شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم10%

شبهات وردود حول القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 578

شبهات وردود حول القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 578 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 297549 / تحميل: 13676
الحجم الحجم الحجم
شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

الموقف التاسع:

شروطهعليه‌السلام على المأمون لقبول ولاية العهد، وهي:

((أن لا يولي أحداً، ولا يعزل أحداً، ولا ينقض رسماً، ولا يغير شيئاً مما هو قائم، ويكون في الأمر مشيراً من بعيد)) (١) ، فأجابه المأمون إلى ذلك كله!!!.

وفي ذلك تضييع لجملة من أهداف المأمون.. إذ إن:

١ ـ السلبية تعني الاتهام:

فإن من الطبيعي أن تثير سلبيته هذه الكثير من التساؤلات لدى الناس، ولسوف تكون سبباً في وضع علامات استفهام كبيرة، حول الحكم، والحكام. وكل أعمالهم وتصرفاتهم، إذ إن السلبية إنما تعني: أن نظام الحكم لا يصلح حتى للتعاون معه، بأي نحو من أنحاء التعاون، وإلا فلماذا يرفض ـ حتى ولي العهد ـ التعاون مع نظام هو ولي العهد فيه، ويأبى التأييد لأي من تصرفاته وأعماله؟!.

____________

(١) الفصول المهمة، لابن الصباغ المالكي ص ٢٤١، ونور الأبصار من ص ١٤٣، وعيون أخبار الرضا ج ١ ص ٢٠، و ج ٢ ص ١٨٣، ومواضع أخرى، ومناقب آل أبي طالب ج ٤ ص ٣٦٣، وعلل الشرايع ج ١، ص ٢٣٨، وإعلام الورى ص ٣٢٠، والبحار ج ٤٩ ص ٣٤ و ٣٥، وغيرها، وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٩، وإرشاد المفيد ص ٣١٠، وأمالي الصدوق ص ٤٣، وأصول الكافي ص ٤٨٩، وروضة الواعظين ج ١ ص ٢٦٨، ٢٦٩، ومعادن الحكمة ص ١٨٠، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٦٥.

٣٠١

٢ ـ رفض الاعتراف بشرعية ذلك النظام:

ولقد قدمنا: أن من جملة أهداف المأمون هو أن يحصل من الإمامعليه‌السلام على اعتراف ضمني بشرعية حكمه وخلافته، كما صرح هو نفسه بذلك (وليعترف بالملك، والخلافة لنا).

والإمام.. بشروطه تلك يكون قد رفض الاعتراف بشرعية النظام القائم. بأي نحو من أنحاء الاعتراف، ولم يعد قبوله بولاية العهد يمثل اعترافا بذلك، ولا يدل على أن ذلك الحكم يمثل الحكم الإسلامي الأصيل.

هذا.. وقد عضد شروطه هذه، بسلوكه السلبي مع المأمون، والهيئة الحاكمة، طيلة فترة ولاية العهد، يضاف إلى ذلك تصريحاته المتكررة، التي تحدثنا عنها فيما سبق.

٣ ـ النظام القائم لا يمثل وجهة نظره في الحكم:

والأهم من كل ذلك: أن شروطه هذه كانت بمثابة الرفض القاطع لتحمل المسؤولية عن أي تصرف يصدر من الهيئة الحاكمة. وليس للناس ـ بعد هذا ـ أن ينظروا إلى تصرفات وأعمال المأمون وحزبه، على أنها تحظى برضى الإمامعليه‌السلام وموافقته. ولا يمكن لها ـ من ثم ـ أن تعكس وجهة نظرهعليه‌السلام في الحكم ورأيه في أساليبه، التي هي في الحقيقة وجهة نظر الإسلام الصحيح فيه. الإسلام.. الذي يعتبر الأئمةعليه‌السلام الممثلين الحقيقيين له، في سائر الظروف، ومختلف المجالات..

وانطلاقاً مما تقدم: نراهعليه‌السلام يرفض ما كان يعرضه عليه المأمون، من: كتابة بتولية أو عزل إلى أي إنسان.. ويرفض أيضاً: أن يؤم الناس في الصلاة مرتين.. إلى آخر ما سيأتي بيانه.

وفي كل مرة كان يرفض فيها مطالب المأمون هذه نراه يحتج عليه بشروطه تلك، فلا يجد المأمون الحيلة لما يريده، وتضيع الفرصة من يده، ولا بد من ملاحظة: أنه عندما أصر عليه المأمون بأن يؤم الناس في الصلاة، ورأىعليه‌السلام : أنه لا بد له من قبول ذلك ـ نلاحظ ـ: أنه اشترط عليه أن يخرج كما كان يخرج جده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا كما يخرج الآخرون..

٣٠٢

ولم يكن المأمون يدرك مدى أهمية هذا الشرط، ولا عرف أهداف الإمام من وراء اشتراطه هذا، فقال له ولعله بدون اكتراث: أخرج كيف شئت.. وكانت نتيجة ذلك.. أنهعليه‌السلام قد أفهم الناس جميعاً:

أن سلوكه وأسلوبه، وحتى مفاهيمه، تختلف عن كل أساليب ومفاهيم وسلوك الآخرين. وأن خطه هو خط محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومنهاجه هو منهاج عليعليه‌السلام ، ربيب الوحي، وغذي النبوة، وليس هو خط المأمون وسواه من الحكام، الذين اعتاد الناس عليهم، وعلى تصرفاتهم وأعمالهم.

ولم يعد يستطيع المأمون، أن يفهم الناس: أن الحاكم: من كان، ومهما كان، هذا هو سلوكه، وهذه هي تصرفاته. وأن كل شخصية: من ومهما كانت، وإن كانت قبل أن تصل إلى الحكم تتخذ العدل، والحرية: والمساواة، وغير ذلك شعارات لها، إلا أنها عندما تصل إلى الحكم، لا يمكن إلا أن تكون قاسية ظالمة، مستأثرة بكل شيء، ومستهترة بكل شيء، ولذا فليس من مصلحة الناس أن يتطلعوا إلى حكم أفضل مما هو قائم، حتى ولو كان ذلك هو حكم الإمامعليه‌السلام المعروف بعلمه وتقواه وفضله الخ.. فضلاً عن غيره من العلويين أو من غيرهم ـ لم يعد يستطيع أن يقول ذلك ـ لأن الواقع الخارجي قد أثبت عكس ذلك تماماً، إذ قد رأينا: كيف أن الإمامعليه‌السلام بشروطه تلك، وبسائر مواقفه من المأمون ونظام حكمه.. يضيع على المأمون هذه الفرصة، ولم تجده محاولاته فيما بعد شيئاً، بل إن كثيراً منها كان سوءا ووبالاً عليه، كما سيأتي.

٤ ـ لا مجال بعد للمأمون لتنفيذ مخططاته:

ولعل من الواضح: أن شروطه تلك قد مكنته من أن يقطع الطريق على المأمون، ولا يمكنه من استغلال الظروف لتنفيذ بقية حلقات مؤامرته، إذ لم يعد بإمكانه أن يصر على الإمام أن يقوم بأعمال تنافي وتضر بقضيته هو، وقضية العلويين، ومن ثم تؤثر على الأمة بأسرها.. وعدا عن ذلك فإن هذه الشروط، قد حفظت لهعليه‌السلام حياته في حمام سرخس، حيث كان المأمون قد حاك مؤامرته للتخلص من وزيره وولي عهده مرة واحدة، كما سيأتي بيانه.. مما يعني أن سلبيتهعليه‌السلام مع النظام كانت أمراً لابد منه، إذا أراد أن لا يعرض نفسه إلى مشاكل، وأخطار هو في غنى عنها.. والذي أمن له هذه السلبية ليس إلا شروطه تلك، التي جعلت من لعبة ولاية العهد لعبة باهتة مملة لا حياة فيها، ولا رجاء..

٣٠٣

ولعل الأهم من كل ذلك.. أنها ضيعت على المأمون الكثير من أهدافه من البيعة، التي صرح الإمامعليه‌السلام أنه كان عارفاً بها، ولم يكن له خيار في تحملها، والصبر عليها، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

وعدا عن ذلك كله أن تعاونه مع النظام إنما يعني أن يحاول تصحيح السلوك، وتلافي الأخطاء، التي كان يقع فيها الحكم، والهيئة الحاكمة. وذلك معناه أن ينقلب جهاز الحكم كله ضد الإمام، ويجد المأمون ـ من ثم ـ العذر، والفرصة لتصفيتهعليه‌السلام من أهون سبيل، فشروطه تلك أبعدت عنه الخطر ـ إلى حد ما ـ الذي كان يتهدده من قبل المأمون وأشياعه، وجعلته ـ كما قلنا ـ في منأى ومأمن من كل مؤامراتهم ومخططاتهم.

٥ ـ الإمام.. لا ينفذ إرادات الحكم:

ولعل من الأهمية بمكان.. أن نشير إلى أنهعليه‌السلام كان يريد بشروطه تلك أن يفهم المأمون: أنه ليس على استعداد لتنفيذ إرادات الحكم، والحاكم، ولا على استعداد لأن يقتنع بالتشريفات، والأمور الشكلية، فإنه.. بصفته القائد والمنقذ الحقيقي للأمة، لا يمكن أن يرضى بديلاً عن أن ينقذ الأمة، ويرتفع بها من مستواها الذي أوصلها إليه الطواغيت والظلمة، الذين جلسوا في مكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأوصيائهعليهم‌السلام ، وحكموا بغير ما أنزل الله.

إنه يريد أن يخدم الأمة، ويحقق لها مكاسب تضمن لها الحياة الفضلى، والعيش الكريم، ولا يريد أن يخدم نفسه، ويحقق مكاسب شخصيته على حساب الآخرين، ولذلك فهو لا يستطيع أن يقتنع بالسطحيات والشكليات التي لا تسمن، ولا تغني من جوع..

٦ ـ لا زهد أكثر من هذا:

إنه مضافاً إلى أن مجرد رفض الإمام كلا عرضي المأمون: الخلافة، وولاية العهد، دليل قاطع على زهده فيه. فإن هذه الشروط كان لها عظيم الفائدة، وجليل الأثر في الإظهار لكل أحد أن الإمام ليس رجل دنيا، ولا طالب جاه ومقام. وما أراده المأمون من إظهار الإمام على أنه لم يزهد بالدنيا، وإنما الدنيا هي التي زهدت فيه.. لم يكن إلا هباء اشتدت به الريح في يوم عاصف.. ولم تفلح بعد محاولات المأمون وعمله الدائب، من أجل تشويه الإمام والنيل من كرامته.

٣٠٤

ولقد قدمنا: أن الإمامعليه‌السلام قد واجه نفس المأمون بحقيقة نواياه، وأفهمه أن خداعه لن ينطلي عليه، ولن تخفى عليه مقاصده، ولذا فإن من الأفضل والأسلم له أن يكف عن كل مؤامراته ومخططاته.. وإلا فإنه إذا ما أراد إجبار الإمام على التعاون معه، فلسوف يجد أنهعليه‌السلام على استعداد لفضحه، وكشف حقيقته وواقعه أمام الملأ، وإفهام الناس السبب الذي من أجله يجهد المأمون ليزج بالإمامعليه‌السلام في مجالات لا يرغب، بل واشترط عليه أن لا يزج فيها ـ كما فعل في مناسبات عديدة ـ الأمر الذي لن يكون أبداً في صالح المأمون، ونظام حكمه..

ومن هنا رأيناهعليه‌السلام يجيب الريان عندما سأله عن سر قبوله بولاية العهد، وإظهاره الزهد بالدنيا ـ يجيبه ـ: ببيان أنه مجبر على هذا الأمر، ويذكره بالشروط هذه، التي يعني أنه قد دخل فيه دخول خارج منه، كما تقدم..

وهكذا.. وبعد أن كانعليه‌السلام سلبياً مع النظام، وبعد رفضه لكلا عرضي المأمون، وبعد أن اشترط هذه الشروط للدخول في ولاية العهد، فليس من السهل على المأمون، ولا على أي إنسان آخر أن ينسب إليهعليه‌السلام : أنه رجل دنيا فقط، وأنه ليس زاهدا في الدنيا، وإنما هي التي زهدت فيه.

وعلى كل حال: ورغم كل محاولات المأمون تلك.. فقد استطاع الإمامعليه‌السلام ، بفضل وعيه، ويقظته، وإحكام خطته: أن يبقى القمة الشامخة للزهد، والورع، والنزاهة، والطهر، وكل الفضائل الإنسانية، وإلى الأبد.

