شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم10%

شبهات وردود حول القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 578

شبهات وردود حول القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 578 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 297581 / تحميل: 13676
الحجم الحجم الحجم
شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

( قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) (١) .

شاهدٌ ثالث أخذوه دليلاً على عُموم الطوفان:

قال العلاّمة الطباطبائي: هذا كالنصّ في أنّ الطوفان عمّ البقاع اليابسة من الأرض جميعاً أو مُعظمها الذي هو بمنزلة الجميع، قال: ولو كان الطوفان خاصّاً بصُقع من أصقاع الأرض وناحية من نواحيها - كالعراق على ما قيل - لم يكن أيّ حاجة إلى أنْ يحمل في السفينة من كلّ جنس من أجناس الحيوان زوجين اثنين (٢) .

وهذا المعنى قائم على أساس ما حسبه المفسّرون في سبب حَمل زوجين من كلّ جنس من الحيوان؛ لعلّة استبقاء نسلها لئلاّ تنقرض، قال صاحب المنار: والتقدير - على قراءة حفص [بتنوينِ كلٍّ] -: احمل فيها من كلّ نوعٍ من الأحياء أو الحيوان زوجين اثنين ذكراً وأُنثى؛ لأجل أنْ تبقى بعد غَرق سائر الأحياء، فتتناسل ويبقى نوعها على الأرض (٣) .

وعامّة المفسّرين على ذلك، ولعلّهم متأثّرون بنصّ التوراة وتوارد الإسرائيليّات بهذا المعنى، جاء في سِفر التكوين: ومن جميع البهائم الطاهرة تأخذ معك سبعةً سبعةً ذكراً وأُنثى، ومن البهائم غير الطاهرة اثنين ذكراً وأُنثى، ومن طيور السماء أيضاً سبعةً سبعةً ذكراً وأُنثى؛ لاستبقاء نسلٍ على وجه كلّ الأرض (٤) وهكذا ورد في الإسرائيليّات (٥) .

ولكن ما قَدْر السفينة حتّى يُحمل فيها مثل هذا العدد الجمّ من أنواع الحيوان الأهليّة والوحشيّة والحشار والطيور؛ لئلاّ ينقرض نسل الأحياء، بل وفي هذه الروايات: حَمل الأزواج من أنواع النبات والشجر والأعشاب، وهو من الغرابة بمكان!!

وبحقٍّ قال سيّد قطب: ومرّة أخرى تتفرّق الأقوال حول ( مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) .

وتشيع في الجوّ رائحة الإسرائيليّات قويّة.

وتعقّبه بقوله: أمّا نحن فلا ندع الخيال يلعب بنا ويَشتطّ حول النصّ ( احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) ممّا يملك نوح أنْ يُمسك، وأنْ يَستصحب من الأحياء، وما وراء ذلك خبط عشواء (٦) .

____________________

(١) هود ١١: ٤٠، المؤمنون ٢٤: ٢٧.

(٢) تفسير الميزان، ج ١٠، ص ٢٧٤.

(٣) تفسير المنار، ج ١٢، ص ٧٦.

(٤) سِفر التكوين، إصحاح ٧/ ٢ - ٣.

(٥) راجع: الدرّ المنثور للسيوطي، ج ٤، ص ٤٢٣ فما بعد.

(٦) في ظِلال القرآن، ج ١٢، ص ٦٢، مجلّد ٤، ص ٥٤٨.

٤١

وهذا هو الرأي الصحيح، فقد رخّص الله لنوح أنْ يَحمل معه ما يَملكه من الحيوانات الأهليّة بقَدر ما يحتاج إليه من زادٍ وراحلة، ولا يُثقل حِملَه حتّى تعود الأحوال إلى أوضاعها الأُولى، وأمّا سائر الأحياء الأهليّة والوحش فتتشرّد لوجهها، ولا تبقى في المنطقة المصابة بالحادث، كما هو مألوف، هذا ما يدلّ عليه نصّ القرآن لا أكثر.

والزوجان - في الآية - يراد به المتعدّد في تشاكل، أي من كلّ جنس عدداً يفي لتأمين الحاجة بها.

وهذا نظير قوله تعالى: ( وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا (في الأرض) زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) (١) أي من كلّ نوع في أشكال وألوان متقاربة ومتنوّعة، كالتفّاحة في أشكالها وألوانها، وهكذا الليمون والرّمان، وسائر الفواكه من كلّ نوعٍ فيها أزواج متشابهة، كما قال تعالى: ( وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ) (٢) أي مُتشاكلاً وغير متشاكل.

وجاء في وصف فواكه الجنّة: ( فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ ) (٣) أي صنفان متشاكلان، والمراد المتعدّد في أشكالٍ وأصناف، كما قال: ( وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً ) (٤) أي متشاكلاً.

ومن الواضح أنّ الثمرة - وهي الفاكهة - ليس فيها ذكر ولا أُنثى ولا تزاوج لقاح، وإنّما ذاك في بذور الأزهار لا في الفواكه والثمار.

على أنّها لغةٌ دارجة: أنْ يُراد بالمثنّى الشِّياع في الجنس لا الاثنان عدداً، قال أبو علي: الزوجان في قوله: ( مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) يراد بهما الشِّياع، وليس يراد بهما عدد الاثنين، كما قال الشاعر:

فاعمَد لما يعلو فمالكَ بالذي

لا تستطيعُ مِن الأُمور يَدانِ

يريد: الأيدي والقُوى الكثيرة حتّى يستطيع التغلّب بها على الأمور.

قال: ويُبيّن هذا المعنى أيضاً قول الفرزدق:

وكلُّ رَفيقَي كلِّ رَحلٍ وإنْ هُما

تَعاطى القَنا قوماهُما أَخَوانِ (٥)

____________________

(١) الرعد ١٣: ٣.

(٢) الأنعام ٦: ١٤١.

(٣) الرحمان ٥٥: ٥٢.

(٤) البقرة ٢: ٢٥.

(٥) تعاطى مخفّف تعاطياً، حذف اللام للضرورة، جامع الشواهد، ص ٣٢٤.

٤٢

إذ رفيقان اثنان لا يكونان رفيقي كلّ رحَل، وإنّما يُريد الرفقاء كلّ واحد مع صاحبه يكونان رفيقين.

وأمّا وصف الزوجين بالاثنين؛ فلإرادة التأكيد والتشديد في المتبوع، كما قال تعالى: ( لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ ) (١) خطاباً مع المشركين، نهى عن اتخاذ الآلهة، ومع ذلك جاء تأكيده بالاثنين، زيادةً في المبالغة (٢) ، ومِن ثَمّ عقّبه بقوله: ( إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ) .

وإنّما جاء بالتثنية باعتبار اتخاذ إلهٍ آخر معه سبحانه، أي لا تتّخذوا مع الله إلهاً آخر، والمعنى: النهي عن التعدّد في الآلهة وإن كان في صياغة المثنّى (٣) وقد بحثنا عن إرادة الشِّياع من المثنّى بتفصيل فليُرجع إليه (٤) .

( وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ) (٥)

يقال: إنّه تعريب (جورداي) اليونانيّة، اسم لسلسلة جبال تمتدّ من شماليّ العراق فإلى تركيا، وبلاد أرمينيّة ذات قمّة رفيعة (٥١٧٥ متراً) عُرفت بـ (آراراط) شاع عند الأرامنة - القاطنين في المنطقة - أنّها مَرسى سفينة نوح، وأخذ عنهم العرب من غير تحقيق.

ويرجع هذا الشِّياع إلى عهدٍ متأخّر (منذ القرن العاشر بعد الميلاد) حيث تُرجمت عبارة التوراة: (رست السفينة على جبل الأكراد) بجبل آراراط.

ولم تكن الأرامنة تعرف لذلك الوقت مَرسى متعيّناً للسفينة، حتى شُوّهت عليهم هذه الترجمة الخاطئة، وجَعلت الأوهام تحيك حولها أساطير.

جاء في دائرة المعارف الإسلاميّة: والمـُحَقَّق من كتابات كثير من المؤلّفين الأرمن وغيرهم مِن الكُتّاب أنّ جبل (آراراط) لم يكن له حتّى القرن العاشر صلة مّا بحادث الطوفان.

____________________

(١) النحل ١٦: ٥١.

(٢) راجع: مجمع البيان للطبرسي، ج ٥، ص ١٦١.

(٣) المصدر: ج ٦، ص ٣٦٥.

(٤) فيما يأتي في البحث عن آية ( وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ) فيما توهّم من المخالفة مع العلم.

(٥) هود ١١: ٤٤.

٤٣

فالرواية الأرمنيّة القديمة لا تَعرف - على التحقيق - شيئاً على جبل استقرّت عليه فلُك نوح، فلمـّا أن جاء ذِكرُ جبلٍ في المؤلّفات الأرمنيّة المتأخّرة تبيّن أنّ ذلك كان بتأثير الكتاب المـُقدّس المتزايد في هذه المؤلّفات، والكتاب المـُقدّس هو الذي يقول: إنّ السفينة استقرّت على جبال أراراط، وأعلى هذه الجبال وأشهرها جبل (ماسك) (ماسيس) ومِن ثَمّ فلابدّ أنّ نوحاً قد حطّ بسفينته على هذا الجبل.

أمّا المرحلة الثانية مِن نموّ هذه الرواية الأرمنيّة فَتُرَدُّ إلى الأوربيّين، الّذين أطلقوا اسم آراراط (بالأرمنيّة: إيراراط) وهو اسم ناحية على جبل ماسك، استناداً على تفسيرٍ خاطئ لسِفر التكوين (١) .

وإنّما أخذت الرواية القائلة بأنّ (ماسك) هو الجبل الذي استقرّت عليه السفينة، تجد مكاناً في المؤلّفات الأرمنيّة في القرنَينِ الحادي عشر والثاني عشر، وتذهب التفاسير الدينيّة السابقة على هذا في الزمن، إلى أنّ الجبل المعروف الآن بجبل (الجوديّ) أو جبال (جورديين) (بالسريانيّة: قردو، وبالأرمنيّة: كُردُخ) - كما تقول المصادر النصرانيّة - هو المكان الذي رست عليه سفينة نوح.

والمـُحقَّق أنّ هذا التحديد للمكان الذي استقرّت عليه السفينة - وهو التحديد الذي ذُكِر حتّى في الترغوم (الترجمة الكلدانيّة للعهد القديم) - يُسنَد إلى الرواية البابليّة، وقد نشأ من الاسم البابلي (برسوس).

زد على ذلك أنّ جبل (نصر) الذي ذُكِر في قصّة الطوفان في الكتابات المسماريّة يصحّ أيضاً أنْ يُحدّد مكانه في جبال (جورديين) بالمدلول الواسع لهذا الاسم، وقد أخذ النصارى بالرواية البابليّة اليهوديّة القديمة، وعرفها العرب منهم عندما وصلوا بفتوحاتهم إلى إقليم (بهستان) (بلاد أرمينيّة)، وأطلق العرب اسم الجودي - الوارد في القرآن - في غير تثبّتٍ على جبل (قردو) المعروفة بذلك منذ أقدم الزمن.

____________________

(١) المصدر: ٨ / ٤.

٤٤

وما زالت المنطقة المحيطة بجبل الجودي إلى يومنا هذا حافلة - كالمنطقة المحيطة بجبل آراراط - بالأساطير والذكريات المتّصلة بقصّة الطوفان وحياة نوح بعد إذ غادر السفينة (١) .

* * *

وهكذا نرى الجغرافيّ الكبير ياقوت الحموي (ت ٦٢٦) متأثّراً بتلكُم الأساطير المسطّرة، يقول: الجوديّ جبل مُطلّ على جزيرة (ابن عمر) في الجانب الشرقي من دجلة من أعمال الموصل، عليه استوت سفينة نوح (عليه السلام).

ثُمّ يَذكر نصّ التوراة - مُستشهِداً به -: (... واستقرّت السفينة على الجودي في شهر كذا ويوم كذا... ويقول: هذا تعريب التوراة حرفاً حرفاً) (٢) .

ما ندري ماذا كان الأصل حتّى ترجمه إلى ذلك؛ ولعلّه لُقّن بذلك - وهو روميّ الأصل - من بعض الأرامنة المسيحيّين، وهكذا لقّن أبناء الإسلام بأوهام جاءتهم من قبل أهل الكتاب!

