شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم6%

شبهات وردود حول القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 578

شبهات وردود حول القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 578 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 297573 / تحميل: 13676
الحجم الحجم الحجم
شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

( سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ) (١)

اعترض المـُتكلّف بأنّه جمعٌ في موضع الإفراد، والوجه أنْ يُقال: سلامٌ على إلياس. كما أُفرد في قوله: ( سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ ) (٢) ، وقوله: ( سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) (٣) ، و ( سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ) (٤) ، قال: وإنّما سَاقه إلى ذلك مراعاةُ الرويّ (٥) .

وقد فَاته أنّ الكلمة أَعجميّة يجوز التصرّف فيها حيث ساق الكلام وناسب المقام، عادة جارية عند العرب يتلاعبون باللغات الأجنبيّة مِن غير ضابطة تحدّدها، وقد جرى القرآن على منهجهم في الاستعمال ولا غضاضة ولا سيّما بعد مناسبة رعاية الرويّ.

قال المراغي: إلياسين لغةٌ في إلياس، وكثيراً مّا يتصرّفون في الأسماء غير العربيّة (٦) .

وقال الحجّة البلاغي: وقوله تعالى: ( سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ ) بعد قوله: ( وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ) (٧) ؛ ذلك لأنّ لاسم هذا الرسول في اللغة العربيّة تعريبَان، كما كان لاسمه في العِبريّة تعبيران: إلياهْ وإلياهُوّ (٨) وهو المعروف بإيليّا التَّشبِيّ في العهد القديم (٩) .

هذا، وقد جرتْ عادة العرب على استعمال اللغات الأجنبيّة على غير مقياس واحد - ولعلّه امتهان بها - ودَرَجوا على التصرّف فيها حيثما شاءوا وحيثما سَاقهم مدارج الكلام.

فقد عرّبوا الفهلويّة إلى (دِرَخْم) وجاء في الشعر (دِرْهام) قال الشاعر:

لو أنّ مِئتي دِرْهام

لجازَ في آفاقها خاتامي

وعرّبوا (مِتَكسا) اليونانيّة ومعناه القزّ، إلى (مِدَقس) و(دِمَقس) و(دِقَمس) و(دِمَقص) و(دِمْقاس) وهكذا.

والدُرْنوك والدِرْنيك والدِرْنك والدُرُموك مُعرّب من أصل حبشي بمعنى الطنفسة.

والزنجيل مأخوذ من الفارسيّة (شنكيل، شنكوير، شنكبير وشنكويل) من أصل

____________________

(١) الصافّات ٣٧: ١٣٠.

(٢) الصافّات ٣٨: ٧٩.

(٣) الصافّات ٣٧: ١٠٩.

(٤) الصافّات ٣٧: ١٢٠.

(٥) ملحق ترجمة كتاب الإسلام، ص٤١٨.

(٦) تفسير المراغي، ج٢٣، ص٨١.

(٧) الصافّات ٣٧: ١٢٣.

(٨) الهدى إلى دين المصطفى، ج١، ص٣٨٣.

(٩) راجع: سِفر الملوك الثاني، ١/٣ و٤ و٨ و١٠ و١٢ و١٥ و١٧.

٣٨١

سنكسريتية (شرنكوير)، فالكلمة في فارسيّتها متنوّعة؛ لأنّها متغيّرة من أصرٍ هندي، لكنّها في العربيّة لم تتغيّر.

والسُوذانِق معرّب (سه دانك) (نصف درهم) كثرت لغاته وتجاوزت العشرين:

سَوْذَنيق. سُوْذَنيق. سَيْذَنُوق. سُيْوذانِق. سُوْذانَق. سَوْذانِق. سَوْذانَق. سَوْذِيْنَق. سَوْذينِق. سذانِق. سذانَق. سَوْدَق. سَوْذَق. سُوْذَق. سَيْذاق. سَيْذَقان. سَيْذُقان. شَيْذَق. شَيْذَقان. شَيْذاق. شُوذاق. شَوذَق. شُوذَنُوق.

وسُليمان معرّب (سَلُومُون) بالعِبريّة.. و(شَليمو، شَليمون) بالسريانيّة، وغيّرته العرب الجاهلي، فجعله النابغة (سُلَيماً) ضرورة: (ونَسْجُ سُلَيمٍ كلَّ قضّاءَ ذائل)، واضطرّ الحُطَيئة أيضاً فجَعله سَلاّماً فقال:

فيه الرمّاحُ وفيه كلُّ سابغةٍ

جَدلاء مُحكَمةٍ من نَسْج سلاّمٍ

وأَرادا جميعاً نسج داود والد سليمان، فلم يستقم لهما الشعر فجعلاه سليمان وغيّراه أيضاً (١) .

وأمثال ذلك كثير ممّا ينبؤك عن إمكان التصرّف في اللغات الأجنبيّة حيث سَاقها القَدر، ولا محدوديّة إطلاقاً، الأمر الذي ذهب عن المـُعتَرِض المـُتكلّف!

هذا، والقرآن لم يَتجاوز حدود أساليب العرب في استعمال اللغات، فلا موضع للأَخذ عليه بسبب الأخذ برخص اللغة الأصيلة والجري على مناهجها القويمة.

ولعلّه من التعسّف ما زَعَمه البعض من كونه جمعاً لإلياسيّ - بياء النسبة المشدّدة - ثُمّ خُفّف بحذف ياء النسبة وجُمع بالياء والنون، كما قالوا: الأشعرون، يُراد: الأشعريّون (٢) .

( وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) (٣)

تبتدئ سورة الأنبياء المكّيّة بمطلع قويّ الضَرَبات، يَهُزُّ القلوبَ هَزّاً وهو يُلفتها إلى

____________________

(١) المعرّب لأبي منصور الجواليقي (م: ٥٤٠)، ص٣٠٧ و٣١١ و٣١٤ و٣٥٥ و٣٧٥ و٣٨١.

(٢) إملاء ما مَنَّ به الرحمان، ج ٢، ص٢٠٧.

(٣) الأنبياء ٢١: ٣.

٣٨٢

الخطر القريب المـُحدق وهي عنه غافلة لاهية: ( اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ...لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ... ) (١) .

ويَزيدهم غفلةً: أنّهم أَسرّوا النجوى - أي تواطئوا فيما بينهم تجاه مقابلة الحقّ الذي أتاهم ليَصدّوا عنه، وكانت النجوى التشكيك في رسالة اللّه على يد بشرٍ مثلهم: ( هَلْ هَذَا إِلاّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ ) (٢) .

وهل كانت التوطئة الخبيثة إلاّ مِن قِبَل الملأ الذي سَطوا في البلاد وأظهروا الفساد بين العباد؛ ومِن ثَمَّ جاءت كلمة (الّذين ظلموا) اختصاصيّة، فاصلة بين الفاعل - لغرض تبيينه - والمفعول به، وهو أَبلغُ تفضيعاً بشأنهم ممّا لو أُسند الفعل إليهم رأساً.

والمعنى: وأَسَرَّ الغافلون النجوى - وأخصّ منهم الذين ظلموا -... هؤلاء، أشدّ وطئاً من سائر الغَفَلة الذي يُشكّلون عامّة المشركين آنذاك.

وقد ذَكَر النُحاة: أنّ محلّ (الذين ظلموا) إمّا نُصب على إرادة الاختصاص، أو رُفع على الإبدال من ضمير الجمع، قال الزمخشري: إشعاراً بأنّهم المـَوسومُون بالظلم الفاحش فيما أَسرّوا به (٣) وهكذا ذَكَر العلاّمة البلاغي بشأن الآية (٤) .

ثلاثة قروء

قال تعالى: ( وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ) (٥) .

قال الزمخشري: فإنْ قلتَ: لِمَ جاء المـُميّز على جمع الكثرة دون القلّة التي هي الأقراء؟.

قلت: يَتّسعون في ذلك فيستعملون كلّ واحد من الجمعَين مَكان الآخر؛ لاشتراكهما في الجمعيّة، أَلا تَرى إلى قوله ( بِأَنْفُسِهِنَّ ) وما هي إلاّ نفوس كثيرة، ولعلّ القُرُوء كانت أكثر استعمالاً في جمع قُرء من الأَقراء، فأُوثر عليه، تنزيلاً لقليل الاستعمال منزلة المـُهمل، فيكون مِثل قولهم: ثلاثة شسوع (٦) .

____________________

(١) الأنبياء ٢١: ١ و٢.

(٢) الأنبياء ٢١: ٣.

(٣) الكشّاف، ج٣، ص١٠٢.

(٤) الهدى إلى دين المصطفى، ج١، ص٣٨٤.

(٥) البقرة ٢: ٢٢٨.

(٦) الكشّاف، ج١، ص٢٧٢.

٣٨٣

الالتفات وتنوّع الكلام

ممّا أُخذ على القرآن: عدم نَسجه على منوالٍ واحد، فهناك ظاهرة الالتفات وتنوّع الخطاب والانتقال والرجوع والقطع والوصل... وإلى أمثال ذلك من التنقّل الكلامي، زَعَموا أنّه قد يُشوّش على القارئ فهم المعاني! (١)

لكنّه جهلٌ بأساليب البديع من كلام العرب، وما ذاك الالتفات وهذا التنقّل في الخطاب إلاّ تطريةً في الكلام، تزيد في نشاط السامعين وتسترعي انتباههم لفهم مناحي الكلام أكثر وأنشط.

والشيء الذي أَغَفلوه أنّهم حَسِبوا من صياغة القرآن أنّها صياغة كتاب، في حين أنّها صياغة خطاب.

إنّ لصياغة الكتاب مُمَيزّات تختلف عن مُمَيّزات صياغة الخطاب، فقضيّة الجري على منوالٍ واحد هي خاصّة بصياغة الكتاب، أمّا التنوّع والتنقّل والالتفات فهي من خاصّة صياغة الخطاب، سواء أكان نَظماً أم نَثراً، فلا يتقيّد الناطق بالاطّراد في سياقٍ واحد، بل له الانتقال والتحوّل أثناء الكلام حسبما ساقته دلائل المقام.

فهذا عزيز مصر - ينقل كلامه القرآن حينما واجه امرأته ويوسف على حالة استنكرها - يقول: ( يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ) (٢) ، فيُخاطب يوسف أَوّلاً، ثُمَّ يَلتفت إلى امرأته يُوبّخها.

وكِلا الخطابَين مُنساق في نسقٍ واحد ولكن في واجهتَين، وقد نَقله القرآن على شاكلته الأُولى. والقرآن كلّه من هذا القبيل؛ لأنّه كلام اللّه واجه به عباده في صياغة خطاب ولم ينزل في صياغة كتاب؛ ومِن ثَمَّ كانت فيه هذه الكثرة من الالتفات والتنقّل في الكلام، الأمر الذي زادَ في طرواته وزانَ في طُلاوته.

يقول تعالى: ( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ

____________________

(١) هاشم العربي محلق ترجمة كتاب الإسلام، ص٤٢٣.

(٢) يوسف ١٢: ٢٩.

٣٨٤

وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) (١) .

يبتدئ الكلام بالخطاب مع الرسول ويتحوّل مِن فوره إلى مواجهة المؤمنين.

