شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم10%

شبهات وردود حول القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 578

شبهات وردود حول القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 578 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 297620 / تحميل: 13677
الحجم الحجم الحجم
شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

بين يدي محاوراته مع عثمان

لقد قرأنا في الجزء الثاني من الحلقة الأولى من هذه الموسوعة كثيراً من أخبار ابن عباس في أيام عثمان ، ولمّا كان حال عثمان غير خفيّ في التاريخ ، بالرغم من موضوعات زادت في تشويهه بأكاذيب أموية ، لكنها لم تصنع شيئاً ، فبقيت حال عثمان كما هي معلومة نسباً وحسباً وصحبةً ومصاهرةً وحكومةً وممارسةً وضلوعاً وإنصياعاً لبني أمية ، ما سببّت نقمة الناس عليه ، لأمور صدرت منه ومنهم ما كان ينبغى لمثله في سنّه وشأنه أن تنسب إليه فيؤاخذ عليها حتى أودت بحياته ، فكان كما قال عنه الدكتور طه حسين في كتابه ( الفتنة الكبرى ) :

( فأمّا عثمان فمهما يكن إعتذار أهل السنة والمعتزلة عنه ، فإنّه قد أسرف وترك عمّاله يسرفون في العُنف بالرعية ، ضرباً ونفياً وحبساً ، وهو نفسه قد ضرب أو أمر بضرب رجلين من أعلام أصحاب النبيّ ، فضرب عمار بن ياسر حتى أصابه الفتق ، وأمر من أخرج عبد الله بن مسعود من مسجد النبيّ إخراجاً عنيفاً ، حتى كسر بعض أضلاعه ).

وقال أيضاً : ( فهذه السياسة العنيفة التي تسلط الخليفة وعماله على أبشار الناس وأشعارهم وعلى أمنهم وحريتهم ليست من سيرة النبيّ ولا من سيرة الشيخين في شيء ).

١٤١

وقال أيضاً : ( والسياسة المالية التي أصطنعها عثمان منذ نهض بالخلافة كلّها موضوع النقمة والإنكار من أكثر الذين عاصروا عثمان ، ومن أكثر الرواة والمؤرخين ).

وقال أيضاً : ( ولو سار عثمان في الأموال العامّة سيرة عمر فلم ينفق المال إلاّ بحقه ، لجنّب نفسه وجنّب المسلمين شراً عظيماً ، ولكان من الممكن أن ينشئ الإسلام للإنسانية نظاماً سياسياً وإجتماعياً صالحاً يجنبّها كثيراً من الإضطراب الذي اضطرت إليه ، والفساد الذي تورطت فيه )(1) .

أقول : وعلى نحو ما مرّ من أقوال طه حسين نجد أقوال آخرين من الباحثين المحدثين ، ولا بدع لو التقت أراؤهم في نقد أفعاله وأختلفت أقوالهم في توجيه سياسته والتي رأوها جميعاً سياسية أموية رعناء جلبت له وللأمة كثيراً من الشر ، وكثرّت عليه أسباب النقمة ، بداية من المسلمين الصحابة في المدينة ، وسرعان ما أستطار شررها إلى بقية الأمصار ، فكثرت وفود الساخطين من العراق ومصر وغيرهما والتقوا بالصحابة فتفاقم الخطب.

وكانت شدّة المحنة والمعاناة عندما فزع الثوار إلى الإمام أمير المؤمنين عليه السلام يشكون حالهم ، فيسارع هو إلى عثمان ناصحاً في محاولات إصلاح بين الطرفين ، لكن عثمان لم يستجب للنصح ، بل وزاد في تعقيد الأمور إتهامه الإمام عليه السلام ما دام كثير من الثوار اتخذوه لجأً ، يرجون إغاثتهم

____________________

(1) الفتنة الكبرى 1 / 190 ـ 198.

١٤٢

من سوء أفعال عثمان وبطانته ، وكلّما دافع الإمام عليه السلام عن عثمان بالحسنى إزداد تصلّب الساخطين ، فآثر الإعتزال ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ، غير أنّ عثمان وبتحريض من بني أمية كان يزداد غضباً وحنقاً عليه ، ممّا أضطر العباس بن عبد المطلب ومن بعده ابنه عبد الله حبر الأمة القيام بمحاولات إصلاحية أيضاً ولتهدئة الخواطر ، عسى أن تهدأ الفورة وتسكن الثورة ، ولم تنجح تلك المساعي ، لأنّ عثمان كان إذن شرّ يسمع لما يقوله له مروان وبني أمية.

ومع كثرة الشواهد على المساعي الإصلاحية التي بذلها الإمام عليه السلام وعمه العباس وابنه عبد الله ، كان عثمان يتهمهم في النصح ، مع أنّه لو أنصفهم لوجدهم أحرص الناس عليه وأرعى ذماماً له للقرابة النسبية منه ، وهذا ما سنقرأ بعضاً منه في مواقف العباس وابنه عبد الله بن عباس في إصلاح ذات البين ، لكن عثمان ـ كما قلناـ كان مغلوباً على أمره من قبل بني أمية ، وفي قلوبهم جميعاً من الحقد والشنآن على بني هاشم عموماً وعلى الإمام أمير المؤمنين عليه السلام خصوصاً ، ممّا طغى على لسان عثمان ، فأظهرته فلتات اللسان عن بعض ما يضمره الجنان من الحقد والشنآن ، فيقول للإمام عليه السلام مغاضباً وعاتباً : ( ما ذنبي إليك إذا لم تحبّك قريش وقد قتلت منهم سبعين ترد آنافهم الماء قبل شفاهم ) ، وفي لفظ آخر : ( كأن أعناقهم أباريق فضة ) ، ونحو هذا. ولقد همّ مرّة ـ وربما أكثر ـ بأن ينفي الإمام عليه السلام من المدينة كما صنع مع أبي ذر ، كما ستأتي الإشارة إليه في مواقف العباس الإصلاحية والإستصلاحية.

١٤٣

وإلآن إلى قراءة بعضها ، ولنبدأ بما رواه الطبري في تاريخه :

( بسند عن حمران بن أبان ، قال : أرسلني عثمان إلى العباس بعدما بويع فدعوته له ، فقال : مالك تعبدتني ـ ( تبعّدتني ظ )؟ قال : لم أكن قط أحوج إليك مني اليوم. قال ـ العباس ـ : الزم خمساً لا تنازعك الأمة خزائمها ما لزمتها. قال : وما هي؟ قال : الصبر عن القتل ، والتحبب ، والصفح ، والمدارات ، وكتمان السر )(1) .

ولكن عثمان لم يلتزم بنصيحة العباس ، بل استمر على حاله ، فاتسع الخرق على الراقع ، حتى عجز العباس من رأب الصدع ، مع ما كان فيه من حنكة رأي وجودة تدبير ، حتى قيل له داهية قريش ، ولمّا رأى تسافل الحال ونذر الشر بدت تلوح في الأفق ، فصار يدعو ربّه أن يسبق به أجله قبل وقوع الكارثة التي بدت بوادرها تنذر بشر مستطير فإستجاب له ربّه ، فما كانت إلاّ جمعة حتى لقي ربّه.

أمّا عن مواقفه في نصيحة عثمان في كفّ أذاه عن الإمام عليه السلام وعن الأمّة فهي متعددة ، أذكر بعضها :

فمنها ما ذكر ابن أبي الحديد في شرح النهج ، قال :

( روى الزبير بن بكار في كتابه الموفقيات ، عن عبد الله بن عباس ، قال : ما سمعت من أبي شيئاً قط في أمر عثمان يلومه فيه ولا يعذره ، ولا سألته عن شيء من ذلك مخافة أن أهجم منه على ما لا يوافقه ، فأنا عنده

____________________

(1) تاريخ الطبري 4 / 400 ط دار المعارف بمصر.

١٤٤

ليلة ونحن نتعشى إذ قيل هذا أمير المؤمنين عثمان بالباب ، فقال : أئذنوا له ، فدخل فأوسع له على فراشه وأصاب من العشاء معه ، فلمّا رفع قام من كان هناك وثبتّ أنا.

فحمد الله عثمان وأثنى عليه ، ثمّ قال : أمّا بعد يا خال فإنّي قد جئتك أستعذرك من ابن أخيك عليّ سبّني ، وشهر أمري ، وقطع رحمي ، وطعن في ديني ، وإنّي أعوذ بالله منكم يا بني عبد المطلب ، إن كان لكم حقّ تزعمون أنّكم غُلبتم عليه فقد تركتموه في يدي مَن فعل ذلك بكم ، وأنا أقرب إليكم رحماً منه ، وما لمت منكم أحداً إلاّ عليّاً ، ولقد دعيت أن أبسط عليه فتركته لله والرحم وأنا أخاف أن لا يتركني فلا أتركه.

قال ابن عباس : فحمد أبي الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : أمّا بعد يا بن أختي فإن كنت لا تحمد عليّاً لنفسك فإنّي لا أحمدك لعليّ ، وما عليّ وحده قال فيك ، بل غيره ، فلو أنّك اتهمت نفسك للناس أتهم الناس أنفسهم لك ، ولو أنّك نزلت ممّا رقيت وأرتقوا ممّا نزلوا فأخذت منهم وأخذوا منك ما كان بذلك بأس.

قال عثمان : فذلك إليك يا خال وأنت بيني وبينهم.

قال : أفأذكر لهم ذلك عنك؟

قال : نعم ، وأنصرف.

فما لبثنا أن قيل : هذا أمير المؤمنين قد رجع بالباب ، قال أبي : أئذنوا له ، فدخل فقام قائماً ولم يجلس وقال : لا تعجل يا خال حتى أوذنك. فنظرنا فإذا مروان بن الحكم كان جالساً بالباب ينتظره حتى خرج فهو

١٤٥

الذي ثناه عن رأيه الأوّل.

فأقبل عليَّ أبي وقال : يا بني ما إلى هذا من أمره شيء. ثمّ قال : يا بني أملك عليك لسانك حتى ترى ما لابدّ منه. ثمّ رفع يديه فقال : اللّهمّ اسبق بي ما لا خير لي في إدراكه ، فما مرّت جمعة حتى مات رحمه الله )(1) .

ومنها ما رواه البلاذري في ( أنساب الأشراف ) ، بإسناده عن صهيب مولى العباس ، قال :

( إنّ العباس قال لعثمان : أذكرّك الله في أمر ابن عمك وابن خالك وصهرك ، وصاحبك مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقد بلغني أنّك تريد أن تقوم به وبأصحابه.

فقال : أوّل ما أجيبك به أنّي قد شفعتك ، إنّ عليّاً لو شاء لم يكن أحد عندي إلاّ دونه ، ولكن أبى إلاّ رأيه. ثم قال لعليّ مثل قوله لعثمان.

