شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم0%

شبهات وردود حول القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 578

شبهات وردود حول القرآن الكريم

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الأستاذ محمد هادي معرفة
تصنيف: الصفحات: 578
المشاهدات: 285657
تحميل: 13080

توضيحات:

شبهات وردود حول القرآن الكريم
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 578 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 285657 / تحميل: 13080
الحجم الحجم الحجم
شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مَشهودَةً للعرب المـُعاصِر لنُزول القرآن في رحلاتهم إلى الشام صباحاً ومساءً ( وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْل ِ ) (1) ، يَرَوَن دِيارَهم التي عَفَت وأَضحت خَراباً يَباباً! أَلا فليَعتَبِروا ويَحذَروا أنْ يُصيبَهم مِثل ما أَصابهم، إنْ تَمادَوا في الغيّ والضَّلال البعيد!

أصحاب الكهف والرقيم!

قصّةُ أصحاب الكهف، تَعرض نَموذجاً للإيمان في النُفوس المـُؤمنة، كيف تَطمئِنُّ به، وتُؤثِرُه على زينة الأرض ومتاعها، وتَلجَأَُ به إلى الكهف حين يَعُزّ عليها أنْ تَعيش به مع الناس، وكيف يَرعى الله هذه النُفُوس المـُؤمنة، ويَقيها الفِتنة، ويَشملها بالرحمة.

وفي القصّة روايات شتّى وأَقاويل كثيرة، فقد وَرَدَت في بعض الكُتُب القديمة وفي الأساطير بصور شتّى، ولكن يَجب الوقوف فيها عند حدِّ ما جاء في القرآن، فهو المـَصدر الوحيد المـُستَيقَن، ولتُطرح سائر الروايات والأساطير التي اندسّتْ في التفاسير بِلا سندٍ، وبخاصّة أنّ القرآن الكريم قد نَهى عن استفتاءِ أحدٍ فيهم، وعن المِراء والجَدل رَجماً بالغيب ( فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاّ مِرَاءً ظَاهِراً وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِم مِنْهُمْ أَحَداً ) (2) .

والكهف: المـَغارَة الواسعة، والرقيم، قيل: إنّه مُعرَّب (أركه = Arke ) اليونانيّة أحد أسماء مدينة (بطرا) (3) هي قَصَبَة الأَنباط، كانت مدينةً صخريّةً قائمةً في مُستوٍ من الأرض، تُحيط بها الصُّخور كالسُّور المـَنيع، وهي واقعة في (وادي موسى) عند مُلتَقى طُرُق القوافل بين (تدمر) و (غزّة).

وقد عَمُرَت في إبّان دولة الأَنباط وكَثُرَت فيها الأَبنية، فلمـّا ذهبت الدولة تَخَرَّب مُعظمُها، وبقيَ منها إلى الآن أَطلال لا تَفنيها الأيّام ولا يؤثِّر فيها الإقليم، منها (خزنة فرعون) وهي بِناء شامخ مَنقور في صَخرٍ ورديّ اللّون، على وِجهتِه نُقُوش وكتابات بالقلم النَّبطي، وبجانبها مسرح مَنقور في الصَّخر أيضاً، ويُستطَرق مِن هناك إلى

____________________

(1) الصافات 37: 137 - 138.

(2) الكهف 18: 22.

(3) يقول عنها العرب: البَتراء، مدينة أثريّة في الأُردن، هي سَلْع القديمة أو الصخرة، أَهم آثارها قَصرُ فرعون والبوّابة الأثريّة والمـَسرح الكبير وقبور بيترا وهيجرا.

٤٦١

سَهلٍ واسع فيه عَشَرات من الكُهوف الطبيعيّة أو المـَنقورة، ولبعضها وِجهات مَنقوشة وجُدران أَكثرُها ظُهوراً مكان يُقال له (الدير)، وكانت هذه الكُهوف مساكن الحوريّين القُدماء، ويَلجأَُ إليها اليوم بعضُ المارّة، فِراراً مِن المـَطر أو البَرد.

ومدينة بطرا، أو الرقيم أنشأها الأنباط - في الجنوب الشرقي من فلسطين - مدينة عربيّة قَبْلَ القَرن الرابع قبل الميلاد، وظلّت قائِمةً إلى أَوائل القَرن الثاني بعده، إذ دَخَلت في حَوزة الرّومان سنة 106 م.

وبطرا لفظ يوناني معناه الصَّخر، وقد سُمّي البلد بذلك؛ لأنّ مبانيَه مَنحوتةٌ في الصَّخر، واسمها القديم سَلْع وسالع، ويعني أيضاً الصَّخر، ولا زالت أَطلالُه إلى اليوم في وادي موسى في الأُردن، ويُسمّى أيضاً وادي السيق.

والعرب شاهَدوا آثارَ هذه المدينة بعد الإسلام وسَمّوها (الرقيم) وهو تعريبُ أَحد أسمائها اليونانيّة؛ لأنّ اليونانيّين كانوا يُسمّونها أركه - كما تقدّم - فحرّفه العرب وقالوا: الرقيم (1) .

وقال المقريزي في عَرْضِ كلامِه عن التَيه: (إنّ بعضَ المـَماليك البحريّة هَرَبوا من القاهرة سنة 652 هـ فمرّت طائفةٌ منهم بالتَيه فَتاهوا خَمسَةَ أيّامٍ، ثُمّ تراءى لهم في اليوم السادس سوادٌ على بُعْدٍ فَقَصَدوه، فإذا مدينة عظيمة لها سُور وأبواب كلّها من رُخَام أخضر، فَدَخلوا بها وطَافوا، فإذا هي قد غَلَب عليها الرَّمل حتّى طمَّ أَسواقَها ودُورَها، ووجدوا بها أواني ومَلابِس.

وكانوا إذا تَنَاولوا منها شيئاً تَناثر مِن طُول البِلى، وَوَجدوا في صينيّة بعض البزّازينَ تِسعةَ دنانير ذهباً عليها صورة غَزال وكتابة عِبرانيَة، وحَفَروا مَوضعاً فإذا حَجَر على صهريجِ ماءٍ، فشربوا ماءً أَبرد مِن الثلج، ثُمّ خَرَجوا ومَشوا ليلةً فإذا بطائفة من العُربان، فحَملوهم إلى مدينة الكرك، فدفعوا الدنانير لبعض الصيارِفة... ودفع لهم في كلِّ دينار مِئة درهم... وقيل لهم: إنّ هذه المدينة لها طُوفان رَمل يزيد تارة ويَنقص أخرى

____________________

(1) العرب قبل الإسلام، ص 83 - 84.

٤٦٢

لا يراها إلاّ تائِهٌ (1) .

ولعلّ في هذا الوَصْفِ اختلاطاً للحقيقة بالخيال، وأنّ المماليك شاهدوا أَطلال بطرا - كما احتمله زيدان - وَوَجَدوا الدنانير، إمّا مِن ضَرْبِ اليهود أو النبطيّينَ، وقد زَارَ المدينة غير واحد من المـُستشرقينَ في القَرن الماضي (19) وقرأوا ما عليها من نقوش نبطيّة (2) .

