعداوته ، وسنقرأ في كثير من محارواته ما يدلّ على ذلك. وإذا بحثنا عن جذور تلك العداوات نجدها متأصلة في فرعي عبد مناف بني هاشم وبني أمية منذ عهد بعيد ، فلنقرأ بعض ما جاء في ذلك :

____________________

(1) ربيع الأبرار 4 / 32 ط أوقاف بغداد.

٣١٤

إنّ من راجع كتاب ( السفيانية ) للجاحظ ، و ( النزاع والتخاصم ) للمقريزي وأضرابهما ، يجد جذور العداوة بين بني أمية وبين بني هاشم وهم من قريش ، ضاربة في أصولها متنامية في فروعها ، ولم يخف ذلك على الباحثين من قدامى ومحدثين.

فإلى ما قاله واحد منهم وهو محمّد بن سليمان حاجب الحجاب ، وهذا الرجل لم يكن يتعصب لمذهب بعينه كما قال ابن أبي الحديد وقد رآه(1) ، فلنقرأ ما يقول وقد سأله جعفر بن مكي الحاجب عما عنده في أمر عليّ وعثمان ، فقال : ( هذه عداوة قديمة النسب بين عبد شمس وبين بني هاشم ، وقد كان حرب بن اُمية نافر عبد المطلب بن هاشم ، وكان أبو سفيان يحسد محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم وحاربه ، ولم تزل الثنتان متباغضتين وإن جمعتهما المنافية ، ثمّ إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زوّج عليّاً بابنته ، وزوّج عثمان بابنته الاُخرى ، وكان إختصاص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة أكثر من إختصاصه للبنت الأخرى ، وللثانية التي تزوجها عثمان بعد وفاة الأولى. وإختصاصه أيضاً لعليّ وزيادة قربه منه وامتزاجه به وإستخلاصه إياه لنفسه ، أكثر وأعظم من إختصاصه لعثمان ، فَنَفَس عثمان ذلك عليه فتباعد ما بين قلبيهما ).

إلى أن قال : ( ثمّ أتفق أنّ عليّاً عليه السلام قتل جماعة كثيرة من بني عبد

____________________

(1) وصفه ابن أبي الحديد بأنه حاجب الحجاب وقال : وكان ظريفاً أديباً وقد أشتغل بالرياضيات من الفلسفة ولم يكن يتعصب لمذهب بعينه.

٣١٥

شمس في حروب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فتأكد الشنآن ، وإذا أستوحش الإنسان من صاحبه أستوحش صاحبه منه.

ثمّ مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فصبا إلى عليّ جماعة يسيرة لم يكن عثمان منهم ، ولا حضر في دار فاطمة مع مَن حضر من المتخلّفين عن البيعة ، وكانت في نفس عليّ عليه السلام أمور من الخلافة لم يمكنه إظهارها في أيام أبي بكر وعمر لقوّة عمر وشدّته ، وانبساط يده ولسانه.

فلمّا قتل عمر وجعل الأمر شورى بين الستة ، وعدل بها عبد الرحمن عن عليّ إلى عثمان ، لم يملك عليّ نفسه فأظهر ما كان كامناً ، وأبدى ما كان مستوراً ، ولم يزل الأمر يتزايد بينهما حتى شرف وتفاقم.

ومع ذلك فلم يكن عليّ عليه السلام لينكر من أمره إلاّ منكراً ، ولا ينهاه إلاّ عما تقتضي الشريعة نهيه عنه.

وكان عثمان مستضعفاً في نفسه ، رخواً ، قليل الحزم ، واهي العقدة ، وسلّم عنانه إلى مروان يصرّفه كيف شاء ، فالخلافة له في المعنى ولعثمان في الإسم ، فلمّا انتقض على عثمان أمره استصرخ عليّاً ولاذ به ، وألقى زمام أمره إليه ، فدافع عنه حيث لا ينفع الدفاع ، وذبّ عنه حين لا يغني الذبّ ، فقد كان الأمر فسد فساداً لا يرجى صلاحه )(1) .

ومع هذه العداوة المتأصلة في جذورها كيف يبرئ معاوية وبنو أُمية الإمام عليه السلام وبني هاشم ، مع أنّهم وأعوانهم كانوا يشهدون ببراءته وبراءتهم ،

____________________

(1) أنظر شرح النهج لابن أبي الحديد 2 / 401 ط مصر الأولى.

٣١٦

ولكنها الأحقاد الأموية.

فاقرأ ما قاله عبد الله بن عمر لمن سأله : هل شرك عليّ في دم عثمان؟

فقال : ( لا والله ما علمت ذلك في سر ولا علانية ، ولكنّه كان رأساً يفزع إليه فألحق به ما لم يكن )(1) .

واقرأ لابن عمر كلمته الأُخرى في حقّ ابن عباس وبراءته من دم عثمان.

قال : ( ما زال ابن عباس ينهى عن قتل عثمان ويعظّم شأنه حتى جعلت ألوم نفسي على أن لا أكون قلت مثل ما قال )(2) .

وليس عروة بن الزبير بدون ابن عمر في نصبه ، ومع ذلك فقد كان يقول : ( كان عليّ أتقى لله من أن يعين في قتل عثمان ، وكان عثمان أتقى لله من أن يعين في قتله عليّ )(3) .

وقال ابن سيرين : ( لقد قتل عثمان يوم قتل وما أحد يتهم عليّاً في قتله )(4) .

ولكن معاوية قال لابن عباس في كتاب كتبه إليه بعد صلح الإمام الحسن عليه السلام ، جاء فيه : ( لعمري لو قتلتك بعثمان رجوت أن يكون ذلك لله رضا ، وأن يكون رأياً صواباً ، فإنّك من الساعين عليه ، والخاذلين له ، والسافكين دمه ، وما جرى بيني وبينك صلح فيمنعك منّي ولا بيدك أمان ).

____________________

(1) أنساب الأشراف 1 ق 4 / 593.

(2) نفس المصدر 4 / 595.

(3) ربيع الأبرار للزمخشري 3 / 355 ط اوقاف بغداد.

(4) أنساب الأشراف 1 ق 4 / 594.

٣١٧

فأجابه بجواب طويل جاء فيه : ( وأمّا قولك أنّي من الساعين على عثمان والخاذلين والسافكين له وما جرى بيني وبينك صلح فيمنعك منّي ، فأقسم بالله لأنت المتربّص بقتله والمحبّ لهلاكه ، والحابس الناس قبلك عنه على بصيرة من أمره ، ولقد أتاك كتابه وصريخه يستغيث بك ويستصرخ ، فما حفلت به حتى بعثت إليه معذراً بأمر أنت تعلم أنّهم لن يتركوه حتى يقتل ، فقتل كما كنت أردت ، ثمّ علمت عند ذلك أنّ الناس لن يعدلوا بيننا وبينك فطفقت تنعى عثمان وتلزمنا دمه ، وتقول قتل مظلوماً ، فإن يك قتل مظلوماً فأنت أظلم الظالمين ، ثمّ لم تزل مصوّباً ومصعّداً وجاثماً ورابضاً تستغوي الجهّال ، وتنازعنا حقنا بالسفهاء حتى أدركت ما طلبت ،( وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ) (1) (2) .

نعم ، إنّ بني هاشم كانوا من الكارهين لولاية عثمان هذا أوّلاً ، لأنّهم يرون أنّ الحقّ لهم ، وكانوا أيضاً من الساخطين على سيرته ثانياً حين أسخط المسلمين عمالُه ، ولم يكونوا وحدهم قد سخطوا سيرته ، بل جميع الصحابة في المدينة وخارجها كانوا كذلك.

فقد روى شعبة بن الحجاج عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ، قال : ( قلت له : كيف لم يمنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن عثمان؟ فقال : إنّما قتله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم )(3) .

____________________

(1) الأنبياء / 111.

(2) شرح النهج لابن أبي الحديد 4 / 58.

(3) نفس المصدر 1 / 231.

