شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم6%

شبهات وردود حول القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 578

شبهات وردود حول القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 578 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 297459 / تحميل: 13674
الحجم الحجم الحجم
شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

مَشهودَةً للعرب المـُعاصِر لنُزول القرآن في رحلاتهم إلى الشام صباحاً ومساءً ( وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْل ِ ) (١) ، يَرَوَن دِيارَهم التي عَفَت وأَضحت خَراباً يَباباً! أَلا فليَعتَبِروا ويَحذَروا أنْ يُصيبَهم مِثل ما أَصابهم، إنْ تَمادَوا في الغيّ والضَّلال البعيد!

أصحاب الكهف والرقيم!

قصّةُ أصحاب الكهف، تَعرض نَموذجاً للإيمان في النُفوس المـُؤمنة، كيف تَطمئِنُّ به، وتُؤثِرُه على زينة الأرض ومتاعها، وتَلجَأَُ به إلى الكهف حين يَعُزّ عليها أنْ تَعيش به مع الناس، وكيف يَرعى الله هذه النُفُوس المـُؤمنة، ويَقيها الفِتنة، ويَشملها بالرحمة.

وفي القصّة روايات شتّى وأَقاويل كثيرة، فقد وَرَدَت في بعض الكُتُب القديمة وفي الأساطير بصور شتّى، ولكن يَجب الوقوف فيها عند حدِّ ما جاء في القرآن، فهو المـَصدر الوحيد المـُستَيقَن، ولتُطرح سائر الروايات والأساطير التي اندسّتْ في التفاسير بِلا سندٍ، وبخاصّة أنّ القرآن الكريم قد نَهى عن استفتاءِ أحدٍ فيهم، وعن المِراء والجَدل رَجماً بالغيب ( فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاّ مِرَاءً ظَاهِراً وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِم مِنْهُمْ أَحَداً ) (٢) .

والكهف: المـَغارَة الواسعة، والرقيم، قيل: إنّه مُعرَّب (أركه = Arke ) اليونانيّة أحد أسماء مدينة (بطرا) (٣) هي قَصَبَة الأَنباط، كانت مدينةً صخريّةً قائمةً في مُستوٍ من الأرض، تُحيط بها الصُّخور كالسُّور المـَنيع، وهي واقعة في (وادي موسى) عند مُلتَقى طُرُق القوافل بين (تدمر) و (غزّة).

وقد عَمُرَت في إبّان دولة الأَنباط وكَثُرَت فيها الأَبنية، فلمـّا ذهبت الدولة تَخَرَّب مُعظمُها، وبقيَ منها إلى الآن أَطلال لا تَفنيها الأيّام ولا يؤثِّر فيها الإقليم، منها (خزنة فرعون) وهي بِناء شامخ مَنقور في صَخرٍ ورديّ اللّون، على وِجهتِه نُقُوش وكتابات بالقلم النَّبطي، وبجانبها مسرح مَنقور في الصَّخر أيضاً، ويُستطَرق مِن هناك إلى

____________________

(١) الصافات ٣٧: ١٣٧ - ١٣٨.

(٢) الكهف ١٨: ٢٢.

(٣) يقول عنها العرب: البَتراء، مدينة أثريّة في الأُردن، هي سَلْع القديمة أو الصخرة، أَهم آثارها قَصرُ فرعون والبوّابة الأثريّة والمـَسرح الكبير وقبور بيترا وهيجرا.

٤٦١

سَهلٍ واسع فيه عَشَرات من الكُهوف الطبيعيّة أو المـَنقورة، ولبعضها وِجهات مَنقوشة وجُدران أَكثرُها ظُهوراً مكان يُقال له (الدير)، وكانت هذه الكُهوف مساكن الحوريّين القُدماء، ويَلجأَُ إليها اليوم بعضُ المارّة، فِراراً مِن المـَطر أو البَرد.

ومدينة بطرا، أو الرقيم أنشأها الأنباط - في الجنوب الشرقي من فلسطين - مدينة عربيّة قَبْلَ القَرن الرابع قبل الميلاد، وظلّت قائِمةً إلى أَوائل القَرن الثاني بعده، إذ دَخَلت في حَوزة الرّومان سنة ١٠٦ م.

وبطرا لفظ يوناني معناه الصَّخر، وقد سُمّي البلد بذلك؛ لأنّ مبانيَه مَنحوتةٌ في الصَّخر، واسمها القديم سَلْع وسالع، ويعني أيضاً الصَّخر، ولا زالت أَطلالُه إلى اليوم في وادي موسى في الأُردن، ويُسمّى أيضاً وادي السيق.

والعرب شاهَدوا آثارَ هذه المدينة بعد الإسلام وسَمّوها (الرقيم) وهو تعريبُ أَحد أسمائها اليونانيّة؛ لأنّ اليونانيّين كانوا يُسمّونها أركه - كما تقدّم - فحرّفه العرب وقالوا: الرقيم (١) .

