شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم10%

شبهات وردود حول القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 578

شبهات وردود حول القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 578 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 297645 / تحميل: 13679
الحجم الحجم الحجم
شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

هذا وإن كلمة «النشأة» في الأصل ، تعني إيجاد الشيء وتربيته ، وقد يعبر أحيانا عن الدنيا بالنشأة الأولى ، كما يعبر عن الأخرى بالنشأة الآخرة!.

وهذه اللطيفة جديرة بالملاحظة ، وهي أنّ في ذيل الآيات السابقة ورد التعبير «إن ذلك على الله يسير» وورد التعبير هنا( إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .

ولعل منشأ التفاوت والاختلاف هو أن الآية الأولى تعالج مطالعة محدودة ، أمّا الثّانية فتعالج وتبيّن مطالعة وسيعة جدّا.

ثمّ يتعرض القرآن الكريم إلى إحدى المسائل المتعلقة بالمعاد ، وهي مسألة الرحمة والعذاب ، فيقول :( يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ) .

ومع أنّ رحمة الله مقدمة على غضبه ، إلّا أن الآية هنا تبدأ أولا بذكر العذاب ثمّ الرحمة ، لأنّها في مقام التهديد ، وما يناسب مقام التهديد هو هذا الأسلوب!.

هنا ينقدح السؤال التالي :

كيف يتحدث القرآن أوّلا عن العذاب والرحمة ، ثمّ يتحدث عن معاد الناس إليه( وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ) ؟ في حين أن القضية على العكس من ذلك ، ففي البداية يحضر الناس عند ساحته ، ثمّ يشملهم العذاب أو الرحمة وربّما كان هذا هو السبب في أن يعتقد بعضهم أن العذاب والرحمة المذكورين هنا هما في هذه الدنيا.

ونقول جوابا على مثل هذا السؤال : إن العذاب والرحمة ـ بقرينة الآيات السابقة واللاحقة ـ هما عذاب القيامة ورحمتها ، وجملة( وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ) إشارة إلى الدليل على ذلك : أي : بما أنّ معادكم إليه وكتابكم وحسابكم لديه ، فالعذاب والرحمة ـ أيضا ـ بإرادته وتحت أمره!.

ولا يبعد أن يكون العذاب والرحمة في هذه الآية لهما معنى واسع ، بحيث

٣٦١

يشمل العذاب والرحمة في الدارين.

كما يتّضح أنّ المراد بقول :( مَنْ يَشاءُ ) هو المشيئة الإلهية المقرونة بحكمته ، أي كل من كان جديرا ومستحقا لذلك فإن مشيئة الله ليست عبثا ، بل منسجمة مع الاستحقاق والجدارة!.

وجملة «تنقلبون» من مادة «القلب» ومعناها في الأصل : تغيير الشيء من صورة إلى صورة أخرى ، وحيث أن الإنسان في يوم القيامة يعود إلى هيئة الموجود الحي الكامل بعد أن كان ترابا لا روح فيه ، فقد ورد هذا التعبير في إيجاده ثانية أيضا.

ويمكن أن يكون هذا التعبير إشارة إلى هذه اللطيفة الدقيقة ـ أيضا ـ وهي أن الإنسان يتبدل في الدار الأخرى ويتغيّر تغيرا ينكشف باطنه به وتتجلى أسراره الخفية ، وبهذا فهي تنسجم مع الآية (٩) من سورة الطارق( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) .

وإكمالا لهذا البحث الذي يبيّن أن الرحمة والعذاب هما بيد الله والمعاد إليه ، يضيف القرآن : إذا كنتم تتصورون أنّكم تستطيعون أن تهربوا من سلطان الله وحكومته ولا يمسّكم عذابه ، فأنتم في خطأ كبير فليس الأمر كذلك!( وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ ) (١) .

وإذا كنتم تتصورون أنّكم تجدون من يدافع عنكم وينصركم هناك ، فهذا خطأ محض أيضا( وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) .

وفي الحقيقة ، فإنّ الفرار من قبضة الله وعذابه ، إمّا بأن تخرجوا من حكومته ، وإمّا بأن تعتمدوا مع بقائكم في حكومته على قدرة الآخرين لتدافعوا عن أنفسكم ، فلا الخروج ممكن ، لأنّ البلاد كلّها له وعالم الوجود كلّه ملكه الواسع ،

__________________

(١) كلمة «معجزين» مشتقّة من مادة «عجز» ، ومعناها في الأصل التخلّف والتأخر عن الشيء ، ولذلك تستعمل هذه الكلمة في الضعف الباعث على التخلف والتأخر ، «المعجزة» معناه الذي يجعل الآخر عاجزا ، وحيث أن الأفراد الذين يفرون من سلطان أحد وقدرته ، يعجزونه عن ملاحقتهم ، لذلك استعملت كلمة «معجز» في هذا الصدد أيضا

٣٦٢

ولا يوجد أحد يستطيع أن يقف أمام قدرته وينهض للدفاع عنكم.

يبقى هنا سؤالان : ـ

أوّلا : مع الالتفات إلى هذه الحقيقة ، وهي أن مقصود الآية هو في الكفار والمشركين ، وهم سكنة الأرض ، فما معنى قوله تعالى :( وَلا فِي السَّماءِ ) وأي مفهوم له هنا؟!

وينبغي أن يقال في الجواب ، أن هذا التعبير هو نوع من التأكيد والمبالغة ، أي إنكم لا تستطيعون أن تخرجوا من قدرة الله وسلطانه في هذه الأرض ، ولا في السماوات ، إذ حتى لو فرضنا أنّكم تستطيعون أن تصعدوا في السماء ، فما زلتم تحت قدرته وسلطانه.

أو إنّه : لا تستطيعون أن تعجزوا الله في مشيئته بواسطة من في الأرض ، ولا بواسطة من تعبدون في السماوات ، من أمثال الملائكة والجن (والتّفسير الأوّل أكثر مناسبة ـ طبعا ـ)

ثانيا : ما الفرق بين الولي والنصير؟!

يرى العلامة «الطبرسي» في «مجمع البيان» وقيل : إن الولي الذي يتولى المعونة بنفسه والنصير يتولى النصرة تارة بنفسه بأن يأمره غيره به»(١) .

بل يمكن القول مع ملاحظة الكلمتين هاتين ، أن الولي إشارة إلى من يعيّن دون طلب (من عليه الولاية) ، والنصير هو المستصرخ الذي يأتي لإعانة الإنسان بعد استصراخه.

وهكذا يغلق القرآن جميع أبواب الفرار بوجه هؤلاء المجرمين

لذلك يقول في الآية التي بعدها بشكل قاطع :( وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي )

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ، ص ٣٥٢.

٣٦٣

ثمّ يضيف مؤكدا :( وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) .

هذا «العذاب الأليم» هو لزم اليأس من رحمة الله.

والمراد بـ «ايات الله» إمّا هي «الآيات التكوينية» أي آثار عظمة الله في نظام خلقه وإيجاده ، وفي هذه الصورة فهي إشارة إلى مسألة التوحيد ، في حين أن كلمة «لقائه» إشارة إلى مسألة المعاد ، أي إنّهم منكرون للمبدأ وللمعاد كليهما.

أو أنّ المراد من آيات الله هي «الآيات التشريعية» أي هي الآيات التي أنزلها الله على أنبيائه ، التي تتحدث عن المبدأ وعن النبوة وعن المعاد ، وفي هذه الحال يكون التعبير بـ «لقائه» من قبيل ذكر الخاص بعد العام.

كما يمكن أن يكون المقصود من آيات الله هي جميع الآيات في عالم الوجود والتشريع.

وينبغي ذكر هذه المسألة ـ أيضا ـ وهي أن «يئسوا» فعل ماض والهدف منه هو الاستقبال ـ أي في يوم القيامة ـ والعرب عادة إذا تحدثوا عن أمر مستقبلي بصورة التأكيد عبروا عنه بصيغة الماضي ، للدلالة على تحققه قطعا وحتما.

* * *

٣٦٤

الآيات

( فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٤) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٥) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) )

التّفسير

أسلوب المستكبرين في جوابهم لإبراهيم :

والآن علينا أن نعرف ماذا قال هؤلاء القوم الضّالون لإبراهيمعليه‌السلام ردّا على أدلته الثّلاثة في مجال التوحيد والنّبوة والمعاد؟!

إنّهم ـ قطعا ـ لم يكن لديهم جواب منطقي وكجميع الأقوياء المستكبرين فقد توسّلوا بقدراتهم الشيطانية وأصدروا أمرا بقتله ، حيث يصرّح بذلك القرآن الكريم فيقول :( فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ! ) .

٣٦٥

ويستفاد من هذا التعبير أن جماعة كانوا يميلون إلى حرق إبراهيم بالنّار ، في حين كانت جماعة أخرى تقترح أن يقتل بالسيف أو ما شاكله!

وأخيرا رجح الرأى الأوّل ، لأنّهم كانوا يعتقدون أنّ أشدّ حالات الإعدام هو الإحراق بالنّار.

كما ويحتمل أيضا أنّهم جميعا كانوا يفكرون في قتله بالوسائل الطبيعية ، غير أنّهم اتفقوا أخيرا على إحراقه بالنّار ، وأن يبذلوا قصارى جهدهم في هذا الأمر.

وفي هذه الآية الكريمة لم يرد كلام عن كيفية إحراق إبراهيمعليه‌السلام بالنّار سوى هذا المقدار الذي استكملت به الآية الكريمة ، وهو( فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ ) .

غير أن تفصيل ما جرى عليه من الإحراق ورد في سورة الأنبياء (الآيات ٦٨ ـ ٧٠) وقد بيّنا ذلك هناك ، فلا بأس بمراجعته!

ويضيف القرآن في الختام( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) .

ولم تكن علامة وآية واحدة في هذا الصدد وفي هذه الحادثة ، بل علائم وآيات فمن جانب فإنّ عدم تأثير النّار في جسد إبراهيم بنفسه معجزة واضحة ، وتبدل النّار إلى روضة و «سلام» على إبراهيم كما هو معروف معجزة أخرى ، وعدم استطاعة هذه الجماعة القوية التغلب على شخص واحد ـ وهو أعزل من كل وسيلة بحسب الظاهر ـ كان معجزة ثالثة أيضا.

كما أنّ عدم تأثير هذا الحادث العجيب الخارق للعادة في أولئك المظلمة قلوبهم ، آية من آيات الله ، إذ يسلب التوفيق من أمثال هؤلاء الأفراد المعاندين الألدّاء ، بحيث لا تؤثر فيهم أعظم الآيات!.