٣١٨

وروى عن أبي سعيد الخدري أنّه سئل عن مقتل عثمان هل شهده أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال : ( نعم شهده ثمانمائة )(1) .

فهذان القولان وإن لم يعيّنا بالاسم مَن هم أولئك الصحابة الذين قتلوا عثمان ، ومن هم الذين شهدوا مقتل عثمان ولم يمنعوا عنه ، لكن من تولى كبر قتله ، لم يكن عليّ ولا ابن عباس ولا بقية بني هاشم مع أولئك الصحابة القاتلين لعثمان ، وإذ لم يكونوا معهم ، فما بال بني أمية عصبوا قتله بهم؟ إنّهم لم يكونوا مع القاتلين ولا مع المحرّضين عليه ، بل كانوا من المدافعين عنه ، وقد ردّوا عنه كثيراً حتى أعجزهم هو حين لم يأخذ بنصائحهم ، وكان يتّهمهم لما في نفسه من جذور العداوة المتأصلة بين بيتي عبد مناف ـ بني هاشم وبني أمية ـ.

والآن إلى ما رواه البلاذري ، والطبري ، وابن الأثير ، وابن كثير ، والنويري ، نقلاً عن الواقدي من نصائح الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لعثمان ، ننقلها بلفظ الطبري :

قال ـ بعد ذكر نقمة الناس وتداعي الأمصار بالنكير على سيرة عثمان ـ : ( فاجتمع الناس وكلّموا عليّ بن أبي طالب ، فدخل على عثمان ، فقال : الناس ورائي وقد كلّموني فيك ، والله ما أدري ما أقول لك ، وما أعرف شيئاً تجهله ، ولا أدلّك على أمر لا تعرفه ، إنّك لتعلم ما علمنا ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه ، ولا خلونا بشيء فنبلّغكه ، وما خصصنا بأمر دونك ، وقد رأيتَ

____________________

(1) نفس المصدر.

٣١٩

وسمعتَ وصحبتَ رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم ونلتَ صهره.

وما ابن أبي قحافة بأولى بعمل الحقّ منك ، ولا ابن الخطاب بأولى بشيء من الخير منك ، وإنّك أقرب إلى رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم رَحِماً ، ولقد نلتَ من صهر رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم ما لم ينالا. ولا سبقاك إلى شيء ، فالله الله في نفسك ، فإنّك والله ما تُبصّر من عَمى ، ولا تعلّم من جهل ، وإنّ الطريق لواضح بيّن ، وإنّ أعلام الدين لقائمة ، تعلم يا عثمان أنّ أفضل عباد الله عند الله إمام عادل ، هُدي وهَدىَ ، فأقام سنة معلومة ، وأمات بدعة متروكة ، فوالله إن كلاً لبيّن وإنّ السنن لقائمة لها أعلام ، وإنّ البدع لقائمة لها أعلام ، وإنّ شرّ الناس عند الله إمام جائر ضلَّ وضُلّ به ، فأمات سنّة معلومة ، وأحيا بدعة متروكة. وإنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم يقول : ( يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر ، فيلقى في جهنم ، فيدور في جهنم كما تدور الرحا ، ثمّ يرتطم في غمرة جهنم ).

وإنّي أحذّرك الله ، وأحذّرك سطوته ونقماته ، فإنّ عذابه شديد أليم. وأحذّرك أن تكون إمام هذه الأمة المقتول ، فإنّه يقال : يقتل في هذه الأمة إمام ، فيفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة ، وتُلّبس أمورُها عليها ، ويتركهم شيعاً ، فلا يبصرون الحقّ لعلوّ الباطل ، يموجون فيها موجاً ، ويمرجون فيها مرجاً. فلا تكونن لمروان سيّقة يسوقك حيث شاء بعد جلال السنّ وتقضّي العمر.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

الحدوث وعبر البقاء جميعاً (١) .

وعليه أيضاً نزلت الآية: ( يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (٢) ، أي يُمكنه تعالى أنْ يُزيل شيئاً عمّا قدّر فيه ويُبدّله إلى غيره، حسب عِلمه تعالى في الأَزل بالمصالح والمفاسد المـُقتضية في أوقاتها وظروفها الخاصّة، فهو تعالى كلّ يوم في شأن (٣) .

ومِثلها قوله تعالى: ( وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) (٤) ، وذلك أنّهم؛ لفَرط جهلهم أنكروا إمكان التبديل في الخلق والتدبير - سواء في التشريع والتكوين - حَسبوا من التغييرات الحاصلة في طول التشريع أنّها افتراءٌ على اللّه، الأمر الذي يدلّ على غباوتهم وجهلهم بمقام حِكمته تعالى الماضية في الخَلق والتدبير على طول خطّ الوجود.

وهذا المعنى هو المستفاد من عقيدتهم بأنّه تعالى بعد ما فَرغ من خَلق السماوات والأرض خلال الستة الأيّام استراح في اليوم السابع وهو يوم السبت، جاء في سِفر التكوين: (فأكملتُ السماوات والأرض وكلّ جُندها، وفَرِغ اللّه في اليوم السابع مِن عملِه الذي عَمل، فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل) (٥) .

* * *

وقد يُقال: إنّ هذا المعنى لا ينسجم مع ذيل الآية ( يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ) ؛ حيث يستدعي هذا التعبير أن يكون النظر في صدر الآية إلى أمر البُخل والتقتير في الرزق (٦) .

غير أنّ ذِكر الإنفاق كيف يشاء - في ذيل الآية -: جاء بياناً لأَحدِ مصاديقِ بسط يده تعالى وشمول قُدرته، وليس ناظراً إلى الانحصار فيه؛ ولعلّ ذكر ذلك كان بسبب ما واجَه المسلمين في إبّان أمرهم مِن الضيق وعدم التوفّر في تهيئة التجهيز الكافي والحصول على الإمكانات اللازمة، فأخذتْ اليهود في الطعن عليهم بأنّ ذلك هو المـُقدّر لهم، وليس بوِسعِه تعالى أنْ يفسح لهم المـَجال أو يُوسِع عليهم في المعاش.

____________________

(١) تفسير الميزان، ج١، ص٢٥٣ - ٢٥٤.

(٢) الرعد ١٣: ٣٩.

(٣) الرحمان ٥٥: ٢٩.

(٤) النحل ١٦: ١٠١.

(٥) سِفر التكوين، الإصحاح ٢/١.

(٦) راجع: تفسير الميزان، ج٦، ص٣١.

٣٦١

وإلاّ فوِجهة الآية عامّة كنظيراتها، والعِبرة بعموم اللفظ دون خصوص المـُورد.

قولة اليهود: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ!!

قال تعالى: ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ) (١) .

عُزَير - مُصغّراً - هو الذي يسمّيه أهل الكتاب (عَزْرا) قال الشيخ مُحمّد عَبده: والظاهر أنّ يهود العرب هم الذين صَغّروا بالصيغة العربيّة للتحبيب وصَرَفوه، وعنهم أَخذ المسلمون، والتصرّف في أسماء الأعلام المنقولة إلى لغةٍ أُخرى معروف عند جميع الأُمَم، حتّى أنّ (يسوع) قَلَبَته العرب فقالت: (عيسى).

وعَزْرا هذا هو الذي أَحيى شريعة اليهود بعد اندراسها، وكَتَب أسفارَهم من جديد بعد ضَياعها لمدّة تقرب من قَرنَينِ، بعد كارثة بخت نصّر الذي شتّت شملهم وأحرق كُتبهم وأَخرب معابدهم، ووضع السيف في رقابهم، وأَسَر الباقين إلى أرض بابل حتّى فرّج عنهم الملك داريوش عند ما فتح بابل، وساعدهم على المـُراجعة إلى أرض فلسطين فيمَن عَزم على الرجوع إليها من اليهود وعلى رأسهم عَزرا - وهو عجوزٌ قد طَعن في السنّ - فأعاد بناء الهيكل على حساب مَلِك فارس، وقام بإحياء الشريعة وكتابة الأسفار نحو سنة ٤٥٧ ق. م (٢) ، جَمعها من صدور الرجال والمـَحفوظ لديهم من بقايا آثار التوراة، فكانت له منزلة رفيعة عند اليهود ممّا يقرب من مرتبة نبيّ اللّه موسى (عليه السلام)؛ لأنّه أحيا الشريعة الموسويّة من جديد وأعاد حياتها بعد الضياع والاندراس.