ثُمَّ الضماير المتتابعة الثلاثة ( وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ ) يعود الأَوّلان منها إلى النبيّ والثالث إلى اللّه! وهذا من مداورة الكلام مِن وِجهةٍ إلى وِجهة، ويُعدُّ من أَلطف صُنع البديع.

ولا يخفى أنّ مِثل هذا لا يدخل في متشابه الكلام بعد معروفيّة مراجع الضمائر لدى المخاطبينَ النابهينَ، وهو من حُسن الوجازة وظريف البيان (في ظاهر إبهام وواقع إحكام) سهلاً ممتنعاً يكسو الكلام حلاوةً مُمتعة.

فبدلاً من أن يكون الكلام مشوَّهاً مضطرب المفاد - حسبما رَاقه المـُتعرّب المتكلّف - أصبح حلواً سائغاً يستلذّه المستمع النبيه.

ومِثله في القرآن كثير ويكون من لطيف صُنع البديع.

وبديعةُ الالتفات كانت غرّة البدائع التي ازدان بها كلام ربّ العالمينَ، وقد بحثنا عنها وعن أنواع ظرائفها عند البحث عن روائع فنون بدائع كلامه تعالى (في المجلّد الخامس من التمهيد)، ونبّهنا هناك على أنّه لابدّ في كلّ التفاتة من فائدة رائعة وراء تَطرية الكلام والتفنّن فيه لتزيده رَونقاً فوق روعته، وأَتينا بأَمثلة لذلك.

وهنا - في الآية الّتي تَمثّل بها المـُتكلّف من سورة يونس - نقول: إنّه يزيد مبالغةً في الاستنكار:

قال تعالى: ( وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا... ) (٢) .

يعني: أنّ أُولئك الكَفَرة الجُحُود إذا كشف اللّه عنهم ضرَّهم، فبدلاً من أنْ يشكروا، تَراهم يكفرون نعمةَ اللّه، ويحاولون تغطيتها بأنواع الملتبسات...

فيُمثّل لذلك ركوبهم البحر ومواجهة الطوفان: ( هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ

____________________

(١) الفتح ٤٨: ٨ و٩.

(٢) يونس ١٠: ٢١.

٣٨٥

مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ... ) (١) .

فبدأ يواجههم في الخطاب، لكنّه في الأثناء يُغيّر وِجهة الكلام إلى التكلّم عن غائبينَ؛ ليُحوّل وِجهة السامعين من كونهم مخاطبينَ إلى كونهم ناظرينَ مستمعين، وذلك للتمكّن في نفوسهم من استقباح ما يشهدونه من فضيع الحال وشنيع المـَآل، فيلمسوا قَباحة العمل وهم يرونه مِن كَثَب، فيكونوا هم الحاكمينَ على فعالهم بالتقبيح.

قال الزمخشري: ما فائدة صرف الكلام عن الخطاب إلى الغَيبَة؟

قال: المبالغة، كأنّه يذكر لغيرهم حالهم؛ ليُعجبهم منها ويستدعي منهم الإنكار والتقبيح (٢) .

وذلك لأنّ القبيح من الغير يبدو أقبح ممّا لو ذُكر عن النفس.

وهكذا التنقّل من شأن إلى شأن كان من خاصّيّة الكلام إذا كان خطاباً لا كتاباً، يتنقّل فيه المتكلّم من حالٍ إلى حال، وربّما من موضوعٍ إلى موضوع آخر، ثُمّ يعود إلى موضوعه الأَوّل حَسبَما يقتضيه الحال والمقام، والتنقّل ظاهرة قرآنيّة شاملة ولا سيّما في السور الطوال.

مثلاً نراه يتعرّض لمسألة الطلاق والعدد في آيات (البقرة: ٢٢٨ - ٢٣٧) وينتقل إلى الترغيب في المحافظة على الصلوات والصلاة الوسطى (الآية: ٢٣٨) وصلاة الخوف (الآية: ٢٣٩) ويَذكر المـُتوفّى عنها زوجها (الآية: ٢٤٠) ثُمَّ يعود إلى ذكر المطلّقات (الآية: ٢٤١) الأمر الذي لم يكن متناسباً لو كان الكلام كتاباً، ويجوز في الخطاب، وهذا أيضاً في القرآن كثير.

إذن، فلا موضع لسفاسف الأباعد من عدم الالتئام في نَظم القرآن.

قال هاشم العربي - بشأن آية الكرسي بعد ما وَصَفها بفخامة اللفظ والمحتوى

____________________

(١) يونس ١٠: ٢٢ - ٢٣.

(٢) الكشّاف، ج٢، ص٣٣٨.

٣٨٦

بحيث لا يوجد لها نظير في جميع القرآن -: إنّها بين جارتَيها (الآية السابقة عليها واللاحقة لها) كقطعة ديباج رُقّع بها ثوب كِرباس، قال: وأكثر القرآن على هذه الصفة من عدم القِران بين آياته، والانتقال توّاً من الأَوْج إلى الحضيض ومِن ذِكر الجنّة والمغفرة إلى ذِكر المحيض (١) .

( جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ)

الرّيح مؤنّثة، وتُوصف بعَاصف وعاصفة على سواء؛ لأنّ العاصف صفة الريح لا غيرها كالحائض للمرأة، فلا تشتبه بغيرها من غير حاجة إلى التاء الفارقة.

قال ابن منظور: وهي ريح عاصف وعاصفة.

واستعملها القرآن على الوجهَين:

( جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ ) (٢) .

( وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً ) (٣) .

( قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً) (٤)

زَعَم المـُتعرّب المـُتكلّف - الأجنبي عن لغة العرب - أنّ الحنيفيّة هي الميل عن الصراط السويّ، وقد استعملها القرآن في غير معناها الأصيل.

قال: وكثيراً مّا يستعمل القرآن الألفاظ العربيّة في غير ما وُضعت له، من ذلك تعبيره عن دين إبراهيم بالحنيف يعني به القويم، لكن العرب تعني بالحَنَف الاعوجاج؛ ولذلك تُسمّي عابد الوثن حنيفاً لميله عن الدِّين القويم!

وزَعَم أنّ ذلك ممّا موّهته اليهود على صاحب القرآن فلقّنته؛ ليدعو دين إبراهيم حنيفاً، تعبيراً عليه ليُفضح أمره عند العرب، فانخدع بذلك من غير دراية بمعناه العربي

____________________

(١) ملحق ترجمة كتاب الإسلام، ص٤٣٩ وهو آخر رسالته.

(٢) يونس ١٠: ٢٢.

(٣) الأنبياء ٢١: ٨١.

(٤) البقرة ٢: ١٣٥.

٣٨٧

الأصيل (١) .

يا لها مِن جَهالة عارمة تُنبؤك عن غباوةٍ فاضحة!!

كيف يَنخدع نبيّ الإسلام بمفاهيم لغةٍ كان فِلْذَتها ولسان أُمّة كان من صميمها، أفهل يُعقل أن يتلاعب أُناس أباعِد - هم جالية المنطقة - بذهنيّة فحلٍ فخمٍ كان نابتة الرَّبوة العَليّة، أين العجم من أبناء إسرائيل من العرب من أبناء قريش؟! وأين الهجين من العتيق الأصيل؟!

ولعلّ المـُتعرّب المسكين هو الذي انخدع بتلك التهجينات المفضوحة فحَسِبها لُجّة، وما هي إلاّ سراب فارغ!

كان مُنذ الجاهلية أُناس يُدعَونَ بالحُنفاء؛ حيث تنزّهوا الأدناس ورَغِبوا في الحنيفيّة البيضاء، دين إبراهيم الحنيف.

اجتمعت قريش يوماً في عيدٍ لهم عند صنم كانوا يُعظّمونه وينحرون له ويعكفون عنده ويَدورون به، وكان ذلك عيداً لهم في كلّ سَنة يوماً، فَخَلُصَ منهم أربعة نفر نجيّاً (٢) ، ثُمّ قال بعضهم لبعض: تصادقوا وَلِيَكْتم بعضكم على بعض، قالوا: أجل - وهم: ورقة بن نوفل، وعبيد اللّه بن جحش، وعثمان بن حويرث، وزيد بن عمرو، من أفذاذ قريش - فقال بعضهم لبعض: تَعلمون واللّه ما قومكم على شيء! لقد أخطأوا دين أبيهم إبراهيم! ما حجرٌ نطيف به، لا يسمع ولا يُبصر ولا يضرّ ولا ينفع! يا قوم، التمسوا لأنفسكم ديناً، فإنّكم واللّه ما أنتم على شيء، فتفرّقوا يَلتمسون الحنيفيّة دين إبراهيم (٣) .

وهؤلاء - وأمثالهم من غيرهم يومذاك - فارقوا دين قومهم واعتزلوا الوثنيّة وعبادة الأصنام وأَكل المِيتة والدم والذبائح على النُصُب وتقذّروا الفحشاء والمنكرات ووَأد البنات وما إليها من عادات جاهليّة سيّئة... وسُمّوا بالحنفاء؛ حيث إتّباعهم الحنيفيّة دين

____________________

(١) ملحق ترجمة كتاب الإسلام، ص٤٢٤ - ٤٢٥.

(٢) أي انفرد منهم هؤلاء الأربعة وجعلوا يتناجون فيما بينهم، أي يتحدّثون سرّاً عن غيرهم.

(٣) راجع: تفصيل القصّة في سيرة ابن هشام، ج١، ص٢٣٧ - ٢٤٨.

٣٨٨

إبراهيم (عليه السلام).

والحنيفيّة، مِن الحَنف هي النزاهة والقداسة إنْ فكريّاً أو عمليّاً، وِفق الفطرة الأُولى الضاحية.

قال تعالى: ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) (١) ، وفي الحديث: سُئل عن الحنيفيّة؟ قال: هي الفطرة (٢) .

قال الراغب: الحَنف، هو مَيل عن الضلال إلى الاستقامة، والجَنَف، ميل عن الاستقامة إلى الضلال (٣) والحنيف، المائل إلى الاستقامة، قال تعالى: ( قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً ) (٤) ، وقال: ( حَنِيفاً مُّسْلِماً ) (٥) ، وجَمعه: حنفاء، قال تعالى: ( وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ ) (٦) .

قال: وتَحنّف فلانٌ أي تحرَّى طريق الاستقامة، وسمَّت العربُ كُلَّ مَن حجّ أو اختَتَن: حنيفاً؛ تنبيهاً أنّه على دين إبراهيم (عليه السلام).

قال أبو زيد: الحنيف، المستقيم، وأنشد:

تَعَلَّم أنْ سَيهدِيكُم إلينا

طريقٌ لا يجورُ بكُم حنيفُ

قال أبو عبيدة - اللغوي العلاّمة - في قوله عزّ وجل -: مَن كان على دين إبراهيم، فهو حنيف عند العرب.

قال الأخفش: كان في الجاهليّة يقال: مَن اختتن وحجّ البيت، حنيف؛ لأنّ العرب لم تتمسّك في الجاهليّة بشيء من دين إبراهيم غير الخِتان وحجّ البيت.

قال ابن عرفة: الحَنف، الاستقامة، وإنّما قيل للمائل الرجل أحنف تفاؤلاً بالاستقامة، كما يُقال للغراب أَعور وللصحراء القاحلة مَفازة.

____________________

(١) الروم ٣٠: ٣٠.