وقال المقريزي في عَرْضِ كلامِه عن التَيه: (إنّ بعضَ المـَماليك البحريّة هَرَبوا من القاهرة سنة ٦٥٢ هـ فمرّت طائفةٌ منهم بالتَيه فَتاهوا خَمسَةَ أيّامٍ، ثُمّ تراءى لهم في اليوم السادس سوادٌ على بُعْدٍ فَقَصَدوه، فإذا مدينة عظيمة لها سُور وأبواب كلّها من رُخَام أخضر، فَدَخلوا بها وطَافوا، فإذا هي قد غَلَب عليها الرَّمل حتّى طمَّ أَسواقَها ودُورَها، ووجدوا بها أواني ومَلابِس.

وكانوا إذا تَنَاولوا منها شيئاً تَناثر مِن طُول البِلى، وَوَجدوا في صينيّة بعض البزّازينَ تِسعةَ دنانير ذهباً عليها صورة غَزال وكتابة عِبرانيَة، وحَفَروا مَوضعاً فإذا حَجَر على صهريجِ ماءٍ، فشربوا ماءً أَبرد مِن الثلج، ثُمّ خَرَجوا ومَشوا ليلةً فإذا بطائفة من العُربان، فحَملوهم إلى مدينة الكرك، فدفعوا الدنانير لبعض الصيارِفة... ودفع لهم في كلِّ دينار مِئة درهم... وقيل لهم: إنّ هذه المدينة لها طُوفان رَمل يزيد تارة ويَنقص أخرى

____________________

(١) العرب قبل الإسلام، ص ٨٣ - ٨٤.

٤٦٢

لا يراها إلاّ تائِهٌ (١) .

ولعلّ في هذا الوَصْفِ اختلاطاً للحقيقة بالخيال، وأنّ المماليك شاهدوا أَطلال بطرا - كما احتمله زيدان - وَوَجَدوا الدنانير، إمّا مِن ضَرْبِ اليهود أو النبطيّينَ، وقد زَارَ المدينة غير واحد من المـُستشرقينَ في القَرن الماضي (١٩) وقرأوا ما عليها من نقوش نبطيّة (٢) .

مَن هُم أصحاب الكهف؟

قد ذَكَر المـُؤرِّخونَ والمـُفسِّرونَ عن أهل الكهف شيئاً كثيراً، أَورده الطبري في التأريخ وفي تفسيره، ويتّفق أكثر الروايات على القول بأنّ عدداً من الفتية نَبَذوا عبادةَ الأوثان واعتنقوا التوحيدَ في مدينة (أَبْسُس) (٣) ثُمّ فَرّوا مِن تلك المدينة وأَوَوا إلى كهفٍ وكان معهم كَلب عَجَزوا عن إبعاده، وناموا في هذا الكهف، ثُمّ جاء المـَلِك الوَثَني داقيوس (ويُسمّى أيضاً داقينوس وداقيانوس) ومعه أَتباعُه للقبض عليهم، ولكن لم يستطع أيُّ واحدٍ منهم دُخولَ الكهفِ، فَبَنَوا عليهم بابَ الكهفِ؛ ليموت الفتية جُوعاً وعَطشاً، ونَسيَ الناسُ أمرَهم بعد ذلك.

وفي يوم من الأيّام بَعَثَ أحدُ الرُّعاةِ برجاله وأَمَرَهم بفتحِ فَمِ الغار ليتّخذه حَظيرةً لغنمِهِ، ولمـّا دخلوا لمـَ يَروا أَوّل الأمر الفتيةَ الذين بَعثهم الله في الأَجل الذي ضَرَبه ليَقظَتِهم، وعندما استيقظوا كانوا لا يَزالون يَملؤُهم الفَزَعُ والرُّعبُ مِن الخَطر الذي نَجَوا منه، فَعَمدوا إلى الحِيطة وبعثوا بأَحدهم إلى المدينة ليشتري لهم طعاماً، ولم يَعرف بائعُ الطعام النقود التي دفعها إليه الفتى، فَسَاقَه إلى المـَلِك وهناك تبيّن كلّ شيء: فقد نام الفتية ثلاثمِئة سَنة وتسعاً، وكانت الوثنيّة قد انقرضت خلال هذه المـُدَّة وحلّ محلّها التوحيد، وفَرِح المـَلِك بأصحاب الكهف فَرَحاً عظيماً؛ لأنّ بَعْثَهُم أَيّدَ عقيدةً دينيّةً كان البعض يَشكّ في صحّتها، وهي أنّ الناس يُبعثون كما هم بالجَسَد والروح معاً.

____________________

(١) الخطط المقريزيّة، ج ١، ص ٣٧٦.

(٢) العرب قبل الإسلام، ص ٨٥.

(٣) بلدة رومانيّة من ثغور طرسوس بين حلب وأنطاكية.

٤٦٣

ولم يَكد الفتى يعود إلى الكهف ثانيةً حتى ضَرَب الله على آذانهم مرّةً أخرى، فجاء الناس وشَيَّدوا هناك - على المـَغارة - مَسجِداً، تَبرُّكاً بهم.

* * *

وهنا عدة أسئلة أخرى:

ما هي تلك المدينة التي هَرَب منها الفتية ولَجأُوا إلى الكهف؟

يقول ابن عاشور: والذي ذَكَره الأكثر أنّ في بَلدٍ يُقال له: (أَبْسُس) - بفتح الهمزة وسكون الباء وضمّ السين، بعدها سين أخرى - وكان بَلداً مِن ثُغور طرسوس (١) بين حَلَب وبلاد أرمينيّة وأنطاكيّة.

