شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم6%

شبهات وردود حول القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 578

شبهات وردود حول القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 578 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 297537 / تحميل: 13676
الحجم الحجم الحجم
شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

ينتقل من حَدث إلى آخر، ثُمّ يأخذ بالتَجوال حسب اقتضاء الكلام.

ومِن ثَمّ فالقرآن يَجري في ذِكر الحادثة على أُسلوبه الخاصّ في ذِكر سائر المواضيع من المـَزج والالتقاط وضمّ بعض الموضوعات والمفاهيم إلى بعض؛ لمناسبة يراها مُقتضية، وبذلك يخرج عن أساليب الكُتب المدوّنة، لا لشيء إلاّ؛ لأنّه كلام صِيغَ على أُسلوب الخطاب، وفي فُسحة عمّا يتقيّد به أُسلوب الكِتاب.

فهو يَمزج الحقائق الكونيّة بالمعارف العقائديّة، وبالأحكام الشرعيّة، وبالمـُوعظة والإرشاد والتبشير والتحذير، والعواطف والمشاعر والأحاسيس بالعقل والإدراك.

كما أنّه قد يُكرِّر المـُوضوعات والمفاهيم بصِيغٍ متنوّعة وفي سياقات مُختلفة، كلاًّ حسبما يقتضيه المـَقام وناسب اتجاه الهدف من ذِكر القصّة، وفي كلِّ مرّة قد يزيد أو يُنقِص، وقد يُوجز أو يُطنب حسب المـُناسبة؛ ومِن ثَمّ فله أُسلوبه الخاص خارجاً عن أساليب القصّة في الأدب الرائج.

مِيزات القصّة في القرآن

تَمتاز القصّة في القرآن في نقطتين أساسيّتين: الأُولى تَحرّي جانب الصدق والواقعيّة، وليس مجرّد تخييل، الثانية جانب الهدف والغرض الذي جاء من أجله القَصَص في القرآن، فالقرآن لم يتناول القِصّة باعتبار أنّها عمل فنّي، ولم يأتِ بها من أجل الحديث عن الماضينَ، أو للتسلية أو المـُتعة كما يفعل المؤرِّخون والقصّاصونَ؛ وإنّما كان الغرض من القصّة في القرآن هو: المـُساهمة مع جُملة الأساليب العديدة الأُخرى التي استخدمها القرآن، لتحقيق أهدافه وأغراضه الدينيّة والتربويّة، وكانت القصّة القرآنيّة مِن أهمّ هذه الأساليب!

وانطلاقاً مع هذه الفِكرة وعلى هذا الأساس، يُمكن أنْ نُحدّد الفَرق بين القَصَص القرآني وغيره من القَصَص ببعض النِقاط التي تُشكّل المِيزات والخصائص والصِّفات الرئيسيّة للقَصَص القرآني، ويُمكن أنْ نجد هذه الخصائص قد أُشير إليها في القرآن الكريم

٤٢١

في قوله تعالى: ( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) (١) .

حيث يُمكن أنْ نفهم من هذه الآية اتّصاف القَصَص القرآني بالواقعيّة والصدق والحِكمة والتربية الناجحة:

أَوّلاً - الواقعيّة: بمعنى ذِكر الأحداث والقضايا والصور التي لها علاقة بواقع الحياة الإنسانيّة ومتطلّباتها المـُعاشة في مسيرة التأريخ الإنساني، مقابل أنْ تكون القصّة في القرآن إثارةً وتعبيراً عن الصور، أو الخيالات، أو الأماني، أو الرَغبات التي يَطمح إليها الإنسان، أو يَتمّناها في حياته.

ذلك لأنّ القرآن الكريم يُريد مِن ذِكر القصّة وأحداثها، إعادة النظر في التأريخ الإنساني والقضايا الواقعيّة التي جرّبتها البشريّة في حياتها، والتي عاشتها الأُمَم والرسالات الإلهيّة السالفة، والتي تبيَّنت محاسنها عن مساوئها، وليُؤخذ منها الاعتبار في الحاضر المـُعاش، فلا يُجرَّب ما جرّبته الآباء وحلّت بهم الندامة من قبل.

أمّا إذا انفصلت القصّة عن هذا الواقع، وكانت مجرّد تسلية وسرد أحداث التأريخ الماضي ومِن غير نظرِ الاعتبار بها، فهذا أشبه بكُتب الأساطير منها بكُتب التربية والأخلاق.

والإنسان في مسيرته التكامليّة، بحاجة إلى أنْ يَنطلق مع الواقع نحو الطُموحات والكمالات، وبدون ذلك (بِلا دَرس واقعِهِ في الماضي والحال) سوف ينفصل هذا الإنسان عن واقعه الراهن، فيضيع في مَتاهات الآمال والتَمنّيات، وقد عَبَّر القرآن الكريم عن هذه الحالة في الإنسان عندما تحدّث عن اليهود: ( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنُّونَ ) (٢) .

وعندئذ (عندما خاضَ الإنسانُ في أَمانيه من غير مُلاحظة واقعِهِ) لا يصل الإنسان إلى أهدافه وآمالِهِ العُليا؛ لأنّ مَن لا ينطلق في اتجاه المسير من البداية فلا يبلغ النهاية.

____________________

(١) يوسف ١٢: ١١١.

(٢) البقرة ٢: ٧٨.

٤٢٢

ومِن هنا نجد القرآن الكريم يُحاول أنْ يُعالج من خلال القصّة، الواقع الّذي كان يَعيشه المسلمون في زمن النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) فيَذكر ما يتطابق من الأحداث مع هذا الواقع من ناحيةٍ، كما يُعالج الواقع الذي سوف تعيشه الأجيال والعُصور الإنسانيّة المستقبليّة من ناحيةٍ أُخرى.

وهذا هو الذي يُفسّر لنا ما وَرد عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) من قولهم: (إنّ القرآن يجري كما تجري الشمسُ والقمرُ، كلّما جاءَ منه شيءٌ وقع) (١) ، وأنّ القرآن حيّ مع الأبد، لا يَموت مع مَن نَزَل في شأنهم بالذات (٢) ، فإنّ انطباق هذا الكلام على القَصَص والأحداث ذات العلاقة بالأنبياء وأقوالهم أو بالتأريخ الماضي، إنّما هو بلِحاظ هذا البُعد والصفة في القصّة القرآنيّة.

ولعلّ في الآية السالفة ( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ ) (٣) إشارةً إلى هذه الصفة في القَصَص القرآني بوجه عام.

ثانياً - تَحرّي الصدق في ذِكر الأحداث والوقائع التأريخيّة التي تَعرَّض لها الأنبياء وأقوامهم في حياتهم ، وذلك في مُقابل الأكاذيب والانحرافات في الفَهم والسلوك أو الخُرافات التي اقترنت بقَصَص الأنبياء والأُمَم السالفة حسبما سُجّلت (مُشوَّهةً ومُحرَّفةً) في كُتب العهدَين بالذات؛ على أَثر ضَياع وتحريف للحقائق عن قصدٍ أو بدون قصدٍ أو اشتباهٍ أو جهلٍ.

فما وَرَد في القرآن من أخبار وحوادث هي أُمور وحقائق ثابتة ليس فيها كَذِب أو خطأ أو اشتباه، كما حَصَل في الكُتب السالفة؛ ذلك لأنّ القرآن وحي إلهيّ، واللّه لا يَعزب عن عِلمِه ذرّة في السماء والأرض، ويعلم خائنةَ الأَعيُن وما تُخفي الصُدور، والحاضر والماضي والمـُستقبل لديه سواء، ويؤكِّد على هذه الحقيقة قوله تعالى: ( مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى ) !

____________________

(١) تفسير العيّاشي، ج١، ص١١، رقم ٥.

(٢) المصدر: ص١٠، رقم ٧.

(٣) يوسف ١٢: ١١١.

٤٢٣

وشيء آخر لعلّه أهم، وهو: أنّ الأَخذ بعِبَر التأريخ إنّما يصحّ إذا كان إخباراً عن صدق؛ ذلك لأنّه أَخْذٌ بتجارب مرّت على حياة الإنسان، إنْ حسنةً أو سيّئةً، ولا تجربة إلاّ إذا كانت واقِعَةً، لا مجرّد فرض وتخييل!

والقرآن، حتّى في ضرب الأمثال، إنّما يَضع يده على حقائق مرّت على حياة الإنسان؛ لغرض العِبرة (كي لا تتكرّر إذا كانت مريرةً، ولتتداوم إذا كانت جميلةً) ولا عِبرة بمجرّد خيال لا واقع له.

ثالثاً - التربية على الأخلاق الإنسانيّة العالية ، في مُقابل التركيز على الأحاسيس والانفعالات في شخصيّة الإنسان، والتربية على الاهتمام بالغرائز، وإنّما اتّصفت في القرآن بالأخلاقيّة؛ لأنّ المسيرة والحركة التكامليّة للإنسان - سواء على مستوى الفرد أو الجماعة - إنّما تَقوم على أساس الأخلاق بعد العقيدة باللّه تعالى والرسالات واليوم الآخر، بل إنّ الاتّصاف بالأخلاق العالية هو الذي يُمثّل عُنصر التكامل الحقيقي في حركة الإنسان الفرديّة والجماعيّة؛ ولذا كانت قاعدة المـُجتمع الإنساني في نظر الإسلام قاعدة أخلاقيّة، والسلوك الرّاقي للإنسان هو السلوك الأخلاقي، وقد وَرَد عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) قوله: (بُعثتُ بمكارم الأخلاقِ ومحاسنِها) (١) .

لذا جاءت القصّة في القرآن الكريم ذات طابع أخلاقي وللتربية على الإيمان باللّه والعمل الصالح، والسلوك الأفضل في الحياة الفرديّة والاجتماعيّة؛ ولعلّ هذا هو معنى الهُدى والرحمة في الآية السالفة، ولذلك وَرَد قوله (صلّى اللّه عليه وآله) أيضاً: (إنّما بُعثتُ رحمةً للعالمينَ) (٢) .

رابعاً - الحِكمة وكَشف الحقائق الكونيّة وسُنَن التأريخ والقوانين والأسباب التي تَتَحكّم أو تؤثِّر في مسيرة الإنسان، وعلاقاته الاجتماعيّة، والحياة الكونيّة المحيطة به؛ لأنّ هذه الحقائق الكونيّة لها علاقة بمسيرة الإنسان التكامليّة، مادام أَراد اللّه تعالى لهذا

____________________

(١) بحار الأنوار، ج١٦، ص٢٨٧، عن أمالي الشيخ، ص٢٧، رَواه بإسناده إلى عليّ (عليه السلام) عنه (صلّى اللّه عليه وآله) قال: سمعته يقول...، وكنز العمال للمتّقي الهندي، ج٣، ص١٦، رقم ٥٢١٧، واللفظ فيه: (إنّما بُعثتُ لأُتَمّمَ مكارمَ الأخلاقِ)، ورواه البخاري في الأدب المفرد برقم ٢٧٣.

(٢) بحار الأنوار، ج١٨، ص٢٤٣.

٤٢٤

الإنسان أنْ يكون مُختاراً في حياته ومُستعبِداً للعِلم والحِكمة في تنظيم مسيرته؛ ولذا كان من أهداف الرسالة: تعليم الكتاب والحِكمة، حتّى ينتفع بها الإنسان في تقييم حياته وتنظيم مسيرته، ولعلّه لهذه الصفة يقتصر القرآن الكريم في ذِكر القَصَص والأحداث التأريخيّة على ما يكون له علاقة بهذه الجِهة وفي اتّجاه هذا الهدف بالذات، وإلى ذلك أشارت الآية: ( وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ ) ، حيث ينفتح من كلّ باب منه ألف باب، وعلى وِزَان قوله تعالى: ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ) (١) ، وهذا بخلاف ما لو كانت القصّة لمجرّد التسلية أو لتدوين الحوادث والوقائع التأريخيّة، كما هو شأن كُتب التواريخ.

تلك مِيزة القصّة القرآنيّة، تعبيراً عن واقع الحياة، لغرض التربية والعِبرة بتجارب التأريخ، ولكشف الحقائق الراهنة المؤثِّرة في مسيرة الإنسان نحو الكمال، وليس عبثاً ولا مجرد تسلية أو تخييل، وهكذا افترقت القصّة القرآنيّة عن غيرها بأنّها قصّة الأحياء، قياساً للباقين على الماضينَ، وليس سرد حكاية الأموات أو نَقل آثارهم فيما تمتّعوا بالحياة، وأَكثره عبثٌ لا خير فيه (٢) ؛ ولذلك كان القرآن المـُنزَّل أحسن الحديث (٣) .

أغراض القصّة في القرآن

نجد القصّة القرآنيّة تستوعب في مضمونها وهدفها كلّ الأغراض الرئيسيّة التي جاء من أجلها القرآن الكريم، بعد أنْ كانت القصّة هي الأداة المـُفضَّلة التي استخدمها القرآن في سبيل تحقيق أهدافه وأغراضه جُمَع.