مَن هُم أصحاب الكهف؟

قد ذَكَر المـُؤرِّخونَ والمـُفسِّرونَ عن أهل الكهف شيئاً كثيراً، أَورده الطبري في التأريخ وفي تفسيره، ويتّفق أكثر الروايات على القول بأنّ عدداً من الفتية نَبَذوا عبادةَ الأوثان واعتنقوا التوحيدَ في مدينة (أَبْسُس) (3) ثُمّ فَرّوا مِن تلك المدينة وأَوَوا إلى كهفٍ وكان معهم كَلب عَجَزوا عن إبعاده، وناموا في هذا الكهف، ثُمّ جاء المـَلِك الوَثَني داقيوس (ويُسمّى أيضاً داقينوس وداقيانوس) ومعه أَتباعُه للقبض عليهم، ولكن لم يستطع أيُّ واحدٍ منهم دُخولَ الكهفِ، فَبَنَوا عليهم بابَ الكهفِ؛ ليموت الفتية جُوعاً وعَطشاً، ونَسيَ الناسُ أمرَهم بعد ذلك.

وفي يوم من الأيّام بَعَثَ أحدُ الرُّعاةِ برجاله وأَمَرَهم بفتحِ فَمِ الغار ليتّخذه حَظيرةً لغنمِهِ، ولمـّا دخلوا لمـَ يَروا أَوّل الأمر الفتيةَ الذين بَعثهم الله في الأَجل الذي ضَرَبه ليَقظَتِهم، وعندما استيقظوا كانوا لا يَزالون يَملؤُهم الفَزَعُ والرُّعبُ مِن الخَطر الذي نَجَوا منه، فَعَمدوا إلى الحِيطة وبعثوا بأَحدهم إلى المدينة ليشتري لهم طعاماً، ولم يَعرف بائعُ الطعام النقود التي دفعها إليه الفتى، فَسَاقَه إلى المـَلِك وهناك تبيّن كلّ شيء: فقد نام الفتية ثلاثمِئة سَنة وتسعاً، وكانت الوثنيّة قد انقرضت خلال هذه المـُدَّة وحلّ محلّها التوحيد، وفَرِح المـَلِك بأصحاب الكهف فَرَحاً عظيماً؛ لأنّ بَعْثَهُم أَيّدَ عقيدةً دينيّةً كان البعض يَشكّ في صحّتها، وهي أنّ الناس يُبعثون كما هم بالجَسَد والروح معاً.

____________________

(1) الخطط المقريزيّة، ج 1، ص 376.

(2) العرب قبل الإسلام، ص 85.

(3) بلدة رومانيّة من ثغور طرسوس بين حلب وأنطاكية.

٤٦٣

ولم يَكد الفتى يعود إلى الكهف ثانيةً حتى ضَرَب الله على آذانهم مرّةً أخرى، فجاء الناس وشَيَّدوا هناك - على المـَغارة - مَسجِداً، تَبرُّكاً بهم.

* * *

وهنا عدة أسئلة أخرى:

ما هي تلك المدينة التي هَرَب منها الفتية ولَجأُوا إلى الكهف؟

يقول ابن عاشور: والذي ذَكَره الأكثر أنّ في بَلدٍ يُقال له: (أَبْسُس) - بفتح الهمزة وسكون الباء وضمّ السين، بعدها سين أخرى - وكان بَلداً مِن ثُغور طرسوس (1) بين حَلَب وبلاد أرمينيّة وأنطاكيّة.

قال: وليست هي (أفسس) بالفاء، المعروفة في بلاد اليونان بشُهرةِ هَيكَلِ المـُشتري فيها، فإنّها من بلاد اليونان، وقد اشتبه ذلك على بعض المـُؤرِّخينَ والمـُفسِّرين، وهي قريبة من (مَرْعَش) (2) مِن بلادٍ أرمينيّة (3) .

وأَبْسُس هذه هي مدينة (عَرْبَسُوس) (4) القديمة في (كبادوشيا)، وكانت تُسمّى أيضاً (أَبْسُس)، وتُسمّى اليوم (بربوز) (5) .

فهل كانت مدينة (أَبْسُس) هذه هي المـَسرح الذي وَقَعت فيه تلك الحوادث بما فيها مِن غرائبٍ؟

أمّا (ده غوى) فيُؤيِّد هذا الرأي مُعتَمِداً على براهين اسمتدّها مِن النُصوص، وفي الحقّ إنّ بعض الرَحّالة قالوا: إنّهم رَأَوا في مدينة (أَبْسُس) هذه كَهفاً كان به جُثَث ثلاثة عشر رجلاً قد يَبِسَت (6) .

قال ياقوت: أَبْسُس، اسم لمدينةٍ خراب قُرب (أَبُلُسْتَين) من نواحي الروم، يُقال:

____________________

(1) مدينة في جنوبيّ تركيا الآسيويّة (قيليقيا)، وفيها وُلِد بولس وَفَتَحها المأمون سنة 788 م وفيها دُفن.

(2) مدينة في جنوب تركيا على حدود سوريّة.

(3) تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور، ج 15، ص 21.

(4) عَرْبَسُوس: بلد من نواحي الثُغور قُرب المِصْيَصة (مدينة على شاطئ نهر جيحان قُرب طَرَسوس - تركيا).

(5) دائرة المعارف الإسلاميّة المـُتَرجَمة، ج 2، ص 242.

(6) ليس في ذلك دليل؛ لأنّ العُثور على جُثَث مُتَيبِّسة في الكُهوف، كان أمراً شائِعاً ذلك العَهد، وَوُجِد من ذلك الكثير وليس هذا وحده.

٤٦٤

منها أصحاب الكهف والرقيم، وقيل: هي مدينة دقيانوس، وفيها آثار عجيبة مع خَرابِها (1) .

وفوقَ هذا فقد تَضمَّنت مجموعةُ النُصوص المـُتعلّقة بتأريخ السَّلاجقة ما يَنصّ على أنّ (عَرْبَسوس) هي مدينة أصحاب الكهف والرقيم، وربّما كان اكتشاف هذه الجُثث الثلاث عشرة هو الأصل لهذا القول، ثُمّ حَرَّف الناسُ (أبسس) فيما بعد إلى (أفسس)! (2) .

وقيل: هي البتراء (بطرا) مدينة أَثريّة في الأُردن وفيها المـَسرح الكبير، حسبما تَقدّم، ولعلّه المـُراد فيما أُثِر عن ابن عباس، قال: الرقيم، وادٍ دونَ فلسطين قريب من أيلة (3) .

* * *

متى كان هذا الهُروب واللجوء؟

والأكثر على أنّه كان بعد ظُهور النصرانيّة ولعلّه في بدايتها، كانت الدِّيانة النصرانيّة دَخَلت في تلك الجِهات، وكان الغالب عليها دين عبادة الأوثان على الطريقة الروميّة الشرقيّة قبل تَنْصُّر قسطنطين، فكان مِن أهلِ (أَبْسُس) نفرٌ مِن صالحي النصارى يُقاومون عبادة الأصنام، وكانوا في زَمن الإمبراطور (دقيانوس) الذي مَلَك في حُدود سنة 237 م، وكان مُتعصِّباً للديانة الرومانيّة وشديد البُغْض للنصرانيّة؛ ولذلك تَوعَّدهم بالتعذيب، فاتّفقوا على أنْ يَخرجوا من المدينة إلى جبلٍ بينه وبين المدينة فَرسخان يقال له: (بنجلوس) أو (أنخيلوس).