(٢) بحار الأنوار، ج٣، ص٢٧٦.

(٣) كما في قوله تعالى: ( فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً ) البقرة ٢: ١٨٢، أي ميلاً عن الحقّ في الوصاية.

(٤) النحل ١٦: ١٢٠.

(٥) آل عمران ٣: ٦٧.

(٦) الحج ٢٢: ٣٠ و٣١.

٣٨٩

قال الزجاجي: الحنيف في الجاهليّة مَن كان يحجّ البيت ويَغتسل من الجنابة ويَختَتَن (١) .

وهكذا ذَكَر الفيروز آبادي في القاموس، قال: الحَنَف - محرّكة - الاستقامة.

وقد عَرفت أنّ إطلاقه على اعوجاج الرجل، كان بالعناية والمجاز تفاؤلاً، لا حقيقة.

قال الجارود بن بشر من عبد قيس، وكان نصرانيّاً فأَسَلم طَوعاً:

فأَبلِغ رسولَ اللّه منّي رسالةً

بأنّي حنيفٌ حيث كنتُ مِن الأرضِ

وقال حسّان بن ثابت يُخاطب أبا سفيان:

هَجَوتَ مُحمّداً بَرّاً حنيفاً

أَمينَ اللّه شِيمَتُه الوفاءُ (٢)

وممّا يتأيّد التطهّر من الأقذار في مفهوم (الحَنف)، أنّ العرب اليوم يستعملون لفظة (الحنفيّة) يُريدون بها فَتحة أنابيب المياه للغَسل والشُرب؛ حيث كانت وسيلة التطهير من الأوساخ، وهو امتداد القديم المعروف عندهم (٣) .

فيا تُرى هل كان هؤلاء العرب الأقحاح انخدعوا جميعاً مُنذ أَوّل يومهم حتّى الآن بدسائس يهوديّة هزيلة لا وزنَ لها ولا اعتبار، اللّهمّ إلاّ في ذهنيّة مُتعرّبنا المسكين!!

( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا) (٤)

زَعَم المـُتعرّب أنّ (اعتدى) لا يتعدّى بنفسه، وكان الصحيح أنْ يُبدّل بقوله (فلا تتعدّوها) (٥) ويا ليته لم يفضح نفسه بالتدخّل في شؤون لغةٍ هو أجنبيّ عنها، قال صاحب المـُنجد - وهو مسيحيٌّ مِثله لكنّه عارف باللغة -: اعتدى الحقَّ وعن الحقِّ وفوق الحقِّ: جاوزه، وكذا تعدّى الشيءَ: جاوزه، فهما بمعنىً.

____________________

(١) لسان العرب، ج٩، ص٥٦ - ٥٨.

(٢) راجع: الهدى إلى دين المصطفى، ج١، ص٣٨٦.

(٣) راجع: المعجم الوسيط، ج١، ص٢٠٣، مادّة (حنف)، وص ٥٢٤ (الصنبور).

(٤) البقرة ٢: ٢٢٩.

(٥) ملحق ترجمة كتاب الإسلام، ص٤٢٥.

٣٩٠

( أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا)

قال تعالى: ( حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً ) (١) .

قال المـُتعرِّب: والوجه استطعَماهم.

قال العلاّمة البلاغي: ولعلّه تَوهّم أنّ الجملة (استطعَما أهلها) جواب (إذا)، ولم يدرِ أنّها وصفٌ للقرية (أي القرية التي استطعما أهلها...). وجواب (إذا) إنّما هو قوله تعالى في آخر الآية: ( قَالَ لَوْ شِئْتَ .. . ) (٢) .

قال الإمام الرازي: التكرير قد يكون للتأكيد وهو معروف واقعٌ في اللغة كقول الشاعر:

ليتَ الغُرابَ غداةَ ينعبُ دائماً

كان الغرابُ مُقطّعَ الأوداجِ (٣)

وقال أبو حيّان الغرناطي: وتكرّر لفظ (أهل) على سبيل التوكيد، وقد يظهر له فائدة عن التوكيد، وهو أنّهما حين أَتيا أهلَ القرية لمْ يأتيا جميع أهل القرية، إنّما بعضهم، فلمـّا قال (استطعما...) احتُمل أنّهما لم يستَطعِما إلاّ أُولئك البعض الذين أَتياهم، فَجيء بلفظ (أهلها) ليَعمّ جميعهم وأنّهم تَتَبّعوهم واحداً واحداً بالاستطعام منهم فأَبَوا جميعاً أنْ يُضيّفوهما، ولو كان التركيب (استطعماهم) لكان عائداً على أُولئك البعض المأتيّينّ أَوّلاً فحسب، وهو خلاف المقصود (٤) .

( إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا)

قالوا: وكان الوجه أن يقول: إنّما الرِّبا مِثل البيع!

لكنّهم غَفَلوا وجه هذا التشبيه؛ وذلك أنّ المـُرابين زَعموا تَماثل البيع والرِّبا، فكلّ ما في الرِّبا من آثار وتَبِعات فإنّها بعينها موجودة في البيع بِلا فَرق؛ ومِن ثَمّ استغربوا أن يُحلَّل

____________________

(١) الكهف ١٨: ٧٧.

(٢) الهدى إلى دين المصطفى، ج١، ص٣٨٩.

(٣) التفسير الكبير، ج٢١، ١٥٦.

(٤) تفسير البحر المحيط لأبي حيّان الأندلسي الغرناطي، ج٦، ص١٥١.

٣٩١

البيع ويُحرَّم الرِّبا، وقالوا: إنّما البيع مثل الرِّبا في الترابح وجَلب المنافع، فما شأن البيع يُحلَّل والرِّبا يُحرَّم؟!

وقد حكى اللّه تعالى عنهم ذلك تفضيعاً لشانئتهم:

( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ) (١) .

فشَنَّع عليهم قولتهم هذه؛ حيث المفاسد والآثار السيّئة التي يُعقّبها الرِّبا لا يوجد شيء منها في البيع، ومِن ثَمّ فإنّ هذا التشبيه إنّما هو من مُضاعفات تسويل الشيطان على عقولهم الغائرة (٢) .

( وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ) (٣)

قالوا: وكان الجدير أنْ يقول: ومَثل الذي يَعِظ الكُفّار الذي يَنعق بما لا يَسمع إلاّ دُعاءً ونِداءً صمٌّ بكم عميٌ فهم لا يعقلون...

قال المفسّرون: في الكلام تقدير، والمعنى: ومَثل الذين كفروا في دعائِك إيّاهم كمَثل الذي يَنعق البهائم... كما في قوله: ( أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ) (٤) .

( إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ..... إِنْ تُسْمِعُ إِلاّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ ) (٥) .

( أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) (٦) .

( إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ) (٧) .

إلى غيرهُنّ من آيات تُعرِب عن فشل محاولة إرشاد مَن لا قلبَ له ولا وعيَ ولا حضورَ، وهو تائِه في غياهب الضلال، ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ

____________________

(١) البقرة ٢: ٢٧٥.

(٢) راجع: الهدى إلى دين المصطفى، ج١، ص ٣٩٧ - ٣٩٨.

(٣) البقرة ٢: ١٧١.

(٤) الأعراف ٧: ١٧٩.

(٥) النمل ٢٧: ٨٠ و٨١، الروم ٣٠: ٥٢ و٥٣.

(٦) الزخرف ٤٣: ٤٠.

(٧) فاطر ٣٥: ٢٢.

٣٩٢

وَهُوَ شَهِيدٌ ) (١) .

وإنّما لم يُصرَّح بهذا التقدير؛ تحاشياً من تشبيه الواعظ الناصح والمـُرشد الكامل في وَعظِه الشافي وإرشاده الحكيم بمَن ينطق بمهملات لا معنى لها سوى التصويت والنعيق كصياح الغُراب (٢) .

( وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) (٣)

قد تكرّر في القرآن أنّه نَزَل بلسانٍ عربيّ مُبين (٤) وهو الظاهر البيان ميسَّر لا تعقيد فيه ولا إبهام ( فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) (٥) .

هذا مع العِلم بأنّ في القرآن آيات متشابهة (مُغلقة الفهم مُبهَمة المعنى) بشهادة القرآن ذاته، حيث قوله تعالى: ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) ، وأخيراً ( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) (٦) ، أمّا عامّة الناس فإنّهم مَحرومون عن فَهم هذا اللفيف من الآيات، وأصبحت لا فائدة فيها عندهم سِوى تلاوتها جرياً على الأَلسن لا وعياً في القلوب!! (٧) .

لكن تعرّضنا - عند الكلام عن متشابهات القرآن - (٨) للإجابة على هذا السؤال وقُلنا: مُتشابه القرآن على نوعَين: أصلي وطارئ، والطارئ - وهو الأكثريّة الساحقة من متشابهات القرآن - ما عَرَض له التشابه فيما بعد ولم يكن مُتشابهاً في أصله وعند نزوله؛ وذلك من جرّاء تضارب الآراء وتخاصم أرباب الجَدل، والذي ثار أُواره في مؤخّرة القرن الأَوّل ودام حتّى القرنَينِ الثاني والثالث، وظهرت مَذاهب ومَشارب مُتنوّعة ومُتزاحمة بعضها مع بعض في تلك الفترة غير القصيرة، كان صاحب كلّ مَذهب فكري يَعمَد إلى لفيفٍ من آيات وروايات ليؤِّولها إلى حيث مُرتآه الخاصّ ويُفسِّرها حسب رأيه؛ دَعماً

____________________

(١) ق ٥٠: ٣٧.

(٢) راجع: الهدى إلى دين المصطفى، ج١، ص٣٩٧.

(٣) النحل ١٦: ١٠٣.

(٤) الشعراء ٢٦: ١٩٥.

(٥) الدخان ٤٤: ٥٨.

(٦) آل عمران ٣: ٧.

(٧) هذه شُبهة أَوردها هاشم العربي في ملحق ترجمة كتاب الإسلام، ص٣٧٩.

(٨) في المجلد الثالث من التمهيد.

٣٩٣

لعقيدةٍ ارتآها أو دفعاً لما سلكه خصماؤه، وفي غُضون هذا التَدافع والتَخاصم كانت معالم الشريعة هي التي وقعت عُرضة الأهواء ومُتضارب الآراء، وأصبح قسمٌ كبيرٌ من بيّنات الآيات والسُنَن مُتشابهاتٍ، وقد أحاطت بها هالات من الإبهام والإجمال، فصار ما كان مُحكماً بالأمس متشابهاً، وما كان بيّناً مُستطرقاً طُرُق الظَلام، هذا هو الحَدث الجليل الذي عاد بسيّئاته إلى حوزة الشريعة الغرّاء.

وهذا في أكثريّة النصوص التي تعرّضت لصفاته تعالى الجلال والجمال وشؤون الخَليقة والتدبير وما شابه.

أمّا المـُتشابه الأصل فهو أقلّ القليل من آياتٍ تعرّضت لمعانٍ مُستجدّة على العرب، هي ذوات مفاهيم رفيعة ومتوسّعة سِعة الآفاق، كانت القوالب اللفظيّة - المـُوضوعة عند العرب - تضيق عن حَملها والإيفاد بها؛ ومِن ثَمّ جاءت في قوالب الاستعارة والتشبيه القاصرة - بطبيعة الحال - عن إفادة كمال المـُراد، وهذا من قصورٍ يعود إلى القابل ولا يَمسّ شأن الفاعل، كما لا يخفى، وقد قدّمنا الكلام عن تفاصيله.