ومِن ثَمَّ نرى القرآن قد استخدم القصّة لإثبات الوحي والرسالة، وإثبات وحدانيّة اللّه، وتَوحّد الأديان في أساسها، والإنذار والتبشير، ومظاهر القُدرة الإلهيّة، وعاقبة الخير والشرّ والصبر والجزع والشكر والبَطَر وما إلى ذلك من أهداف رساليّة وعقائديّة، تربويّة واجتماعيّة وسُنَن التأريخ وما شابه، وإليك

____________________

(١) النحل ١٦: ٨٩.

(٢) راجع: الميزان في تفسير القرآن، ج٧، ص١٧٢، والقَصَص القرآني للسيد الحكيم، ص٢١ - ٣٠.

(٣) الزمر ٣٩: ٢٣.

٤٢٥

الأهمّ من هذه الأغراض: (١)

١ - كان من أغراض القصّة إثبات الوحي والرسالة، وأنّ ما يَنزِل على مُحمّد (صلّى اللّه عليه وآله) هو وحي من عند اللّه، لا شيء سِواه، فمُحمّد (صلّى اللّه عليه وآله) لم يكن يَكتب ولا يقرأ الكُتب، ولا عُرف عنه أنّه جَالسَ أحبار اليهود والنصارى، ثمّ جاءت هذه القَصَص في القرآن على أدقّ وصف وأحسن بيان لا تحريف فيها ولا تشويه، فكان أدلّ على أنّه وحي يُوحى وليس نقلاً عن كُتب محرّفةّ أو أَقاصيص مشوّهة، والقرآن يَنصّ على هذا الغرض نصّاً في مقدّمة بعض القَصَص أو في أعقابها.

جاء في أَوّل سورة يوسف: ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ) .

وفي نهاية السورة: ( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) .

وجاء في سورة القَصَص قبل عرض قصّة موسى: ( نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) (٢) ، وبعد انتهائها: ( وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) (٣) .

وجاء في سورة آل عمران في مبدأ عَرضه لقصّة مريم: ( ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ) (٤) .

وفي سورة (ص) قبل عرض قصّة آدم: ( قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ * مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإِ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلاّ أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ ) (٥) .

____________________

(١) راجع ما كَتَبه سيد قطب بهذا الصدد في كتابه: التصوير الفنّي في القرآن، ص١١٢ فما بعد.

(٢) القصص ٢٨: ٣.

(٣) القصص ٢٨: ٤٤ - ٤٦.

(٤) آل عمران ٣: ٤٤.

(٥) ص ٣٨: ٦٧ - ٧١.

٤٢٦

وفي سورة هود بعد قصّة نوح: ( تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا ) (١) .

فكلّ هذه الآيات وأمثالها إنّما جاءت لتؤكِّد فكرة الوحي الّتي هي الفكرة الأساسيّة في الشريعة الإسلاميّة.

٢ - وكان من أغراض القصّة: بيان وحدة الدين والعقيدة لجميع الأنبياء، وأنّ الدين كلّه من اللّه سبحانه، وأنّ الأساس في الجميع واحد، لا نُفرِّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون، ولمـّا كان هذا غَرضاً أساسيّاً في الدعوة وفي بِناء التصوّر الإسلامي فقد تكرّر مجيء هذه القَصَص على هذا النمط، مع اختلاف في التعبير، لتثبيت هذه الحقيقة وتوكيدها في النُفُوس، وربّما وردت قَصَص عِدّة من الأنبياء مُجتمِعَةً في سورة واحدة، مَعروضةً بطريقة بديعة لتؤيِّد هذه الحقيقة.

خُذْ مَثَلاً سورة الأنبياء، يتابع قَصَص موسى وهارون وإبراهيم ولوط ونوح وداود وسليمان وأيّوب وإسماعيل وإدريس وذي الكفل وذي النون ومريم، ويُعقّب كلاًّ بذِكرٍ جميلٍ، وفي النهاية يقول: ( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) (٢) ... وهذا هو الغرض الأصيل من هذا الاستعراض الطويل، وغيره من الأغراض الأُخرى يأتي عَرَضاً وفي ثناياه!

وجاء في سورة النحل: ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) (٣) .

وفي سورة المائدة: ( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ ) (٤) .

وفي سورة البيّنة: ( وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ) (٥) .

____________________

(١) هود ١١: ٤٩.

(٢) الأنبياء ٢١: ٤٨ - ٩٤.

(٣) النحل ١٦: ٣٦.

(٤) المائدة ٥: ٤٤.

(٥) البيّنة ٩٨: ٥.

٤٢٧

وهذا الغرض يهدف في حقيقته إلى بيان إبراز الصلة الوثيقة بين الشريعة الإسلاميّة وسائر الشرائع الإلهيّة التي دعا إليها الرُسُل والأنبياء جميعاً، وإنّ الإسلام يُمثِّل امتداداً لها، ولكنّها يَحتلّ منها مركزَ الخاتِمَة التي يجب على البشريّة جَمعاء الرُضوخ إليها: ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ) (١) ، وبذلك يَسدّ الطريق على أهل الزيغ الذين يلهجون بمُساقاة الأديان الغابِرة والحاضرة وأنّ اتِّباع أحدها يكفى للرُشد واحتضان معالم الهداية والنجاة في الآخرة، على أساس أنّها حقيقة واحدة مُوحاة مِن قِبَل اللّه تعالى وأنّ الإسلام يُصدّقها كذلك!

والقرآن يرفض هذه الفكرة المـُفرِّقة رفضاً ويؤكّد على أنّ الحقيقة تركّزت في طريق تكاملها في شريعة الإسلام، وقد صرّح القرآن بذلك في قوله تعالى: ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي ) (٢) ، أي لا محيد - في بُلوغ سعادة الحياة - عن مُتابعة شريعة الإسلام بالذات!

٣ - وأيضاً من تمام هذا الغرض بيان أنّ الدعوة الرساليّة في الإسلام ليست بِدعاً في تأريخ الرسالات، وإنّما هي وطيدة الصلة بها في الأهداف والتصورّات والمفاهيم: ( قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ... ) (٣) ، بل إنّها تُمثّل امتداداً لهذه الرسالات، وتلك الرسالات تُمثّل الجذر التأريخي للرسالة الإسلاميّة، فهي رسالة إلهيّة لها هذا الامتداد في التأريخ الإنساني، ولها هذا القَدر من الأنصار والمضحّين والمؤمنين.

٤ - وهكذا يؤكِّد على أنّ وسائل الأنبياء وأساليبهم في الدعوة واحدة، وطريقة مجابهة قومهم لهم واستقبالهم متشابهة، وأنّ العوامل والأسباب والظواهر التي تواجهها الدعوة واحدة، وقد أَكّد القرآن في عِدّة مواضع على هذه الحقيقة، وأشار إلى اشتراك الأنبياء في قضايا كثيرة، من ذلك قوله تعالى: ( وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) (٤) .

____________________

(١) المائدة ٥: ٤٨.

(٢) آل عمران ٣: ٣١.

(٣) الأحقاف ٤٦: ٩.

(٤) آل عمران ٣: ١٤٦.

٤٢٨

وقوله تعالى: ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ) (١) .

وكذلك قوله: ( وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) (٢) .

ويتحدّث القرآن أَحياناً عن الرُسُل حديثاً عامّاً، ليؤكِّد هذه الوحدة بينهم في الوسائل والأساليب، كما جاء في سورة إبراهيم: ( جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ ) (٣) .

والسبب وراء تأكيد القرآن لهذه الحقيقة هو: بَيان صلابة تلك المواقف وأنّها جميعاً حقّ غالِب في نهاية المـَطاف: ( كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ) (٤) ، ( وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ) (٥) .

٥ - ومِن ثَمّ كان من أغراض القصة في القرآن الرئيسيّة هو بيان أنّ الله يَنصر أنبياءه في النهاية ويُهلك المـُكذِّبين وذلك؛ تثبيتاً لموقف مُحمّد (صلّى اللّه عليه وآله) وتأثيراً في نُفُوس المؤمنين: ( وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ) (٦) .

وتَبَعاً لهذا الغرض كانت تَرِد قَصَص الأنبياء مُجتَمِعَةً مختومةً بمَصارع مَن كذَّبوهم، ويتكرّر بهذا عرض القَصَص كما جاء في سورة (العنكبوت).

( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاّ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ * فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ) .

( وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) إلى أنْ يقول: ( فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاّ أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) .

( وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ) إلى أنْ

____________________

(١) الأنعام ٦: ١١٢.

(٢) الزخرف ٤٣: ٦ - ٧.

(٣) إبراهيم ١٤: ٩.

(٤) المجادلة ٥٨: ٢١.

(٥) الصافات ٣٧: ١٧٣.

(٦) هود ١١: ١٢٠.

٤٢٩

يقول: ( إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) .

( وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ) .

( وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمَ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ) .

( وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ ) .

( فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) (١) .

وتلك هي النهاية الواحدة للمـُكذِّبينَ!

٦ - وكان مِن أغراض القصّة بيان نِعَمِ اللّه على أصفيائه وخالصي عباده، كقَصَص سُليمان وداود وأيّوب وإبراهيم ومريم وعيسى وزكريّا ويونس وموسى، فكانت تَرِد حلقات من قَصَص هؤلاء الأنبياء تَبرُز فيها النعمة في مواقف شتّى، ويكون إبرازها هو الغرض الأَوّل، وما سواه يأتي عَرَضاً.

( أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً ) (٢) .

٧ - وأيضاً بيان غَوايَة الشيطان لهذا الإنسان ومَبلغ عدائه له، وتربّصه به الدوائر والفرص، فليَحذر بنو آدم من هذا العدّو الذي أغوى أَباهم مِن قبلُ، ولا شكّ إنّ إبراز هذه المعاني والعلاقات بواسطة القصّة يكون أوضح وأَدعى للحَذر والالتفات؛ لذا نجد قصّة آدم تتكرّر بأساليب مُختلفة تأكيداً لهذا الغرض، بل يكاد يكون هذا الغرض هو الهدف الرئيسي لقصّة آدم كلّها.

____________________

(١) العنكبوت ٢٩: ١٤ - ٤٠.

(٢) مريم ١٩: ٥٨.

٤٣٠

وأغراض أخرى كثيرة تَلتقي مع أغراض الرسالة في عدد وفير ومستوى رفيع (١) .

أسرار التَّكرار في القَصَص القرآني

وهذا يعود إلى تعدّد الأغراض التي تَهدِفُها القصّة في مجال التربية، وليست القصّة إذا ذُكرت مرّةً استَنفَدَت أغراضَها الدينيّة والتربويّة، ليكون التحدّث عنها مرّةً أُخرى عبثاً وتَكراراً للمـُكرَّر!

القصّة إذا كانت ذات جوانب عديدة فإنّها إنّما تُذكر كلّ مرّة بلحاظ جانبٍ منها مُناسب للحال والمقام، وقد يُعفى هذا الجانب ويُلحظ جانب آخر في مناسبة أُخرى وهكذا لعدّة مرّات.

وأكثر القَصَص تَكراراً في القرآن حديث موسى و فرعون وتأريخ حياة بني إسرائيل؛ ذلك أنّ اليهود كانت جاورَت العرب مُنذ حين، وكانت العرب تعرف مِن شأنهم وتُعظِّم مِن قَدْرِهم ما لا تكاد تعرفه أو تُقدِّره من سائر الأُمَم، وكانت الأدوار التي مرّت على حياة بني إسرائيل ومواقفهم مع الأنبياء أشبه بحالات كانت تَعتَور العرب حين ظهر الإسلام، فكانت العلاقة وثيقة بين الحياتَينِ، تلك في غابرها الماضي وهذه في حاضرها الراهن.

والمـُلاحَظ في تَكرار قصّة نبيّ اللّه موسى (عليه السلام) الفَرق بين رُوحها العامّة عندما تُذكر في السور المكّيّة، ورُوحها في السور المدنيّة، فإنّما تؤكِّد في القَصَص المكّي منها على العلاقة العامّة بين موسى من جانبٍ وفرعون وملأه مِن جانبٍ آخر، دون أنْ تَذكر أوضاع بني إسرائيل تجاه موسى نفسه، إلاّ في موردَينِ يُذكر فيهما انحراف بني إسرائيل عن العقيدة الإلهيّة بشكلٍ عام، وهذا بخلاف الروح العامّة لقصّة موسى في السور المدنيّة، فإنّها تتحدّث عن علاقة موسى مع بني إسرائيل، وتتحدّث عن هذه العلاقة وارتباطها بالمشاكل الاجتماعيّة والسياسيّة.

____________________

(١) راجع ما كَتَبه الأُستاذ سيد قطب كتابه: التصوير الفنّي في القرآن، ص١١٢ - ١٢٠، وعلى أثره العلامة السيد مُحمّد باقر الحكيم في كتابه: القَصَص القرآني، ص٣٣ - ٥٦.