وتقول الروايات: إنّ المـَلِك الوَثني الذي اضطهدَ النصارى كان يُسمّى (داقيوس) الذي مَلَك مابين (249 - 251 م)، أمّا المـَلِك النصراني الذي بُعِث الفتية في عهده فهو المـَلِك (تيودوس) الثاني (408 - 450 م)، فتكون مدّة مُكُوثِهم في الكهف ما يَقرُب من (200) سنة، وهذا لا يتّفق مع ما وَرَد في القرآن مِن أنّ أصحاب الكهف ( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً ) ! (4)

____________________

(1) مُعجم البُلدان، ج 1، ص 73.

(2) دائرة المعارف الإسلاميّة المـُتَرجَمة، ج2، ص 243.

(3) الدُرّ المنثور، ج 5، ص 362. وأيلة: ميناء أُردني في شمال العَقبة على البحر الأحمر يقوم على أنقاض أيلة الرومانيّة.

(4) الكهف 18: 25، راجع: دائرة المعارف الإسلاميّة المـُتَرجَمة، ج 2، ص 242.

٤٦٥

يقول الدكتور عبد الوهّاب النجّار - مُعلِّقاً على ذلك في الهامش -: الذي أُلاحِظُه، أنّ عبارة دائرة المعارف الإسلاميّة كعبارة أكثر المـُفسّرينَ، تَعتَبِر أنّ قوله تعالى ( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً ) خبر عن مُدّة مَكثِ أهل الكهف في كهفهم مُنذ دَخَلوه إلى أنْ استيقظوا!

ولكنّي أفهم غير ذلك وأقول: إنّ قوله (ولبثوا...) معمولٌ لقوله (سيقولون ثلاثة...) فهو مِن مَقول السائلينَ وليس خبراً من الله تعالى، ولذا أُتبع ذلك القول بقوله ( قُل رَبّي أَعْلَمُ بِعِدّتِهِم مَا يَعْلَمُهُمْ إِلاّ قَلِيلٌ ) ، وكذا هنا أُتبع قوله ( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ... ) بقوله ( اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السّماوَاتِ وَالأَرْضِ... ) .

فالقرآن ساكت عن عَدَدِهم وكذا عن مِقدار لَبْثِهم؛ إذ لا غَرض يترتب على الهدف الذي سَاقَه القرآن.

وقد وَرَد هذا القول عن ابن عباس وتلميذِه قتادة.

قال ابن عباس: إنّ الرجل لَيُفسّر الآية يَرى أنّها كذلك، فَيَهوي أبعد ما بين السماء والأرض!

ثُمّ تلا: ( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ... ) قال: لو كانوا لَبِثوا كذلك لم يَقُل الله: ( قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا ) ، لكنّه حكى مَقالةَ القوم في العَدَد وفي المـُدّة، وردَّ عليهم بأنّه تعالى أَعلم.

وقال قتادة: في حرف (أي قراءة) ابن مسعود: ( وقالوا لبثوا في كهفهم... ) يعني إنّما قالَهُ الناس، أَلا ترى أنّه قال: ( قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا ) .

وفي رواية أُخرى عنه أيضاً: هذا قولُ أهل الكتاب، فردَّ الله عليهم ( قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا ) (1) .

* * *

قلت: قصّة أصحاب الكهف، حَسبما جاءت في القرآن، قصّة قديمة مُوغِلة في القِدَم، يَرجع عَهدُها إلى ما قَبلَ الميلاد، ولعلّه بقُرون، ولأنّها بقضيّة يهوديّة أشبه منها أن تكون قضيّة مسيحيّة.

____________________

(1) الدرّ المنثور، ج 5، ص 379.

٤٦٦

روى مُحمّد بن إسحاق بإسناده إلى سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس، قال: إنّ النضر بن الحرث بن كلدة وعقبة بن أبي معيط، أَنفَذَهُما قريش إلى أَحبار اليهود بالمدينة، وقالوا لهما: سَلاهم عن مُحمّد، وَصِفا لهم صفته، وَخَبِّراهم بقوله، فإنّهم أهلُ الكتاب الأَوّل وعندهم من عِلم الأنبياء ما ليس عندنا، فَخَرجا حتّى قَدِما المدينة فَسَأَلا أَحبار اليهود عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وقالا لهم ما قالت قريش.

فقالَ لهما أَحبار اليهود: اسأَلوه عن ثلاث، فإنْ أَخبَرَكم بهنّ فهو نبيّ مُرسَل، وإنْ لم يَفعل فهو رجل مُتقوِّل، فَرَأُوا فيه رأَيَكم، سَلُوه عن فتية ذَهَبوا في الدهر الأَوّل، ما كان أَمرُهم؟ فإنّه قد كان لهم حديث عجيب، وسَلُوه عن رجلٍ طوّاف قد بَلَغ مَشارق الأرض ومَغاربها، ما كان نَبأُه؟ وسَلُوه عن الرُوح ما هو؟

وفي رواية أخرى: فإنْ أَخبَرَكم عن الثنتين ولم يُخبِرْكم بالروح فهو نبيّ.

فانصرَفا إلى مكّة، فقالا: يا معاشر قريش، قد جِئناكم بفَصلٍ ما بينكم وبين مُحمّد، وقصّا عليهم القصّة فجاءوا إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله) فَسَأَلوه، فاستمهَلَهم النبيّ (صلّى الله عليه وآله) حتّى يَأتيَه الوحي، فَمَكث أُسبوعينِ حتّى نزلتْ الآيات بشأن أصحاب الكهف وذي القرنَينِ وبشأن الرُوح: إنّه مِن أَمر ربّي ولم يُبيّن (1)

وفي هذا الوصف الذي جاء في رواية ابن إسحاق، دلالة واضحة على أنّ حديث الفِتية حديث قديم يَرجع عَهدُه إلى الدهر الأَوّل، وربّما يعني ذلك: العَهد القديم السابق على عهد موسى وبني إسرائيل، فقد كان حديثاً شائعاً يَتَداولُه أبناء الأديان القديمة وتَوارَثَها المـُتأخِّرون ومنهم اليهود، ولعلّه كان مِن شارات أصحاب الأديان، هي معرفة هكذا قَصَص دينيّة فيها اضطِهاد وفيها الصبر والأَناة والمقاومة تجاه الإلحاد، وفي النهاية: النصر والظَفَر... فهو حديث غَلَبة الحقّ على الباطل، وظُهور السلام على العَسْف والطغيان في أيّ زمان ( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ) (2) ، جاءت الآية حديثاً عن مواضع الأنبياء الظافرة.

إذن فقد كان حديث الفِتية رَمزاً قديماً لانتصار التوحيد على الشرك كلّه، وشِعارَاً

____________________

(1) مجمع البيان، ج 6، ص 451 - 452.

(2) الأنبياء 21: 18.

٤٦٧

لائِحاً بمَحَجّة الدِّين الظاهرة والدائِمة على مَدى الدهر.

وجاءت القصّة في الأوساط المسيحيّة بعنوان (نُوّام أَفَسُس (1) السبعة) نُشِرت لأَوّل مرّة في الشرق في كتاب سرياني يَرجع تأريخه إلى القَرن الخامس بعد الميلاد (2) ، وَوَردت عند الغربيّينَ في كتاب (ثيودوسيوس) (3) عن الأرض المـُقدّسة. وقصّة أصحاب الكهف مشهورة ذائِعة في الآداب الشرقيّة والغربيّة على حدّ سواء (4) .

