شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم13%

شبهات وردود حول القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 578

شبهات وردود حول القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 578 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 297490 / تحميل: 13675
الحجم الحجم الحجم
شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

( بيان‏)

هذا هو الفصل الثاني من الآيات يعرّف الحاقّة ببعض أشراطها و نبذة ممّا يقع فيها.

قوله تعالى: ( فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ ) قد تقدّم أنّ النفخ في الصور كناية عن البعث و الإحضار لفصل القضاء، و في توصيف النفخة بالواحدة إشارة إلى مضيّ الأمر و نفوذ القدرة فلا وهن فيه حتّى يحتاج إلى تكرار النفخة، و الّذي يسبق إلى الفهم من سياق الآيات أنّها النفخة الثانية الّتي تحيي الموتى.

قوله تعالى: ( وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً ) الدكّ أشدّ الدقّ و هو كسر الشي‏ء و تبديله إلى أجزاء صغار، و حمل الأرض و الجبال إحاطة القدرة بها، و توصيف الدكّة بالواحدة للإشارة إلى سرعة تفتّتهما بحيث لا يفتقر إلى دكّة ثانية.

قوله تعالى: ( فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ ) أي قامت القيامة.

قوله تعالى: ( وَ انْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ ) انشقاق الشي‏ء انفصال شطر منه من شطر آخر، و واهية من الوهي بمعنى الضعف، و قيل: من الوهي بمعنى شقّ الأديم و الثوب و نحوهما.

و يمكن أن تكون الآية أعني قوله:( وَ انْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ وَ الْمَلَكُ عَلى‏ أَرْجائِها ) في معنى قوله:( وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَ نُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا ) الفرقان: 25.

قوله تعالى: ( وَ الْمَلَكُ عَلى‏ أَرْجائِها وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) قال الراغب: رجا البئر و السماء و غيرهما جانبها و الجمع أرجاء قال تعالى:( وَ الْمَلَكُ عَلى‏ أَرْجائِها ) انتهى، و الملك - كما قيل - يطلق على الواحد و الجمع و المراد به في

٦١

الآية الجمع.

و قوله:( وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) ضمير( فَوْقَهُمْ ) على ظاهر ما يقتضيه السياق للملائكة، و قيل: الضمير للخلائق.

و ظاهر كلامه أنّ للعرش اليوم حملة من الملائكة قال تعالى:( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ) المؤمن: 7 و قد وردت الروايات أنّهم أربعة، و ظاهر الآية أعني قوله:( وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) أنّ الحملة يوم القيامة ثمانية و هل هم من الملائكة أو من غيرهم؟ الآية ساكتة عن ذلك و إن كان لا يخلو السياق من إشعار ما بأنّهم من الملائكة.

و من الممكن - كما تقدّمت الإشارة إليه - أن يكون الغرض من ذكر انشقاق السماء و كون الملائكة على أرجائها و كون حملة العرش يومئذ ثمانية بيان ظهور الملائكة و السماء و العرش للإنسان يومئذ، قال تعالى:( وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ) الزمر: 75.

قوله تعالى: ( يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى‏ مِنْكُمْ خافِيَةٌ ) الظاهر أنّ المراد به العرض على الله كما قال تعالى:( وعُرِضُوا عَلى‏ رَبِّكَ صَفًّا ) الكهف: 48، و العرض إراءة البائع سلعته للمشتري ببسطها بين يديه، فالعرض يومئذ على الله و هو يوم القضاء إبراز ما عند الإنسان من اعتقاد و عمل إبرازاً لا يخفى معه عقيدة خافية و لا فعلة خافية و ذلك بتبدّل الغيب شهادة و السرّ علناً قال:( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) الطارق: 9، و قال:( يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى‏ عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْ‏ءٌ ) المؤمن: 16.

و قد تقدّم في أبحاثنا السابقة أنّ ما عدّ في كلامه تعالى من خصائص يوم القيامة كاختصاص الملك بالله، و كون الأمر له، و أن لا عاصم منه، و بروز الخلق له و عدم خفاء شي‏ء منهم عليه و غير ذلك، كلّ ذلك دائميّة الثبوت له تعالى، و إنّما المراد ظهور هذه الحقائق يومئذ ظهوراً لا ستر عليه و لا مرية فيه.

٦٢

فالمعنى: يومئذ يظهر أنّكم في معرض على علم الله و يظهر كلّ فعلة خافية من أفعالكم.

قوله تعالى: ( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ) قال في المجمع، هاؤم أمر للجماعة بمنزلة هاكم، تقول للواحد: هاء يا رجل، و للاثنين: هاؤما يا رجلان، و للجماعة: هاؤم يا رجال، و للمرأة: هاء يا امرأة بكسر الهمزة و ليس بعدها ياء، و للمرأتين: هاؤما، و للنساء: هاؤنّ. هذه لغة أهل الحجاز.

و تميم و قيس يقولون: هاء يا رجل مثل قول أهل الحجاز، و للاثنين: هاءا، و للجماعة: هاؤا، و للمرأة: هائي، و للنساء هاؤنّ.

و بعض العرب يجعل مكان الهمزة كافاً فيقول: هاك هاكما هاكم هاك هاكما هاكنّ، و معناه: خذ و تناول، و يؤمر بها و لا ينهى. انتهى.

و الآية و ما بعدها إلى قوله:( الْخاطِؤُنَ ) بيان تفصيليّ لاختلاف حال الناس يومئذ من حيث السعادة و الشقاء، و قد تقدّم في تفسير قوله تعالى:( فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ) إسراء: 71 كلام في معنى إعطاء الكتاب باليمين، و الظاهر أنّ قوله:( هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ) خطاب للملائكة، و الهاء في( كِتابِيَهْ ) و كذا في أواخر الآيات التالية للوقف و تسمّى هاء الاستراحة.

و المعنى: فأمّا من اُوتي كتابه بيمينه فيقول للملائكة: خذوا و اقرأوا كتابيه أي إنّها كتاب يقضي بسعادتي.

قوله تعالى: ( إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ ) الظنّ بمعنى اليقين، و الآية تعليل لما يتحصّل من الآية السابقة و محصّل التعليل إنّما كان كتابي كتاب اليمين و قاضياً بسعادتي لأنّي أيقنت في الدنيا أنّي ساُلاقي حسابي فآمنت بربّي و أصلحت عملي.

قوله تعالى: ( فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ ) أي يعيش عيشة يرضاها فنسبة الرضا إلى العيشة من المجاز العقليّ.

٦٣

قوله تعالى: ( فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ - إلى قوله -الْخالِيَةِ ) أي هو في جنّة عالية قدراً فيها ما لا عين رأت و لا اُذن سمعت و لا خطر على قلب بشر.

و قوله:( قُطُوفُها دانِيَةٌ ) القطوف جمع قطف بالكسر فالسكون و هو ما يجتنى من الثمر و المعنى: أثمارها قريبة منه يتناوله كيف يشاء.

و قوله:( كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ ) أي يقال لهم: كلوا و اشربوا من جميع ما يؤكل فيها و ما يشرب حال كونه هنيئاً لكم بما قدّمتم من الإيمان و العمل الصالح في الدنيا الّتي تقضّت أيّامها.

قوله تعالى: ( وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وَ لَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ ) و هؤلاء هم الطائفة الثانية و هم الأشقياء المجرمون يؤتون صحيفة أعمالهم بشمالهم و قد مرّ الكلام في معناه في سورة الإسراء، و هؤلاء يتمنّون أن لو لم يكونوا يؤتون كتابهم و يدرون ما حسابهم يتمنّون ذلك لما يشاهدون من أليم العذاب المعدّ لهم.

قوله تعالى: ( يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ ) ذكروا أنّ ضمير( لَيْتَها ) للموتة الاُولى الّتي ذاقها الإنسان في الدنيا.

و المعنى: يا ليت الموتة الاُولى الّتي ذقتها كانت قاضية عليّ تقضي بعدمي فكنت انعدمت و لم اُبعث حيّاً فأقع في ورطة العذاب الخالد و اُشاهد ما اُشاهد.

قوله تعالى: ( ما أَغْنى‏ عَنِّي مالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ ) كلمتا تحسّر يقولهما حيث يرى خيبة سعيه في الدنيا فإنّه كان يحسب أنّ مفتاح سعادته في الحياة هو المال و السلطان يدفعان عنه كلّ مكروه و يسلّطانه على كلّ ما يحبّ و يرضى فبذل كلّ جهده في تحصيلهما و أعرض عن ربّه و عن كلّ حقّ يدعى إليه و كذّب داعيه فلمّا شاهد تقطّع الأسباب و أنّه في يوم لا ينفع فيه مال و لا بنون ذكر عدم نفع ماله و بطلان سلطانه تحسّراً و توجّعاً و ما ذا ينفع التحسّر.؟

قوله تعالى: ( خُذُوهُ فَغُلُّوهُ - إلى قوله -فَاسْلُكُوهُ ) حكاية أمره تعالى الملائكة بأخذه و إدخاله النار، و التقدير يقال للملائكة خذوه إلخ، و( فَغُلُّوهُ ) أمر من الغلّ بالفتح

٦٤

و هو الشدّ بالغلّ الّذي يجمع بين اليد و الرجل و العنق.

و قوله:( ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ) أي أدخلوه النار العظيمة و ألزموه إيّاها.

و قوله:( ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ ) السلسلة القيد، و الذرع الطول، و الذراع بُعد ما بين المرفق و رأس الأصابع و هو واحد الطول و سلوكه فيه جعله فيه، و المحصّل ثمّ اجعلوه في قيد طوله سبعون ذراعاً.

قوله تعالى: ( إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ وَ لا يَحُضُّ عَلى‏ طَعامِ الْمِسْكِينِ ) الحضّ التحريض و الترغيب، و الآيتان في مقام التعليل للأمر بالأخذ و الإدخال في النار أي إنّ الأخذ ثمّ التصلية في الجحيم و السلوك في السلسلة لأجل أنّه كان لا يؤمن بالله العظيم و لا يحرّض على طعام المسكين أي يساهل في أمر المساكين و لا يبالي بما يقاسونه.

قوله تعالى: ( فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ - إلى قوله -الْخاطِؤُنَ ) الحميم الصديق و الآية تفريع على قوله:( إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ ) إلخ، و المحصّل: أنّه لمّا كان لا يؤمن بالله العظيم فليس له اليوم ههنا صديق ينفعه أي شفيع يشفع له إذ لا مغفرة لكافر فلا شفاعة.

و قوله:( وَ لا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ ) الغسلين الغسالة و كأنّ المراد به ما يسيل من أبدان أهل النار من قيح و نحوه و الآية عطف على قوله في الآية السابقة:( حَمِيمٌ ) و متفرّع على قوله:( وَ لا يَحُضُّ ) إلخ، و المحصّل: أنّه لمّا كان لا يحرّض على طعام المسكين فليس له اليوم ههنا طعام إلّا من غسلين أهل النار.