٤٣١

وهذا قد يدلّنا على أنّ هذا التَّكرار للقصّة في السور المكّيّة إنّما كان؛ لمعالجةٍ روحيّةٍ تتعلّق بحوادث مُختلفة واجهَتْ النبيّ والمسلمين ومشاكلهم مع المشركينَ، ومِن أهداف هذه المـُعالجة تَوسِعَة نِطاق المـَفهوم العامّ الذي تُعطيه القصّة في العلاقة بين النبيّ والجبّارين مِن قومه، وأنّ هذه العلاقة لا تختلف فيها حادثة عن حادثة أو موقف عن موقف، والتأريخ يُكرِّر نفسه.

وهكذا يختلف سرد قَصَص نوح وإبراهيم وسائر الأنبياء، باختلاف الأحوال التي كان يُعالجها المسلمون في طُول الدعوة، فأطواراً بمكّة وأطواراً بالمدينة حسب تغيّر الأوضاع.

ومن الناحية الأدبيّة أيضاً نرى القرآن عند ما يُكرِّر الحديث عن حادث أو عن ظاهرة طبيعيّة، فإنّه لا يُكرِّرها إلاّ وفي هذا التَّكرار نُكتة وظرافة لاحَظَها حَسَب المـُناسبة، الأمر الذي يزيد في بلاغة البيان القرآني وربّما إلى حدّ الإعجاز، إذ يعني ذلك: أنّ بإمكانه سرد قصّة واحدة بأنحاء وأشكال، كلّ مرّة يأتي بالعجيب من الكلام، بحيث لا يَملّ السامعُ من الإصغاء، حتّى ولو سَمِعها في عدّة مواطن، فإنّه لا يَمجّها لمرّة أُخرى وأُخرى؛ لِما في كلّ مرّة من طَراوةٍ وإبداءِ شيء جديد، وفي كلّ جديد لذّة! وقد عُدّ ذلك وجهاً من وجوه إعجاز القرآن في بديع بيانه.

ولتاج القُرّاء أبي القاسم محمود بن حمزة الكرماني تَصنيف لطيف بهذا الشأن، ذَكَر فيه الفوارق البديعيّة في مُكرَّرات الآيات، وأبدع في ذلك، اقتطفنا منه قَبَسات عند الكلام عن الإعجاز البياني للقرآن (١) .

الحرّية الفنّية في قَصَص القرآن

هناك ظواهر كثيرة من ظاهرات الحرّية الفنيّة (الأدبيّة) تُوجد في القرآن عند سرد أحداث التأريخ ممّا جَعلته مُمتازاً عن مِثل التوراة التي هي أشبه بكتاب تأريخ منه بكتاب

____________________

(١) نُكَت وظُرف فيما تكرّر من الآيات، التمهيد، ج٥.

٤٣٢

هداية، ونستطيع أنْ نعرض عليك منها الظواهر التالية: (١)

١ - إهمال القرآن - حينما يقصّ - كثيراً من مقوّمات التأريخ من زمانٍ ومكانٍ، وأحياناً أبطال المعركة، فليس في القرآن قصّة واحدة عنى فيها الزمان، أمّا المكان إهمالاً يكاد يكون تامّاً لولا تلك الأمكنة القليلة المـُبعثرة هنا وهناك والتي لم يُلفِت القرآن الذهن إليها، كما عَمَد إلى إهمال الأشخاص في بعض أقاصيصه إهمالاً تامّاً، اللهمّ إلاّ إذا كان لمعرفة الأشخاص دَخلاً في العِبرة بها.

وهذا مِن أُصول البلاغة في الكلام، أنْ لا يَذكر من الحادث إلاّ ما كانت له صِلة بغرض الكلام.

٢ - اختياره لبعض الأحداث دون بعض، فلم يَعنِ القرآن بتصوير الأحداث الدائرة حول شخص أو الحاصلة في أُمّة تصويراً تامّاً كاملاً، وإنّما يَكتفي باختيار ما يُساعده على الوصول إلى أغراضه، أي ما يُلفِت الذهن إلى مكان العِظة وموطن الهداية؛ ولعلّه من أجل ذلك كان القرآن يجمع في المـُوطن الواحد كثيراً من الأَقاصيص التي تنتهي بالقارئ إلى غاية واحدة.

٣ - كان لا يَهتمّ بالترتيب الزمني أو الطبيعي في إيراد الأحداث وتصويرها، وإنّما يُخالف في هذا الترتيب ويَتجاوزه، الأمر الذي أكثر من الإشارة إليه الأُستاذ الشيخ مُحمّد عَبده، قال - بعد سردِ قَصَصٍ بني إسرائيل ذواتِ عِبَرٍ من سورة البقرة -: جاءت هذه الآيات على أُسلوب القرآن الخاصّ الذي لم يُسبَق إليه ولم يُلحَق فيه، فهو في هذه القَصَص لم يلتزم ترتيب المؤرِّخين ولا طريقة الكُتّاب في تنسيق الكلام وترتيبه على حسب الوقائع، حتّى في القصّة الواحدة، وإنّما يُنسِّق الكلام فيه بأُسلوب يأخذ بمجامع القلوب، ويُحرِّك الفكر إلى النظر تحريكاً، ويَهز النفس للاعتبار هزّاً.

وقد راعى في قَصَص بني إسرائيل أنواع المِنَن التي منحهم اللّه تعالى إيّاها، وضروب الكُفران والفُسوق التي قابلوها بها، وما كان في أثر كلّ ذلك من تأديبهم بالعقوبات، وابتلائهم بالحسنات

____________________

(١) وللأُستاذ مُحمّد أَحمد خلف اللّه هنا تحقيق لطيف، راجع: الفنّ القَصَصي في القرآن الكريم، ص٨٠.

٤٣٣

والسيّئات، وكيف كانوا يُحدِثون في أثر كلّ عقوبة توبةً، ويُحدِث لهم في أثر كلّ نوبة نعمةً، ثُمّ يعودون إلى بَطَرهم، وينقلبون إلى كفرهم! (١)

وهكذا قصّة لوط جاءت في سورة الحجر: ( فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ * قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ * وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ * وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ * وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ * قَالَ إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ * وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ * قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ * قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ ) (٢) .

لكنّها لو لُوحظت مع إحدى قَصَص لوط في القرآن كقصّته في سورة هود (الآيات: ٧٨ - ٨٣) تختلف عنها في ترتيب سرد أحداثها، فتبتدئ بمجيء الملائكة، ثُمّ حاله واضطرابه النفسي، ثُمّ مجيء القوم ثُمّ موقفه وعرض بناته حتّى لا يَخزى، ثُمّ ردُّهم عليه وعزمُهم على إتمام عزمهم، ثُمّ موقف الملائكة وإخبارهم إيّاه بأنّهم رُسُل ربّه، وإخبارهم بمجيء العذاب وموعده، ثُمّ نوع العذاب.

فهنا نَلحظ أنّ المحاورة بينه وبين قومه تتمّ قبل أنْ تُخبِرُه الملائكة بأنّهم رُسُل ربّه، والقصّة تجري بعد ذلك وقد رُتّبت وَقائِعُها الترتيب الذي يُشعر بأنّ الزمن هو المحور الذي يربط هذه الوقائع المختارة أو هذه الأحداث المصوّرة.

أمّا في سورة الحِجر فالملائكة تُعْلِمه كلّ شيء قبل مجيء قومه، ومع ذلك تمضي المحاورة مع قومه وكأنّه لم يَعلم بأنّ أضيافه من الملائكة.

وليس يَخفى أنّ هذا بعيد عن الوقائع، ومشاكلته قريب من القَصَص وما فيه مِن حرّيّة تُؤذن للقاصّ بأنْ يُرتِّب أَحداثه الترتيب الذي يصل إلى الغرض ويؤدّي إلى الأهداف.

ولعلّ السبب في هذا الاختلاف: القصد من قصّة لوط في سورة هود هو تثبيت قلب

____________________

(١) تفسير المنار، ج١، ص٣٤٦.

(٢) الحجر ١٥: ٦١ - ٧٣.

٤٣٤

النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) ومِن أجل ذلك عنى القرآن أَوّلاً بما ينال لوطاً مِن أذىً وقلقٍ نفسي، كما نال مُحمّداً (صلّى اللّه عليه وآله) وهو باخعٌ نفسَه على أنْ لا يكونوا مؤمنينَ وضائِق به صدره الكريم، أمّا القصد من القصّة في سورة الحِجر فقد كان بيان ما يَنزل بالمـَكذِّبينَ مِن عذاب؛ ومِن ثَمّ بدأ به قبل كلّ شيء.

٤ - إسناده بعض الأحداث لأُناس بأعيانهم في موطن، ثُمّ إسناده الأحداث نفسها لغير الأشخاص في موطنٍ آخر، ومِن ذلك قوله تعالى في سورة الأعراف: ( قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ) (١) إذ نَراه في سورة الشعراء مَقولاً على لسان فرعون نفسه: ( قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ) (٢) .

ويبدو أنّ هذا كلام تَذاكَرَه فرعون مع بِطانته من رجال الدولة، فصحّ إسناده إليه تارة وإلى الملأ من قومه تارة أخرى، ولذلك نجد تعقيب الآية الأُولى بقوله: ( يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ * قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ) ، نفس التعقيب الذي جاء للآية الثانية، سِوى تبديل (أرسل) بقوله (وابعث)، وتبديل (ساحر) بقوله (سحّار)، والسحّار (مِن أَبينة الحِرَف) هو صاحب السِحر، ويتّحد مع الساحر في المفهوم.

وهكذا تجد في قصّة إبراهيم من سورة هود (٣) أنّ البُشرى بالغُلام كانت لامرأته، بينما نجد البُشرى لإبراهيم نفسه في سورة الحِجر (٤) وفي سورة الذاريات (٥) ، ذلك؛ لأنّ البُشرى بالذرّية لإبراهيم بُشرى لامرأته العجوز، كما يَبدو ذلك من سرد القصّة في سورة الذاريات.

٥ - إنطاقه الشخص الواحد في الموقف الواحد بعبارات مُختلفة حين يُكرِّر القصّة ، ومِن ذلك تصويره لموقف الإله مِن موسى حينَ رؤيته النار، فقد نُودي في سورة النمل بقوله: ( فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا ) (٦) وفي سورة القَصَص: ( فَلَمَّا أَتَاهَا

____________________

(١) الأعراف ٧: ١٠٩.

(٢) الشعراء ٢٦: ٣٤.

(٣) هود ١١: ٧١.

(٤) الحجر ١٥: ٥٣.

(٥) الذاريات ٥١: ٢٨.

(٦) النمل ٢٧: ٨.

٤٣٥

نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) (١) وفي سورة طه: ( فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً ) (٢) .

وذلك يَشبه تصويره للمـُوقف الواحد بعبارات مُختلفة حين صوَّر خوف موسى، فمرّةً اكتفى بقوله: ( خُذْهَا وَلا تَخَفْ ) (٣) ، ومرّةً أُخرى قال: ( فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ) (٤) ، وهكذا في غيرهما من المواقف، كتعبيره بالرَجفة مرّة وبالصيحة أُخرى والطاغية في غيرهما، وكتعبيره في انشقاق الحَجَر عن الماء في قصّة موسى، فانفجرت مرّة وانبجست أُخرى.

وهكذا مِن المسائل التي جَعلتهم يعدّون القَصَص القرآني من المـُتشابِه، ولكن ليس مِن شكّ في أنّ الاختلاف كانت نتيجة تغيُّرٍ في القصد أو الموقف، وأنّ هذا التغيّر جَعل هذه قصّة وتلك قصّة، وما لا نَرى من اختلافٍ ليس إلاّ الصور الأدبيّة التي تُلائم المقاصد والأغراض.

خُذْ لذلك مَثلاً قصّة موسى وصاحبه وفَعْله العجائب، فتارة يقول له موسى: ( لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً ) (٥) وأُخرى: ( لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً ) (٦) ؛ لأنّ الإمْر - بكسر الهمز -: هو الأمر العَجَب، وكلّ أَمر خالف المألوف فهو يُثير العَجَب، سواء أكان خيراً أم شرّاً.

وهذه العبارة جاءت بشأن خَرْق السفينة بما لا يستلزم غَرَق أهلها، فقد أثار عجب موسى؛ حيث لم تَعد فيه فائدة ولا حِكمة ظاهرة، ولعلّ فيه حِكمة خفيّة!

أمّا النُكْر: فهو الأمر المـُنكر البادي قبحُه بوضوح، وهو يَعود إلى قتل الغلام وهو طفل لم يَعقِل شيئاً ولم يرتكب ذنباً.

ومِن ذلك أَيضاً التعبير عن الأَرض اليابسة، بالهامدة (٧) مرّة وبالخاشعة (٨) مرّة أُخرى،

____________________

(١) القَصَص ٢٨: ٣٠.

(٢) طه ٢٠: ١١ - ١٢.

(٣) طه ٢٠: ٢١.

(٤) النمل ٢٧: ١٠.

(٥) الكهف ١٨: ٧١.

(٦) الكهف ١٨: ٧٤.

(٧) الحج ٢٢: ٥.

(٨) فصّلت ٤١: ٣٩.

٤٣٦

وذلك؛ لاختلاف المـُوقف والغرض:

فالأُولى في سورة الحج: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ) (١) .

والثانية في سورة فصّلت: ( وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (٢) .