الموقف العاشر:

موقفهعليه‌السلام في صلاتي العيد.. ففي إحداهما:

(بعث المأمون له يسأله: أن يصلي بالناس صلاة العيد، ويخطب، لتطمئن قلوب الناس، ويعرفوا فضله، وتقر قلوبهم على هذه الدولة المباركة، فبعث إليه الرضاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال:((قد علمت ما كان بيني وبينك من الشرط في دخولي في هذا الأمر، فأعفني من الصلاة بالناس، فقال المأمون: إنما أريد بهذا أن يرسخ في قلوب العامة، والجند، والشاكرية هذا الأمر، فتطمئن قلوبهم، ويقروا بما فضلك الله تعالى به..

٣٠٥

ولم يزل يراده الكلام في ذلك. فلما ألح عليه قال:يا أمير المؤمنين، إن أعفيتني من ذلك، فهو أحب إلي، وإن لم تعفني خرجت كما كان يخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكما خرج أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام )) قال المأمون: أخرج كيف شئت..

وأمر المأمون القواد، والحجاب، والناس: أن يبكروا إلى باب أبي الحسنعليه‌السلام ، فقعد الناس لأبي الحسن في الطرقات، والسطوح: من الرجال، والنساء، والصبيان، وصار جميع القواد، والجند إلى بابهعليه‌السلام ، فوقفوا على دوابهم حتى طلعت الشمس.

فلما طلعت الشمس قام الرضاعليه‌السلام فاغتسل، وتعمم بعمامة بيضاء من قطن، وألقى طرفاً منها على صدره، وطرفاً بين كتفيه، ومس شيئاً من الطيب، وتشمر. ثم قال لجميع مواليه:((افعلوا مثل ما فعلت)) .

ثم أخذ بيده عكازة، وخرج، ونحن بين يديه، وهو حاف قد شمر سراويله إلى نصف الساق، وعليه ثياب مشمرة..

فلما قام، ومشينا بين يديه، رفع رأسه إلى السماء، وكبر أربع تكبيرات، فخيل إلينا: أن الهواء والحيطان تجاوبه، والقواد والناس على الباب، قد تزينوا، ولبسوا السلاح، وتهيئوا بأحسن هيئة..

فلما طلعنا عليهم بهذه الصورة: حفاة، قد تشمرنا. وطلع الرضا وقف وقفة على الباب، وقال:((.. الله أكبر، الله أكبر على ما هدانا، الله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام، والحمد لله على ما أبلانا)) . ورفع بذلك صوته، ورفعنا أصواتنا.

فتزعزعت مرو بالبكاء، فقالها: ثلاث مرات، فلما رآه القواد والجند على تلك الصورة، وسمعوا تكبيره سقطوا كلهم من الدواب إلى الأرض، ورموا بخفافهم، وكان أحسنهم حالاً من كان معه سكين قطع بها شرابة جاجيلته ونزعها، وتحفى.. وصارت مرو ضجة واحدة، ولم يتمالك الناس من البكاء والضجة.

فكان أبو الحسن يمشي، ويقف في كل عشر خطوات وقفة يكبر الله أربع مرات: فيتخيل إلينا: أن السماء، والأرض، والحيطان تجاوبه.

وبلغ المأمون ذلك، فقال له الفضل بن سهل ذو الرئاستين: يا أمير المؤمنين: إن بلغ الرضا المصلى على هذا السبيل افتتن به الناس، وخفنا كلنا على دمائنا، فالرأي أن تسأله أن يرجع..

٣٠٦

فبعث المأمون إلى الإمام يقول له: إنه قد كلفه شططا، وأنه ما كان يحب أن يتعبه، ويطلب منه: أن يصلي بالناس من كان يصلي بهم..

فدعا أبو الحسن بخفه، فلبسه، ورجع.

واختلف أمر الناس في ذلك اليوم، ولم ينتظم في صلاتهم إلخ..)(١) .

ولقد قال البحري يصف هذه الحادثة والظاهر أنه يمين بن معاوية العائشي الشاعر على ما في تاج العروس:

ذكـروا بطلعتك النبي، فهللوا

لما طلعت من الصفوف وكبروا

حتى انتهيت إلى المصلى لابساً

نـور الهدى يبدو عليك فيظهر

ومـشيت مشية خاشع متواضع

لـله، ولا يـزهى، ولا يـتكبر

ولـوان مـشتاقا تكلف غير ما

في وسعه لمشى إليك المنبر(٢)

ومما يلاحظ هنا: أنه في هذه المرة أرسل إليه من يطلب منه أن يرجع. ولكننا في مرة أخرى نراه يسارع بنفسه، ويصلي بالناس، رغم تظاهره بالمرض..

وعلى كل حال.. فإننا وإن كنا قد تحدثنا في هذا الفصل، وفي فصل: ظروف البيعة وسنتحدث فيما يأتي عن بعض ما يتعلق بهذه الرواية، إلا أننا سوف نشير هنا إلى نقطتين فقط.. وهما:

١ ـ الأثر العاطفي، والقاعدة الشعبية:

فنلاحظ: أننا حتى بعد مرور اثني عشر قرنا على هذه الواقعة، لا نملك أنفسنا ونحن نقرأ وقائعها، من الانفعال والتأثر بها، فكيف إذن كانت حال أولئك الذين قدر لهم أن يشهدوا ذلك الموقف العظيم؟!.

____________

(١) قد ذكرنا بعض مصادر هذه الرواية في فصل: ظروف البيعة.. فراجع..

(٢) مناقب آل أبي طالب. لابن شهر آشوب ج ٤ ص ٣٧٢، ولكن هذا الشعر ينسب أيضاً للبحتري في المتوكل عندما خرج لصلاة العيد.. وانتحال الشعر، وكذلك الاستشهاد بشعر الآخرين، في المواضع المناسبة ظاهرة شائعة في تلك الفترة ومن يدري فلعل الشعر للبحتري ونسب للبحري أو لعله للبحري وانتحله أو نسب للبحتري، ولعل البحتري قد صحف وصار: البحري.. ولعل العكس.

٣٠٧

وغني عن البيان هنا: أن شأن هذه الواقعة هو شأن واقعة نيشابور، من حيث دلالتها دلالة قاطعة على كل ما كان للرضا من عظمة وتقدير في نفوس الناس وقلوبهم، وعلى مدى اتساع القاعدة الشعبية لهعليه‌السلام ..

٢ ـ لماذا يجازف المأمون بإرجاعهعليه‌السلام :

وإذا كان هدف المأمون من الإصرار على الإمام بأن يصلي بالناس هو أن يخدع الخراسانيين والجند والشاكرية، ويجعلهم يطمئنون على دولته المباركة فإنه من الواضح أيضاً أن إرجاع المأمون للإمامعليه‌السلام في مثل تلك الحالة، وذلك التجمع الهائل، وتلك الثورة العاطفية في النفوس، كان ينطوي على مجازفة ومخاطرة لم تكن لتخفى على المأمون، وأشياعه، حيث لا بد وأن يثير تصرفه هذا حنق تلك الجماهير التي كانت في قمة الهيجان العاطفي، ويؤكد كراهيتها له.. وعلى الأقل لن تكون مرتاحة لتصرفه هذا على كل حال.

وبعد هذا.. فإنه إذا كان المأمون يخشى من مجرد إقامة الإمام للصلاة.. فلا معنى لأن يلح عليه هو بقبولها.. وكذلك لا معنى لأن يخشى ذلك الهيجان العاطفي، وتلك الحالة الروحية، التي أثارها فعل الإمامعليه‌السلام وتصرفه في هذا الموقف.. فذلك إذن ما لم يكن يخافه ويخشاه.. فمن أي شيء خاف المأمون إذن؟! إنه كان يخشى ما هو أعظم وأبعد أثراً، وأشد خطراً.. إنه خشي من أن الرضا إذا ما صعد المنبر، وخطب الناس، بعد أن هيأهم نفسيا، وأثارهم عاطفيا إلى هذا الحد ـ خشي ـ أن يأتي بمتمم لكلامه الذي أورده في نيشابور:((وأنا من شروطها..)) وأنه ظهر إليهم على الهيئة التي كان يخرج عليها النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ووصيه عليعليه‌السلام وهو أمر جديد عليهم.. ما من شأنه أن يجعل المأمون وأشياعه لا يأمنون بعد على أنفسهم، كما ذكر الفضل بن سهل.. ولسوف يحول الإمام مرواً من معقل للعباسيين والمأمون، وعاصمة، وحصن قوي لهم ضد أعدائهم ـ من العرب وغيرهم ـ سوف يحولها إلى حصن لأعداء العباسيين والمأمون، حصن لأئمة أهل البيت. ففضل المأمون: أن يختار إرجاعهعليه‌السلام عن الصلاة، لأنه رأى أن ذلك هو أهون الشرين، وأقل الضررين..

ولقد جرب المأمون الرضا أكثر من مرة، وأصبح يعرف أنه مستعد لأن يعلن رأيه صراحة في أي موقف تؤاتيه فيه الفرصة، ويقتضي الأمر فيه ذلك. ولم ينس بعد موقفه في نيشابور، ولا ما كتبه في وثيقة العهد، ولا غير ذلك من مواقفهعليه‌السلام وتصريحاته في مختلف الأحوال والظروف..

٣٠٨

الموقف الحادي عشر:

وأخيراً.. فقد كان سلوك الإمامعليه‌السلام العام، سواء بعد عقد ولاية العهد له، أو قبلها. يمثل ضربة لكل خطط المأمون ومؤامراته، ذلك السلوك المثالي، الذي لم يتأثر بزبارج الحكم وبهارجه.. ويكفي أن نذكر هنا ما وضعه به إبراهيم بن العباس، كاتب القوم وعاملهم، حيث قال: (ما رأيت أبا الحسن جفا أحداً بكلامه قط، وما رأيته قطع على أحد كلامه حتى يفرغ منه. وما رد أحداً عن حاجة يقدر عليها، ولا مد رجليه بين يدي جليس له قط. ولا اتكأ بن يدي جليس له قط، ولا شتم أحداً من مواليه ومماليكه قط، ولا رأيته تفل قط، ولا رأيته يقهقه في ضحكه قط، بل كان ضحكه التبسم. وكان إذا خلا، ونصبت مائدته أجلس معه على مائدته مماليكه، حتى البواب والسائس.

وكان قليل النوم بالليل، يحيى أكثر لياليه من أولها إلى الصبح. وكان كثير الصيام، فلا يفوته صيام ثلاثة أيام في الشهر، ويقول:((ذلك صوم الدهر)) . وكان كثير المعروف والصدقة في السر، وأكثر ذلك يكون منه في الليالي المظلمة، فمن زعم أنه رأى مثله في فضله، فلا تصدقوه..)(١) .

وهذه الصفات بلا شك قد أسهمت إسهاماً كبيراً في أن يكون الإمامعليه‌السلام هو الأرضى في الخاصة والعامة، وأن تنفذ كتبه في المشرق والمغرب، إلى غير ذلك مما تقدم..

الحكم ليس امتيازاً وإنما هو مسؤولية:

وقد اعترض عليه بعض أصحابه، عندما رآه يأكل مع خدمه وغلمانه، حتى البواب والسائس، فأجابهعليه‌السلام :((مه، إن الرب تبارك وتعالى واحد، والأم واحدة، والأب واحد، والجزاء بالأعمال..)) (٢) .

وقال له أحدهم: أنت والله خير الناس، فقال له الإمام:((لا تحلف يا هذا، خير مني من كان أتقى لله تعالى. وأطوع له، والله ما

____________

(١) كلام إبراهيم بن العباس هذا معروف ومشهور، تجده في كثير من كتب التاريخ والرواية، ولذا فلا نرى أننا بحاجة إلى تعداد مصادره.

(٢) البحار ج ٤٩ ص ١٠١، والكافي الكليني، ومسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٦.

٣٠٩

نسخت هذه الآية: ( وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ.. ) )) (١) .

وقال لإبراهيم العباسي إنه لا يرى أن قرابته من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تجعله خيراً من عبد أسود، إلا أن يكون له عمل صالح فيفضله به(٢) .

وقال رجل له: ما على وجه الأرض أشرف منك إباء. فقال:((التقوى شرفتهم، وطاعة الله أحظتهم))( ٣) .