فقال عليّ : لو أمرني عثمان أن أخرج من داري لخرجت )(2) .

وهذا رواه ابن عساكر أيضاً في ( تاريخ مدينة دمشق ) ، بسنده عن صهيب مولى العباس ، وجاء في آخر قول الإمام عليه السلام : ( فأمّا أداهن أن لا

____________________

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 2 / 397.

وهذه الواقعة غير التي سبقتها وان عاصرتها زماناً ففي الاُولى كانت الشكوى في دار عثمان والعباس حاضر عنده. أمّا هذه فهي في دار العباس وعثمان حاضر عنده ، ولا مانع من تعدّدهما إذا عرفنا تخبّط السياسة يومئذ في معالجة مشاكل الناس وأستحواذ مروان على عثمان في تدبير أُموره.

(2) أنساب الأشراف 1 / 498 ـ 499.

١٤٦

يقام بكتاب الله فلم أكن لأفعل )(1) .

وجاء الخبر في ( التعديل والتجريح ) مسنداً عن سهيل مولى العباس يقول : ( أرسلني العباس إلى عثمان أدعوه ، فأتاه فقال : أفلح الوجه أبا الفضل ، قال : ووجهك يا أمير المؤمنين. قال : عليّ ابن عمك وابن عمتك وصهرك وأخوك في دينك وصاحبك مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبلغني أنّك تريد أن تقوم به وبأصحابه. فقال : لو شاء عليّ ما كان دونه أحد ، ثم أرسلني إلى عليّ ، فقال : إنّ عثمان ابن عمك وابن عمتك وأخوك في دينك وصاحبك مع رسول صلى الله عليه وآله وسلم وولي بيعتك ، فقال : لو أمرتني أن أخرج من داري لفعلت )(2) .

ومنها ما رواه البلاذري وغيره ، واللفظ له قال :

( حدثني عباس بن هشام ، عن أبيه ، عمّن حدثه ، عن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عباس : إنّ عثمان شكا عليّاً إلى العباس فقال له : يا خال إنّ عليّاً قد قطع رحمي ، وألّب الناس عليَّ ، والله لئن كنتم يا بني عبد المطلب أقررتم هذا الأمر في أيدي بني تيمّ وعدي ، فبنو عبد مناف أحق أن لا تنازعوهم فيه ولا تحسدوهم عليه.

قال عبد الله بن العباس : فأطرق أبي طويلاً ، ثم قال : يا بن أخت لئن كنت لا تحمد عليّاً فما نحمدك له ، وأن حقك في القرابة والإمامة للحق الذي لا يُدفع ولا يجحد ، فلو رقيت فيما تطأطأ ، أو تطأطأت فيما رقي ،

____________________

(1) تاريخ مدينة دمشق 39 / 264 ط دار الفكر بيروت.

(2) التعديل والتجريح 3 / 1007.

١٤٧

تقاربتهما ، وكان ذلك أوصل وأجمل.

قال : قد صيّرت الأمر عن ذلك إليك ، فقرّب الأمر بيننا.

قال : فلمّا خرجنا من عنده دخل عليه مروان فأزاله عن رأيه ، فما لبثنا أن جاء أبي رسول عثمان بالرجوع إليه ، فلمّا رجع ، قال : يا خال أحبّ أن تؤخر النظر في الأمر الذي ألقيت إليك حتى أرى من رأي.

فخرج أبي من عنده ثم التفت إلى فقال : يا بني ليس إلى هذا الرجل من أمره شيء ، ثم قال : اللهم أسبق بي الفتن ، ولا تبقني إلى ما لا خير لي في البقاء إليه ، فما كانت جمعة حتى هلك )(1) .

ويبدو لي تعدّد الوقائع مع تقارب الزمان بينهما ، ففي الرواية الأولى كانت الشكاة في دار العباس وقد أتاه عثمان بنفسه ليلة وأصاب معه من عشائه ثم نفث شكاته ، وفي الرواية الثانية التي رواها البلاذري بسنده عن ابن عباس أنّ التشاكي كان في دار عثمان ، وفي خبر التعديل والتجريح أنّ العباس أرسل مولاه سهيل فاستدعى عثمان إلى بيته ونصحه باستعمال الرفق واللين مع عليّ عليه السلام ، وفي كلّ الروايات قرأنا طرحاً إستصلاحياً يكاد النجاح حليفه ، لكن صراحة استحواذ مروان على عثمان في تخبطه السياسي فلم يدع مجالاً للعباس ولا لغيره أن يصلح بينه وبين الناس لمعالجة المشاكل العالقة يومئذ.

ويبدو لي أنّ العباس يأس من إصلاح ما أفسده بنو أمية من أمر

____________________

(1) أنساب الأشراف 1 / ق4 / 498 ـ 499.

١٤٨

عثمان ، وتوقع المزيد من طوارق الحدثان تجتاح المجتمع الإسلامي في المدينة وغيرها ، ولذلك دعا أن يسبقها أجله ، فمرض فكان العوّاد يعودونه ، فكان آخر نصائحه لعثمان حين دخل عليه في مرضه الذي مات فيه :

( فقال ـ عثمان ـ : أوصني بما ينفعني ( الله ) به.

فقال : إلزم ثلاث خصال خواص تصيب بها ثلاث عوام ، فالخواص : ترك مصانعة الناس في الحق ، وسلامة القلب ، وحفظ اللسان ، تُصب بها سُرور الرعية ، وسلامة الدين ، ورضا الربّ )(1) .

ولشدّة اهتمامه بوحدة كلمة المسلمين وصلاح ذات البين كانت وصاياه لعثمان ، وكذلك كانت وصيته للإمام أمير المؤمنين عليه السلام أيضاً ، وهي آخر وصية صدرت منه ، تكشف عن بُعد نظر في قراءة المستقبل المظلم الذي ستنتصر فيه قوى الشر على وحدة الخير ، ويكون عليّ عليه السلام ضحيتها ، لذلك كانت نظرة العباس تفيض بالألم على ما أصاب بني هاشم من تحديات وإحباطات سابقاً ، مضافاً إلى ما سيلاقونه لاحقاً من عقبات ومعادات من أعدائهم مع خذلان من أنصارهم ، إلاّ من رحم الله فحفظ فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقليلٌ ما هم.

كلّ هذا كان عند العباس بثاقب نظره رؤيا العين ، فهو إذ يوصي الإمام عليه السلام بتجنب المواجهة مع عثمان خشية عليه من أن يعصب به كلّ

____________________

(1) أخبار الدولة العباسية / 21.

١٤٩

الإضطغان القرشي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للدماء التي أُريقت في سبيل الإسلام ، من قريش وغيرهم ، والعباس كان يعرف كراهية قريش لبني هاشم منذ عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد مرّت بنا شواهد على ذلك.

والآن إلى قراءة وصيته لابن أخيه الإمام أمير المؤمنين عليه السلام :

وصية العباس للإمام عليه السلام :

لقد سبق ذكر الوصية عند ذكر وفاة العباس ، إلاّ أنّ ثمة تفاوت وتعقيب وتذنيب اقتضى ذكرها ثانياً.

قال ابن أبي الحديد : ( قرأت في كتاب صنفه أبو حيان التوحيدي في تقريظ الجاحظ ، قال : نقلت من خط الصولي : قال الجاحظ : إنّ العباس بن عبد المطلب أوصى عليّ بن أبي طالب عليه السلام في علته التي مات فيها ، فقال : أي بُنيّ إنّي مشفٍ على الظعن عن الدنيا إلى الله الذي فاقتي إلى عفوه وتجاوزه أكثر من حاجتي إلى ما أنصحك فيه وأشير عليك به ، ولكن العِرق نبوض ، والرحم عروض ، وإذا قضيت حق العمومة فلا أبالي بعد ، إنّ هذا الرجل ـ يعني عثمان ـ قد جاءني مراراً بحديثك ، وناظرني ملايناً ومخاشناً في أمرك ، ولم أجد عليك إلاّ مثل ما أجد منك عليه ، ولا رأيت منه لك إلاّ مثل ما أجد منك له ، ولست تؤتى من قلّة علم ولكن من قلّة قبول ، ومع هذا كلّه فالرأي الذي أودّعك به أن تمسك عنه لسانك ويدك ، وهمزك وغمزك ، فإنّه لا يبدؤك ما لم تبدؤه ، ولا يجيبك عما لم يبلغه ،

١٥٠

وأنت المتجني وهو المتأني ، وأنت العائب وهو الصامت ، فإن قلت : كيف هذا وقد جلس مجلساً أنا به أحق ، فقد قاربت ولكن ذاك بما كسبت يداك ، ونكص عنه عقباك ، لأنّك بالأمس الأدنى هرولتَ إليهم ، تظن أنّهم يُحلّون جيدك ويُختمّون أصبعك ، ويطأون عقبك ، ويرون الرشد بك ، ويقولون لا بد لنا منك ، ولا معدل لنا عنك ، وكان هذا من هفواتك الكُبر ، وهناتك التي ليس لك منها عذر ، والآن بعد ما ثللت عرشك بيدك ، ونبذت رأي عمك في البيداء ، يتدهده(1) في السافياء(2) ، خذ بأحزم ممّا يتوضح به وجه الأمر ، لا تشارّ هذا الرجل ولا تماره ، ولا يبلغه عنك ما يحنقه عليك ، فإنّه إن كاشفك أصاب أنصاراً ، وإن كاشفته لم تر إلا ضِراراً ، ولم تستلج إلاّ عثاراً ، واعرف مَن هو بالشام له ، وَمَن ههنا حوله ، ومن يطيع أمره ويمتثل قوله ، ولا تغترر بناس يطيفون بك ، ويدّعون الحنوّ عليك والحبّ لك ، فإنّهم بين مولى جاهل ، وصاحب متمنّ ، وجليس يرعى العين ويبتدر المحضر ، ولو ظن الناس بك ما تظن بنفسك لكان الأمر لك والزمام في يدك ، ولكن هذا حديث يوم مرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فات ، ثم حرم الكلام فيه حين مات ، فعليك الآن بالعزوف عن شيء عرضك له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يتم ، وتصدّيت له مرّة بعد مرّة فلم يستقم ، ومن ساور الدهر غُلِب ، ومن حرص على ممنوع تعب ، فعلى ذلك فقد أوصيت عبد الله بطاعتك ، وبعثته على متابعتك ، وأوجرته محبتك ، ووجدت عنده من ذلك ظني به لك ، لا

____________________

(1) يتدهده : يتدحرج.

(2) السافياء : الريح التي تحمل التراب.

١٥١

توتر قوسك إلاّ بعد الثقة بها ، وإذا أعجبتك فأنظر إلى سيتها ، ثم لا تفوّق إلاّ بعد العلم ، ولا تغرق في النزع إلاّ لتصيب ، وأنظر لا تطرف يمينك عينَك ، ولا تجنِ شمالك شينك ، ودّعني بآيات من آخر سورة الكهف(1) ، وقم إذا بدا لك )(2) .