والفارق بين الآيتَين هو السياق، حيث مَساق الكلام في الآية الأُولى مَساق الحديث عن البَعث والنُشور، فناسَبَ التعبير بالهُمُود بعده نُشور، والهُمُود هو الخمود والهدوء يشبه هُمُود الموت.

أمّا الآية الأُخرى فسياقها سياق عبادة وضَرَاعة فناسب التعبير بالخشوع، خشوع الذُلّ والاستكان، يُقال: خَشَعت الأرض إذا يَبَست ولم تُمطَر.

والشواهد على ذلك كثيرة ووفيرة في القرآن.

حالات كائنة أَبرزها الترسيم

هناك الكثير من قَصَص قرآنيّة هي ترسيمات لحالات واقعيّة كائنة، حكايةً عن أمر واقع، وليست مجرّد فرض أو تخييل، وهذا كحديث الأمانة وعَرْضِها على السماوات والأرض والجبال فأَبَيْنَ أنْ يَحملنَها وأَشفَقْنَ منها وحَمَلها الإنسان، إنّه كان ظلوماً

____________________

(١) الحج ٢٢: ٥.

(٢) فصّلت ٤١: ٣٧: ٣٩.

٤٣٧

جَهولاً (١) .

وهذا تمثيل لعَرض الاستعدادات، كان الإنسان أكثر استعداداً وأقوى قابليّة لحَمل الأمانة، وهي ودائع اللّه أَودَعَها الإنسانَ لقابليّته الذاتيّة، والتي هي عبارة عن العقل وقُدرة الهيمنة والإبداع، وحتّى يكون خليفةَ اللّه في الأرض، استحقّ الشموخ إلى هذا المقام الرفيع، بفضل قابليّته الفائقة، غير أنّه جَهول بشأن نفسه ظلوم لا يعرف قَدْر نفسه (٢) .

فهذا ترسيم رائع للقابليّات واستجلاء أَرقاها وأَقوَمِها، وهو أمر واقع وليس محض خيال.

وحديث (أَخْذ الميثاق): ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ) (٣) حكاية حال واقعة... بياناً لفطرة الإنسان على التوحيد:

الإنسان، في جبلّته مَفطور على الإقرار بالتوحيد، كما في الحديث المـُستفيض عن النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله): (كلّ مولود يُولد على الفطرة...) (٤) ، وهو المعنى أيضاً بقوله تعالى: ( لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) (٥) ، وهكذا قوله تعالى: ( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ) (٦) ، إشارةً إلى العَهد المـُودَع في فِطرة الإنسان، وكلّ إنسان إذا راجع ضميره وَجَد هذا العَهد جليّاً بأَسطُره الواضحة؛ ومِن ثَمّ صرّح الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) (أنّ الأنبياء إنّما بُعثوا ليُثيروا دفائِنَ العُقول) (٧) ، فدلائل التوحيد لائحة في عقول بني الإنسان لولا تراكم الغُبار عليه، وهكذا كانت العُقول حُججَ اللّه الباطنة، وكان الأنبياء الحُجج الظاهرة جاءوا لدعم العُقول (٨) قال

____________________

(١) من الآية ٧٢ من سورة الأحزاب ٣٣.

(٢) راجع: تفسير الصافي للمـُحقّق الفيض الكاشاني، ج٢، ص٣٦٩ - ٣٧١، والميزان في تفسير القرآن، ج١٦، ص٣٧١ - ٣٧٢، وللعلاّمة جار اللّه الزمخشري تحقيق أنيق في هذا المجال، راجع الكشّاف، ج٣، ص٥٦٥.

(٣) الأعراف ٧: ١٧٢.

(٤) بحار الأنوار، ج٣، ص٢٨١، رقم ٢٢، عن عوالي اللآلئ، ج١، ص٣٥، رقم ١٨.

(٥) الروم ٣٠: ٣٠.

(٦) يس ٣٦: ٦٠ - ٦١.

(٧) في أُولى خطبة من نهج البلاغة.

(٨) راجع: الكافي، ج١، ص١٦ حديث هشام.

٤٣٨

الإمام الكاظم (عليه السلام): (إنّ اللّه تبارك وتعالى أكملَ للنّاس الحُججَ بالعُقولِ) (١) .

وهذا هو العَهد الذي عاهدَ اللّهُ الإنسان عليه، مُعنِيَاً به الفِطرة التي فَطَر الناس عليها، كنايةً عن العقول التي رُكّبت في ذَوات الأَنفُس.

أمّا ما حَسَبه البعض من إرادة (عالَم الذرّ) - حسبما جاء في بعض التفاسير - وأنّ اللّه أخرج ذُرّيّة آدم من صُلبه وأَشهدهم على ربوبيّته... فهذا شيء لا مَساس له بالآية الكريمة، ولا كانت الآية مُشيرةً إليه، بل ومنافاته مع ظاهر التعبير، حيث قوله تعالى:، وليس من ظهره فحسب.

القِصّة في القرآن حقيقة واقعة

سبق أنْ نبّهنا أنّ القصّة في القرآن هي حكاية عن أمر واقع، كانت تجربةً مرّت على حياة الإنسان، إنْ زاهيةً أو مريرةً؛ لغرض الاعتبار بها، ولا اعتبار بما فَرَضه الوهم أو تصوّره الخيال!

نعم قَصَص القرآن حوادث واقعة (تأريخيّة) رَسَمَتها ريشةُ الفنّ الأدبي في أَبدع صورها وأَروع أشكالها؛ لغرض التأثير على النُفُوس والأَخذ بمجامع القلوب، فهناك مَزْجٌ بين التأريخ والأدب وليس مجرّد فنّ التمثيل.

ذلك أنّ القرآن استخدم الفنّ في ترويج دعوته، مع الحِفاظ على الواقع المتمثّل به؛ لغرض التأكيد على التأثير، ومُتجنِّبَاً مجالات ومحض الخيال؛ إذ لا تأثير لمجرّد الفرض وقد أكّد علماء التربية على مجانبة الابتناء على أساس مُنهار، إذ لا قِوام لبِناء كان أَساسه على جُرُف هار.

التربية لها مجال حقيقي في حياة الإنسان، فلا ينبغي بِناؤها على أساس الفرض ممّا لا واقع له سِوى الوهم والخيال. وسُرعان ما ينهار البِناء إذا لم يكن له أساس مكين.

على أنّ القرآن - وهو كتاب هداية له دعوة الحقّ - في غنىً عن التَمثُّل بمفروضات

____________________

(١) المصدر: ص١٣.

٤٣٩

الخيال، بعد وفور الأحداث والتجارب التي مرّت على حياة الإنسان، وقد كَلّفته أثماناً باهظة إنْ رابحةً أو خاسرةً، هي تَصلح لأنْ تقع موضع عِبرته في مُستقبل الزمان؛ نظراً لوحدة مُتطلَّبات الحياة في غابِر الأزمان وحاضرها والآتي.

والخلاصة: أنّ القصّة في القرآن هي تجربة واقعيّة قاسَها الإنسان في حياته الغابِرة، ولتكون عِبرةً في مُستمرّ حياته، وليست مجرد فرض خيال:

أَوّلاً - لأنّه في غنىً عن اللجوء إلى مَفروضات خياليّة أو مشهورات هي مقبولات عامّيّة، بعد وِفرة التجارب ذوات العِبَر في سالف حياة الإنسان.

ثانياً - لأنّ البِناء على أساس الفرض والخيال سُرعان ما ينهار إذا ما كَسَحَته واقعيّات الحياة ولا سيّما بعد فضح الحال.

* * *

هذا ولكن هناك مَن يرى مِن قَصَص القرآن - كلّها أو جُلّها - هي مشهورات عامّيّة استندها القرآن، لا اعترافاً بها، بل مَعْبَراً للوصول إلى غايته في الهداية والإرشاد، على طريقة الخطابة في البيان، وبعضهم أَجاز كونها تمثيلاتٍ مُجرَّدةً؛ تقريباً للمطالب إلى الأذهان... ولعلّ هذا إفراط بشأن القرآن!

يقول مُحمّد أَحمد خلف اللّه: القرآن يجري في فنّه البياني على أساس ما كانت تعتقد العرب وتتخيّل، لا على ما هو الحقيقة العقليّة، ولا على ما هو الواقع العملي، فهو حينما يتحدّث عن الجنّ وعن عقيدة المشركين فيهم وأنّهم يستمعون إلى السماء ليعرفوا أَخبارَها ثُمّ يقومون بعد ذلك بإلقاء هذه الأَخبار على الكَهَنة، وكان الكَهَنة يَدّعون الإطِّلاع على الغيب ومعرفة الأسرار في كلّ ذلك يجري على هذا المذهب.

جاء في الرازي عند تفسيره لقوله تعالى: ( إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ ) (١) ما يلي: (وأمّا تشبيه هذا الطَلع برؤوس الشياطين ففيه سؤال، لأنّه قيل إنّا ما رَأَينا رؤوس الشياطين، فكيف يُمكن تشبيه شيء بها؟ وأَجابوا عنه بوجوه،

____________________

(١) الصافّات ٣٧: ٦٤ - ٦٥.

٤٤٠

الأوّل - وهو الصحيح -: (أنّ النّاس لمـّا اعتقدوا في الملائكة كمال الفَضل في الصورة والسيرة، واعتقدوا في الشياطين نهاية القبح والتشويه في الصورة والسِّيرة، فكما حَسُن التشبيه بالمـَلَك عند تقرير الكمال والفضيلة في قوله: ( إِنْ هَذَا إِلاّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ) (1) فكذلك وجب أن يَحسُن التشبيه برؤوس الشياطين في القبح وتشويه الخلقة) (2) .

وجاء في الكشّاف عند تفسيره لقوله تعالى: ( لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ) (3) ما يأتي: (لا يقومون إذا بُعثوا من قبورهم إلاّ كما يَقوم الذي يَتخبّطه الشيطان أي المصروع، وتَخبُّط الشيطان مِن زَعمات العرب، يزعمون أنّ الشيطان يَخْبِط الإنسانَ فيُصرع، والخَبط: الضرب على غير استواء، كخَبْط العشواء، فوَرَد ما كانوا يعتقدون.

والمـَسّ: الجنون، ورجل مَمسوس، وهذا أيضاً مِن زَعماتهم وأَنّ الجنّي يَمسّه فيَختلِط عقلُه، وكذلك جُنّ الرجل، ضربته الجنّ، ورأَيتهم لهم في الجنّ قَصَص وأخبار وعجائب، وإنكار ذلك عندهم كإنكار المـُشاهَدات) (4) .

يقول الأُستاذ خلف اللّه: يجري القرآن على هذا المـَذهب الأدبي في محاولته هدم عقيدة المـُشركينَ السابقة، وقد كانت تُعتَبر العَقَبة الأُولى في سبيل الدعوة الإسلاميّة لِما فيه من إتاحة الفُرصة للمشركينَ بأنْ يَدَّعوا أنّ مُحمّداً من الكُهّان وأنّ الذي يُطلِعُه على الغيب هم الشياطين وليس وحي السماء.

حارَبَ القرآن هذه الفِكرة، وحاربها تدريجيّاً وبأساليب مختلفة، فالجنّ كانت تَقعُد مَقاعد للسمع، ولكن الكواكب أصبحت رُجُوماً والشُهُب أصبحت رواصد ( وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً ) (5) ، والجنّ تَخطِف الخَطفة حتّى بعد رسالة مُحمّد (صلّى اللّه عليه وآله) وحتّى بعد أنْ حدثت المعجزة ومُنعت الجنّ من الاستراق ( إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ

____________________

(1) يوسف 12: 31.

(2) التفسير الكبير، ج26، ص142.

(3) البقرة 2: 275.

(4) الكشّاف، ج1، ص320.

(5) الجنّ 72: 9.

٤٤١

مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلاّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ) (1) .

ذلك أُسلوب محاربة الفِكرة يوم أنْ كان سلطانها قويّاً وإيمانهم بها عنيفاً، ويوم أنْ كان القرآن في أَوّل عهده بهم.

ولكن حينما تقدّم الزمن وحينما استقرّ الأمر في البيئة واشتهر أَمر المعجزة وأخذ القوم يُصدِّقون بالرَجم، انتقل القرآن إلى أُسلوب آخر في محاربة الفِكرة، فادّعى أنّ الجنّ ما كانت تَعلم الغيب وأنّها لو كانت تَعلمه ما لَبِثت في العذاب بعد أنْ فارق سُليمان (عليه السلام) الحياة ( فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ ) (2) .