وقد ورد في بعض الرّوايات أنّه لما القي بإبراهيم الخليل مكتوف اليدين والرجلين في النّار ، فإن الشيء الوحيد الذي احترق منه هو الحبل الذي كان مشدودا وموثقا به(١) .

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، ج ٢٠ ، ص ١٣٠.

٣٦٦

أجل ، إنّ نار الجهل وجناية المنحرفين إنّما أحرقت وسائل الأسر ، فتحرر إبراهيمعليه‌السلام منها وهذه بنفسها تعدّ آية أخرى.

وربّما كان ـ لهذه الأسباب ـ أن عبّر القرآن عن قصّة نوح وسفينته بقوله :( جَعَلْناها آيَةً ) بصيغة الإفراد ، ولكنّه عبّر هنا بقوله :( لَآياتٍ ) بصيغة الجمع!.

وعلى كل حال فإنّ ابراهيمعليه‌السلام نجّي من النّار بصورة خارقة للعادة وبلطف الله سبحانه ، غير أنّه لم يترك أهدافه بل نهض بالأمر وازداد همّة وأعطى لأهدافه حرارة أكثر.

ثمّ توجه إبراهيم إلى المشركين( وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ) ولكن هذه المودّة والمحبّة تتلاشى في الآخرة( ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ ) .

كيف تكون الأوثان أساسا للمودّة بين عبدة الأوثان؟!

هذا السؤال يمكن الإجابة عليه من عدّة طرق :

الأوّل : أن عبادة الصنم أو الوثن كانت رمزا للوحدة لكل قوم ولكل قبيلة ، لأنّ كل جماعة اختارت لنفسها وثنا ، كما ذكروا في شأن أصنام الجاهلية ، إذ كان كل صنم يعود لقبيلة من القبائل العربية ، فصنم «العزّى» كان لقريش ، و «اللّات» كان خاصا بثقيف ، أمّا «منات» فكان خاصا بالأوس والخزرج!.

الثّاني : أن عبادة الأوثان تربط بينهم وبين أسلافهم وغالبا ما كانوا يعتذرون بمثل هذا العذر ويقولون : إنّ هذه الأوثان كان عليها السلف ونحن نتبع السلف ونمضي على دين آبائنا.

ثمّ بعد هذا كلّه فإنّ سراة(١) الكفار كانوا يدعون أتباعهم إلى عبادة الأوثان ، وكان هذا الأمر بمثابة «حلقة الاتصال» بين السراة والأتباع.

__________________

(١) «السراة» جمع مفردها سريّ ـ كبير القوم. (المصحح)

٣٦٧

ولكن هذه العلائق والوشائج والارتباطات الخاوية تتقطع جميعها يوم القيامة ، وكل فرد يلقي التبعة والذنب على رقبة الآخر ، ويلعنه ويتبرأ منه ومن عمله ، حتى المعبودات التي كانوا يتصورون أنّها الوسيلة إلى الله ، وكانوا يقولون في شأنها( ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى ) ،(١) ـ تتبرأ منهم.

وكما يصوّر القرآن هذه الحالة في سورة مريم الآية ٨٢ يقول :( كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ) .

فعلى هذا ، يكون المراد من قوله تعالى :( يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ) هو أنّهم يتبرأ بعضهم من بعض في ذلك اليوم ، وما كان أساسا لعلاقة المودة الكاذبة في الدنيا يكون مدعاة للعداوة والبغضاء في الآخرة كما يعبّر القرآن عن ذلك في الآية (٦٧) من سورة الزخرف فيقول :( الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ) .

ويستفاد من بعض الرّوايات أنّ هذا الحكم غير مختص بعبدة أوثان ، بل هو لجميع أولئك الذين اختاروا «إماما باطلا» لأنفسهم ، فاتبعوه وتعاهدوا معه على المودة ، ففي يوم القيامة يكونون أعداء فيما بينهم ، ويتبرأ بعضهم من بعض ويلعن بعضهم بعضا.(٢) في حين أنّ علاقة المحبّة بين المؤمنين قائمة على أساس التوحيد وعبادة الله وإطاعة أمر الحق في هذه الدنيا وهذه العلاقة سيكتب لها الدوام ، وفي الآخرة تكون أكثر تماسكا حين إنّه يستفاد من بعض الروايات أنّ المؤمنين يستغفر بعضهم لبعض ويتشفع بعضهم لبعض في يوم القيامة في وقت يتبرأ فيه المشركون بعضهم من بعض ويلعن بعضهم بعضا(٣) .

وفي الآية التي بعد تلك الآية إشارة إلى إيمان لوط وهجرة إبراهيم ، إذ تقول :

__________________

(١) سورة الزمر ، الآية ٣.

(٢) أصول الكافي ، طبقا لما ورد في تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١٥٤.

(٣) كتاب الصدوق ، طبقا لما ورد في تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١٥٤.

٣٦٨

( فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ ) .

«لوط» نفسه من الأنبياء العظام ، وكانت له مع إبراهيم علاقة قربى «يقال إنّه كان ابن أخت ابراهيمعليه‌السلام » وحيث أن اتّباع شخص عظيم ـ لإبراهيم ـ بمنزلة أفراد امّة كاملة فقد تحدث سبحانه ـ خاصة ـ عن إيمان «لوط» وشخصيته الكبرى المعاصرة لإبراهيمعليه‌السلام ، ليتّضح أنّه إذ لم يؤمن الآخرون ، فإنّ ذلك ليس مهمّا.

ويبدوا أنّه كانت في أرض بابل قلوب مهيأة لقبول دعوة إبراهيم الخليلعليه‌السلام ، وقد التفوا حوله بعد مشاهدة تلك المعجزة العظيمة ، غير أنّه من المسلّم به أنّهم كانوا «أقليّة».

ثمّ تضيف الآية عن هجرة إبراهيمعليه‌السلام فتقول :( وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) .

ومن الوضوح بمكان أنّه حين يؤدي القادة الإلهيون رسالتهم في محيط ما ، ويكون هذا المحيط ملوّثا وتحت تأثير الجبابرة ، بحيث لا تتقدّم دعوتهم أكثر ، فينبغي أن يهاجروا إلى منطقة أخرى لتتسع دعوة الله في الأرض!.

فلذلك تحرك ابراهيمعليه‌السلام وزوجه سارة ـ بمعيّة لوط ـ من بابل إلى أرض الشام مهد الأنبياء والتوحيد ، ليستطيع أن يكتسب جماعة هناك ويوسع دعوة التوحيد!.

من الطريف أنّ إبراهيمعليه‌السلام يقول في هذا الصدد :( إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي ) لأنّ ذلك الطريق كان طريق الله ، طريق رضاه ، وطريق دينه ومنهاجه.

وبالطبع فإنّ بعض المفسّرين احتمل أن يكون الضمير في قوله تعالى :( وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ ) عائد على لوطعليه‌السلام ، أي إنّ لوطا قال : إنّي مهاجر إلى ربّي ، وظاهر الجملة منسجم مع هذا المعنى أيضا ، إلّا أن الشواهد التاريخية تدلّ على أن الضمير يعود على إبراهيمعليه‌السلام ، وكانت هجرة لوط بمعية إبراهيم.

٣٦٩

والشاهد على هذا الكلام قول إبراهيمعليه‌السلام في الآية (٩٩) من سورة الصافات( إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ ) .(١) وفي آخر آية من هذا المقطع يقع الكلام على المواهب الأربع التي منحها الله لإبراهيمعليه‌السلام بعد الهجرة العظيمة :

الموهبة الأولى : الأبناء الصالحون ، من أمثال إسحاق ويعقوب ، ليسرجوا مصباح الإيمان والنّبوة في بيته وأسرته ويحافظوا عليه ، إذ يقول القرآن :( وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ) وهما نبيّان كبيران واصل كلّ منهما السير على منهاج إبراهيمعليه‌السلام محطم الأصنام.

الموهبة الثّانية :( وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ ) ولم تكن النّبوة في إسحاق بن إبراهيم ويعقوب حفيده فحسب ، بل استمر خط النّبوة في ذريّة إبراهيمعليه‌السلام وأسرته حتى نبوّة خاتم الأنبياء محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متعاقبون من ذرية إبراهيم ، نوّروا العالم بضياء التوحيد.

الموهبة الثّالثة :( وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا ) فما هو هذا الأجر الذي لم يوجهه القرآن؟ لعله إشارة إلى أمور مختلفة مثل الاسم الحسن ، ولسان الصدق والثناء بين جميع الأمم ، لأنّ الأمم كلها تحترم ابراهيمعليه‌السلام على أنّه نبي عظيم الشأن ، ويفتخرون بوجوده ويسمونه «شيخ الأنبياء».

عمارة أرض مكّة كانت بدعائه ، وجذب قلوب الناس جميعا نحوه ، لتتذكر ذكريات التجلي والإيمان كل سنة في مناسك الحج ، كل ذلك من هذا الأجر المشار اليه في القرآن.

الموهبة الرّابعة : هي( إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ) وهكذا تشكّل هذه

__________________

(١) هناك بحث مفصل في هجرة إبراهيمعليه‌السلام من بابل إلى الشام في ذيل الآية (٧١) من سورة الأنبياء من التّفسير الأمثل ، فلا بأس بمراجعته.

٣٧٠

المواهب مجموعة كاملة من المفاخر.

* * *

ملاحظتان

١ ـ أكبر الفخر!

«الدخول في الصالحين» بالشكل الذي يستنتج من كثير من آيات القرآن هو أوج الفخر ، وقد يحظى به انسان معين فيكون من نصيبه. ولذلك فإنّ كثيرا من الأنبياء كانوا يسألون الله أن يدخلهم في زمرة عباده الصالحين.

فيوسفعليه‌السلام بعد وصوله إلى أبرز الانتصارات الظاهرية يسأل الله فيقول :( تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) .(١)

وكذلك نبيّ الله سليمانعليه‌السلام مع ما لديه من جاه وحشمة وجلالة ، يطلب من الله( أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ ) (٢)

وشعيبعليه‌السلام ، ذلك النّبي العظيم ، حين وقع العقد على استئجار موسى قال له :

( سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ) .(٣)

وإبراهيمعليه‌السلام أيضا يطلب لنفسه من الله أن يكون في زمرة الصالحين( رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) .(٤) كما يطلب من الله أن يرزقه أبناء صالحين فيقول :( رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ) .(٥)

__________________

(١) سورة يوسف ، الآية ١٠١.

(٢) سورة النمل ، الآية ١٩.

(٣) سورة القصص ، الآية ٣٧.

(٤) سورة الشعراء ، الآية ٨٣.