تعقيب ابن أبي الحديد على الوصية :

قال ابن أبي الحديد بعد ذكره الوصية المتقدمة : ( قلت : الناس يستحسنون رأي العباس لعليّ عليه السلام في أن لا يدخل في أصحاب الشورى ، وأمّا أنّا فانّي أستحسنه إن قصد به معنى ، ولا أستحسنه إن قصد به معنى آخر ، وذلك لأنّه إن أجري بهذا الرأي إلى ترفّعه عليهم وعلوّ قدره عن أن يكون مماثلاً لهم ، أو أجري به إلى زهده في الإمارة ورغبته عن الولاية ، فكلّ هذا رأي حسن وصوابه ، وإن كان منزعه في ذلك إلى أنّك إن تركت الدخول معهم وانفردت بنفسك في دارك أو خرجت عن المدينة إلى بعض أموالك فإنّهم يطلبونك ويضربون إليك آباط الإبل حتى يولّوك الخلافة ، وهذا هو الظاهر من كلامه ، فليس هذا الرأي عندي بمستحسن ،

____________________

(1) هي قوله تعالى :( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً _ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً _ قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً _ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدا ً) الكهف / 107 ـ 110.

(2) شرح النهج لابن أبي الحديد 3 / 282 ط مصر الاُولى.

١٥٢

لأنّه لو فعل لولّوا عثمان أو واحداً منهم غيره ، ولم يكن عندهم من الرغبة إليه عليه السلام ما يبعثهم على طلبه ، بل كان تأخره عنهم قرّة أعينهم ، وواقعاً بإيثارهم ، فإنّ قريشاً كلّها كانت تبغضه أشد البغض ، ولو عمّر عمر نوح وتوصل إلى الخلافة بجميع أنواع التوصل كالزهد فيها تارة ، والمناشدة بفضائله تارة ، وبما فعله في ابتداء الأمر من إخراج زوجته وأطفاله ليلاً إلى بيوت الأنصار ، وبما اعتمده إذ ذاك من تخلّفه في بيته واظهار أنّه قد عكف على جمع القرآن ، وبسائر أنواع الحيل فيها لم تحصل له إلاّ بتجريد السيف كما فعله في آخر الأمر.

ولست ألوم العرب لا سيما قريشاً في بغضها له وانحرافها عنه ، فإنّه وترها وسفك دماءها ، وكشف القناع في منابذتها ، ونفوس العرب وأكبادها كما تعلم ، وليس الإسلام بمانع من بقاء الأحقاد في النفوس ، كما نشاهد اليوم عياناً ، والناس كالناس الأول ، والطبائع واحدة ، فأحسب أنّك كنت من سنتين أو ثلاث جاهلياً أو من بعض الروم وقد قتل واحد من المسلمين ابنك أو أخاك ثم أسلمت ، أكان اسلامك يُذهب عنك ما تجده من بغض ذلك القاتل وشنآنه ، كلا إنّ ذلك لغير ذاهب ، هذا إذا كان الإسلام صحيحاً والعقيدة محققة لا كإسلام كثير من العرب ، فبعضهم تقليداً ، وبعضهم للطمع والكسب ، وبعضهم خوفاً من السيف ، وبعضهم على طريق الحمية والإنتصار ، أو لعداوة قوم آخرين من أضداد الإسلام وأعدائه.

١٥٣

واعلم أنّ كلّ دم أراقه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسيف عليّ عليه السلام وبسيف غيره ، فإنّ العرب بعد وفاته عليه السلام عصبت تلك الدماء بعليّ بن أبي طالب عليه السلام وحده ، لأنّه لم يكن في رهطه مَن يستحق في شرعهم وسنتهم وعادتهم أن يعصب به تلك الدماء إلاّ بعليّ وحده ، وهذه عادة العرب إذا قتل منها قتلى طالبت بتلك الدماء القاتل ، فإن مات أو تعذرت عليها مطالبته طالبت بها أمثل الناس من أهله. لمّا قتل قوم من بني تميم أخاً لعمرو بن هند ، قال بعض أعدائه يحرض عمراً عليهم :

من مبلغ عمراً بأن المرء لم يخلق صُباره

وحوادث الأيام لايبقى لها إلاّ لحجاره

ها إنّ عجزة أمه بالسفح أسفل من أواره

تسفي الرياح خلال كشيحه وقد سلبوا أزاره

فاقتل زرارة لا أرى في القوم أمثل من زرارة

أن يقتل زرارة بن عدس رئيس بني تميم ، ولم يكن قاتلاً أخا الملك ولا حاضراً قتله. ومن نظر في أيام العرب ووقائعها ومقاتلها عرف ما ذكرناه )(1) .

____________________

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 3 / 283 ط الأولى بمصر.

١٥٤

محاورات ابن عباس مع عثمان

بين يدي المحاورة الأولى :

نذكر ما روى الواقدي في كتاب ( الشورى ) عن ابن عباس رحمه الله قال :

( شهدت عتاب عثمان لعليّ عليه السلام يوماً فقال له في بعض ما قاله : نشدتك الله أن تفتح للفرقة باباً ، فلعهدي بك وأنت تطيع عتيقاً وابن الخطاب طاعتك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولستُ بدون واحد منهما ، وأنا أمسّ بك رحماً وأقرب إليك صهراً ، فإن كنت تزعم أنّ هذا الأمر جعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لك ، فقد رأيناك حين توفي نازعت ثمّ أقررت ، فإن كانا لم يركبا من الأمر جَداً فكيف أذعنت لهما بالبيعة وبخعت بالطاعة ، وإن كانا أحسنا فيما وليّا ولم أقصر عنهما في ديني وحسبي وقرابتي فكن لي كما كنت لهما.

فقال عليّ عليه السلام : أمّا الفرقة ، فمعاذ الله أن أفتح لها باباً وأسهّل إليها سبيلاً ، ولكني أنهاك عمّا ينهاك الله ورسوله عنه ، وأهديك إلى رشدك.

وأمّا عتيق وابن الخطاب ، فإن كانا أخذا ما جعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لي فأنت أعلم بذلك والمسلمون ، وما لي ولهذا الأمر وقد تركته منذ حين. فأمّا أن لا يكون حقي بل المسلمون فيه شرع ، فقد أصاب السهم الثغرة ،

١٥٥

وأمّا أن يكون حقي دونهم ، فقد تركته لهم طبت به نفساً ، ونفضت يدي عنه استصلاحاً.

وأمّا التسوية بينك وبينهما ، فلست كأحدهما ، إنّهما وليا هذا الأمر فطلقا أنفسهما وأهلهما عنه ، وعُمتَ فيه وقومك عوم السابح في اللجة ، فارجع إلى الله أبا عمرو وأنظر هل بقي من عمرك إلاّ كظمء الحمار ، فحتى متى وإلى متى؟ ألا تنهى سفهاء بني أمية عن أعراض المسلمين وأبشارهم وأموالهم؟ والله لو ظلم عامل من عمالك حيث تغرب الشمس لكان أثمه مشتركاً بينه وبينك.

قال ابن عباس : فقال عثمان : لك العتبى ، وافعل وأعزل من عمالي كلّ من تكرهه ويكرهه المسلمون.

ثمّ أفترقا ، فصدّه مروان بن الحكم عن ذلك ، وقال : يجتريء عليك الناس فلا تعزل أحداً منهم )(1) .

المحاورة الثانية :

روى الزبير بن بكار في كتاب ( الموفقيات ) بسنده عن ابن عباس S قال : ( صليت العصر يوماً ثمّ خرجت ، فإذا أنا بعثمان في أيام خلافته في بعض أزقة المدينة وحده ، فأتيته إجلالاً وتوقيراً لمكانه ، فقال لي : هل رأيت عليّاً؟

____________________

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 2 / 398 ط مصر الأولى.

١٥٦

قلت : خلّفته في المسجد ، فإن لم يكن الآن فيه فهو في منزله.

قال : أمّا منزله فليس فيه ، فابغه لنا في المسجد ، فتوجهنا إلى المسجد ، وإذا عليّ عليه السلام يخرج منه.

ـ قال ابن عباس : وقد كنت أمس ذلك اليوم عند عليّ فذكر عثمان وتجرّمه عليه ، وقال : أما والله يا بن عباس إنّ من دوائه لقطع كلامه وترك لقائه. فقلت له : يرحمك الله كيف لك بهذا ، فإن تركته ثمّ أرسل إليك فما أنت صانع؟ قال : أعتلّ وأعتلّ فمن يضرّني؟ قال : لا أحدـ

قال ابن عباس : فلمّا تراءينا له وهو خارج من المسجد ظهر منه من الالتفات والطلب للإنصراف ما أستبان لعثمان ، فنظر إليّ عثمان ، وقال : يا ابن عباس أما ترى ابن خالنا يكره لقاءنا؟

فقلت : ولِمَ وحقك ألزم وهو بالفضل أعلم.

فلمّا تقاربا رماه عثمان بالسلام فردّ عليه. فقال عثمان : إن تدخل فإياك أردنا ، وإن تمض فإياك طلبنا. فقال عليّ : أيّ ذلك أحببت. قال : تدخل ، فدخلا وأخذ عثمان بيده فأهوى به إلى القبلة فقصر عنها وجلس قبالتها ، فجلس عثمان إلى جانبه ، فنكصت عنهما ، فدعواني جميعاً فأتيتهما.

فحمد الله عثمان وأثنى عليه وصلّى على رسوله ، ثمّ قال : أمّا بعد يا ابنّي خاليّ وابنيّ عمّي فإذ جمعتكما في النداء فأستجمعكما في الشكاية على رضائي عن أحدكما ووجدي على الآخر ، إنّي أستعذركما من أنفسكما وأسألكما فياتكما وأستوهبكما رجعتكما ، فوالله لو غالبني الناس

١٥٧

ما أنتصرت إلاّ بكما ، ولو تهضّموني ما تعززت إلاّ بعزّكما ، ولقد طال هذا الأمر بيننا حتى تخوّفت أن يجوز قدره ويعظم الخطر فيه. ولقد هاجني العدو عليكما وأغراني بكما ، فمنعني الله والرحم ممّا أراد ، وقد خلونا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإلى جانب قبره ، وقد أحببت أن تظهرا لي رأيكما وما تنطويان لي عليه وتصدقا ، فإنّ الصدق أنجى وأسلم ، وأستغفر الله لي ولكما.

قال ابن عباس : فأطرق عليّ عليه السلام وأطرقت معه طويلاً. أمّا أنا فأجللته أن أتكلّم قبله ، وأمّا هو فأراد أن أجيب عنّي وعنه ؛ ثمّ قلت له : أتتكلم أم أتكلم أنا عنك؟ قال : بل تكلم عني وعنك.

