شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم13%

شبهات وردود حول القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 578

شبهات وردود حول القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 578 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 297628 / تحميل: 13677
الحجم الحجم الحجم
شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

للبطش بالمسلمين والفتك بهم.

وكما قلنا سابقا ، فإنّ هذه الطائفة هي الوحيدة من الطوائف الثلاث (بنو القينقاع ، وبنو النضير ، وبنو قريظة) التي بقيت في المدينة عند نشوب معركة الأحزاب ، فقد طردت الطائفتان الأوّليان في السنة الثّانية والرّابعة للهجرة ، وكان يجب أن تعاقب هذه الطائفة على أعمالها الخبيثة وجرائمها ، لأنّها كانت أوقح من الجميع وأكثر علانية في نقضها لميثاقها واتّصالها بأعداء الإسلام.

٢ ـ أحداث غزوة بني قريظة

قلنا : إنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد امر بعد انتهاء معركة الأحزاب مباشرة أن يحاسب بني قريظة على أعمالهم ، ويقال : إنّ المسلمين قد تعجّلوا الوصول إلى حصون بني قريظة بحيث إنّ البعض قد غفل عن صلاة العصر فاضطّروا إلى قضائها فيما بعد ، فقد أمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن تحاصر حصونهم ، ودام الحصار خمسة وعشرين يوما ، وقد ألقى اللهعزوجل الرعب الشديد في قلوب اليهود ، كما يتحدّث القرآن عن ذلك.

فقال «كعب بن أسد» ـ وكان من زعماء اليهود ـ : إنّي على يقين من أنّ محمّدا لن يتركنا حتّى يقاتلنا ، وأنا أقترح عليكم ثلاثة امور اختاروا أحدها :

إمّا أن نبايع هذا الرجل ونؤمن به ونتّبعه ، فإنّه قد ثبت لكم أنّه نبي الله ، وأنتم تجدون علاماته في كتبكم ، وعند ذلك ستصان أرواحكم وأموالكم وأبناؤكم ونساؤكم ، فقالوا : لا نرجع عن حكم التوراة أبدا ، ولا نقبل بدلها شيئا.

قال : فإذا رفضتم ذلك ، فتعالوا نقتل نساءنا وأبناءنا بأيدينا حتّى يطمئن بالنا من قبلهم ، ثمّ نسلّ السيوف ونقاتل محمّدا وأصحابه ونرى ما يريده الله ، فإن قتلنا لم نقلق على أبنائنا ونسائنا ، وإن انتصرنا فما أكثر النساء والأولاد. فقالوا : أنقتل هؤلاء المساكين بأيدينا؟! إذن لا خير في حياتنا بعدهم.

قال كعب بن أسد : فإن أبيتم هذا أيضا فإنّ الليلة ليلة السبت ، وأنّ محمّدا

٢٢١

وأصحابه يظنون أنّنا لا نهجم عليهم الليلة ، فهلمّوا نبيّتهم ونباغتهم ونحمل عليهم لعلّنا ننتصر عليهم. فقالوا : ولا نفعل ذلك ، لأنّا لا نهتك حرمة السبت أبدا.

فقال كعب : ليس فيكم رجل يعقل ليلة واحدة منذ ولدته امّه.

بعد هذه الحادثة طلبوا من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يرسل إليهم «أبا لبابة» ليتشاوروا معه ، فلمّا أتاهم ورأى أطفال اليهود يبكون أمامه رقّ قلبه ، فقال الرجال : أترى لنا أن نخضع لحكم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ فقال أبو لبابة : نعم ، وأشار إلى نحره ، أي إنّه سيقتلكم جميعا!

يقول أبو لبابة : ما إن تركتهم حتّى انتبهت لخيانتي ، فلم آت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مباشرة ، بل ذهبت إلى المسجد وأوثقت نفسي بعمود فيه وقلت : لن أبرح مكاني حتّى يقبل الله توبتي ، فقبل الله توبته لصدقه وغفر ذنبه وأنزل( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ ) .(١)

وأخيرا اضطرّ بنو قريظة إلى أن يستسلموا بدون قيد أو شرط ، فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : «ألا ترضون أن يحكم فيكم سعد بن معاذ»؟ قالوا : بلى ،فقال سعد : قد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم.

ثمّ أخذ سعد الإقرار من اليهود مجدّدا بأنّهم يقبلون بما يحكم ، وبعدها التفت إلى حيث كان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله واقفا فقال : حكمي فيهم نافذ؟ قال : نعم ، فقال : انّني أحكم بقتل رجالهم المحاربين ، وسبي نسائهم وذراريهم ، وتقسيم أموالهم.

وقد أسلم جمع من هؤلاء فنجوا(٢) .

٣ ـ نتائج غزوة بني قريظة

إنّ الإنتصار على أولئك القوم الظالمين العنودين قد حمل معه نتائج مثمرة للمسلمين ، ومن جملتها :

__________________

(١) سورة التوبة ، الآية ١٠٢.

(٢) سيرة ابن هشام ، المجلّد ٣ ، صفحة ٢٤٤ وما بعدها ، والكامل لابن الأثير ، ج ٢ ، ص ١٨٥ وما بعدها بتلخيص.

٢٢٢

أ ـ تطهير الجبهة الداخلية للمدينة ، واطمئنان المسلمين وتخلّصهم من جواسيس اليهود.

ب ـ سقوط آخر دعامة لمشركي العرب في المدينة ، وقطع أملهم من إثارة القلاقل والفتن داخليا.

ج ـ تقوية بنية المسلمين المالية بواسطة غنائم هذه الغزوة.

د ـ فتح آفاق جديدة للانتصارات المستقبلية ، وخاصة فتح «خيبر».

ه ـ تثبيت مكانة الحكومة الإسلامية وهيبتها في نظر العدوّ والصديق ، في داخل المدينة وخارجها.

٤ ـ الآيات وتعبيراتها العميقة!

إنّ من جملة التعبيرات التي تلاحظ في الآيات أعلاه أنّها تقول في مورد قتلى هذه الحرب :( فَرِيقاً تَقْتُلُونَ ) أي أنّها قدّمت (فريقا) على (تقتلون) في حين أنّها أخّرت (فريقا) عن الفعل «تأسرون»!

وقال بعض المفسّرين في تفسير ذلك : إنّ سبب هذا التعبير هو التأكيد على الأشخاص في مسألة القتلى ، لأنّ رؤساءهم كانوا في جملة القتلى ، أمّا الأسرى فإنّهم لم يكونوا أناسا معروفين ليأتي التأكيد عليهم. إضافة إلى أنّ هذا التقديم والتأخير أدّى إلى أن يقترن «القتل والأسر» ـ وهما عاملا الإنتصار على العدو ـ ويكون أحدهما إلى جنب الآخر ، مراعاة للانسجام بين الأمرين أكثر.

وكذلك ورد إنزال اليهود من «صياصيهم» قبل جملة :( وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ) في حين أنّ الترتيب الطبيعي على خلاف ذلك ، أي أنّ الخطوة الاولى هي إيجاد الرعب ، ثمّ إنزالهم من الحصون المنيعة. وسبب هذا التقديم والتأخير هو أنّ المهمّ بالنسبة للمسلمين ، والمفرّح لهم ، والذي كان يشكّل الهدف الأصلي هو تحطيم هذه القلاع المحصّنة جدّا.

٢٢٣

والتعبير بـ( أَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ ) يبيّن حقيقة أنّ الله سبحانه قد سلّطكم على أراضيهم وديارهم وأموالهم دون أن تبذلوا كثير جهد في هذه الغزوة.

وأخيرا فإنّ التأكيد على قدرة اللهعزوجل في آخر آية :( وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً ) إشارة إلى أنّه سبحانه قد هزم الأحزاب بالرياح والعواصف والجنود الغيبيين يوما ، وهزم ناصريهم ـ أي يهود بني قريظة ـ بجيش الرعب والخوف يوما آخر.

* * *

٢٢٤

الآيات

( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (٢٩) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (٣١) )

سبب النّزول

ذكر المفسّرون أسباب نزول عديدة للآيات أعلاه ، وهي لا تختلف عن بعضها كثيرا من جهة النتيجة.

ويستفاد من أسباب النّزول هذه أنّ نساء النّبي قد طلبن منه طلبات مختلفة فيما يتعلّق بزيادة النفقة ، أو لوازم الحياة المختلفة ، بعد بعض الغزوات التي وفّرت للمسلمين غنائم كثيرة.

٢٢٥

وطبقا لنقل بعض التفاسير فإنّ «أمّ سلمة» طلبت من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله خادما لها ، وطلبت «ميمونة» حلّة ، وأرادت «زينب بنت جحش» قماشا يمنيا خاصّا ، و «حفصة» لباسا مصريا ، و «جويرية» لباسا خاصّا ، و «سودة» بساطا خيبريا! والنتيجة أنّ كلا منهنّ طلبت شيئا. فامتنع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عن تلبية طلباتهنّ ، وهو يعلم أنّ الاستسلام أمام هذه الطلبات التي لا تنتهي سيحمل معه عواقب وخيمة ، واعتزلهنّ شهرا ، فنزلت الآيات أعلاه وخاطبتهنّ بنبرة التهديد والحزم الممتزج بالرأفة والرحمة ، بأنكنّ إن كنتنّ تردن حياة مملوءة بزخارف الدنيا وزبارجها فبإمكانكن الانفصال عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والذهاب إلى حيث تردن ، وإن فضّلتنّ علاقتكنّ بالله ورسوله واليوم الآخر ، واقتنعتنّ بحياة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله البسيطة والباعثة على الفخر ، فابقين معه ، وتنعمنّ بمواهب الله العظيمة.

بهذا الجواب القاطع أجابت الآيات نساء النّبي اللائي كن يتوقّعن رفاهية العيش ، وخيّرتهنّ بين «البقاء» مع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله و «مفارقته».

* * *

التّفسير

أمّا السعادة الخالدة أو زخارف الدنيا!

لم يعزب عن أذهانكم أنّ الآيات الاولى من هذه السورة قد توّجت نساء النّبي بتاج الفخر حيث سمّتهنّ بـ (أمهات المؤمنين) ومن البديهي أنّ المناصب والمقامات الحسّاسة التي تبعث على الفخر تصاحبها مسئوليات ثقيلة ، فكيف يمكن أن تكون نساء النّبي امّهات المؤمنين وقلوبهنّ وأفكارهنّ مشغولة بحبّ الدنيا ومغرياتها؟

وهكذا ظننّ ، فإنّ الغنائم إذا سقطت في أيدي المسلمين فلا شكّ أنّ نصيبهنّ سيكون أفخرها وأثمنها كبقيّة نساء الملوك والسلاطين ، ويعطى لهنّ ما ناله

٢٢٦

المسلمون بتضحيات الفدائيين الثائرين ودماء الشهداء الطاهرة ، في الوقت الذي يعيش هنا وهناك أناس في غاية العسرة والشظف.

وبغضّ النظر عن ذلك ، فإنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يجب أن لا يكون لوحده أسوة للناس بحكم الآيات السابقة ، بل يجب أن تكون عائلته أسوة لباقي العوائل أيضا ، ونساؤه قدوة للنساء المؤمنات حتّى تقوم القيامة ، فليس النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ملكا وإمبراطورا ليكون له جناح خاصّ للنساء ، ويغرق نساءه بالحليّ والمجوهرات الثمينة النفيسة.