وما نريد أن نشير إليه ونؤكد عليه هنا، هو أنهعليه‌السلام يريد بذلك أن يفهم الملأ: أن الحكم لا يعطي للشخص ـ من كان، ومهما كان ـ امتيازاً، ولا يجعل له من الحقوق ما ليس لغيره، وإنما الامتياز ـ فقط ـ بالتقوى والفضائل الأخلاقية.. وكل شخص حتى الحاكم سوف يلقى جزاء أعماله: إن خيراً فخير، وإن شرا فشر، وعليه فما يراه الناس من سلوك الحكام، ليس هو السلوك الذي يريده الله، وتحكم به النواميس الأخلاقية، والإنسانية. والامتيازات التي يجعلونها لأنفسهم، ويستبيحون بها ما ليس من حقهم لا يقرها شرع، ولا يحكم بها قانون..

وبكلمة مختصرة: إن الإمامعليه‌السلام يرى: أن الحكم ليس امتيازاً، وإنما هو مسؤولية.

وعلى كل حال.. فإن سلوك الإمامعليه‌السلام ، لخير دليل على ما كان يتمتع به من المزايا الأخلاقية، والفضائل النفسية.. ويكفي أنه لم يظهر منهعليه‌السلام طيلة الفترة التي عاشها في الحكم إلا ما ازداد به فضلاً بينهم، ومحلاً في نفوسهم، على حد تعبير أبي الصلت. وعلى حد تعبير شخص آخر: أقام بينهم لا يشركهم في مأثم من مآثم الحكم.. بل لقد كان لوجوده أثر كبير في تصحيح جملة من الأخطاء والانحرافات التي اعتادها الحكام آنئذٍ.. حتى لقد استطاع أن يؤثر على نفس المأمون، ويمنعه من الشراب والغناء، طيلة الفترة التي عاشها معه، إلى آخر ما هنالك، مما لسنا هنا في صدد تتبعه واستقصائه.

____________

(١) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٦، ومسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٦.

(٢) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٧.

(٣) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٦. ومسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٦.

٣١٠

وفي نهاية المطاف نقول:

وحسبنا هنا ما ذكرنا من الأمثلة، التي نحسب أنها تكفي لأن تلقي ضوءاً كاشفاً على الخطة التي اتبعها الإمامعليه‌السلام في مواجهة خطط المأمون ومؤامراته.. تلك الخطة التي كانت تكفي لأن لا تبقى الصورة التي أرادها المأمون في أذهان الناس، ولا مبرر للشكوك لأن تبقى تراود نفوسهم.

ولقد نجحت تلك الخطة نجاحا أذهل المأمون، وأعوانه، وجعلهم يتصرفون بلا روية، ويقعون بالمتناقضات.. حتى لقد أشرف المأمون منه على الهلاك. حسبما صرح به المأمون نفسه. وكانت النتيجة أن دبر فيه المأمون بما يحسم عنه مواد بلائه، كما وعد حميد بن مهران، وجماعة من العباسيين.

القسم الرابع

من خلال الأحداث

١ ـ مع بعض خطط المأمون..

٢ ـ كاد المريب أن يقول خذوني.

٣ ـ ما يقال حول وفاة الإمام..

٤ ـ دعبل والمأمون.

٥ ـ كلمة ختامية.

مع بعض خطط المأمون

التوجيهات الراضية غير مقبولة:

كل ما تقدم يلقي لنا ضوءاً على بعض نوايا المأمون مع الإمامعليه‌السلام ، وعلى كثير من الأحداث التي اكتنفت ذلك الحدث التاريخي الهام.

وإننا حتى لو سلمنا جدلاً، وغضضنا النظر عن كل تلك الأسئلة، وعلامات الاستفهام التي يمكن استخلاصها مما تقدم.. فإننا لا نستطيع ـ مع ذلك ـ أن نعتبر البيعة صادرة عن حسن نية، وسلامة طوية.

٣١١

ولا أن نقبل بالتوجيهات الراضية عن تصرفاته، طيلة فترة ولاية العهد، وبعدها تجاه الإمام، الذي كان يكبر المأمون بـ (٢٢‍) سنة، والذي كان مجبراً على قبول هذا الأمر، ومهددا بالقتل إن لم يقبل. ولم يتركه وشأنه ما دام أنه لا يريد أن يتقلد هذا الشرف الذي تتهافت النفوس عليه، وتزهق الأرواح من أجله.

نعم.. إننا لا نستطيع أن نسلم بذلك، ونحن نرى منه تلك التصرفات والمواقف المشبوهة، بل والمفضوحة تجاه الإمامعليه‌السلام ، والتي لا تبقي مجالاً للشك في حقيقة نواياه وأهدافه من كل ما أقدم وما كان عاقداً العزم على الإقدام عليه..

وهذا الفصل معقود للحديث عن بعض تلك التصرفات، ومن أجل بيان تلك الخطط.

المأمون يفضح نفسه:

وقد تعجب إذا قلنا لك: إن المأمون نفسه يصرح ببعض خططه، التي كانت تصرفاته تدور في فلكها، ويعلن بعض الدوافع، ويبوح ببعض النوايا تجاه الإمام، وبالنسبة لقضية ولاية العهد فإليك ما أجاب به حميد بن مهران، وجمعاً من العباسيين، عندما عاتبوه ولاموه على ما أقدم عليه، من البيعة للرضاعليه‌السلام يقول المأمون:

(.. قد كان هذا الرجل مستتراً عنا، يدعو إلى نفسه، فأردنا أن نجعله ولي عهدنا، ليكون دعاؤه لنا، وليعترف بالملك والخلافة لنا، وليعتقد فيه المفتونون به بأنه ليس مما ادعى في قليل ولا كثير، وأن هذا الأمر لنا دونه.

وقد خشينا إن تركناه على تلك الحال: أن ينفتق علينا منه ما لا نسده، ويأتي علينا ما لا نطيقه..

والآن.. فإذ قد فعلنا به ما فعلنا، وأخطأنا في أمره بما أخطأنا. وأشرفنا من الهلاك بالتنويه باسمه على ما أشرفنا، فليس يجوز التهاون في أمره. ولكننا نحتاج إلى أن نضع منه قليلاً، قليلاً، حتى نصوره عند الرعية بصورة من لا يستحق هذا الأمر، ثم ندبر فيه بما يحسم عنا مواد بلائه..).

ثم طلب منه حميد بن مهران: أن يسمح له بمجادلة الإمامعليه‌السلام ، ليفحمه، وينزله منزلته، ويبين للناس قصوره، وعجزه، فقال المأمون: (لا شيء أحب إلي من هذا).

٣١٢

ثم كانت النتيجة عكس ما كان يتوقعه المأمون والعباسيون، وأشياعهم وباءوا كلهم بالفشل الذريع، والخيبة القاتلة(١) .

والذي يعنينا الحديث عنه هنا:

هو قوله: وقد خشينا إن تركناه على تلك الحال.. إلى آخر ما نقلناه عنه آنفاً، فإنها أوضحت أن المأمون الذي كان يخشى الإمام خشية شديدة، كان يخطط أولاً إلى أخذ زمام المبادرة من الإمام، وتحاشي الاصطدام معه ثم كان يخطط بعد ذلك إلى الوضع منهعليه‌السلام قليلاً قليلاً إلى آخر ما تقدم..

ولا يرد: أن كلام المأمون مع حميد بن مهران ظاهره: أنه لم يكن يريد في بادئ الأمر الحط من الإمامعليه‌السلام ، وإنما بدا له ذلك حين قوي مركز الإمامعليه‌السلام ، واستحكم أمره.. لا يرد ذلك..

لأن كلامه هذا لا ينفي أنه كان يريد من أول الأمر ذلك. بل هو يؤكد ذلك. لأنه يصرح فيه: أنه إنما قدم على ما أقدم عليه، عندما رأى افتتان الناس بهعليه‌السلام ، فأراد أن يعمل عملا يفقد الإمامعليه‌السلام مركزه، ويقضي على كل نشاطاته، ويذهب بماله من القدرة والنفوذ نهائياً، وإلى الأبد.

ولقد تحدثنا فيما سبق عن بعض تصرفاته التي تدور في فلك خطط تلك مثل: فرضه للرقابة على الإمامعليه‌السلام ، والتضييق عليه، فلا يصل إليه إلا من أحب، وعزله عن شيعته ومواليه، وأيضاً تفريقه الناس عنه، عندما أخبر أنه يقوم بمهمة التدريس، وكذلك قضية صلاة العيد، وغير ذلك ما تقدم.

____________

(١) راجع: شرح ميمية أبي فراس ص ١٩٦، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٧٠، والبحار ج ٤٩ ص ١٨٣، ومسند الإمام الرضا ج ٢ ص ٩٦.

٣١٣

نزيد هنا بعض الأمور الأخرى، التي وإن كان قد سبق الحديث عن بعضها، ولكنه كان حديثا من زاوية أخرى، ومن أجل استفادة أمور غير الأمور التي نحاول استفادتها منها هنا. وذلك أمر طبيعي، ولا يكون تكراراً ما دام أن الواقعة الواحدة قد يكون لها دلالات متعددة، وإفادات مختلفة.. ولذا فإننا نقول:

لماذا على البصرة فالأهواز:

إن من جملة الأمور التي كانت من جملة خطط المأمون للتأثير على مكانة الإمامعليه‌السلام وحتى على معنوياته النفسية.. الطريق الذي أمر رجاء ابن أبي الضحاك(١) قرابة الفضل بن سهل، والذي كان من قواد المأمون، وولاته ـ أمره ـ بسلوكه، عندما أرسله ليأتي بالإمامعليه‌السلام من المدينة إلى مرو مهما كلفه الأمر..

فقد أمره: أن يجعل طريقه بالإمام (على البصرة، والأهواز، ففارس. وحذره كثيراً من المرور على طريق الكوفة، والجبل، وقم)(٢) .

____________

(١) وذكر أبو الفرج، والمفيد: أن المرسل هو الجلودي، ولكن الصحيح هو الذي ذكرناه.. إذ من الخطأ أن يرسله المأمون لإحضار الرضاعليه‌السلام ، لأن ذلك يضر بقضيته، ويفسد عليه ما كان دبره، لأنه موجب لسوء ظن الرضاعليه‌السلام ، والعلويين، وسائر الناس، وتنبههم مبكرا لحقيقة الأمر، وواقع القضية.

وذلك لأن الجلودي هو الذي أمره الرشيد: أن يغير على دور آل أبي طالب، ويسلب نساءهم إلخ ما تقدم.. كما أنه كان عدواً متجاهراً للإمامعليه‌السلام ، وقد سجنه المأمون بسبب معارضته للبيعة للرضاعليه‌السلام بولاية العهد! ولعل سر خطأهم هو أن الجلودي كان والياً على المدينة من قبل المأمون، حين استقدام المأمون للإمام إلى مرو، حسبما جاء في كتاب: الإمام الرضا ولي عهد المأمون ص ٣٥.

(٢) تهذيب التهذيب ج ٧ ص ٣٨٧، وتاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ١٧٦، وينابيع المودة ص ٣٨٤، والخرائج والجرائح طبعة حجرية ص ٢٣٦. وإثبات الوصية ص ٢٠٥.

وإعلام الورى ص ٣٢٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٤٩، ١٨٠، والكافي ج ١ ص ٤٨٦، ومسند الإمام الرضا ج ١ ص ٤٠ والبحار ج ٤٩ ص ٩١، ٩٢ ١١٨ و ١٣٤، وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٥، وغير ذلك كثير.

٣١٤

بل لقد ورد: أن المأمون قد كتب إلى الرضا نفسه، يقول له: (لا تأخذ على طريق الجبل وقم. وخذ على طريق البصرة، فالأهواز، ففارس..)(١) .

وسر ذلك واضح، فإن أهل الكوفة، وقم، كانوا معروفين بالتشيع للعلويين(٢) وأهل البيت، ومرور الإمام عليه‌السلام من هذين البلدين، وخصوصاً الكوفة، التي كانت تعتبر من المراكز الحساسة جداً في الدولة.. سوف يكون من نتيجته: أن يستقبله أهلها بما يليق بشأنه: من الإجلال، والإعزاز والتكريم.

____________

(١) أصول الكافي ج ١ ص ٤٨٩، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٤٩ و ١٨٠، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٦٥، ومعادن الحكمة ص ١٨٠، وإثبات الوصية للمسعودي ص ٢٠٤، ومسند الإمام الرضا ج ١ ص ٧٣، والبحار ج ٤٩ ص ١٣٤.