و قوله:( لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ ) وصف لغسلين و الخاطؤن المتلبّسون بالخطيئة و الإثم.

٦٥

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، في قوله تعالى:( وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) أخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يحمله اليوم أربعة و يوم القيامة ثمانية.

أقول: و في تقييد الحاملين في الآية بقوله:( يَوْمَئِذٍ ) إشعار بل ظهور في اختصاص العدد بالقيامة.

و في تفسير القمّيّ، و في حديث آخر قال: حمله ثمانية أربعة من الأوّلين و أربعة من الآخرين فأمّا الأربعة من الأوّلين فنوح و إبراهيم و موسى و عيسى، و أمّا الأربعة من الآخرين فمحمّد و عليّ و الحسن و الحسينعليهم‌السلام .

أقول: و في غير واحد من الروايات أنّ الثمانية مخصوصة بيوم القيامة، و في بعضها أنّ حملة العرش - و العرش العلم - أربعة منّا و أربعة ممّن شاء الله.

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إنّه إذا كان يوم القيامة يدعى كلّ اُناس بإمامه الّذي مات في عصره فإن أثبته اُعطي كتابه بيمينه لقوله:( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ‏ ) فمن اُوتي كتابه بيمينه فاُولئك يقرؤن كتابهم، و اليمين إثبات الإمام لأنه كتابه يقرؤه - إلى أن قال - و من أنكر كان من أصحاب الشمال الّذين قال الله:( وَ أَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ فِي سَمُومٍ وَ حَمِيمٍ وَ ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ ) إلخ.

أقول: و في عدّة من الروايات تطبيق قوله:( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ) إلخ، على عليّعليه‌السلام ، و في بعضها عليه و على شيعته، و كذا تطبيق قوله:( وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ ) إلخ، على أعدائه، و هي من الجري دون التفسير.

و في الدرّ المنثور، أخرج الحاكم و صحّحه عن أبي سعيد الخدريّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لو أنّ دلوا من غسلين يهراق في الدنيا لأنتن بأهل الدنيا.

و فيه، أخرج البيهقيّ في شعب الإيمان عن صعصعة بن صوحان قال: جاء أعرابي

٦٦

إلى عليّ بن أبي طالب فقال: كيف هذا الحرف: لا يأكله إلّا الخاطون؟ كلّ و الله يخطو. فتبسّم عليّ و قال: يا أعرابيّ( لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ ) قال: صدقت و الله يا أميرالمؤمنين ما كان الله ليسلم عبده.

ثمّ التفت عليّ إلى أبي الأسود فقال: إنّ الأعاجم قد دخلت في الدين كافّة فضع للناس شيئاً يستدلّون به على صلاح ألسنتهم فرسم لهم الرفع و النصب و الخفض.

و في تفسير البرهان، عن ابن بابويه في الدروع الواقية في حديث عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : و لو أنّ ذراعاً من السلسلة الّتي ذكرها الله في كتابه وضع على جميع جبال الدنيا لذابت عن حرّها.

٦٧

( سورة الحاقّة الآيات 38 - 52)

فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ( 38 ) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ ( 39 ) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ( 40 ) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ ( 41 ) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ ( 42 ) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ( 43 ) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ( 44 ) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ( 45 ) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ( 46 ) فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ( 47 ) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ( 48 ) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ ( 49 ) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ ( 50 ) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ ( 51 ) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ( 52 )

( بيان‏)

هذا هو الفصل الثالث من آيات السورة يؤكّد ما تقدّم من أمر الحاقّة بلسان تصديق القرآن الكريم ليثبت بذلك حقّيّة ما أنبأ به من أمر القيامة.

قوله تعالى: ( فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَ ما لا تُبْصِرُونَ ) ظاهر الآية أنّه إقسام بما هو مشهود لهم و ما لا يشاهدون أي الغيب و الشهادة فهو إقسام بمجموع الخليقة و لا يشمل ذاته المتعالية فإنّ من البعيد من أدب القرآن أن يجمع الخالق و الخلق في صفّ واحد و يعظّمه تعالى و ما صنع تعظيماً مشتركاً في عرض واحد.

و في الإقسام نوع تعظيم و تجليل للمقسم به و خلقه تعالى بما أنّه خلقه جليل جميل لأنّه تعالى جميل لا يصدر منه إلّا الجميل و قد استحسن تعالى فعل نفسه و أثنى

٦٨

على نفسه بخلقه في قوله:( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلَقَهُ ) الم السجدة: 7، و قوله:( فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) المؤمنون: 14 فليس للموجودات منه تعالى إلّا الحسن و ما دون ذلك من مساءة فمن أنفسها و بقياس بعضها إلى بعض.

و في اختيار ما يبصرون و ما لا يبصرون للأقسام به على حقّيّة القرآن ما لا يخفى من المناسبة فإنّ النظام الواحد المتشابك أجزاؤه الجاري في مجموع العالم يقضي بتوحّده تعالى و مصير الكلّ إليه و ما يترتّب عليه من بعث الرسل و إنزال الكتب و القرآن خير كتاب سماويّ يهدي إلى الحقّ في جميع ذلك و إلى طريق مستقيم.

و ممّا تقدّم يظهر عدم استقامة ما قيل: إنّ المراد بما تبصرون و ما لا تبصرون الخلق و الخالق فإنّ السياق لا يساعد عليه، و كذا ما قيل: إنّ المراد النعم الظاهرة و الباطنة، و ما قيل: إنّ المراد الجنّ و الإنس و الملائكة أو الأجسام و الأرواح أو الدنيا و الآخرة أو ما يشاهد من آثار القدرة و ما لا يشاهد من أسرارها فاللفظ أعمّ مدلولاً من جميع ذلك.

قوله تعالى: ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ) الضمير للقرآن، و المستفاد من السياق أنّ المراد برسول كريم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو تصديق لرسالته قبال ما كانوا يقولون إنّه شاعر أو كاهن.

و لا ضير في نسبة القرآن إلى قوله فإنّه إنّما ينسب إليه بما أنّه رسول و الرسول بما أنّه رسول لا يأتي إلّا بقول مرسلة، و قد بيّن ذلك فضل بيان بقوله بعد:( تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ) .

و قيل: المراد برسول كريم جبريل، و السياق لا يؤيّده إذ لو كان هو المراد لكان الأنسب نفي كونه ممّا نزلت به الشياطين كما فعل في سورة الشعراء.

على أنّ قوله بعد:( وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ) و ما يتلوه إنّما يناسب كونهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو المراد برسول كريم.

قوله تعالى: ( وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ ) نفي أن يكون القرآن

٦٩

نظماً ألّفه شاعر و لم يقل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شعراً و لم يكن شاعراً.

و قوله:( قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ ) توبيخ لمجتمعهم حيث إنّ الأكثرين منهم لم يؤمنوا و ما آمن به إلّا قليل منهم.

قوله تعالى: ( وَ لا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ ) نفي أن يكون القرآن كهانة و النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كاهنا يأخذ القرآن من الجنّ و هم يُلقونه إليه.

و قوله:( قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ ) توبيخ أيضاً لمجتمعهم.

قوله تعالى: ( تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ) أي منزل من ربّ العالمين و ليس من صنع الرسول نسبه إلى الله كما تقدّمت الإشارة إليه.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ - إلى قوله -حاجِزِينَ ) يقال: تقوّل على فلان أي اختلق قولاً من نفسه و نسبه إليه، و الوتين - على ما ذكره الراغب - عرق يسقي الكبد و إذا انقطع مات صاحبه، و قيل: هو رباط القلب.

و المعنى:( وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا ) هذا الرسول الكريم الّذي حمّلناه رسالتنا و أرسلناه إليكم بقرآن نزّلناه عليه و اختلق( بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ) و نسبه إلينا( لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ) كما يقبض على المجرم فيؤخذ بيده أو المراد قطعنا منه يده اليمنى أو المراد لانتقمنا منه بالقوّة كما في رواية القمّيّ( ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ ) و قتلناه لتقوّله علينا( فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ‏ ) تحجبونه عنّا و تنجونه من عقوبتنا و إهلاكنا.

و هذا تهديد للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على تقدير أن يفتري على الله كذباً و ينسب إليه شيئاً لم يقله و هو رسول من عنده أكرمه بنبوّته و اختاره لرسالته.

فالآيات في معنى قوله:( لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَ ضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً ) إسراء: 75، و كذا قوله في الأنبياء بعد ذكر نعمه العظمى عليهم:( وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) الأنعام: 88.

فلا يرد أنّ مقتضى الآيات أنّ كلّ من ادّعى النبوّة و افترى على الله الكذب أهلكه الله و عاقبه في الدنيا أشدّ العقاب و هو منقوض ببعض مدّعي النبوّة من الكذّابين.

٧٠

و ذلك أنّ التهديد في الآية متوجّه إلى الرسول الصادق في رسالته لو تقوّل على الله و نسب إليه بعض ما ليس منه لا مطلق مدّعي النبوّة المفتري على الله في دعواه النبوّة و إخباره عن الله تعالى.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ) يذكّرهم كرامة تقواهم و معارف المبدأ و المعاد بحقائقها، و يعرّفهم درجاتهم عند الله و مقاماتهم في الآخرة و الجنّة و ما هذا شأنه لا يكون تقوّلاً و افتراء فالآية مسوقة حجّة على كون القرآن منزّهاً عن التقوّل و الفرية.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ وَ إِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ ) ستظهر لهم يوم الحسرة.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) قد تقدّم كلام في نظيرتي الآيتين في آخر سورة الواقعة، و السورتان متّحدتان في الغرض و هو وصف يوم القيامة و متّحدتان في سياق خاتمتهما و هي الإقسام على حقّيّة القرآن المنبئ عن يوم القيامة، و قد ختمت السورتان بكون القرآن و ما أنبأ به عن وقوع الواقعة حقّ اليقين ثمّ الأمر بتسبيح اسم الربّ العظيم المنزّه عن خلق العالم باطلاً لا معاد فيه و عن أن يبطل المعارف الحقّة الّتي يعطيها القرآن في أمر المبدأ و المعاد.

٧١

( سورة المعارج مكّيّة و هي أربع و أربعون آية)

( سورة المعارج الآيات 1 - 18)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ( 1 ) لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ( 2 ) مِّنَ اللهِ ذِي الْمَعَارِجِ ( 3 ) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ( 4 ) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا ( 5 ) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا ( 6 ) وَنَرَاهُ قَرِيبًا ( 7 ) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ ( 8 ) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ( 9 ) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا ( 10 ) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ ( 11 ) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ ( 12 ) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ ( 13 ) وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ ( 14 ) كَلَّا إِنَّهَا لَظَىٰ ( 15 ) نَزَّاعَةً لِّلشَّوَىٰ ( 16 ) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ ( 17 ) وَجَمَعَ فَأَوْعَىٰ ( 18 )

( بيان‏)

الّذي يعطيه سياق السورة أنّها تصف يوم القيامة بما اُعدّ فيه من أليم العذاب للكافرين. تبتدئ السورة فتذكر سؤال سائل سأل عذاباً من الله للكافرين فتشير إلى أنّه واقع ليس له دافع قريب غير بعيد كما يحسبونه ثمّ تصف اليوم الّذي يقع فيه و العذاب الّذي اُعدّ لهم فيه و تستثني المؤمنين الّذين قاموا بوظائف الاعتقاد الحقّ و العمل الصالح.