وأُسلوب المحاورة قد يُوقع بعض المـُفسِّرين في إشكالات خاصّة، حينما يأخذون المسائل مأخذ الجدّ ويُحاولون البحث عن الأَجرام السماويّة وهل كانت موجودة قبل مُحمّد أو لم تكن؟ وإذا كانت فكيف جُعلت رُجُوماً؟ وهكذا إلى أنْ يَضِيقُوا هم أنفسهم بأمثال هذه المسائل، جاء في الرازي ما يلي:

يُروى أنّ السبب في ذلك أنّ الجنّ كانت تَتَسمّع لخبر السماء، فلمـّا بُعِث مُحمّد (صلّى اللّه عليه وآله) حَرَست السماء ورَصَدت الشياطينَ، فمَن جاء منهم مُستَرِقاً السمع رُمي بشِهاب فأَحرقه؛ لئلاّ ينزل به إلى الأرض فيُلقيه إلى الناس فيَخلط على النبيّ أَمره ويرتاب الناسُ بخبرِهِ، فهذا هو السبب في انقضاض الشُهُب وهو المراد من قوله: ( وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ ) (3) ، ومِن الناس مَن طَعن في هذا من وجوه:

أحدها: أنّ انقضاض الكواكب مَذكور في كُتب القُدماء، قالوا: إنّ الأرض إذا سَخَنت بالشمس ارتفع منها بُخار يابس وإذا بلغ النارَ التي دون الفَلَك احترق بها، فتلك الشُعلة هي الشِهاب.

وثانيها: أنّ هؤلاء الجنّ كيف يجوز أنْ يُشاهِدوا الأُلوفَ منهم يَحترقون، ومع ذلك يَعودون لمِثل صنيعهم!

____________________

(1) الصافّات 37: 6 - 10.

(2) سبأ 34: 14.

(3) الملك 67: 5.

٤٤٢

وثالثها: كيف يجوز خَرق ثُخن السماء إذا نَفَذوا، وإذا لم يَنفَذوا فكيف يستمعون إلى أَسرار السماء من ذلك البُعد البعيد؟ وكيف لا يَسمعون إلى كلام الملائكة وهم على الأرض؟

ورابعها: لِمَ لمْ يَسكت الملائكةُ عن ذِكر الأحوال المـُستقبلة كي لا تتمكّن الجنّ من استماعها؟

وخامسها: أنّ الشياطين مَخلوقون من النار والنار لا تُحرق النار!

وسادسها: كيف جازَ تَداوَمَ القَذف بعد النبوّة وحتّى بعد وفاة النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) في حين أنّ الاستراق كان لأجل خَلطِ أَمر الوحي؟

وسابعها: أنّ هذه الرُجُوم تَحدث بالقُرب من الأرض ولو كانت قريبةً من فَلَك السماء لَما شاهَدنا حركتها!

وثامنها: لِمَ لم يَنقل الشياطين أَسرارَ المؤمنين إلى الكُفار، إذا كان يُمكنهم نقلَ أخبار الملائكة إلى الكَهَنة؟

وتاسعها: لِمّ لم يُمنَعُوا ابتداءً من الصعود إلى السماء حتّى لا يحتاج في دفعهم إلى قذف الشُهُب؟ (1)

لكن لو فَطَن الرازي من أَوّل الأمر إلى أنّ القرآن إنّما يُحارب هذه العقيدة ويُحاول هَدمَها بأُسلوبه الخاصّ، القائم على فِكرة التَدرُّج، وأنّ هذا التَدرُّج يشبه تماماً التَدرُّج في التشريع في مسألة مُحاربة الخَمر وغيرها، وأنّ النسخ في التشريع إنّما يُعلَّل بهذه الفكرة.

لو فَطَن الرازي إلى كلّ هذا لما أَتعب نفسَه وأَتعبَ غيره في هذه الوَقَفات الطويلة، ولقال بأنّ القرآن إنّما يَأخذ الناس بتصوّراتهم، وأنّه في هذا المـَوقف قد سَلَّم بهذه العقيدة، لا لأنّها حقّ وصدق، وإنّما لأنّه يريد أنْ يَهدِمَها تدريجيّاً، فيُسلّم بها أَوّلاً ثُمّ يأخذ في هَدمها مُستعيناً بالزمن.

____________________

(1) نقلناها بتلخيص واختزال، راجع: التفسير الكبير، ج30، ص61، وقد أجاب عنها إجابات ضعيفة ممّا يقوّي الإشكال!

٤٤٣

فقد اتّضح أنّ القرآن كان يأخذ الناس بتصوّراتهم بالعُرف والعادة، وأنّه كان يفعل هنا ما كان يَفعله في أُمور التشريع من أخْذ الناس بعاداتهم ومن تغيير هذه العادات تدريجيّاً، الأمر الذي مِن أجله كان النسخ في التشريع.

فقد وَضَح أنّ القرآن قد قصَّ في القَصَص التي كانت مَوطن الاختبار لمعرفة نبوّة النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) وصِدق رسالته ما يعرفه أهلُ الكتاب عن التأريخ، لا ما هو الحق والواقع من التأريخ، وأنّه من هنا لا يجوز الاعتراض على النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) وعلى القرآن الكريم بأنّ هذه الأَقاصيص أَخطاء من أخطاء التأريخ!

وبعد فنُلِفت ذِهن القارئ إلى أنّه إذا وَضَح لديه الوضوح الكافي أنّ القصّة القرآنيّة قد قُصِد منها إلى التأريخ، فإنّه يتعيّن عليه أنْ يُؤمن بما جاء فيها على أنّه التأريخ، وذلك كتقرير القرآن لمسألة مَولد عيسى (عليه السلام) وتقريره إبراهيم (عليه السلام) وأنّه لم يكن يهوديّاً ولا نصرانيّاً.

أمّا تلك التي يُقصد منها إلى العِظة والعِبرة وإلى الهداية والإرشاد فإنّه لا يَلزم أنْ يكون ما فيها هو التأريخ، فقد تكون المعارف التأريخيّة عند العرب أو عند اليهود، وهذه المعارف لا تكون دائماً مُطابقة للحقِّ والواقع، واكتفاء القرآن بما هو المشهور المـُتداول أمر أجازه النقد الأدبي وأجازته البلاغة العربيّة وجرى عليه كِبار الكُتّاب، ومِن هنا لا يصحّ أنْ يتوجّه اعتراض على النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) أو على القرآن الكريم! (1)

* * *

وبعد فهذا الذي ارتآه الأُستاذ خلف الله، كان قد سَبَقه إلى ذلك الكاتب الشهير طه حسين في كتابه (في الشعر الجاهلي) والأُستاذ عليّ عبد الرزّاق في كتابه (الإسلام وأُصول الحُكم) وغيرهما حتّى أصبحَ ذلك من مِيزات الفكر الإسلامي الحديث، وربّما أَثار ضجّةً في الأوساط الدينيّة ولا يَزال، وأخيراً قام الأُستاذ خليل عبد الكريم بعرض وتحليل القَصَص القرآني بصورة نقد وتعليق على كتاب الفنّ القَصَصي في القرآن للأُستاذ

____________________

(1) الفن القَصَصي في القرآن، ص87 - 91.

٤٤٤

خلف اللّه، وزاد عليه الكثير ممّا حَسِب أنّ خلف اللّه أَغفله! غير أنّه زاد في الطين بلّةً، يقول - مُعترِضاً على كلامه الأخير بشأن ما قَصَد من القصّة القرآنيّة إلى التأريخ -: إنّنا نقف مع خلف اللّه مليّاً عند القَصَص كالتأريخي؛ إذ لمْ يُحدّد لنا المِعيار الذي انطلق منه لتحديد تأريخيّة القصّة:

هل هو ثبوتها في مُدوّنات التأريخ المـُعتمدة؟

أم هل هو احتفاظ الشعوب في ذاكِرتها لوقائعها؟

وهل مجرّد وُرُودها في التوراة يُضفي عليها صفة التأريخيّة؟

لقد كان حريّاً به وهو بصدد كتابة بحث أَكاديمي أنْ يفعل ذلك، ولعلّ إغفاله ذِكر هذا المعيار هو الذي دَفَع به إلى إضفاء الصفة التأريخيّة على قَصَص ووقائع وأحداث في حين أنّها ليست كذلك، فنزاعُ ابني آدم وقَتلُ أحدهما الآخر وجَهْلُ القاتل بكيفيّة دفن جثّة أخيه المقتول هذا ليس تأريخاً، وإنّما هو أُدخل في باب الميثولوجيا (علم الأساطير)، ولهذه الأُحدوثة مَثيلات في عقائد العديد من الشعوب القديمة والبدائيّة الحاليّة، مِثل أُحدوثة الطُوفان والسفينة المـُعجِبة التي أنقذت البشريّة من الانقراض!

وكذلك حكاية عاد وهود وهلاك القوم بالريح التي تَحمل العذاب الأليم، فهي مِن الفولكلور (1) (قِصَص شعبيّة) العربي القديم، وحتّى الآن يُضرب مَثلٌ للرسولِ (الوافد أو المندوب) المشؤوم بـ (وافد عاد)!

وتلحق بها قصّة صالح وثَمود، والناقة المـُدهِشة التي تَشرب يوماً وكلّ سكّان القرية يوماً، وسدوم (مدائن لوط) التي ضَربها أَحد الزلازل، فنُسب إلى لعنة حاقتْ بهم مِن جَرّاء شُذُوذهم الجنسي؛ تنفيراً مِن دُعاة الإصلاح لهذا العمل الخبيث، وكذلك قصّة أصحاب الكهف الذين لَبِثوا فيه أكثر من ثلاثة قُرون وهم يَغطّون في نومٍ عميق ويَنعمون بأحلام ورديّة دون أنْ يُصابوا بجُوع أو ظمأ ولا تتغيّر أجسامهم بمُضيّ القُرون، فلمـّا استيقظوا ظنّوا أنّهم ناموا بِضع ساعات.

____________________

(1) قصص عامّيّة تَتَداوَلها الأَلسن وتَعارَفَتها مُنذ قديم الأيّام.

٤٤٥

وكذا قصّة ذي القرنَين الذي غَزا البلاد ودوّخ السلاطين والمـُلوك والأَقيال، وسار إلى الشرق حتّى وصل إلى حُدود بلاد يأجوج ومأجوج، فبنى سدّاً مَنيعاً بينه وبينهم، ومِن ضِمْنِ ما رَآه في رحلاته تلك: الشمس وهي تَغرب في عين حَمِئةٍ.

ومع ذلك يَذهب خلف اللّه إلى أنّ هاتَين الحكايتَين مِن صُلب التأريخ، فكلّ هذا مِن قَصَص الفولكلور الشعبي الذي كان يتناقله عربُ الجزيرة أو اليهود وكان معروفاً ومحفوظاً في عهد مُحمّد (صلّى اللّه عليه وآله) ويُردّده الجميع، فكيف يعتبره خلف اللّه تأريخاً وكيف يَعدّ حَكاياه اللطيفة حيناً والمـُرعِبة حيناً آخر تأريخاً؟

أمّا الأَوعر من ذلك فإنّه يَعتبر حكاية موسى وفرعون وخروج بني إسرائيل من مصر، وضرب ملأ فرعون بالجَراد والضَّفادع والقُمَّل والدّم، وتحدّي موسى للسَحَرة، وانقلاب العصا إلى حيّة وثعبان أو جان... إلخ، نقول إنّه يَعتبر كلّ هذه الحَكايا تأَريخاً، مع أنّه لا يُوجد في العالَم بلد أحرص على تدوين تأريخه كتابةً كمصر، وليس في التأريخ المصري شيء منها، ومع ذلك عَدّها المـُؤلّف قَصصاً تأريخيّاً!

والأشدّ إثارةً للدَهشِ أنْ يَضفي صفة التأريخيّة على المـُحاورة التي دارت بين المستضعفين والمستكبرين، ثُمّ بين هؤلاء الآخرين وبين الشيطان، أو على سؤال اللّه عيسى عمّا إذا كان قد طلب مِمّن تَبَعه أنْ يعبدوه هو وأُمّه؟

ويلحق به ما جاء على لسان اليهود أنّهم قتلوا المسيح رسول اللّه فبأيّ مقياس يُعدّ هذا تأريخاً؟

وهل يُمكن للقَصَص التي أوردنا أَمثلةً منها أنْ تنضوي تحت صفة التأريخيّة؟ وبقَدَر ما أَخفق المـُؤلّف في إفضاء صفة التأريخيّة على هذه القَصَص، بقَدَر ما حالفَه التوفيق في القول بأنّها حقيقيّة بحسب اعتقاد المـُخاطبَينَ بالقرآن المـُعاصرينَ لمـُحمّد!

فعرب الجزيرة آنذاك كانوا يُؤمنون بصحّة وقائع قَصَص عاد وهود وثَمود وصالح والناقة وآيات العذاب الأليم... إلخ.

واليهود يُؤمنون بصِدق قصّة موسى وفرعون وملأهِ والضَّفادع والقُمَّل والدّم

٤٤٦

والآيات المـُفصّلات وموسى وشُعيب وانقلاب العِصيّ إلى حيّات وثعابين... إلخ وخروج بني إسرائيل وانشقاق البحر... إلخ وقبلها بقصّة ابني آدم وبالطوفان وبالسفينة الرائعة التي حفظت ذرّيّة آدم من الغَرَق... إلخ.

إذن كان الأَولى أنْ يَصف هذه القِصَص بأنّها الشعبيّة والقِصَص الدينيّة، ولا يغضّ هذا مِن قيمتها أو يُقلِّل من قَدَرها أو يُهوّن من مصداقيّتها أو يَنال من حقيقتها!