قال: وليست هي (أفسس) بالفاء، المعروفة في بلاد اليونان بشُهرةِ هَيكَلِ المـُشتري فيها، فإنّها من بلاد اليونان، وقد اشتبه ذلك على بعض المـُؤرِّخينَ والمـُفسِّرين، وهي قريبة من (مَرْعَش) (٢) مِن بلادٍ أرمينيّة (٣) .

وأَبْسُس هذه هي مدينة (عَرْبَسُوس) (٤) القديمة في (كبادوشيا)، وكانت تُسمّى أيضاً (أَبْسُس)، وتُسمّى اليوم (بربوز) (٥) .

فهل كانت مدينة (أَبْسُس) هذه هي المـَسرح الذي وَقَعت فيه تلك الحوادث بما فيها مِن غرائبٍ؟

أمّا (ده غوى) فيُؤيِّد هذا الرأي مُعتَمِداً على براهين اسمتدّها مِن النُصوص، وفي الحقّ إنّ بعض الرَحّالة قالوا: إنّهم رَأَوا في مدينة (أَبْسُس) هذه كَهفاً كان به جُثَث ثلاثة عشر رجلاً قد يَبِسَت (٦) .

قال ياقوت: أَبْسُس، اسم لمدينةٍ خراب قُرب (أَبُلُسْتَين) من نواحي الروم، يُقال:

____________________

(١) مدينة في جنوبيّ تركيا الآسيويّة (قيليقيا)، وفيها وُلِد بولس وَفَتَحها المأمون سنة ٧٨٨ م وفيها دُفن.

(٢) مدينة في جنوب تركيا على حدود سوريّة.

(٣) تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور، ج ١٥، ص ٢١.

(٤) عَرْبَسُوس: بلد من نواحي الثُغور قُرب المِصْيَصة (مدينة على شاطئ نهر جيحان قُرب طَرَسوس - تركيا).

(٥) دائرة المعارف الإسلاميّة المـُتَرجَمة، ج ٢، ص ٢٤٢.

(٦) ليس في ذلك دليل؛ لأنّ العُثور على جُثَث مُتَيبِّسة في الكُهوف، كان أمراً شائِعاً ذلك العَهد، وَوُجِد من ذلك الكثير وليس هذا وحده.

٤٦٤

منها أصحاب الكهف والرقيم، وقيل: هي مدينة دقيانوس، وفيها آثار عجيبة مع خَرابِها (١) .

وفوقَ هذا فقد تَضمَّنت مجموعةُ النُصوص المـُتعلّقة بتأريخ السَّلاجقة ما يَنصّ على أنّ (عَرْبَسوس) هي مدينة أصحاب الكهف والرقيم، وربّما كان اكتشاف هذه الجُثث الثلاث عشرة هو الأصل لهذا القول، ثُمّ حَرَّف الناسُ (أبسس) فيما بعد إلى (أفسس)! (٢) .

وقيل: هي البتراء (بطرا) مدينة أَثريّة في الأُردن وفيها المـَسرح الكبير، حسبما تَقدّم، ولعلّه المـُراد فيما أُثِر عن ابن عباس، قال: الرقيم، وادٍ دونَ فلسطين قريب من أيلة (٣) .

* * *

متى كان هذا الهُروب واللجوء؟

والأكثر على أنّه كان بعد ظُهور النصرانيّة ولعلّه في بدايتها، كانت الدِّيانة النصرانيّة دَخَلت في تلك الجِهات، وكان الغالب عليها دين عبادة الأوثان على الطريقة الروميّة الشرقيّة قبل تَنْصُّر قسطنطين، فكان مِن أهلِ (أَبْسُس) نفرٌ مِن صالحي النصارى يُقاومون عبادة الأصنام، وكانوا في زَمن الإمبراطور (دقيانوس) الذي مَلَك في حُدود سنة ٢٣٧ م، وكان مُتعصِّباً للديانة الرومانيّة وشديد البُغْض للنصرانيّة؛ ولذلك تَوعَّدهم بالتعذيب، فاتّفقوا على أنْ يَخرجوا من المدينة إلى جبلٍ بينه وبين المدينة فَرسخان يقال له: (بنجلوس) أو (أنخيلوس).

وتقول الروايات: إنّ المـَلِك الوَثني الذي اضطهدَ النصارى كان يُسمّى (داقيوس) الذي مَلَك مابين (٢٤٩ - ٢٥١ م)، أمّا المـَلِك النصراني الذي بُعِث الفتية في عهده فهو المـَلِك (تيودوس) الثاني (٤٠٨ - ٤٥٠ م)، فتكون مدّة مُكُوثِهم في الكهف ما يَقرُب من (٢٠٠) سنة، وهذا لا يتّفق مع ما وَرَد في القرآن مِن أنّ أصحاب الكهف ( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً ) ! (٤)

____________________

(١) مُعجم البُلدان، ج ١، ص ٧٣.

(٢) دائرة المعارف الإسلاميّة المـُتَرجَمة، ج٢، ص ٢٤٣.