(٥) سورة الصافات ، الآية ١٠٠.

٣٧١

كما نلاحظ في كثير من الآيات أن الله سبحانه حين يمدح أنبياءه العظام في كتابه ، يصفهم بأنّهم «من عباده الصالحين».

ويستفاد من مجموع هذه الآيات ـ بصورة جيدة ـ أن أسمى مراحل تكامل الإنسان هو أن يكون عبدا صالحا.

ما معنى الصلاح؟! وبعبارة أجلى : ما معنى أن يكون الإنسان صالحا؟!

معناه : أن يكون جديرا بالاعتقاد والإيمان ، جديرا بالعمل ، جديرا بالقول ، جديرا بالأخلاق!

أمّا ما يقابل الصالح فهو الفاسد ، ونعرف أن «الفساد في الأرض» تعبير يشمل جميع أنواع الظلم والأعمال السيئة.

وفي القرآن الكريم يستعمل الصلاح ـ أحيانا ـ في مقابل الفساد ، ويستعمل ـ أحيانا ـ في مقابل السيئة ، وتعني «الذنب» وما لا يليق.

٢ ـ مواهب إبراهيم العظيمة

قال بعض المفسّرين : إنّ في الآية الآنفة لطيفة دقيقة هي أنّ الله بدل جميع الأمور والأحوال التي تؤدي بإبراهيم إلى الاستياء ، إلى الضدّ.

فعبدة الأوثان في بابل أرادوا إحراقه بالنّار ، فتبدلت روضة وسلاما.

وأرادوه أن يبقى منفردا معزولا عن الناس ، فوهب الله له أمّة عظيمة وجعل النّبوة في ذراريه.

وكان بعض أقاربه ضالا وعابدا للصنم كما هي الحال في «آزر» فأعطاه الله مكانه أبناء مهتدين وهادين للآخرين.

ولم يكن لإبراهيمعليه‌السلام في بداية حياته مال ولا جاه ، فوهب له الله مالا وجاها عظيما.

٣٧٢

وكان إبراهيمعليه‌السلام في بداية أمره مجهولا لا يعرفه الناس حتى أن عبدة الأوثان في بابل حين أرادوا تعريفه( قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ ) .

لكن الله سبحانه رفع مقامه وأعلى صيته ، حتى أنّه إذا ذكر قيل في حقّه «شيخ الأنبياء» أو «شيخ المرسلين»(١) .

* * *

__________________

(١) تفسير الرازي ، بشيء من التصرف.

٣٧٣

الآيات

( وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٢٨) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (٣٠) )

التّفسير

المنحرفون جنسيا :

بعد بيان جانب ممّا جرى لإبراهيمعليه‌السلام يتحدث القرآن عن قسم من قصّة حياة النّبي المعاصر لإبراهيم «لوط»عليه‌السلام فيقول :( وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ ) .(١)

«الفاحشة» كما بيناها من قبل ، مشتقّة من مادة «فحش» وهي في الأصل تعني كل فعل أو كلام سيء للغاية ، والمراد بها هنا الانحراف الجنسي. (اللواط).

ويستفاد من جملة( ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ ) بصورة جليّة أن

__________________

(١) يمكن أن تكون كلمة «لوطا» عطفا على كلمة (نوحا) فتكون بمنزلة المفعول «لأرسلنا» ويمكن أن يكون مفعولا لفعل محذوف تقديره «واذكر لوطا».

٣٧٤

هذا العمل السيء والمخزي لم يسبق له ـ على الأقل بشكل عام وجماعي ـ أن يقع في أية أمة أو قوم كما وقع في قوم لوط.

ذكروا في أحوال قوم لوط أن واحدا من عوامل تلوثهم بهذا الذنب هو أنّهم كانوا قوما بخلاء جدا ، ولمّا كانت مدنهم على قارعة الطريق التي تمرّ بها قوافل الشام ، فقد كانوا يظهرون هذا العمل «الانحراف» لبعض ضيوفهم أو العابرين لينفروهم وكي لا يضيفوهم ، إلّا أنّهم تعودوا على هذا العمل القبيح ، وقويت فيهم رغبة اللواط ، فسقطوا في الوحل المخزي شيئا فشيئا.

على كل حال ، سينؤون بحمل ذنوبهم وذنوب من يعمل عملهم ، دون أن ينقص من ذنوب الآخرين شيء أبدا وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم!.

لأنّهم كانوا مؤسسي هذه السنة المشؤومة ، ونحن نعرف أن من سنّ سنة ما فهو شريك في عمل من يعمل بها أيضا.

لوطعليه‌السلام هذا النّبي العظيم ، كشف أخيرا ما في نفسه وقال لقومه( أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ ) أفتريدون أن تقطعوا النسل( وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ ) (١) .

ولا ترعوون عن الأعمال المخزية في مجالسكم العامة( وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ) .

«النادي» مشتق من «النداء» وهو يعني المجلس العام ، كما يأتي أحيانا بمعنى مكان التنزّه ، لأنّ الأفراد هناك ينادي بعضهم بعضا وترتفع أصواتهم.

والقرآن لم يبيّن هنا بتفصيل أية منكرات كانوا يأتونها في مجالسهم ونواديهم لكنّها قطعا كانت متناسبة مع عملهم السيء المخزي وكما ورد في

__________________

(١) يرى جماعة من المفسّرين وجوها واحتمالات أخرى لجملة «وتقطعون السبيل» منها ما فسّروه بقطع الطريق على الناس في سفرهم مع الالتفات إلى ماضيهم وتأريخهم المعروف ، لأنّ القوافل تضطر أن تأخذ طريقا غير مطروق من أجل أن تسلم من شرّ هؤلاء ولئلا تبتلي بهم ، كما فسّره بعضهم بسرقة أموال المسافرين في القافلة ولكن التّفسير الأوّل المشار إليه في المتن أنسب للآية كما يبدوا للنظر ، لأنّ واحدا من أسرار تحريم اللواط وفلسفته هو خطر قطع النسل كما صرحت به الرّوايات.

٣٧٥

بعض التواريخ ، فإنّهم كانوا يتسابون بكلمات الفحش والابتذال ، أو يضرب أحدهم الأخر على ظهره. أو يلعبون القمار ، وأو يعبثون كالأطفال وخاصة الترامي بالحجارة الصغيرة فيما بينهم أو على العابرين ، ويستعملون أنواع الآلات الموسيقية ، ويكشفون عوراتهم في مجتمعهم ويغدون عراة إلخ(١) .

في حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كما تنقله «أم هاني» أنّه قال مفسرا لمعنى :( وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ) أنّهم «كانوا يخذفون من يمرّ بهم ويسخرون منه»(٢) أي يرمون من يمرّ بهم بالحجارة ويسخرون منه.

والآن فلنلاحظ ما ذا كان جواب هؤلاء القوم الضالين المنحرفين ، على كلمات النّبي لوطعليه‌السلام المنطقية.

يقول القرآن :( فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) .

أجل هكذا ، كان جواب هؤلاء المفتونين فاقدي العقل والدراية إذ أجابوا به من منطلق السخرية والاستهزاء إزاء دعوة لوطعليه‌السلام المنطقية والمعقولة.

كما يستفاد جيدا من هذا الجواب أنّ لوطاعليه‌السلام كان قد هدّدهم بعذاب الله ، بالإضافة إلى كلامه البيّن ذي الدليل الواضح في ما لو استمروا بهذا العمل القبيح ، إلّا أنّهم تركوا جميع مواعظه وتمسكوا بتهديده بالعذاب ، فقالوا :( ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ ) على سبيل الاستهزاء والسخرية!! كما أشير إلى هذا الموضوع في سورة القمر الآية (٣٦) بقوله تعالى :( وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ ) .

ويستشف ـ ضمنا ـ من تعبير هؤلاء القوم أنّهم كانوا يريدن أن يستنتجوا من عدم نزول العذاب على كذب لوطعليه‌السلام ، في حين أن رحمة الله هي التي تمهلهم وتعطيهم الفرصة لمراجعة أنفسهم وإعادة النظر!

__________________

(١) سفينة البحار ، ج ٢ ، ص ٥١٧.

(٢) تفسير القرطبي ذيل الآيات محل البحث.

٣٧٦

وهنا لم يكن للوطعليه‌السلام بدّ إلّا أن يلتفت إلى الله بقلب حزين مهموم و( قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ ) .

القوم المنحرفين ، المتمادين في الأرض فسادا ، والذين تركوا تقواهم وأخلاقهم الإنسانية وألقوا العفة والطهارة خلف ظهورهم ، وسحقوا العدل الاجتماعي تحت أقدامهم ، ومزجوا عبادة الأوثان بفساد الأخلاق والظلم ، وهددوا نسل الإنسان بالفناء والزوال ، فيا ربّ انصرني على هؤلاء القوم المفسدين.

* * *

ملاحظة

بلاء الانحراف الجنسي :

الانحراف الجنسي ـ سواء كان في أوساط الرجال «اللواط» أم في أوساط النساء «المساحقة» ـ لهو من أسوأ الانحرافات الأخلاقية ، ومصدر المفاسد الكثيرة في المجتمع.

وأساسا فإنّ طبيعة «كلّ من الرجل والمرأة» مخلوقة بشكل يمنح الهدوء والإشباع الصحيح السالم في العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة «عن طريق الزواج المشروع» وأي نوع من الميول الجنسية في غير هذه الصورة هو انحراف عن طبع الإنسان الصحيح ، وهو نوع من الأمراض النفسيّة الذي لو قدّر له أن يستمرّ لاشتد خطره يوما بعد يوم ، وتكون نتيجته البرود الجنسي بالنسبة ما بين الرجل والمرأة ، والإشباع غير الصحيح من «الجنس المماثل» أي «اللواط» أو «السحاق».

ولهذا النوع من العلائق غير المشروعة أثر مدمّر في جهاز البدن ، بل حتى في سلسلة الأعصاب والروح. إذ يسقط الرجل من رجولته والمرأة من أنوثتها!

٣٧٧

بحيث أن أمثال هؤلاء الرجال والنساء المنحرفين جنسيا يبتلون بضعف جنسي شديد ، ولا يستطيعون أن يكونوا آباء وأمهات صالحين لأبنائهم في المستقبل ، وربّما كانوا غير قادرين حتى على الإنجاب بصورة كلية «بسبب هذا الانحراف».

إن المنحرفين جنسيا يغدون بالتدريج منزوين منعزلين عن المجتمع ، ويحسون بالغربة في مجتمعهم وفي أنفسهم أيضا ، كما يبتلون بنفصام الشخصية ، وإذا لم يهتموا بإصلاح أنفسهم ، فمن الممكن أن يبتلوا بأمراض جسمية ونفسية مختلفة.