فحمدت الله وأثنيت عليه ، وصلّيت على رسوله ، ثمّ قلت : أمّا بعد يا ابن عمنا وعمتنا ، فقد سمعنا كلامك لنا وخلطك في الشكاية بيننا على رضاك ـ زعمت ـ عن أحدنا ووجدك على الآخر ، وسنفعل في ذلك فنذمّك ونحمدك ، اقتداء منك بفعلك فينا ، فإنا نذمّ مثل تهمتك إيانا على ما اتهمتنا عليه بلا ثقة إلاّ ظنّاً ، ونحمد منك غير ذلك من مخالفتك عشيرتك ، ثمّ نستعذرك من نفسك استعذارك إيانا من أنفسنا ، ونستوهبك فياتك استيهابك إيانا فيأتنا ، ونسألك رجعتك مسألتك إيانا رجعتنا ، فإنّا معاً أيّما حمدت وذممت منّا كمثلك في أمر نفسك ، ليس بيننا فرق ولا إختلاف ، بل كلانا شريك صاحبه في رأيه وقوله ، فوالله ما تعلمنا غير معذّرين فيما بيننا وبينك ، ولا تعرفنا غير قانتين عليك ولا تجدنا غير راجعين إليك ،

١٥٨

فنحن نسألك من نفسك مثل ما سألتنا من أنفسنا.

وأمّا قولك : لو غالبني الناس ما أنتصرت إلاّ بكما ، أو تهضّموني ما تعزّزت إلاّ بعزّكما ، فأين بنا وبك عن ذلك ونحن وأنت كما قال أخو كنانة :

بدا بحتر ما رام نال وإن يرم

نخض دونه غمرا من الغر رائمه

لنا ولهم منا ومنهم على العدى

مراتب عزّ مصعدات سلالمه

وأمّا قولك في هيج العدو إياك وإغرائه لك بنا ، فوالله ما أتاك العدو من ذلك شيئاً إلاّ وقد أتانا بأعظم منه ، فمنعناه ما أراد ما منعك من مراقبة الله والرحم ، وما أبقيت أنت ونحن إلاّ على أدياننا وأعراضنا ومروآتنا ، ولقد لعمري طال بنا وبك هذا الأمر حتى تخوّفنا منه على أنفسنا وراقبنا منه ما راقبت.

وأمّا مساءلتك إيانا عن رأينا فيك وما ننطوي عليه لك ، فإنّا نخبرك أنّ ذلك إلى ما تحبّ لا يعلم واحد منّا من صاحبه إلاّ ذلك ، ولا يقبل منه غيره ، وكلانا ضامن على صاحبه ذلك وكفيل به ، وقد برّأت أحدنا وزكّيته وأنطقت الآخر وأسكته ، وليس السقيم منّا ممّا كرهت بأنطق من البري فيما ذكرت ، ولا البري منّا ممّا سخطت بأظهر من السقيم فيما وصفت ، فإمّا جمعتنا في الرضا وإمّا جمعتنا في السخط ، لنجازيك بمثل ما تفعل بنا في ذلك مكايلة الصاع بالصاع ، فقد أعلمناك رأينا وأظهرنا لك ذات أنفسنا

١٥٩

وصدقناك ، والصدق ـ كما ذكرت ـ أنجى وأسلم ، فأجب إلى ما دعوت إليه ، وأجلل عن النقص والغدر مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وموضع قبره ، وأصدق تنج وتسلم ، ونستغفر الله لنا ولك.

قال ابن عباس : فنظر إليّ عليّ عليه السلام نظر هيبة ، وقال : دعه حتى يبلغ رضاه فيما هو فيه. فوالله لو ظهرت له قلوبنا وبدت له سرائرنا حتى رآها بعينه كما يسمع الخبر عنها بإذنه ما زال متجرّماً منتقماً ، والله ما أنا ملقى على وضمة ، وإنّي لمانع ما وراء ظهري ، وانّ هذا الكلام لمخالفة منه وسوء عشرة.

فقال عثمان : مهلاً أبا حسن فوالله إنّك لتعلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصفني بغير ذلك يوم يقول وأنت عنده : إنّ من أصحابي لقوماً سالمين لهم وانّ عثمان لمنهم ، إنّه لأحسنهم بهم ظنّاً ، وأنصحهم لهم حبّاً.

فقال عليّ عليه السلام : فصدّق قوله صلى الله عليه وآله وسلم بفعلك ، وخالف ما أنت الآن عليه ، فقد قيل لك ما سمعت وهو كاف إن قبلت.

قال عثمان : تثق يا أبا الحسن؟

قال : نعم أثق ولا أظنك فاعلاً.

قال عثمان : قد وثقت وأنت ممن لا يخفر صاحبه ولا يكذّب لقيله.

قال ابن عباس : فأخذت بأيديهما حتى تصافحا وتصالحا وتمازحا ، ونهضت عنهما فتشاورا وتآمرا وتذاكرا ، ثمّ افترقا ، فوالله ما مرّت ثالثة حتى

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ) (١) .

( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ) (٢) .

( قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ) (٣) .

إلى غيرها من آياتٍ جرى فيها الوصف مجرى العقلاء، لمـّا اُضمر التشبيه بهم في النفس، من باب الاستعارة التخييليّة أو الاستعارة بالكناية، على حدّ تعبيرهم.

مُثنّى يُراد به الجماعات

كثيراً مّا تُثنّى ألفاظٌ يُراد بالواحد منها الجمع دون الفرد الحقيقي؛ ولذلك قد يعود عليه بضمير الجمع نظراً إلى المعنى، فاللفظ وإن كان مُثنّى لكن يُراد به الجمعان، وهما معاً جمعٌ لا محالة.

من ذلك قوله تعالى: ( هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ) حيث المراد بالخصمَين جماعة الكفّار وجماعة المؤمنين، حيث التخاصم بين الفريقين قائمٌ على ساقٍ، ولذلك تعقّبت الآية بقوله: ( فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ... إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ) (٤) .

قال الطبرسي: فالفِرَق الكافرة خصمٌ، والمؤمنون خصمٌ، وقد ذُكروا فيما قبلُ (٥) .

وهكذا خطابات الجمع الموجّهة إلى آدم وحوّاء يُراد بها: آدم وحوّاء وذريّتهما؛ حيث هبوطهما من الجنّة إلى الأرض هبوط ذرّيّتهما الذين سيولدون منهما أيضاً، فالخطاب مع الجمع - جماعة بني الإنسان - وليس آدم وحوّاء وحدهما.

____________________

(١) الأعراف ٧: ١٩٧.

(٢) فاطر ٣٥: ١٣ و١٤.

(٣) الشعراء ٢٦: ٧١ - ٧٣.

(٤) الحجّ ٢٢: ١٩ - ٢٤.

(٥) مجمع البيان، ج٧، ص٧٧.

٤٠١

بدليل ذيل الآيات: ( قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (١) ، ( قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ) (٢) .

وقد وَهِم مَن زَعم أنّ الخطاب يشترك فيه إبليس أو الحيّة أو غيرهما؛ حيث لا تناسب له مع سياق الآيات (٣) .

* * *

قوله تعالى: ( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ) (٤) ، زَعَموا فيه تهافتاً، وكان الوجه أنْ يُقال: اقتتلا، أو بينهم، فجمع الضمير ثمّ تثنيته تهافت (٥) .

لكن الجمع إنّما هو باعتبار أنّ الاقتتال يقع بين آحاد المؤمنين مِن كلّ طائفة، أمّا التصالح فإنّما هو بين الفريقَين لا الآحاد (٦) .

جمعٌ يراد به الاثنان فما فوق

قد يُعبّر بلفظ الجمع ويُراد به مطلق الجمع، أي الجمع العرفي الصادق من اجتماع اثنين فما فوق، ضمير المتكلّم مع الغير يُراد به الاثنان فما فوق، وهذا شائعٌ في سائر اللغات التي لا توجد فيها صيغ للتثنية، والعرب قد تستعمل ذلك حسب العرف العامّ ونظراً للمعنى اللغوي للجمع الصادق مع الاثنين.

قال الطبرسي: والعرب تُسمّي الاثنين بلفظ الجمع في كثير من كلامهم، حكى سيبويه أنّهم يقولون: وَضَعا رحالَهما، يريدون رَحْلَي راحلتيهما، وقال تعالى: ( وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ) (٧) ، يعني: حكم داود وسليمان (٨) .

____________________

(١) البقرة ٢: ٣٨.

(٢) الأعراف ٧: ٢٤: ٢٥.

(٣) راجع: مجمع البيان، ج١، ص٨٧.

(٤) الحجرات ٤٩: ٩.

(٥) هاشم العربي في ملحق ترجمة كتاب الإسلام، ص٤١٩.

(٦) الهدى إلى دين المصطفى، ج١، ص٣٨٤.

(٧) الأنبياء ٢١: ٧٨.

(٨) مجمع البيان، ج٣، ص١٥.

٤٠٢

قال سيبويه - في باب ما لُفظ به ممّا هو مُثنّى كما لُفظ بالجمع -: وهو أنْ يكون الشيئان كلّ واحدٍ منهما بعض شيءٍ مفرد من صاحبه، وذلك قولك: ما أَحْسَنَ رُؤُوسهما، وما أَحْسَنَ عَواليَهما، وقال عزّ وجلّ: ( إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ) (١) ، ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ) (٢) فرّقوا بين المـُثنّى الذي هو شيء على حِدَةٍ وبين ذا، وقال الخليل: نظيره قولك: فعلنا، وأنتما اثنان فتكلّم به كما تكلّم به وأنتم ثلاثة.

وقد قالت العرب في الشيئين اللّذين كلّ واحدٍ منهما اسمٌ على حِدَةٍ وليس واحدٌ منها بعض شيء، كما قالوا في ذا (أي فيما كان كلّ واحدٍ منهما بعض شيءٍ)؛ لأنّ التثنية جمعٌ، فقالوا كما قالوا فعلنا، وزعم يونس أنّهم يقولون: ضَعْ رحالَهما وغلمانَهما، وإنّما هما اثنان، قال اللّه عزّ وجلّ: ( وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ ) (٣) ، وقال: ( كَلاّ فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ ) (٤) .

* * *

وفي كتاب (إعراب القرآن) المنسوب إلى الزجّاج (٥) جاء الباب الثامن والأربعون لبيان ما جاء في القرآن من الجمع يُراد به التثنية.

فمن ذلك قوله تعالى: ( فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ ) (٦) ، وأجمعت الأُمّة على أنّ الأخوين يحجبان الأُمّ من الثُلث إلى السُدس بدلالة الآية.

وقوله تعالى: ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ) (٧) أي يديهما.

وقوله تعالى: ( إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ) (٨) أي قلباكما.