خلاصة القول: إنّ الكِسوة التأريخيّة التي حاول المؤلّف (خلف اللّه) أنْ يُدِّثر بها تلك القصص ليست مُلائمةً لها! (1)

* * *

ويَتلخّص هذا المـَذهب (الذي وَسَموه باسم الفكر الإسلامي الحديث) في أنّ القرآن قد استخدم القصَص الشعبيّة وكذا القصَص الدينيّة الشائعة مَعبَراً للبُلوغ إلى أهدافه في تبليغ رسالة اللّه، ومن غير أنْ يكون ذلك اعترافاً بصحّتها أو إذعاناً بصِدقها، على طريقة فنّ الخطابة وعلى أساس الأخذ بالمـَشهورات أو المـَقبولات (لدى العامّة) ولو تمثيلاً؛ ولتكون ذريعةً لتحقيق الغرض في الهداية والإرشاد، وكان ذلك يكفي تبريراً للاستناد إلى قضايا يعترف بها المـُعاصِرون أو المـُخاطَبون استناداً تمثيليّاً، وبذلك يَمكن التأثير عليهم في التبشير والإنذار!

إذن فالقرآن لا يَتحمّل عِبء مسؤوليّة القضايا المستند إليها، بعد أنْ كانت وسائط لإنجاز الهدف من دون أنْ تكون هي مقصودة بالإثبات، والغاية تُبرِّر الواسطة.

وبهذا التعليل حاولوا التخلّص من تَبِعات القول بتأريخيّة تلك الأحداث.

وحجّتهم في ذلك، والتي دَعَتهم إلى سلوك هذا المـَسلك الوَعِر (حيث ارتكاب خلاف ظاهر التعبير!)؛ أنّهم وجدوا أنفسهم في مأزق عن الإجابة الوافية لو تسالموا على واقعيّة تلك القَصَص والتي عليها صِبغة التمثيل في حُسبانهم!

____________________

(1) الفن القَصَصي في القرآن، مع شرح وتعليق خليل عبد الكريم، ص414 - 416.

٤٤٧

ملحوظة

هنا ملاحظة خطيرة يَجدر التنبّه لها، هي أنّ أصحاب هذا الفِكر الحديث - حسب مصطلحهم - إنّما حَسِبوا حسابَهم حِفاظاً على كرامة القرآن وأنّه في آفاق عالية مِن السموِّ والرِفعة، ومن غير أنْ يتنازل مع رغبة الطامعين أو يَتَسافل حيث المذاهب العامّيّة الساقطة.

فإنْ كان القرآن يتمثّل بقصَص شعبيّة دارجة، فإنّ معناه مُجرّد التمثيل وإن كانت عناصره على أَساس التخيّل والتصوير، فإنّ هذا ليس بعيب، إنّما العيب فيما إذا رَضَخ لأَوهامٍ ساطية على الحقائق، لمجرّد أنّ العامّة تقبله وترضاه، الأمر الذي هو استرضاء مُتسافل مَقيت ويتحاشاه القرآن الكريم.

يقول الأُستاذ خليل عبد الكريم - ردّاً على مَن زَعَم أنّ القرآن إنّما صوَّر قصّة أصحاب الكهف طِبقاً لآراء أهل الكتاب، لغرض إثبات نبوّة مُحمّد (صلّى اللّه عليه وآله)، حيث كانت آراء اليهود هي المقياس الذي به يقيسون صِدق النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) فلو نَزَل القرآن بغيرها أي بما يُخالف المقياس المـَذكور لكَذَّبوا النبيّ ولَما آمنوا به أو بالقرآن الذي جاء به - يقول ردّاً على ذلك: وهل آمن اليهود برسوليّة مُحمّد وصدّقوه واتّبعوه، بعد أنْ جاءهم بصورة لِما يعرفه أهل الكتاب؟!

قال: أليس القول بأنّ مجيء القرآن مُطابقاً للصورة التي يَعلمها أهل الكتاب في خصوصيّة عدّة أصحاب الكهف ومدّة مكثهم، وذلك للتدليل على صدق نبوّة مُحمّد، أليس لهذا القول دلالته الصريحة أنّ معلومات أو معارف أهل الكتاب وحصراً وتحديداً اليهود، حاكم على القرآن؟! وبعبارة أوضح: أنّ القرآن رَضَخ لمقياس اليهود حتّى تَثبُت نبوّة مُحمّد ورسوليّته!! تعالى اللّه عن ذلك علوّاً كبيراً!

هل ما قَالَه البعض من القُدامى وَوَافقه بعض المعاصرينَ، يتّفق مع رأي القرآن في اليهود؟ وكيف يُلائم ما جاء في القرآن، إنّ بشأن عدّة الفتية أو مدّة مكثهم بالكهف، تصوير معارف اليهود؟ وقد رَماهم القرآن بكلِّ خَسيسةٍ ودفعهم بكلِّ نقيصة، وأَوعر من هذا جميعه أنْ تكون المـُطابقة لهذه المعارف هي مقياس صِدق مُحمّد وأنّه رسول يُوحى إليه

٤٤٨

من السماء!

إنّ المنطق والعقل لا يَقبلان ذلك ويرفضانه، فالشخص العاديّ يَشمئزّ من اتّخاذ قَالَة الكَذوب ميزاناً لصحّة كلامه، فما بالك باللّه تعالى جلّ جلاله! (1)

وَقفة فاحصة

غير أنّا لو اعتبرنا تلك القضايا بعين التحقيق وتعمّقنا النظر الدقيق، لرَأَيناها صورةً طِبق الواقع، لا وَهْم ولا مجرد تمثيل!

إنّ أكثر القضايا التي قصّها القرآن قد اكتُشفت آثارها وتبيّنت دلائلُ صدقِها بعد حين.

ولنبدأ بما ذَكره الأُستاذ خليل أخيراً بشأن قضايا إسرائيليّة - مصريّة، وأنّها لو صحّت لما أَهمل ذِكرها التأريخ المصري القديم: (2)

قلت: كثير من أحداث مصر القديم لم يُسجِّلها التأريخ، بعد أنْ كان مهمّة التأريخ الأثري هو مجرّد وصف البَلاط المـَلَكي وزَهو رجالات الحُكم ومُجونهم في البَذخ والتَرف والأفراح، ليس غير، أمّا الأوضاع الاجتماعيّة وما عليه سائر الناس من الأحوال والأوضاع، فهذا ممّا لا يَهتمّ به التأريخ القديم سِوى ما كانت له صِلة بأحوال المـَلَك وحواشيه، فالتأريخ القديم إنّما هو تأريخ المـُلوك، وليس تأريخ الأُمَم، على خلاف ما وَسَم الطبري تأريخه (3) .

ومَثلاً لذلك نقول: كانت رحلة العبرانيّين (بني إسرائيل) إلى مصر أمراً لا يُنكر، في حين أنّه لم يأتِ ذِكر منها في تأريخ مصر القديم، وكذا موسى وهارون، فضلاً عن يوسف وإخوته ويعقوب، شيء لا يُمكن الغضّ عنه في تأريخ مصر، ومع ذلك لم يأتِ في كتابات مصر القديمة ولا إشارة إليه.

____________________

(1) المصدر: ص409 - 410.

(2) يقول: (لا يوجد في العالم بلد أحرص على تدوين تأريخه كتابةً كمصر، وليس في التأريخ المصري شيء منها...) المصدر: ص416.

(3) وَسَم تأريخَه باسم تأريخ الأُمَم والمـُلوك، في حين أنّه ليس في تأريخه ذِكر عن أحوال الأُمَم وأوضاعها، سِوى ما يمسّ شأن القادة المـُلوك وتصرّفاتهم التعسّفيّة.

٤٤٩

وهل نستطيع أنْ نَشطب على كثير من هذه القضايا - المـَقطوع بصحّتها - بحجّة أنّها لم تُذكر في كتابات الأهرام؟ وهل يُمكننا الغضّ عن حادث خروج موسى ببني إسرائيل قاصداً أرض فلسطين؟ وقد عَبَر البحر إلى وادي سيناء مارّاً بمَضيقٍ من البحر الأحمر في منطقة قريبة من خليج السويس ولعلّه كان متّصلاً بالبُحيرة المـُرّة وأصبحت أرضاً يابسةً وقد اتّخذها موسى مَعبَراً لقومه، والمـَحلّ مشهور باسمه إلى الآن (1) .

على أنّ إبراهيم وابنيه إسحاق وإسماعيل وكذا موسى وهارون ومِن بعدهما من أنبياء، مَلأَ بذِكرهم الآفاق، لم يَذكرهم التأريخ المـُسجَّل، فهل يَصلح ذلك حجّةً للقول بكونهم رجال أساطير؟

هذا ذو القرنَين عُرف أخيراً أنّه (كورش) المـَلِك الفارسي العظيم وجاء ذِكره في كُتب العهد القديم وهو الذي فتح بابل عام (538 ق م) وأَطلق سَراح بني إسرائيل من الأَسر وحَماهم وأسكن قسماً منهم في مدينة (شوش) تحت زَعامة (دانيال النبيّ) وسرّح الباقي إلى أرض فلسطين بزَعامة (عَزرا)؛ ليُشيّد بناء الهيكل وإحياء آثار بني إسرائيل وتجديد بناء البيت المـُقدس، وتَعهّد تكاليف عُمران تلك البلاد، وغير ذلك من أعمال خيرٍ قام بها على أساس بسط العدل في الأرض، وبِناء السد لحماية أقوامٍ مُستضعفين عن هَجمات قبائل وحشيّة، كان أحد آثار هذا العمل الخيري، وهذا شيء عَرفه الأوائل وعَثَر عليه أهلُ التحقيق مِن المـُتأخّرين (2) ، ولا تزال الكُشوف الأثريّة تُطلِعُنا على غيوب من أَسرار هذا القَصَص القرآني والذي لم يُسجِّله التأريخ.

ومَواضع الغرابة في كلام هذا الكاتب المـُسترسِل (خليل عبد الكريم) كثير سوف نُنبِئُك عليها، والآن وقبل كلّ شيء لابدّ من النظر في أهمّ نقاط ركّز عليها بحثه الحاضر:

____________________

(1) انظر: قَصَص الأنبياء للأُستاذ عبد الوهاب النجار، ص204.

(2) راجع: قاموس الكتاب المقدّس، ص743، وقد قام بهذا التحقيق المولى أبو الكلام آزاد، العالم الهندي الكبير، راجع: لغت نامه لعلي أكبر دهخدا، ص11563، ذو القرنَين الثاني، نقلاً عن مجلة (ثقافة الهند).

٤٥٠

أَوّلاً - كيف يَصف هذه القَصَص بأنّها من التُراث الشعبي والتي كان يَعرفها العرب المـُعاصِر لمـُحمّد، وبالأَحرى أنْ يكون مُحمّد (صلّى اللّه عليه وآله) أَعرف بها من غيره... هذا في حين أنّ القرآن يُباريهم بأنّها من الآثار التي كان يَجهلها مُحمّد وقومه مِن قبلُ؟

هو عندما يَذكر قصّة نوح والطُوفان والسفينة بتفصيل وبيان، يَعود فيقول: ( تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا ) (1) ، فلو كانت العرب تَعرِفها وتَعدُّها مِن تُراثها الشعبي الدارج، لكانت أَولى بالردِّ على هذا التحدّي الصارخ!

وكذا عندما ينتهي من قصّة يوسف وإخوته يقول: ( ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ) (2) .

وهكذا بشأن الصدّيقة مريم وبُشرى الملائكة لها يقول: ( ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ) (3) .

فلو كان أهلُ الكتاب يَعرفون التفاصيل المـَرُوعة والتي جاءت في القرآن نقيّةً زاكيةً، لكانوا أَولى بمجابهته وهم أشدّ المناوئينَ للإسلام ولرسالة مُحمّد (صلّى اللّه عليه وآله)!

لكنّهم (العرب واليهود والنصارى) عَرفوا الصِدق والأَمانة في القرآن، فلم يَلهجو بشيءٍ سِوى مناوئتِهِ عن طريق التواطؤ على العِداء الغاشم.

أَفهل مِن المـَعقول أنْ يكون مُحمّدٌ قد أَخَذ تلك الأَقاصيص مِن أفواه العرب وأهلِ الكتاب وقَصّها عليهم، ثُمّ تَحدّاهم بها، وهؤلاء سَكتوا عليها من غير إجابةٍ صارمةٍ؟!

فما لكم - يا أَهلَ الفِكرة الإسلاميّة الحديثة!! - كيف تحكمون؟!

ثانياً - ما وجه الاستغراب أو الإنكار لصحّة تلك الأحداث التي قصّها القرآن؟ والتي دَعَت البعض (وهم أصحاب الإلحاد) إلى فَرْضِها مسرحيّات تمثيليّة، والبعض الآخر (وهم أهل الفِكرة الإسلاميّة الحديثة - أو العقل الإسلامي الحديث) إلى فَرْضِها

____________________

(1) هود 11: 49.

(2) يوسف 12: 102.

(3) آل عمران 3: 44.