٧٢

و هذا السياق يشبه سياق السور المكّيّة غير أنّ المنقول عن بعضهم أنّ قوله:( وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ) مدني و الاعتبار يؤيّده لأنّ ظاهره الزكاة و قد شرّعت بالمدينة بعد الهجرة، و كون هذه الآية مدنيّة يستتبع كون الآيات الحافّة بها الواقعة تحت الاستثناء و هي أربع عشرة آية (قوله:إِلَّا الْمُصَلِّينَ - إلى قوله -فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ‏ ) مدنيّة لما في سياقها من الاتّحاد و استلزام البعض للبعض.

و مدنيّة هذه الآيات الواقعة تحت الاستثناء تستدعي ما استثنيت منه و هو على الأقل ثلاث آيات (قوله:إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً - إلى قوله -مَنُوعاً ).

على أنّ قوله:( فَما لِلَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ) متفرّع على ما قبله تفرّعاً ظاهراً و هو ما بعده إلى آخر السورة ذو سياق واحد فتكون هذه الآيات أيضاً مدنيّة.

و من جهة اُخرى مضامين هذا الفصل من الآيات تناسب حال المنافقين الحافّين حول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن اليمين و عن الشمال عزين و هم الرادّون لبعض ما أنزل الله من الحكم و خاصّة قوله:( أَ يَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ ) إلخ، و قوله:( عَلى‏ أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ ) إلخ على ما سيجي‏ء، و موطن ظهور هذا النفاق المدينة لا مكّة، و لا ضير في التعبير عن هؤلاء بالّذين كفروا فنظير ذلك موجود في سورة التوبة و غيرها.

على أنّهم رووا أنّ السورة نزلت في قول القائل:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ ) الأنفال: 32 و قد تقدّم في تفسير الآية أنّ سياقها و الّتي بعدها سياق مدنيّ لا مكّي. لكنّ المرويّ عن الصادقعليه‌السلام أنّ المراد بالحقّ المعلوم في الآية حق يسمّيه صاحب المال في ماله غير الزكاة المفروضة.

و لا عبرة بما نسب إلى اتّفاق المفسّرين أنّ السورة مكّيّة على أنّ الخلاف ظاهر و كذا ما نسب إلى ابن عبّاس أنّها نزلت بعد سورة الحاقّة.

قوله تعالى: ( سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ) السؤال بمعنى الطلب و الدعاء، و لذا عدّي بالباء كما في قوله:( يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ ) الدخان: 55 و قيل: الفعل مضمّن معنى الاهتمام و الاعتناء و لذا عدّي بالباء، و قيل: الباء زائدة للتأكيد،

٧٣

و مآل الوجوه واحد و هو طلب العذاب من الله كفراً و عتوّاً.

و قيل: الباء بمعنى عن كما في قوله:( فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً ) الفرقان: 59، و فيه أنّ كونها في الآية المستشهد بها بمعنى عن ممنوع. على أنّ سياق الآيات التالية و خاصّة قوله:( فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا ) لا يلائم كون السؤال بمعنى الاستفسار و الاستخبار.

فالآية تحكي سؤال العذاب و طلبه عن بعض من كفر طغياناً و كفراً، و قد وصف العذاب المسؤل من الأوصاف بما يدلّ على إجابة الدعاء بنوع من التهكّم و التحقير و هو قوله:( واقِعٍ ) و قوله:( لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ) .

و المعنى سأل سائل من الكفّار عذاباً للكافرين من الله سيصيبهم و يقع عليهم لا محالة و لا دافع له أي إنّه واقع عليهم سأل أو لم يسأل ففيه جواب تحقيريّ و إجابة لمسؤله تهكّماً.

قوله تعالى: ( لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ) للكافرين متعلّق بعذاب و صفة له، و كذا قوله:( لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ) و قد مرّت الإشارة إلى معنى الآية.

قوله تعالى: ( مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ ) الجارّ و المجرور متعلّق بقوله:( دافِعٌ ) أي ليس له دافع من جانب الله و من المعلوم أنّه لو اندفع لم يندفع إلّا من جانب الله سبحانه، و من المحتمل أن يتعلّق بقوله:( بِعَذابٍ ) .

و المعارج جمع معرج و فسّروه بالمصاعد و هي الدرجات و هي مقامات الملكوت الّتي يعرج إليها الملائكة عند رجوعهم إلى الله سبحانه على ما يفسّره قوله بعد:( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ ) إلخ فله سبحانه معارج الملكوت و مقاماتها المترتّبة علوّاً و شرفاً الّتي تعرج فيها الملائكة و الروح بحسب قربهم من الله و ليست بمقامات وهميّة اعتباريّة.

و قيل: المراد بالمعارج الدرجات الّتي يصعد فيها الاعتقاد الحقّ و العمل الصالح قال تعالى:( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) الفاطر 10، و قال:( وَ لكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى‏ مِنْكُمْ ) الحجّ: 37.

و قيل: المراد به مقامات القرب الّتي يعرج إليها المؤمنون بالإيمان و العمل

٧٤

الصالح قال تعالى:( هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَ اللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ ) آل عمران: 163 و قال:( لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ ) الأنفال: 4 و قال:( رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ ) المؤمن: 15.

و الحقّ أنّ مآل الوجهين إلى الوجه الأوّل، و الدرجات المذكورة حقيقيّة ليست بالوهميّة الاعتباريّة.

قوله تعالى: ( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) المراد بهذا اليوم يوم القيامة على ما يفيده سياق الآيات التالية.

و المراد بكون مقدار هذا اليوم خمسين ألف سنة على ما ذكروا أنّه بحيث لو وقع في الدنيا و انطبق على الزمان الجاري فيها كان مقداره من الزمان خمسين ألف سنة من سني الدنيا.

و المراد بعروج الملائكة و الروح إليه يومئذ رجوعهم إليه تعالى عند رجوع الكلّ إليه فإنّ يوم القيامة يوم بروز سقوط الوسائط و تقطّع الأسباب و ارتفاع الروابط بينها و بين مسبّباتها و الملائكة وسائط موكّلة على اُمور العالم و حوادث الكون فإذا تقطّعت الأسباب عن مسبّباتها و زيّل الله بينهم و رجع الكلّ إلى الله عزّ اسمه رجعوا إليه و عرجوا معارجهم فحفّوا من حول عرش ربّهم و صفّوا قال تعالى:( وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ) الزمر 75، و قال:( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا ) النبأ: 38.

و الظاهر أنّ المراد بالروح الروح الّذي هو من أمره تعالى كما قال:( قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) إسراء: 85 و هو غير الملائكة كما هو ظاهر قوله تعالى:( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ) النحل: 2.

فلا يعبأ بما قيل: إنّ المراد بالروح جبرئيل و إن اُطلق عليه الروح الأمين و روح القدس في قوله:( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى‏ قَلْبِكَ ) الشعراء: 194 و قوله:( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ ) النحل: 103 فإنّ المقيّد غير المطلق.

قوله تعالى: ( فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا ) لمّا كان سؤال السائل للعذاب عن تعنّت

٧٥

و استكبار و هو ممّا يشقّ تحمّله أمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصبر و وصفه بالجميل - و الجميل من الصبر ما ليس فيه شائبة الجزع و الشكوى - و علّله بأنّ اليوم بما فيه من العذاب قريب.

قوله تعالى: ( إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَ نَراهُ قَرِيباً ) ضميراً( يَرَوْنَهُ ) و( نَراهُ ) للعذاب أو ليوم القيامة بما فيه من العذاب الواقع و يؤيّد الأوّل قوله فيما بعد:( يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ) إلخ.

و المراد بالرؤية الاعتقاد بنوع من العناية المجازيّة و رؤيتهم ذلك بعيداً ظنّهم أنّه بعيد من الإمكان فإنّ سؤال العذاب من الله سبحانه استكباراً عن دينه و ردّاً لحكمه لا يجامع الإيمان بالمعاد و إن تفوّه به السائل، و رؤيته تعالى ذلك قريباً علمه بتحقّقه و كلّ ما هو آت قريب.

و في الآيتين تعليل أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصبر الجميل فإنّ تحمّل الأذى و الصبر على المكاره يهون على الإنسان إذا استيقن أنّ الفرج قريب و تذكّر ذلك فالكلام في معنى قولنا فاصبر على تعنّتهم و استكبارهم في سؤالهم العذاب صبراً جميلاً لا يشوبه جزع و شكوى فإنّا نعلم أنّ العذاب قريب على خلاف ما يستبعدونه، و علمنا لا يتخلّف عن الواقع بل هو نفس الواقع.

قوله تعالى: ( يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ) المهل المذاب من المعدنيّات كالنحاس و الذهب و غيرهما، و قيل: درديّ الزيت، و قيل: عكر القطران(1) .

و الظرف متعلّق بقوله:( واقِعٍ ) على ما يفيده السياق.

قوله تعالى: ( وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ ) العهن مطلق الصوف، و لعلّ المراد المنفوش منه كما في قوله تعالى:( وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ) القارعة: 5.

و قيل: هو الصوف الأحمر، و قيل: المصبوغ ألواناً لأنّ الجبال ذات ألوان مختلفة فمنها جدد بيض و حمر و غرابيب سود(2) .

____________________

(1) أي ردية و خبيثه‏.

(2) كما في الآية من سورة فاطر.

٧٦

قوله تعالى: ( وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ) الحميم القريب الّذي تهتمّ بأمره و تشفق عليه.

إشارة إلى شدّة اليوم فالإنسان يومئذ تشغله نفسه عن غيره حتّى أنّ الحميم لا يسأل حميمه عن حاله لاشتغاله بنفسه.

قوله تعالى: ( يُبَصَّرُونَهُمْ ) الضميران للأحماء المعلوم من السياق و التبصير الإراءة و الإيضاح أي يُرى و يوضح الأحماء للأحماء فلا يسألونهم عن حالهم اشتغالاً بأنفسهم.

و الجملة مستأنفة في معنى الجواب عن سؤال مقدّر كأنّه لمّا قيل: لا يسأل حميم حميماً سئل فقيل: هل يرى الأحماء يومئذ أحماءهم؟ فاُجيب: يبصّرونهم و يمكن أن يكون( يُبَصَّرُونَهُمْ ) صفة( حَمِيماً ) .