وقيل في قوله تعالى: ( بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ ) : (٩) إنّه مِن هذا الباب، لقوله تعالى:

____________________

(١) التحريم ٦٦: ٤.

(٢) المائدة ٥: ٣٨.

(٣) ص ٣٨: ٢١ و٢٢، في حين أنّهما كانا اثنين (أخوين).

(٤) الشعراء ٢٦: ١٥، راجع: كتاب سيبويه، ج٢، ص٢٣٧.

(٥) ومن المحتمل القريب أنه لمكّي بن أبي طالب، راجع: ملحق الكتاب، ص١٠٩٦ - ١٠٩٩.

(٦) النساء ٤: ١١.

(٧) المائدة ٥: ٣٨.

(٨) التحريم ٦٦: ٤.

(٩) المعارج ٧٠: ٤٠.

٤٠٣

( رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ) (١) .

وقوله تعالى: ( وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ) (٢) ، والمتقدّم: داود وسليمان (٣) .

وهكذا قال أبو البقاء العكبري: قيل: إنّما جُمع؛ لأنّ الاثنين جمع (٤) .

قال أبو جعفر الطبري: قال جماعة أصحاب رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) والتابعين لهم بإحسان ومَن بعدهم من علماء أهل الإسلام في كلّ زمان: عنى اللّه جل ثناؤه بقوله: ( فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ ) اثنين كان الإخوة أو أكثر منهما، أُنثيين كانتا أو كُنّ إناثاً، أو ذَكَرَين كانا أو كانوا ذُكوراً، أو كان أحدهما ذكراً والآخر أُنثى، واعتلّ كثير ممّن قال ذلك بأنّ ذلك قالته الأُمّة عن بيان اللّه جلّ ثناؤه على لسان رسوله (صلّى اللّه عليه وآله)، فنقلته أُمّة نبيّه نقلاً مستفيضاً قَطَع العذر مجيئه، ودَفَع الشكَّ فيه عن قلوب الخَلق ورودُه (٥) .

* * *

وقال أبو بكر الجصّاص: إنّ اسم الإخوة قد يقع على الاثنين، كما قال تعالى: ( إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ) (٦) وهما قلبان، وقال تعالى: ( وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ) (٧) ثُمّ قال تعالى: ( خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ ) (٨) فأُطلق لفظ الجمع على اثنين، وقال تعالى: ( وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ ) (٩) فلو كان أخاً وأختاً كان حكم الآية جارياً فيهما.

وقد رُوي عن النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) أنّه قال: (اثنان فما فوقهما جماعةٌ) (١٠) .

ولأنّ الاثنين إلى الثلاثة في حكم الجمع أَقرب منهما إلى الواحد؛ لأنّ لفظ الجمع موجود فيهما.

____________________

(١) الرحمان ٥٥: ١٧.

(٢) الأنبياء ٢١: ٧٨.

(٣) إعراب القرآن، القسم الثالث، ص٧٨٧.

(٤) في كتابه: إملاء ما مَنَّ به الرحمان في إعراب القرآن، ج٢، ص١٣٥.

(٥) جامع البيان، ج٤، ص١٨٧ - ١٨٨.

(٦) التحريم ٦٦: ٤.

(٧) ص ٣٨: ٢١.

(٨) ص ٣٨: ٢٢.

(٩) النساء ٤: ١٧٦.

(١٠) سُنَن ابن ماجة، باب ٢٤٦، ج١، ص٣٠٨، رقم ٩٨١، وقد عقد البخاري باباً جَعل ذلك عنوانه: باب ٣٥ الأذان، ج١، ص١٦٧، وراجع: فتح الباري، ج٢، ص١١٨.

٤٠٤

وقد رُوي (وبإسناد صحيح) عن زيد بن ثابت أنّه كان يحجب الأُمّ بالأخوين، فقالوا له: يا أبا سعيد، إنّ اللّه تعالى يقول ( فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ ) (١) وأنت تحجبها بالأخوَين؟ فقال: إنّ العرب تُسمّي الأخوين إخوة (٢) .

فإذا كان زيد بن ثابت (وهو عربيّ صميم) قد حكى عن العرب أنّها تُسمّي الأخوين إخوة فقد ثبت أنّ ذلك اسمٌ لهما يتناولهما... (٣)

قال تعالى: - بشأن الأولاد -: ( فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ) (٤) ، فقد شملت النساء - وهي صيغة الجمع - للاثنتين فما فوق: ومِن ثَمّ كان معنى قوله ( فَوْقَ اثْنَتَيْنِ ) : اثنتين فما فوق، وذلك بدليل تقابله مع قوله: ( وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ) ، وإلاّ كانت الاثنتان مغفولاً عنهما، الأمر الذي لا يتّفق مع كون سياق الكلام لبيان الاستيعاب.

ويشهد لذلك قوله تعالى بشأن الكَلالة: ( إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ ) (٥) ، والمراد: الاثنتان فما فوق، بدليل الإجماع في كلا الموضعَين.

ذكر الطبرسي في الآية الأُولى وجوهاً، أحدها - وهو أوجهها -: أنّ في الآية بيان حكم البنتين فما فوق؛ لأنّ معناه: فإن كُنّ اثنتين فما فوق فلهُنّ ثُلُثا ما ترك، إلاّ أنّه قدّم ذَكَر الفوق على الاثنتين، كما رُوي عن النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) أنّه قال: (لا تُسافر المرأةُ سفراً فوقَ ثلاثة أيّام إلاّ ومعها زوجُها أو ذو محرمٍ لها) (٦) ، ومعناه: لا تسافر سفراً ثلاثة أيّام فما فوقها (٧) .

____________________

(١) النساء ٤: ١١.

(٢) أحكام القرآن للجصّاص، ج٢، ص٨١ - ٨٢.

(٣) السُنَن الكبرى للبيهقي، ج٦، ص٢٢٧، باب فرض الأُمّ، وقد عَقَد البيهقي باباً لترجيح قول زيد على قول غيره من الصحابة وأنّه أعلم الصحابة بعلم الفرائض، راجع: ج٦، ص٢١٠.

وهكذا روى الحاكم في المستدرك، ج٤، ص٣٥، كان زيد يقول: الإخوة في كلام العرب أخوانِ فصاعداً، قال: هذا حديث صحيح لم يخرجه الشيخان.

وروى بإسناد صحّحه أيضاً أنّ زيداً أفرض الأُمّ، وراجع: الدرّ المنثور، ج٢، ص٤٤٧.

(٤) النساء ٤: ١١.

(٥) النساء ٤: ١٧٦.

(٦) راجع: السُنَن الكبرى، ج١٠، ص٨٢، وسُنَن أبي داود، ص١٤٠، رقم ١٧٢٦، وسُنَن ابن ماجة، ج٢، ص٢١١، رقم ٢٩٤٧، وصحيح البخاري، ج٢، ص٥٤، باب التقصير في السفر، رقم ٤.

٤٠٥

هذا الحديث وَرَد بألفاظٍ يختلف بعضها عن بعض، فكان مقتضى الجمع بينها هو الحكم بأنّ الزائد على اليومين حرامٌ عليها إلاّ مع ذي رحم.

ففي سُنَن البيهقي: (لا تُسافر المرأةُ فوق ثلاثة أيّام إلاّ مع ذي مَحرمٍ) (١) .

وفي لفظ أبي داود: (لا يَحل لامرأةٍ... أنْ تُسافر سفراً فوق ثلاثة أيّام فصاعداً إلاّ ومعها أبوها، أو أخوها، أو زوجها، أو ابنها، أو ذو مَحرم منها) (٢) .

وأيضاً رُوي: (لا تُسافر المرأةُ سفرَ ثلاثة أيّام فصاعداً إلاّ مع...) (٤) .

وفي البخاري: (لا تُسافر المرأةُ ثلاثةَ أيّام إلاّ مع ذي مَحرم)، وجاء في الهامش: وفي نسخة (فوق ثلاثة أيّام) (٥) .

وأيضاً رُوي: (لا تُسافر المرأةُ يومَين إلاّ ومعها زوجها أو ذو مَحرم) (٦) (لا تُسافر المرأةُ مسيرةَ يومين إلاّ ومعها زوجها أو ذو محرم) (٧) .

ومقتضى الجمع بين مختلف التعابير أنّ النهي إنّما يتوجّه إليها فيما بعد اليومَين؛ ومِن ثَمّ فَهِم الفقهاء من قوله (صلّى اللّه عليه وآله): (فوق ثلاثة أيّام) الثلاثة فما فوق.

يجوز في جماعة غير ذوي العقول اعتبار جمع التأنيث

قال تعالى: ( فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ ) (٨) ، جاء وصف الأيّام - وهو جمعٌ مكسّر لـ (يوم) الذي هو مُذكّر حيث قوله تعالى: ( فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ ) (٩) بجمع المؤنّث السالم (بالألف والتاء).

____________________

(٧) مجمع البيان، ج٣، ص١٤.

(١) السُنَن الكبرى، ج١٠، ص٨٢، باب من نذر المشي إلى مسجد المدينة أو مسجد بيت المقدس، رقم ٢.

(٢) سُنَن أبي داود، ج٢، ص١٤٠، رقم ١٧٢٦، باب المرأة تحجّ بغير محرم، رقم ٤.

(٣) المصدر: ص١٤١، رقم ١٧٢٧/٥.

(٤) سُنَن ابن ماجة، ج٢، ص٢١١، باب ١٠١٤ المرأة تحجّ بغير ولي، رقم ٢٩٤٧.

(٥) صحيح البخاري، ج٢، ص٥٤، باب التقصير في السفر، رقم ٤.

(٦) المصدر: ص٧٧، باب مسجد بيت المقدس.

(٧) المصدر: ج٣، ص٥٦ باب الصوم يوم النحر.

(٨) فصّلت ٤١: ١٦.

(٩) القمر ٥٤: ١٩.

٤٠٦

قال أبو حيّان الأندلسي: و(نحسات) صفة لأيّام، جُمع بألفٍ وتاء؛ لأنّه جمع صفة لِما يَعقل (١) .

قال الزمخشري: في قوله تعالى: ( وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ...الَّذِي خَلَقَهُنَّ ) : (٢) الضمير في (خلقهنّ) للّيل والنهار والشمس والقمر؛ لأنّ حكم جماعة مالا يعقل حكم الأُنثى أو الإناث، يقال: الأقلام بَرَيْتُها وبَرَيتُهُنّ (٣) .