غير أنّ فكرة تَقادم القصّة في أوساط سابقة على المسيحيّة، قد شَغَلت أذهان المـُحقّقينَ، حتّى عَثَر بعضهم على آثار مُشابِهة في مصادر يهوديّة ويونانيّة وغيرهما، منها: قصّة (أُنياس) - حوني - التي جاءت في كتاب (تعانيت) في فُصول مِن كتاب (التلمود)، وكان قد استغرق نومُه 70 سنة.

وهكذا قصّة (هلني) والنُوّام التسعة بساردينيا، التي أشار إليه (أرسطو)، وغير ذلك مِمّا ذَكَروه بهذا الصدد (5) .

حديث ذي القرنَينِ

وهكذا حديث ذي القرنَينِ، الرجل الذي جَابَ البلادَ وطافَ المـَعمورةَ فأتى مَطلع الشمس (شرقيّ الأرض) ومَغربها (غربيّ الأرض) حديث قديم قد يَرجع تأريخه إلى عهد بعيد، غير أنّ الذي حقّقه بعض أعلام العصر، الأستاذ أبو الكلام آزاد الهندي، مُستَمِدّاً مِن نُصوص التوراة (العهد القديم) هو احتمال أنْ يكون هو المـَلِك الفارسي (كورش) الكبير (557 - 528 ق. م) الذي دَانتْ له البلاد شرقاً وغرباً، استولى على بلاد ماداى وآسيا

____________________

(1) مدينة قديمة في آسيا الصُغرى على بحر إيجة، تقع أنقاضها بالقُرب مِن (سلجوق) الحاليّة (تركيا)، كانت مركزاً تجاريّاً عامراً مُنذ القَرن الثامن قبل الميلاد.

(2) نُشِرت على يد الأُسقف السرياني يعقوب السروجي (451 - 521 م) شاعر سرياني كبير، وُلِد في (كرتم) (ما بين النهرين) ودَرَس في مدرسة (الرها) الشهيرة، أُسقف بطنان المونوفيزي 519.

(3) بطريرك الإسكندريّة (535 - 566 م)، كان مونوفيزيّاً فَنُفي إلى القسطنطينيّة 537، له مؤلّفات دينيّة.

(4) راجع: دائرة المعارف الإسلاميّة المـُتَرجَمة، ج 2، ص 243.

(5) راجع: دائرة المعارف الإسلاميّة الكُبرى للبجنوردي، ج 9، ص 141.

٤٦٨

الصُغرى وبابل، وأَطلق سَراح اليهود مِن أَسر البابليّينَ وأَذِنَ لهم بالعودة إلى فلسطين وأَعانَهم على إحياء القُدُس مِن جديد؛ ومِن ثَمّ جاء ذِكره في أسفار التوراة بإعظام وتبجيل.

وكانت تَسميته بذي القرنَينِ تعبيراً عن رؤيا رآها دانيال النبيّ عندما كانوا في الأَسر، (1) وكانت الرؤيا تُبشِّر بِخَلاصِهم على يد مَلِكٍ ذي سلطان قاهر يَسطو على بلاد ميديا وفارس.

جاء في الرؤيا: (في السّنة الثالثة مِن مُلكِ (بيلشاصَّر) البابلي، ظهرت لي أنا (دانيال) رؤيا... وكان في رُؤياي، وأنا في شوشان القصر الذي في ولاية عيلام، ورأيتُ في الرؤيا وأنا عند نهر أولاي، فرفعتُ عَيْنَيَّ ورأيتُ وإذا بكبشٍ واقف عند النهر وله قَرنانِ، والقَرنانِ عاليَانِ... رأيتُ الكبشَ يَنطح غَرباً وشمالاً وجنوباً، فلم يَقف حَيَوان قُدّامه ولا مُنقذ مِن يده، وفَعَل كمرضاته وعَظُم...

ثُمّ إنّه طلبَ مِن الله أنْ يَبعث له مِن يُعبِّر له الرؤيا، وإذا بشَبحِ إنسان واقف قُبَالَته، وسَمِع صوتاً يَقول: يا جبرائيل، فَهِّم هذا الرجلَ الرؤيا... فَجَعَل جبرائيل يُفسّر الرؤيا في تفصيلٍ حتّى أَتى على ذِكر الكَبش والقَرنَينِ، فقال: أمّا الكَبش الذي رأيته ذا القَرنَينِ، فهو مَلِك مادى وفارس... (2)

وبالفعل فإنّ (كورش) وَحَّدَ مَملَكَتَي ماديا وفارس غَرباً وشمالاً واستولى على بابل في الجنوبِ وبسطَ سلطانَه على أرجاءِ البلاد.

وهكذا جاء في كتاب (إشَعْياء): وأقول بشأن كورش، إنّه خير راعٍ اصطَفَيتُه، وإنّه يُحقِّق إرادتي، ويُجدِّد بِناء أُورشليم ويَعمُر بيتي من أساس (3) .

____________________

(1) ولعلّ دانيال هو قَصَّ على كورش رؤياه، فتَبَشَّر كورش بها وأَخذها شِعارَاً في مُلكِه تَبرُّكاً بذلك وتقويةً لسلطانه، ومِن ثَمّ كان قد أَعجَبَه أنْ ينحت صورتَه على الحَجَر ويَحمل على رأسه تاجاً ذا قَرنَينِ يَسطو بهما على الشمال والجنوب جميعاً. وهكذا نجد تِمثال كورش الذي عُثِر عليه في مشهد مرغاب وعلى رأسه التاج الشهير بالقَرنَينِ.

(2) سِفر دانيال، إصحاح 8: 1 - 4 و 15 - 21.

(3) سِفر إشَعْياء، إصحاح 44: 25 - 28.

٤٦٩

وفي الإصحاح 45: هكذا يقول الربّ لمسيحه (1) يعنى كورش: إنّي مَنَحتُ لك القُدرة والسَّطوة والمـُلك، وسوف يخضع أَمامك كلُّ المـُلوكِ، ويُفتَح لك الأبواب كلّها وسوف تُصفَى لك الأرض ويُذاب لك النُحاس والحديد، وتَستَولي على خزائن الأرض وذَخائرِها، - إلى قوله - أنا أَنهضتُه بالنصر وكلّ طُرُقِه أُسهِّل، وهو يَبني مدينتي ويُطلِق سبيي... (2) .

وفي الإصحاح 46 جاء تشبيه كورش بالعُقاب الكاسر، (3) يقول: أَبعثُ مِن المـَشرق عُقاباً كاسراً ينقضُّ على الأكاسرة ليُحطِّمهم ويَفعل في الأرض ما أُريد، وسوف يَتحقّق على يديه ما قضيتُ (4) .

وكتاب إشَعْياء - ولعلّه عاشَ قَبْلَ ظُهور كورش بأكثر من قَرن ونصف (160 سنة) - لم يُؤلَّف في زَمنٍ واحد، وقد أَكمَلَه بَعدَهُ أنبياء مُتأخِّرون وبعضهم عاصرَ ظُهور كورش وسُقوط بابل، غير أنّ الجميعَ وصفوا كورش بالقُدرة والسَّطوة الربّانيّة والذي جاء ليُخلّص العبادَ من الظُلم والجَور عليهم، وهكذا فَعَلَ في خَلاص بني إسرائيل وإعادة بِناء البيت وقد مَلَك الأرض شرقاً وغرباً وبَسَط العدلَ فيها.