و من ردي‏ءً التفسير قول بعضهم: إنّ معنى قوله:( يُبَصَّرُونَهُمْ ) يبصّر الملائكة الكفّار، و ما قيل: إنّ المعنى يبصّر المؤمنون أعداءهم من الكفّار و ما هم فيه من العذاب فيشمتون بهم، و ما قيل: إنّ المعنى يبصّر أتباع الضلالة رؤساءهم. و هي جميعاً وجوه لا دليل عليها.

قوله تعالى: ( يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَ صاحِبَتِهِ وَ أَخِيهِ وَ فَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ ) قال في المجمع: المودّة مشتركة بين التمنّي و بين المحبّة يقال: وددت الشي‏ء أي تمنّيته و وددته أي أحببته أودّ فيهما جميعاً. انتهى، و يمكن أن يكون استعماله بمعنى التمنّي من باب التضمين.

و قال: و الافتداء الضرر عن الشي‏ء ببدل منه انتهى، و قال: الفصيلة الجماعة المنقطعة عن جملة القبيلة برجوعها إلى اُبوّة خاصّة عن اُبوّة عامّة. انتهى، و ذكر بعضهم أنّ الفصيلة عشيرته الأقربين الّذين فصل عنهم كالآباء الأدنين.

و سياق هذه الآيات سياق الإضراب و الترقّي بالنسبة إلى قوله:( وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ) فيفيد أنّ المجرم يبلغ به شدّة العذاب إلى أن يتمنّى أن يفتدي من العذاب بأحبّ أقاربه و أكرمهم عليه بنيه و صاحبته و أخيه و فصيلته و جميع من في الأرض ثمّ ينجيه الافتداء فيودّ ذلك فضلاً عن عدم سؤاله عن حال حميمه.

٧٧

و المعنى( يَوَدُّ ) و يتمنّى( الْمُجْرِمُ ) و هو المتلبّس بالأجرام أعمّ من الكافر( لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ ) و هذا هو الّذي يتمنّاه، و الجملة قائمة مقام مفعول يودّ.( بِبَنِيهِ ) الّذين هم أحبّ الناس عنده( وَ صاحِبَتِهِ ) الّتي كانت سكنا له و كان يحبّها و ربّما قدّمها على أبويه( وَ أَخِيهِ ) الّذي كان شقيقه و ناصره( وَ فَصِيلَتِهِ ) من عشيرته الأقربين( الَّتِي تُؤْوِيهِ ) و تضمّه إليها( وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) من اُولي العقل( ثُمَّ يُنْجِيهِ ) هذا الافتداء.

قوله تعالى: ( كَلَّا إِنَّها لَظى‏ نَزَّاعَةً لِلشَّوى‏ تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى وَ جَمَعَ فَأَوْعى) كلّا للردع، و ضمير( إِنَّها ) لجهنّم أو للنار و سمّيت لظى لكونها تتلظّى و تشتعل، و النزّاعة اسم مبالغة من النزع بمعنى الاقتلاع، و الشوى الأطراف كاليد و الرجل يقال: رماه فأشواه أي أصاب شواه كذا قال الراغب، و إيعاء المال إمساكه في وعاء.

فقوله:( كَلَّا ) ردع لتمنّيه النجاة من العذاب بالافتداء و قد علّل الردع بقوله:( إِنَّها لَظى) إلخ و محصّله أنّ جهنّم نار مشتعلة محرقة للأطراف شأنها أنّها تطلب المجرمين لتعذّبهم فلا تصرف عنهم بافتداء كائناً ما كان.

فقوله:( إِنَّها لَظى‏ ) أي نار صفتها الاشتعال لا تنعزل عن شأنها و لا تخمد، و قوله:( نَزَّاعَةً لِلشَّوى‏ ) أي صفتها إحراق الأطراف و اقتلاعها لا يبطل ما لها من الأثر فيمن تعذّبه.

و قوله:( تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى وَ جَمَعَ فَأَوْعى‏ ) أي تطلب من أدبر عن الدعوة الإلهيّة إلى الإيمان بالله و أعرض عن عبادته تعالى و جمع المال فأمسكه في وعائه و لم ينفق منه للسائل و المحروم.

و هذا المعنى هو المناسب لسياق الاستثناء الآتي و ذكر الصلاة و الإنفاق فيه.

٧٨

( بحث روائي‏)

في المجمع، حدّثنا السيّد أبوالحمد قال: حدّثنا الحاكم أبوالقاسم الحسكاني و ساق السند عن جعفر بن محمّد الصادق عن آبائهعليهم‌السلام قال: لما نصب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّا و قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه، طار ذلك في البلاد فقدم على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النعمان بن الحارث الفهريّ.

فقال: أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلّا الله و أنّك رسول الله و أمرتنا بالجهاد و الحجّ و الصوم و الصلاة و الزكاة فقبلناها ثمّ لم ترض حتّى نصبت هذا الغلام فقلت: من كنت مولاه فعليّ مولاه، فهذا شي‏ء منك أو أمر من عند الله؟ فقال: و الله الّذي لا إله إلّا هو إنّ هذا من الله.

فولى النعمان بن الحارث و هو يقول: اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء فرماه الله بحجر على رأسه فقتله و أنزل الله تعالى:( سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ) .

أقول: و هذا المعنى مروي بغير طريق من طرق الشيعة، و قد ردّ الحديث بعضهم بأنّه موضوع لكون سورة المعارج مكّيّة، و قد عرفت الكلام في مكّيّة السورة.

و في الدرّ المنثور، أخرج الفاريابيّ و عبد بن حميد و النسائيّ و ابن أبي حاتم و الحاكم و صحّحه و ابن مردويه عن ابن عبّاس في قوله:( سَأَلَ سائِلٌ ) قال هو النضر بن الحارث قال: اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء.

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن السدّيّ: في قوله:( سَأَلَ سائِلٌ ) قال. نزلت بمكّة في النضر بن الحارث و قد قال:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ) الآية و كان عذابه يوم بدر.

أقول: و هذا المعنى مرويّ أيضاً عن غير السدّيّ، و في بعض رواياتهم أنّ

٧٩

القائل:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ) الآية هو الحارث بن علقمة رجل من عبد الدار، و في بعضها أنّ سائل العذاب هو أبوجهل بن هشام سأله يوم بدر و لازمه مدنيّة السورة و المعتمد على أيّ حال نزول السورة بعد قول القائل:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ) الآية و قد تقدّم كلام في سياق الآية.

و في أمالي الشيخ، بإسناده إلى أبي عبداللهعليه‌السلام في حديث: ألا فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا فإنّ في القيامة خمسين موقفاً كلّ موقف مثل ألف سنة ممّا تعدّون ثمّ تلا هذه الآية( فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) .

أقول: و روي هذا المعنى في روضة الكافي، عن حفص بن غياث عنهعليه‌السلام .

و في المجمع، روى أبوسعيد الخدريّ قال: قيل لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما أطول هذا اليوم فقال: و الّذي نفس محمّد بيده إنّه ليخفّ على المؤمن حتّى يكون أخفّ عليه من صلاة مكتوبة يصلّيها في الدنيا.

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، عن عدّة من الجوامع عن أبي سعيد عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ) قال: الرصاص الذائب و النحاس كذلك تذوب السماء.

و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( يُبَصَّرُونَهُمْ ) يقول: يعرّفونهم ثمّ لا يتساءلون.

و فيه في قوله تعالى:( نَزَّاعَةً لِلشَّوى‏ ) قال: تنزع عينه و تسودّ وجهه.

و فيه في قوله تعالى:( تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى ) قال: تجرّه إليها.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

( سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ) (١)

اعترض المـُتكلّف بأنّه جمعٌ في موضع الإفراد، والوجه أنْ يُقال: سلامٌ على إلياس. كما أُفرد في قوله: ( سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ ) (٢) ، وقوله: ( سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) (٣) ، و ( سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ) (٤) ، قال: وإنّما سَاقه إلى ذلك مراعاةُ الرويّ (٥) .

وقد فَاته أنّ الكلمة أَعجميّة يجوز التصرّف فيها حيث ساق الكلام وناسب المقام، عادة جارية عند العرب يتلاعبون باللغات الأجنبيّة مِن غير ضابطة تحدّدها، وقد جرى القرآن على منهجهم في الاستعمال ولا غضاضة ولا سيّما بعد مناسبة رعاية الرويّ.

قال المراغي: إلياسين لغةٌ في إلياس، وكثيراً مّا يتصرّفون في الأسماء غير العربيّة (٦) .

وقال الحجّة البلاغي: وقوله تعالى: ( سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ ) بعد قوله: ( وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ) (٧) ؛ ذلك لأنّ لاسم هذا الرسول في اللغة العربيّة تعريبَان، كما كان لاسمه في العِبريّة تعبيران: إلياهْ وإلياهُوّ (٨) وهو المعروف بإيليّا التَّشبِيّ في العهد القديم (٩) .

هذا، وقد جرتْ عادة العرب على استعمال اللغات الأجنبيّة على غير مقياس واحد - ولعلّه امتهان بها - ودَرَجوا على التصرّف فيها حيثما شاءوا وحيثما سَاقهم مدارج الكلام.

فقد عرّبوا الفهلويّة إلى (دِرَخْم) وجاء في الشعر (دِرْهام) قال الشاعر:

لو أنّ مِئتي دِرْهام

لجازَ في آفاقها خاتامي

وعرّبوا (مِتَكسا) اليونانيّة ومعناه القزّ، إلى (مِدَقس) و(دِمَقس) و(دِقَمس) و(دِمَقص) و(دِمْقاس) وهكذا.

والدُرْنوك والدِرْنيك والدِرْنك والدُرُموك مُعرّب من أصل حبشي بمعنى الطنفسة.

والزنجيل مأخوذ من الفارسيّة (شنكيل، شنكوير، شنكبير وشنكويل) من أصل

____________________

(١) الصافّات ٣٧: ١٣٠.

(٢) الصافّات ٣٨: ٧٩.

(٣) الصافّات ٣٧: ١٠٩.

(٤) الصافّات ٣٧: ١٢٠.

(٥) ملحق ترجمة كتاب الإسلام، ص٤١٨.

(٦) تفسير المراغي، ج٢٣، ص٨١.

(٧) الصافّات ٣٧: ١٢٣.

(٨) الهدى إلى دين المصطفى، ج١، ص٣٨٣.

(٩) راجع: سِفر الملوك الثاني، ١/٣ و٤ و٨ و١٠ و١٢ و١٥ و١٧.

٣٨١

سنكسريتية (شرنكوير)، فالكلمة في فارسيّتها متنوّعة؛ لأنّها متغيّرة من أصرٍ هندي، لكنّها في العربيّة لم تتغيّر.

والسُوذانِق معرّب (سه دانك) (نصف درهم) كثرت لغاته وتجاوزت العشرين:

سَوْذَنيق. سُوْذَنيق. سَيْذَنُوق. سُيْوذانِق. سُوْذانَق. سَوْذانِق. سَوْذانَق. سَوْذِيْنَق. سَوْذينِق. سذانِق. سذانَق. سَوْدَق. سَوْذَق. سُوْذَق. سَيْذاق. سَيْذَقان. سَيْذُقان. شَيْذَق. شَيْذَقان. شَيْذاق. شُوذاق. شَوذَق. شُوذَنُوق.