أمّا ولِمَ أُودعت هذه اللُّمة من عديد آيات رفيعة المنال ضِمن نصوص القرآن الكريم وهي معروضة على العامّة لتكون بياناً للناس كافّة؟ ( هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ) (١) .

فيعود السبب إلى كونها ودائع أُودعت لدى هذه الأُمّة؛ لتكون رصيداً لها وذُخراً وفيراً في مسيرة الشريعة الأبديّة، كلّما تقدّم الزمان ظهرت منه آياتٌ بيّناتٌ لتُنير الدرب على مدى الأيّام.

إنّ لهذه الآيات إشعاعات تُشعّ بأطيافها متناسبةً مع الظروف والشرائط المؤاتية في كلّ زمان، فيوماً حسب ظاهرها البدائي على حدّ تَرجمة الألفاظ، ويوماً معاني أعمق فأعمق حسبما تتعمّق العقول وتنضج الأفكار، وهذا من حِكمته تعالى حيث جَعَل من هذه الشريعة الخلود، الأمر الذي لم يَجعل القرآن - حتّى في مِثل هذا المـُتشابه من الآيات - يوماً مّا في موضع حَيرة للأُمّة لا يعقلون منه شيئاً، نعم، سِوى ما كان منه يحتاج

____________________

(١) آل عمران ٣: ١٣٨.

٣٩٤

إلى تدبُّر وتعمُّق نظر ومراجعة الآيات المـُحكمات وهُنّ أُمّ الكتاب (أي المرجع النهائي لحلّ المعضلات).

موارد زَعَموا فيها مخالفات في عَودِ الضمير!

* قال تعالى: ( ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ... ) (١) .

أَتى أَوّلاً بضمير التثنية (ائتيا)، (قالتا) بصورة التأنيث، ثُمّ بضمير الجمع المـُذكر السالم (طائعينَ)، وأخيراً بضمير الجمع المؤنّث السالم (فقضاهُنّ...)؟!

* وهكذا قوله تعالى: ( وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ... ذَوَاتَا أَفْنَانٍ... فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ... فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ... مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ... فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ... ) .

ثُمّ قال: ( وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ... مُدْهَامَّتَانِ... فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ... فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ... فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ... ) (٢) .

في كِلا الموضعَين جاء بضمير الجمع المؤنّث السالم بعد تثنية الضمير مُكرّراً!

* وقوله تعالى: ( هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ) (٣) .

* وقال - خطاباً لآدم وحوّاء -: ( قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى ) (٤) .

وقال في موضع آخر: ( فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ) (٥) .

وتعقّبها بقوله: ( قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (٦) .

____________________

(١) فصّلت ٤١: ١١ و١٢.

(٢) الرحمان ٥٥: ٤٦ - ٧٠.

(٣) الحجّ ٢٢: ١٩.

(٤) طه ٢٠: ١٢٣.

(٥) البقرة ٢: ٣٦.

(٦) البقرة ٢: ٣٨.

٣٩٥

وقال: ( قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ) (١) .

في كلّ هذه المواضع جاء الخطاب فيها أَوّلاً بصورة مُثنّى، ثُمّ بصورة الجمع!

* وهكذا في قوله تعالى: ( وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ) (٢) .

وقوله تعالى: ( كَلاّ فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ ) (٣) .

وقوله: ( إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ ) (٤) .

* وجاء في وصف الجمع المـُكسّر بجمع المؤنّث السالم: ( فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ ) (٥) مع العِلم بأنّ مفرده (يوم) وهو مُذكّر!

* وقال تعالى: ( وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ ) (٦) .

* وقال: ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ... ) (٧) .

عاد ضمير التأنيث على الأسماء باعتباره جمع مُكسّر، ثُمّ عاد عليها ضمير الجمع المـُذكّر، ثُمّ اسم الإشارة أيضاً بصورة الجمع المـُذكّر!

* يُعبِّر تعالى عن الملائكة بجماعة الذُكور في غالبية تعابيره، ( لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) (٨) .

( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ) (٩) .

( وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً ) (١٠) .

____________________

(١) الأعراف ٧: ٢٣ و ٢٤.                            (٢) الأنبياء ٢١: ٧٨.

(٣) الشعراء ٢٦: ١٥.                                  (٤) ص ٣٨: ٢١ و ٢٢.

(٥) فصّلت ٤١: ١٦.                                   (٦) النور ٢٤: ٤٥.

(٧) البقرة ٢: ٣١.                                       (٨) التحريم ٦٦: ٦.

(٩) غافر: ٤٠: ٧.                                      (١٠) الزخرف ٤٣: ١٩.

٣٩٦

( وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ ) (١) .

لكن نرى أنّه تعالى قد عَبَّر عنهم بالجمع المؤنّث السالم في مواضع:

جاء في سورة المرسلات: ( فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً * عُذْراً أَوْ نُذْراً ) (٢) .

وفي سورة النازعات: ( فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً ) (٣) .

وفي سورة الصافّات: ( وَالصَّافَّاتِ صَفّاً * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً ) (٤) .

* قال تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) (٥) .

وقال: ( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) (٦) .

فقد جاء بجمع التذكير، لكنّه تعالى في موضعٍ آخر قال: ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ ) (٧) .

( وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ ) (٨) .

وإليك بعض الكلام في ذلك:

تغليب جانب ذوي العقول

جرت العادة عند العرب وجرى عليها القرآن على تغليب جانب الذُكور وكذا جانب ذوي العقول إذا كانوا في الجمع.

وعليه، فعَود الضمير إلى الأسماء في الآية (٣١ - ٣٣ - البقرة) إنّما هو باعتبار المـُسمّيات دون نفس الأسماء، وبما فيها من ذَوي العقول، غُلِّب جانبهم، فقال: ( أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ ) (٩) .

* * *

وهكذا في قوله تعالى في الآية (٤٥ النور): ( وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ

____________________

(١) شورى ٤٢: ٥.

(٢) المرسلات ٧٧: ٥ و ٦.

(٣) النازعات ٧٩: ٥.

(٤) الصافات ٣٧: ١ - ٣.

(٥) الأنبياء ٢١: ٣٣.

(٦) الإسراء ١٧: ٤٤

(٧) النور ٢٤: ٤١.

(٨) الأنبياء ٢١: ٧٩.

(٩) راجع: مجمع البيان، ج١، ص٧٧، ومعاني القرآن، ج١، ٢٦، والكشّاف ج١، ص١٢٦.

٣٩٧

يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ... ) ؛ لأنّ (كلّ دابّة) يشمل الآدميّين فغُلِّب جانبهم (١) .

كما تقول: القوم مع دوابّهم مُقبلون، فمنهم مَن يُسرع ومنهم مَن يُبطئ (٢) .

قال الزمخشري: ولمـّا كان اسم الدابّة مُوقعاً على المـُميِّز وغير المـُميِّز غُلّب المـُميّز فأُعطي ما وراءه حُكمُه، كأنّ الدوّابّ كلّهم مميّزون (٣) .

* * *

وعلى هذا الغِرار جرى قوله تعالى في الآية (١١ - فصّلت): ( قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) ، باعتبار ما فيها من ذوي العقول، ولعلّهم الملائكة المـُدبّرون لنظام التكوين، قال قطرب: فغُلّب حُكم العقلاء (٤) .

وجَعَله الزمخشري من الاستعارة بالكناية وكان الجمع باعتبار المعنى حيث المـُراد من السماء هي السماوات، وكذا الأرض فيما حسب (٥) ، وسيأتي كلامه.

استعارة تخييليّة

وهي من أَجود أنواع الاستعارات، يُضمَر في النفس تشبيهُ شيء بشيء، ثُمّ يُذكر أحد طَرَفَي التشبيه ويُذكَر له صفةٌ من خواصّ الطرف الآخر؛ لتكون دليلاً على ذاك التشبيه المـُضمر في النفس، مثلاً: تُشبَّه المنيّة بسَبُعٍ ضارٍ مُفترس، ولا يُصرَّح بهذا التشبيه، بل يُذكر للمنيّة التي هي المشبَّه أظفار السَبُعِ الضاري:

وإذا المـَنيّةُ أنشبتْ أظفارَها

أَلفيتُ كلَّ تميمةٍ لا تنفعُ

وهذا يُسمّى استعارة تخييليّة وبالكناية أيضاً.

وفي القرآن من هذا النوع من الاستعارة كثير.

من ذلك قوله تعالى: ( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) (٦) .

____________________

(١) مجمع البيان، ج١، ص٧٧.

(٢) معاني القرآن، ج٢، ص٢٥٧.

(٣) الكشّاف، ج٣، ص٢٤٦.

(٤) راجع: مجمع البيان، ج٩، ص٦، ومعاني القرآن، ج٣، ص١٣.

(٥) الكشّاف، ج٤، ص١٩٠.

(٦) الإسراء ١٧: ٤٤.

٣٩٨

فحيث شُبّهت الأشياء بمَن يَلهج بالتسبيح مِن إنسٍ وجنٍّ ومَلَكٍ استُعير لفظ التسبيح الذي هو فعل ذوي العقول، ثُمّ جرى الكلام على هذا النَمط وقال: ( لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) ، أتى بضمير الجمع المـُذكّر حسب سياق الكلام.

وهكذا جعل الزمخشري قوله تعالى ( قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) (١) من نوع الاستعارة بالكناية، قال: لمـّا جُعِلنَ مُخاطَبات ومُجيبات، ووُصِفنَ بالطَوع والكُره، قيل: طائعينَ، في موضع طائعات (٢) ، فقد شُبّهت السماوات والأرض بالكائنات الحيّة العاقلة الناطقة، فوَصَفَها بالقول والإطاعة.

قال: وهذا نظير قوله تعالى: ( إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ) (٣) ؛ لأنّه لمـّا وَصَفَها بما هو خاصّ بالعقلاء وهو السجود أَجرى عليها حكمَهم كأنّها عاقلة، وهذا كثيرٌ شائعٌ في كلام العرب أنْ يُلابس الشيء بشيءٍ من بعض الوجوه، فيُعطى حُكماً من أحكامه؛ إظهاراً لأثر المـُلابسة والمـُقاربة (٤) .

وكذا قوله: ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ ) (٥) .

عَبَّر بـ (من) - وهو لذوي العقول - بنفس الاعتبار؛ ولذلك جاء الجمع، جمع المـُؤنّث السالم.

وعلى نفس الغِرار جاء قوله تعالى: ( وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ ) (٦) ضمير جمع المؤنّث حيث تشبيه الجبال بالمـُسبّحات.

قال الزمخشري في قوله تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) (٧) : الضمير للشمس والقمر، والمراد بهما جنس الطوالع كلّ يوم وليلة، جعلوها مُتكاثرة؛ لتكاثر مَطالعها وهو السبب في جمعهما بالشُمُوس والأقمار.

قال: وإنما جُعل الضمير (واو) العقلاء؛ للوصف بفعلهم وهو السِباحة (٨) .

____________________

(١) فصّلت ٤١: ١١.

(٢) الكشّاف، ج٤، ص١٩٠.