(٣) الدُرّ المنثور، ج ٥، ص ٣٦٢. وأيلة: ميناء أُردني في شمال العَقبة على البحر الأحمر يقوم على أنقاض أيلة الرومانيّة.

(٤) الكهف ١٨: ٢٥، راجع: دائرة المعارف الإسلاميّة المـُتَرجَمة، ج ٢، ص ٢٤٢.

٤٦٥

يقول الدكتور عبد الوهّاب النجّار - مُعلِّقاً على ذلك في الهامش -: الذي أُلاحِظُه، أنّ عبارة دائرة المعارف الإسلاميّة كعبارة أكثر المـُفسّرينَ، تَعتَبِر أنّ قوله تعالى ( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً ) خبر عن مُدّة مَكثِ أهل الكهف في كهفهم مُنذ دَخَلوه إلى أنْ استيقظوا!

ولكنّي أفهم غير ذلك وأقول: إنّ قوله (ولبثوا...) معمولٌ لقوله (سيقولون ثلاثة...) فهو مِن مَقول السائلينَ وليس خبراً من الله تعالى، ولذا أُتبع ذلك القول بقوله ( قُل رَبّي أَعْلَمُ بِعِدّتِهِم مَا يَعْلَمُهُمْ إِلاّ قَلِيلٌ ) ، وكذا هنا أُتبع قوله ( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ... ) بقوله ( اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السّماوَاتِ وَالأَرْضِ... ) .

فالقرآن ساكت عن عَدَدِهم وكذا عن مِقدار لَبْثِهم؛ إذ لا غَرض يترتب على الهدف الذي سَاقَه القرآن.

وقد وَرَد هذا القول عن ابن عباس وتلميذِه قتادة.

قال ابن عباس: إنّ الرجل لَيُفسّر الآية يَرى أنّها كذلك، فَيَهوي أبعد ما بين السماء والأرض!

ثُمّ تلا: ( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ... ) قال: لو كانوا لَبِثوا كذلك لم يَقُل الله: ( قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا ) ، لكنّه حكى مَقالةَ القوم في العَدَد وفي المـُدّة، وردَّ عليهم بأنّه تعالى أَعلم.

وقال قتادة: في حرف (أي قراءة) ابن مسعود: ( وقالوا لبثوا في كهفهم... ) يعني إنّما قالَهُ الناس، أَلا ترى أنّه قال: ( قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا ) .

وفي رواية أُخرى عنه أيضاً: هذا قولُ أهل الكتاب، فردَّ الله عليهم ( قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا ) (١) .

* * *

قلت: قصّة أصحاب الكهف، حَسبما جاءت في القرآن، قصّة قديمة مُوغِلة في القِدَم، يَرجع عَهدُها إلى ما قَبلَ الميلاد، ولعلّه بقُرون، ولأنّها بقضيّة يهوديّة أشبه منها أن تكون قضيّة مسيحيّة.

____________________

(١) الدرّ المنثور، ج ٥، ص ٣٧٩.

٤٦٦

روى مُحمّد بن إسحاق بإسناده إلى سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس، قال: إنّ النضر بن الحرث بن كلدة وعقبة بن أبي معيط، أَنفَذَهُما قريش إلى أَحبار اليهود بالمدينة، وقالوا لهما: سَلاهم عن مُحمّد، وَصِفا لهم صفته، وَخَبِّراهم بقوله، فإنّهم أهلُ الكتاب الأَوّل وعندهم من عِلم الأنبياء ما ليس عندنا، فَخَرجا حتّى قَدِما المدينة فَسَأَلا أَحبار اليهود عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وقالا لهم ما قالت قريش.

فقالَ لهما أَحبار اليهود: اسأَلوه عن ثلاث، فإنْ أَخبَرَكم بهنّ فهو نبيّ مُرسَل، وإنْ لم يَفعل فهو رجل مُتقوِّل، فَرَأُوا فيه رأَيَكم، سَلُوه عن فتية ذَهَبوا في الدهر الأَوّل، ما كان أَمرُهم؟ فإنّه قد كان لهم حديث عجيب، وسَلُوه عن رجلٍ طوّاف قد بَلَغ مَشارق الأرض ومَغاربها، ما كان نَبأُه؟ وسَلُوه عن الرُوح ما هو؟

وفي رواية أخرى: فإنْ أَخبَرَكم عن الثنتين ولم يُخبِرْكم بالروح فهو نبيّ.