وسُليمان معرّب (سَلُومُون) بالعِبريّة.. و(شَليمو، شَليمون) بالسريانيّة، وغيّرته العرب الجاهلي، فجعله النابغة (سُلَيماً) ضرورة: (ونَسْجُ سُلَيمٍ كلَّ قضّاءَ ذائل)، واضطرّ الحُطَيئة أيضاً فجَعله سَلاّماً فقال:

فيه الرمّاحُ وفيه كلُّ سابغةٍ

جَدلاء مُحكَمةٍ من نَسْج سلاّمٍ

وأَرادا جميعاً نسج داود والد سليمان، فلم يستقم لهما الشعر فجعلاه سليمان وغيّراه أيضاً (١) .

وأمثال ذلك كثير ممّا ينبؤك عن إمكان التصرّف في اللغات الأجنبيّة حيث سَاقها القَدر، ولا محدوديّة إطلاقاً، الأمر الذي ذهب عن المـُعتَرِض المـُتكلّف!

هذا، والقرآن لم يَتجاوز حدود أساليب العرب في استعمال اللغات، فلا موضع للأَخذ عليه بسبب الأخذ برخص اللغة الأصيلة والجري على مناهجها القويمة.

ولعلّه من التعسّف ما زَعَمه البعض من كونه جمعاً لإلياسيّ - بياء النسبة المشدّدة - ثُمّ خُفّف بحذف ياء النسبة وجُمع بالياء والنون، كما قالوا: الأشعرون، يُراد: الأشعريّون (٢) .

( وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) (٣)

تبتدئ سورة الأنبياء المكّيّة بمطلع قويّ الضَرَبات، يَهُزُّ القلوبَ هَزّاً وهو يُلفتها إلى

____________________

(١) المعرّب لأبي منصور الجواليقي (م: ٥٤٠)، ص٣٠٧ و٣١١ و٣١٤ و٣٥٥ و٣٧٥ و٣٨١.

(٢) إملاء ما مَنَّ به الرحمان، ج ٢، ص٢٠٧.

(٣) الأنبياء ٢١: ٣.

٣٨٢

الخطر القريب المـُحدق وهي عنه غافلة لاهية: ( اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ...لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ... ) (١) .

ويَزيدهم غفلةً: أنّهم أَسرّوا النجوى - أي تواطئوا فيما بينهم تجاه مقابلة الحقّ الذي أتاهم ليَصدّوا عنه، وكانت النجوى التشكيك في رسالة اللّه على يد بشرٍ مثلهم: ( هَلْ هَذَا إِلاّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ ) (٢) .

وهل كانت التوطئة الخبيثة إلاّ مِن قِبَل الملأ الذي سَطوا في البلاد وأظهروا الفساد بين العباد؛ ومِن ثَمَّ جاءت كلمة (الّذين ظلموا) اختصاصيّة، فاصلة بين الفاعل - لغرض تبيينه - والمفعول به، وهو أَبلغُ تفضيعاً بشأنهم ممّا لو أُسند الفعل إليهم رأساً.

والمعنى: وأَسَرَّ الغافلون النجوى - وأخصّ منهم الذين ظلموا -... هؤلاء، أشدّ وطئاً من سائر الغَفَلة الذي يُشكّلون عامّة المشركين آنذاك.

وقد ذَكَر النُحاة: أنّ محلّ (الذين ظلموا) إمّا نُصب على إرادة الاختصاص، أو رُفع على الإبدال من ضمير الجمع، قال الزمخشري: إشعاراً بأنّهم المـَوسومُون بالظلم الفاحش فيما أَسرّوا به (٣) وهكذا ذَكَر العلاّمة البلاغي بشأن الآية (٤) .

ثلاثة قروء

قال تعالى: ( وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ) (٥) .

قال الزمخشري: فإنْ قلتَ: لِمَ جاء المـُميّز على جمع الكثرة دون القلّة التي هي الأقراء؟.

قلت: يَتّسعون في ذلك فيستعملون كلّ واحد من الجمعَين مَكان الآخر؛ لاشتراكهما في الجمعيّة، أَلا تَرى إلى قوله ( بِأَنْفُسِهِنَّ ) وما هي إلاّ نفوس كثيرة، ولعلّ القُرُوء كانت أكثر استعمالاً في جمع قُرء من الأَقراء، فأُوثر عليه، تنزيلاً لقليل الاستعمال منزلة المـُهمل، فيكون مِثل قولهم: ثلاثة شسوع (٦) .

____________________

(١) الأنبياء ٢١: ١ و٢.

(٢) الأنبياء ٢١: ٣.

(٣) الكشّاف، ج٣، ص١٠٢.

(٤) الهدى إلى دين المصطفى، ج١، ص٣٨٤.

(٥) البقرة ٢: ٢٢٨.

(٦) الكشّاف، ج١، ص٢٧٢.

٣٨٣

الالتفات وتنوّع الكلام

ممّا أُخذ على القرآن: عدم نَسجه على منوالٍ واحد، فهناك ظاهرة الالتفات وتنوّع الخطاب والانتقال والرجوع والقطع والوصل... وإلى أمثال ذلك من التنقّل الكلامي، زَعَموا أنّه قد يُشوّش على القارئ فهم المعاني! (١)

لكنّه جهلٌ بأساليب البديع من كلام العرب، وما ذاك الالتفات وهذا التنقّل في الخطاب إلاّ تطريةً في الكلام، تزيد في نشاط السامعين وتسترعي انتباههم لفهم مناحي الكلام أكثر وأنشط.

والشيء الذي أَغَفلوه أنّهم حَسِبوا من صياغة القرآن أنّها صياغة كتاب، في حين أنّها صياغة خطاب.

إنّ لصياغة الكتاب مُمَيزّات تختلف عن مُمَيّزات صياغة الخطاب، فقضيّة الجري على منوالٍ واحد هي خاصّة بصياغة الكتاب، أمّا التنوّع والتنقّل والالتفات فهي من خاصّة صياغة الخطاب، سواء أكان نَظماً أم نَثراً، فلا يتقيّد الناطق بالاطّراد في سياقٍ واحد، بل له الانتقال والتحوّل أثناء الكلام حسبما ساقته دلائل المقام.

فهذا عزيز مصر - ينقل كلامه القرآن حينما واجه امرأته ويوسف على حالة استنكرها - يقول: ( يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ) (٢) ، فيُخاطب يوسف أَوّلاً، ثُمَّ يَلتفت إلى امرأته يُوبّخها.

وكِلا الخطابَين مُنساق في نسقٍ واحد ولكن في واجهتَين، وقد نَقله القرآن على شاكلته الأُولى. والقرآن كلّه من هذا القبيل؛ لأنّه كلام اللّه واجه به عباده في صياغة خطاب ولم ينزل في صياغة كتاب؛ ومِن ثَمَّ كانت فيه هذه الكثرة من الالتفات والتنقّل في الكلام، الأمر الذي زادَ في طرواته وزانَ في طُلاوته.

يقول تعالى: ( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ

____________________

(١) هاشم العربي محلق ترجمة كتاب الإسلام، ص٤٢٣.

(٢) يوسف ١٢: ٢٩.

٣٨٤

وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) (١) .

يبتدئ الكلام بالخطاب مع الرسول ويتحوّل مِن فوره إلى مواجهة المؤمنين.

ثُمَّ الضماير المتتابعة الثلاثة ( وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ ) يعود الأَوّلان منها إلى النبيّ والثالث إلى اللّه! وهذا من مداورة الكلام مِن وِجهةٍ إلى وِجهة، ويُعدُّ من أَلطف صُنع البديع.

ولا يخفى أنّ مِثل هذا لا يدخل في متشابه الكلام بعد معروفيّة مراجع الضمائر لدى المخاطبينَ النابهينَ، وهو من حُسن الوجازة وظريف البيان (في ظاهر إبهام وواقع إحكام) سهلاً ممتنعاً يكسو الكلام حلاوةً مُمتعة.

فبدلاً من أن يكون الكلام مشوَّهاً مضطرب المفاد - حسبما رَاقه المـُتعرّب المتكلّف - أصبح حلواً سائغاً يستلذّه المستمع النبيه.

ومِثله في القرآن كثير ويكون من لطيف صُنع البديع.

وبديعةُ الالتفات كانت غرّة البدائع التي ازدان بها كلام ربّ العالمينَ، وقد بحثنا عنها وعن أنواع ظرائفها عند البحث عن روائع فنون بدائع كلامه تعالى (في المجلّد الخامس من التمهيد)، ونبّهنا هناك على أنّه لابدّ في كلّ التفاتة من فائدة رائعة وراء تَطرية الكلام والتفنّن فيه لتزيده رَونقاً فوق روعته، وأَتينا بأَمثلة لذلك.

وهنا - في الآية الّتي تَمثّل بها المـُتكلّف من سورة يونس - نقول: إنّه يزيد مبالغةً في الاستنكار:

قال تعالى: ( وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا... ) (٢) .

يعني: أنّ أُولئك الكَفَرة الجُحُود إذا كشف اللّه عنهم ضرَّهم، فبدلاً من أنْ يشكروا، تَراهم يكفرون نعمةَ اللّه، ويحاولون تغطيتها بأنواع الملتبسات...

فيُمثّل لذلك ركوبهم البحر ومواجهة الطوفان: ( هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ

____________________

(١) الفتح ٤٨: ٨ و٩.

(٢) يونس ١٠: ٢١.

٣٨٥

مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ... ) (١) .

فبدأ يواجههم في الخطاب، لكنّه في الأثناء يُغيّر وِجهة الكلام إلى التكلّم عن غائبينَ؛ ليُحوّل وِجهة السامعين من كونهم مخاطبينَ إلى كونهم ناظرينَ مستمعين، وذلك للتمكّن في نفوسهم من استقباح ما يشهدونه من فضيع الحال وشنيع المـَآل، فيلمسوا قَباحة العمل وهم يرونه مِن كَثَب، فيكونوا هم الحاكمينَ على فعالهم بالتقبيح.

قال الزمخشري: ما فائدة صرف الكلام عن الخطاب إلى الغَيبَة؟

قال: المبالغة، كأنّه يذكر لغيرهم حالهم؛ ليُعجبهم منها ويستدعي منهم الإنكار والتقبيح (٢) .

وذلك لأنّ القبيح من الغير يبدو أقبح ممّا لو ذُكر عن النفس.

وهكذا التنقّل من شأن إلى شأن كان من خاصّيّة الكلام إذا كان خطاباً لا كتاباً، يتنقّل فيه المتكلّم من حالٍ إلى حال، وربّما من موضوعٍ إلى موضوع آخر، ثُمّ يعود إلى موضوعه الأَوّل حَسبَما يقتضيه الحال والمقام، والتنقّل ظاهرة قرآنيّة شاملة ولا سيّما في السور الطوال.