(٢) تشيع أهل الكوفة وقم أشهر من أن يحتاج إلى بيان، أو إقامة برهان.. لكننا نورد ـ مع ذلك ـ بعض الشواهد، تبصرة للقارئ، فنقول: أما الكوفة: فقد تقدم قول محمد بن علي العباسي أنها وسوادها شيعة علي وولده.. وفي الطبري، وابن الأثير، وغيرهما تجد قول عبد الله بن علي للمنصور، عندما استشاره في أمر محمد بن عبد الله بن الحسن: (.. ارتحل الساعة حتى تأتي الكوفة، فاجثم على أكتافهم، فإنهم شيعة أهل هذا البيت، وأنصاره الخ)، وفي قضية وفاة السيد الحميري، التي ذكرها المرزباني في كتابه أخبار السيد الحميري دلالة واضحة على تشيع الكوفيين، وانحراف البصريين..

ولأجل ذلك نرى المأمون يستقبل وفدا من أهل الكوفة في منتهى الغلظة والجفاء، فراجع مروج الذهب ج ٣ ص ٤٢١. وفي البداية والنهاية ج ١٠ ص ٩٣: أن المنصور قد اعترف بأن لإبراهيم بن عبد الله بن الحسن في الكوفة مئة ألف سيف مغمدة، وأعرب عن مخاوفه من تشيع أهل الكوفة للعلويين، وولائهم لهم.. بل إننا لا نستبعد أن يكون بناء المنصور لبغداد هو من أجل أن يبتعد عن الكوفة، وأهلها، ويأمن على نفسه، قال البلاذري في فتوح البلدان ص ٤٠٥: (أخذ المنصور أهل الكوفة بحفر خندقها. وألزم كل امرئ للنفقة عليه أربعين درهما. وكان ذاما لهم. لميلهم إلى الطالبيين، وإرجافهم بالسلطان..) وقد تقدم أنه عندما ذهب إليهم العباس بن موسى، أخو الإمام الرضاعليه‌السلام يدعوهم للبيعة، لم يجبه إلا البعض منهم، وقال له آخرون: (إن كنت تدعو للمأمون، ثم من بعده لأخيك، فلا حاجة لنا في دعوتك. وإن كنت تدعو إلى أخيك، أو بعض أهل بيتك، أو إلى نفسك أجبناك..).

وعلى كل حال.. فقد كانت الكوفة مصدرا لثورات كثيرة على الأمويين والعباسيين على حد سواء، تلك الثورات التي كانت كلها تقريباً بقيادة علوي، أو داعية إلى علوي..

ولم ينس المأمون بعد ثورة أبي السرايا التي كادت تغير الموازين، وتقلب مجريات الأحداث.. إلى غير ذلك مما لا مجال لتتبعه واستقصائه. =

٣١٥

= وأما تشيع القميين، فذلك أعرف وأشهر. وقضيتهم مع جبة دعبل التي أهداه إياه الإمام لا يكاد يجهلها أحد. وعندما طلب المأمون من الريان أن يحدث بفضائل عليعليه‌السلام ، وأجاب بأنه لا يحسن شيئاً، قال المأمون: (سبحان الله! ما أجد أحداً يعينني على هذا الأمر لقد هممت أن أجعل أهل قم شعاري ودثاري).

ولعل تشيع أهل قم هذا هو الذي دفع بالمأمون لأن يوجه إليهم عامله علي بن هشام، لينكل بهم، ويحاربهم حتى يهزمهم، ويدخل البلد، ويهدم سورها، ويجعل على أهلها مبلغ سبعة ملايين درهم، بدلا من مليونين، وهو ما لم يكن يدفعه أي بلد آخر يضاهي بلدهم في عدد السكان وغير ذلك من المميزات، فكيف بالسبعة.. ومع أنه كان قد خفض الخراج عن السواد، وبعد البلدان الأخرى، فلما سمعوا بذلك طالبوا بتخفيض الخراج عنهم أيضاً، ففعل ذلك.. وكان تخفيضه عنهم بزيادة المليونين إلى سبعة، كما قلنا.. راجع في تفصيل ذلك: الطبري ج ١١ ص ١٠٩٣، والكامل لابن الأثير ج ٥ ص ٢١٢، وتاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ٢٥٥، والنجوم الزاهرة ج ٢ ص، ١٩٠ وتاريخ التمدن الإسلامي مجلد ١ جزء ٢ ص ٣٣٧، وفتوح البلدان للبلاذري ص ٤٤٠، وتجارب الأمم ج ٦ ص ٤٦٠.

٣١٦

ولا شك أن الإمامعليه‌السلام سوف يستطيع أن يستقطب المزيد من الناس، ويؤثر عليهم بما حباه الله من الفضائل والكمالات الأخلاقية، وبما آتاه الله من العلم والحكمة، والورع والتقوى، الذي سار ذكره في الآفاق، حتى لا يكاد يجهله أحد.. وإذا كان أهل نيشابور، بل وحتى أهل مرو، معقل العباسيين والمأمون، قد كان منهم تجاه الإمام ما لا يجهله أحد. حتى إنهم كانوا بين صارخ، وباك ومتمرغ في التراب إلخ.. وحتى لقد خاف المأمون وأشياعه على دمائهم ـ إذا كان هؤلاء هكذا ـ فكيف ترى سوف تكون حالة أهل الكوفة وقم، معقلي العلويين، والمحبين لأهل البيت، والمتفانين فيهم، لو أنهم رأوا الإمامعليه‌السلام بينهم، وبالقرب منهم..

يقول الراوندي في ذلك: (إن المأمون أمر رجاء بن أبي الضحاك: أن لا يمر بالإمام عن طريق الكوفة، لئلا يفتتن به أهلها..)(١) !.

والمأمون لا يريد أن يفتتن الناس بالإمام، وإنما الذي يريده هو عكس ذلك تماماً.. إنه يريد أن يضع من الإمام لا أن يرفع.

أما أهل البصرة: فعثمانية، يدينون بالكف، ويقولون: كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل.. بل لقد كانت البصرة معقلاً مهما للعباسيين، الذين حرق دورهم زيد النار، ابن الإمام الكاظمعليه‌السلام ، كما قدمنا، ولهذا نلاحظ: أن دور البصريين في التشيع لم يكن يضارع دور غيرهم، لا روائياً، ولا كلامياً..

وأما ما ربما يحتمله البعض: من أن المأمون كان يأمل أن يخرج من البصرة، أو غيرها من يخلصه من الإمامعليه‌السلام نهائياً.. فلا أرى أنه يتفق مع أهداف وأغراض المأمون، التي كان يرمي إليها من وراء لعبته تلك..

____________

(١) الخرائج والجرائح، طبعة حجرية ص ٢٣٦.

٣١٧

الإمام يرفض كل مشاركة تعرض عليه:

إنه برغم شروط الإمام على المأمون، والتي أشرنا إليها فيما سبق، فإننا نرى المأمون كل مدة يحاول أن يجري اختبارا للإمام، ليعرف حقيقة نواياه، وأنه هل أصبح له طمع بالخلافة، وطموح لها(١) ، ليعجل عليه بما يحسم عنه مواد بلائه.. أم لا. فكان يأتي كل مدة إليه، يطلب منه أن يولي فلانا، أو أن يعزل فلاناً، أو أن يصلي بالناس.. بل لقد طلب منه بعد مقتل الفضل أن يساعده في إدارة شؤون الخلافة(٢) بحجة أنه يعجز وحده أن يقوم بأعباء الحكم. ويدير دفة السلطان!

هذا.. إن لم نقل: أنه كان يريد من وراء ذلك: أن يجعل ذلك ذريعة للقضاء على الإمام، بحجة أنه نقض الشرط، وليكون بذلك قد قضى على العلويين جميعاً، وإلى الأبد.

أو على الأقل كان يريد بذلك: أن يوجد للإمام أعداء في الأوساط ذات القوة والنفوذ..

وأياً ما كانت نوايا المأمون وأهدافه، فإن الإمامعليه‌السلام كان يرفض ذلك كله بكل عزم وإصرار، ويذكره بالشروط تلك، ويقول له:((إن وفيت لي وفيت لك)) . وهذا تهديد صريح له من الإمامعليه‌السلام . ولا نعجب كثيراً ـ بعد أن اتضحت لنا نوايا المأمون وأهدافه ـ إذا رأينا المأمون يتحمل هذا التهديد، بل ويخضع له، ويقول: (بل أفي لك)!.

وهكذا.. فقد كان الإمامعليه‌السلام يضيع على المأمون ما كان يحسب أنه فرصة مؤاتية له، ولا يمكنه من معرفة ما يريد معرفته، ولا من تنفيذ ما يريد تنفيذه.

____________

(١) وما أشبه الليلة بالبارحة، فقد رأينا الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، يسأل ابن عباس عن عليعليه‌السلام : إن كان لا يزال يطمح إلى الخلافة، ويأمل فيها.. أم لا!.

(٢) الكافي ج ٨ ص ١٥١، وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٨ و ٨٧، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٦٤ و ١٦٦ و ١٦٧ والبحار ج ٤٩ ص ١٤٤ و ١٥٥ و ١٧١، وغير ذلك.

٣١٨

الاختبار لشعبية الإمامعليه‌السلام :

كما أنه كان كل مدة يقوم بعملية اختبار لشعبية الإمامعليه‌السلام ، ولمدى ما يتمتع به من تأييد في الأوساط الشعبية، ليعرف إن كان أصبحعليه‌السلام يشكل خطراً حقيقياً، ليعجل بالقضاء عليه أم لا.. فكان كل مدة يكلفه بأن يؤم الناس بالصلاة للعيد. أو ما شاكل.. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على مدى ما يعتمر قلب المأمون من الخوف والخشية منهعليه‌السلام . (راجع: السبب الثالث من فصل البيعة، والموقف العاشر في فصل: خطة الإمامعليه‌السلام ).

سؤال.. وجوابه:

ولعلك تقول: إذا كان المأمون يخشى الإمامعليه‌السلام إلى هذا الحد، لما يعلمه من نفوذه ومكانته، فلماذا لا يتخلص منه بذلك الأسلوب التقليدي الذي انتهجه أسلافه من الأمويين، والعباسيين، وتبعهم عليه هو فيما بعد، وكذلك من أتى بعده.. وذلك بأن يدس إليه شربة من السم، وهو في المدينة، من دون أن يحتاج إلى اشخاصه إلى مرو، والبيعة له بولاية العهد، وتزويجه ابنته، إلى غير ذلك من الأمور التي من شأنها أن تعزز من مركز الإمام، وترفع من شأنه، وتوجه إليه الأنظار والقلوب، حتى يضطر في نهاية الأمر لأن يعود إلى ما جرت عليه عادة أسلافه، وأتباعه..

ولكن الجواب على هذا قد اتضح مما قدمناه، فإن المأمون لم يكن يريد في بادئ الأمر موت الإمام، ولا كان يستطيع أن يفعل ذلك.

ولو أن ذلك كان قد حدث لوقع المأمون في ورطة، لها أول وليس لها آخر، حيث إنه كان بأمس الحاجة إلى حياة الإمامعليه‌السلام ، وذلك لما قدمناه من الأسباب والظروف التي كانت تحتم على المأمون أن يلعب لعبته تلك، التي وإن كانت تنطوي على مخاطرة جريئة، إلا أنه كان ـ كما قدمنا ـ قد رسم الخطة، وأحكم التدبير للتخلص من الإمامعليه‌السلام بمجرد أن يحقق مآربه، وأهدافه، بالطريقة التي لا تثير شك أحد، ولا توجب تهمة أحد، وقد حدث ذلك بالفعل، كما سيمر علينا..

وأما كتمه لفضائل الإمامعليه‌السلام :

ومن جملة الأمور التي كانت تدور في فلك خطة المأمون، التي لخصها بأنه يريد الوضع من الإمام قليلاً قليلا، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر ـ محاولاته كتم فضائل الإمامعليه‌السلام ومزاياه عن الناس ما استطاع إلى ذلك سبيلاً..

٣١٩

وقد تقدم: أنه عندما سأل رجاء بن أبي الضحاك، الذي تولى إشخاص الرضاعليه‌السلام من المدينة إلى مرو، عن حال الرضاعليه‌السلام في الطريق، فأخبره عما شاهده من عبادتهعليه‌السلام ، وزهده وتقواه، وما ظهر له من الدلائل والبراهين، قال له المأمون: (.. بلى يا ابن أبي الضحاك، هذا خير أهل الأرض، وأعلمهم، وأعبدهم، فلا تخبر أحداً بما شهدت منه، لئلا يظهر فضله إلا على لساني..)!.