(٣) يوسف ١٢: ٤.

(٤) الكشّاف، ج٢، ص٤٤٤.

(٥) النور ٢٤: ٤١.

(٦) الأنبياء ٢١: ٧٩.

(٧) الأنبياء ٢١: ٣٣.

(٨) الكشّاف، ج٣، ص١١٥.

٣٩٩

ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: ( فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ) (١) .

قال الزمخشري: فإنْ قُلتَ: كيف صحَّ مجيء خاضعينَ خَبراً عن الأعناق؟

قلتُ: أصل الكلام فظلّوا لها خاضعينَ، فأُقحِمت الأعناق لبيان موضع الخُضوع... أو لمـّا وُصِفت بالخضوع الذي هو للعقلاء قيل: خاضعينَ، كما تقدّم في قوله ( لِي سَاجِدِينَ ) من سورة يوسف، وقيل: أعناق الناس رؤساؤهم ومُقدَّموهم، شُبّهوا بالأعناق كما قيل لهم: هم الرؤوس والنواصي والصدور، قال شاعرهم:

ومَشهدٍ قد كفيتَ الغائبينَ بهِ

في مَحفلٍ مِن نواصي القومِ مَشهودِ

والمـُراد من نواصي القوم أشرافهم (٢) .

ومِثله قوله تعالى: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً ) (٣) .

أي الآلهة التي يَعبدها المشركون هم يبتغون إلى ربّهم الوسيلة ويتسابقون كي يتقرّبوا إلى اللّه، فكيف يعبدونها من دون اللّه؟!

فقد عَبَّر عنهم بلفظ جماعة العقلاء؛ وذلك لمـّا عَدّوهم معبودِينَ جرى عليهم ما جرى على العقلاء (٤) وله نظائر كثيرة في القرآن:

( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ) (٥) .

( وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ ) (٦) أي لا تسبّوا ما يعبده المشركون.

( وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ ) (٧) .

____________________

(١) الشعراء ٢٦: ٤.

(٢) الكشّاف، ج٣، ص٢٩٩.

(٣) الإسراء ١٧: ٥٧.

(٤) إعراب القرآن المنسوب إلى الزجّاج، ص٩٠٣ - ٩٠٤.

(٥) الأعراف ٧: ١٩٤ و١٩٥.

(٦) الأنعام ٦: ١٠٨.

(٧) الرعد ١٣: ١٤.

٤٠٠

قوله تعالى: ( إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَ كَفَرَ ) استثناء من المفعول المحذوف لقوله السابق:( فَذَكِّرْ ) و التقدير فذكّر الناس إلّا من تولّى منهم عن التذكرة و كفر إذ تذكرته لغو لا فائدة فيها، و معلوم أنّ التولّي و الكفر إنّما يكون بعد التذكرة فالمنفيّ بالاستثناء هو التذكرة بعد التذكرة كأنّه قيل: ذكّرهم و أدم التذكرة إلّا لمن ذكّرته فتولّى عنها و كفر، فليس عليك إدامة تذكرته بل أعرض عنه فيعذّبه الله العذاب الأكبر.

فقوله:( فَذَكِّرْ - إلى أن قال -إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَ كَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ ) في معنى قوله:( فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى‏ - إلى أن قال -وَ يَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى) الأعلى: 12 و قد تقدّم بيانه.

و قيل: الاستثناء من ضمير( عَلَيْهِمْ ) في قوله:( لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) و المعنى لست عليهم بمتسلّط إلّا على من تولّى منهم عن التذكرة و أقام على الكفر فسيُسلّطك الله عليه و يأمرك بالجهاد فتقاتله فتقتله.

و قيل: الاستثناء منقطع و المعنى لست عليهم بمتسلّط لكنّ من تولّى و كفر منهم يعذّبه الله العذاب الأكبر، و ما قدّمناه من الوجه أرجح و أقرب.

قوله تعالى: ( فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ ) هو عذاب جهنّم فالآية كما تقدّم محاذية لقوله في سورة الأعلى( الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى‏ ) .

قوله تعالى: ( إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ) الإياب الرجوع و( إِلَيْنا ) خبر إنّ و إنّما قدّم للتأكيد و لرعاية الفواصل دون الحصر إذ لا قائل برجوع الناس إلى غير الله سبحانه و الآية في مقام التعليل للتعذيب المذكور في الآية السابقة.

قوله تعالى: ( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ ) الكلام فيه كالكلام في الآية السابقة.

٤٠١

( بحث روائي‏)

في المجمع، و قال أبوعبداللهعليه‌السلام : كلّ ناصب و إن تعبّد و اجتهد يصير إلى هذه الآية( عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تَصْلى‏ ناراً حامِيَةً ) .

أقول: و رواه في ثواب الأعمال، مسنداً و لفظه: كلّ ناصب و إن تعبّد و اجتهد يصير إلى هذه الغاية( عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تَصْلى‏ ناراً حامِيَةً ) .

و فيه، عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الضريع شي‏ء في النار يشبه الشوك أمرّ من الصبر و أنتن من الجيفة و أشدّ حرّاً من النار سمّاه الله الضريع.

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً ) قال: الهزل و الكذب.

و فيه،: في قوله تعالى:( لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) قال: بحافظ و لا كاتب عليهم.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و عبد بن حميد و مسلم و الترمذيّ و النسائيّ و ابن ماجة و ابن جرير و الحاكم و ابن مردويه و البيهقيّ في الأسماء و الصفات عن جابر قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اُمرت أن اُقاتل الناس حتّى يقولوا: لا إله إلّا الله فإذا قالوها عصموا منيّ دماءهم و أموالهم إلّا بحقّها و حسابهم على الله ثمّ قرأ( فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) .

أقول: لا دلالة في الرواية على كون الاستثناء من ضمير( عَلَيْهِمْ ) و هو ظاهر.

و فيه، و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَ كَفَرَ ) يريد من لم يتّعظ و لم يصدّقك و جحد ربوبيّتي و كفر نعمتي( فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ ) يريد الغليظ الشديد الدائم( إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ) يريد مصيرهم( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ ) يريد جزاءهم.

و في النهج: و سئلعليه‌السلام : كيف يحاسب الله الخلق على كثرتهم؟ قال: كما يرزقهم على كثرتهم. قيل: فكيف يحاسبهم و لا يرونه؟ قال: كما يرزقهم و لا يرونه.

٤٠٢

و فيه، قال الصادقعليه‌السلام : كلّ اُمّة يحاسبها إمام زمانها، و يعرف الأئمّة أولياءهم و أعداءهم بسيماهم و هو قوله:( وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ‏ ) الحديث.

أقول: قد تقدّم توضيح معنى الحديث في تفسير الآية من سورة الأعراف، و روي هذا المعنى في البصائر، عن الصادقعليه‌السلام مسنداً و في الكافي، عن الباقر و الكاظمعليهما‌السلام و في الفقيه، عن الهاديعليه‌السلام في الزيارة الجامعة.

٤٠٣

( سورة الفجر مكّيّة و هي ثلاثون آية)

( سورة الفجر الآيات 1 - 30)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالْفَجْرِ ( 1 ) وَلَيَالٍ عَشْرٍ ( 2 ) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ( 3 ) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ( 4 ) هَلْ فِي ذَٰلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ ( 5 ) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ( 6 ) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ ( 7 ) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ( 8 ) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ ( 9 ) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ ( 10 ) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ ( 11 ) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ ( 12 ) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ( 13 ) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ( 14 ) فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ( 15 ) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ( 16 ) كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ( 17 ) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ ( 18 ) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا ( 19 ) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ( 20 ) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ( 21 ) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ( 22 ) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ ( 23 ) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ( 24 ) فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ ( 25 ) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ( 26 ) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ( 27 ) ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ( 28 ) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ( 29 ) وَادْخُلِي جَنَّتِي ( 30 )

٤٠٤

( بيان‏)

في السورة ذمّ التعلّق بالدنيا المتعقّب للطغيان و الكفران و إيعاد أهله بأشدّ عذاب الله في الدنيا و الآخرة فتبيّن أنّ الإنسان لقصور نظره و سوء فكره يرى أنّ ما آتاه الله من نعمه من كرامته على الله و أنّ ما يتلبّس به من الفقر و العدم من هوانه فيطغى و يفسد في الأرض إذا وجد و يكفر إذا فقد و قد اشتبه عليه الأمر فما يصيبه من القدرة و الثروة و من الفقر و ضيق المعاش امتحان و ابتلاء إلهيّ ليظهر به ما ذا يقدّم من دنياه لاُخراه.

فليس الأمر على ما يتوهّمه الإنسان و يقوله بل الأمر كما سيتذكره إذا وقع الحساب و حضر العذاب أنّ ما أصابه من فقر أو غنى أو قوّة أو ضعف كان امتحاناً إلهيّاً و كان يمكنه أن يقدّم من يومه لغده فلم يفعل و آثر العقاب على الثواب فليس ينال الحياة السعيدة في الآخرة إلّا النفس المطمئنّة إلى ربّها المسلمة لأمره الّتي لا تتزلزل بعواصف الابتلاءات و لا يطغيه الوجدان و لا يكفره الفقدان.

و السورة مكّيّة بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: ( وَ الْفَجْرِ وَ لَيالٍ عَشْرٍ وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ وَ اللَّيْلِ إِذا يَسْرِ هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ) الفجر الصبح و الشفع الزوج، قال الراغب: الشفع ضمّ الشي‏ء إلى مثله و يقال للمشفوع شفع. انتهى. و سري الليل مضيّه و إدباره، و الحجر العقل فقوله:( وَ الْفَجْرِ ) إقسام بالصبح و كذا الحال فيما عطف عليه من ليال و الشفع و الوتر و اللّيل.

و لعلّ ظاهر قوله:( وَ الْفَجْرِ ) أنّ المراد به مطلق الفجر و لا يبعد أيضاً أن يراد به فجر يوم النحر و هو عاشر ذي الحجّة.

و قيل: المراد فجر ذي الحجّة، و قيل: فجر المحرّم أوّل السنة و قيل: فجر يوم الجمعة، و قيل فجر ليلة جمع، و قيل: المراد به صلاة الفجر، و قيل: النهار كلّه

٤٠٥

و قيل: فجر العيون من الصخور و غيرها و هي وجوه رديّة.

و قوله:( وَ لَيالٍ عَشْرٍ ) لعلّ المراد بها الليالي العشر من أوّل ذي الحجّة إلى عاشرها و التنكير للتفخيم.

و قيل: المراد بها الليالي العشر من آخر شهر رمضان، و قيل: الليالي العشر من أوّله، و قيل الليالي العشر من أوّل المحرّم، و قيل: المراد عبادة ليال عشر على تقدير أن يراد بالفجر صلاة الفجر.

و قوله( وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ ) يقبل الانطباق على يوم التروية و يوم عرفة و هو الأنسب على تقدير أن يراد بالفجر و ليال عشر فجر ذي الحجّة و العشر الأوّل من لياليها.

و قيل: المراد صلاتاً الشفع و الوتر في آخر الليل، و قيل: مطلق الصلاة فمنها شفع و منها وتر، و قيل: الشفع يوم النحر و الوتر يوم عرفة، و قيل: الشفع جميع الخلق لأنّه قال:( وَ خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً ) النبأ: 8 و الوتر هو الله تعالى، و على هذه الأقوال روايات ستوافيك في البحث الروائيّ الآتي إن شاء الله.