مثلاً نراه يتعرّض لمسألة الطلاق والعدد في آيات (البقرة: ٢٢٨ - ٢٣٧) وينتقل إلى الترغيب في المحافظة على الصلوات والصلاة الوسطى (الآية: ٢٣٨) وصلاة الخوف (الآية: ٢٣٩) ويَذكر المـُتوفّى عنها زوجها (الآية: ٢٤٠) ثُمَّ يعود إلى ذكر المطلّقات (الآية: ٢٤١) الأمر الذي لم يكن متناسباً لو كان الكلام كتاباً، ويجوز في الخطاب، وهذا أيضاً في القرآن كثير.

إذن، فلا موضع لسفاسف الأباعد من عدم الالتئام في نَظم القرآن.

قال هاشم العربي - بشأن آية الكرسي بعد ما وَصَفها بفخامة اللفظ والمحتوى

____________________

(١) يونس ١٠: ٢٢ - ٢٣.

(٢) الكشّاف، ج٢، ص٣٣٨.

٣٨٦

بحيث لا يوجد لها نظير في جميع القرآن -: إنّها بين جارتَيها (الآية السابقة عليها واللاحقة لها) كقطعة ديباج رُقّع بها ثوب كِرباس، قال: وأكثر القرآن على هذه الصفة من عدم القِران بين آياته، والانتقال توّاً من الأَوْج إلى الحضيض ومِن ذِكر الجنّة والمغفرة إلى ذِكر المحيض (١) .

( جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ)

الرّيح مؤنّثة، وتُوصف بعَاصف وعاصفة على سواء؛ لأنّ العاصف صفة الريح لا غيرها كالحائض للمرأة، فلا تشتبه بغيرها من غير حاجة إلى التاء الفارقة.

قال ابن منظور: وهي ريح عاصف وعاصفة.

واستعملها القرآن على الوجهَين:

( جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ ) (٢) .

( وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً ) (٣) .

( قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً) (٤)

زَعَم المـُتعرّب المـُتكلّف - الأجنبي عن لغة العرب - أنّ الحنيفيّة هي الميل عن الصراط السويّ، وقد استعملها القرآن في غير معناها الأصيل.

قال: وكثيراً مّا يستعمل القرآن الألفاظ العربيّة في غير ما وُضعت له، من ذلك تعبيره عن دين إبراهيم بالحنيف يعني به القويم، لكن العرب تعني بالحَنَف الاعوجاج؛ ولذلك تُسمّي عابد الوثن حنيفاً لميله عن الدِّين القويم!

وزَعَم أنّ ذلك ممّا موّهته اليهود على صاحب القرآن فلقّنته؛ ليدعو دين إبراهيم حنيفاً، تعبيراً عليه ليُفضح أمره عند العرب، فانخدع بذلك من غير دراية بمعناه العربي

____________________

(١) ملحق ترجمة كتاب الإسلام، ص٤٣٩ وهو آخر رسالته.

(٢) يونس ١٠: ٢٢.

(٣) الأنبياء ٢١: ٨١.

(٤) البقرة ٢: ١٣٥.

٣٨٧

الأصيل (١) .

يا لها مِن جَهالة عارمة تُنبؤك عن غباوةٍ فاضحة!!

كيف يَنخدع نبيّ الإسلام بمفاهيم لغةٍ كان فِلْذَتها ولسان أُمّة كان من صميمها، أفهل يُعقل أن يتلاعب أُناس أباعِد - هم جالية المنطقة - بذهنيّة فحلٍ فخمٍ كان نابتة الرَّبوة العَليّة، أين العجم من أبناء إسرائيل من العرب من أبناء قريش؟! وأين الهجين من العتيق الأصيل؟!

ولعلّ المـُتعرّب المسكين هو الذي انخدع بتلك التهجينات المفضوحة فحَسِبها لُجّة، وما هي إلاّ سراب فارغ!

كان مُنذ الجاهلية أُناس يُدعَونَ بالحُنفاء؛ حيث تنزّهوا الأدناس ورَغِبوا في الحنيفيّة البيضاء، دين إبراهيم الحنيف.

اجتمعت قريش يوماً في عيدٍ لهم عند صنم كانوا يُعظّمونه وينحرون له ويعكفون عنده ويَدورون به، وكان ذلك عيداً لهم في كلّ سَنة يوماً، فَخَلُصَ منهم أربعة نفر نجيّاً (٢) ، ثُمّ قال بعضهم لبعض: تصادقوا وَلِيَكْتم بعضكم على بعض، قالوا: أجل - وهم: ورقة بن نوفل، وعبيد اللّه بن جحش، وعثمان بن حويرث، وزيد بن عمرو، من أفذاذ قريش - فقال بعضهم لبعض: تَعلمون واللّه ما قومكم على شيء! لقد أخطأوا دين أبيهم إبراهيم! ما حجرٌ نطيف به، لا يسمع ولا يُبصر ولا يضرّ ولا ينفع! يا قوم، التمسوا لأنفسكم ديناً، فإنّكم واللّه ما أنتم على شيء، فتفرّقوا يَلتمسون الحنيفيّة دين إبراهيم (٣) .

وهؤلاء - وأمثالهم من غيرهم يومذاك - فارقوا دين قومهم واعتزلوا الوثنيّة وعبادة الأصنام وأَكل المِيتة والدم والذبائح على النُصُب وتقذّروا الفحشاء والمنكرات ووَأد البنات وما إليها من عادات جاهليّة سيّئة... وسُمّوا بالحنفاء؛ حيث إتّباعهم الحنيفيّة دين

____________________

(١) ملحق ترجمة كتاب الإسلام، ص٤٢٤ - ٤٢٥.

(٢) أي انفرد منهم هؤلاء الأربعة وجعلوا يتناجون فيما بينهم، أي يتحدّثون سرّاً عن غيرهم.

(٣) راجع: تفصيل القصّة في سيرة ابن هشام، ج١، ص٢٣٧ - ٢٤٨.

٣٨٨

إبراهيم (عليه السلام).

والحنيفيّة، مِن الحَنف هي النزاهة والقداسة إنْ فكريّاً أو عمليّاً، وِفق الفطرة الأُولى الضاحية.

قال تعالى: ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) (١) ، وفي الحديث: سُئل عن الحنيفيّة؟ قال: هي الفطرة (٢) .

قال الراغب: الحَنف، هو مَيل عن الضلال إلى الاستقامة، والجَنَف، ميل عن الاستقامة إلى الضلال (٣) والحنيف، المائل إلى الاستقامة، قال تعالى: ( قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً ) (٤) ، وقال: ( حَنِيفاً مُّسْلِماً ) (٥) ، وجَمعه: حنفاء، قال تعالى: ( وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ ) (٦) .

قال: وتَحنّف فلانٌ أي تحرَّى طريق الاستقامة، وسمَّت العربُ كُلَّ مَن حجّ أو اختَتَن: حنيفاً؛ تنبيهاً أنّه على دين إبراهيم (عليه السلام).

قال أبو زيد: الحنيف، المستقيم، وأنشد:

تَعَلَّم أنْ سَيهدِيكُم إلينا

طريقٌ لا يجورُ بكُم حنيفُ

قال أبو عبيدة - اللغوي العلاّمة - في قوله عزّ وجل -: مَن كان على دين إبراهيم، فهو حنيف عند العرب.

قال الأخفش: كان في الجاهليّة يقال: مَن اختتن وحجّ البيت، حنيف؛ لأنّ العرب لم تتمسّك في الجاهليّة بشيء من دين إبراهيم غير الخِتان وحجّ البيت.

قال ابن عرفة: الحَنف، الاستقامة، وإنّما قيل للمائل الرجل أحنف تفاؤلاً بالاستقامة، كما يُقال للغراب أَعور وللصحراء القاحلة مَفازة.

____________________

(١) الروم ٣٠: ٣٠.

(٢) بحار الأنوار، ج٣، ص٢٧٦.

(٣) كما في قوله تعالى: ( فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً ) البقرة ٢: ١٨٢، أي ميلاً عن الحقّ في الوصاية.

(٤) النحل ١٦: ١٢٠.

(٥) آل عمران ٣: ٦٧.

(٦) الحج ٢٢: ٣٠ و٣١.

٣٨٩

قال الزجاجي: الحنيف في الجاهليّة مَن كان يحجّ البيت ويَغتسل من الجنابة ويَختَتَن (١) .

وهكذا ذَكَر الفيروز آبادي في القاموس، قال: الحَنَف - محرّكة - الاستقامة.

وقد عَرفت أنّ إطلاقه على اعوجاج الرجل، كان بالعناية والمجاز تفاؤلاً، لا حقيقة.

قال الجارود بن بشر من عبد قيس، وكان نصرانيّاً فأَسَلم طَوعاً:

فأَبلِغ رسولَ اللّه منّي رسالةً

بأنّي حنيفٌ حيث كنتُ مِن الأرضِ

وقال حسّان بن ثابت يُخاطب أبا سفيان:

هَجَوتَ مُحمّداً بَرّاً حنيفاً

أَمينَ اللّه شِيمَتُه الوفاءُ (٢)

وممّا يتأيّد التطهّر من الأقذار في مفهوم (الحَنف)، أنّ العرب اليوم يستعملون لفظة (الحنفيّة) يُريدون بها فَتحة أنابيب المياه للغَسل والشُرب؛ حيث كانت وسيلة التطهير من الأوساخ، وهو امتداد القديم المعروف عندهم (٣) .

فيا تُرى هل كان هؤلاء العرب الأقحاح انخدعوا جميعاً مُنذ أَوّل يومهم حتّى الآن بدسائس يهوديّة هزيلة لا وزنَ لها ولا اعتبار، اللّهمّ إلاّ في ذهنيّة مُتعرّبنا المسكين!!

( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا) (٤)

زَعَم المـُتعرّب أنّ (اعتدى) لا يتعدّى بنفسه، وكان الصحيح أنْ يُبدّل بقوله (فلا تتعدّوها) (٥) ويا ليته لم يفضح نفسه بالتدخّل في شؤون لغةٍ هو أجنبيّ عنها، قال صاحب المـُنجد - وهو مسيحيٌّ مِثله لكنّه عارف باللغة -: اعتدى الحقَّ وعن الحقِّ وفوق الحقِّ: جاوزه، وكذا تعدّى الشيءَ: جاوزه، فهما بمعنىً.

____________________

(١) لسان العرب، ج٩، ص٥٦ - ٥٨.

(٢) راجع: الهدى إلى دين المصطفى، ج١، ص٣٨٦.

(٣) راجع: المعجم الوسيط، ج١، ص٢٠٣، مادّة (حنف)، وص ٥٢٤ (الصنبور).

(٤) البقرة ٢: ٢٢٩.

(٥) ملحق ترجمة كتاب الإسلام، ص٤٢٥.