ولهذا السبب ـ ولأسباب أخلاقية واجتماعية أخرى ـ حرّم الإسلام الانحراف الجنسي تحريما شديدا بأي شكل كان وفي أية صورة ، كما قرر للذي يقوم بهذا العمل عقابا صارما يبلغ أحيانا إلى درجة الإعدام والقتل!.

والموضوع المهم هو أن الانفلات الاخلاقي والتميّع الجنسي والابتذال للعالم المتمدن والحضارة المادية قد جرّت كثيرا من الفتيان والفتيات إلى الانحراف الكبير.

في البداية يرغّبون الفتيان في أن يلبسوا ثياب النساء وأن يظهروا بمظهر خاص ، ويدعون النساء أن يلبسن ثياب الرجال ، وتبدأ من هنا قضية الانحراف الجنسي حتى تصل إلى أقبح الأعمال الوقحة في هذا المجال ، وتأخذ شكلا قانونيا بحيث يعدون هذا الأمر عاديا لا يستحق أي نوع من العقاب أو التبعة ، ولا يسع القلم إلّا أن يستحي ويخجل من وصف ذلك(١) .

* * *

__________________

(١) كان لنا في صدد الانحراف الجنسي بحث مفصل في ذيل الآية (٨١) سورة هود

٣٧٨

الآيات

( وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (٣١) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٢) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٣) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٣٤) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٣٥) )

التّفسير

وهذه هي عاقبة المنحرفين :

لقد أستجيب دعاء لوط أخيرا ، وصدر الأمر من الله تعالى بالعقاب الصارم والشديد لهؤلاء القوم المنحرفين والمفسدين ، فمرّ الملائكة المأمورون بعذاب قوم لوط بالأرض التي فيها إبراهيمعليه‌السلام لأداء رسالة أخرى قبل أن ينزلوا العقاب بقوم لوط ، وهذه الرسالة التي سبقت العذاب ، هي بشارتهم لإبراهيمعليه‌السلام بالولد : «بشروه بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب».

٣٧٩

والآيات المتقدمة تذكر أوّلا قصّة مرورهم بإبراهيمعليه‌السلام فتقول :( وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ ) .

والتعبير بـ «هذه القرية» يدل على أن مدن قوم لوط كانت قريبة من أرض إبراهيمعليه‌السلام

والتعبير بالظالمين هو لأجل كونهم يظلمون أنفسهم باتخاذهم سبيل الشرك والفساد الأخلاقي وعدم العفة ، وظلمهم الآخرين حتى شمل العابرين والقوافل التي كانت تمرّ على طريقهم.

فلمّا سمع «إبراهيم» هذا النبأ حزن على لوط النّبي العظيم و( قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً ) .

فما عسى أن تكون عاقبته؟!

إلّا أنّهم أجابوه على الفور ،( قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها ) فلا تحزن عليه ، لأننا لا نحرق «الأخضر واليابس» معا ، وخطتنا دقيقة ومحسوبة تماما ثمّ أضافوا( لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ ) .

ويستفاد من هذه الآية جيدا أنّ أسرة واحدة فقط في جميع تلك المدن والقرى كانت مؤمنة وغير مدنّسة ، وقد نجاها الله في ذلك الحين أيضا كما نقرأ مثل ذلك في الآية (٣٦) من سورة الذاريات :( فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) ومع ذلك فإنّ امرأة لوط كانت خارجة عن جماعة المؤمنين ، فشملها العذاب.

والتعبير بـ «الغابرين» جمع «غابر» ومعناه المتخلف عن جماعته الماضين في الطريق ، فالمرأة التي كانت في عائلة النبوّة لا ينبغي لها أن تنفصل عن المؤمنين والمسلمين غير أنّ الكفر والشرك وعبادة الأوثان ـ كل ذلك ـ دعاها إلى الانفصال!.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ) (١) .

( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ) (٢) .

( قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ) (٣) .

إلى غيرها من آياتٍ جرى فيها الوصف مجرى العقلاء، لمـّا اُضمر التشبيه بهم في النفس، من باب الاستعارة التخييليّة أو الاستعارة بالكناية، على حدّ تعبيرهم.

مُثنّى يُراد به الجماعات

كثيراً مّا تُثنّى ألفاظٌ يُراد بالواحد منها الجمع دون الفرد الحقيقي؛ ولذلك قد يعود عليه بضمير الجمع نظراً إلى المعنى، فاللفظ وإن كان مُثنّى لكن يُراد به الجمعان، وهما معاً جمعٌ لا محالة.

من ذلك قوله تعالى: ( هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ) حيث المراد بالخصمَين جماعة الكفّار وجماعة المؤمنين، حيث التخاصم بين الفريقين قائمٌ على ساقٍ، ولذلك تعقّبت الآية بقوله: ( فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ... إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ) (٤) .

قال الطبرسي: فالفِرَق الكافرة خصمٌ، والمؤمنون خصمٌ، وقد ذُكروا فيما قبلُ (٥) .

وهكذا خطابات الجمع الموجّهة إلى آدم وحوّاء يُراد بها: آدم وحوّاء وذريّتهما؛ حيث هبوطهما من الجنّة إلى الأرض هبوط ذرّيّتهما الذين سيولدون منهما أيضاً، فالخطاب مع الجمع - جماعة بني الإنسان - وليس آدم وحوّاء وحدهما.

____________________

(١) الأعراف ٧: ١٩٧.

(٢) فاطر ٣٥: ١٣ و١٤.

(٣) الشعراء ٢٦: ٧١ - ٧٣.

(٤) الحجّ ٢٢: ١٩ - ٢٤.

(٥) مجمع البيان، ج٧، ص٧٧.

٤٠١

بدليل ذيل الآيات: ( قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (١) ، ( قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ) (٢) .

وقد وَهِم مَن زَعم أنّ الخطاب يشترك فيه إبليس أو الحيّة أو غيرهما؛ حيث لا تناسب له مع سياق الآيات (٣) .

* * *

قوله تعالى: ( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ) (٤) ، زَعَموا فيه تهافتاً، وكان الوجه أنْ يُقال: اقتتلا، أو بينهم، فجمع الضمير ثمّ تثنيته تهافت (٥) .

لكن الجمع إنّما هو باعتبار أنّ الاقتتال يقع بين آحاد المؤمنين مِن كلّ طائفة، أمّا التصالح فإنّما هو بين الفريقَين لا الآحاد (٦) .

جمعٌ يراد به الاثنان فما فوق

قد يُعبّر بلفظ الجمع ويُراد به مطلق الجمع، أي الجمع العرفي الصادق من اجتماع اثنين فما فوق، ضمير المتكلّم مع الغير يُراد به الاثنان فما فوق، وهذا شائعٌ في سائر اللغات التي لا توجد فيها صيغ للتثنية، والعرب قد تستعمل ذلك حسب العرف العامّ ونظراً للمعنى اللغوي للجمع الصادق مع الاثنين.

قال الطبرسي: والعرب تُسمّي الاثنين بلفظ الجمع في كثير من كلامهم، حكى سيبويه أنّهم يقولون: وَضَعا رحالَهما، يريدون رَحْلَي راحلتيهما، وقال تعالى: ( وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ) (٧) ، يعني: حكم داود وسليمان (٨) .

____________________

(١) البقرة ٢: ٣٨.

(٢) الأعراف ٧: ٢٤: ٢٥.

(٣) راجع: مجمع البيان، ج١، ص٨٧.

(٤) الحجرات ٤٩: ٩.

(٥) هاشم العربي في ملحق ترجمة كتاب الإسلام، ص٤١٩.

(٦) الهدى إلى دين المصطفى، ج١، ص٣٨٤.

(٧) الأنبياء ٢١: ٧٨.

(٨) مجمع البيان، ج٣، ص١٥.

٤٠٢

قال سيبويه - في باب ما لُفظ به ممّا هو مُثنّى كما لُفظ بالجمع -: وهو أنْ يكون الشيئان كلّ واحدٍ منهما بعض شيءٍ مفرد من صاحبه، وذلك قولك: ما أَحْسَنَ رُؤُوسهما، وما أَحْسَنَ عَواليَهما، وقال عزّ وجلّ: ( إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ) (١) ، ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ) (٢) فرّقوا بين المـُثنّى الذي هو شيء على حِدَةٍ وبين ذا، وقال الخليل: نظيره قولك: فعلنا، وأنتما اثنان فتكلّم به كما تكلّم به وأنتم ثلاثة.

وقد قالت العرب في الشيئين اللّذين كلّ واحدٍ منهما اسمٌ على حِدَةٍ وليس واحدٌ منها بعض شيء، كما قالوا في ذا (أي فيما كان كلّ واحدٍ منهما بعض شيءٍ)؛ لأنّ التثنية جمعٌ، فقالوا كما قالوا فعلنا، وزعم يونس أنّهم يقولون: ضَعْ رحالَهما وغلمانَهما، وإنّما هما اثنان، قال اللّه عزّ وجلّ: ( وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ ) (٣) ، وقال: ( كَلاّ فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ ) (٤) .

* * *

وفي كتاب (إعراب القرآن) المنسوب إلى الزجّاج (٥) جاء الباب الثامن والأربعون لبيان ما جاء في القرآن من الجمع يُراد به التثنية.

فمن ذلك قوله تعالى: ( فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ ) (٦) ، وأجمعت الأُمّة على أنّ الأخوين يحجبان الأُمّ من الثُلث إلى السُدس بدلالة الآية.

وقوله تعالى: ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ) (٧) أي يديهما.

وقوله تعالى: ( إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ) (٨) أي قلباكما.

وقيل في قوله تعالى: ( بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ ) : (٩) إنّه مِن هذا الباب، لقوله تعالى:

____________________

(١) التحريم ٦٦: ٤.

(٢) المائدة ٥: ٣٨.

(٣) ص ٣٨: ٢١ و٢٢، في حين أنّهما كانا اثنين (أخوين).

(٤) الشعراء ٢٦: ١٥، راجع: كتاب سيبويه، ج٢، ص٢٣٧.

(٥) ومن المحتمل القريب أنه لمكّي بن أبي طالب، راجع: ملحق الكتاب، ص١٠٩٦ - ١٠٩٩.

(٦) النساء ٤: ١١.

(٧) المائدة ٥: ٣٨.

(٨) التحريم ٦٦: ٤.

(٩) المعارج ٧٠: ٤٠.

٤٠٣

( رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ) (١) .

وقوله تعالى: ( وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ) (٢) ، والمتقدّم: داود وسليمان (٣) .