وهذا هو السرّ في تلقيبه بابن اللّه تشريفاً بمقامه الرفيع عندهم، كما قالوا ( نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ) (٣) ، أي مُقرّبون لديه تعالى مَقربة الوَلد مِن والدهِ.

ولعلّ تلقيب المسيح بابن اللّه أيضاً من هذا الباب تشريفاً بموضعه عند اللّه العزيز.

وجُملة القول: إنّ اليهود كانوا وما زالوا يُقدّسون عُزَيراً هذا، حتّى أنّ بعضهم أو

____________________

(١) التوبة ٩: ٣٠.

(٢) راجع: سِفر عَزْرا، الإصحاح السابع.

(٣) المائدة ٥: ١٨.

٣٦٢

جُلّهم أَطلق عليه لقب ابن اللّه، فهو تلقيبُ تكريمٍ كما في تلقيب يعقوب بإسرائيل أي القٌدرة الغالبة الإلهيّة، وداود بمعنى المحبوب لدى اللّه، وجبرائيل أي الرجل الإلهي، وعزّئيل أي عزّته تعالى، كلّ هذه ألقاب تشريفيّة تكريماً بمقام المـُتلقّبين بها.

لكن الفيلسوف اليهودي (فلو) الاسكندري المعاصر للمسيح يقول: إنّ لله ابناً هو كلمتُه التي خَلق بها الأشياء، فعلى هذا لا يبعُد أن يكون بعض اليهود المتقدّمين على البعثة المـُحمّديّة - على المبعوث وآله صلوات ربّ العالمين - قد قالوا إنّ عُزَيراً ابن اللّه بهذا المعنى، كما شاع عند النصارى أنّ تلقيب المسيح بابن اللّه هو من هذا الباب (١) .

قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ

قالوا: لم يَعهد من تأريخ مصر القديمة أنّ ملوكها استوزَروا أجانب في سُلطانهم، فمَن هذا المـَلِك الذي استوزرَ يوسف العِبراني لإدارة شؤون الاقتصاد في البلاد؟

( وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي (أي أجعله من خاصّتي) فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) (٢) ، فأصبح يوسف عزيز مصر!

وتَحذلق بعضهم القول بعدم معهوديّة التوزير من أبناء اليهود (٣) ولم يدرِ المسكين أنّ يوسف سَبق اليهوديّة بقرون! وكان الذي خوّله إرادة شؤون الاقتصاد من المـُلوك الرُعاة (الهِكسوس) وهم أجانب ومِن جالية الشعوب الهنديّة الأُوروبيّة تغلّبوا على الشعب المصري وحكموا البلاد قسراً، والذي بدأ حوالي سنة ١٨٠٠ ق. م، وهو العهد الذي يُمثّل الأُسرتَين الخامسة عشرة والسادسة عشرة ثُمّ السابعة عشرة في الشمال حتّى عام ١٥٧٠ ق. م، ليقوم (أحمس الأَوّل) في وجههم ويَطردهم ويُؤسّس الدولة الحديثة الأُسرات من الثامنة عشرة إلى آخر العشرين، وكان إذ ذاك أوان خروج العِبرانيّين من مصر

____________________

(١) راجع: تفسير المنار، ج١٠، ص٣٢٢ - ٣٢٨.

(٢) يوسف ١٢: ٥٤ و٥٥.

(٣) شجاع الدين شفا في كتابه (تولّدي ديكر)، ص٢٨٦.

٣٦٣

على عهد موسى وفرعون (١) .

عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ

ويسترسل (نولدكه) في توهّماته عن القرآن، ليزعم أنّ هذا التعبير بشأن صعيد مصر الذي تشح فيه الأمطار يَنمّ عن جهلٍ بموضع هذا البلد الذي تعود خُصوبته إلى فيضان النيل لا الأمطار، جاء في فقرةٍ من كتابه (... Sketches ص٣٠ - ٣١) حول هامان ومريم: (بالإضافة إلى هذا التصوّر غير المعقول، يوجد تحويرات مزاجيّة شتّى، بعضها يدعو للسُخرية ويُنسب إلى محمّدٍ نفسه، والمثال على جهله لكلّ الأُمور خارج الجزيرة هو جَعْلُ الخُصوبة في مصر - التي تشحّ فيها الأمطار - مرهونةً بالأمطار وليس بفيضان النيل) (٢) .

هذا الانتقاد في غاية الغَباء وينمّ عن جهل (نولدكه) - المستشرق - للّغة العربيّة وللشؤون المصريّة بالذات.

لقد جاء في الآية التي يستشهد بها ما يلي: ( ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ) (٣) .

وكلمة (يُغاث) تَحتمل أن تكون من (الغَوث) - وهو النُصرة - أو مِن (الغيث) أي المطر، ( فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ) (٤) أي استَنصَره؛ ومِن ثَمّ جاء في تفسير الآية ( عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ ) أي يُنْجى الناسُ من الجَدب ومحنة القحط، قالوا: ويكون من قولهم: أغاثه اللّه، إذا أَنقذه من كَربٍ أو غمّ، يُنقَذُ الناس فيه من كَرب الجَدب، وقوله ( وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ) أي يَعصرون السِّمسم دُهناً والعِنب خمراً والزيتون زيتاً، وهذا يَدلّ على ذهاب الجَدب وحصول الخِصب ووفور الخير (٥) .

____________________

(١) راجع: الموسوعة المصريّة (تأريخ مصر القديمة)، مجلّد أوّل، الجزء الأوّل، ص٣٨ - ٤٢، وقاموس الكتاب المقدّس، ص٩٦٨ و٩٦٩، وقصص الأنبياء للنجّار، ص١٤٩.

(٢) راجع: الدفاع عن القرآن، ص١٨٦.

(٣) يوسف ١٢: ٤٩.

(٤) القصص ٢٨: ١٥.

(٥) راجع: التفسير الكبير، ج١٨، ص١٥١.

٣٦٤

أمّا لو أُخذت من (الغيث) أي المطر فيكون المعنى: فيه يُمْطَرون، غير أنّ بلاد مصر العُليا تَنعم بغزارة الأمطار أربعة أشهر متتالية في فصل الشتاء، فالمصريّون الّذين يعيشون في الصعيد في الدلتا يعلمون جيّداً أنّ الأمطار تتساقط بغزارة خلال فصل الشتاء أي خلال أربعة أشهر (من ديسمبر إلى مارس)، وأنّ زراعة القمح والبِرس والشعير والفول وأمثالها تعتمد أساساً على الأمطار الّتي تتساقط هذه الفترة، الأمر الذي يجهله أمثال (نولدكه) مِن المتخصّصين في الدراسات العربيّة الإسلاميّة، وهو لم تطأ قدمه بعدُ البلدان الإسلاميّة ولم يغادر أُوربا طَوال عمره (١٨٣٦ - ١٩٣١م)، فلا غَرْوَ أن يخطأ (نولدكه) خطأً مزدوجاً، فهو لم يَفهم النصّ العربي للآية، ثُمّ إنّه يؤكّد أنّ المطر يكاد يَنعدم في مصر، وأهلُها لم يشعروا أبداً باحتياجهم له! وهو الخطأ الذي لا يقع فيه أحد من صبية مصر! على حدّ تعبير الأُستاذ البدوي (١) .

والعجب أنّه لم يَطّلع على ما كَتبه (سال Sale ) في تَرجمة القرآن التي أَنجزها وانتشرت خلال القرن الثامن عشر، إنّه يترجم الآية هكذا:

Then shall there come, after this a year wherein men shall have plenty of rain ، end wherein they shall press wine and oil .