الأمر الذي يَهمّنا ويَرتبط بصُلب البحث عن شخصيّة ذي القَرنَينِ في كُتب السالفينَ.

وفي كتاب إرميا، إصحاح 50: أَخْبِرُوا في الشعوب وارفعوا رايةَ الفَخار. وقولوا: أُخِذت بابل، وخُزِي بيل ومَرودَخ و أَوثانها، وسُحِقت الأصنام؛ لأنّه قد طلعتْ عليها من الشمال أُمّة تَهدم كلَّ هذه البنايات وتَكسر سطوتَها (5) .

وفي هذا التعبير جاء تشبيه الأُمّة الفارسيّة ذلك اليوم بالشمس الطالعة والتي تَبعث على العالَم أشعّتها للدفء والحيويّة والنشاط.

____________________

(1) أي عَبدَه الذي اصطفاه، وهكذا يُقال لعيسى بن مريم المسيح؛ لأنّه النبيّ المـُختار لإسعاد أُمّته، والمسيح: المـُبارك. حيث بارَكَه الله وجَعَل في وجوده البَركة واللُطف لعباده المؤمنينَ، وبهذا المعنى أُطلِق (المسيح) على كورش.

(2) سفر ِإشَعْياء، إصحاح 45: 1 - 14 نقلاً بتلخيص وتوضيح.

(3) يُقال للعُقاب: كاسر؛ لأنّه يَنقضّ على ما يَصيده فيَكسره كَسرَاً.

(4) سِفر إشَعْياء، إصحاح 46: 10 - 11.

(5) كتاب إرميا، إصحاح 50، نقلاً بتلخيص وتوضيح.

٤٧٠

وهكذا جاء التعبير في القرآن عن ذي القَرنَينِ بالعبد الصالح، والذي مَنَحه الله القُدرة والسَّطوة، لا ليَستعملها في الشرّ، بل في الخير والصلاح ونشر العدل في البلاد وحماية العباد عن مَظالم الطُغاة.

فكانت سيرته حسنةً وكانت سياسته على أساس الحِكمة وقد ارتضاه الله، فأَلهَمَه الخير وَوَفَّقه في إسعاد العباد وإصلاح البلاد.

ومِن العِباد مُلهَمُون وربّما مُحدَّثون، وإنْ لم يكونوا أنبياء، الأمر الذي يَنطبق على ذي القَرنَينِ بكلّ وضوح، ولعلّه هو كورش على ما جاء في العهد العتيق؛ نظراً لهذا الانطِباق أيضاً حسب الظاهر.

وإليك وَصْفُه على ما جاء في القرآن:

( وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُم مِنْهُ ذِكْراً * إِنّا مَكّنّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلّ شَيْ‏ءٍ سَبَباً * فَأَتْبَعَ سَبَباً * حَتّى‏ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمّا أَن تُعَذّبَ وَإِمّا أَن تَتّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً * قَالَ أَمّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذّبُهُ ثُمّ يُرَدّ إِلَى‏ رَبّهِ فَيُعَذّبُهُ عَذَاباً نُكْراً * وَأَمّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى‏ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً * ثُمّ أَتْبَعَ سَبَباً * حَتّى‏ إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى‏ قَوْمٍ لّمْ نَجْعَل لّهُم مِن دُونِهَا سِتْراً * كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً * ثُمّ أَتْبَعَ سَبَباً * حَتّى‏ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السّدّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً * قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى‏ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً * قَالَ مَا مَكّنّي فِيهِ رَبّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً * ءَأَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتّى‏ إِذَا سَاوَى‏ بَيْنَ الصّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتّى‏ إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ ءَاتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً *

٤٧١

فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً * قَالَ هذَا رَحْمَةٌ مِن رّبّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبّي جَعَلَهُ دَكّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبّي حَقّاً ) (1) .

والذي يبدو من هذه الآيات: أنّ لذي القَرنَينِ شأناً عند الله، وأنّه كان مُلهَمَاً مِن عنده، بعثه الله (2) سَطوةً على الطُغاة ونجاةً للعباد في أرجاء البلاد.

وهكذا جاء في مَنشور كورش دَعْماً لإحياء القُدس من جديد وإطلاق سراح إسرائيل من الأَسر، مُنَوِّهاً أنّ ذلك مِن أمر الإله ربّ العالمين.

جاء في كتاب عَزْرا، إصحاح 1: 1 - 11: (وفي السنة الأُولى لكورش مَلِك فارس، عند تمام كلام الربّ بفم إِرميا، نَبّه الربُّ روحَ كورش مَلِك فارس، فأَطلقَ نداءً في كلّ مَملكَتِه، وبالكتابة أيضاً، قائلاً: (هكذا قال كورش مَلِك فارس: جميع مَمالِك الأرض دَفَعها لي الربُّ إله السماء، وهو أَوصاني أنْ أَبني له بيتاً في أُورشليم التي في يهوذا...).

وجَمَع الإعانة مِن كلّ أبناء مُلكه الوسيع، قائلاً: (وكلّ مَن بقي في أحد الأماكن، حيث هو مُتغرِّب، فليُنجده أهلُ مكانه بفضّةٍ وبذَهبٍ وبأَمتعةٍ وببهائمٍ، مع التبرُّع لبيتِ الرّبّ في أورشليم.

وحتّى أنّه أَرجع التُراث الإسرائيلي الذي كان قد نَهَبَه بخت نصّر، وَرَدَّه إلى البيت، وكانت أَواني مِن ذهبٍ وفضّةٍ ما يُعدّ بالألوف) (3) .

والتعبير في هذا البيان: أنّ الربّ نبّه رُوحَ كورش، وهو الوحي بمعنى الإلهام.

وهذا يتّحد مع قوله هو: وهو أَوصاني أنْ أَبني له بيتاً... أي وقع في خَلَدي فِعْلُ هذا الخير، وكلّ فكرة خير إنّما هو مِن عند الله، كما أنّ فكرة الشرّ مِن الشيطان ( وَإِنّ الشّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى‏ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ) (4) ، ( وَكَذلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِيّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى‏ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً ) (5) .

____________________

(1) الكهف 18: 83 - 98.

(2) كما بُعِث بخت نصّر نقمةً على العُتاة، في قوله تعالى: ( بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ... ) . الإسراء 17: 5.

(3) كتاب عَزْرا، إصحاح 1: 1 - 11.

(4) الأنعام 6: 121.

(5) الأنعام 6: 112.

٤٧٢

وهذا هو إلهام الشرّ الشيطاني، أمّا إلهام الخير الرحماني، فهو كما بشأن أُمّ موسى: ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ ... ) (1) ، وأوحينا بمعنى أَلهمنا، في القرآن كثير.

وهكذا (قُلنا) حديثاً مع ذوات الأنفس وليس مشافهةً بالكلام، وليس بشأن الإنسان فحسب، بل بشأن الحيوان والجماد، أَيضاً كثير.

فجاء حديثاً مع أَصحاب البقرة: ( فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) (2) ، إذ لم يكن خِطاب مُشافهة، ولا دليل على أنّه بواسطة الرسول، والمـُحتَمل قويّاً هو إيحاء هذا المعنى كما في أُمّ موسى.

وهكذا قوله بشأن بني إسرائيل - بعد هلاك فرعون -: ( وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأَرْضَ... ) (3) ، إلقاء في النُفُوس بطبيعة الحال.