وهكذا قال أبو البقاء العكبري: قيل: إنّما جُمع؛ لأنّ الاثنين جمع (٤) .

قال أبو جعفر الطبري: قال جماعة أصحاب رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) والتابعين لهم بإحسان ومَن بعدهم من علماء أهل الإسلام في كلّ زمان: عنى اللّه جل ثناؤه بقوله: ( فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ ) اثنين كان الإخوة أو أكثر منهما، أُنثيين كانتا أو كُنّ إناثاً، أو ذَكَرَين كانا أو كانوا ذُكوراً، أو كان أحدهما ذكراً والآخر أُنثى، واعتلّ كثير ممّن قال ذلك بأنّ ذلك قالته الأُمّة عن بيان اللّه جلّ ثناؤه على لسان رسوله (صلّى اللّه عليه وآله)، فنقلته أُمّة نبيّه نقلاً مستفيضاً قَطَع العذر مجيئه، ودَفَع الشكَّ فيه عن قلوب الخَلق ورودُه (٥) .

* * *

وقال أبو بكر الجصّاص: إنّ اسم الإخوة قد يقع على الاثنين، كما قال تعالى: ( إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ) (٦) وهما قلبان، وقال تعالى: ( وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ) (٧) ثُمّ قال تعالى: ( خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ ) (٨) فأُطلق لفظ الجمع على اثنين، وقال تعالى: ( وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ ) (٩) فلو كان أخاً وأختاً كان حكم الآية جارياً فيهما.

وقد رُوي عن النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) أنّه قال: (اثنان فما فوقهما جماعةٌ) (١٠) .

ولأنّ الاثنين إلى الثلاثة في حكم الجمع أَقرب منهما إلى الواحد؛ لأنّ لفظ الجمع موجود فيهما.

____________________

(١) الرحمان ٥٥: ١٧.

(٢) الأنبياء ٢١: ٧٨.

(٣) إعراب القرآن، القسم الثالث، ص٧٨٧.

(٤) في كتابه: إملاء ما مَنَّ به الرحمان في إعراب القرآن، ج٢، ص١٣٥.

(٥) جامع البيان، ج٤، ص١٨٧ - ١٨٨.

(٦) التحريم ٦٦: ٤.

(٧) ص ٣٨: ٢١.

(٨) ص ٣٨: ٢٢.

(٩) النساء ٤: ١٧٦.

(١٠) سُنَن ابن ماجة، باب ٢٤٦، ج١، ص٣٠٨، رقم ٩٨١، وقد عقد البخاري باباً جَعل ذلك عنوانه: باب ٣٥ الأذان، ج١، ص١٦٧، وراجع: فتح الباري، ج٢، ص١١٨.

٤٠٤

وقد رُوي (وبإسناد صحيح) عن زيد بن ثابت أنّه كان يحجب الأُمّ بالأخوين، فقالوا له: يا أبا سعيد، إنّ اللّه تعالى يقول ( فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ ) (١) وأنت تحجبها بالأخوَين؟ فقال: إنّ العرب تُسمّي الأخوين إخوة (٢) .

فإذا كان زيد بن ثابت (وهو عربيّ صميم) قد حكى عن العرب أنّها تُسمّي الأخوين إخوة فقد ثبت أنّ ذلك اسمٌ لهما يتناولهما... (٣)

قال تعالى: - بشأن الأولاد -: ( فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ) (٤) ، فقد شملت النساء - وهي صيغة الجمع - للاثنتين فما فوق: ومِن ثَمّ كان معنى قوله ( فَوْقَ اثْنَتَيْنِ ) : اثنتين فما فوق، وذلك بدليل تقابله مع قوله: ( وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ) ، وإلاّ كانت الاثنتان مغفولاً عنهما، الأمر الذي لا يتّفق مع كون سياق الكلام لبيان الاستيعاب.

ويشهد لذلك قوله تعالى بشأن الكَلالة: ( إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ ) (٥) ، والمراد: الاثنتان فما فوق، بدليل الإجماع في كلا الموضعَين.

ذكر الطبرسي في الآية الأُولى وجوهاً، أحدها - وهو أوجهها -: أنّ في الآية بيان حكم البنتين فما فوق؛ لأنّ معناه: فإن كُنّ اثنتين فما فوق فلهُنّ ثُلُثا ما ترك، إلاّ أنّه قدّم ذَكَر الفوق على الاثنتين، كما رُوي عن النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) أنّه قال: (لا تُسافر المرأةُ سفراً فوقَ ثلاثة أيّام إلاّ ومعها زوجُها أو ذو محرمٍ لها) (٦) ، ومعناه: لا تسافر سفراً ثلاثة أيّام فما فوقها (٧) .

____________________

(١) النساء ٤: ١١.

(٢) أحكام القرآن للجصّاص، ج٢، ص٨١ - ٨٢.

(٣) السُنَن الكبرى للبيهقي، ج٦، ص٢٢٧، باب فرض الأُمّ، وقد عَقَد البيهقي باباً لترجيح قول زيد على قول غيره من الصحابة وأنّه أعلم الصحابة بعلم الفرائض، راجع: ج٦، ص٢١٠.

وهكذا روى الحاكم في المستدرك، ج٤، ص٣٥، كان زيد يقول: الإخوة في كلام العرب أخوانِ فصاعداً، قال: هذا حديث صحيح لم يخرجه الشيخان.

وروى بإسناد صحّحه أيضاً أنّ زيداً أفرض الأُمّ، وراجع: الدرّ المنثور، ج٢، ص٤٤٧.

(٤) النساء ٤: ١١.

(٥) النساء ٤: ١٧٦.

(٦) راجع: السُنَن الكبرى، ج١٠، ص٨٢، وسُنَن أبي داود، ص١٤٠، رقم ١٧٢٦، وسُنَن ابن ماجة، ج٢، ص٢١١، رقم ٢٩٤٧، وصحيح البخاري، ج٢، ص٥٤، باب التقصير في السفر، رقم ٤.

٤٠٥

هذا الحديث وَرَد بألفاظٍ يختلف بعضها عن بعض، فكان مقتضى الجمع بينها هو الحكم بأنّ الزائد على اليومين حرامٌ عليها إلاّ مع ذي رحم.

ففي سُنَن البيهقي: (لا تُسافر المرأةُ فوق ثلاثة أيّام إلاّ مع ذي مَحرمٍ) (١) .

وفي لفظ أبي داود: (لا يَحل لامرأةٍ... أنْ تُسافر سفراً فوق ثلاثة أيّام فصاعداً إلاّ ومعها أبوها، أو أخوها، أو زوجها، أو ابنها، أو ذو مَحرم منها) (٢) .

وأيضاً رُوي: (لا تُسافر المرأةُ سفرَ ثلاثة أيّام فصاعداً إلاّ مع...) (٤) .

وفي البخاري: (لا تُسافر المرأةُ ثلاثةَ أيّام إلاّ مع ذي مَحرم)، وجاء في الهامش: وفي نسخة (فوق ثلاثة أيّام) (٥) .

وأيضاً رُوي: (لا تُسافر المرأةُ يومَين إلاّ ومعها زوجها أو ذو مَحرم) (٦) (لا تُسافر المرأةُ مسيرةَ يومين إلاّ ومعها زوجها أو ذو محرم) (٧) .

ومقتضى الجمع بين مختلف التعابير أنّ النهي إنّما يتوجّه إليها فيما بعد اليومَين؛ ومِن ثَمّ فَهِم الفقهاء من قوله (صلّى اللّه عليه وآله): (فوق ثلاثة أيّام) الثلاثة فما فوق.

يجوز في جماعة غير ذوي العقول اعتبار جمع التأنيث

قال تعالى: ( فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ ) (٨) ، جاء وصف الأيّام - وهو جمعٌ مكسّر لـ (يوم) الذي هو مُذكّر حيث قوله تعالى: ( فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ ) (٩) بجمع المؤنّث السالم (بالألف والتاء).

____________________

(٧) مجمع البيان، ج٣، ص١٤.

(١) السُنَن الكبرى، ج١٠، ص٨٢، باب من نذر المشي إلى مسجد المدينة أو مسجد بيت المقدس، رقم ٢.

(٢) سُنَن أبي داود، ج٢، ص١٤٠، رقم ١٧٢٦، باب المرأة تحجّ بغير محرم، رقم ٤.

(٣) المصدر: ص١٤١، رقم ١٧٢٧/٥.

(٤) سُنَن ابن ماجة، ج٢، ص٢١١، باب ١٠١٤ المرأة تحجّ بغير ولي، رقم ٢٩٤٧.

(٥) صحيح البخاري، ج٢، ص٥٤، باب التقصير في السفر، رقم ٤.

(٦) المصدر: ص٧٧، باب مسجد بيت المقدس.

(٧) المصدر: ج٣، ص٥٦ باب الصوم يوم النحر.

(٨) فصّلت ٤١: ١٦.

(٩) القمر ٥٤: ١٩.

٤٠٦

قال أبو حيّان الأندلسي: و(نحسات) صفة لأيّام، جُمع بألفٍ وتاء؛ لأنّه جمع صفة لِما يَعقل (١) .

قال الزمخشري: في قوله تعالى: ( وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ...الَّذِي خَلَقَهُنَّ ) : (٢) الضمير في (خلقهنّ) للّيل والنهار والشمس والقمر؛ لأنّ حكم جماعة مالا يعقل حكم الأُنثى أو الإناث، يقال: الأقلام بَرَيْتُها وبَرَيتُهُنّ (٣) .

قال المحقّق رضيّ الدين الاسترآبادي - بشأن جمع غير العاقلين -: هو ثلاثة أقسام، مُذكّر لا يَعقِل كالأيّام والجبيلات، ومُؤنث يَعقِل كالنسوة والزينبات، ومُؤنّث لا يَعقِل كالدور والظُلمات، فيجوز أنْ يكون ضمير جميعها الواحد المؤنّث الغائب، بتأويل الجماعة، وأنْ يكون النون (نون جمع المؤنّث)؛ لكونها جمع غير العاقلين، وقد تقدّم - عند الكلام عن الضمائر - أنّ النون موضوعٌ له، فنقول: الأيّام والجبيلات، والنساء والزينبات، والدور والغُرفات، فعلت وفعلنَ... (٤)

* * *

وأَمّا وصف الملائكة بصيغة الجمع المؤنّث السالم (بالألف والتاء) - في المرسلات، والنازعات، والصافّات، والذاريات - فباعتبار كون الموصوف هم جماعات الملائكة.