ونجده في ملاحظةٍ سجّلها في أسفل الصفحة يقول علينا أن نُفنّد ما كَتَبه بعض المؤلّفين القدامى، فلقد كانت تمطر عادةً في الشتاء خاصّة في الوجه البحري، وقد لُوحظ الثلج في الإسكندريّة على نقيض ما يزعمه ( Seneca ) صراحةً، فعلاً تُصبح الأمطار أكثر ندرةً في الوجه القبلي في اتجاه شلاّلات النيل، وعلى أيّة حالٍ فإنّنا نفترض أنّ الأمطار التي ذُكرت هنا - في الآية - قُصد بها تلك التي تَسقط في (إثيوبيا) وتُسبّب ارتفاع منسوب النيل (٢) .

____________________

(١) معدّل الأمطار التي تسقط في الإسكندريّة وشمال الدلتا يُقدّر بـ ٢٠٦ ملم، وفي القاهرة ٣٣ ملم، انظر: Suggate . l.s . Africa ، London ، Harap ، ١٩٧٤ (الدفاع عن القرآن، ص١٨٧ - ١٨٨).

(٢) The Koran ، translated into Englis c h from the original Arabic by George Sale هذه الترجمة صَدرت عام ١٧٣٤ (الدفاع عن القرآن، ص١٨٧).

٣٦٥

فيا تُرى كيف لم يَطّلع (نولدكه) على هذه الترجمة وهذه المـُلاحظة التي سجّلها (سال) وكانت في متناوله؟!

فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ

قال تعالى - فيما حكاه خطاباً لفرعون حينما أَدركه الغَرَق -: ( فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ) (١) ، وذلك عندما أَيقن بالغَرَق وقال: ( آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) (٢) ، قال تعالى: ( آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) (٣) .

قال هاشم العربي: وهذا يدلّ على أنّه تعالى نجّى فرعون من الغَرَق؛ ومِن ثَمّ يُناقض ما وَرد في سائر الآيات مِن أنّه تعالى أَغَرقه ومَن معه جميعاً (٤) .

وسَخَّف تأويلَ المفسّرين ذلك بإنقاذ جسده مِن قَعر البحر وجَعْله طافياً على وجه الماء، أو نَبذ الأمواج له إلى نَجوة (مكان مرتفع) من ساحل البحر؛ ليكون عبرةً للآتينَ، حيث يَجدوه مطروحاً بلا روح على الأرض، قال: هذا تأويل يُخالف ظاهر التعبير؛ حيث المـُتبادر من النجاة هو الخلاص من الغَرَق، قال: على أنّه ليس في ذلك (طفو الجسد على وجه الماء أو طرحه على الساحل) آيةٌ؛ لأنّ هذه حال أكثر الغَرقَى تطفو جُثَثُهم على الماء أو يُلقيها البحر بالساحل (٥) .

لكنّه لم يُمعن النظر في التعبير بالبَدن، وهي الجُثّة بلا روح، فلو كان أَراد تَنجيتَه لجاء التعبير: (ننجّيك) بلا زيادة قوله: (ببدنك)، فهذه الزيادة دَلّتنا على اختصاص البَدن (الجسد بلا روح) بالنجاة.

والمـُراد بالنجاة هو الخلاص ببدنِه سليماً مِن مقضمة الحيوانات البحريّة ومن غير أن يتفتّت أشلاءً أو يتفسّخ.

____________________

(١) يونس ١٠: ٩٢.

(٢) يونس ١٠: ٩٠.

(٣) يونس ١٠: ٩١، وراجع الإسراء ١٧: ١٠٣، والزخرف ٤٣: ٥٥، والقصص ٢٨: ٤٠.

(٤) ملحق ترجمة كتاب الإسلام، ص٣٧٩ - ٣٨٠.

(٥) راجع ما كتبه الشيخ الطنطاوي بهذا الشأن في تفسير الجواهر، ج٦، ص٨١ و١٠٥.

٣٦٦

الأمر الذي بقيَ معجزةً خالدةً، فها هو جسد فرعون المـُنحّط، معروض للعامّة، وقد شاهدتُه في متحف بريطانيا الأثري، وجُثث أُخرى معروضةً هناك وفي مَتاحف مصر أيضاً.

مَن هو فرعون موسى؟

وفرعون هذا يقال: إنّه (توت عنخ أمون) من ملوك الأُسرة الثامنة عشرة وكانت مدّة مُلكه ما بين (١٣٤٨ - ١٣٣٧ق. م) أي قبل ثلاثة آلاف وثلاثمِئة سنة تقريباً (١) .

وقيل: هو منفطا (منفتاح) الأَوَّل من الأُسرة التاسعة عشرة (١٢٢٣ - ١٢١١ ق. م). وقيل: ابنه (سيتي) الثاني (١٢٠٧ - ١٢٠٢ ق. م) (٢) .

وفي أيّامه اختلّ الأَمن وسادت القلاقل وهَلك سيتي بعد أنْ مَلَك مدّةً قصيرةً، وقد عُثر على جُثّته في قبر (أمنهوتب) الثاني بطيبة، فانفرد الوُلاة كلٌّ بولايته؛ ومِن ثَمَّ كثر وفود الأجانب على مصر (٣) .

ولقد صدق اللّه سبحانه حيث يقول: ( كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ ) (٤) .

( كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) (٥)

هل ورثت بنو إسرائيل ديار مصر بعد غَرَق فرعون وجنوده؟

ليس في الآية تصريح بذلك، وإنّما هو الاستيلاء على ديارٍ كان مُلوك مصر مُسيطرينَ عليها، وليس على نحو الشُمول، ففي سورة الأعراف - بعد أنْ ذَكَر قصّة الغَرَق - قال: ( وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا

____________________

(١) تفسير الجواهر، ج٦، ص٨١ - ٨٢.

(٢) دائرة معارف القَرن العشرين، ج٩، ص٣٠، وراجع: الموسوعة المصريّة (تأريخ مصر القديمة وآثارها): المجلّد الأَوّل، الجزء الأَوّل، ص٥٩.

(٣) المصدر.

(٤) الدخان ٤٤: ٢٥ - ٢٨.

(٥) الشعراء ٢٦: ٥٩.

٣٦٧

فِيهَا ) (١) ، والأرض المباركة هي أرض فلسطين والشامات (٢) ، وهي عامرة بوِفرة الخِصب وكثرة الأرزاق، ومشارق الأرض ومغاربها إشارةً إلى سُلطان داود وسليمان على بني إسرائيل وأنّهما أقاما دولةً واسعة الأرجاء في فلسطين امتدّت إلى شرق البلاد وغربها في عرضٍ عريض.

وأمّا قوله تعالى: ( كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ ) (٣) ؛ فلعلّه أراد الفَوضى التي حصلت بعد هلاك (سيتي) الثاني وتواترت وفود الأجانب على البلاد كما قدّمنا (٤) ، وإن كان أُريد بهم قوم إسرائيل فيُحمل على إرادة أرض فلسطين كالآية السابقة.

شُبهة وجود اللَحن في القرآن

قالوا: وأيّ باطل بعد الخطأ واللَحن تبتغون؟ وقد رَوَيتم عن عائشة أنّها قالت: ثلاثة أحرف في كتاب اللّه هُنّ خطأٌ من الكاتب:

١ - قوله: ( إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ ) (٥) .

٢ - قوله: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ ) (٦) .

٣ - قوله: ( وَالْمُقِيمِينَ الصّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزّكَاةَ ) (٧) .

ورَوَيتم عن عثمان: أنّه نَظَر في المـُصحف بعد ما رُفع إليه فقال: أرى فيه لَحناً وستُقيمه العرب بألسنتها (٨) .

وَنَسبوا إلى التابعي الكبير سعيد بن جُبير أنّه زَعَم أنّ في القرآن لَحناً في أربعة مواضع، وذَكَر الموارد الثلاثة، وزاد الرابعة قوله تعالى: ( فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ) (٩) .