قال المحقّق رضيّ الدين الاسترآبادي - بشأن جمع غير العاقلين -: هو ثلاثة أقسام، مُذكّر لا يَعقِل كالأيّام والجبيلات، ومُؤنث يَعقِل كالنسوة والزينبات، ومُؤنّث لا يَعقِل كالدور والظُلمات، فيجوز أنْ يكون ضمير جميعها الواحد المؤنّث الغائب، بتأويل الجماعة، وأنْ يكون النون (نون جمع المؤنّث)؛ لكونها جمع غير العاقلين، وقد تقدّم - عند الكلام عن الضمائر - أنّ النون موضوعٌ له، فنقول: الأيّام والجبيلات، والنساء والزينبات، والدور والغُرفات، فعلت وفعلنَ... (٤)

* * *

وأَمّا وصف الملائكة بصيغة الجمع المؤنّث السالم (بالألف والتاء) - في المرسلات، والنازعات، والصافّات، والذاريات - فباعتبار كون الموصوف هم جماعات الملائكة.

فقوله: ( فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً ) (٥) أي الجماعات المـُلقيات، جُمع جماعة الملائكة، وكذا قوله: ( فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً ) (٦) ، ( وَالصَّافَّاتِ صَفّاً * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً ) (٧) ، وهكذا قوله: ( فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً ) (٨) .

وقوله تعالى: ( وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ) (٩) ، صافّات: حال من الطير، باعتباره اسم جنس جمعٍ، فهو كالجمع المـُكسّر لغير ذوي العقول.

____________________

(١) البحر المحيط، ج٧، ص٤٩١.

(٢) فصّلت ٤١: ٣٧.

(٣) الكشّاف، ج٤، ص٢٠٠.

(٤) شرح الكافية للاسترآبادي، ج٢، ص١٧١.

(٥) المرسلات ٧٧: ٥.

(٦) النازعات ٧٩: ٥.

(٧) الصافّات ٣٧: ١ - ٣.

(٨) الذاريات ٥١: ٤.

(٩) النور ٢٤: ٤١.

٤٠٧

ومِثله: ( إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ ) (١) ، أي الخيل الصافنات، وهي الخيل الواقفة على ثلاث قوائم، الواضعة طرف السُنبك الرابع على الأرض.

التعبير عن العقلاء بـ (ما) الموصولة

فقد جاء في القرآن الكريم مواضع استُعمل فيها (ما) الموصولة فيمَن يعقل:

منها قوله تعالى: ( فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ) (٢) .

وقوله: ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ ) (٣) .

وقوله: ( وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا ) (٤) .

وقوله: ( لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ) (٥) .

وقوله: ( فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ) (٦) .

وقوله: ( وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ) (٧) .

وقوله: ( وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى ) (٨) .

وقد تخلّص أهل الأدب من ذلك من وجوه:

الأول: جواز استعمال (ما) الموصولة فيمَن يَعقِل جوازاً مطّرداً وإن كان غير غالب.

قال أبو البقاء العكبري: (ما) هنا بمعنى مَنْ، ولها نظائر في القرآن (٩) .

وجاء في الكافية لابن حاجب: و (ما) في الغالب لِما لا يعلم، وقد جاء في العالِم قليلاً، حكى أبو زيد: سُبحانَ مَن سخّركُنّ لنا وسُبحانَ ما سبّح الرعدُ بحمده، وقال تعالى: ( وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) (١٠) .

____________________

(١) ص ٣٨: ٣١.

(٢) النساء ٤: ٣.

(٣) النساء ٤: ٢٤.

(٤) الشمس ٩١: ٥.

(٥) الكافرون ١٠٩: ٢ و٣.

(٦) النساء ٤: ٢٥.

(٧) النساء ٤: ٢٢.

(٨) الليل ٩٢: ٣.

(٩) راجع: إملاء ما مَنَّ به الرحمان، ج١، ١٦٦، وشرح الكافية، ج٢، ص٥٥.

(١٠) النساء ٤:٣٦، جاء في نفس الصفحة من شرح الكافية: (سبحان ما سِخَّركُنّ لنا وما سبّح الرعد بحمده).

٤٠٨

الثاني: أنّ الإناث من العقلاء يَجرينَ مجرى غير العقلاء (١) ، وهذا أبعد الوجوه.

الثالث - وهو الأوجه -: أنّه إجراء على الصفة لا على الذات.

قالوا: و (ما) تختصّ أو تغلب في غير العقلاء فيما إذا أُريد الذات، وأمّا إذا أُريد الوصف فلا، كما تقول: ما زيد - في الاستفهام - أي أَفاضل أم كريم، وأكرم ما شِئتَ من الرجال، تعني الكريم أو اللئيم (٢) .

قال الفرّاء: قال تعالى ( مَا طَابَ لَكُمْ ) (٣) ولم يقل (من طاب)؛ وذلك أنّه ذهب إلى الفعل (أي الوصف) - أي فانكحوا الطيّبات من النساء - كما قال: ( أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) (٤) ، يريد: أو مَلَك أَيمانكم.

ولو قيل في هذَين (من) كان صواباً، ولكن الوجه ما جاء به الكتاب، وأنت تقول في الكلام: خذ من عبيدي ما شئت، إذا أراد مشيئتك، فإن قلت: (مَن شئت) فمعناه: خذ الذي تشاء (٥) .

وهكذا قال أبو البقاء: وقيل: (ما) تكون لصفات مَن يعقل، وهي هنا كذلك؛ لأنّ (ما طاب) يدلّ على الطيب مِنهنّ.

وقال الزمخشري: وقيل: (ما) ذهاباً إلى الصفة.

قل رضيّ الدين الاسترآبادي: وتُستعمل أيضاً في الغالب في صفات العالِم نحو: زيد ما هو وما هذا الرجل، فهو سؤال عن صفته، والجواب: عالمٌ أو غير ذلك، قال: وقول فرعون: ( وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ) (٦) ، يجوز أنْ يكون سؤالاً عن الوصف، ولهذا قال موسى (عليه السلام) ( رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) (٧) .

قال الزمخشري - ردّاً على مَن زَعَم أنّ (ما) في قوله تعالى: ( وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ) (٨) ، مصدريّة -: وليس بالوجه؛ لقوله ( فَأَلْهَمَهَا ) ، وما

____________________

(١) الكشّاف، ج١، ص٤٦٧.

(٢) روح المعاني، ج٤، ص١٦٩.

(٣) النساء ٤: ٣.

(٤) النساء ٤: ٣.

(٥) معاني القرآن، ج١، ص٢٥٣ - ٢٥٤.

(٦) الشعراء ٢٦: ٢٣.

(٧) الشعراء ٢٦: ٢٤، راجع: شرح الكافيّة، ج٢، ص٥٥.

(٨) الشمس ٩١: ٥ - ٧.

٤٠٩

يؤدّي إليه من فساد النَظم، قال: والوجه أنْ تكون (ما) موصولة، وإنّما أُوثرت على (مَن)؛ لإرادة معنى الوصفيّة، كأنّه قيل: والسماء، والقادر العظيم الذي بناها، ونفسٍ، والحكيم الباهر الحِكمة الذي سوّاها، وفي كلامهم: سبحانَ ما سخّركُنّ لنا (١) .

وقال - في تفسير سورة الكافرون -: فإنْ قلتَ: فَلِمَ جاء على (ما) دون (مَن)؟

قلتُ: لأنّ المراد الصفة، كأنّه قال: لا أَعبدُ الباطل، ولا تعبدون الحقّ (٢) .

وقال الطبرسي - في قوله تعالى: ( وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ ) (٣) -: إنّه يجوز أنْ يكون ذَهَب به مَذهب الجنس، كما يقول القائل: لا تأخذ ما أخذ أبوك مِن الإماء، فيذهب مَذهب الجنس ثُمّ يفسّره بـ (مِن) (٤) .

وأقول - توضيحاً لذلك -: إنّ (ما) قد يراد به الذات، فذلك الغالب أنْ يقع على غير ذوي العقول، ولكن قد يقع على ذوي العقول مُراداً به الوصف لا الذات، فذلك هو الشائع واستعمله القرآن، ومنه السؤال عن الماهية أيضاً، يُؤتى بما دون (مَن) وإن كان سؤالاً عن ماهية عاقل فيقال: زيدٌ ما هو، وما هذا الرجل، فإنّ السؤال عن شخصيّته وعن تكوينه الذاتي في أوصافه الخاصّة، وليس المراد السؤال عن معرفة شخصه، فلا يصحّ أنْ يقال في الجواب: إنّه ابن فلان أَو مِن آل فلان، بل ينبغي أنْ يُجاب بما يُعرّف شخصيّته الذاتيّة وأنْ يُؤتى بأوصافٍ تخصّه.

نعم، لو أُريد السؤال عن شخصه كان يجب أنْ يُقال: مَن هو، فيجاب بأنّه ابن فلان أو مِن آل فلان.

وفي الحديث عن أبي الحسن موسى بن جعفر عن آبائه (عليهم السلام) قال: (دَخَل رسولُ الله (صلّى اللّه عليه وآله) المسجدَ، فإذا جماعة قد أطافوا برجلٍ، فقال: ما هذا؟ فقيل: علاّمة، قال: وما العلاّمة؟ قالوا: أَعلم الناس بأنساب العرب ووقائعها وأيّام الجاهليّة وبالأشعار والعربيّة، فقال النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله): ذاك علمٌ لا يضرّ مَن جَهِله، ولا يَنفع مَن عَلِمَه) (٥) .

____________________

(١) الكشّاف، ج٤، ص٧٥٩.

(٢) المصدر: ص٨٠٩.

(٣) النساء ٤: ٢٢.

(٤) مجمع البيان، ج٣، ص٢٧.

(٥) بحار الأنوار، ج١، ص٢١١ عن أمالي الصدوق.

٤١٠

ومنه قوله تعالى - حكايةً عن فرعون -: ( وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ) (١) ، وذلك لمـّا دَعاه موسى (عليه السلام) إلى شريعته وقال ( إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (٢) ، عاد عليه فرعون وسَأله عن سِمات هذا الربّ والتي جَعلته ربّاً للعالمينَ، ولمْ يسأله عن ذاته المـُقدّسة وعن اسمه الخاصّ، وإلاّ لكان حقّ الجواب أنْ يقول موسى (عليه السلام): الله، بل أجابه بقوله: ( رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا... رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ... رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا ) (٣) وفيه تعريضٌ بفرعون، حيث ادّعى الربوبيّة؛ لأنّ له مُلك مصر، وأنّ أنهارها تجري من تحته (٤) فهو يَملك - فيما زَعَم - رقعةً من الأرض وليست كلّها وفي مقطع من الزمان لا في كلّ الأزمان، ولأُناس معدودين وليس كلّ الخلائق من الأوّلينَ والآخرينَ.

والخلاصة: إنّ التعبير بـ (ما) عن الشيء قد يكون تعريفاً بعين ذاته، فهذا ما يَغلُب استعماله في غير ذَوي العقول، وقد يكون تعريفاً بصفاته وعناوينه التي كَوَّنت شخصيّته الخاصّة، فهذا يَعمّ ويَغلُب استعماله في العقلاء أيضاً، وقد جاءت تعابير القرآن على هذا النمط، وجارياً على أساليب كلام العرب الفصيح.