هذا، ومن ورائهم زَرافات من المفسّرين سواء في الغابر والحاضر - مع الأسف - من غير تريّث ولا تحقيق، وكم له من نظائر في مواضع من التفسير، أشهرها وأشنعها تفسيرهم ذا القرنين بالإسكندر الكبير!

ومِن مُضاعفات هذا الزعم - كما نبّه عليه المحقّق الشعراني - (٣) القول بعموم الطوفان المستحيل (٤) إذ لازمه أنْ يكون الماء قد غمر رؤوس الجبال الشامخات، حيث رست السفينة - بعد ما أخذت المياه في النضوب - على قمّة جبلٍ ترتفع خمس كيلو مترات!

وممّا يجدر التنبّه له: أنّ القوم حسبوا من كلمة (الجودي) - باعتبارها اسم جبل - أنّها أعجميّة معرّبة، فراحوا يجوبون البلاد علّهم يعثروا على ذلك الأصل أهو (جورداين) أو (جورداي) أو (قوردو) أو غيرها؟

____________________

(١) راجع: دائرة المعارف الإسلاميّة المـُترجمة إلى العربيّة، ج ٧، ص ١٦١ - ١٦٣ (الجودي).

(٢) معجم البلدان، ج ٢، ص ١٧٩.

(٣) معجم لغات القرآن للشعراني، ج ١١، ص ١٤٤.

(٤) عادةً في الطبيعة، ولا ضرورة تدعو إلى مثل هذا الإعجاز!

٤٥

لكن لا مُبرّر لهذا الحُسبان بعد أن كان لهذه الكلمة أصل عربي خالص، ولها سابق التعبير في جاهليّة العرب.

قال أُميّة بن أبي الصلت:

سبحانه ثُمّ سبحاناً يعود له

وقبله سبّح الجوديُّ والجُمُدُ

الجودي - من الجود -: الرَّبوة من الأرض تجود بنباتها إذا أصابها وابلٌ آتت أكلها ضعفين، والجُمُدُ: الحَزِنة من الأرض تجمُد بنباتها وتبخل سواء أصابها وابلٌ أو طلّ.

قال أبو مسلم الإصبهاني: الجودي اسم لكلّ جبل وأرض صُلبة (١) ، في مقابلة الرَّخوة، أي استقرّت على مرتفع من الأرض غير ذات وحلٍ، وكانت ذات بركة عليه حينما نزل بها.

( قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ ) (٢) فأَوّل مفاتح البركات نزوله بأرضٍ ذات بركةٍ .

وأين هذا من حُسبان نزوله في أعالي جبالٍ شامخاتٍ ترتفع عن الأرض السَّهلة بخمس كيلو مترات؟!

وهل كان نزوله حينذاك بسلام وبركاتٍ أم بشقاء وعناء؟!

( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ) (٣)

هذه العبارة (وفار التّنور) إمّا كناية عن فورة سخطه تعالى بمعنى: وثار غضبُ الربّ، كما يقال: فار فائرة إذا اشتدّ غضبه، وبنو فلان تفور علينا قِدْرهم أي يشتدّ غضبُهم علينا.

قال الشاعر:

تفورُ علينا قِدْرُهم فَنُديمها

ونفثؤها عنّا إذا حَمْيُها غلا (٤)

وهكذا فار تنّورهم أي احتدّ سخطهم وثارت نائرتهم، فمعنى (فار التنّور): حمى

____________________

(١) مجمع البيان، ج ٥، ص ١٦٥.

(٢) هود ١١: ٤٨.

(٣) هود ١١: ٤٠.

(٤) أساس البلاغة للزمخشري، ج ٢، ص ٢١٧. وفثأ القدر - بالثاء المثلّثة -: إذا صبّ عليه ماءاً بارداً ليفتر غليانه.

٤٦

غضبُ الربّ، وإمّا أن نأخذ التعبير على حقيقته ليكون التنّور مَفْجَر الماء.

غير أنّ التنّور - في أصله - اسم لما يخبز فيه، والكلمة فارسيّة واستعملتها العرب بلا تحوير.

قال ابن دريد: التنّور فارسيّ معرّب. لا تعرف العرب له اسماً غير هذا؛ فلذلك جاء في التنزيل؛ لأنّهم خوطبوا بما يعرفون.

وقال ابن قتيبة: رُوي عن ابن عبّاس أنّه قال: التنّور بكلّ لسان، عربيّ وعجمي (١) .

واستعير لمـَفْجَر الماء، والتنانير: ينابيع الماء، حيث تفور كما يفور التنّور بالنار.

قال الفيروز آبادي: التنّور: كلّ مَفْجَر ماء، ومحفل ماء الوادي أي مجتمعه، وتنانير الوادي محافله (مواضع تجتمع فيها المياه) وهي الوِهاد والمستنقعات في البراري.

ومعنى الآية على ذلك: وفارت تنانير الأرض أي فاضت ينابيعها وثارت.

وهكذا جاء التعبير في سورة القمر: ( فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ) (٢) .

( فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاّ خَمْسِينَ عَاماً) (٣)

وهل يعيش إنسان في مثل هذا العمر الطويل؟ الأمر الذي لم يَكد يكون معروفاً وحتّى في القرون الماضية، هؤلاء الفراعنة في مصر نجد أجسامهم كأجسام أهل هذه الأيام وأعمارهم لم تختلف عن أعمارنا، وقد مرّ لهم أربعون قرناً أو أكثر، فكيف يكون ذلك؟

يقول الأستاذ عبد الوهاب النجّار: لا مانع من أنْ يعمِّر آدم ومن قُرب منه أعماراً طويلة؛ لأنّ النوع الإنساني كان في بدء نشأته لم يَحمل هموماً، ولم تَعتوره الأمراض المختلفة، ولم تُنهك قوّته الأطعمةُ التي لا يقدر على هضمها، فكان من المعقول أنْ يعيش طويلاً، وأمّا نحن وأمثالنا - ممّن كانوا قبل أربعين قرناً - فقد جئنا بعد أنْ أنهكت النوع

____________________

(١) المعرَّب لأبي منصور الجواليقي، ص ٢١٣، وراجع: جمهرة اللغة لابن دريد، ج ٣، ص ٥٠٢، وج ٢، ص ١٤، وأدب الكاتب لابن قتيبة، ص ٣٨٤.

(٢) القمر ٥٤: ١١ - ١٣.

(٣) العنكبوت ٢٩: ١٤.

٤٧

الإنساني الأمراضُ وطحنته الأدواء، فالواحد منّا عُصارة لآلاف الأمراض التي انتابت آباءه وأُمّهاته، فلم تعد قُوانا تتحمّل العمر الطويل.

وعند العلماء بالطبّ والأحوال الاجتماعيّة أنّ الإنسان قُواه محدودة والحياة العريضة تستنفدها بسرعة، بخلاف الحياة الضيّقة فإنّها تكون طويلة؛ لقلّة ما يُستنفد من قُوى الأجسام بتلك الحياة، فنحن الآن لا نعيش عيشةَ البساطة التي كان يعيشها آدم ومن قُرب منه، بل نتفنّن في أنواع الطعام ولذائد المعيشة بما يُنهك قُُوانا، فلا غرابة أنْ تكون أعمارنا قصيرةً، وقد اجتمعت عليها الأمراض المـُتوارَثة والتبسيط في العيش.

ويقول بعض الأطبّاء الألمان: إنّ إنسان هذا الزمان يمكن أن يعيش ثلاثمِئة سنة إذا اتّبع نظاماً خاصّاً (١) .

وهكذا ذكر الشيخ مُحمّد عبده في إمكان إطالة الأعمار في عهدٍ كانت الحياة غير موسّعة الأطراف، والمعيشة على بساطتها الأُولى غير معقّدة الجوانب، ولا كانت مُزدَحَم الأمراض والأدواء والشدائد والآلام حيث كانت طبيعة العمران ومعيشة الإنسان الفطريّة أسلم للأبدان (٢) .

( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ) (٣)

دلّت الآية على أنّه لم يبقَ بعد الطوفان سوى نوح وَبنيه وذراريه، وحتّى الذين ركبوا معه في الفُلك ممّن آمن به ونجوا من الغَرَق هلكوا وانقرضوا بلا عَقِب، هكذا جاءت في الروايات الإسلاميّة عن ابن عباس وقتادة، قال الكلبي: (لمـّا خرج نوح من السفينة مات من كان معه من الرجال والنساء إلاّ ولده ونساءهم) (٤) ؛ ومِن ثَمّ كان نوح (عليه السلام) هو الأب الثاني لكافّة البشر بعد آدم (عليه السلام).

لكنّه يتنافي وقوله تعالى خطاباً لبني إسرائيل: ( ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ ) (٥) .

____________________

(١) قصص الأنبياء للنجّار، ص ٤٨.

(٢) تفسير المنار، ج ١٢، ص ١٠٤.

(٣) الصافّات ٣٧: ٧٧.

(٤) مجمع البيان، ج ٧، ص ٤٤٧.

(٥) الإسراء ١٧: ٣.

٤٨

والموصول عامّ يشمل مَن رَكَب مع نوح من المؤمنين، ولا يَخصّ وِلْدَ صُلبه - كما قيل - ؛ إذ لا شاهد عليه في ظاهر تعبير القرآن العامّ.

والقول بتشعّب البشر مِن وِلد نوح الثلاثة (سام، حام، يافث) رواية إسرائيليّة بحتة ذكرتها التوراة: (ومن هؤلاء تشعّب كلّ الأرض) (١) .

غير أنّها ذَكرتْ أيضاً أنّ الذين ركبوا مع نوح هم بَنوه وأزواجهم فحسب (٢) ؛ ليكون غيرهم لم يؤمنوا به إطلاقاً ممّا يبدو غريباً جدّاً، أو كانوا آمنوا ولكنّهم بقوا؛ ليكونوا مع المـُغرَقِينَ، وهذا أبعد وأغرب!

فالصحيح ما ذكره القرآن: ( قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاّ قَلِيلٌ ) (٣) فقد ركب معه من المؤمنين جماعة وإن كانوا في قلّة بالنسبة إلى قومه الأكثرين، وقد ذكر المفسّرون أنّهم كانوا ثمانين نفساً (٤) .

فلابدّ أنّ هؤلاء الذين ركبوا معه ونجوا كانوا معه وهبطوا جميعاً بسلام ( قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (٥) .

والتعبير بالأُمم ممّن معه يُعطي تناسل الأُمم منهم، منهم المؤمنون كآبائهم ومنهم الفاسقون، وهذا أيضاً مطلق شامل لكلّ من ركب معه وهبط إلى الأرض بسلام.

فالخطاب - مع بني إسرائيل - بأنّهم ذُرّيةُ مَن حملنا مع نوح (يعني الذين آمنوا به) يشمل الجميع.

ثمّ لو كان المراد ذُرّية وِلد نوح الذين ركبوا معه لكان التعبير بذريّة نوحٍ أَولى، من غير ضرورة تدعو إلى هذا الالتواء في التعبير الموهم!

والوجه فيما ذكره الكلبي وغيره؛ أنّه تأثّرٌ بروايات إسرائيليّة وينبو عنه ظاهر تعبير القرآن.

بقي قوله تعالى: ( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) (٦) يظهر منه أنّ البشريّة أصبحت جميعاً

____________________

(١) سِفر التكوين، إصحاح ٩ / ١٨.

(٢) المصدر: ٧ / ٨.

(٣) هود ١١: ٤٠.

(٤) مجمع البيان، ج٥، ص ١٦٤.

(٥) هود ١١: ٤٨.

(٦) الصافّات ٣٧: ٧٧.

٤٩

من ذريّة نوح ولم يُعقّب الآخرون.

لكن في رواية أبي الجارود عن الإمام مُحمّد بن علي الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى:

( وَجَعَلْنَا ذُرّيّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) قال: (الباقون بالحقّ والنبوّة والكتاب والإيمان في عَقِبه، قال: وليس كلّ مَن في الأرض مِن بني آدم، مِن وِلد نوح) واستشهد (عليه السلام) بالآية من سورة هود: ( ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ ) (١) .

وهو تأويل وجيه يَدعمه قوله تعالى: ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ) (٢) وهذا هو معنى البقاء ( وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ ) (٣) . يعني إبراهيم (عليه السلام) وقال تعالى: ( فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ... ) (٤) .