____________________

(١) الأعراف ٧: ١٣٧.

(٢) جاء هذا التعبير بشأن أرض فلسطين وما والاها في مواضع من القرآن: الإسراء ١٧: ١، الأنبياء ٢١: ٧١، الأعراف ٧: ١٣٧.

(٣) الدخان ٤٤: ٢٨.

(٤) راجع: دائرة معارف القَرن العشرين، ج٩، ص٣٠.

(٥) طه ٢٠: ٦٣.

(٦) المائدة ٥: ٦٩.

(٧) النساء ٤: ١٦٢.

(٨) راجع: تأويل مشكل القرآن، ص٢٥ - ٢٦.

(٩) المصاحف للسجستاني، ص٣٣ - ٣٤، والآية ١٠ من سورة المنافقين.

٣٦٨

وقالوا في قوله تعالى ( يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ) : (١) كان ينبغي التأنيث في العدد؛ لأنّ التقدير: وعشرة أيّام!

وهكذا زَعَم مَن لا دراية له من المـُستشرقين وأَذنابهم أنّ في القرآن لَحناً، وتَغافلوا عن أنْ لو كان الأمر على ذلك لاتخذه مناوئو الإسلام من أَوَّل يومه ذريعةً للغَمز فيه وهم عربٌ أَقحاحٌ، ولم يكن يَصل الدور إلى هؤلاء الأجانب الأسقاط (٢) .

ليس في القرآن لَحن

لاشكّ أنّ القرآن من أقدم أسناد اللغة ذوات الاعتبار، ولا مجال للترديد في حجّيته واعتباره بعد حضوره في عصرٍ كان العرب في أَوْج حضارتها الأدبيّة الراقية، وكانوا أعداء ألدّاء له يتحيّنون الفُرص للغَمز فيه من أيّ جهةٍ كانت، لولا اعترافاتهم الصريحة باعتلائه الشامخ في الأدب الرفيع، فهل يُعقل أنْ يكون في القرآن مسارب للغَمز فيه تَغَافَلها أولئك الأقحاح ليَتعرّف إليها هؤلاء الأذناب؟

على أنّ الصحيح من كلّ لغة هو ما حَفظته أسنادهم العتيدة، ولتكون هي المعيار في تمييز السليم عن السقيم، هذا ابن مالك - إمام في النحو والأدب ولغة العرب - يَجعل القرآن قدوةً في تنظيم قواعد اللغة وترصيف أدبها، يقول:

وسَبْقُ حالٍ ما بحرفٍ جُرَّ قَدْ

أَبَوا ولا أمنَعُه فَقَدْ وَرَدَ

يعني: أنّ بعض النُحاة ذهبوا إلى عدم جواز تقدّم الحال على ذي حالٍ مجرور بحرف، ولكنّي أُجيز ذلك، استناداً إلى وروده في سندٍ قويم وهو القرآن الكريم، في قوله تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ كَافَّةً لِلنَّاسِ ) (٣) ، لتكون (كافّةً) حالاً من (الناس).

فقد جَعَل القرآن سنداً قطعياً لقاعدة لغوية، دون العكس على ما زَعَمه الزاعمون.

فكلّ ما جاء في القرآن هو الحجّة والسند القاطع لفهم مجاري الأدب الرفيع.

____________________

(١) البقرة ٢: ٢٣٤.

(٢) انظر: تأريخ القرآن لنولديكه، ج٣، ص٢ - ٤، آراء المستشرقين حول القرآن، ج٢، ص٥٥٥ - ٥٧٤.

(٣) سبأ ٣٤: ٢٨.

٣٦٩

* * *

فما زَعَمه الزاعمون من وجود لَحنٍ في كتاب اللّه فإنّما هو؛ لقصور فهمٍ وعدم اضطلاع بمباني اللغة الأصيلة وإليك توضيحاً لهذا الجانب:

أمّا قوله تعالى: ( إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ ) (١) فالقراءة الصحيحة المـُتّبعة وهي قراءة حفص وجمهور المسلمين هي القراءة بالتخفيف، مخفّفاً عن المثقّلة؛ بدليل وجود اللام في الخبر، وكان أبو عمرو بن العلاء - وهو أعلم أهل زمانه بالقرآن والعربيّة وآدابها - يقول: إنّي لأَستحيي أنْ أقرأ بالتشديد ورفع الاسم، فالخطأ موجّه إلى تلك القراءة المرفوضة وليس في القرآن، الذي يلهج به عامّة المسلمين وعلى رأسهم قراءة حفص ذات الإسناد الذهبي إلى الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام).

أمّا الحَمل على لغة بَلْحَرث بن كعب، حيث كانوا يلهجون في المثنّى بالألف مطلقاً - كما فعله ابن قتيبة - (٢) فغير سديد؛ لأنّ القرآن نزل وِفق اللغة الفُصحى ولا يُحمل على الشواذّ المنبوذة (٣) .

* * *

وأمّا الرَفعُ في المعطوف عن منصوب (إنّ) في قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ ) (٤) قَبل استكمال الخبر؛ فلكونه عطفاً على محلّ الاسم وهو رفع بالابتدائيّة، ورُجّح ذلك لوجهين:

أحدهما: مُناسبة الواو في (هادوا) في حين عدم ظهور إعراب الاسم بسبب البناء، قال الفرّاء: ويجوز ذلك إذا كان الاسم ممّا لم يَتبيّن فيه الإعراب، كالمـُضمر والموصول (٥) ، كقول الضابئ بن الحارث البرجمي:

فمَن يكُ أمسى بالمدينةِ رحلُهُ

فإنّي وقيّارٌ بها لغريبُ

____________________

(١) طه ٢٠: ٦٣.

(٢) راجع: تأويل مشكل القرآن، ص٥٠.

(٣) وقد أَسَهب ابن قتيبة في هذا المجال، وذكر أشياء فيها فوائد كثيرة، فراجع، وقد فصّلنا الكلام حول الآية في كتابنا (صيانة القران من التحريف)، ص١٨٢ - ١٨٣، طبق ١٤١٨.

(٤) المائدة ٥: ٦٩.

(٥) مجمع البيان، ج٣، ص٢٢٤.

٣٧٠

وقال بشر بن حازم:

وإلاّ فاعلَموا أنّا وأنتم

بُغاةٌ ما بَقينا في شِقاق

ورجّح ذلك في الآية رعايةً لمـُناسبة الواو في (هادوا) نظير العطف على الجِوار، قال الكسائي: هو نسقٌ على ما في (هادوا) (١) .

كما رجّح النَصب على الأصل في آيةٍ أُخرى نظيرتها أيضاً لمناسبة الجِوار، وذلك في قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ ) (٢) لمـُناسبة الياء في (النصارى) (٣) .

ثانيهما: ما ذَكَره ابن قتيبة، قال: جواز الرفع في مِثل ذلك إنّما كان؛ لأجل عدم تغيير في مفهوم الابتدائيّة سواء قبل دخول (إنّ) أو بعده، حيث إنّها تزيد معنى التحقيق ولا تزيد معنى آخر سِوى ما كانت الجملة تفيدها ذاتاً؛ ومِن ثَمّ لا يجوز ذلك في المعطوف على اسم (لعلّ) أو (ليتَ) لزيادة معنى الترجّي أو التمنّي في مفهوم الكلام.

وقال: رُفع (الصابئون) لأنّه ردٌّ (أي عطف) على موضع الاسم وموضعه رُفع؛ لأنّ (إنّ) مبتدأةٌ ولم تُحدث في مفهوم الكلام معنىً كما تُحدث أخواتها؛ أَلا إنّك تقول (زيد قائم) ثُمّ تقول (إنّ زيداً قائم)، ولا يكون بين الكلامَينِ فرقٌ في المعنى، سِوى زيادة التأكيد، لكنّك إذا قلتَ (زيدٌ قائم) ثُمّ (لعلّ زيداً قائم) أو (ليتَ زيداً قائم) فقد أَحدثتَ معنى الشكّ (الترجّي) أو التمنّي في مفهوم الكلام؛ ومِن ثَمّ لا يجوز الرفع في المعطوف على الاسم في غير (إنّ) من سائر أخواتها (٤) .