و قيل: المراد الزوج و الفرد من العدد، و في الإقسام بهما تذكير بالعدد لما في ضبط المقادير به من عظيم النعمة من الله سبحانه، و قيل: الشفع و الوتر جميع المخلوقات لأنّ الأشياء إمّا زوج و إمّا فرد، و قيل: الوتر آدم شفع بزوجته، و قيل: الشفع الأيّام و الليالي و الوتر اليوم الّذي لا ليل بعده و هو يوم القيامة، و قيل: الشفع الصفا و المروة و الوتر البيت الحرام، و قيل: الشفع أيّام عاد و الوتر لياليها، و قيل: الشفع أبواب الجنّة و هي ثمانية و الوتر أبواب جهنّم و هي سبعة إلى غير ذلك و هي كثيرة أنّهاها بعضهم إلى ستّة و ثلاثين قولاً و لا يخلو أكثرها من تحكّم.

و قوله:( وَ اللَّيْلِ إِذا يَسْرِ ) أي يمضي فهو كقوله:( وَ اللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ) المدّثر: 33 و ظاهره أنّ اللّام للجنس فالمراد به مطلق آخر الليل، و قيل: المراد به ليلة المزدلفة و هي ليلة النحر الّتي يسري فيها الحاجّ من عرفات إلى المزدلفة فيجتمع فيها على طاعة الله ثمّ يغدوا منها إلى منى و هو كما ترى و خاصّة على القول بكون المراد بليال

٤٠٦

عشر هو الليالي العشر الأوائل منها.

و قوله:( هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ) الإشارة بذلك إلى ما تقدّم من القسم، و الاستفهام للتقرير، و المعنى أنّ في ذلك الّذي قدّمناه قسماً كافياً لمن له عقل يفقه به القول و يميّز الحقّ من الباطل، و إذا أقسم الله سبحانه بأمر - و لا يقسم إلّا بما له شرف و منزلة - كان من القول الحقّ المؤكّد الّذي لا ريب في صدقه.

و جواب الأقسام المذكورة محذوف يدلّ عليه ما سيذكر من عذاب أهل الطغيان و الكفران في الدنيا و الآخرة و ثواب النفوس المطمئنّة، و أنّ إنعامه تعالى على من أنعم عليه و إمساكه عنه فيمن أمسك إنّما هو ابتلاء و امتحان.

و حذف الجواب و الإشارة إليه على طريق التكنية أوقع و آكد في باب الإنذار و التبشير.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ ) هم عاد الاُولى قوم هود تكرّرت قصّتهم في القرآن الكريم و اُشير إلى أنّهم كانوا بالأحقاف، و قد قدّمنا ما يتحصّل من قصصهم في القرآن الكريم في تفسير سورة هود.

قوله تعالى: ( إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ ) العماد و جمعه عمد ما يعتمد عليه الأبنية، و ظاهر الآيتين أنّ إرم كانت مدينة لهم معمورة عديمة النظير ذات قصور عالية و عمد ممدّدة، و قد انقطعت أخبار القوم عهدهم و انمحت آثارهم، فلا سبيل إلى الحصول على تفصيل حالهم تطمئنّ إليها النفس إلّا ما قصّة القرآن الكريم من إجمال قصّتهم أنّهم كانوا بعد قوم نوح قاطنين بالأحقاف و كانوا ذوي بسطة في الخلق اُولي قوّة و بطش شديد، و كان لهم تقدّم و رقي في المدنيّة و الحضارة لهم بلاد عامرة و أراض خصبة ذات جنّات و نخيل و زروع و مقام كريم و قد تقدّمت القصّة.

و قيل: المراد بإرم قوم عاد - و هو في الأصل اسم أبيهم سمّوا باسم أبيهم كما يقال: قريش و يراد به القرشيّون و يطلق إسرائيل و يراد به بنو إسرائيل - و المراد بكونهم ذات عماد كونهم اُولي قوّة و سطوة.

٤٠٧

و المعنى: أ لم تر كيف فعل ربّك بقوم عاد الّذين هم قوم إرم ذوو القوّة و الشدّة الّذين لم يخلق مثلهم في بسطة الجسم و القوّة و البطش في البلاد أو في أقطار الأرض و لا يخلو من بعد من ظاهر اللفظ.

و أبعد منه ما قيل: إنّ المراد بكونهم ذات العماد أنّهم كانوا أهل عمد سيّارة في الربيع فإذا هاج النبت رجعوا إلى منازلهم.

و من الأساطير قصّة جنّة إرم المشهورة المرويّة عن وهب بن منبّه و كعب الأحبار.

قوله تعالى: ( وَ ثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ ) الجوب القطع أي قطعوا صخر الجبال بنحتها بيوتاً فهو في معنى قوله:( وَ تَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً ) الشعراء: 149.

قوله تعالى: ( وَ فِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ ) هو فرعون موسى، و سمّي ذا الأوتاد - على ما في بعض الروايات - لأنّه كان إذا أراد أن يعذّب رجلاً بسطه على الأرض و وتد يديه و رجليه بأربعة أوتاد في الأرض و ربّما بسطه على خشب و فعل به ذلك، و يؤيّده ما حكاه الله من قوله يهدّد السحرة إذ آمنوا بموسى:( وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ) طه: 71 فإنّهم كانوا يوتّدون يدي المصلوب و رجليه على خشبة الصليب.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ ) صفة للمذكورين من عاد و ثمود و فرعون، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ ) صبّ الماء معروف و صبّ سوط العذاب كناية عن التعذيب المتتابع المتواتر الشديد، و تنكير عذاب للتفخيم.

و المعنى فأنزل ربّك على كلّ من هؤلاء الطاغين المكثرين للفساد إثر طغيانهم و إكثارهم الفساد عذاباً شديداً متتابعاً متوالياً لا يوصف.

قوله تعالى: ( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ ) المرصاد المكان الّذي يرصد منه و يرقب و كونه تعالى على المرصاد استعارة تمثيليّة شبّه فيها حفظه تعالى لأعمال عباده بمن

٤٠٨

يقعد على المرصاد يرقب من يراد رقوبه فيأخذه حين يمرّ به و هو لا يشعر فالله سبحانه رقيب يرقب أعمال عباده حتّى إذا طغوا و أكثروا الفساد أخذهم بأشدّ العذاب.

و في الآية تعليل ما تقدّم من حديث تعذيب الطغاة المكثرين للفساد من الماضين و في قوله:( رَبَّكَ ) بإضافة الربّ إلى ضمير الخطاب تلويح إلى أنّ سنّة العذاب جارية في اُمّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما جرت عليه في الاُمم الماضين.

قوله تعالى: ( فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ) متفرّع على ما قبله، فيه تفصيل حال الإنسان إذا اُوتي من نعم الدنيا أو حرم كأنّه قيل: إنّ الإنسان تحت رقوب إلهيّ يرصده ربّه هل يصلح أو يفسد؟ و يبتليه و يمتحنه فيما آتاه من نعمة أو حرمة هذا هو الأمر في نفسه و أمّا الإنسان فإنّه إذا أنعم الله عليه بنعمة حسب أنّ ذلك إكرام إلهيّ له أن يفعل بها ما يشاء فيطغى و يكثر الفساد، و إذا أمسك و قدر عليه رزقه حسب أنّه إهانة إلهيّة فيكفر و يجزع.

فقوله:( فَأَمَّا الْإِنْسانُ ) المراد به النوع بحسب الطبع الأوّليّ فاللّام للجنس دون الاستغراق.

و قوله:( إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ ) أي امتحنه و اختبره، و العامل في الظرف محذوف تقديره كائنا إذا إلخ و قيل: العامل فيه( فَيَقُولُ ) .

و قوله:( فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ ) تفسير للابتلاء، و المراد بالإكرام و التنعيم الصوريّان و إن شئت فقل: الإكرام و التنعيم حدوثاً لا بقاء أي إنّه تعالى أكرمه و آتاه النعمة ليشكره و يعبده لكنّه جعلها نقمة على نفسه تستتبع العذاب.

و قوله:( فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ) أي جعلني على كرامة منه بالنعم الّتي آتانيها و إن شئت فقل: القدرة و الجدة الموهوبتان إكرام و تنعيم حدوثاً و بقاء فلي أن أفعل ما أشاء.

و الجملة أعني قوله:( فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ) حكاية ما يراه الإنسان بحسب الطبع، و قول الإنسان:( رَبِّي أَكْرَمَنِ ) الظاهر في نسبة التدبير إلى الله سبحانه

٤٠٩

- و لا يقول به الوثنيّة و المنكرون للصانع - مبنيّ على اعترافه بحسب الفطرة به تعالى و إن استنكف عنه لساناً، و أيضاً لرعاية المقابلة مع قوله:( إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ ) .

قوله تعالى: ( وَ أَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ ) أي و أمّا إذا ما امتحنه و اختبره فضيق عليه رزقه فيقول ربّي أذلّني و استخفّ بي.

و يظهر من مجموع الآيتين أوّلاً حيث كرّر الابتلاء و أثبته في صورتي التنعيم و الإمساك عنه أنّ إيتاء النعم و الإمساك عنه جميعاً من الابتلاء و الامتحان الإلهيّ كما قال:( وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً ) الأنبياء: 35 لا كما يراه الإنسان.

و ثانياً أنّ إيتاء النعم بما أنّه فضل و رحمة إكرام إن لم يبدّلها الإنسان نقما على نفسه.

و ثالثاً أنّ الآيتين معاً تفيدان أنّ الإنسان يرى سعادته في الحياة هي التنعّم في الدنيا بنعم الله تعالى و هو الكرامة عنده و الحرمان منه شقاء عنده و الحال أنّ الكرامة هي في التقرّب إليه تعالى بالإيمان و العمل الصالح سواء في ذلك الغنى و الفقر و أي وجدان و فقدان فإنّما ذلك بلاء و امتحان.

و لهم في معنى الآيتين وجوه اُخر تركنا التعرّض لها لقلّة الجدوى.

قوله تعالى: ( كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَ لا تَحَاضُّونَ عَلى‏ طَعامِ الْمِسْكِينِ ) ردع لقولهم: إنّ الكرامة هي في الغنى و التنعّم، و في الفقر و الفقدان هوان و مذلّة، و المعنى ليس كما تقولون و إنّما إيتاؤه تعالى النعمة و إمساكه عنه كلّ ذلك ابتلاء و امتحان يختبر به حال الإنسان من حيث عبوديّته.

و في قوله:( بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ) إلخ إضراب يؤكّد الردع بذكر بعض التنعّم الّذي لا يجامع الكرامة البتّة كعدم إكرامهم اليتيم بأكل تراثه و منعه منه و عدم التحريض على إطعام المسكين حبّاً للمال فالفطرة الإنسانيّة لا يرتاب في أن لا كرامة في غنى هذا شأنه.

و في الإضراب مضافاً إلى أصل الردع تقريع و لتشديد هذا التقريع وقع الالتفات من الغيبة إلى الخطاب.

٤١٠

فقوله:( بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ) عدم إكرامه حرمانه من تراث أبيه - كما كانوا يحرمون صغار الأولاد من الإرث - و تركه صفر الكفّ بلغ به الجهد ما بلغ كما تؤيّده الآية التالية( وَ تَأْكُلُونَ التُّراثَ ) إلخ.