فالبقيّة الباقية في مصطلح القرآن هم الذين وَرِثوا الكتاب والنبوّة والإيمان، يأمرون بالمعروف ويَنهون عن المنكر، هذا هو البقاء وفي غيره الفناء، الأمر الذي تحقّق في ذرّية نوح وإبراهيم (عليهما السلام).

قال الحسن البصري: هلك المتمتّعون في الدنيا؛ لأنّ الجهل يغلب عليهم والغفلة فلا يتفكّرون إلاّ في الدنيا وعمارتها وملاذّها... (٥)

قال الإمام أمير المؤمنين عليه صلوات المصلّين: (هَلكَ خُزّانُ الأموالِ وهُم أحياءٌ والعلماءُ باقونَ ما بقيَ الدهرُ) (٦) .

نوح (عليه السلام) بعد الهبوط

قال تعالى: ( قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (٧) .

دلّت الآية على أنّ نوحاً هبط بسلامٍ وبركات، فقد أسّس أُمّةً وبنى حضارةً من

____________________

(١) تفسير القُمي، ج ٢، ص ٢٢٣.

(٢) الحديد ٥٧: ٢٦.

(٣) الزخرف ٤٣: ٢٨.

(٤) هود ١١: ١١٦.

(٥) مجمع البيان، ج ٥، ص ١٦٨.

(٦) نهج البلاغة، قصار الكلم، رقم ١٤٧، في كلامه (عليه السلام) مع كميل بن زياد النخعي عليه الرحمة، ص ٤٩٦

(٧) هود ١١: ٤٨.

٥٠

جديد وعمّر الأرض وأحيى البلاد، وسعى في إعلاء كلمة الله في الأرض على بنيانٍ مرصوص.

فقد أخذ من تجارب ماضية دليلاً هادياً له إلى تأسيس معالم جديدة تُنير درب الإنسان إلى حيث سعادته الخالدة، وكان التوفيقُ حليفَه في هذا الشَطر من حياته الكريمة، وصار قدوةً لمـَن جاء بعده من الأنبياء، وحتّى أنّ إبراهيم الخليل (عليه السلام) أصبح من شيعته، ( إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) (١) .

قال تعالى: ( وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ * وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) (٢) .

وكم عاشَ نوح بعد الطوفان؟ القرآن ساكت عنه، وفي الروايات اختلاف، خمسين إلى خمسمِئة عام (٣) أو أكثر ممّا لا اعتداد به.

والدُ إبراهيم (عليه السلام) تارَح أو آزر؟

ذكرت التوراة: أنّ والد إبراهيم (عليه السلام) هو (تارَح) بِراءٍ مفتوحةٍ وحاءٍ مهملة (٤) .

وجاء في القرآن: ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ... ) (٥) .

قال الزجّاج: لا خلاف بين النسّابين أنّ اسم والد إبراهيم (عليه السلام) تارَح، ومِن المـُلحِدة مَن جعل هذا طعناً في القرآن، وقال: هذا النسب - الذي جاء في القرآن - خطأ وليس بصواب.

وحاول الإمام الرازي الإجابة عن ذلك، بأنّه من المحتمل أنّ والد إبراهيم كان مسمّىً باسمين، فلعلّ اسمه الأصلي آزر، وجعل تارَح لقباً له، فاشتهر هذا اللقب وخَفي الاسم، والقرآن ذكره بالاسم (٦) .

ويتأيّدُ هذا الاحتمال بأنّ (تارَح) بالعِبريّة يُعطي معنى الكسول المتقاعس في

____________________

(١) الصافّات ٣٧: ٨٤.

(٢) الصافّات ٣٧: ٧٥ - ٨٤.

(٣) راجع: كمال الدين للصدوق، ص ١٣٤، رقم ٣، وبحار الأنوار، ج ١١، ص ٢٨٩.

(٤) سِفر التكوين، إصحاح ١١ / ٢٧.

(٥) الأنعام ٦: ٧٤.

(٦) راجع: التفسير الكبير، ج ١٣، ص ٣٧، وتفسير البيضاوي، ج٢، ص ١٩٤.

٥١

العمل (١) . أمّا (آزر) فهو النشيط في العمل؛ لأنّه من (الأَزر) بمعنى القوّة والنصر والعون. ومنه (الوزير) أي المـُعين، قال تعالى حكايةً عن موسى بشأن هارون: ( اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ) (٢) وهذا المعنى قريب في اللغات الساميّة، ومن ذلك عازر وعُزير في العِبريّة، وجاءت المادّة بنفس المعنى في العربيّة، قال الله تعالى: ( فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصـَرُوهُ ) (٣) ، ومعلوم أنّ العين والهمزة يتعاوران في اللغتين العِبريّة والعربيّة (٤) .

فلعلّ اسمه الأصلي كان (آزر) بمعنى النشيط، لكنّهم رأوا منه كسلاً وفشلاً في العمل والهمّة فلقبّوه بتارح، وكما اشتهر نبيّ الله يعقوب بلقب (إسرائيل).

* * *

أمّا مفسّرو الشيعة الإماميّة فيَرونَ أنّ (آزر) هذا لم يكن والد نبيّ الله إبراهيم (عليه السلام) وإنْ كان إبراهيم يدعوه أباً؛ لأنّ (الأب) أعمّ من الوالد، فيُطلق على الجدّ للأُمّ، وعلى المربّي والمعلّم والمرشد، وعلى العمّ أيضاً، حيث جاء إطلاق الأب عليه في القرآن، فقد حكى الله على أولاد يعقوب قولهم: ( نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ) (٥) ، وإسماعيل كان عمّاً ليعقوب.

قال الشيخ أبو جعفر الطوسي: والذي قاله الزجّاج يُقوّي ما قاله أصحابُنا: أنّ آزر كان جدّ إبراهيم لأُمّه، أو كان عمّه؛ لأنّ أباه كان مؤمناً، لأنّه قد ثبت عندهم أنّ آباء النبي (صلّى الله عليه وآله) إلى آدم كلّهم كانوا مُوحّدين لم يكن فيهم كافر، ولا خلاف بين أصحابنا في هذه المسألة.

قال: وأيضاً رُوي عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: (نَقَلني اللهُ مِن أصلابِ الطّاهرينَ إلى أَرحامِ الطّاهراتِ، لمْ يُدنّسني بِدَنسِ الجاهليّةِ). وهذا خبر لا خلاف في صحّته (٦) ، فبيّنَ النبيُّ (صلّى الله عليه وآله) أنّ

____________________

(١) جاء في قاموس الكتاب المقدّس (بالفارسيّة) ص ٢٤١: (تارح: تنبل) أي الكسلان.

(٢) طه ٢٠: ٣١.                                      (٣) الأعراف ٧: ١٥٧.

(٤) راجع: قصص الأنبياء للنجّار، ص ٧٠.          (٥) البقرة ٢: ١٣٣.

(٦) ورد في تأويل قوله تعالى: ( وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ) ، الشعراء ٢٦: ٢١٩، بطرق الفريقين أحاديث متضافرة أنّه (صلّى الله عليه وآله) قال: (لمْ أَزَلْ أُنقلُ مِن أصلابِ الطّاهرين إلى أرحامِ الطّاهراتِ). راجع: التفسير الكبير، ج ١٣، ص ٣٩، والدرّ المنثور، ج ٦، ص ٣٣٢، مجمع البيان، ج ٧، ص ٢٠٧.

٥٢

الله نقله من أصلاب الطّاهرينَ، فلو كان فيهم كافر لما جاز وصْفُهم بأنّهم طاهرون؛ لأنّ الله وَصف المشركينَ بأنّهم أنجاس: ( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ) (١) .

قال: ولهم في ذلك أدلّة لا نطوّلُ بذكرها الكتابَ؛ لئلاّ يخرج عن الغرض (٢) .

* * *

وللإمام الرازي هنا بحث طويل وحُجج أقامها دعماً لما يقوله مُفسّرو الشيعة، وأخيراً يقول: فثبت بهذه الوجوه أنّ (آزر) ما كان والد إبراهيم (عليه السلام) بل كان عمّاً له، والعمّ قد يُسمّى بالأب، كما سمّى أولادُ يعقوب إسماعيلَ أباً ليعقوب، وقال النبي (صلّى الله عليه وآله) بشأن عمّه العباس حين أُسِر: (ردّوا عليَّ أبي).

قال: وأيضاً يُحتمل أنّ (آزر) كان والد أُمّ إبراهيم، وهذا قد يقال له الأب، والدليل عليه قوله تعالى: ( وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ - إلى قوله - وَعـِيسَى ) (٣) ، فجعل عيسى من ذرّية إبراهيم، مع أنّه (عليه السلام) كان جدّاً لعيسى من قبل الأُمّ (٤) .

* * *

ولسيّدنا الطباطبائي تحقيق بهذا الشأن، استظهر من القرآن ذاته أنّ (آزر) الذي خاطبه إبراهيم بالأُبوّة وجاء ذلك في كثير من الآيات لم يكن والده قطعيّاً.

وذلك أنّ إبراهيم في بداية أمره حين كان بين أَظهُر قومِه من أرض كِلدان، وكان تحت كفالة آزر، وقد حاجّ قومه وحاجّ أَباه كثيراً وفي فترات ومناسبات مؤاتية، وكان أبوه آزر يطارده ويؤنّبُه على جُرأته على آلهة قومه: ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً * إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً * قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي

____________________

(١) التوبة ٩: ٢٨.

(٢) تفسير التبيان للطوسي، ج ٤، ص ١٧٥. وراجع: أيضاً مجمع البيان، ج ٤، ص ٣٢٢.

(٣) الأنعام ٦: ٨٤ و ٨٥.

(٤) التفسير الكبير، ج ١٣، ص ٤٠.

٥٣

حَفِيّاً ) (١) .

فإبراهيم هنا قد وَعَد أباه أنْ يستغفرَ له، وبالفعل وَفيَ بِوعده: ( رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ * وَاغْفِرْ لأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ ) (٢) .

لكن سُرعان ما رجع عمّا كان قد رجا في أبيه خيراً، ومِن ثَمّ تبرّأ منه حين لم يرجُ فيه الصلاح ويئِس منه، قال تعالى: ( وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ) (٣) .

هذا في بداية أمره قبل مغادرة بلادِه وقومِه قاصداً البلاد المقدّسة، والدليل على ذلك أنّه يبدأ الدعاء بقوله: ( رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ... الخ).

* * *

وبعد ذلك يأتي دورُ مغادرتِه إلى الأرض المقدّسة، ويبتهل إلى الله أن يرزقَه أولاداً صالحين. ( فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ * وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ) (٤) .

وهنا يُجيب الله دعاءه: ( وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ ) (٥) .

ثمّ إنّه لمـّا كَبُر ابنه إسماعيل وبنى البيتَ الحرام نراه يدعو لوالديه ويستغفر لهما: ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ ) إلى قوله: ( رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ) (٦) .

قال العلاّمة الطباطبائي: والآية بما لها من السياق والقرائن المـُحتفّة بها خير شاهدةٍ على أنّ والدَهُ الذي دعا له واستغفر له هنا غير أبيه آزر الذي تبرّأ منه في سالف الأيّام، فقد تحصّل أنّ آزر الذي جاء ذِكره في تلك الآيات لم يكنْ والد إبراهيم ولا أباه الحقيقي،

____________________

(١) مريم ١٩: ٤١ - ٤٧.

(٢) الشعراء ٢٦: ٨٣ - ٨٦.

(٣) التوبة ٩: ١١٤.

(٤) الصافّات ٣٧: ٩٨ - ١٠٠.

(٥) الأنبياء ٢١: ٧١ و ٧٢.

(٦) إبراهيم ١٤: ٣٥ - ٤١.

٥٤

وإنّما صحّ إطلاق الأب عليه لوجود عناوين تسوّغ اللغة مثل هذا الإطلاق كالجدّ للأمّ والعمّ، وزوج الأُمّ، وكلّ مَن يتولّى شأن صغير، وكذا كلّ كبير مُطاع، ونحو ذلك، وليس مثل هذا التوسّع في إطلاق لفظ الأب مختصّاً بلغة العرب، بل هو جارٍ في سائر اللغات أيضاً (١) .

الذبيح هو إسماعيل وليس بإسحاق!

جاء في سِفر التكوين، الإصحاح ٢٢:

١ - وحدث بعد هذه الأمور أنّ الله امتحن إبراهيم، فقال له: يا إبراهيم، خذ ابنك وحيدك الذي تحبّه إسحاق واذهب إلى أرض المريّا وأَصعِده هناك.