فانصرَفا إلى مكّة، فقالا: يا معاشر قريش، قد جِئناكم بفَصلٍ ما بينكم وبين مُحمّد، وقصّا عليهم القصّة فجاءوا إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله) فَسَأَلوه، فاستمهَلَهم النبيّ (صلّى الله عليه وآله) حتّى يَأتيَه الوحي، فَمَكث أُسبوعينِ حتّى نزلتْ الآيات بشأن أصحاب الكهف وذي القرنَينِ وبشأن الرُوح: إنّه مِن أَمر ربّي ولم يُبيّن (١)

وفي هذا الوصف الذي جاء في رواية ابن إسحاق، دلالة واضحة على أنّ حديث الفِتية حديث قديم يَرجع عَهدُه إلى الدهر الأَوّل، وربّما يعني ذلك: العَهد القديم السابق على عهد موسى وبني إسرائيل، فقد كان حديثاً شائعاً يَتَداولُه أبناء الأديان القديمة وتَوارَثَها المـُتأخِّرون ومنهم اليهود، ولعلّه كان مِن شارات أصحاب الأديان، هي معرفة هكذا قَصَص دينيّة فيها اضطِهاد وفيها الصبر والأَناة والمقاومة تجاه الإلحاد، وفي النهاية: النصر والظَفَر... فهو حديث غَلَبة الحقّ على الباطل، وظُهور السلام على العَسْف والطغيان في أيّ زمان ( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ) (٢) ، جاءت الآية حديثاً عن مواضع الأنبياء الظافرة.

إذن فقد كان حديث الفِتية رَمزاً قديماً لانتصار التوحيد على الشرك كلّه، وشِعارَاً

____________________

(١) مجمع البيان، ج ٦، ص ٤٥١ - ٤٥٢.

(٢) الأنبياء ٢١: ١٨.

٤٦٧

لائِحاً بمَحَجّة الدِّين الظاهرة والدائِمة على مَدى الدهر.

وجاءت القصّة في الأوساط المسيحيّة بعنوان (نُوّام أَفَسُس (١) السبعة) نُشِرت لأَوّل مرّة في الشرق في كتاب سرياني يَرجع تأريخه إلى القَرن الخامس بعد الميلاد (٢) ، وَوَردت عند الغربيّينَ في كتاب (ثيودوسيوس) (٣) عن الأرض المـُقدّسة. وقصّة أصحاب الكهف مشهورة ذائِعة في الآداب الشرقيّة والغربيّة على حدّ سواء (٤) .

غير أنّ فكرة تَقادم القصّة في أوساط سابقة على المسيحيّة، قد شَغَلت أذهان المـُحقّقينَ، حتّى عَثَر بعضهم على آثار مُشابِهة في مصادر يهوديّة ويونانيّة وغيرهما، منها: قصّة (أُنياس) - حوني - التي جاءت في كتاب (تعانيت) في فُصول مِن كتاب (التلمود)، وكان قد استغرق نومُه ٧٠ سنة.

وهكذا قصّة (هلني) والنُوّام التسعة بساردينيا، التي أشار إليه (أرسطو)، وغير ذلك مِمّا ذَكَروه بهذا الصدد (٥) .

حديث ذي القرنَينِ

وهكذا حديث ذي القرنَينِ، الرجل الذي جَابَ البلادَ وطافَ المـَعمورةَ فأتى مَطلع الشمس (شرقيّ الأرض) ومَغربها (غربيّ الأرض) حديث قديم قد يَرجع تأريخه إلى عهد بعيد، غير أنّ الذي حقّقه بعض أعلام العصر، الأستاذ أبو الكلام آزاد الهندي، مُستَمِدّاً مِن نُصوص التوراة (العهد القديم) هو احتمال أنْ يكون هو المـَلِك الفارسي (كورش) الكبير (٥٥٧ - ٥٢٨ ق. م) الذي دَانتْ له البلاد شرقاً وغرباً، استولى على بلاد ماداى وآسيا

____________________

(١) مدينة قديمة في آسيا الصُغرى على بحر إيجة، تقع أنقاضها بالقُرب مِن (سلجوق) الحاليّة (تركيا)، كانت مركزاً تجاريّاً عامراً مُنذ القَرن الثامن قبل الميلاد.

(٢) نُشِرت على يد الأُسقف السرياني يعقوب السروجي (٤٥١ - ٥٢١ م) شاعر سرياني كبير، وُلِد في (كرتم) (ما بين النهرين) ودَرَس في مدرسة (الرها) الشهيرة، أُسقف بطنان المونوفيزي ٥١٩.

(٣) بطريرك الإسكندريّة (٥٣٥ - ٥٦٦ م)، كان مونوفيزيّاً فَنُفي إلى القسطنطينيّة ٥٣٧، له مؤلّفات دينيّة.

(٤) راجع: دائرة المعارف الإسلاميّة المـُتَرجَمة، ج ٢، ص ٢٤٣.

(٥) راجع: دائرة المعارف الإسلاميّة الكُبرى للبجنوردي، ج ٩، ص ١٤١.

٤٦٨

الصُغرى وبابل، وأَطلق سَراح اليهود مِن أَسر البابليّينَ وأَذِنَ لهم بالعودة إلى فلسطين وأَعانَهم على إحياء القُدُس مِن جديد؛ ومِن ثَمّ جاء ذِكره في أسفار التوراة بإعظام وتبجيل.

وكانت تَسميته بذي القرنَينِ تعبيراً عن رؤيا رآها دانيال النبيّ عندما كانوا في الأَسر، (١) وكانت الرؤيا تُبشِّر بِخَلاصِهم على يد مَلِكٍ ذي سلطان قاهر يَسطو على بلاد ميديا وفارس.