وهكذا: فإن المأمون وإن استطاع أن يمرر الكثير، إلا أنه لم يكن يجد بداً في كثير من الأحيان من أن يظهر على حقيقته وواقعه. وهذا هو أحد تلك المواقف التي مرت وسيمر معنا بعضها، والتي اضطر فيها المأمون لأن يكشف عن وجهه الحقيقي،.. وإن كان قد حاول ـ مع ذلك ـ أن يتستر بما لا يسمن ولا يغني من جوع.

ولا أعتقد أن المأمون كان يجهل: أن ما يأتي به لم يكن لينطلي كله على أعين الناس، بل كان يعلم ذلك حق العلم، ولكن كما يقولون: (الغريق يتشبث بالطحلب).

ولكن.. بالرغم من محاولات المأمون تلك.. فإننا نرى أن فضائل الإمام ومزاياه كانت كالعرف الطيب، لم تزل تظهر، وتنتشر وتذاع.. بل ولعل محاولات المأمون تلك التي كانت ترمي للحط من الإمام وإسقاطه، قد أسهمت كثيراً وساعدت على إظهار فضائله، وشيوعها، كما سيتضح.

الشائعات الكاذبة!

وكان بالإضافة إلى ما تقدم يحاول ترويج شائعات كاذبة، من شأنها أن تنفر الناس من العلويين عامة، ومن الإمامعليه‌السلام ، وسائر الأئمةعليهم‌السلام خاصة.

فهذا أبو الصلت يسأل الإمامعليه‌السلام فيقول: (يا ابن رسول الله، ما شيء يحكيه الناس عنكم؟!.

قالعليه‌السلام :((ما هو؟!.

قال: يقولون: إنكم تدعون: أن الناس لكم عبيد!.

قالعليه‌السلام :يا عبد السلام، إذا كان الناس كلهم عبيدنا ـ على ما حكوه ـ فممن نبيعهم)) ؟! إلخ(١) .

____________

(١) مسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٥، والبحار ج ٤٩ ص ١٧٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٨٤.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

ينتقل من حَدث إلى آخر، ثُمّ يأخذ بالتَجوال حسب اقتضاء الكلام.

ومِن ثَمّ فالقرآن يَجري في ذِكر الحادثة على أُسلوبه الخاصّ في ذِكر سائر المواضيع من المـَزج والالتقاط وضمّ بعض الموضوعات والمفاهيم إلى بعض؛ لمناسبة يراها مُقتضية، وبذلك يخرج عن أساليب الكُتب المدوّنة، لا لشيء إلاّ؛ لأنّه كلام صِيغَ على أُسلوب الخطاب، وفي فُسحة عمّا يتقيّد به أُسلوب الكِتاب.

فهو يَمزج الحقائق الكونيّة بالمعارف العقائديّة، وبالأحكام الشرعيّة، وبالمـُوعظة والإرشاد والتبشير والتحذير، والعواطف والمشاعر والأحاسيس بالعقل والإدراك.

كما أنّه قد يُكرِّر المـُوضوعات والمفاهيم بصِيغٍ متنوّعة وفي سياقات مُختلفة، كلاًّ حسبما يقتضيه المـَقام وناسب اتجاه الهدف من ذِكر القصّة، وفي كلِّ مرّة قد يزيد أو يُنقِص، وقد يُوجز أو يُطنب حسب المـُناسبة؛ ومِن ثَمّ فله أُسلوبه الخاص خارجاً عن أساليب القصّة في الأدب الرائج.

مِيزات القصّة في القرآن

تَمتاز القصّة في القرآن في نقطتين أساسيّتين: الأُولى تَحرّي جانب الصدق والواقعيّة، وليس مجرّد تخييل، الثانية جانب الهدف والغرض الذي جاء من أجله القَصَص في القرآن، فالقرآن لم يتناول القِصّة باعتبار أنّها عمل فنّي، ولم يأتِ بها من أجل الحديث عن الماضينَ، أو للتسلية أو المـُتعة كما يفعل المؤرِّخون والقصّاصونَ؛ وإنّما كان الغرض من القصّة في القرآن هو: المـُساهمة مع جُملة الأساليب العديدة الأُخرى التي استخدمها القرآن، لتحقيق أهدافه وأغراضه الدينيّة والتربويّة، وكانت القصّة القرآنيّة مِن أهمّ هذه الأساليب!

وانطلاقاً مع هذه الفِكرة وعلى هذا الأساس، يُمكن أنْ نُحدّد الفَرق بين القَصَص القرآني وغيره من القَصَص ببعض النِقاط التي تُشكّل المِيزات والخصائص والصِّفات الرئيسيّة للقَصَص القرآني، ويُمكن أنْ نجد هذه الخصائص قد أُشير إليها في القرآن الكريم

٤٢١

في قوله تعالى: ( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) (١) .

حيث يُمكن أنْ نفهم من هذه الآية اتّصاف القَصَص القرآني بالواقعيّة والصدق والحِكمة والتربية الناجحة:

أَوّلاً - الواقعيّة: بمعنى ذِكر الأحداث والقضايا والصور التي لها علاقة بواقع الحياة الإنسانيّة ومتطلّباتها المـُعاشة في مسيرة التأريخ الإنساني، مقابل أنْ تكون القصّة في القرآن إثارةً وتعبيراً عن الصور، أو الخيالات، أو الأماني، أو الرَغبات التي يَطمح إليها الإنسان، أو يَتمّناها في حياته.

ذلك لأنّ القرآن الكريم يُريد مِن ذِكر القصّة وأحداثها، إعادة النظر في التأريخ الإنساني والقضايا الواقعيّة التي جرّبتها البشريّة في حياتها، والتي عاشتها الأُمَم والرسالات الإلهيّة السالفة، والتي تبيَّنت محاسنها عن مساوئها، وليُؤخذ منها الاعتبار في الحاضر المـُعاش، فلا يُجرَّب ما جرّبته الآباء وحلّت بهم الندامة من قبل.

أمّا إذا انفصلت القصّة عن هذا الواقع، وكانت مجرّد تسلية وسرد أحداث التأريخ الماضي ومِن غير نظرِ الاعتبار بها، فهذا أشبه بكُتب الأساطير منها بكُتب التربية والأخلاق.

والإنسان في مسيرته التكامليّة، بحاجة إلى أنْ يَنطلق مع الواقع نحو الطُموحات والكمالات، وبدون ذلك (بِلا دَرس واقعِهِ في الماضي والحال) سوف ينفصل هذا الإنسان عن واقعه الراهن، فيضيع في مَتاهات الآمال والتَمنّيات، وقد عَبَّر القرآن الكريم عن هذه الحالة في الإنسان عندما تحدّث عن اليهود: ( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنُّونَ ) (٢) .

وعندئذ (عندما خاضَ الإنسانُ في أَمانيه من غير مُلاحظة واقعِهِ) لا يصل الإنسان إلى أهدافه وآمالِهِ العُليا؛ لأنّ مَن لا ينطلق في اتجاه المسير من البداية فلا يبلغ النهاية.

____________________

(١) يوسف ١٢: ١١١.

(٢) البقرة ٢: ٧٨.

٤٢٢

ومِن هنا نجد القرآن الكريم يُحاول أنْ يُعالج من خلال القصّة، الواقع الّذي كان يَعيشه المسلمون في زمن النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) فيَذكر ما يتطابق من الأحداث مع هذا الواقع من ناحيةٍ، كما يُعالج الواقع الذي سوف تعيشه الأجيال والعُصور الإنسانيّة المستقبليّة من ناحيةٍ أُخرى.

وهذا هو الذي يُفسّر لنا ما وَرد عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) من قولهم: (إنّ القرآن يجري كما تجري الشمسُ والقمرُ، كلّما جاءَ منه شيءٌ وقع) (١) ، وأنّ القرآن حيّ مع الأبد، لا يَموت مع مَن نَزَل في شأنهم بالذات (٢) ، فإنّ انطباق هذا الكلام على القَصَص والأحداث ذات العلاقة بالأنبياء وأقوالهم أو بالتأريخ الماضي، إنّما هو بلِحاظ هذا البُعد والصفة في القصّة القرآنيّة.

ولعلّ في الآية السالفة ( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ ) (٣) إشارةً إلى هذه الصفة في القَصَص القرآني بوجه عام.

ثانياً - تَحرّي الصدق في ذِكر الأحداث والوقائع التأريخيّة التي تَعرَّض لها الأنبياء وأقوامهم في حياتهم ، وذلك في مُقابل الأكاذيب والانحرافات في الفَهم والسلوك أو الخُرافات التي اقترنت بقَصَص الأنبياء والأُمَم السالفة حسبما سُجّلت (مُشوَّهةً ومُحرَّفةً) في كُتب العهدَين بالذات؛ على أَثر ضَياع وتحريف للحقائق عن قصدٍ أو بدون قصدٍ أو اشتباهٍ أو جهلٍ.

فما وَرَد في القرآن من أخبار وحوادث هي أُمور وحقائق ثابتة ليس فيها كَذِب أو خطأ أو اشتباه، كما حَصَل في الكُتب السالفة؛ ذلك لأنّ القرآن وحي إلهيّ، واللّه لا يَعزب عن عِلمِه ذرّة في السماء والأرض، ويعلم خائنةَ الأَعيُن وما تُخفي الصُدور، والحاضر والماضي والمـُستقبل لديه سواء، ويؤكِّد على هذه الحقيقة قوله تعالى: ( مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى ) !

____________________

(١) تفسير العيّاشي، ج١، ص١١، رقم ٥.

(٢) المصدر: ص١٠، رقم ٧.

(٣) يوسف ١٢: ١١١.

٤٢٣

وشيء آخر لعلّه أهم، وهو: أنّ الأَخذ بعِبَر التأريخ إنّما يصحّ إذا كان إخباراً عن صدق؛ ذلك لأنّه أَخْذٌ بتجارب مرّت على حياة الإنسان، إنْ حسنةً أو سيّئةً، ولا تجربة إلاّ إذا كانت واقِعَةً، لا مجرّد فرض وتخييل!

والقرآن، حتّى في ضرب الأمثال، إنّما يَضع يده على حقائق مرّت على حياة الإنسان؛ لغرض العِبرة (كي لا تتكرّر إذا كانت مريرةً، ولتتداوم إذا كانت جميلةً) ولا عِبرة بمجرّد خيال لا واقع له.

ثالثاً - التربية على الأخلاق الإنسانيّة العالية ، في مُقابل التركيز على الأحاسيس والانفعالات في شخصيّة الإنسان، والتربية على الاهتمام بالغرائز، وإنّما اتّصفت في القرآن بالأخلاقيّة؛ لأنّ المسيرة والحركة التكامليّة للإنسان - سواء على مستوى الفرد أو الجماعة - إنّما تَقوم على أساس الأخلاق بعد العقيدة باللّه تعالى والرسالات واليوم الآخر، بل إنّ الاتّصاف بالأخلاق العالية هو الذي يُمثّل عُنصر التكامل الحقيقي في حركة الإنسان الفرديّة والجماعيّة؛ ولذا كانت قاعدة المـُجتمع الإنساني في نظر الإسلام قاعدة أخلاقيّة، والسلوك الرّاقي للإنسان هو السلوك الأخلاقي، وقد وَرَد عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) قوله: (بُعثتُ بمكارم الأخلاقِ ومحاسنِها) (١) .

لذا جاءت القصّة في القرآن الكريم ذات طابع أخلاقي وللتربية على الإيمان باللّه والعمل الصالح، والسلوك الأفضل في الحياة الفرديّة والاجتماعيّة؛ ولعلّ هذا هو معنى الهُدى والرحمة في الآية السالفة، ولذلك وَرَد قوله (صلّى اللّه عليه وآله) أيضاً: (إنّما بُعثتُ رحمةً للعالمينَ) (٢) .

رابعاً - الحِكمة وكَشف الحقائق الكونيّة وسُنَن التأريخ والقوانين والأسباب التي تَتَحكّم أو تؤثِّر في مسيرة الإنسان، وعلاقاته الاجتماعيّة، والحياة الكونيّة المحيطة به؛ لأنّ هذه الحقائق الكونيّة لها علاقة بمسيرة الإنسان التكامليّة، مادام أَراد اللّه تعالى لهذا

____________________

(١) بحار الأنوار، ج١٦، ص٢٨٧، عن أمالي الشيخ، ص٢٧، رَواه بإسناده إلى عليّ (عليه السلام) عنه (صلّى اللّه عليه وآله) قال: سمعته يقول...، وكنز العمال للمتّقي الهندي، ج٣، ص١٦، رقم ٥٢١٧، واللفظ فيه: (إنّما بُعثتُ لأُتَمّمَ مكارمَ الأخلاقِ)، ورواه البخاري في الأدب المفرد برقم ٢٧٣.