و قوله:( وَ لا تَحَاضُّونَ عَلى‏ طَعامِ الْمِسْكِينِ ) أصله و لا تتحاضّون، و هو تحريض بعضهم بعضاً على التصدّق على المساكين المعدمين، و منشأه حبّ المال كما في الآية الآتية( وَ تُحِبُّونَ الْمالَ ) إلخ.

قوله تعالى: ( وَ تَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا ) اللمّ أكل الإنسان نصيب نفسه و غيره و أكله ما يجده من دون أن يميّز الطيّب من الخبيث، و الآية تفسير لعدم إكرامهم اليتيم كما تقدّم.

قوله تعالى: ( وَ تُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا ) الجمّ الكثير العظيم، و الآية تفسّر عدم تحاضّهم على طعام المسكين كما تقدّم.

قوله تعالى: ( كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ) الدكّ هو الدقّ الشديد، و المراد بالظرف حضور يوم القيامة.

ردع ثان عمّا يقوله الإنسان في حالي الغنى و الفقر، و قوله:( إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ ) إلخ في مقام التعليل للردع، و محصّل المعنى ليس كما يقوله الإنسان فإنّه سيتذكّر إذا قامت القيامة إنّ الحياة الدنيا و ما فيها من الغنى و الفقر و أضرابهما لم تكن مقصودة بالذات بل كانت ابتلاء و امتحاناً من الله تعالى يميّز به السعيد من الشقيّ و يهيّئ الإنسان فيها ما يعيش به في الآخرة و قد التبس عليه الأمر فحسبها كرامة مقصودة بالذات فاشتغل بها و لم يقدّم لحياته الآخرة شيئاً فيتمنّى عند ذلك و يقول: يا ليتني قدّمت لحياتي و لن يصرف التمنّي عنه شيئاً من العذاب.

قوله تعالى: ( وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ) نسبة المجي‏ء إليه تعالى من المتشابه الّذي يحكمه قوله تعالى:( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ ) الشورى: 11 و ما ورد في آيات القيامة من خواصّ اليوم كتقطّع الأسباب و ارتفاع الحجب عنهم و ظهور أنّ الله هو الحقّ المبين.

٤١١

و إلى ذلك يرجع ما ورد في الروايات أنّ المراد بمجيئه تعالى مجي‏ء أمره قال تعالى:( وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ) الانفطار: 19، و يؤيّد هذا الوجه بعض التأييد قوله تعالى( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَ الْمَلائِكَةُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ ) البقرة: 210 إذا انضمّ إلى قوله:( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ ) النحل: 33 و عليه فهناك مضاف محذوف و التقدير جاء أمر ربّك أو نسبة المجي‏ء إليه تعالى من المجاز العقليّ.

و الكلام في نسبة المجي‏ء إلى الملائكة و كونهم صفّا صفّا كما مرّ.

قوله تعالى: ( وَ جِي‏ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ) إلى آخر الآية لا يبعد أن يكون المراد بالمجي‏ء بجهنّم إبرازها لهم كما في قوله تعالى:( وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى‏ ) النازعات: 36 و قوله:( وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ ) الشعراء: 91، و قوله:( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ق: 22.

و قوله:( يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ) أي يتذكّر أجلى التذكّر أنّ ما كان يؤتاه في الحياة الدنيا من خير أو شرّ كان من ابتلاء الله و امتحانه و أنّه قصر في أمره، هذا ما يفيده السياق.

و قوله:( وَ أَنَّى لَهُ الذِّكْرى) أي و من أين له الذكرى كناية عن عدم انتفاعه بها فإنّ الذكرى إنّما تنفع فيما أمكنه أن يتدارك ما فرّط فيه بتوبة و عمل صالح و اليوم يوم الجزاء لا يوم الرجوع و العمل.

قوله تعالى: ( يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي ) أي لحياتي هذه و هي الحياة الآخرة أو المراد الحياة الحقيقيّة و هي الحياة الآخرة على ما نبّه تعالى عليه بقوله:( وَ ما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) العنكبوت: 64.

و المراد بالتقديم للحياة تقديم العمل الصالح للحياة الآخرة و ما في الآية تمنّ يتمنّاه الإنسان عند ما يتذكّر يوم القيامة و يشاهد أنّه لا ينفعه.

قوله تعالى: ( فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ وَ لا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ ) ضميراً عذابه

٤١٢

و وثاقه لله تعالى و المعنى فيومئذ لا يعذّب عذاب الله أحد من الخلق و لا يوثق وثاق الله أحد من الخلق أي إنّ عذابه و وثاقه تعالى يومئذ فوق عذاب الخلق و وثاقهم، تشديد في الوعيد.

و قرئ( لا يُعَذِّبُ ) بفتح الذال و( وَ لا يُوثِقُ ) بفتح الثاء بالبناء للمفعول و ضميراً عذابه و وثاقه على هذا للإنسان و المعنى لا يعذّب أحد يومئذ مثل عذاب الإنسان و لا يوثق أحد يومئذ مثل وثاقه.

قوله تعالى: ( يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ) الّذي يعطيه سياق المقابلة بين هذه النفس بما ذكر لها من الأوصاف و عيّن لها من حسن المنقلب و بين الإنسان المذكور قبل بما ذكر له من وصف التعلّق بالدنيا و الطغيان و الفساد و الكفران، و ما اُوعد من سوء المصير هو أنّ النفس المطمئنّة هي الّتي تسكن إلى ربّها و ترضى بما رضي به فترى نفسها عبداً لا يملك لنفسه شيئاً من خير أو شرّ أو نفع أو ضرّ و يرى الدنيا دار مجاز و ما يستقبله فيها من غنى أو فقر أو أيّ نفع و ضرّ ابتلاء و امتحاناً إلهيّاً فلا يدعوه تواتر النعم عليه إلى الطغيان و إكثار الفساد و العلوّ و الاستكبار، و لا يوقعه الفقر و الفقدان في الكفر و ترك الشكر بل هو في مستقرّ من العبوديّة لا ينحرف عن مستقيم صراطه بإفراط أو تفريط.

قوله تعالى: ( ارْجِعِي إِلى‏ رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً ) خطاب ظرفه جميع يوم القيامة من لدن إحيائها إلى استقرارها في الجنّة بل من حين نزول الموت إلى دخول جنّة الخلد و ليس خطاباً واقعاً بعد الحساب كما ذكره بعضهم.

و توصيفها بالراضية لأنّ اطمئنانها إلى ربّها يستلزم رضاها بما قدّر و قضى تكويناً أو حكم به تشريعاً فلا تسخطها سانحة و لا تزيغها معصية، و إذا رضي العبد من ربّه رضي الربّ منه إذ لا يسخطه تعالى إلّا خروج العبد من زيّ العبوديّة فإذا لزم طريق العبوديّة استوجب ذلك رضى ربّه و لذا عقّب قوله( راضِيَةً ) بقوله:( مَرْضِيَّةً ) .

قوله تعالى: ( فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَ ادْخُلِي جَنَّتِي ) تفريع على قوله:( ارْجِعِي

٤١٣

إِلى‏ رَبِّكِ ) و فيه دلالة على أنّ صاحب النفس المطمئنّة في زمرة عباد الله حائز مقام العبوديّة.

و ذلك أنّه لمّا اطمأنّ إلى ربّه انقطع عن دعوى الاستقلال و رضي بما هو الحقّ من ربّه فرأى ذاته و صفاته و أفعاله ملكاً طلقاً لربّه فلم يرد فيما قدّر و قضى و لا فيما أمر و نهي إلّا ما أراده ربّه، و هذا ظهور العبوديّة التامّة في العبد ففي قوله:( فَادْخُلِي فِي عِبادِي ) تقرير لمقام عبوديّتها.

و في قوله:( وَ ادْخُلِي جَنَّتِي ) تعيين لمستقرّها، و في إضافة الجنّة إلى ضمير التكلّم تشريف خاصّ، و لا يوجد في كلامه تعالى إضافة الجنّة إلى نفسه تعالى و تقدّس إلّا في هذه الآية.

( بحث روائي‏)

في المجمع: في قوله تعالى:( وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ ) ، و قيل: الشفع الخلق لأنّه قال:( وَ خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً ) و الوتر الله تعالى: عن عطيّة العوفيّ و أبي صالح و ابن عبّاس و مجاهد و هي رواية أبي سعيد الخدريّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و قيل: الشفع و الوتر الصلاة منها شفع و منها وتر: و هي رواية عن ابن حصين عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و قيل: الشفع يوم النحر و الوتر يوم عرفة: عن ابن عبّاس و عكرمة و الضحّاك، و هي رواية جابر عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الوجه فيه أنّ يوم النحر يشفّع بيوم نفر بعده و يتفرّد يوم عرفة بالموقف، و قيل: الشفع يوم التروية و الوتر يوم عرفة: و روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام .

أقول: الروايات الثلاث المشار إليها مرويّة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من طرق أهل السنّة و يمكن الجمع بينها بأنّ المراد مطلق الشفع و الوتر و الروايات من قبيل الإشارة إلى بعض المصاديق.

و في تفسير القمّيّ:( وَ لَيالٍ عَشْرٍ ) قال: عشر ذي الحجّة( وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ ) قال: الشفع ركعتان و الوتر ركعة، و في حديث: الشفع الحسن و الحسين و الوتر أمير

٤١٤

المؤمنينعليهم‌السلام ( وَ اللَّيْلِ إِذا يَسْرِ ) قال: هي ليلة جمع.

و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله:( لِذِي حِجْرٍ ) يقول: لذي عقل.

و في العلل، بإسناده إلى أبان الأحمر قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( وَ فِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ ) لأيّ شي‏ء سمّي ذا الأوتاد؟ فقال: لأنّه كان إذا عذّب رجلاً بسطه على الأرض على وجهه و مدّ يديه و رجليه فأوتدها بأربعة أوتاد في الأرض. و ربّما بسطه على خشب منبسط فوتّد رجليه و يديه بأربعة أوتاد ثمّ تركه على حاله حتّى يموت فسمّاه الله عزّوجلّ فرعون ذا الأوتاد.

و في المجمع: في قوله تعالى:( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ ) وروي عن عليّعليه‌السلام أنّه قال: إنّ معناه أنّ ربّك قادر أن يجزي أهل المعاصي جزاءهم.

أقول: بناء الرواية على أخذ الجملة استعارة تمثيليّة.

و فيه، عن الصادقعليه‌السلام أنّه قال: المرصاد قنطرة على الصراط لا يجوزها عبد بمظلمة عبد.

و عن الغوالي، عن الصادقعليه‌السلام في حديث في تفسير قوله تعالى:( وَ ذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ) إنّما ظنّ بمعنى استيقن أنّ الله تعالى لن يضيّق عليه رزقه أ لا تسمع قول الله تعالى:( وَ أَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ ) أي ضيّق عليه.

و في تفسير القمّيّ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله:( كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ) قال: هي الزلزلة.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن عليّ بن أبي طالب قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هل تدرون ما تفسير هذه الآية( كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ - إلى قوله -وَ جِي‏ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ) قال: إذا كان يوم القيامة تقاد جهنّم بسبعين ألف زمام بيد سبعين ألف ملك فتشرد شردة لو لا أنّ الله حبسها لأحرقت السماوات و الأرض.