وعليه، فكان قوله تعالى: ( فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ) (٥) ، تعبيراً عن الطيّبات من النساء، أي فانكحوا الطيّب من النساء، قال مكّيّ بن أبي طالب: أي فانكحوا الطيّب أي الحلال، و(ما) تقع لِما لا يَعقل، ولنعوتِ ما يَعقِل؛ ولذلك وقعتْ هنا لنعتِ ما يَعقِل (٦) .

وكذا قال - في قوله تعالى: ( وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) (٧) -: وقعت (ما) لِمَن يعقل؛ لأنّ المـُراد بها صفة مَن يَعقِل، قال: و(ما) يُسأل بها عمّا لا يَعقِل وعن صفات مَن يعقل (٨) .

قال الفرّاء: ( وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) يُريد: أو مَلَك أيمانكم (٩) .

____________________

(١) الشعراء ٢٦: ٢٣.

(٢) الشعراء ٢٦: ١٦.

(٣) الشعراء ٢٦: ٢٤ - ٢٨.

(٤) إشارة إلى قوله تعالى: ( وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ ) ، الزخرف ٤٣: ٥١.

(٥) النساء ٤: ٣.

(٦) مُشكل إعراب القرآن لمكّي بن أبي طالب، ج١، ص١٨٩.

(٧) النساء ٤: ٣٦.

(٨) المصدر: ١٩٥.

(٩) معاني القرآن، ج١، ص٢٥٤.

٤١١

فإنّه عنى الطيّبات، ثُمّ بَيَّنه بقوله: (من النساء)، كما أنّه عنى المـَملوك ثُمّ بَيَّنه بالفتيات وكذلك قوله ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ... ) (١) فإنّه عنى جانب الاستمتاع، ثُمّ جاء البيان بالنساء، ومِثله قوله ( مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ ) (٢) أي ما وقع في نكاحهم، ثُمّ بَيَّنه بقوله: (من النساء).

وقال الزمخشري - في قوله تعالى: ( وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا... ) (٣) -: جُعلت (ما) مصدريّة، وليس بالوجه؛ لقوله ( فَأَلْهَمَهَا ) ، وما يؤدّي إليه من فساد النَظم، والوجه: أنْ تكون موصولة، وإنّما أُوثرت على (مَن) لإرادة معنى الوصفيّة، كأنّه قال: والسماء والقادر العظيم الذي بَناها - ونفسٍ - والحكيم الباهر الحِكمة الذي سوّاها، وفي كلامهم: (سبحان ما سَخَّركُنّ لنا) (٤) .

وقال - في قوله ( لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ) (٥) -: فإنْ قُلت: لِمَ جاء على (ما) دون (مَن)؟ قلتُ: لأنّ المراد الصفة، كأنّه قال: لا أعبد الباطل، ولا تعبدون الحقّ (٦) .

وقال - في قوله ( وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى ) (٧) -: والقادر العظيم القُدرة الذي قَدِر على خَلق الذكر والأُنثى من ماءٍ واحد، وقَرَأَ ابن مسعود: والذي خَلَق الذكر والأُنثى (٨) ؛ تَبييناً لموضع (ما) وأنّها موصولة، قال الفرّاء: كلّ هذا - أي التعبير بـ (ما) عن العقلاء فيما ذُكر من الآيات - جائز في العربيّة (٩) .

ضمائر تُخالِف مَراجِعَها

قال تعالى: ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ ) (١٠) .

____________________

(١) النساء ٤: ٢٤.

(٢) النساء ٤: ٢٢.

(٣) الشمس ٩١: ٥.

(٤) الكشاف، ج٤، ص٧٥٩.

(٥) الكافرون ١٠٩: ٢ و٣.

(٦) الكشاف، ج٤، ص٨٠٩.

(٧) الليل ٩٢: ٣.

(٨) الكشّاف، ج٤، ص٧٦١.

(٩) معاني القرآن، ج٣، ص٢٦٣.

(١٠) البقرة ٢: ١٧.

٤١٢

فقد شَبّه المنافقون - في حالتهم المـُزرية - بالذي استوقد ناراً لإنارة الطريق، لكنّه افتقدها فور الوقود؛ ومِن ثَمّ كان يجب - حسب الظاهر - إفراد الضمائر كلّها، حيث عَودها على المـُشبّه وهو مفرد!

لكن هذا من باب تناسي التشبيه - كما في الاستعارة المـُرشّحة - (١) كما في قول أبي تمام من قصيدة يَرثي بها خالد بن الشيباني ويَذكر أباه، وهذا البيت في مدح أبيه وذِكرِ عُلوِّ قَدْره ورتبته:

ويَصعَدُ حتّى يَظنّ الجهولُ

بأنّ له حاجةً في السماءِ

استعار الصعود لعلوِّ القَدر والارتقاء في مدارج الكمال، ثُمّ بَنى عليه ما يَبني علوّ المكان والارتقاء في السماء؛ فلولا أنّ قَصْدَهُ أنْ يتناسى التشبيه ويُصرّ على إنكاره فيجعله صاعداً في السماء من حيث المسافة المكانيّة، لَما كان لهذا الكلام وجه.

ونحوه قول أبي الفضل ابن العميد في غلامٍ جميل قامَ على رأسه ليَستره عن الشمس:

قامتْ تُظلّلُني مِن الشمسِ

نفسٌ أعزُّ عليَّ مِن نفسي

قامتْ تُظلّلُني ومِن عَجبٍ

شمسٌ تُظلّلُني مِن الشمسِ

فلولا أنّه تَناسى التشبيه لم يكن وجه لهذا التَعجُّب.

وكذا قول أبي الطباطبا العَلوي في وصف غلامٍ صبيح:

لا تَعجَبوا مِن بِلَى غِلالَته

قد زُرَّ أَزرارُه على القَمرِ

فلولا أنّه تَناسى التشبيه لم يكن وجه لهذا النهي عن العجّب.

ونظيره ما جاء في نفس التشبيه - من غير استعارة - كما في قول عباس بن الأحنف في قصيدةٍ يَصف فيها محبوبتَه، يُخاطب نفسه:

____________________

(١) وهي: ما قُرِن المـُستعار له بما يُلائم المـُستعار منه، كما في قوله تعالى: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ ) البقرة ٢: ١٦، فإنّه استعار الاشتراء للاستبدال والاختيار ثُمّ فَرَّع عليها ما يُلائم الاشتراء من الريح والتجارة.

قالوا: والترشيح أَبلغ؛ لاشتماله على تحقيق المـُبالغة في التشبيه، ومَبناه على تناسي التشبيه وادّعاء أنّ المـُستعار له عين المستعار منه (راجع المـُطوّل، قسم البيان، ص٣٧٨ - ٣٧٩ طبع مصر، منشورات مكتبة الداوري - قم).

٤١٣

هي الشمسُ مسكنُها في السماءِ

فَعَزِّ الفؤادَ عزاءً جميلاً

فلنْ تستطيعَ إليها الصُعودا

ولنْ تستطيعَ إليك النُزولا

فقد شَبَّهها تشبيها صريحاً من غير أنْ يطوي ذِكر المـُشبَّه به، ومع ذلك فقد تناسى التشبيه، وبنى على المـُشبَّه ما هو من شأن المشبّه به (١) .

وقوله تعالى: ( وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا ) (٢) أي خُضتم في الكفر والعِناد كالذي خاضوه، فالعائد محذوف، وهذا من تشبيه الخَوض بالخَوض، لا الخائضين بالخائضين، وهو مِن حُسن التشبيه؛ حيث وقع بين الفعلَين لا الفاعلَين.

وقوله تعالى: ( وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) (٣) ، المراد به الجنس وهو عامّ في مفهومه يشمل الواحد والكثير، وبما أنّ الآية ذات مصاديق كثيرة لُوحظ المعنى ليعمّ الحُكم مَن غَبَر ومَن حَضَر ومَن يأتي مِن بعدُ.

وقوله تعالى: ( وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا... أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ) (٤) ، المراد به الجنس أيضاً، وهو نوع من الالتفات اللطيف، حيث يبدأ الكلام بمُفرد، لكنّ المـُتكلِّم - حيث أراد الجنس لا الفرد الخاصّ - ينحو بكلامه إلى جانب العموم وإرادة الشمول.

وهنا بشأن هذه الآية حكاية ظريفة: زَعَمت بنو أُميّة وبنو مروان أنّها نزلت بشأن عبد الرحمان بن أبي بكر، وحينما كَتَب معاوية إلى عامله بالمدينة مروان بن الحكم بأنْ يُبايع الناس ليزيد قال عبد الرحمان. لقد جِئتم بها هرقليّة، تُبايعون لأبنائكم! فقال مروان: أيّها الناس، إنّ هذا هو الذي قال اللّه فيه ( وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا... ) فسَمِعت عائشة، فغَضبتْ وقالت: واللّه ما هو به، ولو شئتُ أنْ اُسمّيه لسمّيتُه، ولكنّ اللّه لعن أباك وأنت في صُلبه، فأنت فَضَضٌ من لعنة اللّه (٥) .

____________________

(١) المـُطوّل، ص٣٧٩.

(٢) التوبة ٩: ٦٩.

(٣) الزُمر ٣٩: ٣٣.

(٤) الأحقاف ٤٦: ١٧ و١٨.

(٥) فَضَضٌ: ما انفضّ من الشيء، قال الجوهري: أنت فَضَضٌ من لعنة اللّه، يعني: ما انفضّ من نُطفة الرجل

٤١٤

ما يستوي فيه المفرد والجمع

من ذلك لفظ (الطاغوت) يقع على الواحد والجمع:

* قال تعالى: ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ) (١) .

وقال: ( يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ) (٢) ، جاء في التفسير أنّه أَراد: كعب بن الأشرف رأس اليهود.

وقال: ( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا ) (٣) ، أراد به الأصنام.

قالوا: هو في الأصل مصدر (طغى)، وأصله: طَغَيوت، على وزان: فَعَلوت، مِثل: الرهبوت، والرحموت، فَقَدّم الياء وأَبدلَ منها ألفاً فصار طاغوت (٤) .

* ومن ذلك قوله تعالى: ( لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) (٥) .

ومثله قوله: ( وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاّ الَّذِينَ آمَنُوا... ) (٦) .

والمراد بالإنسان هنا الجنس الذي يُطلق على الواحد والجمع سواء، بدليل الاستثناء هنا.

* قال تعالى: ( مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ ) (٧) ، قال الزمخشري: والسَامِر، نحو الحاضر في الإطلاق على الجمع، وكانوا يجتمعون حول البيت بالليل يَسمرون، وكانت عامّة سَمَرِهم ذكر القرآن وتَسميته سِحراً وشِعراً، وسبّ النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله)، و(تهجرون) مَن أَهجر في مَنطقِه إذا أَفحَشَ. والهُجر - بالضمّ -: الفُحش، وبالفتح: الهَذَيان (٨) .