٣٩٠

( أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا)

قال تعالى: ( حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً ) (١) .

قال المـُتعرِّب: والوجه استطعَماهم.

قال العلاّمة البلاغي: ولعلّه تَوهّم أنّ الجملة (استطعَما أهلها) جواب (إذا)، ولم يدرِ أنّها وصفٌ للقرية (أي القرية التي استطعما أهلها...). وجواب (إذا) إنّما هو قوله تعالى في آخر الآية: ( قَالَ لَوْ شِئْتَ .. . ) (٢) .

قال الإمام الرازي: التكرير قد يكون للتأكيد وهو معروف واقعٌ في اللغة كقول الشاعر:

ليتَ الغُرابَ غداةَ ينعبُ دائماً

كان الغرابُ مُقطّعَ الأوداجِ (٣)

وقال أبو حيّان الغرناطي: وتكرّر لفظ (أهل) على سبيل التوكيد، وقد يظهر له فائدة عن التوكيد، وهو أنّهما حين أَتيا أهلَ القرية لمْ يأتيا جميع أهل القرية، إنّما بعضهم، فلمـّا قال (استطعما...) احتُمل أنّهما لم يستَطعِما إلاّ أُولئك البعض الذين أَتياهم، فَجيء بلفظ (أهلها) ليَعمّ جميعهم وأنّهم تَتَبّعوهم واحداً واحداً بالاستطعام منهم فأَبَوا جميعاً أنْ يُضيّفوهما، ولو كان التركيب (استطعماهم) لكان عائداً على أُولئك البعض المأتيّينّ أَوّلاً فحسب، وهو خلاف المقصود (٤) .

( إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا)

قالوا: وكان الوجه أن يقول: إنّما الرِّبا مِثل البيع!

لكنّهم غَفَلوا وجه هذا التشبيه؛ وذلك أنّ المـُرابين زَعموا تَماثل البيع والرِّبا، فكلّ ما في الرِّبا من آثار وتَبِعات فإنّها بعينها موجودة في البيع بِلا فَرق؛ ومِن ثَمّ استغربوا أن يُحلَّل

____________________

(١) الكهف ١٨: ٧٧.

(٢) الهدى إلى دين المصطفى، ج١، ص٣٨٩.

(٣) التفسير الكبير، ج٢١، ١٥٦.

(٤) تفسير البحر المحيط لأبي حيّان الأندلسي الغرناطي، ج٦، ص١٥١.

٣٩١

البيع ويُحرَّم الرِّبا، وقالوا: إنّما البيع مثل الرِّبا في الترابح وجَلب المنافع، فما شأن البيع يُحلَّل والرِّبا يُحرَّم؟!

وقد حكى اللّه تعالى عنهم ذلك تفضيعاً لشانئتهم:

( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ) (١) .

فشَنَّع عليهم قولتهم هذه؛ حيث المفاسد والآثار السيّئة التي يُعقّبها الرِّبا لا يوجد شيء منها في البيع، ومِن ثَمّ فإنّ هذا التشبيه إنّما هو من مُضاعفات تسويل الشيطان على عقولهم الغائرة (٢) .

( وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ) (٣)

قالوا: وكان الجدير أنْ يقول: ومَثل الذي يَعِظ الكُفّار الذي يَنعق بما لا يَسمع إلاّ دُعاءً ونِداءً صمٌّ بكم عميٌ فهم لا يعقلون...

قال المفسّرون: في الكلام تقدير، والمعنى: ومَثل الذين كفروا في دعائِك إيّاهم كمَثل الذي يَنعق البهائم... كما في قوله: ( أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ) (٤) .

( إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ..... إِنْ تُسْمِعُ إِلاّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ ) (٥) .

( أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) (٦) .

( إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ) (٧) .

إلى غيرهُنّ من آيات تُعرِب عن فشل محاولة إرشاد مَن لا قلبَ له ولا وعيَ ولا حضورَ، وهو تائِه في غياهب الضلال، ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ

____________________

(١) البقرة ٢: ٢٧٥.

(٢) راجع: الهدى إلى دين المصطفى، ج١، ص ٣٩٧ - ٣٩٨.

(٣) البقرة ٢: ١٧١.

(٤) الأعراف ٧: ١٧٩.

(٥) النمل ٢٧: ٨٠ و٨١، الروم ٣٠: ٥٢ و٥٣.

(٦) الزخرف ٤٣: ٤٠.

(٧) فاطر ٣٥: ٢٢.

٣٩٢

وَهُوَ شَهِيدٌ ) (١) .

وإنّما لم يُصرَّح بهذا التقدير؛ تحاشياً من تشبيه الواعظ الناصح والمـُرشد الكامل في وَعظِه الشافي وإرشاده الحكيم بمَن ينطق بمهملات لا معنى لها سوى التصويت والنعيق كصياح الغُراب (٢) .

( وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) (٣)

قد تكرّر في القرآن أنّه نَزَل بلسانٍ عربيّ مُبين (٤) وهو الظاهر البيان ميسَّر لا تعقيد فيه ولا إبهام ( فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) (٥) .

هذا مع العِلم بأنّ في القرآن آيات متشابهة (مُغلقة الفهم مُبهَمة المعنى) بشهادة القرآن ذاته، حيث قوله تعالى: ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) ، وأخيراً ( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) (٦) ، أمّا عامّة الناس فإنّهم مَحرومون عن فَهم هذا اللفيف من الآيات، وأصبحت لا فائدة فيها عندهم سِوى تلاوتها جرياً على الأَلسن لا وعياً في القلوب!! (٧) .

لكن تعرّضنا - عند الكلام عن متشابهات القرآن - (٨) للإجابة على هذا السؤال وقُلنا: مُتشابه القرآن على نوعَين: أصلي وطارئ، والطارئ - وهو الأكثريّة الساحقة من متشابهات القرآن - ما عَرَض له التشابه فيما بعد ولم يكن مُتشابهاً في أصله وعند نزوله؛ وذلك من جرّاء تضارب الآراء وتخاصم أرباب الجَدل، والذي ثار أُواره في مؤخّرة القرن الأَوّل ودام حتّى القرنَينِ الثاني والثالث، وظهرت مَذاهب ومَشارب مُتنوّعة ومُتزاحمة بعضها مع بعض في تلك الفترة غير القصيرة، كان صاحب كلّ مَذهب فكري يَعمَد إلى لفيفٍ من آيات وروايات ليؤِّولها إلى حيث مُرتآه الخاصّ ويُفسِّرها حسب رأيه؛ دَعماً

____________________

(١) ق ٥٠: ٣٧.

(٢) راجع: الهدى إلى دين المصطفى، ج١، ص٣٩٧.

(٣) النحل ١٦: ١٠٣.

(٤) الشعراء ٢٦: ١٩٥.

(٥) الدخان ٤٤: ٥٨.

(٦) آل عمران ٣: ٧.

(٧) هذه شُبهة أَوردها هاشم العربي في ملحق ترجمة كتاب الإسلام، ص٣٧٩.

(٨) في المجلد الثالث من التمهيد.

٣٩٣

لعقيدةٍ ارتآها أو دفعاً لما سلكه خصماؤه، وفي غُضون هذا التَدافع والتَخاصم كانت معالم الشريعة هي التي وقعت عُرضة الأهواء ومُتضارب الآراء، وأصبح قسمٌ كبيرٌ من بيّنات الآيات والسُنَن مُتشابهاتٍ، وقد أحاطت بها هالات من الإبهام والإجمال، فصار ما كان مُحكماً بالأمس متشابهاً، وما كان بيّناً مُستطرقاً طُرُق الظَلام، هذا هو الحَدث الجليل الذي عاد بسيّئاته إلى حوزة الشريعة الغرّاء.

وهذا في أكثريّة النصوص التي تعرّضت لصفاته تعالى الجلال والجمال وشؤون الخَليقة والتدبير وما شابه.

أمّا المـُتشابه الأصل فهو أقلّ القليل من آياتٍ تعرّضت لمعانٍ مُستجدّة على العرب، هي ذوات مفاهيم رفيعة ومتوسّعة سِعة الآفاق، كانت القوالب اللفظيّة - المـُوضوعة عند العرب - تضيق عن حَملها والإيفاد بها؛ ومِن ثَمّ جاءت في قوالب الاستعارة والتشبيه القاصرة - بطبيعة الحال - عن إفادة كمال المـُراد، وهذا من قصورٍ يعود إلى القابل ولا يَمسّ شأن الفاعل، كما لا يخفى، وقد قدّمنا الكلام عن تفاصيله.

أمّا ولِمَ أُودعت هذه اللُّمة من عديد آيات رفيعة المنال ضِمن نصوص القرآن الكريم وهي معروضة على العامّة لتكون بياناً للناس كافّة؟ ( هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ) (١) .

فيعود السبب إلى كونها ودائع أُودعت لدى هذه الأُمّة؛ لتكون رصيداً لها وذُخراً وفيراً في مسيرة الشريعة الأبديّة، كلّما تقدّم الزمان ظهرت منه آياتٌ بيّناتٌ لتُنير الدرب على مدى الأيّام.

إنّ لهذه الآيات إشعاعات تُشعّ بأطيافها متناسبةً مع الظروف والشرائط المؤاتية في كلّ زمان، فيوماً حسب ظاهرها البدائي على حدّ تَرجمة الألفاظ، ويوماً معاني أعمق فأعمق حسبما تتعمّق العقول وتنضج الأفكار، وهذا من حِكمته تعالى حيث جَعَل من هذه الشريعة الخلود، الأمر الذي لم يَجعل القرآن - حتّى في مِثل هذا المـُتشابه من الآيات - يوماً مّا في موضع حَيرة للأُمّة لا يعقلون منه شيئاً، نعم، سِوى ما كان منه يحتاج

____________________

(١) آل عمران ٣: ١٣٨.

٣٩٤

إلى تدبُّر وتعمُّق نظر ومراجعة الآيات المـُحكمات وهُنّ أُمّ الكتاب (أي المرجع النهائي لحلّ المعضلات).

موارد زَعَموا فيها مخالفات في عَودِ الضمير!

* قال تعالى: ( ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ... ) (١) .

أَتى أَوّلاً بضمير التثنية (ائتيا)، (قالتا) بصورة التأنيث، ثُمّ بضمير الجمع المـُذكر السالم (طائعينَ)، وأخيراً بضمير الجمع المؤنّث السالم (فقضاهُنّ...)؟!

* وهكذا قوله تعالى: ( وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ... ذَوَاتَا أَفْنَانٍ... فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ... فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ... مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ... فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ... ) .

ثُمّ قال: ( وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ... مُدْهَامَّتَانِ... فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ... فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ... فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ... ) (٢) .

في كِلا الموضعَين جاء بضمير الجمع المؤنّث السالم بعد تثنية الضمير مُكرّراً!

* وقوله تعالى: ( هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ) (٣) .

* وقال - خطاباً لآدم وحوّاء -: ( قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى ) (٤) .