فقوله: ( فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً ) (٥) أي الجماعات المـُلقيات، جُمع جماعة الملائكة، وكذا قوله: ( فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً ) (٦) ، ( وَالصَّافَّاتِ صَفّاً * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً ) (٧) ، وهكذا قوله: ( فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً ) (٨) .

وقوله تعالى: ( وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ) (٩) ، صافّات: حال من الطير، باعتباره اسم جنس جمعٍ، فهو كالجمع المـُكسّر لغير ذوي العقول.

____________________

(١) البحر المحيط، ج٧، ص٤٩١.

(٢) فصّلت ٤١: ٣٧.

(٣) الكشّاف، ج٤، ص٢٠٠.

(٤) شرح الكافية للاسترآبادي، ج٢، ص١٧١.

(٥) المرسلات ٧٧: ٥.

(٦) النازعات ٧٩: ٥.

(٧) الصافّات ٣٧: ١ - ٣.

(٨) الذاريات ٥١: ٤.

(٩) النور ٢٤: ٤١.

٤٠٧

ومِثله: ( إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ ) (١) ، أي الخيل الصافنات، وهي الخيل الواقفة على ثلاث قوائم، الواضعة طرف السُنبك الرابع على الأرض.

التعبير عن العقلاء بـ (ما) الموصولة

فقد جاء في القرآن الكريم مواضع استُعمل فيها (ما) الموصولة فيمَن يعقل:

منها قوله تعالى: ( فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ) (٢) .

وقوله: ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ ) (٣) .

وقوله: ( وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا ) (٤) .

وقوله: ( لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ) (٥) .

وقوله: ( فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ) (٦) .

وقوله: ( وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ) (٧) .

وقوله: ( وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى ) (٨) .

وقد تخلّص أهل الأدب من ذلك من وجوه:

الأول: جواز استعمال (ما) الموصولة فيمَن يَعقِل جوازاً مطّرداً وإن كان غير غالب.

قال أبو البقاء العكبري: (ما) هنا بمعنى مَنْ، ولها نظائر في القرآن (٩) .

وجاء في الكافية لابن حاجب: و (ما) في الغالب لِما لا يعلم، وقد جاء في العالِم قليلاً، حكى أبو زيد: سُبحانَ مَن سخّركُنّ لنا وسُبحانَ ما سبّح الرعدُ بحمده، وقال تعالى: ( وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) (١٠) .

____________________

(١) ص ٣٨: ٣١.

(٢) النساء ٤: ٣.

(٣) النساء ٤: ٢٤.

(٤) الشمس ٩١: ٥.

(٥) الكافرون ١٠٩: ٢ و٣.

(٦) النساء ٤: ٢٥.

(٧) النساء ٤: ٢٢.

(٨) الليل ٩٢: ٣.

(٩) راجع: إملاء ما مَنَّ به الرحمان، ج١، ١٦٦، وشرح الكافية، ج٢، ص٥٥.

(١٠) النساء ٤:٣٦، جاء في نفس الصفحة من شرح الكافية: (سبحان ما سِخَّركُنّ لنا وما سبّح الرعد بحمده).

٤٠٨

الثاني: أنّ الإناث من العقلاء يَجرينَ مجرى غير العقلاء (١) ، وهذا أبعد الوجوه.

الثالث - وهو الأوجه -: أنّه إجراء على الصفة لا على الذات.

قالوا: و (ما) تختصّ أو تغلب في غير العقلاء فيما إذا أُريد الذات، وأمّا إذا أُريد الوصف فلا، كما تقول: ما زيد - في الاستفهام - أي أَفاضل أم كريم، وأكرم ما شِئتَ من الرجال، تعني الكريم أو اللئيم (٢) .

قال الفرّاء: قال تعالى ( مَا طَابَ لَكُمْ ) (٣) ولم يقل (من طاب)؛ وذلك أنّه ذهب إلى الفعل (أي الوصف) - أي فانكحوا الطيّبات من النساء - كما قال: ( أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) (٤) ، يريد: أو مَلَك أَيمانكم.

ولو قيل في هذَين (من) كان صواباً، ولكن الوجه ما جاء به الكتاب، وأنت تقول في الكلام: خذ من عبيدي ما شئت، إذا أراد مشيئتك، فإن قلت: (مَن شئت) فمعناه: خذ الذي تشاء (٥) .

وهكذا قال أبو البقاء: وقيل: (ما) تكون لصفات مَن يعقل، وهي هنا كذلك؛ لأنّ (ما طاب) يدلّ على الطيب مِنهنّ.

وقال الزمخشري: وقيل: (ما) ذهاباً إلى الصفة.

قل رضيّ الدين الاسترآبادي: وتُستعمل أيضاً في الغالب في صفات العالِم نحو: زيد ما هو وما هذا الرجل، فهو سؤال عن صفته، والجواب: عالمٌ أو غير ذلك، قال: وقول فرعون: ( وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ) (٦) ، يجوز أنْ يكون سؤالاً عن الوصف، ولهذا قال موسى (عليه السلام) ( رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) (٧) .

قال الزمخشري - ردّاً على مَن زَعَم أنّ (ما) في قوله تعالى: ( وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ) (٨) ، مصدريّة -: وليس بالوجه؛ لقوله ( فَأَلْهَمَهَا ) ، وما

____________________

(١) الكشّاف، ج١، ص٤٦٧.

(٢) روح المعاني، ج٤، ص١٦٩.

(٣) النساء ٤: ٣.

(٤) النساء ٤: ٣.

(٥) معاني القرآن، ج١، ص٢٥٣ - ٢٥٤.

(٦) الشعراء ٢٦: ٢٣.

(٧) الشعراء ٢٦: ٢٤، راجع: شرح الكافيّة، ج٢، ص٥٥.

(٨) الشمس ٩١: ٥ - ٧.

٤٠٩

يؤدّي إليه من فساد النَظم، قال: والوجه أنْ تكون (ما) موصولة، وإنّما أُوثرت على (مَن)؛ لإرادة معنى الوصفيّة، كأنّه قيل: والسماء، والقادر العظيم الذي بناها، ونفسٍ، والحكيم الباهر الحِكمة الذي سوّاها، وفي كلامهم: سبحانَ ما سخّركُنّ لنا (١) .

وقال - في تفسير سورة الكافرون -: فإنْ قلتَ: فَلِمَ جاء على (ما) دون (مَن)؟

قلتُ: لأنّ المراد الصفة، كأنّه قال: لا أَعبدُ الباطل، ولا تعبدون الحقّ (٢) .

وقال الطبرسي - في قوله تعالى: ( وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ ) (٣) -: إنّه يجوز أنْ يكون ذَهَب به مَذهب الجنس، كما يقول القائل: لا تأخذ ما أخذ أبوك مِن الإماء، فيذهب مَذهب الجنس ثُمّ يفسّره بـ (مِن) (٤) .

وأقول - توضيحاً لذلك -: إنّ (ما) قد يراد به الذات، فذلك الغالب أنْ يقع على غير ذوي العقول، ولكن قد يقع على ذوي العقول مُراداً به الوصف لا الذات، فذلك هو الشائع واستعمله القرآن، ومنه السؤال عن الماهية أيضاً، يُؤتى بما دون (مَن) وإن كان سؤالاً عن ماهية عاقل فيقال: زيدٌ ما هو، وما هذا الرجل، فإنّ السؤال عن شخصيّته وعن تكوينه الذاتي في أوصافه الخاصّة، وليس المراد السؤال عن معرفة شخصه، فلا يصحّ أنْ يقال في الجواب: إنّه ابن فلان أَو مِن آل فلان، بل ينبغي أنْ يُجاب بما يُعرّف شخصيّته الذاتيّة وأنْ يُؤتى بأوصافٍ تخصّه.

نعم، لو أُريد السؤال عن شخصه كان يجب أنْ يُقال: مَن هو، فيجاب بأنّه ابن فلان أو مِن آل فلان.

وفي الحديث عن أبي الحسن موسى بن جعفر عن آبائه (عليهم السلام) قال: (دَخَل رسولُ الله (صلّى اللّه عليه وآله) المسجدَ، فإذا جماعة قد أطافوا برجلٍ، فقال: ما هذا؟ فقيل: علاّمة، قال: وما العلاّمة؟ قالوا: أَعلم الناس بأنساب العرب ووقائعها وأيّام الجاهليّة وبالأشعار والعربيّة، فقال النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله): ذاك علمٌ لا يضرّ مَن جَهِله، ولا يَنفع مَن عَلِمَه) (٥) .

____________________

(١) الكشّاف، ج٤، ص٧٥٩.

(٢) المصدر: ص٨٠٩.

(٣) النساء ٤: ٢٢.

(٤) مجمع البيان، ج٣، ص٢٧.

(٥) بحار الأنوار، ج١، ص٢١١ عن أمالي الصدوق.

٤١٠

ومنه قوله تعالى - حكايةً عن فرعون -: ( وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ) (١) ، وذلك لمـّا دَعاه موسى (عليه السلام) إلى شريعته وقال ( إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (٢) ، عاد عليه فرعون وسَأله عن سِمات هذا الربّ والتي جَعلته ربّاً للعالمينَ، ولمْ يسأله عن ذاته المـُقدّسة وعن اسمه الخاصّ، وإلاّ لكان حقّ الجواب أنْ يقول موسى (عليه السلام): الله، بل أجابه بقوله: ( رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا... رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ... رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا ) (٣) وفيه تعريضٌ بفرعون، حيث ادّعى الربوبيّة؛ لأنّ له مُلك مصر، وأنّ أنهارها تجري من تحته (٤) فهو يَملك - فيما زَعَم - رقعةً من الأرض وليست كلّها وفي مقطع من الزمان لا في كلّ الأزمان، ولأُناس معدودين وليس كلّ الخلائق من الأوّلينَ والآخرينَ.

والخلاصة: إنّ التعبير بـ (ما) عن الشيء قد يكون تعريفاً بعين ذاته، فهذا ما يَغلُب استعماله في غير ذَوي العقول، وقد يكون تعريفاً بصفاته وعناوينه التي كَوَّنت شخصيّته الخاصّة، فهذا يَعمّ ويَغلُب استعماله في العقلاء أيضاً، وقد جاءت تعابير القرآن على هذا النمط، وجارياً على أساليب كلام العرب الفصيح.

وعليه، فكان قوله تعالى: ( فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ) (٥) ، تعبيراً عن الطيّبات من النساء، أي فانكحوا الطيّب من النساء، قال مكّيّ بن أبي طالب: أي فانكحوا الطيّب أي الحلال، و(ما) تقع لِما لا يَعقل، ولنعوتِ ما يَعقِل؛ ولذلك وقعتْ هنا لنعتِ ما يَعقِل (٦) .