* ومنه (الفُلْك) يُطلق على المفرد والجمع، قال تعالى في المفرد: ( وَمَنْ مَعَهُ فِي

____________________

= وتردّد في صُلبه، والحديث أَخرجه النسائي وابن أبي خيثمة والحاكم وصحّحه ابن مردويه، وأخرج أصله البخاري في صحيحه، راجع: الكشّاف، ج٤، ص٣٠٤، وهامش، ص٣٠٣، وراجع أيضاً: الدرّ المنثور، ج٧، ص٤٤٤.

(١) البقرة ٢: ٢٥٧.

(٢) النساء ٤: ٦٠.

(٣) الزمر ٣٩: ١٧.

(٤) إعراب القرآن المنسوب إلى الزجّاج، ص٧٦٣، باب ٤٢.

(٥) التين ٩٥: ٤ - ٦.

(٦) العصر ١٠٣: ١ - ٣.

(٧) المؤمنون ٢٣: ٦٧.

(٨) الكشّاف، ج٣، ص١٩٤.

٤١٥

الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ) (١) وقال في الجمع: ( حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ ) (٢) فهو في المفرد كقُفْل، وفي الجمع كاُسد.

وقوله، ( وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ ) (٣) يحتمل المفرد والجمع وذلك؛ لأنّ (الفُلك)، يُذكّر ويُؤنّث، فيُحتمل في ضمير التأنيث أنْ يكون لذلك، أو لإرادة الجمع.

* ومنه ما جاء مُفرداً بلفظة التمييز أو الحال أو المفعول به، ويُراد به الجمع، لا باعتبار المجموع، بل باعتبار كلِّ واحدٍ منهم: قال تعالى: ( فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً ) (٤) ، أي أَنفُساً، والمراد: كلّ واحدة نَفْساً. وقال: ( وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ) (٥) ، أي رُفقاء، والمراد: كلّ واحدٍ رفيقاً.

قال الزمخشري: والرفيق كالصديق والخليط في استواء الواحد والجمع فيه، ويجوز أنْ يكون مُفرداً بُيّن به الجنس في باب التمييز (٦) .

وقال: ( ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ) (٧) ، أي أطفالاً، والمراد: كلّ واحدٍ طفلاً.

وقال: ( أَلاّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً ) (٨) ، أي وكلاء.

وقال: ( خَلَصُوا نَجِيّاً ) (٩) ، أي أنجياء أو أَنجية.

قال الزمخشري: ويجوز أنْ يُقال: هم نَجي كما قيل: هم صديق؛ لأنّه بزِنَة المصادر (١٠) .

* ومنه لفظ (العدوّ)، فإنّه يُطلق على الواحد والجمع على سواء، قال تعالى: ( فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي ) (١١) .

قال الراغب: يقال: رجل عدوّ، وقوم عدوّ (١٢) ، قال تعالى: ( هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ

____________________

(١) الشعراء ٢٦: ١١٩.

(٢) يونس ١٠: ٢٢.

(٣) البقرة ٢: ١٦٤.

(٤) النساء ٤: ٤.

(٥) النساء ٤: ٦٩.

(٦) الكشّاف، ج١، ص٥٣١.

(٧) غافر ٤٠: ٦٧.

(٨) الإسراء ١٧: ٢.

(٩) يوسف ١٢: ٨٠.

(١٠) الكشّاف، ج٢، ص٤٩٤.

(١١) الشعراء ٢٦: ٧٧.

(١٢) المفردات، ص٣٢٦.

٤١٦

اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ) (١) ، ( هُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ) (٢) .

* وقال تعالى: ( فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ) (٣) ، أي أصدقاء أَحمّاء.

____________________

(١) المنافقون ٦٣: ٤.

(٢) الكهف ١٨: ٥٠.

(٣) الشعراء ٢٦: ١٠٠ و١٠١.

٤١٧

الباب الخامس

القَصَص القرآني على منصّة التحقيق

( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ ) (١)

القصّة: الحديث، الخبر، الأمر الحادث، الأُحدوثة، الشأن، الحال.

جمعها: قِصَص، والمصدر قَصَص.

يُقال: قصّ عليه الخبرَ قَصَصاً، إذا حدّثه به، والقصّ والقَصَص: تتّبع الأثر، يُقال: قَصَصتُ أثره أي تَتَّبعته، قال تعالى: ( فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً ) (٢) ، أي رَجَعا إلى الوراء ليَستعلِما الحال، وقال - على لسان أُمّ موسى -: ( وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ ) (٣) ، أَمَرتها بالفحص وتتّبُع أَثره، ولتنظر مَن يأخذه من الماء.

وقَصَص القرآن: أَخباره عن أحوال الماضين، من أُمّم وأنبياء سالفين، وعن

____________________

(١) يوسف ١٢: ٣.

(٢) الكهف ١٨: ٦٤.

(٣) القصص ٢٨: ١١.

٤١٨

حوادث واقعة في سوالف الأيّام، ممّا فيه العِبر والاعتبار للباقين.

وللقِصّة أثرها المباشر في النفوس وآكد في التربية والتعليم ممّا لو كان الكلام عارياً عن شواهد وأمثال؛ ذلك أنّ النفوس تهفو إلى معرفة ما بين الأحداث وعِلَلِها وأسبابها من رَبطٍ، وكذا بينها وبين النتائج المـُترتِّبة عليها من علاقة وثيقة، فلو أنّ المتكلّم أَبانَ وجهَ العِلَل والأسباب، وكَشَف عن النتائج الحاصلة بشكل مستدلّ متين، ووضع يده على مواضع العِبَر منها وذوات الاعتبار، لكان قد اقترب من غايته في تأثير النُصح والإرشاد، في أقرب طريق وأفضل أُسلوب مؤثِّر.

قال نظام الدين النيشابوري القُمي، صاحب التفسير: الإنسان قد يَذكر معنىً فلا يلوح له مَبلغُ تأثيره ولا مدى تفهيمه كما ينبغي، حتّى إذا شَفَّعه بشاهد مِثال ولا سيّما قَصَص الماضين - فيما إذا كان بصدد الوعظ والإرشاد - فتراه كلاماً ذا وَقْعٍ وتأثير حسبما يراد؛ ذلك أنّ في الطِّباع محاولة المـُحاكاة مع المشهود من جمالٍ أو كمالٍ، فإذا ذُكر المعنى وحده كان قد أَدركه العقل، ولكن مع منازعة الخيال ومحاولة رفضه في بادئ الأمر، أمّا إذا شُفّع بذِكر شاهد من أحوال الماضين وذُكرت الأسباب المؤاتية والنتائج الحاصلة منها، رَغَبت النفس في لَمسه في ذات ضميره، فيكون أوقع في النفس وأقرب إلى القبول وإمكان التأثير.

ومِن ثَمّ كان من الضروري الإكثار في القرآن مِن ذِكر القَصَص والأمثال، فإنّه الكتاب الّذي أُنزِلَ تِبياناً لكلّ شيء وهدىً ورحمة للعالمين (١) .

وقال الإمام الرازي - بصدد بيان فائدة ذِكر قَصَص الأنبياء في القرآن -:

إنّه سبحانه لمـّا بالغَ في تقرير الدلائل والبيّنات وفي الردّ على شُبُهات المعاندينَ، شَفّعها بذِكر أحوال الأُمَم السالفة ومواضعهم من الأنبياء؛ لغرض أنّ الكلام إذا طال في تقرير نوعٍ من أنواع المعارف، فربّما حصل نوع من المـَلال، وليس إذا حصل انتقال من نوعٍ إلى نوعٍ، ليزيد طَراوةً ويُنشِّط من رغبة السامعينَ.

وأيضاً ليكون الرسول (صلّى اللّه عليه وآله) والمؤمنون في تسلية عمّا يُواجهوه مِن أذى الأعداء.

____________________

(١) عن تفسير غرائب القرآن للنيشابوري (بهامش الطبري، ج١، ص١٩٩ - ٢٠٠) بتصرّفٍ وتبيين.

٤١٩

وليتأسّوا بمَن سَلف من الأنبياء والصالحين.

وكذلك ليكون تنبُّهاً للجُهّال المعاندينَ، فلينظروا في أحوال الماضين مِن آبائهم وليَعتبروا بما أُصيبوا من الفشل والخُسران، وأنّ اللّه تعالى لَيَنصر أولياءَه ويكون جندُه هم الغالبينَ.

وأخيراً فإنّها معجزة قرآنيّة يَذكر قَصَص الماضينَ نقيّة وسليمة من أكدار التحريف والتشويه، على يد نبيّ أُمّي لم يَكتب ولم يَقرأ الكُتُب (١) .

أُسلوب القِصّة في القرآن

إنّ أُسلوب القصّة في القرآن جاء مُتميّزاً عن الأُسلوب المعروف للقِصّة في التراث الأدبي والإنساني؛ حيث يكتفي القرآن الكريم بذِكر الأحداث بشكل مُقتطفات وبصورة إجماليّة أحياناً تاركاً التفاصيل، وأحياناً بشكل مُتقطّع غير موصول، واضعاً يده على نِقاط هي بيت القصيد مِن القصّة، وفي الأغلب بشكل الاستطراد في التعرّض لمفاهيم وحقائق وموضوعات عقائديّة أو أخلاقيّة أو كونيّة (سُنَن الطبيعة) أو شرعيّة، وغير ذلك من الخصوصيّات التي قد تُثير مُلاحظة كبيرة حول أُسلوب القصّة في القرآن الكريم، وبذلك تَخرج عن كونها عملاً فنيّاً مُستقلاً له مميّزاته الخاصّة.

وهذا يعود إلى أنّ القرآن كتاب هداية، وإنّما استَخدمَ الفنّ لغايته في أمر الهداية؛ ومِن ثَمّ فإنّه يقتصر على موضع الحاجة منه في سبيل تحقيق هدفه الخاصّ، ولا يُعيره اهتماماً فيما لا يعود إلى هذا الجانب بالذات.

وشيء آخر، كان أُسلوب القرآن أُسلوب خِطاب لا أُسلوب كتاب - كما نبّهنا - (٢) فلا مُلزِم له بسرد القضايا بانتظام وانسجام والإتيان بالتفاصيل والجُزئيّات، كما هو شأن الكِتاب، فلا يُراعي فيما يقصّ مِن قِصَص ترتيبَها الزمني ولا التواصل في ذِكر حادثة، بل

____________________

(١) عن التفسير الكبير، ج١٧، ص١٣٥، عند تفسير الآية ٧١ من سورة يونس، فيما قصّ اللّه من حديث نوح (عليه السلام) نقلاً بتصرّف.

(٢) في الجزء الأَوّل من التمهيد.

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578