أقول: و هو مرويّ أيضاً عن أبي سعيد و ابن مسعود و من طرق الشيعة في أمالي

٤١٥

الشيخ، بإسناده عن داود بن سليمان عن الرضا عن آبائه عن عليّعليه‌السلام عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في العيون، في باب ما جاء عن الرضا من أخبار التوحيد بإسناده عن عليّ بن فضال عن أبيه قال: سألت الرضاعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ) فقال: إنّ الله سبحانه لا يوصف بالمجي‏ء و الذهاب تعالى عن الانتقال إنّما يعني بذلك و جاء أمر ربّك.

و في الكافي، بإسناده عن سدير الصيرفيّ قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام : جعلت فداك يا ابن رسول الله هل يكره المؤمن على قبض روحه؟ قال: لا و الله إنّه إذا أتاه ملك الموت ليقبض روحه جزع عند ذلك فيقول ملك الموت: يا وليّ الله لا تجزع فوالّذي بعث محمّداً لأنّي أبرّ بك و أشفق عليك من والد رحيم لو حضرك، افتح عينيك فانظر.

قال: و يمثّل له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أميرالمؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسين و الأئمّة من ذرّيّتهمعليهم‌السلام فيقال له: هذا رسول الله و أميرالمؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسين و الأئمّةعليهم‌السلام رفقاؤك.

قال: فيفتح عينيه فينظر فينادي روحه مناد من قبل ربّ العزّة فيقول: يا أيّتها النفس المطمئنّة إلى محمّد و أهل بيته ارجعي إلى ربّك راضية بالولاية مرضيّة بالثواب فادخلي في عبادي يعني محمّداً و أهل بيته و ادخلي جنّتي فما من شي‏ء أحبّ إليه من استلال روحه و اللحوق بالمنادي.

أقول: و روى هذا المعنى القمّيّ في تفسيره و البرقيّ في المحاسن.

٤١٦

( سورة البلد مكّيّة و هي عشرون آية)

( سورة البلد الآيات 1 - 20)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ( 1 ) وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ( 2 ) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ( 3 ) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ( 4 ) أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ( 5 ) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا ( 6 ) أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ ( 7 ) أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ ( 8 ) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ ( 9 ) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ( 10 ) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ( 11 ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ( 12 ) فَكُّ رَقَبَةٍ ( 13 ) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ( 14 ) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ ( 15 ) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ( 16 ) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ ( 17 ) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ( 18 ) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ( 19 ) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ ( 20 )

( بيان‏)

تذكر السورة أنّ خلقة الإنسان مبنيّة على التعب و المشقّة فلا تجد شأناً من شؤن الحياة إلّا مقروناً بمرارة الكدّ و التعب من حين يلج في جثمانه الروح إلى أن يموت فلا راحة له عارية من التعب و المشقّة و لا سعادة له خالصة من الشقاء و المشأمة إلّا في الدار الآخرة عند الله.

فليتحمّل ثقل التكاليف الإلهيّة بالصبر على الطاعة و عن المعصية و ليجدّ في نشر الرحمة على المبتلين بنوائب الدهر كاليتم و الفقر و المرض و أضرابها حتّى يكون

٤١٧

من أصحاب الميمنة و إلّا فآخرته كاُولاه و هو من أصحاب المشأمة عليهم نار مؤصدة.

و سياق آيات السورة، يشبه السياق المكّيّ فيؤيّد به كون السورة مكّيّة و قد ادّعى بعضهم عليه الإجماع، و قيل: السورة مدنيّة و السياق لا يساعد عليه، و قيل: مدنيّة إلّا أربع آيات من أوّلها و سيأتي في البحث الروائيّ التالي إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ( لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ ) ذكروا أنّ المراد بهذا البلد مكّة و تؤيّده مكّيّة سياق السورة و قوله:( وَ والِدٍ وَ ما وَلَدَ ) خاصّة بناء على كون المراد بوالد هو إبراهيمعليه‌السلام على ما سيجي‏ء.

قوله تعالى: ( وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ ) حال من هذا البلد، و وضع الظاهر موضع الضمير في قوله:( بِهذَا الْبَلَدِ ) للدلالة على عظم شأنه و الاعتناء بأمره و هو البلد الحرام، و الحلّ مصدر كالحلول بمعنى الإقامة و الاستقرار في مكان و المصدر بمعنى الفاعل.

و المعنى اُقسم بهذا البلد و الحال أنك حالٌ به مقيم فيه و في ذلك تنبيه على تشرّف مكّة بحلولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها و كونها مولده و مقامه.

و قيل: الجملة معترضة بين القسم و المقسم به و المراد بالحلّ المستحلّ الّذي لا حرمة له قال في الكشاف: و اعترض بين القسم و المقسم عليه بقوله:( وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ ) يعني و من المكابدة أنّ مثلك على عظم حرمتك يستحلّ بهذا البلد الحرام كما يستحلّ الصيد في غير الحرم - عن شرحبيل - يحرّمون أن يقتلوا بها صيداً و يعضدوا(1) بها شجرة و يستحلّون إخراجك و قتلك، و فيه تثبيت من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بعث على‏ احتمال ما كان يكابد من أهل مكّة و تعجيب من حالهم في عداوته انتهى.

ثمّ قال: أو سلّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقسم ببلده أنّ الإنسان لا يخلو من مقاساة الشدائد و اعترض بأن وعده فتح مكّة تتميماً للتسلية و التنفيس عنه فقال:( وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ ) يعني و أنت حلّ به في المستقبل تصنع فيه ما تريد من القتل و الأسر إلى آخر ما قال، و محصّله تفسير الحلّ بمعنى المحلّ ضدّ المحرم، و المعنى و سنحلّ لك يوم فتح مكّة حيناً فنقاتل و تقتل فيه من شئت.

____________________

(1) عضد الشجرة: قطعها و نثر ورقها للإبل. و شرحبيل راوي الحديث.

٤١٨

قوله تعالى: ( وَ والِدٍ وَ ما وَلَدَ ) لزوم نوع من التناسب و الارتباط بين القسم و المقسم عليه يستدعي أن يكون المراد بوالد و ما ولد من بينه و بين البلد المقسم به نسبة ظاهرة و ينطبق على إبراهيم و ولده إسماعيلعليهما‌السلام و هما السببان الأصليّان لبناء بلدة مكّة و البانيان للبيت الحرام قال تعالى:( وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ ) البقرة: 127 و إبراهيمعليه‌السلام هو الّذي سأل الله أن يجعل مكّة بلداً آمنا قال تعالى:( وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً ) إبراهيم: 35. و تنكير( والِدٍ ) للتعظيم و التفخيم، و التعبير بقوله( وَ ما وَلَدَ ) دون أن يقال: و من ولد، للدلالة على التعجيب من أمره مدحاً كما في قوله:( وَ اللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ ) آل عمران: 36.

و المعنى و اُقسم بوالد عظيم الشأن هو إبراهيم و ما ولد من ولد عجيب أمره مبارك أثره و هو إسماعيل ابنه و هما البانيان لهذا البلد فمفاد الآيات الثلاث الإقسام بمكّة المشرّفة و بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذي هو حلّ فيها و بإبراهيم و إسماعيل اللّذين بنياها.

و قيل: المراد بالوالد إبراهيم و بما ولد جميع أولاده من العرب.

و فيه أنّ من البعيد أن يقارن الله سبحانه بين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و إبراهيمعليه‌السلام و بين أمثال أبي لهب و أبي جهل و غيرهم من أئمّة الكفر فيقسم بهم جميعاً في سياق، و قد تبرّأ إبراهيمعليه‌السلام ممّن لم يتّبعه من بنيه على التوحيد إذ قال فيما حكاه الله:( وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) إبراهيم: 36.

فعلى من يفسّر ما ولد بأولاد إبراهيم أن يخصّهم بالمسلمين من ذرّيّته كما في دعاء إبراهيم و إسماعيل عند بنائهما الكعبة على ما حكاه الله:( رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَ أَرِنا مَناسِكَنا وَ تُبْ عَلَيْنا ) البقرة: 128.

و قيل: المراد بوالد و ما ولد، آدمعليه‌السلام و ذرّيّته جميعاً بتقريب أنّ المقسم عليه بهذه الأقسام خلق الإنسان في كبد و قد سنّ الله في خلق هذا النوع و إبقاء وجوده سنّة الولادة فقد أقسم في هذه الآيات بمحصول هذه السنّة و هو الوالد و ما ولد على أنّ الإنسان في كدّ و تعب بحسب نوع خلقته من حين يحيى إلى حين يموت.

٤١٩

و هذا الوجه في نفسه لا بأس به لكن يبقى عليه بيان المناسبة بين بلدة مكّة و بين والد و كلّ مولود في الجمع بينهما في الأقسام.

و قيل: المراد بهما آدم و الصالحون من ذرّيّته، و كأنّ الوجه فيه تنزيهه تعالى من أن يقسم بأعدائه الطغاة و المفسدين من الكفّار و الفسّاق.

و قيل: المراد بهما كلّ والد و كلّ مولود و قيل: من يلد و من لا يلد منهم بأخذ( ما ) في( ما وَلَدَ ) نافية لا موصولة.

و قيل: المراد بوالد هو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بما ولد اُمّته لأنّه بمنزلة الأب لاُمّته و هي وجوه بعيدة.

قوله تعالى: ( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ ) الكبد الكدّ و التعب، و الجملة جواب القسم فاشتمال الكبد على خلق الإنسان و إحاطة الكدّ و التعب به في جميع شؤن حياته ممّا لا يخفى على ذي لبّ فليس يقصد نعمة من نعم الدنيا إلّا خالصة في طيبها محضة في هنائها و لا ينال شيئاً منها إلّا مشوبة بما ينغّص العيش مقرونة بمقاساة و مكابدة مضافاً إلى ما يصيبه من نوائب الدهر و يفاجئه من طوارق الحدثان.

قوله تعالى: ( أَ يَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ) بمنزلة النتيجة لحجّة الآية السابقة تقريرها أنّ الإنسان لمّا كانت خلقته مبنيّة على كبد مظروفة له لا ينال قطّ شيئاً ممّا يريد إلّا دون ما يريد أو غير ما يريد فهو محاط في خلقه مغلوب في إرادته مقهور فيما قدّر له من الأمر و الّذي يغلبه في إرادته و يقهره على التلبّس بما قدّر له و هو الله سبحانه يقدر عليه من كلّ جهة فله أن يتصرّف فيه بما شاء و يأخذه إذا أراد.

فليس للإنسان أن يحسب أن لن يقدر عليه أحد فيدعوه ذلك إلى أن يعلو على الله و يستكبر عن عبادته أو يعطيه في بعض ما أمر به كالإنفاق في سبيله فيستكثره و يمتنّ به على الله أو يمكر به تعالى بعد ما عمله رياء و سمعة عملاً لوجه الكريم فيقول: أهلكت مالاً لبدا.

قوله تعالى: ( يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً ) اللبد الكثير، سياق الآية و ما يتلوها من الآيات إلى آخر السورة مشعر بأنه كان هناك بعض من أظهر الإسلام أو مال إليه

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578