وكذا قال - في قوله تعالى: ( وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) (٧) -: وقعت (ما) لِمَن يعقل؛ لأنّ المـُراد بها صفة مَن يَعقِل، قال: و(ما) يُسأل بها عمّا لا يَعقِل وعن صفات مَن يعقل (٨) .

قال الفرّاء: ( وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) يُريد: أو مَلَك أيمانكم (٩) .

____________________

(١) الشعراء ٢٦: ٢٣.

(٢) الشعراء ٢٦: ١٦.

(٣) الشعراء ٢٦: ٢٤ - ٢٨.

(٤) إشارة إلى قوله تعالى: ( وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ ) ، الزخرف ٤٣: ٥١.

(٥) النساء ٤: ٣.

(٦) مُشكل إعراب القرآن لمكّي بن أبي طالب، ج١، ص١٨٩.

(٧) النساء ٤: ٣٦.

(٨) المصدر: ١٩٥.

(٩) معاني القرآن، ج١، ص٢٥٤.

٤١١

فإنّه عنى الطيّبات، ثُمّ بَيَّنه بقوله: (من النساء)، كما أنّه عنى المـَملوك ثُمّ بَيَّنه بالفتيات وكذلك قوله ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ... ) (١) فإنّه عنى جانب الاستمتاع، ثُمّ جاء البيان بالنساء، ومِثله قوله ( مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ ) (٢) أي ما وقع في نكاحهم، ثُمّ بَيَّنه بقوله: (من النساء).

وقال الزمخشري - في قوله تعالى: ( وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا... ) (٣) -: جُعلت (ما) مصدريّة، وليس بالوجه؛ لقوله ( فَأَلْهَمَهَا ) ، وما يؤدّي إليه من فساد النَظم، والوجه: أنْ تكون موصولة، وإنّما أُوثرت على (مَن) لإرادة معنى الوصفيّة، كأنّه قال: والسماء والقادر العظيم الذي بَناها - ونفسٍ - والحكيم الباهر الحِكمة الذي سوّاها، وفي كلامهم: (سبحان ما سَخَّركُنّ لنا) (٤) .

وقال - في قوله ( لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ) (٥) -: فإنْ قُلت: لِمَ جاء على (ما) دون (مَن)؟ قلتُ: لأنّ المراد الصفة، كأنّه قال: لا أعبد الباطل، ولا تعبدون الحقّ (٦) .

وقال - في قوله ( وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى ) (٧) -: والقادر العظيم القُدرة الذي قَدِر على خَلق الذكر والأُنثى من ماءٍ واحد، وقَرَأَ ابن مسعود: والذي خَلَق الذكر والأُنثى (٨) ؛ تَبييناً لموضع (ما) وأنّها موصولة، قال الفرّاء: كلّ هذا - أي التعبير بـ (ما) عن العقلاء فيما ذُكر من الآيات - جائز في العربيّة (٩) .

ضمائر تُخالِف مَراجِعَها

قال تعالى: ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ ) (١٠) .

____________________

(١) النساء ٤: ٢٤.

(٢) النساء ٤: ٢٢.

(٣) الشمس ٩١: ٥.

(٤) الكشاف، ج٤، ص٧٥٩.

(٥) الكافرون ١٠٩: ٢ و٣.

(٦) الكشاف، ج٤، ص٨٠٩.

(٧) الليل ٩٢: ٣.

(٨) الكشّاف، ج٤، ص٧٦١.

(٩) معاني القرآن، ج٣، ص٢٦٣.

(١٠) البقرة ٢: ١٧.

٤١٢

فقد شَبّه المنافقون - في حالتهم المـُزرية - بالذي استوقد ناراً لإنارة الطريق، لكنّه افتقدها فور الوقود؛ ومِن ثَمّ كان يجب - حسب الظاهر - إفراد الضمائر كلّها، حيث عَودها على المـُشبّه وهو مفرد!

لكن هذا من باب تناسي التشبيه - كما في الاستعارة المـُرشّحة - (١) كما في قول أبي تمام من قصيدة يَرثي بها خالد بن الشيباني ويَذكر أباه، وهذا البيت في مدح أبيه وذِكرِ عُلوِّ قَدْره ورتبته:

ويَصعَدُ حتّى يَظنّ الجهولُ

بأنّ له حاجةً في السماءِ

استعار الصعود لعلوِّ القَدر والارتقاء في مدارج الكمال، ثُمّ بَنى عليه ما يَبني علوّ المكان والارتقاء في السماء؛ فلولا أنّ قَصْدَهُ أنْ يتناسى التشبيه ويُصرّ على إنكاره فيجعله صاعداً في السماء من حيث المسافة المكانيّة، لَما كان لهذا الكلام وجه.

ونحوه قول أبي الفضل ابن العميد في غلامٍ جميل قامَ على رأسه ليَستره عن الشمس:

قامتْ تُظلّلُني مِن الشمسِ

نفسٌ أعزُّ عليَّ مِن نفسي

قامتْ تُظلّلُني ومِن عَجبٍ

شمسٌ تُظلّلُني مِن الشمسِ

فلولا أنّه تَناسى التشبيه لم يكن وجه لهذا التَعجُّب.

وكذا قول أبي الطباطبا العَلوي في وصف غلامٍ صبيح:

لا تَعجَبوا مِن بِلَى غِلالَته

قد زُرَّ أَزرارُه على القَمرِ

فلولا أنّه تَناسى التشبيه لم يكن وجه لهذا النهي عن العجّب.

ونظيره ما جاء في نفس التشبيه - من غير استعارة - كما في قول عباس بن الأحنف في قصيدةٍ يَصف فيها محبوبتَه، يُخاطب نفسه:

____________________

(١) وهي: ما قُرِن المـُستعار له بما يُلائم المـُستعار منه، كما في قوله تعالى: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ ) البقرة ٢: ١٦، فإنّه استعار الاشتراء للاستبدال والاختيار ثُمّ فَرَّع عليها ما يُلائم الاشتراء من الريح والتجارة.

قالوا: والترشيح أَبلغ؛ لاشتماله على تحقيق المـُبالغة في التشبيه، ومَبناه على تناسي التشبيه وادّعاء أنّ المـُستعار له عين المستعار منه (راجع المـُطوّل، قسم البيان، ص٣٧٨ - ٣٧٩ طبع مصر، منشورات مكتبة الداوري - قم).

٤١٣

هي الشمسُ مسكنُها في السماءِ

فَعَزِّ الفؤادَ عزاءً جميلاً

فلنْ تستطيعَ إليها الصُعودا

ولنْ تستطيعَ إليك النُزولا

فقد شَبَّهها تشبيها صريحاً من غير أنْ يطوي ذِكر المـُشبَّه به، ومع ذلك فقد تناسى التشبيه، وبنى على المـُشبَّه ما هو من شأن المشبّه به (١) .

وقوله تعالى: ( وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا ) (٢) أي خُضتم في الكفر والعِناد كالذي خاضوه، فالعائد محذوف، وهذا من تشبيه الخَوض بالخَوض، لا الخائضين بالخائضين، وهو مِن حُسن التشبيه؛ حيث وقع بين الفعلَين لا الفاعلَين.

وقوله تعالى: ( وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) (٣) ، المراد به الجنس وهو عامّ في مفهومه يشمل الواحد والكثير، وبما أنّ الآية ذات مصاديق كثيرة لُوحظ المعنى ليعمّ الحُكم مَن غَبَر ومَن حَضَر ومَن يأتي مِن بعدُ.

وقوله تعالى: ( وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا... أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ) (٤) ، المراد به الجنس أيضاً، وهو نوع من الالتفات اللطيف، حيث يبدأ الكلام بمُفرد، لكنّ المـُتكلِّم - حيث أراد الجنس لا الفرد الخاصّ - ينحو بكلامه إلى جانب العموم وإرادة الشمول.

وهنا بشأن هذه الآية حكاية ظريفة: زَعَمت بنو أُميّة وبنو مروان أنّها نزلت بشأن عبد الرحمان بن أبي بكر، وحينما كَتَب معاوية إلى عامله بالمدينة مروان بن الحكم بأنْ يُبايع الناس ليزيد قال عبد الرحمان. لقد جِئتم بها هرقليّة، تُبايعون لأبنائكم! فقال مروان: أيّها الناس، إنّ هذا هو الذي قال اللّه فيه ( وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا... ) فسَمِعت عائشة، فغَضبتْ وقالت: واللّه ما هو به، ولو شئتُ أنْ اُسمّيه لسمّيتُه، ولكنّ اللّه لعن أباك وأنت في صُلبه، فأنت فَضَضٌ من لعنة اللّه (٥) .

____________________

(١) المـُطوّل، ص٣٧٩.

(٢) التوبة ٩: ٦٩.

(٣) الزُمر ٣٩: ٣٣.

(٤) الأحقاف ٤٦: ١٧ و١٨.

(٥) فَضَضٌ: ما انفضّ من الشيء، قال الجوهري: أنت فَضَضٌ من لعنة اللّه، يعني: ما انفضّ من نُطفة الرجل

٤١٤

ما يستوي فيه المفرد والجمع

من ذلك لفظ (الطاغوت) يقع على الواحد والجمع:

* قال تعالى: ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ) (١) .

وقال: ( يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ) (٢) ، جاء في التفسير أنّه أَراد: كعب بن الأشرف رأس اليهود.

وقال: ( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا ) (٣) ، أراد به الأصنام.

قالوا: هو في الأصل مصدر (طغى)، وأصله: طَغَيوت، على وزان: فَعَلوت، مِثل: الرهبوت، والرحموت، فَقَدّم الياء وأَبدلَ منها ألفاً فصار طاغوت (٤) .

* ومن ذلك قوله تعالى: ( لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) (٥) .

ومثله قوله: ( وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاّ الَّذِينَ آمَنُوا... ) (٦) .

والمراد بالإنسان هنا الجنس الذي يُطلق على الواحد والجمع سواء، بدليل الاستثناء هنا.

* قال تعالى: ( مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ ) (٧) ، قال الزمخشري: والسَامِر، نحو الحاضر في الإطلاق على الجمع، وكانوا يجتمعون حول البيت بالليل يَسمرون، وكانت عامّة سَمَرِهم ذكر القرآن وتَسميته سِحراً وشِعراً، وسبّ النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله)، و(تهجرون) مَن أَهجر في مَنطقِه إذا أَفحَشَ. والهُجر - بالضمّ -: الفُحش، وبالفتح: الهَذَيان (٨) .