٩ - فلمـّا أتيا إلى الموضع ورتّب الحطب وربط إسحاق ابنه ووضعه على المـَذبح فوق الحطب.

١٠ - ثمّ مدّ إبراهيم يده وأخذ السكّين ليذبح ابنه.

١١ - فناداه مَلاك الربّ من السماء.

١٢ - فقال: لا تمدّ يدك إلى الغلام ولا تفعل به شيئاً؛ لأنّي الآن علمت أنّك خائف الله، فلم تُمسك ابنك وحيدك عنّي.

١٣ - فرفع إبراهيم عَينَيه ونظر وإذا كبش وراءه مُمسكاً في الغابة بِقرنَيه، فذهب إبراهيم وأخذ الكبش وأصعده مَحرقةً عِوضاً عن ابنه.

١٥ - ونادى مَلاك الربّ إبراهيم ثانيةً من السماء، وقال: بذاتي أقسمتُ يقول الربّ: إنّي من أجل أنّك فعلت هذا الأمر ولم تُمسك ابنك وحيدك، أبارِكُكَ مباركةً، وأُكثِر نسلك تكثيراً كنجوم السماء وكالرمل الذي على شاطئ البحر، ويرث نسلك باب أعدائه، ويتبارك في نسلك جميع أُممِ الأرض؛ من أجل أنّك سمعتَ لقولي.

* * *

بَطلُ هذه القصّة عند اليهود هو إسحاق، ولعلّ لفظ إسحاق حُشِر حشراً في غضون القصّة؛ وذلك حرصاً من بني إسرائيل على أن يكون أبوهم هو الذبيح الذي جاء بنفسه في طاعة ربّه، وبُوركَ للعالمينَ في نسله.

____________________

(١) راجع: تفسير الميزان، ج ٧، ص ١٦٨ - ١٧١.

٥٥

غير أنّ التعبير بـ (ابنك وحيدك) - دليلاً على سخاء نفس إبراهيم بولده الوحيد يذبحه امتثالاً لأمر ربّه - ممّا يتنافى وكون الذبيح هو إسحاق، الذي كان أصغر من أخيه إسماعيل بأربعة عشرة عاماً.

فالابن الوحيد الذي جادت نفس إبراهيم بذبحه ليس سوى إسماعيل.

وقرينة أخرى: إنّ الذي بُورك العالمونَ بنسلهِ وأفاض نسلُهُ بالبركات على العالمينَ هو إسماعيل، دون إسحاق الذي كان ولا يزال نسله (بنو إسرائيل) نكبةً في العالمينَ، ومَفْجَر الفساد بين العباد، والعيث في البلاد.

وفي القرآن إشارة إلى ذلك، حيث يقول تعالى ( فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ ) (١) .

فالتبشير الأَول بغلامٍ حليم يُنبئ عن أنّ إبراهيم لم يكن صاحب وَلَد لحينذاك؛ حيث بشّره بغلام.

والتبشير الثاني جاء تصريحاً باسم إسحاق نبيّاً من الصالحين، فيدلّ على أنّ التبشير الأَوّل كان بغير إسحاق، وهو إسماعيل.

وفي الإصحاح ٢١ من سِفر التكوين:

إنّ الربّ بشّر إبراهيم بنسلٍ في وَلَده إسحاق، وبنسلٍ في وَلَده إسماعيل، ولكن يجعل من نسلِ إسماعيلَ أُمّةً.

جاء في العدد ١٢: لأنّه بإسحاق يُدعى لك نسل.

____________________

(١) الصافّات ٣٧: ١٠١ - ١١٣.

٥٦

وفي العدد ١٣: وابن الجارية أيضاً سأجعله أُمّةً؛ لأنّه نسلك.

ومن ذلك يُعرف أنّ البركة العامّة الشاملة التي جُعِلت في نسل الذبيح خاصّة بوِلد إسماعيل، فقد أصبحوا أُمّةً هيمنت ببركتها ما بين الخافقَينِ.

قصّة لوط مع ابنتَيه كما هي في التوراة

جاء في الإصحاح ١٩ من سِفر التكوين:

٣٠ - وصعد لوط من صُوغَر وسكن في الجبل وابنتاه معه؛ لأنّه خاف أنْ يَسكن في صُوغَر، فسكن في المغارة هو وابنتاه.

٣١ - وقالت البِكر للصغيرة: أبونا قد شاخ وليس في الأرض رجلٌ ليدخلَ علينا كعادة كلّ الأرض.

٣٢ - هلمـّ نَسقي أبانا خمراً ونضطجعُ معه، فنُحيي من أبينا نسلاً.

٣٣ - فَسَقَتا أباهما خمراً في تلك الليلة، ودخلت البِكر واضطجعت مع أبيها، ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها.

٣٤- وحدث في الغد أنّ البكر قالت للصغيرة: إنّي قد اضطجعتُ البارحةَ مع أبي، نَسقيه خمراً الليلةَ أيضاً، فادخلي اضطجعي معه، فنُحيي من أبينا نسلاً.

٣٥ - فَسَقتا أباهما خمراً في تلك الليلة أيضاً، وقامت الصغيرة واضطجعت معه، ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها.

٣٦ - فجعلت ابنتا لوط من أبيهما.

٣٧ - فولدت البِكر ابناً ودعت اسمه مؤاب، وهو أبو المؤابيّين إلى اليوم.

٣٨ - والصغيرة أيضاً ولدت ابنا ودعت اسمه بن عمّي، وهو أبو بني عمّون إلى اليوم.

* * *

هذا، ولكنّ القرآن يأبى أنْ تتلوّث ساحة قُدسِ نبيٍّ من أنبيائه بِمثل هكذا تلوّث فضيع، فقد نزلت بشأنه ورفعةِ مقامِهِ آياتٌ تُتلى؛ ولتكون شهادةً من الله بنزاهةِ ساحةِ قدس أوليائه الكرام:

٥٧

قال تعالى: ( وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ) (١) .

( وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلاّ عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ ) (٢) .

يعقوب ينتهب النبوّة من أخيه عيسو!

لم تتوان اليهود في الحطِّ من كرامة الأنبياء حتّى ولقد مدّوا يد التدنيس إلى حياة أبيهم يعقوب ليجعلوه مُتزوّراً، لبّسَ الأمرَ على أبيه إسحاق لينتهبَ النبوّة من أخيه - عيسو -؛ حيث كان مُرشّحاً لها من قِبل أبيه، فأغفل يعقوب أباه إسحاق واستغلّ عَماه ليتصوّر أنّه عيسو فيبارك له بالنبوّة! في مثل هذا التلاعب الصبياني تذكر التوراة حادث انتقال النبوّة من إسحاق إلى يعقوب، يا لها مِن مهزلة حمقانيّة وإساءة أدب إلى ساحة أنبياء الله العظام! (٣)

____________________

(١) الأنبياء ٢١: ٧٤ و ٧٥.

(٢) الصافّات ٣٧: ١٣٣ - ١٣٥.

(٣) جاء في الإصحاح ٢٧ من سِفر التكوين:

وحَدَث لمـّا شاخ إسحاق وكلّتْ عيناه أنّه دعا عيسو ابنه الأكبر وقال: اخرج إلى البريّة وتصيّد لي صيداً، واصنع لي أطعمةً حتّى تباركَك نفسي قبل أنْ أموت، وكانت رفقة (زوجة إسحاق وأُمّ يعقوب) سامعةً إذ تكلّم إسحاق مع عيسو ابنه، فكلّمت يعقوب ابنها بما قال أبوه، قال: فالآن يا بني اذهب إلى الغنم وخذ جديَّينِ جيّدين مِن المعزى، فاصنعهما أطعمةً لأبيك كما يحبّ، فتُحضرها إليه ليأكلَ و يباركك قبل وفاته، فذهب يعقوب وأخذ وأحضر لأُمّه، فصنعت أطعمةً كما كان يُحبّ أبوه، وأخذت رفقة لباس عيسو الفاخرة وألبستها ابنها يعقوب، وألبست يديه وملاسة عُنقه جلود جديَي المعزى - لأنّ عيسو كان أشعر ويعقوب كان أملس - صنعت ذلك تلبيساً على إسحاق، وأعطت الأطعمة في يد يعقوب، فدخل إلى أبيه وقال: يا أبي فقال: ها أنا ذا، من أنت يا بني؟ فقال يعقوب: أنا عيسو بِكرُك، قد فعلتُ كما كلّمتني، قم اجلس وكل من صيدي لكي تباركَني نفسُك، فقال إسحاق: ما هذا الذي أسرعت؟ فقال: إنّ الربّ إلهك قد يسّر لي. فقال إسحاق: تقدّم لأَجُسّك يا بني، أَأنت هو ابني عيسو أم لا؟ فتقدّم يعقوب، فجَسّه وقال: الصوتُ صوت يعقوب، ولكنّ اليدين يدا عيسو، ولم يعرفه؛ لأنّ يديه كانتا مُشعرتين كَيَدي عيسو أخيه، فباركه وقال: هل أنت هو ابني عيسو؟ فقال: أنا هو؛ فدعا له إسحاق وقال ليُستعبد لك شعوبٌ، وتسجد لك قبائلٌ، كنْ سيّداً لإخوتك وليسجد لك بنو أُمّك، وعندما فرغ إسحاق من بركةِ يعقوب وخرج من عنده جاء عيسو وأتى بالصيد ليبارك له أبوه فارتعد إسحاق ارتعاداً عظيماً جدّاً، واتّضح الأمر، فصرخ عيسو صرخةً عظيمةً ومرّةً جدّاً، وقال لأبيه: باركني أيضاً، فقال: قد جاء أخوك بمَكرٍ وأخذَ بركتَك، ورفع عيسو صوته وبكى، وقال: قد أخذ يعقوب بكورتي وبركتي، وعزم على قتل أخيه؛ لولا فراره من وجهه واختفاؤه عند أخواله بإشارة من أُمّه رفقة، وهكذا أصبح يعقوب نبيّاً وأصبح إخوته عبيداً له.

٥٨

يعقوب يصارع الربّ

وكارثةً أُخرى ألصقوها بنبيّ الله يعقوب، وهي أنّه صارع الربّ ليلته كلّها، ولم يتركه حتّى ضربه الربّ على حقّ فخذه أي رأس ورِكه، فباركَه حتّى تركه يعقوب (١) .

أمّا القرآن فإنّه يصف إسحاقَ ويعقوب بأجمل وصف، وأنّهما من عباد الله الصالحينَ: ( وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ * وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الأَخْيَارِ ) (٢) .

( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) (٣) .

والآيات بترفيع شأن إبراهيم وبَنيه إسحاق ويعقوب وإسماعيل كثيرةٌ في القرآن، على العكس ممّا جاء في التوراة اليهوديّة، من الحطّ بكرامة الأنبياء (عليهم السلام).

خروج بني إسرائيل وتجاوزهم البحر

جاء في سِفر الخروج أنّ فرعون اضطرّ إلى إطلاق سراح بني إسرائيل؛ لِما أصاب القبطيّين من الجدب والبلاء، لكنّه فور ما أطلق سراحهم ندم على ذلك فأخذ هو وجنوده

____________________

(١) جاء في الإصحاح ٣٢ من سِفر التكوين رقم ٢٢ - ٢٩:

ثمّ قام في تلك الليلة وأخذ امرأتَيه وجاريتَيه وأولاده الأحد عشر، وعَبَرَ مخاضةَ يبوق، أخذهم وأجازهم الوادي وأجاز ما كان له، فبقى يعقوب وحده. وصارعه إنسان حتّى طلوع الفجر، ولمـّا رأى أنّه لا يقدر عليه ضرب حُقّ فَخِذه، فانخلع حُقّ فَخِذ يعقوب في مصارعته معه، وقال: أَطلقني؛ لأنّه قد طلع الفجر، فقال لا أُطلقك إنْ لم تباركْني. فقال له ما اسمك؟ فقال: يعقوب. فقال: لا يُدعى اسمك في ما بعد يعقوب، بل إسرائيل؛ لأنّك جاهدت مع الله والناس وقدرت، وسأل يعقوب وقال: أَخبرني باسمك. فقال: لماذا تسأل عن اسمي؟ وباركه هناك، فدعا يعقوب اسم المكان فنيئيل، قائلاً: لأنّي نظرت الله وجهاً لوجه.

(٢) ص ٣٨: ٤٥ - ٤٧.