(٢) بحار الأنوار، ج١٨، ص٢٤٣.

٤٢٤

الإنسان أنْ يكون مُختاراً في حياته ومُستعبِداً للعِلم والحِكمة في تنظيم مسيرته؛ ولذا كان من أهداف الرسالة: تعليم الكتاب والحِكمة، حتّى ينتفع بها الإنسان في تقييم حياته وتنظيم مسيرته، ولعلّه لهذه الصفة يقتصر القرآن الكريم في ذِكر القَصَص والأحداث التأريخيّة على ما يكون له علاقة بهذه الجِهة وفي اتّجاه هذا الهدف بالذات، وإلى ذلك أشارت الآية: ( وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ ) ، حيث ينفتح من كلّ باب منه ألف باب، وعلى وِزَان قوله تعالى: ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ) (١) ، وهذا بخلاف ما لو كانت القصّة لمجرّد التسلية أو لتدوين الحوادث والوقائع التأريخيّة، كما هو شأن كُتب التواريخ.

تلك مِيزة القصّة القرآنيّة، تعبيراً عن واقع الحياة، لغرض التربية والعِبرة بتجارب التأريخ، ولكشف الحقائق الراهنة المؤثِّرة في مسيرة الإنسان نحو الكمال، وليس عبثاً ولا مجرد تسلية أو تخييل، وهكذا افترقت القصّة القرآنيّة عن غيرها بأنّها قصّة الأحياء، قياساً للباقين على الماضينَ، وليس سرد حكاية الأموات أو نَقل آثارهم فيما تمتّعوا بالحياة، وأَكثره عبثٌ لا خير فيه (٢) ؛ ولذلك كان القرآن المـُنزَّل أحسن الحديث (٣) .

أغراض القصّة في القرآن

نجد القصّة القرآنيّة تستوعب في مضمونها وهدفها كلّ الأغراض الرئيسيّة التي جاء من أجلها القرآن الكريم، بعد أنْ كانت القصّة هي الأداة المـُفضَّلة التي استخدمها القرآن في سبيل تحقيق أهدافه وأغراضه جُمَع.

ومِن ثَمَّ نرى القرآن قد استخدم القصّة لإثبات الوحي والرسالة، وإثبات وحدانيّة اللّه، وتَوحّد الأديان في أساسها، والإنذار والتبشير، ومظاهر القُدرة الإلهيّة، وعاقبة الخير والشرّ والصبر والجزع والشكر والبَطَر وما إلى ذلك من أهداف رساليّة وعقائديّة، تربويّة واجتماعيّة وسُنَن التأريخ وما شابه، وإليك

____________________

(١) النحل ١٦: ٨٩.

(٢) راجع: الميزان في تفسير القرآن، ج٧، ص١٧٢، والقَصَص القرآني للسيد الحكيم، ص٢١ - ٣٠.

(٣) الزمر ٣٩: ٢٣.

٤٢٥

الأهمّ من هذه الأغراض: (١)

١ - كان من أغراض القصّة إثبات الوحي والرسالة، وأنّ ما يَنزِل على مُحمّد (صلّى اللّه عليه وآله) هو وحي من عند اللّه، لا شيء سِواه، فمُحمّد (صلّى اللّه عليه وآله) لم يكن يَكتب ولا يقرأ الكُتب، ولا عُرف عنه أنّه جَالسَ أحبار اليهود والنصارى، ثمّ جاءت هذه القَصَص في القرآن على أدقّ وصف وأحسن بيان لا تحريف فيها ولا تشويه، فكان أدلّ على أنّه وحي يُوحى وليس نقلاً عن كُتب محرّفةّ أو أَقاصيص مشوّهة، والقرآن يَنصّ على هذا الغرض نصّاً في مقدّمة بعض القَصَص أو في أعقابها.

جاء في أَوّل سورة يوسف: ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ) .

وفي نهاية السورة: ( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) .

وجاء في سورة القَصَص قبل عرض قصّة موسى: ( نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) (٢) ، وبعد انتهائها: ( وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) (٣) .

وجاء في سورة آل عمران في مبدأ عَرضه لقصّة مريم: ( ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ) (٤) .

وفي سورة (ص) قبل عرض قصّة آدم: ( قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ * مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإِ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلاّ أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ ) (٥) .

____________________

(١) راجع ما كَتَبه سيد قطب بهذا الصدد في كتابه: التصوير الفنّي في القرآن، ص١١٢ فما بعد.

(٢) القصص ٢٨: ٣.

(٣) القصص ٢٨: ٤٤ - ٤٦.

(٤) آل عمران ٣: ٤٤.

(٥) ص ٣٨: ٦٧ - ٧١.

٤٢٦

وفي سورة هود بعد قصّة نوح: ( تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا ) (١) .

فكلّ هذه الآيات وأمثالها إنّما جاءت لتؤكِّد فكرة الوحي الّتي هي الفكرة الأساسيّة في الشريعة الإسلاميّة.

٢ - وكان من أغراض القصّة: بيان وحدة الدين والعقيدة لجميع الأنبياء، وأنّ الدين كلّه من اللّه سبحانه، وأنّ الأساس في الجميع واحد، لا نُفرِّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون، ولمـّا كان هذا غَرضاً أساسيّاً في الدعوة وفي بِناء التصوّر الإسلامي فقد تكرّر مجيء هذه القَصَص على هذا النمط، مع اختلاف في التعبير، لتثبيت هذه الحقيقة وتوكيدها في النُفُوس، وربّما وردت قَصَص عِدّة من الأنبياء مُجتمِعَةً في سورة واحدة، مَعروضةً بطريقة بديعة لتؤيِّد هذه الحقيقة.

خُذْ مَثَلاً سورة الأنبياء، يتابع قَصَص موسى وهارون وإبراهيم ولوط ونوح وداود وسليمان وأيّوب وإسماعيل وإدريس وذي الكفل وذي النون ومريم، ويُعقّب كلاًّ بذِكرٍ جميلٍ، وفي النهاية يقول: ( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) (٢) ... وهذا هو الغرض الأصيل من هذا الاستعراض الطويل، وغيره من الأغراض الأُخرى يأتي عَرَضاً وفي ثناياه!

وجاء في سورة النحل: ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) (٣) .

وفي سورة المائدة: ( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ ) (٤) .

وفي سورة البيّنة: ( وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ) (٥) .

____________________

(١) هود ١١: ٤٩.

(٢) الأنبياء ٢١: ٤٨ - ٩٤.

(٣) النحل ١٦: ٣٦.

(٤) المائدة ٥: ٤٤.

(٥) البيّنة ٩٨: ٥.

٤٢٧

وهذا الغرض يهدف في حقيقته إلى بيان إبراز الصلة الوثيقة بين الشريعة الإسلاميّة وسائر الشرائع الإلهيّة التي دعا إليها الرُسُل والأنبياء جميعاً، وإنّ الإسلام يُمثِّل امتداداً لها، ولكنّها يَحتلّ منها مركزَ الخاتِمَة التي يجب على البشريّة جَمعاء الرُضوخ إليها: ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ) (١) ، وبذلك يَسدّ الطريق على أهل الزيغ الذين يلهجون بمُساقاة الأديان الغابِرة والحاضرة وأنّ اتِّباع أحدها يكفى للرُشد واحتضان معالم الهداية والنجاة في الآخرة، على أساس أنّها حقيقة واحدة مُوحاة مِن قِبَل اللّه تعالى وأنّ الإسلام يُصدّقها كذلك!

والقرآن يرفض هذه الفكرة المـُفرِّقة رفضاً ويؤكّد على أنّ الحقيقة تركّزت في طريق تكاملها في شريعة الإسلام، وقد صرّح القرآن بذلك في قوله تعالى: ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي ) (٢) ، أي لا محيد - في بُلوغ سعادة الحياة - عن مُتابعة شريعة الإسلام بالذات!

٣ - وأيضاً من تمام هذا الغرض بيان أنّ الدعوة الرساليّة في الإسلام ليست بِدعاً في تأريخ الرسالات، وإنّما هي وطيدة الصلة بها في الأهداف والتصورّات والمفاهيم: ( قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ... ) (٣) ، بل إنّها تُمثّل امتداداً لهذه الرسالات، وتلك الرسالات تُمثّل الجذر التأريخي للرسالة الإسلاميّة، فهي رسالة إلهيّة لها هذا الامتداد في التأريخ الإنساني، ولها هذا القَدر من الأنصار والمضحّين والمؤمنين.

٤ - وهكذا يؤكِّد على أنّ وسائل الأنبياء وأساليبهم في الدعوة واحدة، وطريقة مجابهة قومهم لهم واستقبالهم متشابهة، وأنّ العوامل والأسباب والظواهر التي تواجهها الدعوة واحدة، وقد أَكّد القرآن في عِدّة مواضع على هذه الحقيقة، وأشار إلى اشتراك الأنبياء في قضايا كثيرة، من ذلك قوله تعالى: ( وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) (٤) .

____________________

(١) المائدة ٥: ٤٨.

(٢) آل عمران ٣: ٣١.

(٣) الأحقاف ٤٦: ٩.

(٤) آل عمران ٣: ١٤٦.

٤٢٨

وقوله تعالى: ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ) (١) .

وكذلك قوله: ( وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) (٢) .

ويتحدّث القرآن أَحياناً عن الرُسُل حديثاً عامّاً، ليؤكِّد هذه الوحدة بينهم في الوسائل والأساليب، كما جاء في سورة إبراهيم: ( جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ ) (٣) .

والسبب وراء تأكيد القرآن لهذه الحقيقة هو: بَيان صلابة تلك المواقف وأنّها جميعاً حقّ غالِب في نهاية المـَطاف: ( كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ) (٤) ، ( وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ) (٥) .

٥ - ومِن ثَمّ كان من أغراض القصة في القرآن الرئيسيّة هو بيان أنّ الله يَنصر أنبياءه في النهاية ويُهلك المـُكذِّبين وذلك؛ تثبيتاً لموقف مُحمّد (صلّى اللّه عليه وآله) وتأثيراً في نُفُوس المؤمنين: ( وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ) (٦) .

وتَبَعاً لهذا الغرض كانت تَرِد قَصَص الأنبياء مُجتَمِعَةً مختومةً بمَصارع مَن كذَّبوهم، ويتكرّر بهذا عرض القَصَص كما جاء في سورة (العنكبوت).

( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاّ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ * فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ) .

( وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) إلى أنْ يقول: ( فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاّ أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) .

( وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ) إلى أنْ

____________________

(١) الأنعام ٦: ١١٢.

(٢) الزخرف ٤٣: ٦ - ٧.

(٣) إبراهيم ١٤: ٩.

(٤) المجادلة ٥٨: ٢١.

(٥) الصافات ٣٧: ١٧٣.

(٦) هود ١١: ١٢٠.

٤٢٩

يقول: ( إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) .

( وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ) .

( وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمَ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ) .

( وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ ) .

( فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) (١) .

وتلك هي النهاية الواحدة للمـُكذِّبينَ!

٦ - وكان مِن أغراض القصّة بيان نِعَمِ اللّه على أصفيائه وخالصي عباده، كقَصَص سُليمان وداود وأيّوب وإبراهيم ومريم وعيسى وزكريّا ويونس وموسى، فكانت تَرِد حلقات من قَصَص هؤلاء الأنبياء تَبرُز فيها النعمة في مواقف شتّى، ويكون إبرازها هو الغرض الأَوّل، وما سواه يأتي عَرَضاً.

( أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً ) (٢) .

٧ - وأيضاً بيان غَوايَة الشيطان لهذا الإنسان ومَبلغ عدائه له، وتربّصه به الدوائر والفرص، فليَحذر بنو آدم من هذا العدّو الذي أغوى أَباهم مِن قبلُ، ولا شكّ إنّ إبراز هذه المعاني والعلاقات بواسطة القصّة يكون أوضح وأَدعى للحَذر والالتفات؛ لذا نجد قصّة آدم تتكرّر بأساليب مُختلفة تأكيداً لهذا الغرض، بل يكاد يكون هذا الغرض هو الهدف الرئيسي لقصّة آدم كلّها.

____________________

(١) العنكبوت ٢٩: ١٤ - ٤٠.

(٢) مريم ١٩: ٥٨.

٤٣٠

وأغراض أخرى كثيرة تَلتقي مع أغراض الرسالة في عدد وفير ومستوى رفيع (١) .