وكان الخِطاب مع النار في قوله تعالى: ( قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) (4) ، أيضاً من قبيل إيحاء إرادته تعالى، لكن تكويناً، نظير الإيحاء إلى النحل والنمل وسائر الحَيوان ليَسلكوا سُبُل ربهم ذُلُلاً.

ومن هذا القبيل قوله تعالى بشأن مَرَدة بني إسرائيل: ( فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ) (5) ، لم يكن خِطاب تكليف بل خِطاب تكوين.

وهكذا الحديث مع الأرض والسماء في قوله تعالى: ( وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي... ) (6) ، ( فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) (7) .

فلا غَرابة بعدئذٍ أنْ يأتي بشأن الإيحاء - نفسيّاً - إلى عبدٍ من عباد الله الصالحينَ: ( قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً ) (8) .

وهذا عندما سارَ كورش مُتوجِّهاً في فُتوحاته نحو الغرب لتسخير بلاد ليديا، (9)

____________________

(1) القصص 28: 7.                                   (2) البقرة 2: 73.

(3) الإسراء 17: 104.                                 (4) الأنبياء 21: 69.

(5) البقرة 2: 65.                                       (6) هود 11: 44.

(7) فصّلت 41: 11.                                   (8) الكهف 18: 86 - 88.

(9) مَملكة قديمة غربيّ آسيا الصُغرى ممّا يلي بحر إيجه، كانت قاعدةَ مُلكها مدينة (سارد) الزاهية بفخامتها يومذاك.

٤٧٣

فوَقَع مَلِكُها (كرزوس) أسيراً في يد كورش، وكان قد تآمرَ ضدّه مع سائر الدُول للقضاء على إمبراطوريّة فارس، ولكنّه فَشِل ووقعت بلادَه طُعمَةً رخيصةً للمـَلِك الفارسي، ومِن ثَمّ حاولَ إحراقَه بالنار، لكنّه سامَحَه وعفا عنه، حسب دَأَبه مع سائر أُمراء البلاد الذين بَغَوا عليه وأَصفَح عنهم.

وبذلك نرى الآيات لعلّها تَتَصادق مع ما سجّله التأريخ بشأن كورش، فقد قَويَت شوكتُه بعد أنْ وحّد فارس ماديا بعد الاستيلاء على (إكباتان) (همدان - اليوم)، فذهبَ مُتوجِّهاً نحو الغرب لإخضاع مُناوئيه هناك (ليديا)، الأمر الذي يَتصادقَ مع قوله تعالى: ( إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ (بتوحيد بلاد فارس وماديا) وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبا ً (أي عِلماً بطُرُق الفتح والظَفَر على الخُصوم) (1) فَأَتْبَعَ سَبَباً * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ (هي الضِّفة الغربيّة من آسيا الصُغرى، حيث بلاد ليديا، تركيا الحاليّة) وَجَدَها (أي الشمس) تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) حيث بحر إيجه ويُسمّى بحر المـَغرب، وبحر مرمرة وعلى امتدادهما البحر الأسود، وكلّها تُضرَب بالسواد، كأنّه الوَحل، والحَمْأَة: الطين الأسود، وكانت الشمس تَغرب على آفاقٍ تُتاخِم تلك البحار الضارب لونها إلى السواد.

وهكذا سارَ كورش (ذو القَرنَينِ) بجُيوشِه نحو مَغرب الشمس (غربيّ بلاد فارس - آسيا الصُغرى) حتّى أَوقَفه البحر، ولم يَكن مِن شبرٍ أَمامه مِن يابسٍ - في مسيرته تلك -!

فماذا بعد قُرص الشمس المـُحتَقِن وقد تَخضَّب بحُمرَةٍ كأنّه يَنزُف ما فيه من طاقةٍ... ماذا بعد قُرص الشمس وقد اصفَرّ واحتضَر وتضاءَل عند الأُفق، ثُمّ هوى وسقطَ غارِقاً في العين الحَمِئة... (2) في خليج (إزمير) (3) ، بين الماء والطين الأسود العَكِر اللّذَينِ يَسكُبهما نهر (جيديس)؟

لقد رأى كورش (ذو القَرنَينِ) في هذا المـَشهد ما يَشدُّه إلى الخالق الأَعظم، مالِك

____________________

(1) عن قتادة والضحّاك: عِلماً يَتسبّب به إلى تحقيق إرادته وبلوغ مِأَربَه، وعن الجبائي: كلّ شيء يَستعين به المـُلوك على فتح البلاد والظَفَر على الأعداء، مجمع البيان، ج 6، ص 490.

(2) والعين - هنا -: لُجّة الماء وعُبابِه المـُتَموِّج، فيتراءى للناظر على ساحل البحر كأنّ الشمس تَغرب في عُبابِه، كما أنّ الناظر إليها وهي تغرب في البرّ، كأنّها تغرب في أرض مَلساءٍ.

(3) هي (سميرنا) ( smyrne ) القديمة، مَرفأ عظيم في تركيا على بحر إيجه.

٤٧٤

السماوات والأرض ومُسيِّر الأَفلاك القابض الباسط العظيم المـُتعال.

لقد تَضاءَلَ - رُغم مُلكه العريض - أَمام سُقوط الشمس في عين حَمِئة، حيث أَظلمت الدنيا بعدها، فَعَرف أنّ لكلّ شيء نهايةً، وكلّ شيء هالِك إلاّ وَجهُ الله الكريم، لقد تَوصَّل كورش - بما لديه مِن خَلفيّة روحيّة استمدّها مِن زرادشت - إلى حقيقة البَعث والمـَمات وعَظمةِ الله في الآفاق.

هذا هو شَعب ليديا قد صارَ في قَبضَته، فماذا يفعل بهم؟

لقد مَنَح الله ذا القَرنَينِ حرّيةَ اختيار العفو عنهم أو تأديبهم والتَنكيل بهم... واختار ذو القَرنَينِ العفو عمَّن تابَ وآمنَ، وقال: من كان هذا شأنه فسَماحٌ وعَطفٌ ويُسرٌ وتكريمٌ وأَمانٌ ورحمةٌ، ومَن كفرَ وطغى وتجبَّر فضَربٌ بالأعناقِ وعُنفٌ وتأديبٌ.

قال تعالى: ( فَأَتْبَعَ سَبَباً * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْماً قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً ) (1) .

نحو مَغرب الشمس!

نعم قامَ كورش بحَملة نحو المـَغرب (غرب بلاد فارس) حيث مَغرب الشمس بالنسبة إليهم.

والشمس لا تَغرب في مكان مُحدَّد تهوي إليه حتّى الصباح الثاني، وإنّما أَيّ مكان في الكُرة الأرضيّة تَغرب فيه الشمس عند الأُفق يُسمّى مَغرب الشمس، وبالتالي فمَغرب الشمس شيء نسبيّ... قد يَراه ابن الصحراء وراءَ التِلال، وهو بالنسبة له مَغرب الشمس، وقد يَراه ابن السَهل الساحلي شاطئ البحر، وقد يكون سطح البحر المـُنحني مَغرباً للشمس في نظر الرائي، وما هي - آنذاك - إلاّ مشرقةً عند قومٍ آخرينَ.

____________________

(1) الكهف 18: 86 - 88.

٤٧٥

وتُؤخذ لحظة الغروب عندما يقع الأُفق على مُنتصف قُرص الشمس تماماً، ونقول ساعتها: هذا مَغرب الشمس!