وقال في موضع آخر: ( فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ) (٥) .

وتعقّبها بقوله: ( قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (٦) .

____________________

(١) فصّلت ٤١: ١١ و١٢.

(٢) الرحمان ٥٥: ٤٦ - ٧٠.

(٣) الحجّ ٢٢: ١٩.

(٤) طه ٢٠: ١٢٣.

(٥) البقرة ٢: ٣٦.

(٦) البقرة ٢: ٣٨.

٣٩٥

وقال: ( قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ) (١) .

في كلّ هذه المواضع جاء الخطاب فيها أَوّلاً بصورة مُثنّى، ثُمّ بصورة الجمع!

* وهكذا في قوله تعالى: ( وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ) (٢) .

وقوله تعالى: ( كَلاّ فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ ) (٣) .

وقوله: ( إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ ) (٤) .

* وجاء في وصف الجمع المـُكسّر بجمع المؤنّث السالم: ( فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ ) (٥) مع العِلم بأنّ مفرده (يوم) وهو مُذكّر!

* وقال تعالى: ( وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ ) (٦) .

* وقال: ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ... ) (٧) .

عاد ضمير التأنيث على الأسماء باعتباره جمع مُكسّر، ثُمّ عاد عليها ضمير الجمع المـُذكّر، ثُمّ اسم الإشارة أيضاً بصورة الجمع المـُذكّر!

* يُعبِّر تعالى عن الملائكة بجماعة الذُكور في غالبية تعابيره، ( لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) (٨) .

( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ) (٩) .

( وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً ) (١٠) .

____________________

(١) الأعراف ٧: ٢٣ و ٢٤.                            (٢) الأنبياء ٢١: ٧٨.

(٣) الشعراء ٢٦: ١٥.                                  (٤) ص ٣٨: ٢١ و ٢٢.

(٥) فصّلت ٤١: ١٦.                                   (٦) النور ٢٤: ٤٥.

(٧) البقرة ٢: ٣١.                                       (٨) التحريم ٦٦: ٦.

(٩) غافر: ٤٠: ٧.                                      (١٠) الزخرف ٤٣: ١٩.

٣٩٦

( وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ ) (١) .

لكن نرى أنّه تعالى قد عَبَّر عنهم بالجمع المؤنّث السالم في مواضع:

جاء في سورة المرسلات: ( فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً * عُذْراً أَوْ نُذْراً ) (٢) .

وفي سورة النازعات: ( فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً ) (٣) .

وفي سورة الصافّات: ( وَالصَّافَّاتِ صَفّاً * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً ) (٤) .

* قال تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) (٥) .

وقال: ( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) (٦) .

فقد جاء بجمع التذكير، لكنّه تعالى في موضعٍ آخر قال: ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ ) (٧) .

( وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ ) (٨) .

وإليك بعض الكلام في ذلك:

تغليب جانب ذوي العقول

جرت العادة عند العرب وجرى عليها القرآن على تغليب جانب الذُكور وكذا جانب ذوي العقول إذا كانوا في الجمع.

وعليه، فعَود الضمير إلى الأسماء في الآية (٣١ - ٣٣ - البقرة) إنّما هو باعتبار المـُسمّيات دون نفس الأسماء، وبما فيها من ذَوي العقول، غُلِّب جانبهم، فقال: ( أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ ) (٩) .

* * *

وهكذا في قوله تعالى في الآية (٤٥ النور): ( وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ

____________________

(١) شورى ٤٢: ٥.

(٢) المرسلات ٧٧: ٥ و ٦.

(٣) النازعات ٧٩: ٥.

(٤) الصافات ٣٧: ١ - ٣.

(٥) الأنبياء ٢١: ٣٣.

(٦) الإسراء ١٧: ٤٤

(٧) النور ٢٤: ٤١.

(٨) الأنبياء ٢١: ٧٩.

(٩) راجع: مجمع البيان، ج١، ص٧٧، ومعاني القرآن، ج١، ٢٦، والكشّاف ج١، ص١٢٦.

٣٩٧

يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ... ) ؛ لأنّ (كلّ دابّة) يشمل الآدميّين فغُلِّب جانبهم (١) .

كما تقول: القوم مع دوابّهم مُقبلون، فمنهم مَن يُسرع ومنهم مَن يُبطئ (٢) .

قال الزمخشري: ولمـّا كان اسم الدابّة مُوقعاً على المـُميِّز وغير المـُميِّز غُلّب المـُميّز فأُعطي ما وراءه حُكمُه، كأنّ الدوّابّ كلّهم مميّزون (٣) .

* * *

وعلى هذا الغِرار جرى قوله تعالى في الآية (١١ - فصّلت): ( قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) ، باعتبار ما فيها من ذوي العقول، ولعلّهم الملائكة المـُدبّرون لنظام التكوين، قال قطرب: فغُلّب حُكم العقلاء (٤) .

وجَعَله الزمخشري من الاستعارة بالكناية وكان الجمع باعتبار المعنى حيث المـُراد من السماء هي السماوات، وكذا الأرض فيما حسب (٥) ، وسيأتي كلامه.

استعارة تخييليّة

وهي من أَجود أنواع الاستعارات، يُضمَر في النفس تشبيهُ شيء بشيء، ثُمّ يُذكر أحد طَرَفَي التشبيه ويُذكَر له صفةٌ من خواصّ الطرف الآخر؛ لتكون دليلاً على ذاك التشبيه المـُضمر في النفس، مثلاً: تُشبَّه المنيّة بسَبُعٍ ضارٍ مُفترس، ولا يُصرَّح بهذا التشبيه، بل يُذكر للمنيّة التي هي المشبَّه أظفار السَبُعِ الضاري:

وإذا المـَنيّةُ أنشبتْ أظفارَها

أَلفيتُ كلَّ تميمةٍ لا تنفعُ

وهذا يُسمّى استعارة تخييليّة وبالكناية أيضاً.

وفي القرآن من هذا النوع من الاستعارة كثير.

من ذلك قوله تعالى: ( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) (٦) .

____________________

(١) مجمع البيان، ج١، ص٧٧.

(٢) معاني القرآن، ج٢، ص٢٥٧.

(٣) الكشّاف، ج٣، ص٢٤٦.

(٤) راجع: مجمع البيان، ج٩، ص٦، ومعاني القرآن، ج٣، ص١٣.

(٥) الكشّاف، ج٤، ص١٩٠.

(٦) الإسراء ١٧: ٤٤.

٣٩٨

فحيث شُبّهت الأشياء بمَن يَلهج بالتسبيح مِن إنسٍ وجنٍّ ومَلَكٍ استُعير لفظ التسبيح الذي هو فعل ذوي العقول، ثُمّ جرى الكلام على هذا النَمط وقال: ( لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) ، أتى بضمير الجمع المـُذكّر حسب سياق الكلام.

وهكذا جعل الزمخشري قوله تعالى ( قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) (١) من نوع الاستعارة بالكناية، قال: لمـّا جُعِلنَ مُخاطَبات ومُجيبات، ووُصِفنَ بالطَوع والكُره، قيل: طائعينَ، في موضع طائعات (٢) ، فقد شُبّهت السماوات والأرض بالكائنات الحيّة العاقلة الناطقة، فوَصَفَها بالقول والإطاعة.

قال: وهذا نظير قوله تعالى: ( إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ) (٣) ؛ لأنّه لمـّا وَصَفَها بما هو خاصّ بالعقلاء وهو السجود أَجرى عليها حكمَهم كأنّها عاقلة، وهذا كثيرٌ شائعٌ في كلام العرب أنْ يُلابس الشيء بشيءٍ من بعض الوجوه، فيُعطى حُكماً من أحكامه؛ إظهاراً لأثر المـُلابسة والمـُقاربة (٤) .

وكذا قوله: ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ ) (٥) .

عَبَّر بـ (من) - وهو لذوي العقول - بنفس الاعتبار؛ ولذلك جاء الجمع، جمع المـُؤنّث السالم.

وعلى نفس الغِرار جاء قوله تعالى: ( وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ ) (٦) ضمير جمع المؤنّث حيث تشبيه الجبال بالمـُسبّحات.

قال الزمخشري في قوله تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) (٧) : الضمير للشمس والقمر، والمراد بهما جنس الطوالع كلّ يوم وليلة، جعلوها مُتكاثرة؛ لتكاثر مَطالعها وهو السبب في جمعهما بالشُمُوس والأقمار.

قال: وإنما جُعل الضمير (واو) العقلاء؛ للوصف بفعلهم وهو السِباحة (٨) .

____________________

(١) فصّلت ٤١: ١١.

(٢) الكشّاف، ج٤، ص١٩٠.

(٣) يوسف ١٢: ٤.

(٤) الكشّاف، ج٢، ص٤٤٤.

(٥) النور ٢٤: ٤١.

(٦) الأنبياء ٢١: ٧٩.

(٧) الأنبياء ٢١: ٣٣.

(٨) الكشّاف، ج٣، ص١١٥.

٣٩٩

ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: ( فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ) (١) .

قال الزمخشري: فإنْ قُلتَ: كيف صحَّ مجيء خاضعينَ خَبراً عن الأعناق؟

قلتُ: أصل الكلام فظلّوا لها خاضعينَ، فأُقحِمت الأعناق لبيان موضع الخُضوع... أو لمـّا وُصِفت بالخضوع الذي هو للعقلاء قيل: خاضعينَ، كما تقدّم في قوله ( لِي سَاجِدِينَ ) من سورة يوسف، وقيل: أعناق الناس رؤساؤهم ومُقدَّموهم، شُبّهوا بالأعناق كما قيل لهم: هم الرؤوس والنواصي والصدور، قال شاعرهم:

ومَشهدٍ قد كفيتَ الغائبينَ بهِ

في مَحفلٍ مِن نواصي القومِ مَشهودِ

والمـُراد من نواصي القوم أشرافهم (٢) .

ومِثله قوله تعالى: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً ) (٣) .

أي الآلهة التي يَعبدها المشركون هم يبتغون إلى ربّهم الوسيلة ويتسابقون كي يتقرّبوا إلى اللّه، فكيف يعبدونها من دون اللّه؟!

فقد عَبَّر عنهم بلفظ جماعة العقلاء؛ وذلك لمـّا عَدّوهم معبودِينَ جرى عليهم ما جرى على العقلاء (٤) وله نظائر كثيرة في القرآن:

( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ) (٥) .

( وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ ) (٦) أي لا تسبّوا ما يعبده المشركون.

( وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ ) (٧) .

____________________

(١) الشعراء ٢٦: ٤.

(٢) الكشّاف، ج٣، ص٢٩٩.

(٣) الإسراء ١٧: ٥٧.

(٤) إعراب القرآن المنسوب إلى الزجّاج، ص٩٠٣ - ٩٠٤.

(٥) الأعراف ٧: ١٩٤ و١٩٥.

(٦) الأنعام ٦: ١٠٨.

(٧) الرعد ١٣: ١٤.

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578