جاء في الرؤيا: (في السّنة الثالثة مِن مُلكِ (بيلشاصَّر) البابلي، ظهرت لي أنا (دانيال) رؤيا... وكان في رُؤياي، وأنا في شوشان القصر الذي في ولاية عيلام، ورأيتُ في الرؤيا وأنا عند نهر أولاي، فرفعتُ عَيْنَيَّ ورأيتُ وإذا بكبشٍ واقف عند النهر وله قَرنانِ، والقَرنانِ عاليَانِ... رأيتُ الكبشَ يَنطح غَرباً وشمالاً وجنوباً، فلم يَقف حَيَوان قُدّامه ولا مُنقذ مِن يده، وفَعَل كمرضاته وعَظُم...

ثُمّ إنّه طلبَ مِن الله أنْ يَبعث له مِن يُعبِّر له الرؤيا، وإذا بشَبحِ إنسان واقف قُبَالَته، وسَمِع صوتاً يَقول: يا جبرائيل، فَهِّم هذا الرجلَ الرؤيا... فَجَعَل جبرائيل يُفسّر الرؤيا في تفصيلٍ حتّى أَتى على ذِكر الكَبش والقَرنَينِ، فقال: أمّا الكَبش الذي رأيته ذا القَرنَينِ، فهو مَلِك مادى وفارس... (٢)

وبالفعل فإنّ (كورش) وَحَّدَ مَملَكَتَي ماديا وفارس غَرباً وشمالاً واستولى على بابل في الجنوبِ وبسطَ سلطانَه على أرجاءِ البلاد.

وهكذا جاء في كتاب (إشَعْياء): وأقول بشأن كورش، إنّه خير راعٍ اصطَفَيتُه، وإنّه يُحقِّق إرادتي، ويُجدِّد بِناء أُورشليم ويَعمُر بيتي من أساس (٣) .

____________________

(١) ولعلّ دانيال هو قَصَّ على كورش رؤياه، فتَبَشَّر كورش بها وأَخذها شِعارَاً في مُلكِه تَبرُّكاً بذلك وتقويةً لسلطانه، ومِن ثَمّ كان قد أَعجَبَه أنْ ينحت صورتَه على الحَجَر ويَحمل على رأسه تاجاً ذا قَرنَينِ يَسطو بهما على الشمال والجنوب جميعاً. وهكذا نجد تِمثال كورش الذي عُثِر عليه في مشهد مرغاب وعلى رأسه التاج الشهير بالقَرنَينِ.

(٢) سِفر دانيال، إصحاح ٨: ١ - ٤ و ١٥ - ٢١.

(٣) سِفر إشَعْياء، إصحاح ٤٤: ٢٥ - ٢٨.

٤٦٩

وفي الإصحاح ٤٥: هكذا يقول الربّ لمسيحه (١) يعنى كورش: إنّي مَنَحتُ لك القُدرة والسَّطوة والمـُلك، وسوف يخضع أَمامك كلُّ المـُلوكِ، ويُفتَح لك الأبواب كلّها وسوف تُصفَى لك الأرض ويُذاب لك النُحاس والحديد، وتَستَولي على خزائن الأرض وذَخائرِها، - إلى قوله - أنا أَنهضتُه بالنصر وكلّ طُرُقِه أُسهِّل، وهو يَبني مدينتي ويُطلِق سبيي... (٢) .

وفي الإصحاح ٤٦ جاء تشبيه كورش بالعُقاب الكاسر، (٣) يقول: أَبعثُ مِن المـَشرق عُقاباً كاسراً ينقضُّ على الأكاسرة ليُحطِّمهم ويَفعل في الأرض ما أُريد، وسوف يَتحقّق على يديه ما قضيتُ (٤) .

وكتاب إشَعْياء - ولعلّه عاشَ قَبْلَ ظُهور كورش بأكثر من قَرن ونصف (١٦٠ سنة) - لم يُؤلَّف في زَمنٍ واحد، وقد أَكمَلَه بَعدَهُ أنبياء مُتأخِّرون وبعضهم عاصرَ ظُهور كورش وسُقوط بابل، غير أنّ الجميعَ وصفوا كورش بالقُدرة والسَّطوة الربّانيّة والذي جاء ليُخلّص العبادَ من الظُلم والجَور عليهم، وهكذا فَعَلَ في خَلاص بني إسرائيل وإعادة بِناء البيت وقد مَلَك الأرض شرقاً وغرباً وبَسَط العدلَ فيها.

الأمر الذي يَهمّنا ويَرتبط بصُلب البحث عن شخصيّة ذي القَرنَينِ في كُتب السالفينَ.

وفي كتاب إرميا، إصحاح ٥٠: أَخْبِرُوا في الشعوب وارفعوا رايةَ الفَخار. وقولوا: أُخِذت بابل، وخُزِي بيل ومَرودَخ و أَوثانها، وسُحِقت الأصنام؛ لأنّه قد طلعتْ عليها من الشمال أُمّة تَهدم كلَّ هذه البنايات وتَكسر سطوتَها (٥) .

وفي هذا التعبير جاء تشبيه الأُمّة الفارسيّة ذلك اليوم بالشمس الطالعة والتي تَبعث على العالَم أشعّتها للدفء والحيويّة والنشاط.