فإذا قُلنا: إنّ كورش توجّه نحو مَغرب الشمس، فمعنى ذلك أنّنا نقول: إنّ مسارَ الحَملة كان صَوبَ الغرب.

فإذا كان كورش - مَلِك فارس الكبير - يُقيم في (أنشانا - خوزستان الحاليّة) على خط طول (50 ش) فإنّ اتّجاهَه صَوب المـَغرب يعني حَملته على (ليديا - تركيا حاليّاً).

بعد أنْ انتَصَر كوروش على الميديّين ودخلَ عاصمتَهم (همدان)، سادَ الوُجُوم والانزعاج رُبوعَ أَعظم المـَمالك قاطبةً ذلك الحين: مَملكة مصر الفرعونيّة، مَملكة الليديين (ليديا) ومَملكة البابليّين، وجرت بينهم مُفاوضات لتحقيقِ الاتّحاد بينهم لمـُواجهة كورش، وكانت مَملكة ليديا (تركيا الآن) أَخوف الثلاثة وأَحرصَهم على تحقيق هذا الاتّحاد العسكري، رُغم أَنّ مَلِكها (كرزوس) كان قد بَذلَ أَقصى جهوده لازدهار ليديا حتّى صارت عاصمتها (سارد) يُقال عنها بسارد الذهبيّة.

وقد بلغَ الاضطراب بمَلِك ليديا درجةً أنّه كان يَتوقّع هُجوم كورش على بلاده بين لحظة وأخرى؛ ومِن ثَمّ جهَّز المـَلِك الليدي نفسه، فَدَخل في مُفاوضات مع اسبراطة (إحدى الدول اليونانيّة) وضَمَّها إلى حِلفه واتّحدت بابل ومصر كذلك معه وسارت الجيوش نحو كورش في إيران (1) .

يقول الأُستاذ خضر: لم يكن كورش - إذن - مُعتَدياً ولا سَفّاحاً ولا طامِعاً في مُلِك أحد (2) .

أمّا الجُيوش التي سارت نحو كورش فلم تكن جُيوش الحُلفاء جميعاً، فالمـَلِك (نبونيد) مَلِك بابل لم يَكن ليَجسر على القيام بأيّ حركة؛ لخوفه من انتقام الفُرس والأسبارطيون وَعَدوا بالمـُساعدة ولكنّهم تَقاعَسوا عن العملِ، مُتمسّكين بسياسة العُزلة التي ظلّوا دَوماً يتّبعونها، أمّا مَلِك مصر (آماسيس) الذي أَدرك خطرَ الفُرس على بلاده فقد

____________________

(1) تأريخ إيران، ص 64 - 65.

(2) مفاهيم جغرافيّة، ص 241.

٤٧٦

رَضِيَ بإرسال جيش صغير بطريق البحر، ولكن مَلِك ليديا (كرزوس) لم ينتظر وصول النَجدات مِن حُلفائه، بل أَسرعَ بالهُجوم وعَبَر نهر (هاليس) (قزل أرماق) وضَرَب البلاد التي في طريقه.

وفَجأَةً اصطدمَ بجيش كورش عند مدينة (بتريّة) أو (بتريوم) - العاصمة القديمة للحيثيّين - (1) ودارَت رَحى حرب ضَروس بين الجيشيَنِ... واضطرّ المـَلِك الليدي إلى الانسحاب غَرباً حتّى حدود مَملَكته.

واندفع كورش نحو (مَغرب الشمس) مُتقدِّماً بسرعة وباغَتَ جيشَ ليديا عند أَسوار العاصمة (سارد) أو (سارديس) فسَحَقَ الجيش الليدي مُنذ الحَملة الأُولى وَوَقع المـَلِك الليدي أَسيراً وجميعُ قادةِ جيشه وجنوده سنة 546 ق. م، (2) وهنا يأتي دَور الآية الكريمة: ( قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً... ) (3) .

قال الدكتور خضر: كان العالَم القديم آنذاك قد تَعوَّد من المـُلوك الفاتحينَ المـُنتصرِينَ تدميرَ البلاد المـَقهورة التي تَخرج مَغلوبةً مَهزومةً مِن المعارك الحربيّة... ولكن كورش عامَلَ كرزوس بالحُسنى - وِفقاً للآية الكريمة - كما كانت شيمتُه الكريمة مع سائر المـُلوك المـَغلوبينَ، كان يُعاملهم بالحُسنى، كما فَعَل بمَلِك ماد ومَلِك أرمنستان وغيرهما (4) .

ويَذكر هيرودوت أنّ كورش كان يَودُّ - في بداية الأمر - أنْ يَختبر صَلابة المـَلِك الأَسير وإيمانه فأَمر بإضرامِ النار ليُلقَى فيها، ثُمّ عَدَلَ عن ذلك - رأَفةً ورحمةً به - وزاد من إكرامه وتعزيزه، وبَلَغ مِن إكرامه أنْ اتّخذه مُستشاراً كان يَستشيره في مهامّ أُموره (5) .

وأمّا بقيّة رواية هيرودوت مِن إلقاء المـَلِك الأَسير - فعلاً - في النار، ثُمّ عَنَّ له - لبادرةٍ بدرَتْ مِن كرزوس - فأمر بإنجائه وذَويه من النار... فإنّ المـُحقّقينَ من أَرباب

____________________

(1) الحيثيّون (هيتي ها - hiti-ha ): مِن الأَقوام القديمة مُنذ (1800 ق. م) كانوا يَسكنون شرقيّ آسيا الصُغرى ممّا يلي البحر الأسود شمالاً، وجبال (توروس - كيليكيّة)، ونهر الفرات شرقاً، ونهر (هاليس - قزل إيرماق، الحاليّة) غرباً، واسم بلادهم (كابادوكيه) مُعرَّب (قباد و قيا)، وأَسّسوا حضارةً راقيةً، وكانت عاصمة بلادهم (بِتِريوم) المعروفة اليوم ببوغاز كوبي.

(2) تأريخ إيران، ص 64 - 65.

(3) الكهف 18 - 86.

(4) مفاهيم جغرافيّة، ص 242.

(5) تأريخ هيرودوت، ترجمة الوحيد المازندراني، الكتاب الأَوّل، ص 53 - 55.

٤٧٧

التأريخ المـُعاصرِينَ، لا يَتوافقونَ على صحّته؛ إذ كان مُتنافياً مع معتقدات الفُرس آنذاك، حيث تقديسهم لجانب النار وأنْ لا تَتَلوّث بالأقذار، فضلاً عن مُخالفته لشيمة مُلوك الفُرس عامّة من اتّخاذ طريقة الرأفة بالأُسَراء المـُلوك، والأَخْذ بجانب حُرمتهم بالذات.

ولعلّ هيرودوت أَخَذ هذه القصّة من قَصّاصينَ قَبله وسَجّله في كتابه من غير تحقيق (1) .

بعد ذلك وَاصلَ كورش زَحفَه غَرباً في آسيا الصُغرى لإخضاع المـُستَعمَرات اليونانيّة - وكانت قد رفضتْ التَحالف مع كورش في حربه مع مَلِك ليديا - كما كان من الطبيعي بعد انتصاره على الليديّين أنْ يُفكِّر كورش في الوصول إلى بحر إيجه (غرب ليديا) الذي تحتاج إليه الإمبراطوريّة الفارسيّة لتسهيل مصالحها التجاريّة العالميّة، وكانت المـُدن الأيونيّة (المـُستَعمَرات اليونانيّة) على شواطئ هذا البحر مشهورةً بغِناها، ولكنّها مُنقسمة على بعضها وبالتالي كانت ضعيفةً، فكانت تُؤلِّف غنائمَ سَهْلة التَناول تُغري الفاتحينَ.