أسرار التَّكرار في القَصَص القرآني

وهذا يعود إلى تعدّد الأغراض التي تَهدِفُها القصّة في مجال التربية، وليست القصّة إذا ذُكرت مرّةً استَنفَدَت أغراضَها الدينيّة والتربويّة، ليكون التحدّث عنها مرّةً أُخرى عبثاً وتَكراراً للمـُكرَّر!

القصّة إذا كانت ذات جوانب عديدة فإنّها إنّما تُذكر كلّ مرّة بلحاظ جانبٍ منها مُناسب للحال والمقام، وقد يُعفى هذا الجانب ويُلحظ جانب آخر في مناسبة أُخرى وهكذا لعدّة مرّات.

وأكثر القَصَص تَكراراً في القرآن حديث موسى و فرعون وتأريخ حياة بني إسرائيل؛ ذلك أنّ اليهود كانت جاورَت العرب مُنذ حين، وكانت العرب تعرف مِن شأنهم وتُعظِّم مِن قَدْرِهم ما لا تكاد تعرفه أو تُقدِّره من سائر الأُمَم، وكانت الأدوار التي مرّت على حياة بني إسرائيل ومواقفهم مع الأنبياء أشبه بحالات كانت تَعتَور العرب حين ظهر الإسلام، فكانت العلاقة وثيقة بين الحياتَينِ، تلك في غابرها الماضي وهذه في حاضرها الراهن.

والمـُلاحَظ في تَكرار قصّة نبيّ اللّه موسى (عليه السلام) الفَرق بين رُوحها العامّة عندما تُذكر في السور المكّيّة، ورُوحها في السور المدنيّة، فإنّما تؤكِّد في القَصَص المكّي منها على العلاقة العامّة بين موسى من جانبٍ وفرعون وملأه مِن جانبٍ آخر، دون أنْ تَذكر أوضاع بني إسرائيل تجاه موسى نفسه، إلاّ في موردَينِ يُذكر فيهما انحراف بني إسرائيل عن العقيدة الإلهيّة بشكلٍ عام، وهذا بخلاف الروح العامّة لقصّة موسى في السور المدنيّة، فإنّها تتحدّث عن علاقة موسى مع بني إسرائيل، وتتحدّث عن هذه العلاقة وارتباطها بالمشاكل الاجتماعيّة والسياسيّة.

____________________

(١) راجع ما كَتَبه الأُستاذ سيد قطب كتابه: التصوير الفنّي في القرآن، ص١١٢ - ١٢٠، وعلى أثره العلامة السيد مُحمّد باقر الحكيم في كتابه: القَصَص القرآني، ص٣٣ - ٥٦.

٤٣١

وهذا قد يدلّنا على أنّ هذا التَّكرار للقصّة في السور المكّيّة إنّما كان؛ لمعالجةٍ روحيّةٍ تتعلّق بحوادث مُختلفة واجهَتْ النبيّ والمسلمين ومشاكلهم مع المشركينَ، ومِن أهداف هذه المـُعالجة تَوسِعَة نِطاق المـَفهوم العامّ الذي تُعطيه القصّة في العلاقة بين النبيّ والجبّارين مِن قومه، وأنّ هذه العلاقة لا تختلف فيها حادثة عن حادثة أو موقف عن موقف، والتأريخ يُكرِّر نفسه.

وهكذا يختلف سرد قَصَص نوح وإبراهيم وسائر الأنبياء، باختلاف الأحوال التي كان يُعالجها المسلمون في طُول الدعوة، فأطواراً بمكّة وأطواراً بالمدينة حسب تغيّر الأوضاع.

ومن الناحية الأدبيّة أيضاً نرى القرآن عند ما يُكرِّر الحديث عن حادث أو عن ظاهرة طبيعيّة، فإنّه لا يُكرِّرها إلاّ وفي هذا التَّكرار نُكتة وظرافة لاحَظَها حَسَب المـُناسبة، الأمر الذي يزيد في بلاغة البيان القرآني وربّما إلى حدّ الإعجاز، إذ يعني ذلك: أنّ بإمكانه سرد قصّة واحدة بأنحاء وأشكال، كلّ مرّة يأتي بالعجيب من الكلام، بحيث لا يَملّ السامعُ من الإصغاء، حتّى ولو سَمِعها في عدّة مواطن، فإنّه لا يَمجّها لمرّة أُخرى وأُخرى؛ لِما في كلّ مرّة من طَراوةٍ وإبداءِ شيء جديد، وفي كلّ جديد لذّة! وقد عُدّ ذلك وجهاً من وجوه إعجاز القرآن في بديع بيانه.

ولتاج القُرّاء أبي القاسم محمود بن حمزة الكرماني تَصنيف لطيف بهذا الشأن، ذَكَر فيه الفوارق البديعيّة في مُكرَّرات الآيات، وأبدع في ذلك، اقتطفنا منه قَبَسات عند الكلام عن الإعجاز البياني للقرآن (١) .

الحرّية الفنّية في قَصَص القرآن

هناك ظواهر كثيرة من ظاهرات الحرّية الفنيّة (الأدبيّة) تُوجد في القرآن عند سرد أحداث التأريخ ممّا جَعلته مُمتازاً عن مِثل التوراة التي هي أشبه بكتاب تأريخ منه بكتاب

____________________

(١) نُكَت وظُرف فيما تكرّر من الآيات، التمهيد، ج٥.

٤٣٢

هداية، ونستطيع أنْ نعرض عليك منها الظواهر التالية: (١)

١ - إهمال القرآن - حينما يقصّ - كثيراً من مقوّمات التأريخ من زمانٍ ومكانٍ، وأحياناً أبطال المعركة، فليس في القرآن قصّة واحدة عنى فيها الزمان، أمّا المكان إهمالاً يكاد يكون تامّاً لولا تلك الأمكنة القليلة المـُبعثرة هنا وهناك والتي لم يُلفِت القرآن الذهن إليها، كما عَمَد إلى إهمال الأشخاص في بعض أقاصيصه إهمالاً تامّاً، اللهمّ إلاّ إذا كان لمعرفة الأشخاص دَخلاً في العِبرة بها.

وهذا مِن أُصول البلاغة في الكلام، أنْ لا يَذكر من الحادث إلاّ ما كانت له صِلة بغرض الكلام.

٢ - اختياره لبعض الأحداث دون بعض، فلم يَعنِ القرآن بتصوير الأحداث الدائرة حول شخص أو الحاصلة في أُمّة تصويراً تامّاً كاملاً، وإنّما يَكتفي باختيار ما يُساعده على الوصول إلى أغراضه، أي ما يُلفِت الذهن إلى مكان العِظة وموطن الهداية؛ ولعلّه من أجل ذلك كان القرآن يجمع في المـُوطن الواحد كثيراً من الأَقاصيص التي تنتهي بالقارئ إلى غاية واحدة.

٣ - كان لا يَهتمّ بالترتيب الزمني أو الطبيعي في إيراد الأحداث وتصويرها، وإنّما يُخالف في هذا الترتيب ويَتجاوزه، الأمر الذي أكثر من الإشارة إليه الأُستاذ الشيخ مُحمّد عَبده، قال - بعد سردِ قَصَصٍ بني إسرائيل ذواتِ عِبَرٍ من سورة البقرة -: جاءت هذه الآيات على أُسلوب القرآن الخاصّ الذي لم يُسبَق إليه ولم يُلحَق فيه، فهو في هذه القَصَص لم يلتزم ترتيب المؤرِّخين ولا طريقة الكُتّاب في تنسيق الكلام وترتيبه على حسب الوقائع، حتّى في القصّة الواحدة، وإنّما يُنسِّق الكلام فيه بأُسلوب يأخذ بمجامع القلوب، ويُحرِّك الفكر إلى النظر تحريكاً، ويَهز النفس للاعتبار هزّاً.

وقد راعى في قَصَص بني إسرائيل أنواع المِنَن التي منحهم اللّه تعالى إيّاها، وضروب الكُفران والفُسوق التي قابلوها بها، وما كان في أثر كلّ ذلك من تأديبهم بالعقوبات، وابتلائهم بالحسنات

____________________

(١) وللأُستاذ مُحمّد أَحمد خلف اللّه هنا تحقيق لطيف، راجع: الفنّ القَصَصي في القرآن الكريم، ص٨٠.

٤٣٣

والسيّئات، وكيف كانوا يُحدِثون في أثر كلّ عقوبة توبةً، ويُحدِث لهم في أثر كلّ نوبة نعمةً، ثُمّ يعودون إلى بَطَرهم، وينقلبون إلى كفرهم! (١)

وهكذا قصّة لوط جاءت في سورة الحجر: ( فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ * قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ * وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ * وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ * وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ * قَالَ إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ * وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ * قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ * قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ ) (٢) .

لكنّها لو لُوحظت مع إحدى قَصَص لوط في القرآن كقصّته في سورة هود (الآيات: ٧٨ - ٨٣) تختلف عنها في ترتيب سرد أحداثها، فتبتدئ بمجيء الملائكة، ثُمّ حاله واضطرابه النفسي، ثُمّ مجيء القوم ثُمّ موقفه وعرض بناته حتّى لا يَخزى، ثُمّ ردُّهم عليه وعزمُهم على إتمام عزمهم، ثُمّ موقف الملائكة وإخبارهم إيّاه بأنّهم رُسُل ربّه، وإخبارهم بمجيء العذاب وموعده، ثُمّ نوع العذاب.

فهنا نَلحظ أنّ المحاورة بينه وبين قومه تتمّ قبل أنْ تُخبِرُه الملائكة بأنّهم رُسُل ربّه، والقصّة تجري بعد ذلك وقد رُتّبت وَقائِعُها الترتيب الذي يُشعر بأنّ الزمن هو المحور الذي يربط هذه الوقائع المختارة أو هذه الأحداث المصوّرة.

أمّا في سورة الحِجر فالملائكة تُعْلِمه كلّ شيء قبل مجيء قومه، ومع ذلك تمضي المحاورة مع قومه وكأنّه لم يَعلم بأنّ أضيافه من الملائكة.

وليس يَخفى أنّ هذا بعيد عن الوقائع، ومشاكلته قريب من القَصَص وما فيه مِن حرّيّة تُؤذن للقاصّ بأنْ يُرتِّب أَحداثه الترتيب الذي يصل إلى الغرض ويؤدّي إلى الأهداف.

ولعلّ السبب في هذا الاختلاف: القصد من قصّة لوط في سورة هود هو تثبيت قلب

____________________

(١) تفسير المنار، ج١، ص٣٤٦.

(٢) الحجر ١٥: ٦١ - ٧٣.

٤٣٤

النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) ومِن أجل ذلك عنى القرآن أَوّلاً بما ينال لوطاً مِن أذىً وقلقٍ نفسي، كما نال مُحمّداً (صلّى اللّه عليه وآله) وهو باخعٌ نفسَه على أنْ لا يكونوا مؤمنينَ وضائِق به صدره الكريم، أمّا القصد من القصّة في سورة الحِجر فقد كان بيان ما يَنزل بالمـَكذِّبينَ مِن عذاب؛ ومِن ثَمّ بدأ به قبل كلّ شيء.

٤ - إسناده بعض الأحداث لأُناس بأعيانهم في موطن، ثُمّ إسناده الأحداث نفسها لغير الأشخاص في موطنٍ آخر، ومِن ذلك قوله تعالى في سورة الأعراف: ( قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ) (١) إذ نَراه في سورة الشعراء مَقولاً على لسان فرعون نفسه: ( قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ) (٢) .

ويبدو أنّ هذا كلام تَذاكَرَه فرعون مع بِطانته من رجال الدولة، فصحّ إسناده إليه تارة وإلى الملأ من قومه تارة أخرى، ولذلك نجد تعقيب الآية الأُولى بقوله: ( يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ * قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ) ، نفس التعقيب الذي جاء للآية الثانية، سِوى تبديل (أرسل) بقوله (وابعث)، وتبديل (ساحر) بقوله (سحّار)، والسحّار (مِن أَبينة الحِرَف) هو صاحب السِحر، ويتّحد مع الساحر في المفهوم.

وهكذا تجد في قصّة إبراهيم من سورة هود (٣) أنّ البُشرى بالغُلام كانت لامرأته، بينما نجد البُشرى لإبراهيم نفسه في سورة الحِجر (٤) وفي سورة الذاريات (٥) ، ذلك؛ لأنّ البُشرى بالذرّية لإبراهيم بُشرى لامرأته العجوز، كما يَبدو ذلك من سرد القصّة في سورة الذاريات.