____________________

(١) أي عَبدَه الذي اصطفاه، وهكذا يُقال لعيسى بن مريم المسيح؛ لأنّه النبيّ المـُختار لإسعاد أُمّته، والمسيح: المـُبارك. حيث بارَكَه الله وجَعَل في وجوده البَركة واللُطف لعباده المؤمنينَ، وبهذا المعنى أُطلِق (المسيح) على كورش.

(٢) سفر ِإشَعْياء، إصحاح ٤٥: ١ - ١٤ نقلاً بتلخيص وتوضيح.

(٣) يُقال للعُقاب: كاسر؛ لأنّه يَنقضّ على ما يَصيده فيَكسره كَسرَاً.

(٤) سِفر إشَعْياء، إصحاح ٤٦: ١٠ - ١١.

(٥) كتاب إرميا، إصحاح ٥٠، نقلاً بتلخيص وتوضيح.

٤٧٠

وهكذا جاء التعبير في القرآن عن ذي القَرنَينِ بالعبد الصالح، والذي مَنَحه الله القُدرة والسَّطوة، لا ليَستعملها في الشرّ، بل في الخير والصلاح ونشر العدل في البلاد وحماية العباد عن مَظالم الطُغاة.

فكانت سيرته حسنةً وكانت سياسته على أساس الحِكمة وقد ارتضاه الله، فأَلهَمَه الخير وَوَفَّقه في إسعاد العباد وإصلاح البلاد.

ومِن العِباد مُلهَمُون وربّما مُحدَّثون، وإنْ لم يكونوا أنبياء، الأمر الذي يَنطبق على ذي القَرنَينِ بكلّ وضوح، ولعلّه هو كورش على ما جاء في العهد العتيق؛ نظراً لهذا الانطِباق أيضاً حسب الظاهر.

وإليك وَصْفُه على ما جاء في القرآن:

( وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُم مِنْهُ ذِكْراً * إِنّا مَكّنّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلّ شَيْ‏ءٍ سَبَباً * فَأَتْبَعَ سَبَباً * حَتّى‏ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمّا أَن تُعَذّبَ وَإِمّا أَن تَتّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً * قَالَ أَمّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذّبُهُ ثُمّ يُرَدّ إِلَى‏ رَبّهِ فَيُعَذّبُهُ عَذَاباً نُكْراً * وَأَمّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى‏ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً * ثُمّ أَتْبَعَ سَبَباً * حَتّى‏ إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى‏ قَوْمٍ لّمْ نَجْعَل لّهُم مِن دُونِهَا سِتْراً * كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً * ثُمّ أَتْبَعَ سَبَباً * حَتّى‏ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السّدّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً * قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى‏ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً * قَالَ مَا مَكّنّي فِيهِ رَبّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً * ءَأَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتّى‏ إِذَا سَاوَى‏ بَيْنَ الصّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتّى‏ إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ ءَاتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً *

٤٧١

فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً * قَالَ هذَا رَحْمَةٌ مِن رّبّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبّي جَعَلَهُ دَكّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبّي حَقّاً ) (١) .

والذي يبدو من هذه الآيات: أنّ لذي القَرنَينِ شأناً عند الله، وأنّه كان مُلهَمَاً مِن عنده، بعثه الله (٢) سَطوةً على الطُغاة ونجاةً للعباد في أرجاء البلاد.

وهكذا جاء في مَنشور كورش دَعْماً لإحياء القُدس من جديد وإطلاق سراح إسرائيل من الأَسر، مُنَوِّهاً أنّ ذلك مِن أمر الإله ربّ العالمين.

جاء في كتاب عَزْرا، إصحاح ١: ١ - ١١: (وفي السنة الأُولى لكورش مَلِك فارس، عند تمام كلام الربّ بفم إِرميا، نَبّه الربُّ روحَ كورش مَلِك فارس، فأَطلقَ نداءً في كلّ مَملكَتِه، وبالكتابة أيضاً، قائلاً: (هكذا قال كورش مَلِك فارس: جميع مَمالِك الأرض دَفَعها لي الربُّ إله السماء، وهو أَوصاني أنْ أَبني له بيتاً في أُورشليم التي في يهوذا...).

وجَمَع الإعانة مِن كلّ أبناء مُلكه الوسيع، قائلاً: (وكلّ مَن بقي في أحد الأماكن، حيث هو مُتغرِّب، فليُنجده أهلُ مكانه بفضّةٍ وبذَهبٍ وبأَمتعةٍ وببهائمٍ، مع التبرُّع لبيتِ الرّبّ في أورشليم.

وحتّى أنّه أَرجع التُراث الإسرائيلي الذي كان قد نَهَبَه بخت نصّر، وَرَدَّه إلى البيت، وكانت أَواني مِن ذهبٍ وفضّةٍ ما يُعدّ بالألوف) (٣) .

والتعبير في هذا البيان: أنّ الربّ نبّه رُوحَ كورش، وهو الوحي بمعنى الإلهام.

وهذا يتّحد مع قوله هو: وهو أَوصاني أنْ أَبني له بيتاً... أي وقع في خَلَدي فِعْلُ هذا الخير، وكلّ فكرة خير إنّما هو مِن عند الله، كما أنّ فكرة الشرّ مِن الشيطان ( وَإِنّ الشّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى‏ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ) (٤) ، ( وَكَذلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِيّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى‏ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً ) (٥) .