وربّما كان هناك جماعة من المسلمين المهاجرين الذين وردوا المدينة لا يزالون يقضون ليلهم على الصفّة (وهي مكان خاصّ كان إلى جنب مسجد النّبي) حتّى الصباح ، ولم يكن لهم في تلك المدينة أهل ولا دار ، وفي مثل هذه الأحوال لا يمكن أن يسمح النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لأزواجه أن يتوقّعن كلّ تلك الرفاهية والتوقّعات الاخرى.

ويستفاد من بعض الرّوايات أنّ بعض أزواجه قد كلّمنه بكلام خشن جاف ، حتّى أنّهنّ قلن : لعلّك تظنّ إن طلّقتنا لا نجد زوجا من قومنا غيرك(١) . هنا امر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يواجه هذه المسألة بحزم تامّ ، ويوضّح لهنّ حاله الدائمي ، فخاطبت الآية الاولى من الآيات أعلاه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وقالت :( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً ) .

«امتّعكن» من مادّة متعة ، وكما قلنا في الآية (٢٣٦) من سورة البقرة ، فإنّها تعني الهدية التي تلائم أحوال المرأة. والمراد هنا المقدار المناسب الذي يضاف على المهر ، وإن لم يكن المهر معيّنا فإنّه يعطيها هدية لائقة بحالها بحيث ترضيها وتسرّها ، ويتمّ طلاقها وفراقها في جوّ هادئ مفعم بالحبّ.

«السراح» في الأصل من مادّة (سرح) أي الشجرة التي لها ورق وثمر ، و

__________________

(١) كنز العرفان ، المجلّد ٢ ، ص ٢٣٨.

٢٢٧

«سرّحت الإبل» ، أي : أطلقتها لتأكل من الأعشاب وأوراق الشجر ، ثمّ أطلقت بمعنى أوسع على كلّ نوع من السراح ولكلّ شيء وشخص ، وتأتي أحيانا كناية عن الطلاق ، ويطلق (تسريح الشعر) على تمشيط الشعر وترجيله ، وفيه معنى الإطلاق أيضا. وعلى كلّ حال فإنّ المراد من «السراح الجميل» في الآية طلاق النساء وفراقهنّ فراقا مقترنا بالإحسان ، وليس فيه جبر وقهر.

وللمفسّرين وفقهاء المسلمين هنا بحث مفصّل في أنّه هل المراد من هذا الكلام أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد خيّر نساءه بين البقاء والفراق ، وإذا ما انتخبن الفراق فإنّه يعتبر طلاقا بحدّ ذاته فلا يحتاج إلى إجراء صيغة الطلاق؟ أم أنّ المراد هو أنّهنّ يخترن أحد السبيلين ، فإن أردن الفراق أجرى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله صيغة الطلاق ، وإلّا يبقين على حالهنّ؟

ولا شكّ أنّ الآية لا تدلّ على أيّ من هذين الأمرين ، وما تصوّره البعض من أنّ الآية شاهد على تخيير نساء النّبي ، وعدّوا هذا الحكم من مختصّات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأنّه لا يجري في سائر الناس ، لا يبدو صحيحا ، بل إنّ الجمع بين الآية أعلاه وآيات الطلاق يوجب أن يكون المراد الفراق عن طريق الطلاق.

وهذه المسألة مورد نقاش بين فقهاء الشيعة والسنّة ، إلّا أنّ القول الثّاني ـ أي الفراق عن طريق الطلاق ـ يبدو أقرب لظواهر الآيات ، إضافة إلى أنّ لتعبير (أسرحكنّ) ظهورا في أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقدّم على تسريحهنّ ، خاصّة وأنّ مادّة «التسريح» قد استعملت بمعنى الطلاق في موضع آخر من القرآن الكريم (سورة البقرة / الآية ٢٢٩)(١) .

وتضيف الآية التالية :( وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً ) .

__________________

(١) طالع التوضيح الأكثر في هذا الباب في الكتب الفقهية ، وخاصة كتاب الجواهر ، المجلّد ٢٩ ، صفحة ١٢٢ وما بعدها.

٢٢٨

لقد جمعت هذه الآية كلّ أسس الإيمان وسلوكيات المؤمن ، فمن جهة عنصر الإيمان والإعتقاد بالله والرّسول واليوم الآخر ، ومن جهة اخرى البرنامج العملي وكون الإنسان في صفّ المحسنين والمحسنات ، وبناء على هذا فإنّ إظهار عشق الله وحبّه ، والتعلّق بالنّبي واليوم الآخر لا يكفي لوحده ، بل يجب أن تنسجم البرامج العملية مع هذا الحبّ والعشق.

وبهذا فقد بيّن الله سبحانه تكليف نساء النّبي وواجبهنّ في أن يكنّ قدوة وأسوة للمؤمنات على الدوام ، فإن هنّ تحلين بالزهد وعدم الاهتمام بزخارف الدنيا وزينتها ، واهتممن بالإيمان والعمل الصالح وتسامي الروح ، فإنّهن يبقين أزواجا للنبي ويستحقّنّ هذا الفخر ، وإلّا فعليهنّ مفارقته والبون منه.

ومع أنّ المخاطب في هذه الآية هو نساء النّبي إلّا أنّ محتوى الآيات ونتيجتها تشمل الجميع ، وخاصّة من كان في مقام قيادة الناس وإمامتهم وأسوة لهم ، فإنّ هؤلاء على مفترق الطرق دائما ، فإمّا أن يستغلّوا المنصب الظاهري للوصول إلى الحياة المادية المرفّهة ، أو البقاء على حرمانهم لنوال رضى الله سبحانه وهداية خلقه.

ثمّ تتناول الآية التالية بيان موقع نساء النّبي أمام الأعمال الصالحة والطالحة ، وكذلك مقامهنّ الممتاز ، ومسئولياتهنّ الضخمة بعبارات واضحة ، فتقول :( يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً ) .

فأنتنّ تعشن في بيت الوحي ومركز النبوّة ، وعلمكنّ بالمسائل الإسلامية أكثر من عامّة الناس لارتباطكنّ المستمر بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ولقائه ، إضافة إلى أنّ الآخرين ينظرون إليكنّ ويتّخذون أعمالكنّ نموذجا وقدوة لهم. بناء على هذا فإنّ ذنبكنّ أعظم عند الله ، لأنّ الثواب والعقاب يقوم على أساس المعرفة ، ومعيار العلم ، وكذلك مدى تأثير ذلك العمل في البيئة ، فإنّ لكنّ حظّا أعظم من العلم ، ولكنّ موقع

٢٢٩

حسّاس له تأثيره في المجتمع.

ويضاف إلى ذلك أنّ مخالفتكنّ تؤذي النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من جهة ، ومن جهة اخرى توجّه ضربة إلى كيانه ومركزه ، ويعتبر هذا بحدّ ذاته ذنبا آخر ، ويستوجب عذابا آخر.

والمراد من «الفاحشة المبيّنة» الذنوب العلنية ، ونعلم أنّ المفاسد التي تنجم عن الذنوب التي يقترفها أناس مرموقون تكون أكثر حينما تكون علنية.

ولنا بحث في مورد «الضعف» و «المضاعف» سيأتي في البحوث.

أمّا قولهعزوجل :( وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً ) فهو إشارة إلى أن لا تظنّن أنّ عذابكنّ وعقابكنّ عسير على الله تعالى ، وأنّ علاقتكنّ بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ستكون مانعة منه ، كما هو المتعارف بين الناس حيث يغضّون النظر عن ذنوب الأصدقاء والأقرباء ، أو يعيرونها أهميّة قليلة كلّا ، فإنّ هذا الحكم سيجري في حقّكنّ بكلّ صرامة.

أمّا في الطرف المقابل ، فتقول الآية :( وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً ) .

«يقنت» من القنوت ، وهو يعني الطاعة المقرونة بالخضوع والأدب(١) ، والقرآن يريد بهذا التعبير أن يأمرهنّ بأن يطعن الله ورسوله ، ويراعين الأدب مع ذلك تماما.

ونواجه هنا هذه المسألة مرّة اخرى ، وهي أنّ مجرّد ادّعاء الإيمان والطاعة لا يكفي لوحده ، بل يجب أن تلمس آثاره بمقتضى( وَتَعْمَلْ صالِحاً ) .

«الرزق الكريم» له معنى واسع يتضمّن كلّ المواهب المادية والمعنوية ، وتفسيره بالجنّة باعتبارها مجمعا لكلّ هذه المواهب.

* * *

__________________

(١) المفردات للراغب ، مادّة قنوت.

٢٣٠

بحث

لما ذا يضاعف ثواب وعقاب المرموقين؟

قلنا : إنّ هذه الآيات وإن كانت تتحدّث عن نساء النّبي بأنّهنّ إن أطعن الله فلهنّ أجر مضاعف ، وإن ارتكبن ذنبا مبيّنا فلهنّ عذاب الضعف بما اكتسبن ، إلّا أنّ الملاك والمعيار الأصلي لما كان امتلاك المقام والمكانة المرموقة ، والشخصية الاجتماعية البارزة ، فإنّ هذا الحكم صادق في حقّ الأفراد الآخرين الذين لهم مكانة ومركز اجتماعي مهمّ.

إنّ مثل هؤلاء الأفراد لا يرتبط سلوكهم وتصرفاتهم بهم خاصّة ، بل إنّ لوجودهم بعدين : بعد يتعلّق بهم ، وبعد يرتبط بالمجتمع ، ويمكن أن يكون نمط حياتهم سببا لهداية جماعة من الناس ، أو ضلال اخرى.

بناء على هذا فإنّ لأعمالهم أثرين : أحدهما فردي ، والآخر اجتماعي ، ولكلّ منهما ثواب وعقاب بهذا اللحاظ ، ولذلك نقرأ في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «يغفر للجاهل سبعون ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد»(١) !

ومضافا إلى ذلك ، فإنّ العلاقة وثيقة بين مستوى العلمية ومقدار الثواب والعقاب ، كما ورد ذلك في بعض الأحاديث الشريفة ، حيث نقرأ : «إنّ الثواب على قدر العقل»(٢) .

وجاء في حديث آخر عن الإمام الباقرعليه‌السلام : «إنّما يداقّ الله العباد في الحساب يوم القيامة على قدر ما آتاهم من العقول في الدنيا»(٣) .

بل ورد في رواية عن الإمام الصادقعليه‌السلام : إذا بلغت النفس هاهنا ـ وأشار بيده إلى حلقه ـ لم يكن للعالم توبة ، ثمّ قرأ :( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ

__________________

(١) اصول الكافي ، المجلد الأول ، ص ٣٧ باب لزوم الحجة على العالم.

(٢) اصول الكافي ، الجزء الأول ، صفحة ٩ كتاب العقل والجهل.

(٣) المصدر السابق.

٢٣١

بِجَهالَةٍ ) (١) .