* ومنه (الفُلْك) يُطلق على المفرد والجمع، قال تعالى في المفرد: ( وَمَنْ مَعَهُ فِي

____________________

= وتردّد في صُلبه، والحديث أَخرجه النسائي وابن أبي خيثمة والحاكم وصحّحه ابن مردويه، وأخرج أصله البخاري في صحيحه، راجع: الكشّاف، ج٤، ص٣٠٤، وهامش، ص٣٠٣، وراجع أيضاً: الدرّ المنثور، ج٧، ص٤٤٤.

(١) البقرة ٢: ٢٥٧.

(٢) النساء ٤: ٦٠.

(٣) الزمر ٣٩: ١٧.

(٤) إعراب القرآن المنسوب إلى الزجّاج، ص٧٦٣، باب ٤٢.

(٥) التين ٩٥: ٤ - ٦.

(٦) العصر ١٠٣: ١ - ٣.

(٧) المؤمنون ٢٣: ٦٧.

(٨) الكشّاف، ج٣، ص١٩٤.

٤١٥

الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ) (١) وقال في الجمع: ( حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ ) (٢) فهو في المفرد كقُفْل، وفي الجمع كاُسد.

وقوله، ( وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ ) (٣) يحتمل المفرد والجمع وذلك؛ لأنّ (الفُلك)، يُذكّر ويُؤنّث، فيُحتمل في ضمير التأنيث أنْ يكون لذلك، أو لإرادة الجمع.

* ومنه ما جاء مُفرداً بلفظة التمييز أو الحال أو المفعول به، ويُراد به الجمع، لا باعتبار المجموع، بل باعتبار كلِّ واحدٍ منهم: قال تعالى: ( فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً ) (٤) ، أي أَنفُساً، والمراد: كلّ واحدة نَفْساً. وقال: ( وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ) (٥) ، أي رُفقاء، والمراد: كلّ واحدٍ رفيقاً.

قال الزمخشري: والرفيق كالصديق والخليط في استواء الواحد والجمع فيه، ويجوز أنْ يكون مُفرداً بُيّن به الجنس في باب التمييز (٦) .

وقال: ( ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ) (٧) ، أي أطفالاً، والمراد: كلّ واحدٍ طفلاً.

وقال: ( أَلاّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً ) (٨) ، أي وكلاء.

وقال: ( خَلَصُوا نَجِيّاً ) (٩) ، أي أنجياء أو أَنجية.

قال الزمخشري: ويجوز أنْ يُقال: هم نَجي كما قيل: هم صديق؛ لأنّه بزِنَة المصادر (١٠) .

* ومنه لفظ (العدوّ)، فإنّه يُطلق على الواحد والجمع على سواء، قال تعالى: ( فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي ) (١١) .

قال الراغب: يقال: رجل عدوّ، وقوم عدوّ (١٢) ، قال تعالى: ( هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ

____________________

(١) الشعراء ٢٦: ١١٩.

(٢) يونس ١٠: ٢٢.

(٣) البقرة ٢: ١٦٤.

(٤) النساء ٤: ٤.

(٥) النساء ٤: ٦٩.

(٦) الكشّاف، ج١، ص٥٣١.

(٧) غافر ٤٠: ٦٧.

(٨) الإسراء ١٧: ٢.

(٩) يوسف ١٢: ٨٠.

(١٠) الكشّاف، ج٢، ص٤٩٤.

(١١) الشعراء ٢٦: ٧٧.

(١٢) المفردات، ص٣٢٦.

٤١٦

اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ) (١) ، ( هُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ) (٢) .

* وقال تعالى: ( فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ) (٣) ، أي أصدقاء أَحمّاء.

____________________

(١) المنافقون ٦٣: ٤.

(٢) الكهف ١٨: ٥٠.

(٣) الشعراء ٢٦: ١٠٠ و١٠١.

٤١٧

الباب الخامس

القَصَص القرآني على منصّة التحقيق

( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ ) (١)

القصّة: الحديث، الخبر، الأمر الحادث، الأُحدوثة، الشأن، الحال.

جمعها: قِصَص، والمصدر قَصَص.

يُقال: قصّ عليه الخبرَ قَصَصاً، إذا حدّثه به، والقصّ والقَصَص: تتّبع الأثر، يُقال: قَصَصتُ أثره أي تَتَّبعته، قال تعالى: ( فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً ) (٢) ، أي رَجَعا إلى الوراء ليَستعلِما الحال، وقال - على لسان أُمّ موسى -: ( وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ ) (٣) ، أَمَرتها بالفحص وتتّبُع أَثره، ولتنظر مَن يأخذه من الماء.

وقَصَص القرآن: أَخباره عن أحوال الماضين، من أُمّم وأنبياء سالفين، وعن

____________________

(١) يوسف ١٢: ٣.

(٢) الكهف ١٨: ٦٤.

(٣) القصص ٢٨: ١١.

٤١٨

حوادث واقعة في سوالف الأيّام، ممّا فيه العِبر والاعتبار للباقين.

وللقِصّة أثرها المباشر في النفوس وآكد في التربية والتعليم ممّا لو كان الكلام عارياً عن شواهد وأمثال؛ ذلك أنّ النفوس تهفو إلى معرفة ما بين الأحداث وعِلَلِها وأسبابها من رَبطٍ، وكذا بينها وبين النتائج المـُترتِّبة عليها من علاقة وثيقة، فلو أنّ المتكلّم أَبانَ وجهَ العِلَل والأسباب، وكَشَف عن النتائج الحاصلة بشكل مستدلّ متين، ووضع يده على مواضع العِبَر منها وذوات الاعتبار، لكان قد اقترب من غايته في تأثير النُصح والإرشاد، في أقرب طريق وأفضل أُسلوب مؤثِّر.

قال نظام الدين النيشابوري القُمي، صاحب التفسير: الإنسان قد يَذكر معنىً فلا يلوح له مَبلغُ تأثيره ولا مدى تفهيمه كما ينبغي، حتّى إذا شَفَّعه بشاهد مِثال ولا سيّما قَصَص الماضين - فيما إذا كان بصدد الوعظ والإرشاد - فتراه كلاماً ذا وَقْعٍ وتأثير حسبما يراد؛ ذلك أنّ في الطِّباع محاولة المـُحاكاة مع المشهود من جمالٍ أو كمالٍ، فإذا ذُكر المعنى وحده كان قد أَدركه العقل، ولكن مع منازعة الخيال ومحاولة رفضه في بادئ الأمر، أمّا إذا شُفّع بذِكر شاهد من أحوال الماضين وذُكرت الأسباب المؤاتية والنتائج الحاصلة منها، رَغَبت النفس في لَمسه في ذات ضميره، فيكون أوقع في النفس وأقرب إلى القبول وإمكان التأثير.

ومِن ثَمّ كان من الضروري الإكثار في القرآن مِن ذِكر القَصَص والأمثال، فإنّه الكتاب الّذي أُنزِلَ تِبياناً لكلّ شيء وهدىً ورحمة للعالمين (١) .

وقال الإمام الرازي - بصدد بيان فائدة ذِكر قَصَص الأنبياء في القرآن -:

إنّه سبحانه لمـّا بالغَ في تقرير الدلائل والبيّنات وفي الردّ على شُبُهات المعاندينَ، شَفّعها بذِكر أحوال الأُمَم السالفة ومواضعهم من الأنبياء؛ لغرض أنّ الكلام إذا طال في تقرير نوعٍ من أنواع المعارف، فربّما حصل نوع من المـَلال، وليس إذا حصل انتقال من نوعٍ إلى نوعٍ، ليزيد طَراوةً ويُنشِّط من رغبة السامعينَ.

وأيضاً ليكون الرسول (صلّى اللّه عليه وآله) والمؤمنون في تسلية عمّا يُواجهوه مِن أذى الأعداء.

____________________

(١) عن تفسير غرائب القرآن للنيشابوري (بهامش الطبري، ج١، ص١٩٩ - ٢٠٠) بتصرّفٍ وتبيين.

٤١٩

وليتأسّوا بمَن سَلف من الأنبياء والصالحين.

وكذلك ليكون تنبُّهاً للجُهّال المعاندينَ، فلينظروا في أحوال الماضين مِن آبائهم وليَعتبروا بما أُصيبوا من الفشل والخُسران، وأنّ اللّه تعالى لَيَنصر أولياءَه ويكون جندُه هم الغالبينَ.

وأخيراً فإنّها معجزة قرآنيّة يَذكر قَصَص الماضينَ نقيّة وسليمة من أكدار التحريف والتشويه، على يد نبيّ أُمّي لم يَكتب ولم يَقرأ الكُتُب (١) .

أُسلوب القِصّة في القرآن

إنّ أُسلوب القصّة في القرآن جاء مُتميّزاً عن الأُسلوب المعروف للقِصّة في التراث الأدبي والإنساني؛ حيث يكتفي القرآن الكريم بذِكر الأحداث بشكل مُقتطفات وبصورة إجماليّة أحياناً تاركاً التفاصيل، وأحياناً بشكل مُتقطّع غير موصول، واضعاً يده على نِقاط هي بيت القصيد مِن القصّة، وفي الأغلب بشكل الاستطراد في التعرّض لمفاهيم وحقائق وموضوعات عقائديّة أو أخلاقيّة أو كونيّة (سُنَن الطبيعة) أو شرعيّة، وغير ذلك من الخصوصيّات التي قد تُثير مُلاحظة كبيرة حول أُسلوب القصّة في القرآن الكريم، وبذلك تَخرج عن كونها عملاً فنيّاً مُستقلاً له مميّزاته الخاصّة.

وهذا يعود إلى أنّ القرآن كتاب هداية، وإنّما استَخدمَ الفنّ لغايته في أمر الهداية؛ ومِن ثَمّ فإنّه يقتصر على موضع الحاجة منه في سبيل تحقيق هدفه الخاصّ، ولا يُعيره اهتماماً فيما لا يعود إلى هذا الجانب بالذات.

وشيء آخر، كان أُسلوب القرآن أُسلوب خِطاب لا أُسلوب كتاب - كما نبّهنا - (٢) فلا مُلزِم له بسرد القضايا بانتظام وانسجام والإتيان بالتفاصيل والجُزئيّات، كما هو شأن الكِتاب، فلا يُراعي فيما يقصّ مِن قِصَص ترتيبَها الزمني ولا التواصل في ذِكر حادثة، بل

____________________

(١) عن التفسير الكبير، ج١٧، ص١٣٥، عند تفسير الآية ٧١ من سورة يونس، فيما قصّ اللّه من حديث نوح (عليه السلام) نقلاً بتصرّف.

(٢) في الجزء الأَوّل من التمهيد.

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578