وأمّا النَصب في (المقيمين) من قوله تعالى: ( لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ) (٥) - وطرفاه على الرفع - فلأنّه على القطع؛ لأجل المـَدح والاختصاص، وهو شائع في اللغة.

____________________

(١) المصدر.

(٢) البقرة ٢: ٦٢.

(٣) مجمع البيان، ج٣، ص٢٢٥.

(٤) تأويل مشكل القرآن، ص٥٢.

(٥) النساء ٤: ١٦٢.

٣٧١

ونظيره قوله تعالى في موضعٍ آخر: ( وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ) (١) ، قال سيبويه - في باب ما يُنتصب في التعظيم والمدح -: وسمعنا بعض العرب يقول: الحمد لله ربَّ العالمين - بنصب الربّ - فسألت عنها يونس فزعم أنّها عربيّة (٢) ، قال: ومنها (والمقيمين) و(الصابرين) فقُطع إلى النصب مدحاً، وهذا باب شائع في العربيّة، وتكلّم فيه سيبويه بتفصيل (٣) .

وهكذا قال أبو عبيد، قال: هو نصبٌ على تَطاول الكلام بالنسق، أي للإيفاد بالكلام تطريةً تُخرجه على تطاول النسق، فيجوز القطع إلى النصب وإلى الرفع تطريةً للكلام وإخراجه عن نسقٍ واحد، وأنشد للخِرِنْق بنت هفّان:

لا يَبعَدن قومي الذين هُمُ

سُمُّ العُداةِ وآفة الجُزْرِ

النازلينَ بكلِّ مُعتَركٍ

والطيّبون معاقِدَ الأُزرِ (٤)

* * *

وأمّا الجزم في (وأَكنْ) معطوفاً على (فأَصَّدَقَ) فمحمول على موضع (فأصّدّق) لو لم يكن فيه الفاء، وموضعه جزم، جواباً لـ (لولا) في قوله تعالى: ( فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ) (٥) ، وهو من العطف على التوهّم، وهو شائع في اللغة، كما في قول الشاعر:

فأَبلوني بليّتكم لعلّي

أصالِحُكم وأستدرجْ نَوَيّاً

فجزم (أستدرج) معطوفاً على موضع (أصالحُكم) بتوهّم أنّه لو لم يكن قبلها (لعلّي)؛ لأنّه قال: فأبلوني بليّتكم أصالِحْكم واستدرج (٦) .

وللفرّاء هنا كلامٌ مُسهبٌ أتى فيه بفوائد جمّة، نذكره على طوله:

____________________

(١) البقرة ٢: ١٧٧.

(٢) كان سيبويه يحترم آراء يونس، ويأخذها حجّة، والزَعم هنا بمعنى الرأي والنظر.

(٣) راجع: كتاب سيبويه، ج١، ص٢٨٨ - ٢٩١.

(٤) تأويل مشكل القرآن، ص٥٣.

(٥) المنافقون ٦٣: ١٠.

(٦) راجع: تأويل مشكل القرآن، ص٥٦.

٣٧٢

قال: فإذا أَدخلتَ في جواب الاستفهام فاءً نَصبت، كما قال اللّه تبارك وتعالى: ( رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ ) (١) .

فإذا جئت بالمعطُوف التي تكون في الجزاء وقد أجبته بالفاء كان لك في العطف ثلاثة أوجه:

١ - إنْ شِئت رفعتَ العطف، مثل قولك: إنْ تأتني فإنّي أهل ذاك، وتُؤجَرُ وتُحمدُ، وهو وجه الكلام.

٢ - وإن شِئت جزمتَ، وتجعله كالمردود على موضع الفاء.

والرفع على ما بعد الفاء، وقد قرأَتْ القرّاء: ( مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ ) (٢) ، رُفع وجُزم.

وكذلك ( إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ ) (٣) ، جُزم ورُفع.

ولو نصبتَ على ما تنصب عليه عطوف الجزاء إذا استغنى لأَصبت، كما قال الشاعر وهو النابغة الذبياني:

فإنْ يَهلِكِ النعمانُ تُعْرَ مَطِيَّهُ

وتُخبأَ في جوفِ العياب قُطوعُها

وإنْ جزمت عطفاً على ما نصبت تردّه على الأَوّل كان صواباً، كما قال الشاعر بعد هذا البيت:

وتنحَطْ حصانٌ آخر الليلِ نَحطَةً

وتُخبأَ في جوفِ العياب قُطوعُها

وهو كثير في الشعر والكلام، وأكثر ما يكون النص في المعطوف إذا لم تكن في جواب الجزاء الفاء، فإذا كانت الفاءُ فهو الرفع والجزم.

____________________

(١) وقد عدّ (لولا) هنا في أدوات الاستفهام، وهذا المعنى ذكره الهروي - كما في المغني لابن هشام: حرف اللام، ج١، ٢٧٥ والطبعة الحجريّة، ص١٤٤ ومَثّل له بالآية، وقال الأمير في التعليقة على المـُغني: الاستفهام هنا بعيدٌ جداً، ورجّح أنْ يكون معنى العرض أو التحضيض.

(٢) الأعراف ٧: ١٨٦.

(٣) البقرة ٢: ٢٧١.

٣٧٣

٣ - وإذا أجبت الاستفهام بالفاء فنصبت فانصب العطوف، وإنْ جزمتها فصواب، من ذلك قوله تعالى: ( لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ ) (١) ، رددت (وأكنْ) على موضع الفاء؛ لأنّها في محلّ جزمٍ، إذ كان الفعل إذا وقع موقعها بغير الفاء جُزم، والنصب على أنْ تردّه على ما بعدها، فتقول: (وأكون)، وهي قراءة عبد اللّه بن مسعود (وأكون) بالواو.

وقد قَرأَ بها بعض القرّاء (هو أبو عمرو بن العلاء)، قال: وأرى ذلك صواباً (أي القراءة بالواو مع عدم كَتَبها في المـُصحف)؛ لأنّ الواو ربّما حُذفت من الكتاب وهي تُراد، لكثرة ما تُنقص وتُزاد في الكلام...

وقال بعض الشعراء (هو أبو داود الأيادي):

فأبلوني بليّتكم لعلّي

أُصالِحُكُم وَأَسْتَدْرِجْ نويّاً

فجُزم (أَسْتَدْرِجْ) فإنْ شِئت رَدَدتَه إلى موضع الفاء المضمرة في (لعلّي)، وإنْ شِئت جعلته في موضع رفع فسكّنت الجيم لكثرة توالي الحركات، وقد قرأ بعض القرّاء ( لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ ) (٢) بالجزم وهم يَنوون الرفع، وقرأوا ( أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ) (٣) ، والرفع أحبّ إليَّ من الجزم (٤) .

* * *

وأمّا قوله تعالى: ( أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشـْراً ) (٥) فليس التقدير (عشرة أيام) إنّما التقدير في مِثل ذلك عند العرب (عشر ليال). كما في قولهم: لخمس بقين أو خَلون من رجب، والتقدير في حساب الأيّام عند العرب بالليالي دون وضح النهار؛ ومِن ثَمّ تُحسب الليلة من أَوّل الشهر من الشهر، ويبدأ كلّ شهر بليلة أَوّله، فالنهار تابعٌ للّيل كما في آخر الشهر.

____________________

(١) المنافقون ٦٣: ١٠.

(٢) الأنبياء ٢١: ١٠٣.

(٣) هود ١١: ٢٨.

(٤) راجع: معاني القرآن، ج١، ص٨٦ - ٨٨.

(٥) البقرة ٢: ٢٣٤.

٣٧٤

( وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً) (١)

قالوا: فيه لَحن، أَوّلاً تأنيث العدد مع أنّ التمييز مُذكّر، وثانياً جمع التمييز، والصحيح إفراده هنا (٢) .