(٣) الأنعام ٦: ٨٣ - ٨٨.

٥٩

يعقّبونهم ليردّوهم إلى الذلّ والعبوديّة الأُولى، غير أنّ بني إسرائيل ضلّوا الطريق إلى فلسطين - وكانت قريبةً - فأخذوا في الطريق البعيد، وتقول التوراة: إنّ الله هو الذي أَضلّهم كي لا يندموا إذا رأَوا حرباً فيرجعوا إلى مصر، فأَدركهم فرعون وهم على ضفّة البحر الأحمر، فلمـّا رأى بنو إسرائيل فرعونَ وجنودَه ذَعَروا وفَزِعوا إلى موسى، فأوحى الله إليه أنّهم ناجون وأنّ فرعون وجنوده سوف يغرقون، وحال بينهم وبين فرعون.

فأَمر الله موسى أنْ يضربْ بعصاه البحر ويشقّه، ففعل فأجرى الله بريحٍ شرقيّةٍ شديدة كلّ اللّيل، وجعل البحر طريقاً يابسةً وانشقّ الماء، فمشى بنو إسرائيل على اليابسة في وسط البحر والماء كالسور عن يمينهم وعن يسارهم وعبروا إلى الضفّة الأُخرى، ورآهم فرعون يسيرون على اليابسة فسار في أَثرهم، فلمـّا توسّط اليمّ وعَبر بنو إسرائيل جميعاً انطبق الماء على فرعون وجنوده فأُغرِقوا جميعاً ولم يبقَ منهم ولا واحد (١) .

ونصّت التوراة أنّ البحر الذي جاوزه بنو إسرائيل هو بحر سُوف (٢) ، والموضع الذي انشقّ منه كان عند فم الحيروث أتام بعل صفون (٣) ، وجاء في قاموس الكتاب المقدّس أنّه (القُلزم) (٤) .

و(فم الحيروث) مَضيق قُرب نهاية خليج السويس على ما جاء في خارطة الأراضي المقدّسة - مُلحق كُتب العهدَين.

وهكذا جاء في المأثور من دعاء (السِّمات) المعروف بدعاء (شبّور): (ويوم فَرَقتَ لبني إسرائيل البحر وفي المـُنبجسات التي صنعت بها العجائب في بحر سُوف...).

وقال العلاّمة المجلسي - في شرح الدعاء -: سمّاه الهروي في الغريبَين (إساف) قال: وهو الذي غَرِق فيه فرعون: قال المجلسي: وهذا البحر هو بحر القُلزم (٥) .

ولعلّ ما جاء في عبارة الدعاء (وفي جبل حوريث) (٦) ، أيضاً إشارة إلى (فم الحيروث).

____________________

(١) سِفر الخروج، إصحاح ١٠ - ١٤.

(٢) المصدر: ١٣ / ١٨، و ١٥ / ٥.

(٣) المصدر: ١٤ / ٩.

(٤) قاموس الكتاب المقدّس لجيمس هاكس، ص ٤٩٦.

(٥) بحار الأنوار، ج ٨٧، ص ١١٢.

(٦) بحار الأنوار، ج ٨٧، ص ١١٢.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

فأحرجها قائلة: إلى الله أشكو عقوق أبنائي(٦٦٥) .

[ عبدالله بن حكيم التميمي وطلحة ]

جاء عبدالله بن حكيم يناشد طلحة فيقول له(١) : يا أبا محمد أما هذا كتبك إلينا ؟. قال طلحة: بلى قال: كتبت أمس تدعونا إلى خلع عثمان وقتله، حتى إذا قتلته أتيتنا ثائرا بدمه ! فلعمري ما هذا رأيك، ان تريد إلا هذه الدنيا، فمهلا مهلا. ولم قبلت من علي ما عرض عليك من البيعة، فبايعته طائعا راضيا، ثم نكثت بيعتك، وجئت لتدخلنا في فتنتك ؟ فقال: ان عليا دعاني إلى بيعته بعدما بايعه الناس(٢) ، فعلمت إني لو لم أقبل ما عرضه علي لم يتم لي الأمر، ثم يغري بي من معه(٦٦٦) .

[ حكيم من بني جشم ينصح أهل البصرة ]

لما انتهت عائشة بمن معها إلى المربد - مكان من البصرة - قام الجشمي يخاطب أهل البصرة وقد اجتمعوا هناك فيقول(٣) : أنا فلان بن فلان الجشمي وقد أتاكم هؤلاء القوم، فان أتوكم خائفين، فانما أتوكم من المكان الذي يأمن فيه الطير والوحش والسباع، وان كانوا أتوكم بدم عثمان فغيرنا ولي قتله، فأطيعوني أيها الناس وردوهم من حيث أقبلوا، فانكم ان لم تفعلوا لم تسلموا من الحرب الضروس، والفتنة الصماء، فحصبه من أهل البصرة أشياع الجمل(٦٦٧) .

____________________

(٦٦٥) (١) كما في ص ٥٠٠ من المجلد الثاني من شرح النهج الحميدى (منه قدس).

(٢) كذب هذا الناكث، إذ كان أول مبايع لعلى، نعوذ بالله من سوء الخاتمة (منه قدس).

(٦٦٦) الغدير ج ٩ / ٩٩.

(٣) كما في أواخر ص ٤٩٨ من المجلد الثاني من شرح النهج الحميدى (منه قدس)

(٦٦٧) تاريخ الطبري ج٥ / ١٧٥ (*).

٤٦١

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٤٤١: -

[ خطاب عائشة في أهل البصرة ]

ثم أقبلت عائشة على جملها عسكر، فنادت بصوت مرتفع(١) : أيها الناس أقلوا الكلام واسكتوا، فسكت الناس لها فقالت: أيها الناس ان أمير المؤمنين عثمان كان قد غير وبدل، ثم لم يزل يغسل ذلك بالتوبة حتى قتل مظلوما تائبا، وانما نقموا عليه ضربه بالسوط، وتأميره الشبان، وحمايته موضع الغمامة فقتلوه محرما في حرمة الشهر وحرمة البلد ذبحا كما يذبح الجمل، ألا وان قريشا رمت غرضها بنبالها، وأدمت أفواهها بأيديها، وما نالت بقتلها اياه شيئا، ولا سلكت به سبيلا قاصدا، أما والله ليرونها بلايا عقيمة تنبه القائم، وتقيم الجالس، وليسلطن الله عليهم قوما لا يرحمونهم، يسومونهم سوء العذاب.

أيها الناس انه ما بلغ من ذنب عثمان ما يستحل به دمه، ماصوه كما يماص الثوب الرحيض، ثم عدوا عليه فقتلوه بعد توبته، وخروجه من ذنبه، وبايعوا ابن أبي طالب بغير مشورة من الجماعة ابتزازا وغصبا، أترونني أغضب لكم من سوط عثمان ولسانه، ولا أغضب لعثمان من سيوفكم ! ألا ان عثمان قتل مظلوما فاطلبوا قتلته، فإذا ظفرتم بهم فاقتلوهم ثم اجعلوا الأمر شورى بين الرهط الذين اختارهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ولا يدخل فيهم من شرك في دم عثمان.

____________________

(١) كما في ص ٤٩٩ من المجلد الثاني من شرح النهج الحميدى (منه قدس) (*).

٤٦٢

قال أهل السير والأخبار: فماج الناس واختلفوا. فمن قائل: القول ما قالت أم المؤمنين. ومن قائل يقول: ما هي وهذا الأمر انما هي امرأة مأمورة بلزوم بيتها. وارتفعت الأصوات، وكثر اللغط، حتى تضاربوا بالنعال وتراموا بالحصى، ثم تمايزوا فريقين، فريقا مع عثمان بن حنيف، وفريقا مع عائشة وأصحابها(٦٦٨) .

[ وقوف الفريقين للقتال ]

ثم أصبح الفريقان من غد، فصفا للحرب، وخرج عثمان بن حنيف(١) فناشد عائشة الله والإسلام، وأذكر طلحة والزبير بيعتهما عليا. فقالا: نطلب بدم عثمان فقال لهما: وما أنتما وذاك، أين بنوه ؟ أين بنو أعمامه الذين هم أحق به منكم ؟ كلا ولكنكما حسدتما عليا حيث اجتمع الناس عليه، وكنتما ترجوان هذا الأمر، وتعملان له، وهل كان أحد أشد على عثمان قولا منكما ؟ ! فشتماه شتما قبيحا وذكرا أمه، فقال للزبير: لولا صفية ومكانها من رسول الله، فانها أدنتك إلى الظل، وان الأمر بيني وبينك يا ابن الصعبة يعني طلحة. ثم قال: اللهم اني قد أعذرت.

ثم حمل فاقتتل الناس قتالا شديدا، ثم تحاجزوا واصطلحوا على كيفية خاصة، فصلها المؤرخون، أرجأوا فيها الأمر إلى ما بعد وصول أمير المؤمنين إلى البصرة، وأعطى الفريقان على ما كتبوه

____________________

(٦٦٨) وقريب منه في: الكامل لابن الأثير ج ٣ / ١٠٩.

(١) كما في ص ٥٠٠ من المجلد الثاني من شرح النهج الحميدى (منه قدس) (*).

٤٦٣

من الصلح عهد الله وميثاقه، وأشد ما أخذه على نبي من أنبيائه من عهد وذمة وميثاق، وختم الكتاب من الفريقين(٦٦٩) .

لكن عائشة وطلحة والزبير أجمعوا على مراسلة القبائل واستمالة العرب ووجوه الناس وأهل الرئاسة والشرف، من حيث لا يشعر الأمير ابن حنيف وأصحابه، فلما استوثق لأصحاب الجمل أمرهم، خرجوا في ليلة مظلمة ذات ريح ومطر، وقد لبسوا الدروع وظاهروا فوقها بالثياب، فانتهوا، إلى المسجد وقت صلاة الفجر وقد سبقهم عثمان بن حنيف إليه وأقيمت الصلاة فتقدم عثمان ليصلي، فأخره أصحاب طلحة والزبير وقدموا الزبير، فجاءت الشرطة وحرس بيت المال فأخرجوا الزبير وقدموا عثمان، ثم غلبهم أصحاب الزبير وقدموه، فلم يزالوا كذلك حتى كادت الشمس تطلع، فصاح بهم أهل المسجد: ألا تتقون بالله يا أصحاب محمد ؟ وقد طلعت الشمس، فغلب الزبير وصلى بالناس.

فلما فرغ من صلاته صاح بأصحابه المسلحين: أن خذوا عثمان بن حنيف فلما أسر ضرب ضرب الموت ونتفت لحيته وشارباه وحاجباه وأشفار عينيه، وكل شعرة في رأسه ووجهه، وأخذوا الشرطة وحراس بيت المال وهم سبعون رجلا من المؤمنين من شيعة علي فانطلقوا بهم وبعثمان بن حنيف إلى عائشة فقالت لابان بن عثمان: اخرج إليه فاضرب عنقه فان الأنصار قتلوا أباك.

فنادى عثمان بن حنيف: يا عائشة ويا طلحة ويا زبير ان أخي سهلا خليفة علي على المدينة، وأقسم بالله ان لو قتلت ليضعن السيف في نبي أبيكم ورهطكم فلا يبقي ولا يذر. فكفوا عنه.

وأمرت عائشة الزبير أن يقتل الشرطة وحراس بيت المال وقالت له: قد بلغني الذي صنعوا بك، فذبحهم والله الزبير كما

____________________

(٦٦٩) راجع: الكامل ج ٣ / ١١٠، مروج الذهب ج ٢ / ٣٥٨ ط بيروت. (*)

٤٦٤

يذبح الغنم، ولي ذلك منهم ابنه عبدالله وهم سبعون رجلا، وبقيت منهم طائفة مستمسكين بيت المال قالوا: لا ندفعه إليكم حتى يقدم أمير المؤمنين. فسار إليهم الزبير في جيش ليلا فأوقع بهم وأخذ منهم خمسين أسيرا فقتلهم صبرا.

فكان هذا الغدر بعثمان بن حنيف، أول غدر كان في الإسلام، وكان قتل الشرطة وحراس بيت المال أول قوم ضربت أعناقهم من المسلمين صبرا، وكانوا مائة وعشرين رجلا، وقيل كانوا (كما في ٥٠١ من المجلد الثاني من شرح النهج الحميدي) أربعمأة رجل(٦٧٠) .