ومن هنا يتّضح أنّه ربّما كان معنى المضاعف والمرتين هنا هو الزيادة ، فقد تكون ضعفين حينا ، وتكون أضعافا مضاعفة حينا آخر ، تماما كما في الأعداد التي لها صفة التكثير ، خاصّة وأنّ الراغب يقول في مفرداته في معنى الضعف : ضاعفته : ضممت إليه مثله فصاعدا ـ تأمّلوا بدقّة ـ

والرواية التي ذكرناها قبل قليل حول التفاوت بين ذنب العالم والجاهل إلى سبعين ضعفا شاهد آخر على هذا الادّعاء.

إنّ تعدّد مراتب الأشخاص واختلاف تأثيرهم في المجتمع نتيجة اختلاف مكاناتهم الاجتماعية ، وكونهم أسوة يوجب أن يكون الثواب والعقاب الإلهي بتلك النسبة.

وننهي هذا البحث بحديث عن الإمام السجّاد عليّ بن الحسينعليهما‌السلام ، وذلك أنّ رجلا قال له : إنّكم أهل بيت مغفور لكم ، فغضب الإمام وقال : «نحن أحرى أن يجري فينا ما أجرى الله في أزواج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من أن نكون كما تقول ، إنّا نرى لمحسننا ضعفين من الأجر ، ولمسيئنا ضعفين من العذاب ، ثمّ قرأ الآيتين»(٢) .

* * *

__________________

(١) اصول الكافي ، المجلّد الأوّل ، صفحة ٣٨ باب لزوم الحجّة على العالم ، والآية (١٧) من سورة النساء.

(٢) مجمع البيان ، المجلّد ٨ ، صفحة ٣٥٤ ذيل الآية مورد البحث.

٢٣٢

الآيات

( يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٣٢) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (٣٤) )

التّفسير

هكذا يجب أن تكون نساء النّبي!

كان الكلام في الآيات السابقة عن موقع نساء النّبي ومسئولياتهنّ الخطيرة ، ويستمرّ هذا الحديث في هذه الآيات ، وتأمر الآيات نساء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بسبعة أوامر مهمّة.

فيقول سبحانه في مقدّمة قصيرة :( يا ـ نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ

٢٣٣

اتَّقَيْتُنَ ) فإنّ انتسابكنّ إلى النّبي من جانب ، ووجودكنّ في منزل الوحي وسماع آيات القرآن وتعليمات الإسلام من جانب آخر ، قد منحكن موقعا خاصّا بحيث تقدرن على أن تكن نموذجا وقدوة لكلّ النساء ، سواء كان ذلك في مسير التقوى أم مسير المعصية ، وبناء على هذا ينبغي أن تدركن موقعكنّ ، ولا تنسين مسئولياتكنّ الملقاة على عاتقكنّ ، واعلمن أنّكنّ إن اتقيتنّ فلكنّ عند الله المقام المحمود.

وبعد هذه المقدّمة التي هيّأتهنّ لتقبّل المسؤوليات وتحمّلها ، فإنّه تعالى أصدر أوّل أمر في مجال العفّة ، ويؤكّد على مسألة دقيقة لتتّضح المسائل الاخرى في هذا المجال تلقائيا ، فيقول :

( فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ) بل تكلّمن عند تحدثكنّ بجدّ وبأسلوب عاديّ ، لا كالنساء المتميّعات اللائي يسعين من خلال حديثهنّ المليء بالعبارات المحرّكة للشهوة ، والتي قد تقترن بترخيم الصوت وأداء بعض الحركات المهيّجة ، أن يدفعن ذوي الشهوات إلى الفساد وارتكاب المعاصي.

إنّ التعبير بـ( الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ) تعبير بليغ جدّا ، ومؤدّ لحقيقة أنّ الغريزة الجنسية عند ما تكون في حدود الاعتدال والمشروعية فهي عين السلامة ، أمّا عند ما تتعدّى هذا الحدّ فإنّها ستكون مرضا قد يصل إلى حدّ الجنون ، والذي يعبّرون عنه بالجنون الجنسي ، وقد فصّل العلماء اليوم أنواعا وأقساما من هذا المرض النفسي الذي يتولّد من طغيان هذه الغريزة ، والخضوع للمفاسد الجنسية والبيئات المنحطّة الملوّثة.

ويبيّن الأمر الثّاني في نهاية الآية فيقولعزوجل : يجب عليكنّ التحدّث مع الآخرين بشكل لائق ومرضي لله ورسوله ، ومقترنا مع الحقّ والعدل :( وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً ) .

إنّ جملة( فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ ) إشارة إلى طريقة التحدّث ، وجملة :( وَقُلْنَ قَوْلاً

٢٣٤

مَعْرُوفاً ) إشارة إلى محتوى الحديث.

«القول المعروف» له معنى واسع يتضمّن كلّ ما قيل ، إضافة إلى أنّه ينفي كلّ قول باطل لا فائدة فيه ولا هدف من ورائه ، وكذلك ينفي المعصية وكلّ ما خالف الحقّ.

ثمّ إنّ الجملة الأخيرة قد تكون توضيحا للجملة الأولى لئلّا يتصوّر أحد أنّ تعامل نساء النّبي مع الأجانب يجب أن يكون مؤذيا وبعيدا عن الأدب الإسلامي ، بل يجب أن يتعاملن بأدب يليق بهنّ ، وفي الوقت نفسه يكون خاليا من كلّ صفة مهيّجة.

ثمّ يصدر الأمر الثالث في باب رعاية العفّة ، فيقول :( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى ) .

«قرن» من مادّة الوقار ، أي الثقل ، وهو كناية عن التزام البيوت. واحتمل البعض أن تكون من مادّة (القرار) ، وهي لا تختلف عن المعنى الأوّل كثيرا(١) .

و «التبرّج» يعني الظهور أمام الناس ، وهو مأخوذ من مادّة (برج) ، حيث يبدو ويظهر لأنظار الجميع.

لكن ما هو المراد من «الجاهلية»؟

الظاهر أنّها الجاهلية التي كانت في زمان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم تكن النساء محجّبات حينها كما ورد في التواريخ ، وكنّ يلقين أطراف خمرهن على ظهورهنّ مع إظهار نحورهنّ وجزء من صدورهنّ وأقراطهنّ وقد منع القرآن الكريم أزواج النّبي من مثل هذه الأعمال.

ولا شكّ أنّ هذا الحكم عامّ ، والتركيز على نساء النّبي من باب التأكيد الأشدّ ، تماما كما نقول لعالم : أنت عالم فلا تكذب ، فلا يعني هذا أنّ الكذب مجاز ومباح

__________________

(١) طبعا يكون فعل الأمر (أقررن) في صورة كونها من مادّة القرار ، وحذفت الراء الاولى للتخفيف ، وانتقلت فتحة الراء إلى القاف ، ومع وجودها لا نحتاج إلى الهمزة ، وتصبح (قرن) ـ تأمّلوا جيّدا ـ

٢٣٥

للآخرين ، بل المراد أنّ العالم ينبغي أن يتّقي هذا العمل بصورة آكد.

إنّ هذا التعبير يبيّن أنّ جاهلية اخرى ستأتي كالجاهلية الاولى التي ذكرها القرآن ، ونحن نرى اليوم آثار هذا التنبّؤ القرآني في عالم التمدّن المادّي ، إلّا أنّ المفسّرين القدامى لم يتنبّؤوا ويعلموا بمثل هذا الأمر ، لذلك فقد جهدوا في تفسير هذه الكلمة ، ولذلك اعتبر البعض منهم الجاهلية الاولى هي الفاصلة بين «آدم» و «نوح» ، أو الفاصلة بين عصر «داود» و «سليمان» حيث كانت النساء تخرج بثياب يتّضح منها البدن ، وفسّروا الجاهلية العربية قبل الإسلام بالجاهلية الثّانية!

ولكن لا حاجة إلى هذه الكلمات كما قلنا ، بل الظاهر أنّ الجاهلية الاولى هي الجاهلية قبل الإسلام ، والتي أشير إليها في موضع آخر من القرآن الكريم ـ في الآية (١٤٣) من سورة آل عمران ، والآية (٥٠) من سورة المائدة ، والآية (٢٦) من سورة الفتح ـ والجاهلية الثّانية هي الجاهلية التي ستكون فيما بعد ، كجاهلية عصرنا. وسنبسط الكلام حول هذا الموضوع في بحث الملاحظات.

وأخير يصدر الأمر الرابع والخامس والسادس ، فيقول سبحانه :( وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ ) .

إذا كانت الآية قد أكّدت على الصلاة والزكاة من بين العبادات ، فإنّما ذلك لكون الصلاة أهمّ وسائل الاتّصال والارتباط بالخالقعزوجل ، وتعتبر الزكاة علاقة متينة بخلق الله ، وهي في الوقت نفسه عبادة عظيمة. وأمّا جملة :( أَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ ) فإنّه حكم كلّي يشمل كلّ البرامج الإلهية.

إنّ هذه الأوامر الثلاثة تشير إلى أنّ الأحكام المذكورة ليست مختّصة بنساء النّبي ، بل هي للجميع ، وإن أكّدت عليهنّ.

ويضيف الله سبحانه في نهاية الآية :( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) .

إنّ التعبير بـ (إنّما) والذي يدلّ على الحصر عادة ـ دليل على أنّ هذه المنقبة

٢٣٦

خاصّة بأهل بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله . وجملة (يريد) إشارة إلى إرادة الله التكوينية ، وإلّا فإنّ الإرادة التشريعية ـ وبتعبير آخر لزوم تطهير أنفسهم ـ لا تنحصر بأهل بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّ كلّ الناس مكلّفون بأن يتطهّروا من كلّ ذنب ومعصية.

من الممكن أن يقال : إنّ الإرادة التكوينية توجب أن يكون ذلك جبرا ، إلّا أنّ جواب ذلك يتّضح من ملاحظة البحوث التي أوردناها في مسألة كون الأنبياء والأئمّة معصومين ، ويمكن تلخيص ذلك هنا بأنّ للمعصومين أهلية اكتسابية عن طريق أعمالهم ، ولهم لياقة ذاتية موهوبة لهم من قبل الله سبحانه ، ليستطيعوا أن يكونوا أسوة للناس.

وبتعبير آخر فإنّ المعصومين نتيجة للرعاية الإلهية وأعمالهم الطاهرة ، لا يقدمون على المعصية مع امتلاكهم القدرة والإختيار في إتيانها ، تماما كما لا نرى عاقلا يرفع جمرة من النار ويضعها في فمّه ، مع أنّه غير مجبر ولا مكره على الامتناع عن هذا العمل ، فهذه الحالة تنبعث من أعماق وجود الإنسان نتيجة المعلومات والاطلاع ، والمبادئ الفطرية والطبيعية ، من دون أن يكون في الأمر جبر وإكراه.

ولفظة «الرجس» تعني الشيء القذر ، سواء كان نجسا وقذرا من ناحية طبع الإنسان ، أو بحكم العقل أو الشرع ، أو جميعها(١) . وما ورد في بعض الأحيان من تفسير «الرجس» بالذنب أو الشرك أو البخل والحسد ، أو الإعتقاد بالباطل ، وأمثال ذلك ، فإنّه في الحقيقة بيان لمصاديقه ، وإلّا فإنّ مفهوم هذه الكلمة عامّ وشامل لكلّ أنواع الحماقات بحكم (الألف واللام) التي وردت هنا ، والتي تسمّى بألف ولام الجنس.