لكن الكلام يتمّ بالعدد من غير ما حاجةٍ إلى ذِكر التمييز، كما في نظائره من قولك: قطّعتُ اللحم أربعاً، أي أربع قطع، وجئناك خمسةً، أي خمسة أشخاص، ( وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ ) (٣) ، أي بعشر ليالٍ، ( يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ) (٤) ، أي عشر ليال؛ وذلك لأنّ الاعتبار بحساب الليالي - كما قدّمنا - ( إِنْ لَّبِثْتُمْ إِلاّ عَـشْراً ) (٥) ، ( فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ ) (٦) ، ( عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ) (٧) ، أي خازناً.

كلّ ذلك لمعلوميّة المعدود من غير حاجة إلى ذِكره، وكذا هنا، إذ قولك: فرّقتهم اثنتي عشرة، تعني: اثنتي عشرة فِرقةٍ، (وحذف ما يُعلم جائز)، بل ذِكره إمّا تأكيدٌ أو حشوٌ زائد.

قال المفسّرون: (أسباطاً) بدلٌ من (اثنتي عشرة)، تقديره: وفرّقناهم فِرَقاً أسباطاً وجعلناهم أُمَماً متفرّقة لا مُجتمعة، وهذا نَكال بهم من أَوّل يومِهم، حيث تفرّقهم في الرأي وعن إتّباع الرسول منذ البدء، على خلاف ما حَظيت به هذه الأُمّة من الاجتماع ووحدة الكلمة والتفافهم حول الرسول ( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) (٨) ، الأمر الذي أراده بشأن كلّ اُمّةٍ من الأُمَم رُغم تفرّقهم وتشعّبهم فِرَقاً ( وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً (أي قطعاً كزُبرِ الحديد أي صفحاته) كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ) (٩) ، الأمر الذي مُنيَ به بنو إسرائيل حيث تشتّتهم وتطاحنهم في الحياة.

____________________

(١) الأعراف ٧: ١٦٠.

(٢) هاشم العرب في ملحق ترجمة كتاب الإسلام، ص٤١٧.

(٣) الأعراف ٧: ١٤٢.

(٤) البقرة ٢: ٢٣٤.

(٥) طه ٢٠: ١٠٣.

(٦) القصص ٢٨: ٢٧.

(٧) المدّثر ٧٤: ٣٠.

(٨) الأنبياء ٢١: ٩٢.

(٩) المؤمنون ٢٣: ٥٢ و٥٣.

٣٧٥

( وَنُقَدِّسُ لَكَ) (١)

زَعَم المـُتعرّب (هاشم العربي) أنّ في ذلك لَحناً؛ حيث زيادة اللام من غير حاجة إليها وكان الصواب (نقدّسك) لأنّ الفعل متعدٍّ بنفسه، اللّهمّ إلاّ أنْ يُقدَّر المفعول به شيئاً من الأشياء، الأمر الذي يزيد في إبهام الكلام (٢) .

لكنّه لم يدرِ الفَرق بين (قَدَّسَه) و(قدّس له)!

يقال: قَدَّسه أي نَزَّهه ومَجَّده، أما إذا قيل: قَدَّس له، فيعني: تطهير النفس تمهيداً لإمكان الحضور لدى ساحة قُدسه تعالى.

قال أرباب اللغة: يقال: قَدّس الرّجلُ اللّهَ، أي نَزّهه ووَصَفه بكونه قُدُّوساً، والقُدّوس: المـُتنزّه عن العُيوب والنقائص، وقَدَّس للّه، أي طهّر نفسه له، وذلك بأنْ مهّدها لإمكانِ الاستفاضةِ من أنوار الملكوت.

كانت الملائكة ترى من بني آدم ذواتاً منكدِرة لا تصلح للاستجلاء بجلاءٍ يَليق بمقام القُدس الأعلى، فعرضت نفسها وهي صالحة للاقتراب من مقام القرب الأدنى.

لكنّه تعالى أعلم بالمصالح فيما يُقدّر ويُدبّر. ( قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ) (٣) .

ثُمَّ على فرض التقدير في الكلام فإنّه ليس على ما فَرَضَه المتعرّب من الإبهام، قال الراغب: ( وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ) أي نُطهّر الأشياء ارتساماً لك (٤) ، أي بدلاً من بني آدم - حيث يُفسدون في الأرض أي يَعبثون بوجوه الأشياء ليُغيّروها إلى جهة الفساد - نقوم نحن بتطهير الأشياء وتصقيلها إلى حيث الصفاء والجَلاء التامّ، الأمر الذي يتحقّق منه الامتثال التامّ لما أراده تعالى من الطهارة والنزاهة في خليقته جمعاء.

ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ

قال تعالى: ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (٥) .

____________________

(١) البقرة ٢: ٣٠.

(٢) ملحق ترجمة كتاب الإسلام، ص٤٣٤.

(٣) البقرة ٢: ٣٠.

(٤) المفردات، ص٣٩٦.

(٥) آل عمران ٣: ٥٩.

٣٧٦

قالوا: وكان ينبغي أنْ يقول: ثُمّ قال له كنْ فكان.

قال بعضهم - تجاسراً على كتاب اللّه -: آثر الرويّ على المعنى، فآثر الإخلال بالمعنى ليستقيم له الرويّ، وزاد بشاعةً في القول: قد سَاقه إليه ما أَلفه لسانُه - يَعني مُحمّداً (صلّى اللّه عليه وآله) حيث كرّره في ستّة مواضع من كتابه بصيغة المضارع، ممّا كان متناسباً فيها غير ما هنا (١) .

لكن المسكين ذَهب عنه أنّ هذه الجُملة تُمثّل كلمة التكوين وليست تكليفاً بالقول؛ ومِن ثَمَّ كان المسيح (عليه السلام) كلمة اللّه ألقاها إلى مريم (٢) .

قال الشيخ مُحمّد عَبده: يجوز أن تكون كلمة التكوين مجموع (كن فيكون) والمعنى: ثُمَّ قال له كلمة التكوين التي هي عبارة عن توجّه الإرادة إلى الشيء ووجوده بها حالاً، قال: ويظهر هذا في مِثل قوله تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ ) (٣) ، ولو كان القول للتكليف لم يَظهر هذا؛ لأنّ قول التكليف من صفة الكلام، وقول التكوين من صفة المشيئة (٤) .

فلفظة (كن) تُمثّل إرادته تعالى المـُتعلّقة بتكوين شيء، و(فيكون) تُمثّل تكوين الشيء حالاً فورَ إرادته تعالى، الأمر الذي يَتمثّل في لفظة المضارع الدالّة على التحقّق في الحال، ولا يصلح لذلك صيغة الماضي إلاّ بتأويله إلى إرادة الحال أي (فكان في الحال)، وهذا ممّا يكفله صيغة المضارع من غير تأويل، وهذا هو معنى قولهم: (فيكون) حكايةُ حالٍ ماضية.(٥) أي وإن كان الأمر قد مضى، لكنّها حكاية عن أمر كان حالاً في ظرفه: فقد تَكَوَّن الشيء حالاً فورَ الإرادة، وهذا من تصوير الحال الماضية كما يقول أهل المعاني.

فمعنى قوله (كن فيكون): أنْ لا فاصل زمنيّاً بين إرادته تعالى وتكوين الشيء ( وَمَا أَمْرُنَا إِلاّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ) (٦) ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (٧) ، أي لا فاصل

____________________

(١) هاشم العربي في ملحق ترجمة كتاب الإسلام، ص ٤١٧ - ٤١٨.

(٢) إشارة إلى الآية ١٧١ من سورة النساء.

(٣) الأنعام ٦: ٧٣.

(٤) تفسير المنار، ج٣، ص٣١٩.

(٥) الكشّاف، ج١، ص٣٦٨.

(٦) القمر ٥٤: ٥٠.

(٧) يس ٣٦: ٨٢.

٣٧٧

- عند إرادته تعالى لتكوين شيء - بين هذه الإرادة وتكوين ذاك الشيء حالاً.