ثم طردوا عثمان بن حنيف فلحق بعلي، فلما رآه بكى وقال له: فارقتك شيخا وجئتك أمرد. فقال علي: انا لله وانا إليه راجعون. يقولها ثلاثا(٦٧١)

وقد منيعليه‌السلام في هذه المأساة بغصة لا تساغ، كان يشكو بثه فيها وحزنه إلى الله فيقول على المنبر: " اللهم إني أستعديك على قريش ومن أعانهم، فانهم قطعوا رحمي، وصغروا عظيم منزلتي، وأجمعوا على منازعتي أمرا هو لي ثم قالوا: ألا ان في الحق ان تأخذه، وفي الحق أن تتركه "(٦٧٢) (ثم ذكر أصحاب الجمل فقال): " فخرجوا يجرون حرمة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كما تجر الأمة عند شرائها متوجهين بها إلى البصرة، فحبسا نساءهما في بيوتهما، وأبرزا حبيس رسول الله لهما ولغيرهما في جيش ما منهم رجل إلا وقد أعطاني الطاعة وسمح لي بالبيعة طائعا غير مكره فقدموا على عامل بها وخزان بيت مال المسلمين وغيرهم من أهلها، فقتلوا طائفة صبرا وطائفة غدرا. " الخطبة وهي في نهج البلاغة(٦٧٣) .

____________________

(٦٧٠) مروج الذهب ج ٢ / ٣٥٨.

(٦٧١) تاريخ الطبري ج ٥ / ١٨٦.

(٦٧٢) نهج البلاغة الخطبة - ٢١٧ -.

(٦٧٣) نهج البلاغة الخطبة - ١٧٢ - (*).

٤٦٥

[ موقف حكيم بن جبلة(١) ]

لما بلغ حكيم بن جبلة ما صنع القوم بعثمان بن حنيف وخزان بيت مال المسلمين وغيرهم خرج في ثلثمائة من عبدالقيس وكان سيدهم. فخرج القوم إليه وحملوا عائشة على جمل، فسمي ذلك اليوم يوم الجمل الأصغر، ويومها مع علي يوم الجمل الأكبر.

وتجالد الفريقان بالسيوف وأبلى حكيم وأصحابه بلاء حسنا، لكن شد رجل من الأزد من عسكر عائشة على حكيم فضرب رجل فقطعها، ووقع الأزدي عن فرسه، فجثا حكيم فأخذ رجله المقطوعة فضرب بها الأزدي فصرعه ثم دب إليه فقتله خنقا متكئا عليه حتى زهقت نفسه، فمر بحكيم إنسان وهو يجود بنفسه فقال له: من فعل بك هذا ؟ قال: وسادي فنظر فإذا الأزدي تحته.

وكان حكيم من أبطال العرب وشجعان المسلمين المستبصرين في شأن أهل البيت، وقد قتل معه ابنه الأشرف وإخوة له ثلاثة، وقتل معه أصحابه كلهم وهم ثلثمائة من عبدالقيس وكلهم من الاخيار، وربما كان بعض المقتولين يومئذ من بكر بن وائل. فلما صفت البصرة لعائشة وطلحة والزبير بعد قتل حكيم وأصحابه، وطردا ابن حنيف عنها.

اختلف طلحة والزبير في الصلاة، وأراد كل منهما أن يؤم بالناس، وخاف أن تكون صلاته خلف صاحبه تسليما له، ورضي بتقدمه ،

____________________

(١) فصله أهل السير والأخبار فراجعه في ص ٥٠١ من المجلد الثاني من شرح النهج (منه قدس) (*).

٤٦٦

فأصلحت بينهما عائشة بأن جعلت الإمامة يوما لعبد الله بن الزبير، ويوما لمحمد ابن طلحة ولما دخلوا بيت المال في البصرة ورأوا ما فيه من الأموال. قرأ الزبير - وقد استفزه الفرح -:( وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ ) فنحن أحق بها من أهل البصرة(٦٧٤) .

هذا مجمل ما كان في البصرة من الأحداث قبل وصول أمير المؤمنين إليها.

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٤٤٦: -

[ وصول علي إلى البصرة والتقاء الجمعين ]

ثم جاء علي بعدها إلى البصرة بمن معه فنهدت إليه عائشة بمن معها تذوده عنها، وكانت رابطة الجأش، مشيعة القلب فكف يده عنها وعنهم باذلا وسعه في إصلاح ذا البين على ما يرضي الله تعالى ورسوله، وبلغ في ذلك كل مبلغ من قول أو فعل.

حتى روى ابن جرير الطبري(١) وغيره من اثبات أهل السير والأخبار: ان عليا دعا إليه الزبير يومئذ فذكره بكلمة قالها النبي له بمسمع منه وهي قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : " ليقاتلنك ابن عمتك هذا وهو لك ظالم "(٦٧٥) فانصرف عنه الزبير

____________________

(٦٧٤) اختلاف طلحة والزبير في الإمارة: مروج الذهب ج ٢ / ٣٥٧، تاريخ الطبري ج ٥ / ١٨٢.

(١) في خبر وقعة الجمل أواخر ص ٥١٩ من الجزء الثالث من تاريخ الأمم والملوك (منه قدس).

(٦٧٥) يوجد هذا الحديث بهذا اللفظ وقريب منه في كل من: المستدرك للحاكم ج ٣ / ٣٦٦ وصححه هو والذهبي، الأغاني لأبي الفرج ج ١٦ / ١٣١ و ١٣٢، العقد الفريد ج ٢ / ٢٧٩، مروج الذهب ج ٢ / ٣٦٣، الكامل لابن الأثير ج ٢ / ١٢٢، مطالب السئول ص ٤١، الرياض النضرة ج ٢ / ٢٧٣، مجمع الزوائد ج ٧ / ٢٣٥، =>

٤٦٧

وقال: فاني لا أقاتلك ورجع إلى ابنه عبدالله فقال: مالي في هذا الحرب بصيرة، فقال له ابنه: انك قد خرجت على بحيرة ولكنك رأيت رايات ابن أبي طالب وعرفت ان تحتها الموت فجبنت. فأحفظه ولده حتى أرعد وغصب وقال ويحك إني قد حلفت له أن لا أقاتله، فقال ابنه: كفر عن يمينك بعتق غلامك سرجس. فأعتقه وقام في الصف معهم(٦٧٦) .

وقال الطبري: وكان علي قال للزبير: أتطلب مني دم عثمان وأنت قتلته سلط الله على أشدنا عليه اليوم ما يكره(١) ، ودعا علي طلحة فقال: يا طلحة جئت بعرس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تقاتل بها وخبأت عرسك في البيت، أما بايعتني ؟. قال: بايعتك وعلى عنقي اللج، وأصر طلحة على الحرب.

وحينئذ رجع علي إلى أصحابه فقال لهم (فيما حكاه الطبري وغيره): أيكم يعرض عليهم هذا المصحف(٢) وما فيه، فان قطعت يده أخذه بيده الأخرى فان قطعت أيضا أخذه بأسنانه. قال فتى شاب: أنا. فطاف علي على أصحابه يعرض ذلك عليهم، فلم يقبله إلا ذلك الشاب. فقال له علي: أعرض عليهم هذا

____________________

=> فتح الباري لابن حجر ج ١٣ / ٤٦، المواهب اللدنية للقسطلاني ج ٢ / ١٩٥، شرح المواهب للزرقاني ج ٣ / ٣١٨ وج ٧ / ٢١٧، الخصائص الكبرى للسيوطي ج ٢ / ١٣٧، السيرة الحلبية ج ٣ / ٣١٥، شرح الشفا للخفاجي ج ٣ / ١٦٥، الغدير للأميني ج ٣ / ١٩١ وج ٩ / ١٠١، تاريخ الطبري ج ٥ / ٢٠٠ و ٢٠٤، تذكرة الخواص ص ٧٠.

(٦٧٦) تاريخ الطبري ج ٥ / ٢٠٠، الكامل في التاريخ ج ٣ / ١٢٣، مروج الذهب ج ٢ / ٣٦٣، تذكرة الخواص ص ٧٠.

(١) راجع ص ٥٢٠ من الجزء الثالث من تاريخ الأمم والملوك، وقد استجاب الله دعاء على فسلط الله على الزبير عمرو بن جرموز فقتله في ذلك اليوم (منه قدس).

(٢) تنبغي الإشارة إلى ان ابن العاص أخذ حيلة المصاحف في صفين من هذه الواقعة وأساء استخدامها كما لا يخفى (منه قدس).

٤٦٨

وقل هو بيننا وبينكم من أوله إلى آخره، والله الله في دمائنا ودمائكم. فلما جاءهم الفتى حملوا عليه وفي يده المصحف فقطعوا يديه، فأخذه بأسنانه حتى قتل، وعندئذ قال علي لأصحابه: قد طاب لكم الضراب فقاتلوهم.

ورثت أم الغلام المرسل بالمصحف بقولها فيما رواه الطبري(١) :

لاهم ان مسلما دعاهم

يتلو كتاب الله لا يخشاهم

وأمهم قائمة تراهم

يأتمرون الغي لا تناهم

قد خضبت من علق لحاهم(٦٧٧)

وبرزت ربه الجمل والهودج إلى المعركة، وقد عصفت في رأسها النخوة ونزت فيه سورة الانفة، فأدركتها حمية منكرة، وكانت أجرأ من ذي لبدة، قد جمعت ثيابها على أسد، تلهب حماسها في جيشها، فتدفعهم به إلى الموت دون جملها، وقد نظرت عن يسارها فقالت: من القوم عن يساري؟.

فأجابها صبرة بن شيمان (كما في الكامل لابن الأثير وغيره): نحن بنوك الأزد.

فقالت: يا آل غسان حافظوا اليوم على جلادكم الذي كنا نسمع به في قول القائل :

وجالد من غسان أهل حفاظها

وكعب وأوس جالدت وشبيب

فكان الأزد يأخذون بعر الجمل يشمونه ويقولون: بعر جمل أمنا ريحه ريح المسك، وقالت لمن يمينها: من القوم عن يمينى ؟. قالوا: بكر بن وائل. قالت: لكم يقول القائل :

وجاءوا إلينا في الحديد كأنهم

من العزة القعساء بكر بن وائل

____________________

(١) راجع ص ٥٢٢ من الجزء الثالث من تاريخ الأمم والملوك (منه قدس).

(٦٧٧) تاريخ الطبري ج ٥ / ٢٠٤ و ٢٠٦، تذكرة الخواص ص ٧١، مروج الذهب ج ٢ / ٣٦١ (*).

٤٦٩

انما بازائكم عبدالقيس. وأقبلت على كتيبة بين يديها فقالت: من القوم ؟ قالوا: بنو ناجية. قالت: بخ بخ سيوف أبطحية قرشية، فجالدوا جلادا يتفادى منه، فكأنما أشعلت فيهم من الحماسة نارا تلظى. وتتابع حملة اللواء على خطام جملها مستميتين يقولون :

يا أمنا يا زوجة النبي

يا زوجة المبارك المهدي

نحن بنو ضبة لا نفر

حتى نرى جما جما تخر

يخر منها العلق المحمر

وما زالت تستفز حميتهم حتى عقر الجمل، بعد ان قتل على خطامه أربعون رجلا وكانت الهزيمة بأذن الله. ولو عناية أمير المؤمنين ساعتئذ في حفظها، ووقوفه بنفسه على صونها، لكان ما كان مما أعاذها الله منه في هذه الفتنة العمياء التي شقت عصا المسلمين إلى يوم الدين، وعلى أسسها كانت صفين والنهروان ومأساة كربلا وما بعدها. حتى نكبة فلسطين، في عصرنا هذا.

لكن أخا النبي وأبا سبطيه، وقف على الجمل بنفسه، حين أطفئت الفتنة بعقره، وما ان هوى بالهودج حتى آواه - وفيه عائشة - إلى وارف من ظله منيع، وجعل معها أخاها محمدا ليقوم بمهامها في نسوة من الصالحات، ومن على محاربيه وتفضل عليهم، وأطلق الأسرى من أعدائه الألداء، واختص عائشة من الكرامة بكل ما يناسب خلقه الكريم. وفضله العميم، وحكمته البالغة وهذا كله معلوم بحكم الضرورة من كتب السير والأخبار.

وتسمى هذه الوقعة وقعة الجمل الأكبر. وكانت يوم الخميس لعشر خلون من جمادي الآخرة سنة ست وثلاثين، وتفصيل الوقعتين في كتب السير والتواريخ فلتراجع.