وكانت مُباغَتة فَجيعَة لليونانيّينَ على شواطئ آسيا الصُغرى عندما رَأَوا الجُيوش الفارسيّة الجَرَّارة تُطبِق عليهم جميعاً وتَستولي بحَملة واحدة على مُدنهم كلّها على سواحل بحر إيجه.

هذا هو ذا قد بلغ كورش مَغرب الشمس بالنسبة لبلاده، لقد صار على حافّة البحر الأبيض المتوسّط، فأين العين الحَمِئة إذن؟؟

وجدها تَغرب في عينٍ حَمِئة!

حين توقّف كورش عند شواطئ بحر إيجه - وهي جزء من سواحل تركيا على البحر المتوسّط - وجدَ الشاطئ - كما هو معروف في الخريطة - كثير التَعاريج، حيث تَتَداخل أَلسِنة البحر داخلَ اليابس، ومِن أَمثلة هذه الأَلسِنة البحريّة خليج هرمس

____________________

(1) راجع: تأريخ إيران، ص 66، ومفاهيم جغرافيّة لعبد العليم خضر، ص 242.

٤٧٨

ومندريس الأَكبر ومندريس الأَصغر، ويَتعمَّق خليج (إزمير) إلى الداخل بمِقدار (120 ك. م) تُحيط به الجبال البَلوريّة التي سمّاها (فيلبسون = philippson ): (العين الليديّة الكارية) (1) حيث تُحيط هذه الجبال من الغرب إلى الشرق حافّتَي هذا اللسان البحري الذي يتّخذ شكل العين، ويَصبّ فيه نهر (غديس) المياه العَكِرة المـُحمَّلة بالطين البُركاني والتُراب الأَحمر، من فوق هَضَبة الأناضول التي تَنحدر بِبُطء نحو الغرب قبل أنْ تصل إلى الحافّة الغربيّة؛ ولذلك تَزيد سُرعة جَريان نهر (غديس) في اتّجاه السَهل الساحلي المـُتقطِّع في شَكل خُلجان وأَخوار (2) وأَجوان لا حصرَ لها، حتّى يَصل مُستوى قاعدة بحر إيجه، حيث يصبّ في خليج (إزمير) الغارق بين قَمَم الجبال المـُحيطة به بارتفاع يتراوح بين 1000 و 2000 متر.

وحين وَقَف كورش ذو القَرنَينِ عند (سارد) قرب إزمير تَأَمّل قُرص الشمس وهو يسقط عند الغروب في هذا الخليج الذي يشبه العين (الكبيرة) تماماً واختلطت حُمرة الغَسَق بالطين الأَحمر والأَسود الذي يَلفظه نهر (غديس) في عين خليج إزمير.

ونُرجّح أنْ تكون تلك هي العين الحَمِئة التي ذَكَرها القرآن.

وهكذا وَرَد في التفسير: العين الحَمِئة، هي عُباب الماء ولُجّته المـَليئة بالوَحَل، أي الطين الأسود الفاحم.

روى عبد الرزّاق بإسناده إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي عن عثمان بن حاضر الحميري الأزدي (أبو حاضر القاصّ، شيخ مِن أَهل اليَمن مَقبول صَدوق وذَكَره ابن حبّان في الثِقات)، (3) قال: قال لي ابن عباس: لو رأيت إليّ وإلى معاوية، وقرأتُ: (في عين حَمِئة) (أي وَحلة) وقَرأَ: (حامية) (أي دافئة)، فدخلَ كعب فسأله معاوية، فقال: أَنتم أَعرف بالعربيّة، ولكنّها تَغرب في عين سوداء.

____________________

(1) يقال: كرى البئر أي طواها بالشجر، وكرى الأرض: حفرها.

(2) جمع خَوْر: المـُنخفض من الأرض بين النَشزَين، تجتمع فيها المياه بصورة أحواض طبيعيّة في السُهول.

(3) تهذيب التهذيب لابن حجر، ج 7، ص 109، رقم 235، روى عن ابن عباس وابن الزبير وجابر وأنس، وعنه الخليل وخَلق كثير.

٤٧٩

وفي رواية: قال ابن عباس لمعاوية: في بيتي نَزَل القرآن، لكنّه أَرسلَ إلى كعب وسأَلَه، فقال: كعب: سَلْ أَهل العربيّة فإنّهم أَعلم بها، ثُمّ فَسّرها بماءٍ وطين.

قال أبو حاضر: لو أنّي عندكما أَيّدتُك بكلامٍ وتزدادَ به بصيرةً في (حَمِئة)! قال ابن عباس: وما هو؟ قال: فيما نأَثر قول الشاعر - وهو تُبَّع اليَماني - فيما ذَكَر به ذا القَرنَينِ في كلفه بالعِلم وإتِّباعه إيّاه:

قد كانَ ذو القَرنَينِ عَمرو مُسلماً

مَلِكاً تَدينُ له المـُلوك وتَحشُد

فأَتى المـَشارقَ والمـَغاربَ يَبتغي

أَسبابَ مُلكٍ مِن حكيمٍ مُرشد

فرأَى مَغيبَ الشمس عند مَغابها

في عين ذي خُلُبٍ وثأطٍ حِرْمد

فقال له ابن عباس: ما الخُلُب؟ قال: الطين، بلسانهم (أي الحمير)، قال: فما الثأط؟ قال: الحَمأَة (الوَحَل وهو الطين الرقيق الأسود)، قال: فما الحِرْمِد؟ قال: الأَسود، (1) فدعا ابن عباس غلاماً أنْ يأتيَ بالدَواة، فقال له: اكتُب ما يقوله الرجل (2) .

قال الدكتور خضر: والبحث العلمي الجغرافي تَتَبَّع نَشأَة المـُدن القديمة على خليج إزمير، مثل (أفسوس) و(ملطيّة) فَوجدَ أنّ هذه الحَمْأَة السوداء التي كانت تُعكِّر خليج إزمير حين نَظَرَ كورش إلى الشمس وهي تَغرب في هذا الخليج، هي الرواسب التي سدّت جانباً كبيراً من هذا الخليج، وبعد أن كانت (أفسوس) و (ملاطيّة) - وكانتا ميناءَينِ في الزمن القديم - صارَتا تَقَعان اليوم على بُعد بِضعة كيلو مترات من البحر.

كما أنّ ميناء (إزمير) نفسه لم يَنجُ مِن الامتلاء برواسب الطين التي كان يَجلبها نهر (غديس) إلى الشمال منه بقليل. وأخيراً اضطرّت الحُكومة التركيّة إلى تحويل مياه

____________________

(1) الحِرْمِد أو الحَرْمَد: المـُتغيِّر اللّون والرائحة، يضرب إلى السواد الفاحم.

(2) راجع: تفسير عبد الرزّاق، ج 2، ص 344 - 345، رقم 1712 و 1713، وتفسير ابن أبي حاتم، ج 7، ص 2383، رقم 12947 - 12948، والدرّ المنثور، ج 5، ص 451، وتفسير القرطبي، ج 11، ص 49.

٤٨٠