و «التطهير» الذي يعني إزالة النجس ، هو تأكيد على مسألة إذهاب الرجس

__________________

(١) ذكر الراغب في مفرداته ، في مادّة (رجس) المعنى المذكور أعلاه ، وأربعة أنواع كمصاديق له.

٢٣٧

ونفي السيّئات ، ويعتبر ذكره هنا بصيغة المفعول المطلق تأكيدا آخر على هذا المعنى.

وأمّا تعبير( أَهْلَ الْبَيْتِ ) فإنّه إشارة إلى أهل بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله باتّفاق علماء الإسلام والمفسّرين ، وهو الشيء الذي يفهم من ظاهر الآية ، لأنّ البيت وإن ذكر هنا بصيغة مطلقة ، إلّا أنّ المراد منه بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بقرينة الآيات السابقة واللاحقة(١) .

إلّا أنّ هناك اختلافا في المقصود بأهل بيت النّبي هنا؟

اعتقد البعض أنّ هذا التعبير مختصّ بنساء النّبي ، لأنّ الآيات السابقة واللاحقة تتحدّث حول أزواج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فاعتبروا ذلك قرينة على مدّعاهم.

غير أنّ الانتباه إلى مسألة في الآية ينفي هذا الادّعاء ، وهي : أنّ الضمائر التي وردت في الآيات السابقة واللاحقة ، جاءت بصيغة ضمير النسوة ، في حين أنّ ضمائر هذه القطعة من الآية قد وردت بصيغة جمع المذكر ، وهذا يوحي بأنّ هناك معنى آخر هو المراد ، ولذلك خطا جمع آخر من المفسّرين خطوة أوسع واعتبر الآية شاملة لكلّ أفراد بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله رجالا ونساء.

ومن جهة اخرى فإنّ الرّوايات الكثيرة جدّا الواردة في كتب الفريقين تنفي شمول الآية لكلّ أهل بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتقول : إنّ المخاطبين في الآية هم خمسة أفراد فقط ، وهم : محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله وعلي وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام ومع وجود النصوص الكثيرة التي تعتبر قرينة على تفسير الآية ، فإنّ التّفسير الذي يمكن قبوله هو التّفسير الثالث فقط ، أي اختصاص الآية بالخمسة الطيّبة.

والسؤال الوحيد الذي يبقى هنا هو : كيف يمكن أن يطرح مطلب في طيّات البحث في واجبات نساء النّبي ولا يشملهنّ هذا المطلب؟

__________________

(١) ما ذكره البعض من أنّ «البيت» هنا إشارة الى بيت الله الحرام ، وأهله هم «المتّقون» لا يتناسب مطلقا مع سياق الآيات. لأنّ الكلام في هذه الآيات عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأزواجه ، لا عن بيت الله الحرام ، ولا يوجد أيّ دليل على قولهم.

٢٣٨

وقد أجاب المفسّر الكبير العلّامة «الطبرسي» في مجمع البيان عن هذا السؤال فقال: ليست هذه المرّة الاولى التي نرى فيها في آيات القرآن أن تتّصل مع بعضها وتتحدّث عن مواضيع مختلفة ، فإنّ القرآن مليء بمثل هذه البحوث ، وكذلك توجد شواهد كثيرة على هذا الموضوع في كلام فصحاء العرب وأشعارهم.

وأضاف المفسّر الكبير صاحب الميزان جوابا آخر ملخّصه : لا دليل لدينا على أنّ جملة :( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ ) قد نزلت مع هذه الآيات ، بل يستفاد جيّدا من الرّوايات أنّ هذه القطعة قد نزلت منفصلة ، وقد وضعها الإمام مع هذه الآيات لدى جمعه آيات القرآن في عصر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أو بعده.

والجواب الثالث الذي يمكن أن يجاب به عن هذا السؤال هو : أنّ القرآن يريد أن يقول لزوجات النّبي : إنكنّ بين عائلة بعضها معصومون ، والذي يعيش في ظلّ العصمة ومنزل المعصومين فإنّه ينبغي له أن يراقب نفسه أكثر من الآخرين ، ولا تنسين أنّ انتسابكنّ إلى بيت فيه خمسة معصومين يلقي على عاتقكنّ مسئوليات ثقيلة ، وينتظر منه الله وعباده انتظارات كثيرة.

وسنبحث في الملاحظات القادمة ـ إن شاء الله تعالى ـ روايات السنّة والشيعة الواردة في تفسير هذه الآية.

وبيّنت الآية الأخيرة ـ من الآيات مورد البحث ـ سابع وظيفة وآخرها من وظائف نساء النّبي ، ونبّهتهن على ضرورة استغلال أفضل الفرص التي تتاح لهنّ في سبيل الإحاطة بحقائق الإسلام والعلم بها وبأبعادها ، فتقول :( وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ ) .

فإنكنّ في مهبط الوحي ، وفي مركز نور القرآن ، فحتّى إذا جلستن في البيوت فأنتنّ قادرات على أن تستفدن جيّدا من الآيات التي تدوّي في فضاء بيتكنّ ، ومن تعليمات الإسلام وحديث النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي كان يتحدّث به ، فإنّ كل نفس من أنفاسه درس ، وكلّ لفظ من كلامه برنامج حياة!

وفيما هو الفرق بين «آيات الله» و «الحكمة»؟ قال بعض المفسّرين : إنّ كليهما

٢٣٩

إشارة إلى القرآن ، غاية ما في الأمر أنّ التعبير بـ (الآيات) يبيّن الجانب الإعجازي للقرآن ، والتعبير بـ (الحكمة) يتحدّث عن المحتوى العميق والعلم المخفي فيه.

وقال البعض الآخر : إنّ «آيات الله» إشارة إلى آيات القرآن ، و «الحكمة» إشارة إلى سنّة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مواعظه وإرشاداته الحكيمة.

ومع أنّ كلا التّفسيرين يناسب مقام وألفاظ الآية ، إلّا أنّ التّفسير الأوّل يبدو أقرب ، لأنّ التعبير بالتلاوة يناسب آيات الله أكثر ، إضافة إلى أنّ تعبير النّزول قد ورد في آيات متعدّدة من القرآن في مورد الآيات والحكمة ، كالآية (٢٣١) من سورة البقرة :( وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ ) ويشبهه ما جاء في الآية (١١٣) من سورة النساء.

وأخيرا تقول الآية :( إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً ) وهي إشارة إلى أنّه سبحانه مطّلع على أدقّ الأعمال وأخفاها ، ويعلم نيّاتكم تماما ، وهو خبير بأسراركم الدفينة في صدوركم.

هذا إذا فسّرنا «اللطيف» بالمطّلع على الدقائق والخفيات ، وأمّا إذا فسّر بصاحب اللطف ، فهو إشارة إلى أنّ الله سبحانه لطيف ورحيم بكنّ يا نساء النّبي ، وهو خبير بأعمالكنّ أيضا.

ويحتمل أيضا أن يكون التأكيد على «اللطيف» من جانب إعجاز القرآن ، وعلى «الخبير» باعتبار محتواه الحكمي. وفي الوقت نفسه لا منافاة بين هذه المعاني ويمكن جمعها.

* * *

بحوث

١ ـ آية التطهير برهان واضح على العصمة :

اعتبر بعض المفسّرين «الرجس» في الآية المذكورة إشارة إلى الشرك أو الكبائر ـ كالزنا ـ فقط ، في حين لا يوجد دليل على هذا التحديد ، بل إنّ إطلاق

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ) (١) .

( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ) (٢) .

( قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ) (٣) .

إلى غيرها من آياتٍ جرى فيها الوصف مجرى العقلاء، لمـّا اُضمر التشبيه بهم في النفس، من باب الاستعارة التخييليّة أو الاستعارة بالكناية، على حدّ تعبيرهم.

مُثنّى يُراد به الجماعات

كثيراً مّا تُثنّى ألفاظٌ يُراد بالواحد منها الجمع دون الفرد الحقيقي؛ ولذلك قد يعود عليه بضمير الجمع نظراً إلى المعنى، فاللفظ وإن كان مُثنّى لكن يُراد به الجمعان، وهما معاً جمعٌ لا محالة.

من ذلك قوله تعالى: ( هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ) حيث المراد بالخصمَين جماعة الكفّار وجماعة المؤمنين، حيث التخاصم بين الفريقين قائمٌ على ساقٍ، ولذلك تعقّبت الآية بقوله: ( فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ... إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ) (٤) .

قال الطبرسي: فالفِرَق الكافرة خصمٌ، والمؤمنون خصمٌ، وقد ذُكروا فيما قبلُ (٥) .

وهكذا خطابات الجمع الموجّهة إلى آدم وحوّاء يُراد بها: آدم وحوّاء وذريّتهما؛ حيث هبوطهما من الجنّة إلى الأرض هبوط ذرّيّتهما الذين سيولدون منهما أيضاً، فالخطاب مع الجمع - جماعة بني الإنسان - وليس آدم وحوّاء وحدهما.

____________________

(١) الأعراف ٧: ١٩٧.

(٢) فاطر ٣٥: ١٣ و١٤.

(٣) الشعراء ٢٦: ٧١ - ٧٣.

(٤) الحجّ ٢٢: ١٩ - ٢٤.

(٥) مجمع البيان، ج٧، ص٧٧.

٤٠١

بدليل ذيل الآيات: ( قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (١) ، ( قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ) (٢) .

وقد وَهِم مَن زَعم أنّ الخطاب يشترك فيه إبليس أو الحيّة أو غيرهما؛ حيث لا تناسب له مع سياق الآيات (٣) .

* * *

قوله تعالى: ( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ) (٤) ، زَعَموا فيه تهافتاً، وكان الوجه أنْ يُقال: اقتتلا، أو بينهم، فجمع الضمير ثمّ تثنيته تهافت (٥) .

لكن الجمع إنّما هو باعتبار أنّ الاقتتال يقع بين آحاد المؤمنين مِن كلّ طائفة، أمّا التصالح فإنّما هو بين الفريقَين لا الآحاد (٦) .

جمعٌ يراد به الاثنان فما فوق

قد يُعبّر بلفظ الجمع ويُراد به مطلق الجمع، أي الجمع العرفي الصادق من اجتماع اثنين فما فوق، ضمير المتكلّم مع الغير يُراد به الاثنان فما فوق، وهذا شائعٌ في سائر اللغات التي لا توجد فيها صيغ للتثنية، والعرب قد تستعمل ذلك حسب العرف العامّ ونظراً للمعنى اللغوي للجمع الصادق مع الاثنين.

قال الطبرسي: والعرب تُسمّي الاثنين بلفظ الجمع في كثير من كلامهم، حكى سيبويه أنّهم يقولون: وَضَعا رحالَهما، يريدون رَحْلَي راحلتيهما، وقال تعالى: ( وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ) (٧) ، يعني: حكم داود وسليمان (٨) .

____________________

(١) البقرة ٢: ٣٨.

(٢) الأعراف ٧: ٢٤: ٢٥.

(٣) راجع: مجمع البيان، ج١، ص٨٧.

(٤) الحجرات ٤٩: ٩.

(٥) هاشم العربي في ملحق ترجمة كتاب الإسلام، ص٤١٩.

(٦) الهدى إلى دين المصطفى، ج١، ص٣٨٤.

(٧) الأنبياء ٢١: ٧٨.

(٨) مجمع البيان، ج٣، ص١٥.