٤٥١

التُراث الشعبي الرائج، أَفهل لا يَمكن صدق مصداقيّتها وأنّها أحداث تأريخيّة كانت قد قَبَعت في زوايا الجهل التأريخي وقد كَشَف القرآن عن وجهِها، حتّى ولو كانت غريبةً - نسبيّاً - في شكلها وهندامها؟ ولنَذكرها بتِباعٍ:

حديث ابني آدم!

أمّا حديث ابني آدم إذ قَرّبا قُرباناً فتُقبّل من أحدهما ولم يُتقبّل من الآخر... فكان ذلك سبب قتل قابيل لهابيل... واحتارَ فيم يفعل بجّثة أخيه، حتّى هَداه الغُراب ليُواريه في التُراب... (1)

فهذا حديث وَصَفه اللّه بأنّه نبأٌ حقّ: ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ )! فمِن الجُرأةِ على اللّه وعلى كتابه المجيد أنْ يُوصف بأنّه من الأساطير الشائعة في عقائد العديد من الشعوب القديمة والبدائيّة (2) .

نعم هذا الحادث في شَكله هذا الترتيب، مِن عمل الفنّ التصويري في القرآن، فهناك في بدء الخَليقة وقع تَشاحن بين بني آدم وهم في بداية مرحلة الحياة الاجتماعيّة، والتي أَساسُها التعاون والتكافل في الحياة، دون التباغض والتباعد، لولا أنْ تتداركهم الهداية الربّانيّة الأمر الذي نبّه اللّه آدم وزوجه عليه حينما أَخَرجهما من الجنّة ليعيشا وذرّيّتهما على وجه الأرض، ( قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (3) .

قال سيد قطب، هذه القصّة تُقدِّم نَموذجاً لطبيعة الشرّ والعدوان، ونَموذجاً كذلك من الطيبة والوَداعة، وتَقِفهما وجهاً لوجه، كلّ منهما يتصرّف وِفق طبيعته...

واتلُ عليهم نبأَ هذَينِ النموذجَين مِن نماذج البشريّة، اتلُه عليهم بالحقّ، فهو حقّ وصِدق في روايته، وهو يُنبئ عن حقّ في الفِطرة البَشريّة، وهو يَحمل الحقّ في ضرورة الشريعة العادلة الرادعة.

____________________

(1) المائدة: 5: 27 - 31.

(2) الفن القَصَصي في القرآن، ص414.

(3) بقرة 2: 38.

٤٥٢

إنّ ابني آدم هذَين - قبل كلّ شيء - هُما في موقفٍ لا يَثور فيه خاطرُ الاعتداء في نَفْسٍ طيّبةٍ، فهما في موقف طاعة بين يدي اللّه، موقف تقديم قُربان، يتقرّبان به إلى اللّه: ( إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً ) .. ( فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ ) ، والفعل مبنيٌّ للمجهول؛ ليُشير بِناؤُه هكذا إلى أنّ أَمر القَبول أو عدمه مَوكول إلى قوّة غيبيّة وإلى كيفيّة غيبيّة... إيحاءً بأنّ الذي قُبِل قُربانه لا جريرةَ له تُوجب الحفيظة عليه وتبييت قَتلِه، فالأَمر لم يكن له يدٌ فيه، وإنّما توَلَّته قوّة غيبيّة بكيفيّة غيبيّته، تعلو على إدراك كليهما وعلى مشيئته... فما هناك مُبرِّر ليَحنَق الأخ على أخيه، وليَجيش خاطرُ القَتلِ في نفسه.

( قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ ) وهكذا يبدو هذا القول - بهذا التأكيد المـُنبئ عن الإصرار - نابياً مُثيراً للاستنكار؛ لأنّه يَنبعث من غير مُوجب، أللهمّ إلاّ ذلك الشعور الخبيث المـُنكَر، شعور الحسد الأعمى، الذي لا يَعمر نفساً طيّبة.

والسياق يَمضي ليزيد هذا الاعتداء نَكارَةً وبَشاعَةً بتصوير استجابة النَموذج الآخر، وَوَداعَتِه وطِيبَة قلبه: ( قَالَ إِنّمَا يَتَقَبّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتّقِينَ ) ، هكذا في براءةٍ تَردُّ الأمرَ إلى وضعِه وأصلِه، وفي إيمانٍ يُدرِك أسبابَ القَبول، وفي توجيهٍ رفيق للمـُعتدي أنْ يتّقي اللّه، وهدايةٍ له إلى الطريق الذي يُؤدّي إلى القَبول، وتَعريضٍ لطيفٍ به لا يُصرِّح بما يَخدِشُه أو يَستَثيرُه.

ثُمّ يَمضي الأخ المـُؤمن التقيّ الوديع المـُسالم ليَكسر مِن شَرَهِ الشرّ الهائج في نَفْس أَخيه الشرِّير: ( لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنّي أَخَافُ اللّهَ رَبّ الْعَالَمِينَ ) .

وهكذا يَرتسم نَموذَج مِن الوَداعَة والسلام والتقوى، في أشدِّ المواقف استجاشةً للضمير الإنساني وحماسةً للمـُعتَدى عليه ضدّ المـُعتدي، وإعجاباً بهُدُوئه واطمئنانه أمام نُذُرِ الاعتِداء، وتقوى قلبه وخوفه مِن ربّ العالمين... (1)

____________________

(1) مُلتَقَط من صفحات 704 - 707 في ظِلال القرآن، المجلّد الثاني.

٤٥٣

... إلى آخر القصّة وهي حكاية عن تَقابُلِ نَموذَجَينِ مِن الطِّباع البشري مُنذ البِدء ولا يَزال، هُما في تَناحر وتَنازع، غير أنّ طابع الشرّ يَؤول لا مَحالة إلى الندمِ والخُسران في نهاية المـَطاف.

ولا عَجَبَ إذ كان الطابعانِ قد تَمثّلا في ابني آدم يومذاك، كما هو جارٍ في ذراريهما عِبر العُصور، والعاقبة للمتّقين.

حديث الطُوفان والسفينة

أمّا حديث الطُوفان والسفينة - الذي زَعَمه الأُستاذ خليل أنّه حديث أَساطير - فلعلّه نَظَر إلى ما أَورَدَه المفسّرون مِن خُرافات إسرائيليّة، شوَّهوا بها وجه القرآن الوَضيء، وقد تَكلَّمنا عن الطُوفان وأنّه حادث مَحلّي عَمَّ السَهل الذي كان يَعيشه قومُ نوح، وليس كما فَرَضَته التوراة مِن شُمولِ وجه الأرض كلِّها... وعلى ما قَرَّرنا وشَهِدت له دلائلٌ مِن القرآن ودَعَمه التأريخ، لم يكن أَمثال هذا الحادث غريباً عن طبيعة المناخ، ولا سيّما في السُهول المـُحاطة بمُرتَفعات تَهطُل منها السُّيُول الهائلة بين حين وآخر، ومنها حادث طُوفان نوح وقد تكلَّمنا عن ذلك بتفصيلٍ فراجع.

حديثُ عادٍ وثَمود وقومِ هود

وأمّا حكاية عادٍ وثَمود وقوم هود، والتي عدّها الأُستاذ من الفولكلور العربي القديم، فالذي يَجعلها مِن الفولكلور، هي الأساطير التي حِيكت حَولها في طُول المـُدّة، وحَسَب العادة عند القصّاصينَ، حيث لا يُقنِعُهم نَقلُ الحوادث بخالصتها ما لم يُصوِّروها في أشكالٍ غريبة هائلة، لتقعَ موضع إعجاب السامعينَ كُلّما بالَغوا في تَهويل الأحداث وزادوا في غَرابتِها.

الأمر الذي نَجِدُه في قصّة إرم عاد، والتي قَصَّها أعرابيٌ مجهولٌ هو عبد اللّه بن قلابة على عهد معاوية، كان قد ذَهب في طَلبِ أباعرٍ له شَرَدَت، فبينما هو يَتيه في ابتغائِها إذ

٤٥٤

اطَّلَع على مدينة عظيمة لها سُور وأَبواب، فَدَخلها فوَجَدها مبنيّةً بِلِبْنٍ من ذَهَبٍ ولِبْنٍ من فضّةٍ، قُصورُها ودُورُها وبَساتينُها وأنّ حصباءَها لآلئ وجواهر، وتُرابها بَنادق المِسك، وأَنهارُها سارحةٌ وثِمارُها ساقطةٌ... إلخ. قال ابن كثير: هذا كلّه مِن خُرافات الإسرائيليّين مِن وَضْعِ بعضِ زنادقتِهم؛ ليختبروا بذلك عُقول الجَهَلة من الناس.

قال: وهذه الحكاية لمْ تَصحّ ولو صَحَّ إسنادُها إلى ذلك الأعرابي فقد يكون اختلقَ ذلك أو أصابَه نوعٌ مِن الهَوَس والخَبَال... وعلى أيّة حال فهذا ممّا يُقطع بعدم صحته (1) .

أمّا الآيات من سورة الفجر: ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلاَدِ * وَثَمُودَ الّذِينَ جَابُوا الصّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الّذِينَ طغَوْا فِي الْبِلاَدِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبّ عَلَيْهِمْ رَبّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنّ رَبّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ) (2) .

فقد جَمَع اللّه في هذه الآيات القِصار مَصارع أقوى الجبّارينَ الّذين عَرَفهم التأريخ العربي القديم، مَصرع: (عاد إرم) وهي عاد الأُولى، وهُم مِن العَرب العارِبة أو البائدة (3) والتي أُبيدَت قَبل بُزوغ الإسلام، فكانوا ذلك العَهد حديثَ أمس الدابر وقد عفى عليهم الزمان ومحى جُلّ آثارهم.

وعادٌ جيلٌ من العرب كان مسكنهم بالأحقاف وهي كُثبان الرَّمل، في جنوبيّ الجزيرة بين حضرموت واليَمن، وكانوا بَدواً ذَوي خِيام تَقوم على عِمادٍ، وكانوا ذَوي قوّةٍ وبَطشٍ، وأَقوى قَبيلَةٍ في وقتها وأَميَزَها ( الّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلاَدِ ) في ذلك الأَوان.

قال أبو جعفر الطبري: وأَشبه الأَقوال والذي دَلَّ عليه ظاهرُ التنزيل أنّهم كانوا أَهلَ عُمُد سيّارة؛ لأنّ المعروف من كلام العرب مِن العِماد، ما عُمِد به الخِيام من الخَشب والسَّواري التي يُحمَل عليها البِناء، ولا يُعلم بِناء كان لهم بالعِماد بخبرٍ صحيحٍ، بل وجّه أَهلُ التأويل إلى أنّه عنى به طُولَ أَجسامهم، وبعضُهم إلى أنّه عنى به عِماد خِيامِهم، فأمّا عِماد البُنيان فلا يُعلم مِن أحد مِن أهل التأويل وجّهه إليه، وتأويل القرآن إنّما يُوجّه إلى

____________________

(1) راجع: تفسير ابن كثير، ج4، ص508.

(2) الفجر 89: 6 - 14.

(3) العرب البائدة أو العارِبة مِمَّن عُفيَت آثارهم قبل الإسلام، وهم: قبائل عاد وثمود والعمالقة وطسم وجديس وأميم وجرهم وحضرموت ومَن يتّصل بهم. دائرة القرن العشرين لفريد وجدي، ج6، ص232.

٤٥٥

الأَغلب الأَشهر مِن معانيه ما وُجِد إلى ذلك سبيل، دون الأَنكر (1) .

وأمّا إِرم فقد قِيل: إنّها قبيلةٌ تَفرَّعت مِن قومِ عادٍ، كما يُقال: تميم نهشل.

قال أبو جعفر الطبري: وأَشبه الأقوال بالصواب عندي أنّها اسم قبيلة مِن عاد؛ ولذلك جاءت القراءة بترك الإضافة، وهو رأي قتادة (2) .

وَيَرى المـُتأخّرونَ أنّ عاداً مِن القبائل الآراميّة؛ ولذلك سُمّو: عاد إرم، والعرب يَضربون المـَثَل بها في القِدَم (3) .

غير أَنّ اللغويّين فسّروا الإرَم بالعَلَم يُبنى من الحجارة وجَمعُه آرام، قال ابن الأثير: الآرام، الأعلام، وهي حِجارة تُجمَع وتُنصَب في المـَفازَةِ يُهتَدى بها، واحدها إرَم كعِنَب.

وكان من عادة الجاهليّة أنّهم إذا وَجَدوا شيئاً في طريقهم لا يُمكنهم استصحابه تركوا عليه حِجارةً يَعرفونه بها حتّى إذا عادوا أَخَذوه، وفي الحديث: (ما يُوجد في آرام الجاهليّة وَخَرِبِها فيه الخُمس) (4) .

والعِماد: البِناء الرفيع، جَمعُه عَمَد وعُمُد، واحدته عِمادَة.

وعليه فيكون معنى الآية: أنّهم كانوا يَبنون أَعلاماً رفيعةً ضَخمَةً؛ لغاية الصِيت والفَخار بحيث لم يَكد يُوجد لها مَثيل ذلك الأَوان.