٥ - إنطاقه الشخص الواحد في الموقف الواحد بعبارات مُختلفة حين يُكرِّر القصّة ، ومِن ذلك تصويره لموقف الإله مِن موسى حينَ رؤيته النار، فقد نُودي في سورة النمل بقوله: ( فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا ) (٦) وفي سورة القَصَص: ( فَلَمَّا أَتَاهَا

____________________

(١) الأعراف ٧: ١٠٩.

(٢) الشعراء ٢٦: ٣٤.

(٣) هود ١١: ٧١.

(٤) الحجر ١٥: ٥٣.

(٥) الذاريات ٥١: ٢٨.

(٦) النمل ٢٧: ٨.

٤٣٥

نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) (١) وفي سورة طه: ( فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً ) (٢) .

وذلك يَشبه تصويره للمـُوقف الواحد بعبارات مُختلفة حين صوَّر خوف موسى، فمرّةً اكتفى بقوله: ( خُذْهَا وَلا تَخَفْ ) (٣) ، ومرّةً أُخرى قال: ( فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ) (٤) ، وهكذا في غيرهما من المواقف، كتعبيره بالرَجفة مرّة وبالصيحة أُخرى والطاغية في غيرهما، وكتعبيره في انشقاق الحَجَر عن الماء في قصّة موسى، فانفجرت مرّة وانبجست أُخرى.

وهكذا مِن المسائل التي جَعلتهم يعدّون القَصَص القرآني من المـُتشابِه، ولكن ليس مِن شكّ في أنّ الاختلاف كانت نتيجة تغيُّرٍ في القصد أو الموقف، وأنّ هذا التغيّر جَعل هذه قصّة وتلك قصّة، وما لا نَرى من اختلافٍ ليس إلاّ الصور الأدبيّة التي تُلائم المقاصد والأغراض.

خُذْ لذلك مَثلاً قصّة موسى وصاحبه وفَعْله العجائب، فتارة يقول له موسى: ( لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً ) (٥) وأُخرى: ( لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً ) (٦) ؛ لأنّ الإمْر - بكسر الهمز -: هو الأمر العَجَب، وكلّ أَمر خالف المألوف فهو يُثير العَجَب، سواء أكان خيراً أم شرّاً.

وهذه العبارة جاءت بشأن خَرْق السفينة بما لا يستلزم غَرَق أهلها، فقد أثار عجب موسى؛ حيث لم تَعد فيه فائدة ولا حِكمة ظاهرة، ولعلّ فيه حِكمة خفيّة!

أمّا النُكْر: فهو الأمر المـُنكر البادي قبحُه بوضوح، وهو يَعود إلى قتل الغلام وهو طفل لم يَعقِل شيئاً ولم يرتكب ذنباً.

ومِن ذلك أَيضاً التعبير عن الأَرض اليابسة، بالهامدة (٧) مرّة وبالخاشعة (٨) مرّة أُخرى،

____________________

(١) القَصَص ٢٨: ٣٠.

(٢) طه ٢٠: ١١ - ١٢.

(٣) طه ٢٠: ٢١.

(٤) النمل ٢٧: ١٠.

(٥) الكهف ١٨: ٧١.

(٦) الكهف ١٨: ٧٤.

(٧) الحج ٢٢: ٥.

(٨) فصّلت ٤١: ٣٩.

٤٣٦

وذلك؛ لاختلاف المـُوقف والغرض:

فالأُولى في سورة الحج: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ) (١) .

والثانية في سورة فصّلت: ( وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (٢) .

والفارق بين الآيتَين هو السياق، حيث مَساق الكلام في الآية الأُولى مَساق الحديث عن البَعث والنُشور، فناسَبَ التعبير بالهُمُود بعده نُشور، والهُمُود هو الخمود والهدوء يشبه هُمُود الموت.

أمّا الآية الأُخرى فسياقها سياق عبادة وضَرَاعة فناسب التعبير بالخشوع، خشوع الذُلّ والاستكان، يُقال: خَشَعت الأرض إذا يَبَست ولم تُمطَر.

والشواهد على ذلك كثيرة ووفيرة في القرآن.

حالات كائنة أَبرزها الترسيم

هناك الكثير من قَصَص قرآنيّة هي ترسيمات لحالات واقعيّة كائنة، حكايةً عن أمر واقع، وليست مجرّد فرض أو تخييل، وهذا كحديث الأمانة وعَرْضِها على السماوات والأرض والجبال فأَبَيْنَ أنْ يَحملنَها وأَشفَقْنَ منها وحَمَلها الإنسان، إنّه كان ظلوماً

____________________

(١) الحج ٢٢: ٥.

(٢) فصّلت ٤١: ٣٧: ٣٩.

٤٣٧

جَهولاً (١) .

وهذا تمثيل لعَرض الاستعدادات، كان الإنسان أكثر استعداداً وأقوى قابليّة لحَمل الأمانة، وهي ودائع اللّه أَودَعَها الإنسانَ لقابليّته الذاتيّة، والتي هي عبارة عن العقل وقُدرة الهيمنة والإبداع، وحتّى يكون خليفةَ اللّه في الأرض، استحقّ الشموخ إلى هذا المقام الرفيع، بفضل قابليّته الفائقة، غير أنّه جَهول بشأن نفسه ظلوم لا يعرف قَدْر نفسه (٢) .

فهذا ترسيم رائع للقابليّات واستجلاء أَرقاها وأَقوَمِها، وهو أمر واقع وليس محض خيال.

وحديث (أَخْذ الميثاق): ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ) (٣) حكاية حال واقعة... بياناً لفطرة الإنسان على التوحيد:

الإنسان، في جبلّته مَفطور على الإقرار بالتوحيد، كما في الحديث المـُستفيض عن النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله): (كلّ مولود يُولد على الفطرة...) (٤) ، وهو المعنى أيضاً بقوله تعالى: ( لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) (٥) ، وهكذا قوله تعالى: ( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ) (٦) ، إشارةً إلى العَهد المـُودَع في فِطرة الإنسان، وكلّ إنسان إذا راجع ضميره وَجَد هذا العَهد جليّاً بأَسطُره الواضحة؛ ومِن ثَمّ صرّح الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) (أنّ الأنبياء إنّما بُعثوا ليُثيروا دفائِنَ العُقول) (٧) ، فدلائل التوحيد لائحة في عقول بني الإنسان لولا تراكم الغُبار عليه، وهكذا كانت العُقول حُججَ اللّه الباطنة، وكان الأنبياء الحُجج الظاهرة جاءوا لدعم العُقول (٨) قال

____________________

(١) من الآية ٧٢ من سورة الأحزاب ٣٣.

(٢) راجع: تفسير الصافي للمـُحقّق الفيض الكاشاني، ج٢، ص٣٦٩ - ٣٧١، والميزان في تفسير القرآن، ج١٦، ص٣٧١ - ٣٧٢، وللعلاّمة جار اللّه الزمخشري تحقيق أنيق في هذا المجال، راجع الكشّاف، ج٣، ص٥٦٥.

(٣) الأعراف ٧: ١٧٢.

(٤) بحار الأنوار، ج٣، ص٢٨١، رقم ٢٢، عن عوالي اللآلئ، ج١، ص٣٥، رقم ١٨.

(٥) الروم ٣٠: ٣٠.

(٦) يس ٣٦: ٦٠ - ٦١.

(٧) في أُولى خطبة من نهج البلاغة.

(٨) راجع: الكافي، ج١، ص١٦ حديث هشام.

٤٣٨

الإمام الكاظم (عليه السلام): (إنّ اللّه تبارك وتعالى أكملَ للنّاس الحُججَ بالعُقولِ) (١) .

وهذا هو العَهد الذي عاهدَ اللّهُ الإنسان عليه، مُعنِيَاً به الفِطرة التي فَطَر الناس عليها، كنايةً عن العقول التي رُكّبت في ذَوات الأَنفُس.

أمّا ما حَسَبه البعض من إرادة (عالَم الذرّ) - حسبما جاء في بعض التفاسير - وأنّ اللّه أخرج ذُرّيّة آدم من صُلبه وأَشهدهم على ربوبيّته... فهذا شيء لا مَساس له بالآية الكريمة، ولا كانت الآية مُشيرةً إليه، بل ومنافاته مع ظاهر التعبير، حيث قوله تعالى:، وليس من ظهره فحسب.

القِصّة في القرآن حقيقة واقعة

سبق أنْ نبّهنا أنّ القصّة في القرآن هي حكاية عن أمر واقع، كانت تجربةً مرّت على حياة الإنسان، إنْ زاهيةً أو مريرةً؛ لغرض الاعتبار بها، ولا اعتبار بما فَرَضه الوهم أو تصوّره الخيال!

نعم قَصَص القرآن حوادث واقعة (تأريخيّة) رَسَمَتها ريشةُ الفنّ الأدبي في أَبدع صورها وأَروع أشكالها؛ لغرض التأثير على النُفُوس والأَخذ بمجامع القلوب، فهناك مَزْجٌ بين التأريخ والأدب وليس مجرّد فنّ التمثيل.

ذلك أنّ القرآن استخدم الفنّ في ترويج دعوته، مع الحِفاظ على الواقع المتمثّل به؛ لغرض التأكيد على التأثير، ومُتجنِّبَاً مجالات ومحض الخيال؛ إذ لا تأثير لمجرّد الفرض وقد أكّد علماء التربية على مجانبة الابتناء على أساس مُنهار، إذ لا قِوام لبِناء كان أَساسه على جُرُف هار.

التربية لها مجال حقيقي في حياة الإنسان، فلا ينبغي بِناؤها على أساس الفرض ممّا لا واقع له سِوى الوهم والخيال. وسُرعان ما ينهار البِناء إذا لم يكن له أساس مكين.

على أنّ القرآن - وهو كتاب هداية له دعوة الحقّ - في غنىً عن التَمثُّل بمفروضات

____________________

(١) المصدر: ص١٣.

٤٣٩

الخيال، بعد وفور الأحداث والتجارب التي مرّت على حياة الإنسان، وقد كَلّفته أثماناً باهظة إنْ رابحةً أو خاسرةً، هي تَصلح لأنْ تقع موضع عِبرته في مُستقبل الزمان؛ نظراً لوحدة مُتطلَّبات الحياة في غابِر الأزمان وحاضرها والآتي.

والخلاصة: أنّ القصّة في القرآن هي تجربة واقعيّة قاسَها الإنسان في حياته الغابِرة، ولتكون عِبرةً في مُستمرّ حياته، وليست مجرد فرض خيال:

أَوّلاً - لأنّه في غنىً عن اللجوء إلى مَفروضات خياليّة أو مشهورات هي مقبولات عامّيّة، بعد وِفرة التجارب ذوات العِبَر في سالف حياة الإنسان.

ثانياً - لأنّ البِناء على أساس الفرض والخيال سُرعان ما ينهار إذا ما كَسَحَته واقعيّات الحياة ولا سيّما بعد فضح الحال.

* * *

هذا ولكن هناك مَن يرى مِن قَصَص القرآن - كلّها أو جُلّها - هي مشهورات عامّيّة استندها القرآن، لا اعترافاً بها، بل مَعْبَراً للوصول إلى غايته في الهداية والإرشاد، على طريقة الخطابة في البيان، وبعضهم أَجاز كونها تمثيلاتٍ مُجرَّدةً؛ تقريباً للمطالب إلى الأذهان... ولعلّ هذا إفراط بشأن القرآن!

يقول مُحمّد أَحمد خلف اللّه: القرآن يجري في فنّه البياني على أساس ما كانت تعتقد العرب وتتخيّل، لا على ما هو الحقيقة العقليّة، ولا على ما هو الواقع العملي، فهو حينما يتحدّث عن الجنّ وعن عقيدة المشركين فيهم وأنّهم يستمعون إلى السماء ليعرفوا أَخبارَها ثُمّ يقومون بعد ذلك بإلقاء هذه الأَخبار على الكَهَنة، وكان الكَهَنة يَدّعون الإطِّلاع على الغيب ومعرفة الأسرار في كلّ ذلك يجري على هذا المذهب.

جاء في الرازي عند تفسيره لقوله تعالى: ( إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ ) (١) ما يلي: (وأمّا تشبيه هذا الطَلع برؤوس الشياطين ففيه سؤال، لأنّه قيل إنّا ما رَأَينا رؤوس الشياطين، فكيف يُمكن تشبيه شيء بها؟ وأَجابوا عنه بوجوه،

____________________

(١) الصافّات ٣٧: ٦٤ - ٦٥.

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578