٤٠٢

قال سيبويه - في باب ما لُفظ به ممّا هو مُثنّى كما لُفظ بالجمع -: وهو أنْ يكون الشيئان كلّ واحدٍ منهما بعض شيءٍ مفرد من صاحبه، وذلك قولك: ما أَحْسَنَ رُؤُوسهما، وما أَحْسَنَ عَواليَهما، وقال عزّ وجلّ: ( إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ) (١) ، ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ) (٢) فرّقوا بين المـُثنّى الذي هو شيء على حِدَةٍ وبين ذا، وقال الخليل: نظيره قولك: فعلنا، وأنتما اثنان فتكلّم به كما تكلّم به وأنتم ثلاثة.

وقد قالت العرب في الشيئين اللّذين كلّ واحدٍ منهما اسمٌ على حِدَةٍ وليس واحدٌ منها بعض شيء، كما قالوا في ذا (أي فيما كان كلّ واحدٍ منهما بعض شيءٍ)؛ لأنّ التثنية جمعٌ، فقالوا كما قالوا فعلنا، وزعم يونس أنّهم يقولون: ضَعْ رحالَهما وغلمانَهما، وإنّما هما اثنان، قال اللّه عزّ وجلّ: ( وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ ) (٣) ، وقال: ( كَلاّ فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ ) (٤) .

* * *

وفي كتاب (إعراب القرآن) المنسوب إلى الزجّاج (٥) جاء الباب الثامن والأربعون لبيان ما جاء في القرآن من الجمع يُراد به التثنية.

فمن ذلك قوله تعالى: ( فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ ) (٦) ، وأجمعت الأُمّة على أنّ الأخوين يحجبان الأُمّ من الثُلث إلى السُدس بدلالة الآية.

وقوله تعالى: ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ) (٧) أي يديهما.

وقوله تعالى: ( إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ) (٨) أي قلباكما.

وقيل في قوله تعالى: ( بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ ) : (٩) إنّه مِن هذا الباب، لقوله تعالى:

____________________

(١) التحريم ٦٦: ٤.

(٢) المائدة ٥: ٣٨.

(٣) ص ٣٨: ٢١ و٢٢، في حين أنّهما كانا اثنين (أخوين).

(٤) الشعراء ٢٦: ١٥، راجع: كتاب سيبويه، ج٢، ص٢٣٧.

(٥) ومن المحتمل القريب أنه لمكّي بن أبي طالب، راجع: ملحق الكتاب، ص١٠٩٦ - ١٠٩٩.

(٦) النساء ٤: ١١.

(٧) المائدة ٥: ٣٨.

(٨) التحريم ٦٦: ٤.

(٩) المعارج ٧٠: ٤٠.

٤٠٣

( رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ) (١) .

وقوله تعالى: ( وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ) (٢) ، والمتقدّم: داود وسليمان (٣) .

وهكذا قال أبو البقاء العكبري: قيل: إنّما جُمع؛ لأنّ الاثنين جمع (٤) .

قال أبو جعفر الطبري: قال جماعة أصحاب رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) والتابعين لهم بإحسان ومَن بعدهم من علماء أهل الإسلام في كلّ زمان: عنى اللّه جل ثناؤه بقوله: ( فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ ) اثنين كان الإخوة أو أكثر منهما، أُنثيين كانتا أو كُنّ إناثاً، أو ذَكَرَين كانا أو كانوا ذُكوراً، أو كان أحدهما ذكراً والآخر أُنثى، واعتلّ كثير ممّن قال ذلك بأنّ ذلك قالته الأُمّة عن بيان اللّه جلّ ثناؤه على لسان رسوله (صلّى اللّه عليه وآله)، فنقلته أُمّة نبيّه نقلاً مستفيضاً قَطَع العذر مجيئه، ودَفَع الشكَّ فيه عن قلوب الخَلق ورودُه (٥) .

* * *

وقال أبو بكر الجصّاص: إنّ اسم الإخوة قد يقع على الاثنين، كما قال تعالى: ( إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ) (٦) وهما قلبان، وقال تعالى: ( وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ) (٧) ثُمّ قال تعالى: ( خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ ) (٨) فأُطلق لفظ الجمع على اثنين، وقال تعالى: ( وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ ) (٩) فلو كان أخاً وأختاً كان حكم الآية جارياً فيهما.

وقد رُوي عن النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) أنّه قال: (اثنان فما فوقهما جماعةٌ) (١٠) .

ولأنّ الاثنين إلى الثلاثة في حكم الجمع أَقرب منهما إلى الواحد؛ لأنّ لفظ الجمع موجود فيهما.

____________________

(١) الرحمان ٥٥: ١٧.

(٢) الأنبياء ٢١: ٧٨.

(٣) إعراب القرآن، القسم الثالث، ص٧٨٧.

(٤) في كتابه: إملاء ما مَنَّ به الرحمان في إعراب القرآن، ج٢، ص١٣٥.

(٥) جامع البيان، ج٤، ص١٨٧ - ١٨٨.

(٦) التحريم ٦٦: ٤.

(٧) ص ٣٨: ٢١.

(٨) ص ٣٨: ٢٢.

(٩) النساء ٤: ١٧٦.

(١٠) سُنَن ابن ماجة، باب ٢٤٦، ج١، ص٣٠٨، رقم ٩٨١، وقد عقد البخاري باباً جَعل ذلك عنوانه: باب ٣٥ الأذان، ج١، ص١٦٧، وراجع: فتح الباري، ج٢، ص١١٨.

٤٠٤

وقد رُوي (وبإسناد صحيح) عن زيد بن ثابت أنّه كان يحجب الأُمّ بالأخوين، فقالوا له: يا أبا سعيد، إنّ اللّه تعالى يقول ( فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ ) (١) وأنت تحجبها بالأخوَين؟ فقال: إنّ العرب تُسمّي الأخوين إخوة (٢) .

فإذا كان زيد بن ثابت (وهو عربيّ صميم) قد حكى عن العرب أنّها تُسمّي الأخوين إخوة فقد ثبت أنّ ذلك اسمٌ لهما يتناولهما... (٣)

قال تعالى: - بشأن الأولاد -: ( فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ) (٤) ، فقد شملت النساء - وهي صيغة الجمع - للاثنتين فما فوق: ومِن ثَمّ كان معنى قوله ( فَوْقَ اثْنَتَيْنِ ) : اثنتين فما فوق، وذلك بدليل تقابله مع قوله: ( وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ) ، وإلاّ كانت الاثنتان مغفولاً عنهما، الأمر الذي لا يتّفق مع كون سياق الكلام لبيان الاستيعاب.

ويشهد لذلك قوله تعالى بشأن الكَلالة: ( إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ ) (٥) ، والمراد: الاثنتان فما فوق، بدليل الإجماع في كلا الموضعَين.

ذكر الطبرسي في الآية الأُولى وجوهاً، أحدها - وهو أوجهها -: أنّ في الآية بيان حكم البنتين فما فوق؛ لأنّ معناه: فإن كُنّ اثنتين فما فوق فلهُنّ ثُلُثا ما ترك، إلاّ أنّه قدّم ذَكَر الفوق على الاثنتين، كما رُوي عن النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) أنّه قال: (لا تُسافر المرأةُ سفراً فوقَ ثلاثة أيّام إلاّ ومعها زوجُها أو ذو محرمٍ لها) (٦) ، ومعناه: لا تسافر سفراً ثلاثة أيّام فما فوقها (٧) .

____________________

(١) النساء ٤: ١١.

(٢) أحكام القرآن للجصّاص، ج٢، ص٨١ - ٨٢.

(٣) السُنَن الكبرى للبيهقي، ج٦، ص٢٢٧، باب فرض الأُمّ، وقد عَقَد البيهقي باباً لترجيح قول زيد على قول غيره من الصحابة وأنّه أعلم الصحابة بعلم الفرائض، راجع: ج٦، ص٢١٠.

وهكذا روى الحاكم في المستدرك، ج٤، ص٣٥، كان زيد يقول: الإخوة في كلام العرب أخوانِ فصاعداً، قال: هذا حديث صحيح لم يخرجه الشيخان.

وروى بإسناد صحّحه أيضاً أنّ زيداً أفرض الأُمّ، وراجع: الدرّ المنثور، ج٢، ص٤٤٧.

(٤) النساء ٤: ١١.

(٥) النساء ٤: ١٧٦.

(٦) راجع: السُنَن الكبرى، ج١٠، ص٨٢، وسُنَن أبي داود، ص١٤٠، رقم ١٧٢٦، وسُنَن ابن ماجة، ج٢، ص٢١١، رقم ٢٩٤٧، وصحيح البخاري، ج٢، ص٥٤، باب التقصير في السفر، رقم ٤.

٤٠٥

هذا الحديث وَرَد بألفاظٍ يختلف بعضها عن بعض، فكان مقتضى الجمع بينها هو الحكم بأنّ الزائد على اليومين حرامٌ عليها إلاّ مع ذي رحم.

ففي سُنَن البيهقي: (لا تُسافر المرأةُ فوق ثلاثة أيّام إلاّ مع ذي مَحرمٍ) (١) .

وفي لفظ أبي داود: (لا يَحل لامرأةٍ... أنْ تُسافر سفراً فوق ثلاثة أيّام فصاعداً إلاّ ومعها أبوها، أو أخوها، أو زوجها، أو ابنها، أو ذو مَحرم منها) (٢) .

وأيضاً رُوي: (لا تُسافر المرأةُ سفرَ ثلاثة أيّام فصاعداً إلاّ مع...) (٤) .

وفي البخاري: (لا تُسافر المرأةُ ثلاثةَ أيّام إلاّ مع ذي مَحرم)، وجاء في الهامش: وفي نسخة (فوق ثلاثة أيّام) (٥) .

وأيضاً رُوي: (لا تُسافر المرأةُ يومَين إلاّ ومعها زوجها أو ذو مَحرم) (٦) (لا تُسافر المرأةُ مسيرةَ يومين إلاّ ومعها زوجها أو ذو محرم) (٧) .

ومقتضى الجمع بين مختلف التعابير أنّ النهي إنّما يتوجّه إليها فيما بعد اليومَين؛ ومِن ثَمّ فَهِم الفقهاء من قوله (صلّى اللّه عليه وآله): (فوق ثلاثة أيّام) الثلاثة فما فوق.

يجوز في جماعة غير ذوي العقول اعتبار جمع التأنيث

قال تعالى: ( فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ ) (٨) ، جاء وصف الأيّام - وهو جمعٌ مكسّر لـ (يوم) الذي هو مُذكّر حيث قوله تعالى: ( فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ ) (٩) بجمع المؤنّث السالم (بالألف والتاء).

____________________

(٧) مجمع البيان، ج٣، ص١٤.

(١) السُنَن الكبرى، ج١٠، ص٨٢، باب من نذر المشي إلى مسجد المدينة أو مسجد بيت المقدس، رقم ٢.

(٢) سُنَن أبي داود، ج٢، ص١٤٠، رقم ١٧٢٦، باب المرأة تحجّ بغير محرم، رقم ٤.

(٣) المصدر: ص١٤١، رقم ١٧٢٧/٥.

(٤) سُنَن ابن ماجة، ج٢، ص٢١١، باب ١٠١٤ المرأة تحجّ بغير ولي، رقم ٢٩٤٧.