وقد جاء التصريح بذلك في سورة الشعراء: ( أَتَبْنُونَ بِكُلّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبّارِينَ * فَاتّقُوا اللّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتّقُوا الّذِي أَمَدّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنّاتٍ وَعُيُونٍ... ) (5) .

والرِّيع: المـُرتَفع مِن الأرضِ، والظاهر أنّهم كانوا يَبنون فوقَ القِلال والمـُرتفعات بِنايات ضَخمة رفيعة بحيث تَبدو للناظرِ من بُعْدٍ كأنّه علامة، وكان القَصد هو التَفاخُر والتَطاول بالمـَقدِرة والمـَهارة؛ ومِن ثَمّ سمّاه عبثاً، ولو كان لهداية المـَارّة ومعرفةِ الاتّجاه ما

____________________

(1) جامع البيان، ج30، ص112 - 113.

(2) المصدر.

(3) دائرة معارف القَرن العشرين، ج6، ص232 - 233.

(4) النهاية لابن الأثير، ج1، ص40. جاء في حديث عبد اللّه بن عمرو بن العاص: أنّه سأل رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) عن الكنز يُوجد في الخَرِب وفي الآرام؟ فقال (صلّى اللّه عليه وآله): (فيه وفي الرِّكَاز الخُمس)، راجع: مسند أحمد، ج2، ص186.

(5) الشعراء 26: 128 - 134.

٤٥٦

قال لهم: ( تَعْبَثُونَ ) .

ويَبدو من قوله: ( وَتَتّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلّكُمْ تَخْلُدُونَ ) أنّ عاداً كانت قد بَلغت مِن الحضارة الصناعيّة مَبلَغاً يُذكر، حتّى لَتُتَّخذ المصانع لنَحتِ الجِبال وبِناء القُصور وتَشييد العلامات على المـُرتفعات، وحتّى لَيَجول في خاطِرِ القوم أنّ هذه المصانع وما يُنشِئُونه بوساطتها من البِنايات والقِلاع سوف يكفي لحمايتهم في سبيل الخلود، ووقايتهم مِن مؤثِّرات الجوّ ومن غَارات الأعداء...

كما يبدو من ظاهر التعابير الواردة في الآيات أنّ قوم عاد كانوا حَضَّراً لا قبائل رُحَّلاً، فيما حَسبه الطبري وغيره مِن المـُفسّرين، فقد كانت لهم مَباني ومَصانع وعيون وجنّات وأَعلام، وتلك مساكنهم كانت ظاهِرةً حتّى أَوان ظُهور الإسلام: ( وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَد تَبَيّنَ لَكُم مِن مَسَاكِنِهِمْ ) (1) .

أمّا مساكن عاد فبالأحقاف بين اليَمن وحضرموت كانت بمَرأى مِن العرب في رحلاتِهم الشتويّة إلى جنوبيّ الجزيرة، وكذا ثَمود كان مقامُها في الحَجَر المعروفة بمدائن صالح بين المدينة وتبوك، وقد قَطعَت الصخرَ وشيّدته قصوراً، كما نَحَتَت الجِبال ملاجئ ومَغارات وبَقيت مَشهودةً لدى العرب في رحلاتِهم الصيفيّة إلى شماليّ الجزيرة.

واقتران ذِكر ثَمود مع عادٍ فلكونِهما معاً مِن أَجيالِ العرب البائِدة، والباقيةِ آثارها حتّى حين وفي مُنتهى رحلتي الشِّتاء والصيف، على أنّ المـُؤرِّخينَ ذَكَروا أنّ ثَمود كانت تَسكن جنوبيّ الجزيرة بجِوار قومِ عادٍ، فلمـّا مَلَكَت حِمْيَر أَخرجوهم إلى تيماء الحجاز.

وذكر صاحب كتاب فُتوح الشام أنّ ثَمودَ مَلأَوا الأرض بين بُصْرَى وعَدَن! فلعلّها كانت في طريق هِجرتِها نحو الشمال، كما ذَكَر جرجي زيدان (2) .

وفي دائرة المعارف المـُتَرجَمة: (ثَمود قومٌ مِن العرب الأَقدمينَ بادوا قَبَل ظُهور النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) مَثَلُهم في ذلك مَثَل عاد...) (3) .

____________________

(1) العنكبوت 29: 38.

(2) العرب قبل الإسلام لجرجي زيدان، ص77 - 78.

(3) دائرة المعارف الإسلاميّة المـُتَرجَمة، ج6، ص210.

٤٥٧

قلت: يَبدو من ظاهر تعبير القرآن أنّ ثَمود كانوا قَريبي عَهدٍ بعادٍ ومسكنهم - قبل مغادرة البلاد - بقُرب مساكنهم وعلى معرفة من أحوالهم وما حلّ بهم من سوء العُقبى:

قال تعالى: ( وَإِلَى‏ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللّهَ مَا لَكُمْ مِن إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيّنَةٌ مِنْ رَبّكُمْ هذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاَءَ اللّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ... ) (1) .

وقد عَثَر المـُنقَّبون على كثيرٍ من آثارِ قوم ثَمود بديار حجر وبقايا وكِتابات غنّية بإثبات حضارة تلك الأقوام البائِدة (2) والتي ذَكَرها القرآن بإتقان، وليس أَخْذَاً مِن أفواه العرب من غير أساس، كما حسبه الأُستاذ خليل عبد الكريم وزملاؤه مِن أصحاب الفكر الإسلامي الحديث!

ناقة صالح!

أمّا ناقة صالح فقد جاء وَصْفُها في القرآن بأنّها معجزةٌ، صَاحَبَتْ دعوةَ صالح حين طَلَبَها قومُه للتصديق: ( قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً ) (3) وهكذا طَلَبت ثَمود تلك الخارِقة فاستجاب الله لعبده صالح وأَعطاه هذه الخارِقة في صورة ناقة، ولا يَذكر تفصيلاً عنها سِوى كونها بيّنةً من ربّهم وأنّها ناقة الله وفيها آية منه.

قال سيد قطب: ومِن هذا الإسناد نَستلهم أنّها كانت ناقةً غير عاديّة، أو أنّها أُخرِجت لهم إخراجاً غير عاديّ ممّا يَجعلها بيّنةً من ربّهم وممّا يجعل نَسْبتَها إلى الله ذات معنى، ويَجعلها آيةً على صدقِ نبوّته، ولا نَزيد على هذا شيئاً ممّا لم يَرِد ذِكره من أَمرها في هذا المصدر المـُستَيقَن، قال: ولا

____________________

(1) الأعراف 7: 73 - 74.

(2) دائرة المعارف الإسلاميّة المـُتَرجَمة، ج 7، ص 319، والعرب قبل الإسلام، ص 78.

(3) الأعراف 7: 73.

وصِيغةُ الطَلبِ جاءت في سورة الشعراء 26: 153 - 154 ( قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * مَا أَنْتَ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) .

٤٥٨

نَخوض في وَصْفِها كما خاضَ المـُفسّرون القُدامى؛ لأنّه ليس لدينا سندٌ صحيحٌ نَعتمد عليه في هذا الوَصْف، فنكتفي بأنّها كانت خارِقةً كما طَلبت ثَمود (1) .

نعم جاءت الإشارة إلى جانب خارِقيّتِها بشأن قِسْمَة الماء بينهم وبينها: ( إِنّا مُرْسِلُوا النّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ * وَنَبّئْهُمْ أَنّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ ) (2) ، ( قَالَ هذِهِ نَاقَةٌ لّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مّعْلُومٍ * وَلاَ تَمَسّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيم ) (3) ، قال الحسن: كانت ناقةً من النُوق، وكان وجه الإعجاز فيها أنّها كانت تَشرب ماءَ الوادي كلّه في يومٍ (4) ، وهو ماء ٌمعيّنٌ كان مُخَصَّصاً للشُرب كما سَنَذكر.

هذا جُلّ وَصْفِ تلك الناقة الخارِقة حَسبما جاء إجماليّاً في هذا المـَصدر الوثيق، أمّا كيف أُخرِجت الناقة، وكيف كان إرسالُها تأَكل في أرضِ الله بِلا أنْ تتعرّض لسوءٍ، وكيف كانت قِسْمَة الماء بينها وبين القوم، والماء لديهم كثير ( أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ * فِي جَنّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ... ) ؟! (5) .

قال الشيخ مُحمّد عَبده - ما مُلخّصه -: دلَّ مجموعُ الآيات على أنّ آيةَ الله في الناقة أنْ لا يَتعرّض لها أحدٌ مِن القَوم بسوءٍ في نفسها، ولا في أَكلها ولا في شُربها، وأنّ ماءَ ثَمود قِسْمَة بينهم وبين الناقة؛ إذ كان الماءُ قليلاً، فكانوا يَشربونه يوماً وتَشربه هي يوماً، ورُوي أنّهم كانوا يَستعيضونَ عنه في يومِها بِدَرِّ لبنِها الوفير، وهي آية لهم!

ولعلّ الماء كان مُعيّناً خاصّاً لشُربهم دون سَقي الأرض والمواشي؛ إذ ذُكِر في سورة القمر مُعرَّفاً بلام العهد: ( وَنَبّئْهُمْ أَنّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ ) ، وفي الحديث: أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) دلَّ المسلمينَ على البِئر التي كانت تَشرب منها الناقة حين مَرّوا بديار ِقومِ صالح في غزوة تَبوك، وأَمَرهم أنْ يَستَقوا منها ويُهَرِيقوا ما استَقَوا من غيرها من تلك الآبار، قال العلماء: وقد عَلِمَها بالوحي (6) .

____________________

(1) راجع: في ظِلال القرآن، ج 8، ص 212 وج 19، ص 92.

(2) القمر 54: 27 - 28.

(3) الشعراء 26: 156 - 157.

(4) مجمع البيان، ج 4، ص 440.

(5) الشعراء 26: 146 - 148.

(6) راجع: تفسير المنار، ج 8، ص 502 - 503، وشَطَب على ما وَرَد في الروايات مِن أَوصافٍ في خَلق الناقة وفصيلِها

٤٥٩

حديث سدوم!

كان أهلُ سدوم وهم قومُ لوط ذَوي أَخلاقٍ رديئةٍ لا يَتَعفَّفون مِن مُنكَرٍ يَأتونه على رؤوس الأشهاد، كما قال تعالى على لسان لوط وهو يَعِظُهم ويُؤنِّبُهم: ( وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ ) (1) وقد شَاعتْ عنهم المـُنكَرات وارتكاب الفواحش والمـَظالم بحيث سارت بها الرُكبان وضُرِب بهم المـَثَلُ في كلِّ عمل قبيح.

جاء في بعض كُتب الأدب العِبري: أنّ سارة زوج إبراهيم أَرسَلَت إلى لعازر كبير عبيد إبراهيم ليَأتيها بسلامة لوط، فلمـّا دَخَل مدينةَ سدوم لَقيَه رجلٌ مِن أَهلها فَعَمَد إلى لعازر بحَجَرٍ ضَرَبه به في رأسه فأَسال منه الدّم، ثُمّ تَعلّق به الرجل قائلاً: إنّ هذا الدّم لو بَقيَ في بدنِك لأَضرّك، فقد نَفَعتُك بإخراجه، فأَعطني أَجري! فتَرافعا إلى القاضي فَحَكم على لعازر بإدانته الأَجر، فلمـّا رأى لعازر ذلك من القاضي، عَمَدَ إلى حَجَرٍ فَضَرب به رأسَه وأسالَ دمَه وقال له: الأَجر الذي وَجَبَ لي عليك بإسالةِ دمِك، ادفَعه إلى ضاربي جزاءً لضربه إيّاي، وإلى ذلك يُشير المـَعرّي:

وأَيُّ اِمرِئٍ في الناسِ أُلفيَ قاضِياً

ولمْ يَمضِ أَحكاماً لِحُكمِ سَدوم (2)

فلمـّا أنْ طغى عِصيانُهم وجاوزوا الحدَّ أَخَذَهم العذابُ ودُمِّروا تَدميراً، سُنَّة الله جَرَت في الخَلق، وقد أَكّد عليه القرآن، وليس عن صدفة كما زَعَمه أصحاب الفكر الإسلامي الحديث! قال تعالى: ( فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ ) (3) ، ذَكَر ذلك تعالى بعد أَنّ قَصَّ حديثَ قومِ نوحٍ وعادٍ وثَمود، وقوم إبراهيم وقوم لوط، وأصحاب مَديَن وفرعون وموسى ( فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ) (4) .

وتلك خرائب قُرى لوط (بأَرض فلسطين - على ضِفاف البحر الميّت) لم تَزَلْ

____________________

وتفاصيل لم يَصحّ شيء منها بل وآثار الوَضْع والمـُبالغة فيها لائحة! والحديث رواه البخاري في كتاب الأنبياء من جامعه، ج 4، ص 181، باب ما وَرَد في ثَمود.

(1) العنكبوت 29: 29.

(2) راجع: قَصَص الأنبياء للنجّار، ص 112.

(3) الحج 22: 45.

(4) الحج 22: 44.

٤٦٠

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578