٤٧٠

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٤٥٠: -

وقد كانت القتلى يوم الجمل

الأكبر ثلاثة عشر ألفا من أبناء عائشة فيهم طلحة والزبير بكل أسف، واستشهد يومئذ من أولياء علي اللهم وال من والاه وعاد من عاداه - ألف أو دونه أو أكثر منه(٦٧٨) .

هذا وقد كانت أم المؤمنين من أعلم الناس بأن عليا أخو رسول الله ووليه ووارثه ووصيه(٦٧٩) وانه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله(٦٨٠) وانه

____________________

(٦٧٨) ولأجل المزيد من الاطلاع حول هذه الواقعة راجع: أحاديث أم المؤمنين عائشة ق ١ / ١٢١ - ٢٠٠، الجمل للشيخ المفيد ط الحيدرية، مروج الذهب ج ٢ / ٣٥٩ - ٣٦٠، أسد الغابة ج ٢ / ١١٤ و ١٧٨ وج ١ / ٣٨٥ وج ٤ / ٤٦ و ١٠٠ وج ٥ / ١٤٣ و ١٤٦ و ٢٨٦، الإصابة ج ١ / ٢٤٨ وج ٢ / ٣٩٥، تاريخ الطبري ج ٥ / ١٦٣، الكامل لابن الأثير ج ٣ / ١٠٥، تاريخ الإسلام للذهبي ج ٢ / ١٤٩.

(٦٧٩) كما تقدم تحت رقم (٥٥١ و ٥٥٢ و ٥٥٣ و ٥٥٤).

(٦٨٠) ترجمة الإمام علي بن أبي طالب من تاريخ دمشق لابن عساكر ج ١ / ١٥٧ ح ٢١٩ و ٢٢٠ و ٢٢١ و ٢٢٢ و ٢٢٧ و ٢٣٢ و ٢٣٨ و ٢٤٠ و ٢٤٢ و ٢٤٣ و ٢٤٤ و ٢٤٥ و ٢٤٦ و ٢٤٧ و ٢٤٨ و ٢٥٢ و ٢٥٣ و ٢٥٤ و ٢٥٥ و ٢٦٠ و ٢٦٢ و ٢٦٣ و ٢٦٤ و ٢٧٠ و ٢٧١ و ٢٧٣ و ٢٧٥ و ٢٧٦ و ٢٧٨ و ٢٧٩ و ٢٨٩ و ٢٩٠ ط ١، المستدرك للحاكم ج ٣ / ٣٨، منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ج ٥ / ٤٥، فرائد السمطين ج ١ / ٢٥٣، مصنف ابن أبى شيبة ج ٦ / ١٥٤، مجمع الزوائد ج ٩ / ١٢٣، الاستيعاب بهامش الإصابة ج ٣ / ٣٦، تاريخ بغداد ج ٨ / ٥، إحقاق الحق ج ٥ / ٤٠٠، أنساب الأشراف للبلاذري ج ٢ / ٩٣، مناقب علي بن أبي طالب لابن المغازلي ص ١٨١ ح ٢١٧ و ٢٢١ ط ١، السنن الكبرى للبيهقي ج ٩ / ١٠٦، خصائص أمير المؤمنين للنسائي ص ٥٥ و ٥٦، ينابيع المودة للقندوزي ص ٤٨ ط اسلامبول، صحيح مسلم في باب مناقب علي بن أبي طالب ج ٧ / ١٢١ ط العامرة بمصر، حلية الأولياء ج ١ / ٦٢، الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ / ١١٠ ط دار صادر، السيرة النبوية لابن هشام، البداية والنهاية ج ٤ / ١٨٦ وج ٧ / ٣٣٦، صحيح البخاري باب مناقب علي بن أبي طالب ج ٥ / ٢٣، الكامل في التاريخ ج ٢ / ١٤٩، أسد الغابة ج ٤ / ٢١، تذكرة الخواص ص ٢٥، التاريخ الكبير للبخاري ج ٤ / ٢٦٢، نزل الأبرار ص ٤٣. راجع بقية المصادر فيما تقدم تحت رق م (٤٧٤).

٤٧١

منه بمنزلة هارون من موسى إلا في النبوة(٦٨١) وقد سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: " اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله "(٦٨٢) ، " رحم الله عليا اللهم أدر الحق معه حيث دار "(٦٨٣) .

____________________

(٦٨١) حديث المنزلة: من الأحاديث المتواترة ولأجل الاطلاع على مصادره راجع كتاب سبيل النجاة في تتمة المراجعات ص ١١٧ تحت رقم (٤٧٥) ففيه الكفاية.

(٦٨٢) حديث المولاة: ترجمة الإمام علي بن أبي طالب من تاريخ دمشق لابن عساكر ج ٢ / ١٣ ح ٥٠٨ و ٥١٣ و ٥١٤ و ٥٢٣ و ٥٤٤ و ٥٦٢ و ٥٦٩، كفاية الطالب ص ٦٣ ط الحيدرية وص ١٧ ط الغرى، كنز العمال ج ٦ / ٤٠٣ ط ١ وج ١٥ / ١١٥ ح ٣٣٢ و ٤٠٢ ط ٢، شواهد التنزيل للحسكاني ج ١ / ١٥٧ ح ٢١١ وص ١٩٢ ح ٢٥٠، مجمع الزوائد ج ٩ / ١٠٥، إسعاف الراغبين بهامش نور الأبصار ص ١٥١ ط السعيدية وص ١٣٧ ط العثمانية، خصائص أمير المؤمنين للنسائي ص ٩٦ ط الحيدرية وص ٢٦ و ٢٧ ط مصر، الملل والنحل للشهرستاني ج ١ / ١٦٣ ط بيروت وبهامش الفصل لابن حزم ج ١ / ٢٢٠، شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد ج ١ / ٢٠٩ و ٢٨٩ ط ١ وج ٢ / ٢٨٩ وج ٣ / ٢٠٨ بتحقيق أبو الفضل، منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ج ٥ / ٣٢ ط الميمنية، أنساب الأشراف للبلاذري ج ٢ / ١١٢، نظم درر السمطين للزرندي ص ١١٢، المناقب للخوارزمي ص ٨٠ و ٩٤ و ١٣٠، ينابيع المودة للقندوزي ص ٢٨٩ ط اسلامبول وص ٢٩٧ ط الحيدرية، فرائد السمطين للحمويني ج ١ / ٦٩ ح ٣٦ و ٣٩ و ٤٠، نزل الأبرار للبدخشاني ص ٥١ - ٥٤، وراجع بقية مصادر الحديث في كتاب سبيل النجاة في تتمة المراجعات ص ١٨٢.

(٦٨٣) حديث: " الحق مع علي ". صحيح الترمذي ج ٥ / ٢٩٧ ح ٣٧٩٨، المستدرك للحاكم ج ٣ / ١٢٤، المناقب للخوارزمي ص ٥٦، ترجمة الإمام علي بن أبي طالب من تاريخ دمشق لابن عساكر ج ٣ / ١١٧ ح ١١٥٩ و ١١٦٠، غاية المرام ص ٥٣٩ (باب) ٤٥، شرح النهج لابن أبى الحديد ج ٢ / ٥٧٢ ط ١ وج ١٠ / ٢٧٠ بتحقيق أبو الفضل، منتخب كنز العمال بهامش =>

٤٧٢

وقد شهدت حجة الوداع مع رسول الله فرأته يوم الموقف يشيد بفضله آمرا أمته بالتمسك بثقليه تارة وبخصوص علي أخرى، منذرا بضلال من لم يأخذ بهما معا(٦٨٤) .

ويوم الغدير رأتهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد رقى منبر الحدائج يعهد إلى علي عهده، ويوليه على الأمة بعده، بمسمع ومنظر من تلك الألوف المؤلفة قافلة من حجة الوداع، حيث تفترق بهم الطرق إلى بلادهم(٦٨٥) .

ورأته وقد نظر إلى علي وفاطمة والحسن والحسين يقول لهم: " أنا حرب لمن حاربكم وسلم لمن سالمكم " أخرجه كل من الإمامين أحمد في مسنده(١) والحاكم في صحيحه المستدرك، والطبراني في الكبير، ورواه الترمذي بسنده الصحيح إلى زيد بن أرقم، كما في ترجمة الزهراء من الإصابة(٦٨٦) .

____________________

=> مسند أحمد ج ٥ / ٦٢، الفتح الكبير للنبهاني ج ٢ / ١٣١، جامع الأصول لابن الأثير ج ٩ / ٤٢٠، إحقاق الحق للتستري ج ٥ / ٦٢٦، فرائد السمطين للحمويني ج ١ / ١٧٦ ح ١٣٨، الغدير ج ٣ / ١٧٩، دلائل الصدق ج ٢ / ٣٠٢، المعيار والموازنة للاسكافي المعتزلي ص ٣٥ و ١١٩، نزل الأبرار للبدخشانى ص ٥٦، راجع بقية المصادر في كتاب سبيل النجاة في تتمة المراجعات ص ١٧٠ ط بيروت.

(٦٨٤) تقدم حديث الثقلين مع مصادره تحت رقم (١٥) وسوف يأتي أيضا.

(٦٨٥) الغدير للأميني ج ١ / ٩، فرائد السمطين للحمويني ج ١ / ٧٣ ح ٣٩. ولأجل المزيد من الاطلاع على هذه الحادثة مع مصادرها راجع: سبيل النجاة في تتمة المراجعات ص ١٧٣ تحت رقم (٦١٥ و ٦١٦ و ٦١٧ و ٦١٨ و ٦١٩ و ٦٢٠ و ٦٢١ و ٦٢٢) ففيها مئات المصادر لهذه الواقعة المباركة. وسوف يأتي بعض منها.

(١) راجع من المسند ص ٤٤٢ من جزئه الثاني بالإسناد إلى أبى هريرة (منه قدس).

(٦٨٦) صحيح الترمذي ج ٥ / ٣٦٠ ح ٣٩٦٢، سنن ابن ماجة ج ١ / ٥٢ ح ١٤٥، =>

٤٧٣

ورأتهصلى‌الله‌عليه‌وآله إذ جللهم بكسائه يقول حينئذ: " أنا حرب لمن حاربهم، وسلم لمن سالمهم وعدو لمن عاداهم "(٦٨٧) إلى كثير من أمثال هذه النصوص الصحيحة التي لم يخف شئ منها على أم المؤمنين فانها عيبة الحديث حتى قيل عنها :

حفظت أربعين ألف حديث

ومن الذكر آية تنساها(٦٨٨)

وحسبها ما قد رواه أبوها أبو بكر إذ قال: رأيت رسول الله خيم

____________________

=> المستدرك للحاكم ج ٣ / ١٤٩، تلخيص المستدرك للذهبي بذيل المستدرك، مناقب علي بن أبي طالب لابن المغازلي ص ٦٤ ح ٩٠ ط ١، أسد الغابة ج ٣ / ١١ وج ٥ / ٥٢٣ ذخائر العقبى ص ٢٥، الصواعق المحرقة ص ١١٢ ط الميمنية وص ١٨٥ ط المحمدية، مجمع الزوائد ج ٩ / ١٦٦ و ١٦٩، كفاية الطالب ص ٣٣٠ و ٣٣١ ط الحيدرية وص ١٨٨ و ١٨٩ ط الغرى، ينابيع المودة للقندوزي ص ٣٥ و ١٦٥ و ١٧٢ و ١٩٤ و ٢٣٠ و ٢٦١ و ٢٩٤ و ٣٠٩ و ٣٧٠ ط اسلامبول، شواهد التنزيل للحسكاني ج ٢ / ٢٧، المناقب للخوارزمي ص ٩١، مقتل الحسين للخوارزمي ج ١ / ٦١ و ٩٩، المعجم الصغير للطبراني ج ٢ / ٣، الفتح الكبير للنبهاني ج ١ / ٢٧١، منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ج ٥ / ٩٢، إحقاق الحق ج ٩ / ١٦١ - ١٧٤، نزل الأبرار ص ٣٥ و ١٠٥، فرائد السمطين للحمويني ج ٢ / ٣٩، سمط النجوم ج ٢ / ٤٨٨. وقد تقدم مع مصادر أخرى تحت رقم (١٢٦).