(٥) صحيح البخاري، ج٢، ص٥٤، باب التقصير في السفر، رقم ٤.

(٦) المصدر: ص٧٧، باب مسجد بيت المقدس.

(٧) المصدر: ج٣، ص٥٦ باب الصوم يوم النحر.

(٨) فصّلت ٤١: ١٦.

(٩) القمر ٥٤: ١٩.

٤٠٦

قال أبو حيّان الأندلسي: و(نحسات) صفة لأيّام، جُمع بألفٍ وتاء؛ لأنّه جمع صفة لِما يَعقل (١) .

قال الزمخشري: في قوله تعالى: ( وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ...الَّذِي خَلَقَهُنَّ ) : (٢) الضمير في (خلقهنّ) للّيل والنهار والشمس والقمر؛ لأنّ حكم جماعة مالا يعقل حكم الأُنثى أو الإناث، يقال: الأقلام بَرَيْتُها وبَرَيتُهُنّ (٣) .

قال المحقّق رضيّ الدين الاسترآبادي - بشأن جمع غير العاقلين -: هو ثلاثة أقسام، مُذكّر لا يَعقِل كالأيّام والجبيلات، ومُؤنث يَعقِل كالنسوة والزينبات، ومُؤنّث لا يَعقِل كالدور والظُلمات، فيجوز أنْ يكون ضمير جميعها الواحد المؤنّث الغائب، بتأويل الجماعة، وأنْ يكون النون (نون جمع المؤنّث)؛ لكونها جمع غير العاقلين، وقد تقدّم - عند الكلام عن الضمائر - أنّ النون موضوعٌ له، فنقول: الأيّام والجبيلات، والنساء والزينبات، والدور والغُرفات، فعلت وفعلنَ... (٤)

* * *

وأَمّا وصف الملائكة بصيغة الجمع المؤنّث السالم (بالألف والتاء) - في المرسلات، والنازعات، والصافّات، والذاريات - فباعتبار كون الموصوف هم جماعات الملائكة.

فقوله: ( فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً ) (٥) أي الجماعات المـُلقيات، جُمع جماعة الملائكة، وكذا قوله: ( فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً ) (٦) ، ( وَالصَّافَّاتِ صَفّاً * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً ) (٧) ، وهكذا قوله: ( فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً ) (٨) .

وقوله تعالى: ( وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ) (٩) ، صافّات: حال من الطير، باعتباره اسم جنس جمعٍ، فهو كالجمع المـُكسّر لغير ذوي العقول.

____________________

(١) البحر المحيط، ج٧، ص٤٩١.

(٢) فصّلت ٤١: ٣٧.

(٣) الكشّاف، ج٤، ص٢٠٠.

(٤) شرح الكافية للاسترآبادي، ج٢، ص١٧١.

(٥) المرسلات ٧٧: ٥.

(٦) النازعات ٧٩: ٥.

(٧) الصافّات ٣٧: ١ - ٣.

(٨) الذاريات ٥١: ٤.

(٩) النور ٢٤: ٤١.

٤٠٧

ومِثله: ( إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ ) (١) ، أي الخيل الصافنات، وهي الخيل الواقفة على ثلاث قوائم، الواضعة طرف السُنبك الرابع على الأرض.

التعبير عن العقلاء بـ (ما) الموصولة

فقد جاء في القرآن الكريم مواضع استُعمل فيها (ما) الموصولة فيمَن يعقل:

منها قوله تعالى: ( فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ) (٢) .

وقوله: ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ ) (٣) .

وقوله: ( وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا ) (٤) .

وقوله: ( لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ) (٥) .

وقوله: ( فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ) (٦) .

وقوله: ( وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ) (٧) .

وقوله: ( وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى ) (٨) .

وقد تخلّص أهل الأدب من ذلك من وجوه:

الأول: جواز استعمال (ما) الموصولة فيمَن يَعقِل جوازاً مطّرداً وإن كان غير غالب.

قال أبو البقاء العكبري: (ما) هنا بمعنى مَنْ، ولها نظائر في القرآن (٩) .

وجاء في الكافية لابن حاجب: و (ما) في الغالب لِما لا يعلم، وقد جاء في العالِم قليلاً، حكى أبو زيد: سُبحانَ مَن سخّركُنّ لنا وسُبحانَ ما سبّح الرعدُ بحمده، وقال تعالى: ( وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) (١٠) .

____________________

(١) ص ٣٨: ٣١.

(٢) النساء ٤: ٣.

(٣) النساء ٤: ٢٤.

(٤) الشمس ٩١: ٥.

(٥) الكافرون ١٠٩: ٢ و٣.

(٦) النساء ٤: ٢٥.

(٧) النساء ٤: ٢٢.

(٨) الليل ٩٢: ٣.

(٩) راجع: إملاء ما مَنَّ به الرحمان، ج١، ١٦٦، وشرح الكافية، ج٢، ص٥٥.

(١٠) النساء ٤:٣٦، جاء في نفس الصفحة من شرح الكافية: (سبحان ما سِخَّركُنّ لنا وما سبّح الرعد بحمده).

٤٠٨

الثاني: أنّ الإناث من العقلاء يَجرينَ مجرى غير العقلاء (١) ، وهذا أبعد الوجوه.

الثالث - وهو الأوجه -: أنّه إجراء على الصفة لا على الذات.

قالوا: و (ما) تختصّ أو تغلب في غير العقلاء فيما إذا أُريد الذات، وأمّا إذا أُريد الوصف فلا، كما تقول: ما زيد - في الاستفهام - أي أَفاضل أم كريم، وأكرم ما شِئتَ من الرجال، تعني الكريم أو اللئيم (٢) .

قال الفرّاء: قال تعالى ( مَا طَابَ لَكُمْ ) (٣) ولم يقل (من طاب)؛ وذلك أنّه ذهب إلى الفعل (أي الوصف) - أي فانكحوا الطيّبات من النساء - كما قال: ( أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) (٤) ، يريد: أو مَلَك أَيمانكم.

ولو قيل في هذَين (من) كان صواباً، ولكن الوجه ما جاء به الكتاب، وأنت تقول في الكلام: خذ من عبيدي ما شئت، إذا أراد مشيئتك، فإن قلت: (مَن شئت) فمعناه: خذ الذي تشاء (٥) .

وهكذا قال أبو البقاء: وقيل: (ما) تكون لصفات مَن يعقل، وهي هنا كذلك؛ لأنّ (ما طاب) يدلّ على الطيب مِنهنّ.

وقال الزمخشري: وقيل: (ما) ذهاباً إلى الصفة.

قل رضيّ الدين الاسترآبادي: وتُستعمل أيضاً في الغالب في صفات العالِم نحو: زيد ما هو وما هذا الرجل، فهو سؤال عن صفته، والجواب: عالمٌ أو غير ذلك، قال: وقول فرعون: ( وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ) (٦) ، يجوز أنْ يكون سؤالاً عن الوصف، ولهذا قال موسى (عليه السلام) ( رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) (٧) .

قال الزمخشري - ردّاً على مَن زَعَم أنّ (ما) في قوله تعالى: ( وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ) (٨) ، مصدريّة -: وليس بالوجه؛ لقوله ( فَأَلْهَمَهَا ) ، وما

____________________

(١) الكشّاف، ج١، ص٤٦٧.

(٢) روح المعاني، ج٤، ص١٦٩.

(٣) النساء ٤: ٣.

(٤) النساء ٤: ٣.

(٥) معاني القرآن، ج١، ص٢٥٣ - ٢٥٤.

(٦) الشعراء ٢٦: ٢٣.

(٧) الشعراء ٢٦: ٢٤، راجع: شرح الكافيّة، ج٢، ص٥٥.

(٨) الشمس ٩١: ٥ - ٧.

٤٠٩

يؤدّي إليه من فساد النَظم، قال: والوجه أنْ تكون (ما) موصولة، وإنّما أُوثرت على (مَن)؛ لإرادة معنى الوصفيّة، كأنّه قيل: والسماء، والقادر العظيم الذي بناها، ونفسٍ، والحكيم الباهر الحِكمة الذي سوّاها، وفي كلامهم: سبحانَ ما سخّركُنّ لنا (١) .

وقال - في تفسير سورة الكافرون -: فإنْ قلتَ: فَلِمَ جاء على (ما) دون (مَن)؟

قلتُ: لأنّ المراد الصفة، كأنّه قال: لا أَعبدُ الباطل، ولا تعبدون الحقّ (٢) .

وقال الطبرسي - في قوله تعالى: ( وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ ) (٣) -: إنّه يجوز أنْ يكون ذَهَب به مَذهب الجنس، كما يقول القائل: لا تأخذ ما أخذ أبوك مِن الإماء، فيذهب مَذهب الجنس ثُمّ يفسّره بـ (مِن) (٤) .

وأقول - توضيحاً لذلك -: إنّ (ما) قد يراد به الذات، فذلك الغالب أنْ يقع على غير ذوي العقول، ولكن قد يقع على ذوي العقول مُراداً به الوصف لا الذات، فذلك هو الشائع واستعمله القرآن، ومنه السؤال عن الماهية أيضاً، يُؤتى بما دون (مَن) وإن كان سؤالاً عن ماهية عاقل فيقال: زيدٌ ما هو، وما هذا الرجل، فإنّ السؤال عن شخصيّته وعن تكوينه الذاتي في أوصافه الخاصّة، وليس المراد السؤال عن معرفة شخصه، فلا يصحّ أنْ يقال في الجواب: إنّه ابن فلان أَو مِن آل فلان، بل ينبغي أنْ يُجاب بما يُعرّف شخصيّته الذاتيّة وأنْ يُؤتى بأوصافٍ تخصّه.

نعم، لو أُريد السؤال عن شخصه كان يجب أنْ يُقال: مَن هو، فيجاب بأنّه ابن فلان أو مِن آل فلان.

وفي الحديث عن أبي الحسن موسى بن جعفر عن آبائه (عليهم السلام) قال: (دَخَل رسولُ الله (صلّى اللّه عليه وآله) المسجدَ، فإذا جماعة قد أطافوا برجلٍ، فقال: ما هذا؟ فقيل: علاّمة، قال: وما العلاّمة؟ قالوا: أَعلم الناس بأنساب العرب ووقائعها وأيّام الجاهليّة وبالأشعار والعربيّة، فقال النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله): ذاك علمٌ لا يضرّ مَن جَهِله، ولا يَنفع مَن عَلِمَه) (٥) .

____________________

(١) الكشّاف، ج٤، ص٧٥٩.

(٢) المصدر: ص٨٠٩.

(٣) النساء ٤: ٢٢.

(٤) مجمع البيان، ج٣، ص٢٧.

(٥) بحار الأنوار، ج١، ص٢١١ عن أمالي الصدوق.