قال الحجّة البلاغي: (فيكون) فعل مضارع دالّ على الثبوت، لبيان الملازمة الدائمة بين قوله (كن) وبين تكوّن الشيء بهذا الأمر لا محالة، وبهذه القُدرة التامّة والمـُلازمة الدائمة خُلق عيسى من غير فَحل، إذ قال له: (كن).

وهو كلام صادر في مقام الاحتجاج بالتمثيل، ولا تقوم الحجّة بهذا التمثيل ولا يحصل المراد منه في الاحتجاج إلاّ ببيان الملازمة.

وهذا بخلاف ما لو قال: كن فكان؛ لأنّ هذا الأُسلوب (الثاني) لا يُفيد إلاّ أنّ آدم كان، سواءٌ أَكان ذلك باتفاق أم بملازمة خاصّة بذلك الكون أو عامّة، وهو أمرٌ معلوم لا فائدة في بيانه ولا حجّة فيه على خَلق عيسى من غير فحل، فلا يكون التفريع لو قيل: كن فكان، إلاّ لغواً في كلام متهافت (١) .

والخلاصة: أنّ المـُضارعة هنا يدلّ على المـُلازمة الدائمة بين قولة (كن) والتكوين، فصحّ جريانه بشأن آدم والمسيح على سواء، وهذا على خلاف ما لو قيل (فكان)؛ لاحتمال مجرّد الاتفاق وليس عن ملازمةٍ دائمة... وهو تنبّه لطيف أَفادته قريحة شيخنا العلاّمة البلاغي المهديّ بهداية اللّه تعالى، فرحمة اللّه عليه مِن مجاهد في سبيل اللّه بالعلم والعمل الدائب، أفاض اللّه عليه شآبيب رضوانه، آمين.

( وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) (٢)

قال هاشم العربي: كان الصواب أنْ يقول: وكان قدّامهم... (٣)

قلت: ما أقبح بالرجل لا عِلم له بالعربيّة وهو يتجرّأ في تخطئة أقدم وأقوم كلام عربي رصين، القرآن أصحّ سند عتيد حَفِظ على العرب لغتَهم الأصيلة، ولا تزال العرب تعرف أصالتها من القرآن وتَستلهم أساليب كلامها من تعابير القرآن، هذا ما يبدو من العرب خضوعهم تجاه عظمة القرآن، سواءٌ أكانوا ممّن آمنوا به وصدّقوه وحياً - وهم

____________________

(١) الهدى إلى دين المصطفى، ج١، ص٣٨٠.

(٢) الكهف ١٨: ٧٩.

(٣) ملحق ترجمة كتاب الإسلام، ص٤٢٦.

٣٧٨

الأكثرية الساحقة - أم الذين بقوا على جاهليّتهم الأُولى وهم النَزر اليسير، لكنّهم جميعاً بَخعوا أمام كبرياء هذا الكتاب وجبروت هذا الكلام.

فيا لصاحبنا المسكين يُخطّئ ويُصوّب فيما لا شأن له!

إنّ كلمة (وراء) في هكذا موارد من استعمالاتها يُراد بها: الكارثة الخطيرة التي تَتَعقّبهم في مسيرة الحياة، والمعنى أنّهم سائرون لاهينَ، وتلاحقهم داهيةٌ دَهماءٌ تسعى وراءهم للنيل منهم وهم غافلون عنها غير مبالين بها، وهو مِن ألطف الكنايات.

وهذا كما في قوله تعالى: ( وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) (١) ، ( مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئاً ) (٢) ، ( مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ ) (٣) ، ( وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ) (٤) .

وهكذا جاء استعماله في الشعر الجاهلي، قال لبيد:

أَليسَ ورائي إنْ تراختْ مَنيّتي

لُزُوُمُ العَصا تُحنى عليها الأَصابعُ

وقال عبيد:

أَليسَ ورائي إن تراخت مَنيّتي

أدبُّ مع الوِلدان أزحفُ كالنسرِ

وقال المرقش:

ليسَ على طولِ الحياة ندمٌ

ومِن وراء المرء مالا يعلمُ (٥)

قوله: أَليسَ ورائي، أي أَليس يتعقبني لزوم العصا؟ وهو تعبير كنائي عن الانتظار لهم في منتهى خطّ المسير، فكان قول المفسّرين: أمامهم، هو لازم المعنى ولم يُريدوا ترجمة اللفظة.

( وَطُورِ سِينِينَ) (٦)

قال المتكلّف: هذا ممّا أخطأ القرآن فيه مُراعياً للرويّ، والوجه: سيناء كما جاء في

____________________

(١) المؤمنون ٢٣: ١٠٠.

(٢) الجاثية ٤٥: ١٠.

(٣) إبراهيم ١٤: ١٦.

(٤) إبراهيم ١٤: ١٧.

(٥) راجع: الهدى إلى دين المصطفى، ج١، ص٣٥٢.

(٦) التين ٩٥: ٢.

٣٧٩

سورة المؤمنون ( وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ ) (١) .

لكنّه تَجاهلَ استعمال اللفظة بكِلا الوجهَين في العهد القديم:

كانت البريّة التي خَرَجَ إليها بنو إسرائيل - بعد اجتيازهم بحر سوف (البحر الأحمر) ومنطقتي شور وإيليم - تُسمّى بريّة (سين) والتي تنتهي إلى جبل سيناء.

جاء في سِفر الخروج: (ثُمّ ارتحلوا من إيليم وأتى كلّ جماعة بني إسرائيل إلى برّية سين التي بين إيليم وسيناء) (٢) .

وسِيناء - بكسر السين - اسم جبل (حوريب) (٣) وعَبّر عنه بسينيم أيضاً، كما أنّ الوادي كلّه سُمّي بسيناء (٤) وسينيم باعتبار فخامة هذا الجبل الواقع فيه، جاء في سِفر إشعياء: (هؤلاء من بعيد يأتون وهؤلاء من الشمال ومن المغرب وهؤلاء من أرض سينيم) (٥) .

قال جيمس هاكس: فَسَّره جماعة بوادي (سين) و(سيناء)؛ نظراً للمناسبة القريبة الملحوظة في عبارة الكتاب (٦) .

وهكذا جاءت اللفظة في القرآن مُعرّبةً (سيناء) بفتح السين، و(سينين) بقلب الميم نوناً كما هي العادة الجارية في لغة العرب، فلم يكن هناك تَضايق من جهة الرويّ كما زَعم.

ومِن المـُحتمل القريب أنّ (سينيم) جمع (سين) باعتبار أنّ الجمع في العِبريّة يأتي بالياء والميم، كما في (جَمَليم) و(حَمُوريم) و(رَكْبيم) جمع (جَمَل) و(حَمُور) و(رَكْب) (٧) ، وعليه فقد أتى القرآن بسينين جمعاً بالياء والنون على النهج العربي وذلك قد التئم الرويّ من غير تَكلّف الأمر الذي اشتبه على المعرّب، وكم له من نظير!

____________________

(١) راجع: ملحق ترجمة كتاب الإسلام، ص٤١٨، والآية ٢٠ من سورة المؤمنون.

(٢) سِفر الخروج، الإصحاح ١٦/١.

(٣) راجع: قاموس الكتاب المـُقدّس، ص٤٩٨ مادة (سيناء).

(٤) راجع: سِفر الخروج، الإصحاح ١٩/١: (جاؤوا إلى بريّة سيناء فنزلوا في البرّية، هناك نَزَل بنو إسرائيل مقابل الجبل) وفي الإصحاح ١٩/١٨: (فوقفوا في أَسفل الجبل، وكان جبل سيناء كلّه يُدخّن من أجل أنّ الرّبّ نَزَل عليه بالنار).

(٥) سفر ِإشعياء، الإصحاح، ٤٩ /١٢.

(٦) قاموس الكتاب المـُقدّس، ص٥٠٤.

(٧) راجع: الرِحلة المدرسيّة، ج١، ص٧٤ - ٧٥.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578