(٦٨٧) نقل ابن حجر الهيثمي في تفسير الآية من آيات فضلهم التي وردت في الفصل الحادي عشر من صواعقه، وقد استفاض قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله حرب علي حربي وسلمه سلمى (منه قدس). الصواعق لابن حجر ص ١٤٢ و ١٨٥ ط المحمدية و ٨٥ و ١١٢ ط الميمنية، الإصابة ج ٤ / ٣٧٨، ينابيع المودة ص ٢٢٩ و ٢٩٤ و ٣٠٩ ط اسلامبول، نظم درر السمطين ص ٢٣٢ و ٢٣٩، مصابيح السنة للبغوي ج ٢ / ٢٨٠، مشكاة المصابيح ج ٣ / ٢٥٨، ذخائر العقبى ص ٢٣، الرياض النضرة ج ٢ / ٢٤٩، وقد تقدم تحت رقم (١٢٨).

(٦٨٨) هذا البيت للشيخ كاظم الأزري راجع الأزرية ص. (*)

٤٧٤

خيمة(١) وهو متكئ على قوس عربية، وفي الخيمة علي وفاطمة والحسن والحسين، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : " معشر الناس أنا سلم لمن سالم أهل الخيمة، حرب لمن حاربهم ولي لمن والاهم، لا يحبهم إلا سعيد الجد طيب المولد. ولا يبغضهم إلا شقي الجد ردئ المولد "(٦٨٩) .

فهل يا ترى كانت أم المؤمنين في هذا الخروج وما إليه تريد الله ورسوله والدار الآخرة، وأنها من المحسنات ؟ تبتغي بذلك الأجر والثواب الذي وعد الله به نساء نبيه إذ يقول:( وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ) (٦٩٠) .

أم كانت ترى أن بينها وبين الله هوادة، تبيح لها ما قد حرمه الله على العالمين ؟ فارتكبت بخروجها - على الإمام - ما أرتكبت آمنة من وعيده إذ يقول:( يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ

____________________

(١) لعل هذه الخيمة هي الكساء الذي جللهم به حين أوحى إليه فيهم: "( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) ". وقد فصلنا ذلك في الفصل الثاني من المطلب الأول من كلمتنا الغراء في تفضيل الزهراء، فليراجعها من أراد الشفاء من كل داء (منه قدس).

(٦٨٩) تجد هذا الحديث منقولا عن أبى بكر الصديق في كتاب عبقرية محمد للأستاذ الكبير عباس محمود العقاد بعين لفظه تحت عنوان - النبي والإمام والصحابة - فراجع (منه قدس).

وأيضا في: فرائد السمطين للحمويني ج ٢ / ٤٠ ح ٣٧٣، المناقب للخوارزمي ص ٢١١، مقتل الحسين للخوارزمي ج ١ / ٤، سمط النجوم ج ٢ / ٤٨٨ راجع بقية المصادر فيما تقدم تحت رقم (١٢٨).

(٦٩٠) سورة الأحزاب: ٢٩ (*).

٤٧٥

وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ) (٦٩١) .

أم أنها يا ترى رأت خروجها ذلك الخروج، عبادة لله وقنوتا منها له ولرسوله وعملا صالحا ؟ فاستأثرت به عملا بقوله تعالى:( وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا ) (٦٩٢) !

أم أنها أرادت أن تمثل التقوى والورع بخروجها دون صواحبها من نساء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لتستأثر من بينهن بالعمل بقوله تعالى:( يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ ) (٦٩٣) .

وهل رأت بيت ابن ضبة بيتها الذي أمرها الله أن تقرأ فيه ؟ ورأت قيادتها لتلك الجيوش سرداقا ضربه طلحة والزبير عليها يصونها عن تبرج الجاهلية الأولى ؟ ويفرغها للصلاة والزكاة وطاعة الله ورسوله ؟(٦٩٤) .

ورأت أنها تكون بذلك كله نصب أمر الله ونهيه إذ يقول عزوجل:( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) (٦٩٥) .

وماذا تقول ؟ أو يقول أولياؤها ؟ في خطاب الله لها ولصاحبتها بقوله:( إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا (١) وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ

____________________

(٦٩١) سورة الأحزاب: ٣٠.

(٦٩٢) سورة الأحزاب: ٣١.

(٦٩٣) سورة الأحزاب: ٣٢.

(٦٩٤) إشارة إلى البيت الذي استقرت فيه في البصرة. راجع: شرح ابن أبى الحديد.

(٦٩٥) سورة الأحزاب: ٣٣.

(١) ثبت بهذه الآية صدور الذنب منهما، ووجوب التوبة عليهما (منه قدس) (*).

٤٧٦

وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (١) * عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا ) (٦٩٦) .

وحسبهما من الله تعالى حجة عليهما، مثله العظيم، الذي ضربه لهما في سورة التحريم، أعني قوله عز من قائل:( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ * وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) (٦٩٧) .

ولله قول من يقول من أبطال أهل البيت علما وعملا :

عائش ما نقول في قتالك

سلكت في مسالك المهالك

وحسبك ما أخرج البخاري

من الصحيح مومئا للدار(٢)

____________________

(١) هذه هي الغاية في الاستعداد لمكافحتهما في نصرته والدفاع عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله بحيث لو تظاهر عليه أهل الأرض في الطول والعرض، ما أعد لمكافحتهم أكثر من هذه القوة كما لا يخفى (منه قدس).

(٦٩٦) سورة التحريم: ٤ و ٥. راجع ما تقدم من مصادر تحت رقم (٦٢٠).

(٦٩٧) سورة التحريم: ٩ و ١٠. راجع: تفسير القرطبي ج ١٨ / ٢٠٢، فتح القدير للشوكاني ج ٥ / ٢٥٥.

(٢) يشير في هذا البيت إلى ما أخرجه البخاري في باب ما جاء في بيوت أزواج النبي من كتاب الجهاد والسير ص ١٢٥ من الجزء الثاني من صحيحه عن عبدالله قال: قام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فأشار إلى مسكن عائشة فقال: ههنا الفتنة ههنا الفتنة حيث يطلع قرن الشيطان، ولفظه عند مسلم: خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من بيت عائشة فقال رأس الكفر من ههنا حيث يطلع قرن الشيطان. فراجعه في كتاب الفتن واشراط الساعة ص ٥٠٣ من الجزء الثاني من صحيحه (منه قدس) (*).

٤٧٧

قد قيل تبت وعلي غمضا

فلم سجدت الشكر لما قبضا "(١)

ولم ركبت البغل في يوم الحسن

تؤججين نار هاتيك الفتن(٦٩٨)

____________________

(١) اشارة إلى ما كان من أم المؤمنين، حين بلغها نعى علىعليه‌السلام من أنها سجدت لله شكرا ثم رفعت رأسها قائلة :

فألقت عصاها واستقر بها النوى

كما قر عينا بالإياب المسافر

ثم سألت: من قتله ؟. فقيل لها: رجل من مراد. فقالت :

فان يك نائيا فلقد نعاه

غلام ليس في فيه التراب

فأنكرت عليها زينب بنت أم سلمة قائلة لها، العلى تقولين هذا يا عائش ؟ !. فأجابت عائش: أنى نسيت، فإذا نسيت فذكروني ! ! (منه قدس).

(٦٩٨) كان الإمام أبو محمد الحسن الزكي سيد شباب أهل الجنة، أنذر الهاشميين قبل وفاته بفتنة يخشاها من بني أمية إذا أراد الهاشميون دفنه عند جده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعهد إلى أخيه سيد الشهداء أن يتدارك الشر إذا هبت عواصفه، بدفنه في البقيع عند جدته فاطمة بنت أسد، وأقسم عليه أن لا يريق في سبيله مل‌ء محجمة من دم. فلما قضى (بأبي وأمي) نحبه، أراد الهاشميون أن يجددوا به العهد بجده رسول الله، أو أنهم أرادوا أن يدفنوه عنده إذا أمنوا الفتنة، فقامت قيامة بني أمية، وأعدوا للحرب عدتها متجهزين بجهازها، وعلى رأسهم مروان بن الحكم وسعيد بن العاص، وكان مروان ينادى يا رب هيجاء هي خير من دعة، أيدفن أمير المؤمنين (عثمان) في أقصى المدينة، ويدفن الحسن مع رسول الله. وجاؤا بعائشة وهي على بغل، تذودهم عن بيتها قائلة: لا تدخلوه بيتي.

ففي ترجمة الحسن من كتاب (مقاتل الطالبيين) لأبي الفرج الاصفهانى المروانى عن على بن طاهر بن زيد يقول: لما أرادوا دفنه، أي الحسن، ركبت عائشة بغلا واستعونت بني أمية ومروان ومن كان هناك منهم ومن حشمهم وهو قول القائل: يوما على بغل، ويوما على جمل. وذكر المسعودي ركوب عائشة البغلة الشهباء، ليومها الثاني من أهل البيت قال: فأتاها القاسم بن محمد بن أبى بكر فقال: يا عمة ما غسلنا رؤوسنا من يوم الجمل الأحمر أتريدين أن يقال: يوم البغلة الشهباء. أه‍. وفى ذلك يقول القائل: =>

٤٧٨

... ..

____________________

=>

تجملت تبغلت ولو عشت تفيلت

لك التسع من الثمن وفى الكل تصرفت

ولنا هنا أن نبحث عن الوجه في كون بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بيتها تدخل فيه من تحب، وتنرود عنه من لا تحب ؟ شأن المالك يتصرف في ملكه المطلق كيف يشاء، فهل يا ترى ملكها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بيته ببيع أو هبة أو نحوهما ؟ كلا. وما أظن ان أحدا قال ذلك أو توهمه.

نعم أسكنها في حجرة من حجرات داره، كما أسكن غيرها من نسائه في حجرات اخر، وكما يسكن كل رجل زوجته في بيته قياما بواجب المرأة على زوجها فان اسكانها من نفقاتها الواجبة لها عليه اجماعا وقولا واحدا. والمرأة انما تسكن في بيت زوجها. فيدها على مسكنها ليست من امارات الملك في شئ، لان المتصرف في مسكنها في الحقيقة، انما هو الرجل، حيث انه هو الذى أسكنها فيه وحيث انه كان يساكنها في نفس البيت، ولو في يومها وليلتها في أقل الفروض.

على انه لو سلمنا ان يد عائشة على حجرتها، امارة تملكها، فلم لم تكن يد الزهراء على فدك امارة على تملكها ؟ ! وشتان بين هاتين اليدين، فان يد البنت على شئ من أملاك أبيها تتصرف فيه على عهده بمنظر منه ومسمع، لمن امارات الملك بلا كلام، ولاسيما إذا كانت نازحة على بيت أبيها إلى بيت زوجها. بخلاف يد الزوجة على حجرة من حجرات دار زوجها، ونحن نحكم العرف البشرى في هذه الفرق بين هاتين اليدين.

ولعل الخليفة يومئذ وهو أبوها، ملكها بيت رسول الله بعد وفاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله بولايته العامة، وهذا ليس بالبعيد، لكنا كنا نأمل منه، أن يعامل بنت رسول الله فيما كان في يدها، معاملة بنته، ولو فعل لكان ذلك أقرب إلى اجتماع الكلمة، ولم شعث الأمة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم (منه قدس). هذه الأبيات. (*)

٤٧٩

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٤٥٩: -

[ الفصل الخامس ] [ تأول خالد بن الوليد ] [ المورد - (٨٦) -: ذلك ما فعله خالد بن الوليد يوم فتح مكة ]

وقد نهاه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يومئذ عن القتل والقتال، كما نص عليه أهل السير والأخبار، ورواه أثبات المحدثين بأسانيدهم الصحيحة، وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله له يومئذ وللزبير: " لا تقاتلا إلا من قاتلكما ".

ولكن خالدا قاتل مع ذلك وقتل نيفا وعشرين رجلا من قريش وأربعة نفر من هذيل فدخل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مكة، فرأى امرأة مقتولة، فسأل حنظلة الكاتب: من قتلها ؟: قال: خالد بن الوليد. فأمره أن يدرك خالدا فينهاه أن يقتل امرأة أو وليدا، أو عسيفا - أي أجيرا -(٦٩٩) إلى آخر ما تجده من هذه القضية في " عبقرية عمر " للأستاذ العقاد ص ٢٦٦.

____________________

(٦٩٩) هذه الحادثة رواها ابن هشام في غزوة حنين في السيرة النبوية ج ١٤ ١٠٠ ولعلها قد تكررت من خالد. (*)

٤٨٠

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578