٤١٠

ومنه قوله تعالى - حكايةً عن فرعون -: ( وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ) (١) ، وذلك لمـّا دَعاه موسى (عليه السلام) إلى شريعته وقال ( إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (٢) ، عاد عليه فرعون وسَأله عن سِمات هذا الربّ والتي جَعلته ربّاً للعالمينَ، ولمْ يسأله عن ذاته المـُقدّسة وعن اسمه الخاصّ، وإلاّ لكان حقّ الجواب أنْ يقول موسى (عليه السلام): الله، بل أجابه بقوله: ( رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا... رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ... رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا ) (٣) وفيه تعريضٌ بفرعون، حيث ادّعى الربوبيّة؛ لأنّ له مُلك مصر، وأنّ أنهارها تجري من تحته (٤) فهو يَملك - فيما زَعَم - رقعةً من الأرض وليست كلّها وفي مقطع من الزمان لا في كلّ الأزمان، ولأُناس معدودين وليس كلّ الخلائق من الأوّلينَ والآخرينَ.

والخلاصة: إنّ التعبير بـ (ما) عن الشيء قد يكون تعريفاً بعين ذاته، فهذا ما يَغلُب استعماله في غير ذَوي العقول، وقد يكون تعريفاً بصفاته وعناوينه التي كَوَّنت شخصيّته الخاصّة، فهذا يَعمّ ويَغلُب استعماله في العقلاء أيضاً، وقد جاءت تعابير القرآن على هذا النمط، وجارياً على أساليب كلام العرب الفصيح.

وعليه، فكان قوله تعالى: ( فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ) (٥) ، تعبيراً عن الطيّبات من النساء، أي فانكحوا الطيّب من النساء، قال مكّيّ بن أبي طالب: أي فانكحوا الطيّب أي الحلال، و(ما) تقع لِما لا يَعقل، ولنعوتِ ما يَعقِل؛ ولذلك وقعتْ هنا لنعتِ ما يَعقِل (٦) .

وكذا قال - في قوله تعالى: ( وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) (٧) -: وقعت (ما) لِمَن يعقل؛ لأنّ المـُراد بها صفة مَن يَعقِل، قال: و(ما) يُسأل بها عمّا لا يَعقِل وعن صفات مَن يعقل (٨) .

قال الفرّاء: ( وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) يُريد: أو مَلَك أيمانكم (٩) .

____________________

(١) الشعراء ٢٦: ٢٣.

(٢) الشعراء ٢٦: ١٦.

(٣) الشعراء ٢٦: ٢٤ - ٢٨.

(٤) إشارة إلى قوله تعالى: ( وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ ) ، الزخرف ٤٣: ٥١.

(٥) النساء ٤: ٣.

(٦) مُشكل إعراب القرآن لمكّي بن أبي طالب، ج١، ص١٨٩.

(٧) النساء ٤: ٣٦.

(٨) المصدر: ١٩٥.

(٩) معاني القرآن، ج١، ص٢٥٤.

٤١١

فإنّه عنى الطيّبات، ثُمّ بَيَّنه بقوله: (من النساء)، كما أنّه عنى المـَملوك ثُمّ بَيَّنه بالفتيات وكذلك قوله ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ... ) (١) فإنّه عنى جانب الاستمتاع، ثُمّ جاء البيان بالنساء، ومِثله قوله ( مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ ) (٢) أي ما وقع في نكاحهم، ثُمّ بَيَّنه بقوله: (من النساء).

وقال الزمخشري - في قوله تعالى: ( وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا... ) (٣) -: جُعلت (ما) مصدريّة، وليس بالوجه؛ لقوله ( فَأَلْهَمَهَا ) ، وما يؤدّي إليه من فساد النَظم، والوجه: أنْ تكون موصولة، وإنّما أُوثرت على (مَن) لإرادة معنى الوصفيّة، كأنّه قال: والسماء والقادر العظيم الذي بَناها - ونفسٍ - والحكيم الباهر الحِكمة الذي سوّاها، وفي كلامهم: (سبحان ما سَخَّركُنّ لنا) (٤) .

وقال - في قوله ( لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ) (٥) -: فإنْ قُلت: لِمَ جاء على (ما) دون (مَن)؟ قلتُ: لأنّ المراد الصفة، كأنّه قال: لا أعبد الباطل، ولا تعبدون الحقّ (٦) .

وقال - في قوله ( وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى ) (٧) -: والقادر العظيم القُدرة الذي قَدِر على خَلق الذكر والأُنثى من ماءٍ واحد، وقَرَأَ ابن مسعود: والذي خَلَق الذكر والأُنثى (٨) ؛ تَبييناً لموضع (ما) وأنّها موصولة، قال الفرّاء: كلّ هذا - أي التعبير بـ (ما) عن العقلاء فيما ذُكر من الآيات - جائز في العربيّة (٩) .

ضمائر تُخالِف مَراجِعَها

قال تعالى: ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ ) (١٠) .

____________________

(١) النساء ٤: ٢٤.

(٢) النساء ٤: ٢٢.

(٣) الشمس ٩١: ٥.

(٤) الكشاف، ج٤، ص٧٥٩.

(٥) الكافرون ١٠٩: ٢ و٣.

(٦) الكشاف، ج٤، ص٨٠٩.

(٧) الليل ٩٢: ٣.

(٨) الكشّاف، ج٤، ص٧٦١.

(٩) معاني القرآن، ج٣، ص٢٦٣.

(١٠) البقرة ٢: ١٧.

٤١٢

فقد شَبّه المنافقون - في حالتهم المـُزرية - بالذي استوقد ناراً لإنارة الطريق، لكنّه افتقدها فور الوقود؛ ومِن ثَمّ كان يجب - حسب الظاهر - إفراد الضمائر كلّها، حيث عَودها على المـُشبّه وهو مفرد!

لكن هذا من باب تناسي التشبيه - كما في الاستعارة المـُرشّحة - (١) كما في قول أبي تمام من قصيدة يَرثي بها خالد بن الشيباني ويَذكر أباه، وهذا البيت في مدح أبيه وذِكرِ عُلوِّ قَدْره ورتبته:

ويَصعَدُ حتّى يَظنّ الجهولُ

بأنّ له حاجةً في السماءِ

استعار الصعود لعلوِّ القَدر والارتقاء في مدارج الكمال، ثُمّ بَنى عليه ما يَبني علوّ المكان والارتقاء في السماء؛ فلولا أنّ قَصْدَهُ أنْ يتناسى التشبيه ويُصرّ على إنكاره فيجعله صاعداً في السماء من حيث المسافة المكانيّة، لَما كان لهذا الكلام وجه.

ونحوه قول أبي الفضل ابن العميد في غلامٍ جميل قامَ على رأسه ليَستره عن الشمس:

قامتْ تُظلّلُني مِن الشمسِ

نفسٌ أعزُّ عليَّ مِن نفسي

قامتْ تُظلّلُني ومِن عَجبٍ

شمسٌ تُظلّلُني مِن الشمسِ

فلولا أنّه تَناسى التشبيه لم يكن وجه لهذا التَعجُّب.

وكذا قول أبي الطباطبا العَلوي في وصف غلامٍ صبيح:

لا تَعجَبوا مِن بِلَى غِلالَته

قد زُرَّ أَزرارُه على القَمرِ

فلولا أنّه تَناسى التشبيه لم يكن وجه لهذا النهي عن العجّب.

ونظيره ما جاء في نفس التشبيه - من غير استعارة - كما في قول عباس بن الأحنف في قصيدةٍ يَصف فيها محبوبتَه، يُخاطب نفسه:

____________________

(١) وهي: ما قُرِن المـُستعار له بما يُلائم المـُستعار منه، كما في قوله تعالى: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ ) البقرة ٢: ١٦، فإنّه استعار الاشتراء للاستبدال والاختيار ثُمّ فَرَّع عليها ما يُلائم الاشتراء من الريح والتجارة.

قالوا: والترشيح أَبلغ؛ لاشتماله على تحقيق المـُبالغة في التشبيه، ومَبناه على تناسي التشبيه وادّعاء أنّ المـُستعار له عين المستعار منه (راجع المـُطوّل، قسم البيان، ص٣٧٨ - ٣٧٩ طبع مصر، منشورات مكتبة الداوري - قم).

٤١٣

هي الشمسُ مسكنُها في السماءِ

فَعَزِّ الفؤادَ عزاءً جميلاً

فلنْ تستطيعَ إليها الصُعودا

ولنْ تستطيعَ إليك النُزولا

فقد شَبَّهها تشبيها صريحاً من غير أنْ يطوي ذِكر المـُشبَّه به، ومع ذلك فقد تناسى التشبيه، وبنى على المـُشبَّه ما هو من شأن المشبّه به (١) .

وقوله تعالى: ( وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا ) (٢) أي خُضتم في الكفر والعِناد كالذي خاضوه، فالعائد محذوف، وهذا من تشبيه الخَوض بالخَوض، لا الخائضين بالخائضين، وهو مِن حُسن التشبيه؛ حيث وقع بين الفعلَين لا الفاعلَين.

وقوله تعالى: ( وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) (٣) ، المراد به الجنس وهو عامّ في مفهومه يشمل الواحد والكثير، وبما أنّ الآية ذات مصاديق كثيرة لُوحظ المعنى ليعمّ الحُكم مَن غَبَر ومَن حَضَر ومَن يأتي مِن بعدُ.

وقوله تعالى: ( وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا... أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ) (٤) ، المراد به الجنس أيضاً، وهو نوع من الالتفات اللطيف، حيث يبدأ الكلام بمُفرد، لكنّ المـُتكلِّم - حيث أراد الجنس لا الفرد الخاصّ - ينحو بكلامه إلى جانب العموم وإرادة الشمول.

وهنا بشأن هذه الآية حكاية ظريفة: زَعَمت بنو أُميّة وبنو مروان أنّها نزلت بشأن عبد الرحمان بن أبي بكر، وحينما كَتَب معاوية إلى عامله بالمدينة مروان بن الحكم بأنْ يُبايع الناس ليزيد قال عبد الرحمان. لقد جِئتم بها هرقليّة، تُبايعون لأبنائكم! فقال مروان: أيّها الناس، إنّ هذا هو الذي قال اللّه فيه ( وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا... ) فسَمِعت عائشة، فغَضبتْ وقالت: واللّه ما هو به، ولو شئتُ أنْ اُسمّيه لسمّيتُه، ولكنّ اللّه لعن أباك وأنت في صُلبه، فأنت فَضَضٌ من لعنة اللّه (٥) .

____________________

(١) المـُطوّل، ص٣٧٩.

(٢) التوبة ٩: ٦٩.

(٣) الزُمر ٣٩: ٣٣.

(٤) الأحقاف ٤٦: ١٧ و١٨.

(٥) فَضَضٌ: ما انفضّ من الشيء، قال الجوهري: أنت فَضَضٌ من لعنة اللّه، يعني: ما انفضّ من نُطفة الرجل

٤١٤

ما يستوي فيه المفرد والجمع

من ذلك لفظ (الطاغوت) يقع على الواحد والجمع:

* قال تعالى: ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ) (١) .

وقال: ( يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ) (٢) ، جاء في التفسير أنّه أَراد: كعب بن الأشرف رأس اليهود.

وقال: ( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا ) (٣) ، أراد به الأصنام.

قالوا: هو في الأصل مصدر (طغى)، وأصله: طَغَيوت، على وزان: فَعَلوت، مِثل: الرهبوت، والرحموت، فَقَدّم الياء وأَبدلَ منها ألفاً فصار طاغوت (٤) .

* ومن ذلك قوله تعالى: ( لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) (٥) .

ومثله قوله: ( وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاّ الَّذِينَ آمَنُوا... ) (٦) .

والمراد بالإنسان هنا الجنس الذي يُطلق على الواحد والجمع سواء، بدليل الاستثناء هنا.

* قال تعالى: ( مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ ) (٧) ، قال الزمخشري: والسَامِر، نحو الحاضر في الإطلاق على الجمع، وكانوا يجتمعون حول البيت بالليل يَسمرون، وكانت عامّة سَمَرِهم ذكر القرآن وتَسميته سِحراً وشِعراً، وسبّ النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله)، و(تهجرون) مَن أَهجر في مَنطقِه إذا أَفحَشَ. والهُجر - بالضمّ -: الفُحش، وبالفتح: الهَذَيان (٨) .

* ومنه (الفُلْك) يُطلق على المفرد والجمع، قال تعالى في المفرد: ( وَمَنْ مَعَهُ فِي

____________________

= وتردّد في صُلبه، والحديث أَخرجه النسائي وابن أبي خيثمة والحاكم وصحّحه ابن مردويه، وأخرج أصله البخاري في صحيحه، راجع: الكشّاف، ج٤، ص٣٠٤، وهامش، ص٣٠٣، وراجع أيضاً: الدرّ المنثور، ج٧، ص٤٤٤.

(١) البقرة ٢: ٢٥٧.

(٢) النساء ٤: ٦٠.

(٣) الزمر ٣٩: ١٧.

(٤) إعراب القرآن المنسوب إلى الزجّاج، ص٧٦٣، باب ٤٢.

(٥) التين ٩٥: ٤ - ٦.

(٦) العصر ١٠٣: ١ - ٣.

(٧) المؤمنون ٢٣: ٦٧.

(٨) الكشّاف، ج٣، ص١٩٤.

٤١٥

الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ) (١) وقال في الجمع: ( حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ ) (٢) فهو في المفرد كقُفْل، وفي الجمع كاُسد.

وقوله، ( وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ ) (٣) يحتمل المفرد والجمع وذلك؛ لأنّ (الفُلك)، يُذكّر ويُؤنّث، فيُحتمل في ضمير التأنيث أنْ يكون لذلك، أو لإرادة الجمع.

* ومنه ما جاء مُفرداً بلفظة التمييز أو الحال أو المفعول به، ويُراد به الجمع، لا باعتبار المجموع، بل باعتبار كلِّ واحدٍ منهم: قال تعالى: ( فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً ) (٤) ، أي أَنفُساً، والمراد: كلّ واحدة نَفْساً. وقال: ( وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ) (٥) ، أي رُفقاء، والمراد: كلّ واحدٍ رفيقاً.

قال الزمخشري: والرفيق كالصديق والخليط في استواء الواحد والجمع فيه، ويجوز أنْ يكون مُفرداً بُيّن به الجنس في باب التمييز (٦) .

وقال: ( ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ) (٧) ، أي أطفالاً، والمراد: كلّ واحدٍ طفلاً.

وقال: ( أَلاّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً ) (٨) ، أي وكلاء.

وقال: ( خَلَصُوا نَجِيّاً ) (٩) ، أي أنجياء أو أَنجية.

قال الزمخشري: ويجوز أنْ يُقال: هم نَجي كما قيل: هم صديق؛ لأنّه بزِنَة المصادر (١٠) .

* ومنه لفظ (العدوّ)، فإنّه يُطلق على الواحد والجمع على سواء، قال تعالى: ( فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي ) (١١) .

قال الراغب: يقال: رجل عدوّ، وقوم عدوّ (١٢) ، قال تعالى: ( هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ

____________________

(١) الشعراء ٢٦: ١١٩.

(٢) يونس ١٠: ٢٢.

(٣) البقرة ٢: ١٦٤.

(٤) النساء ٤: ٤.

(٥) النساء ٤: ٦٩.

(٦) الكشّاف، ج١، ص٥٣١.

(٧) غافر ٤٠: ٦٧.

(٨) الإسراء ١٧: ٢.

(٩) يوسف ١٢: ٨٠.

(١٠) الكشّاف، ج٢، ص٤٩٤.

(١١) الشعراء ٢٦: ٧٧.

(١٢) المفردات، ص٣٢٦.

٤١٦

اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ) (١) ، ( هُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ) (٢) .

* وقال تعالى: ( فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ) (٣) ، أي أصدقاء أَحمّاء.

____________________

(١) المنافقون ٦٣: ٤.

(٢) الكهف ١٨: ٥٠.

(٣) الشعراء ٢٦: ١٠٠ و١٠١.

٤١٧

الباب الخامس

القَصَص القرآني على منصّة التحقيق

( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ ) (١)

القصّة: الحديث، الخبر، الأمر الحادث، الأُحدوثة، الشأن، الحال.

جمعها: قِصَص، والمصدر قَصَص.

يُقال: قصّ عليه الخبرَ قَصَصاً، إذا حدّثه به، والقصّ والقَصَص: تتّبع الأثر، يُقال: قَصَصتُ أثره أي تَتَّبعته، قال تعالى: ( فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً ) (٢) ، أي رَجَعا إلى الوراء ليَستعلِما الحال، وقال - على لسان أُمّ موسى -: ( وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ ) (٣) ، أَمَرتها بالفحص وتتّبُع أَثره، ولتنظر مَن يأخذه من الماء.

وقَصَص القرآن: أَخباره عن أحوال الماضين، من أُمّم وأنبياء سالفين، وعن

____________________

(١) يوسف ١٢: ٣.

(٢) الكهف ١٨: ٦٤.

(٣) القصص ٢٨: ١١.

٤١٨

حوادث واقعة في سوالف الأيّام، ممّا فيه العِبر والاعتبار للباقين.

وللقِصّة أثرها المباشر في النفوس وآكد في التربية والتعليم ممّا لو كان الكلام عارياً عن شواهد وأمثال؛ ذلك أنّ النفوس تهفو إلى معرفة ما بين الأحداث وعِلَلِها وأسبابها من رَبطٍ، وكذا بينها وبين النتائج المـُترتِّبة عليها من علاقة وثيقة، فلو أنّ المتكلّم أَبانَ وجهَ العِلَل والأسباب، وكَشَف عن النتائج الحاصلة بشكل مستدلّ متين، ووضع يده على مواضع العِبَر منها وذوات الاعتبار، لكان قد اقترب من غايته في تأثير النُصح والإرشاد، في أقرب طريق وأفضل أُسلوب مؤثِّر.

قال نظام الدين النيشابوري القُمي، صاحب التفسير: الإنسان قد يَذكر معنىً فلا يلوح له مَبلغُ تأثيره ولا مدى تفهيمه كما ينبغي، حتّى إذا شَفَّعه بشاهد مِثال ولا سيّما قَصَص الماضين - فيما إذا كان بصدد الوعظ والإرشاد - فتراه كلاماً ذا وَقْعٍ وتأثير حسبما يراد؛ ذلك أنّ في الطِّباع محاولة المـُحاكاة مع المشهود من جمالٍ أو كمالٍ، فإذا ذُكر المعنى وحده كان قد أَدركه العقل، ولكن مع منازعة الخيال ومحاولة رفضه في بادئ الأمر، أمّا إذا شُفّع بذِكر شاهد من أحوال الماضين وذُكرت الأسباب المؤاتية والنتائج الحاصلة منها، رَغَبت النفس في لَمسه في ذات ضميره، فيكون أوقع في النفس وأقرب إلى القبول وإمكان التأثير.

ومِن ثَمّ كان من الضروري الإكثار في القرآن مِن ذِكر القَصَص والأمثال، فإنّه الكتاب الّذي أُنزِلَ تِبياناً لكلّ شيء وهدىً ورحمة للعالمين (١) .

وقال الإمام الرازي - بصدد بيان فائدة ذِكر قَصَص الأنبياء في القرآن -:

إنّه سبحانه لمـّا بالغَ في تقرير الدلائل والبيّنات وفي الردّ على شُبُهات المعاندينَ، شَفّعها بذِكر أحوال الأُمَم السالفة ومواضعهم من الأنبياء؛ لغرض أنّ الكلام إذا طال في تقرير نوعٍ من أنواع المعارف، فربّما حصل نوع من المـَلال، وليس إذا حصل انتقال من نوعٍ إلى نوعٍ، ليزيد طَراوةً ويُنشِّط من رغبة السامعينَ.

وأيضاً ليكون الرسول (صلّى اللّه عليه وآله) والمؤمنون في تسلية عمّا يُواجهوه مِن أذى الأعداء.

____________________

(١) عن تفسير غرائب القرآن للنيشابوري (بهامش الطبري، ج١، ص١٩٩ - ٢٠٠) بتصرّفٍ وتبيين.

٤١٩

وليتأسّوا بمَن سَلف من الأنبياء والصالحين.

وكذلك ليكون تنبُّهاً للجُهّال المعاندينَ، فلينظروا في أحوال الماضين مِن آبائهم وليَعتبروا بما أُصيبوا من الفشل والخُسران، وأنّ اللّه تعالى لَيَنصر أولياءَه ويكون جندُه هم الغالبينَ.

وأخيراً فإنّها معجزة قرآنيّة يَذكر قَصَص الماضينَ نقيّة وسليمة من أكدار التحريف والتشويه، على يد نبيّ أُمّي لم يَكتب ولم يَقرأ الكُتُب (١) .

أُسلوب القِصّة في القرآن

إنّ أُسلوب القصّة في القرآن جاء مُتميّزاً عن الأُسلوب المعروف للقِصّة في التراث الأدبي والإنساني؛ حيث يكتفي القرآن الكريم بذِكر الأحداث بشكل مُقتطفات وبصورة إجماليّة أحياناً تاركاً التفاصيل، وأحياناً بشكل مُتقطّع غير موصول، واضعاً يده على نِقاط هي بيت القصيد مِن القصّة، وفي الأغلب بشكل الاستطراد في التعرّض لمفاهيم وحقائق وموضوعات عقائديّة أو أخلاقيّة أو كونيّة (سُنَن الطبيعة) أو شرعيّة، وغير ذلك من الخصوصيّات التي قد تُثير مُلاحظة كبيرة حول أُسلوب القصّة في القرآن الكريم، وبذلك تَخرج عن كونها عملاً فنيّاً مُستقلاً له مميّزاته الخاصّة.

وهذا يعود إلى أنّ القرآن كتاب هداية، وإنّما استَخدمَ الفنّ لغايته في أمر الهداية؛ ومِن ثَمّ فإنّه يقتصر على موضع الحاجة منه في سبيل تحقيق هدفه الخاصّ، ولا يُعيره اهتماماً فيما لا يعود إلى هذا الجانب بالذات.

وشيء آخر، كان أُسلوب القرآن أُسلوب خِطاب لا أُسلوب كتاب - كما نبّهنا - (٢) فلا مُلزِم له بسرد القضايا بانتظام وانسجام والإتيان بالتفاصيل والجُزئيّات، كما هو شأن الكِتاب، فلا يُراعي فيما يقصّ مِن قِصَص ترتيبَها الزمني ولا التواصل في ذِكر حادثة، بل

____________________

(١) عن التفسير الكبير، ج١٧، ص١٣٥، عند تفسير الآية ٧١ من سورة يونس، فيما قصّ اللّه من حديث نوح (عليه السلام) نقلاً بتصرّف.

(٢) في الجزء الأَوّل من التمهيد.

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578