____________________

(١) الكهف ١٨: ٨٣ - ٩٨.

(٢) كما بُعِث بخت نصّر نقمةً على العُتاة، في قوله تعالى: ( بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ... ) . الإسراء ١٧: ٥.

(٣) كتاب عَزْرا، إصحاح ١: ١ - ١١.

(٤) الأنعام ٦: ١٢١.

(٥) الأنعام ٦: ١١٢.

٤٧٢

وهذا هو إلهام الشرّ الشيطاني، أمّا إلهام الخير الرحماني، فهو كما بشأن أُمّ موسى: ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ ... ) (١) ، وأوحينا بمعنى أَلهمنا، في القرآن كثير.

وهكذا (قُلنا) حديثاً مع ذوات الأنفس وليس مشافهةً بالكلام، وليس بشأن الإنسان فحسب، بل بشأن الحيوان والجماد، أَيضاً كثير.

فجاء حديثاً مع أَصحاب البقرة: ( فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) (٢) ، إذ لم يكن خِطاب مُشافهة، ولا دليل على أنّه بواسطة الرسول، والمـُحتَمل قويّاً هو إيحاء هذا المعنى كما في أُمّ موسى.

وهكذا قوله بشأن بني إسرائيل - بعد هلاك فرعون -: ( وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأَرْضَ... ) (٣) ، إلقاء في النُفُوس بطبيعة الحال.

وكان الخِطاب مع النار في قوله تعالى: ( قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) (٤) ، أيضاً من قبيل إيحاء إرادته تعالى، لكن تكويناً، نظير الإيحاء إلى النحل والنمل وسائر الحَيوان ليَسلكوا سُبُل ربهم ذُلُلاً.

ومن هذا القبيل قوله تعالى بشأن مَرَدة بني إسرائيل: ( فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ) (٥) ، لم يكن خِطاب تكليف بل خِطاب تكوين.

وهكذا الحديث مع الأرض والسماء في قوله تعالى: ( وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي... ) (٦) ، ( فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) (٧) .

فلا غَرابة بعدئذٍ أنْ يأتي بشأن الإيحاء - نفسيّاً - إلى عبدٍ من عباد الله الصالحينَ: ( قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً ) (٨) .

وهذا عندما سارَ كورش مُتوجِّهاً في فُتوحاته نحو الغرب لتسخير بلاد ليديا، (٩)

____________________

(١) القصص ٢٨: ٧.                                   (٢) البقرة ٢: ٧٣.

(٣) الإسراء ١٧: ١٠٤.                                 (٤) الأنبياء ٢١: ٦٩.

(٥) البقرة ٢: ٦٥.                                       (٦) هود ١١: ٤٤.

(٧) فصّلت ٤١: ١١.                                   (٨) الكهف ١٨: ٨٦ - ٨٨.

(٩) مَملكة قديمة غربيّ آسيا الصُغرى ممّا يلي بحر إيجه، كانت قاعدةَ مُلكها مدينة (سارد) الزاهية بفخامتها يومذاك.

٤٧٣

فوَقَع مَلِكُها (كرزوس) أسيراً في يد كورش، وكان قد تآمرَ ضدّه مع سائر الدُول للقضاء على إمبراطوريّة فارس، ولكنّه فَشِل ووقعت بلادَه طُعمَةً رخيصةً للمـَلِك الفارسي، ومِن ثَمّ حاولَ إحراقَه بالنار، لكنّه سامَحَه وعفا عنه، حسب دَأَبه مع سائر أُمراء البلاد الذين بَغَوا عليه وأَصفَح عنهم.

وبذلك نرى الآيات لعلّها تَتَصادق مع ما سجّله التأريخ بشأن كورش، فقد قَويَت شوكتُه بعد أنْ وحّد فارس ماديا بعد الاستيلاء على (إكباتان) (همدان - اليوم)، فذهبَ مُتوجِّهاً نحو الغرب لإخضاع مُناوئيه هناك (ليديا)، الأمر الذي يَتصادقَ مع قوله تعالى: ( إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ (بتوحيد بلاد فارس وماديا) وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبا ً (أي عِلماً بطُرُق الفتح والظَفَر على الخُصوم) (١) فَأَتْبَعَ سَبَباً * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ (هي الضِّفة الغربيّة من آسيا الصُغرى، حيث بلاد ليديا، تركيا الحاليّة) وَجَدَها (أي الشمس) تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) حيث بحر إيجه ويُسمّى بحر المـَغرب، وبحر مرمرة وعلى امتدادهما البحر الأسود، وكلّها تُضرَب بالسواد، كأنّه الوَحل، والحَمْأَة: الطين الأسود، وكانت الشمس تَغرب على آفاقٍ تُتاخِم تلك البحار الضارب لونها إلى السواد.

وهكذا سارَ كورش (ذو القَرنَينِ) بجُيوشِه نحو مَغرب الشمس (غربيّ بلاد فارس - آسيا الصُغرى) حتّى أَوقَفه البحر، ولم يَكن مِن شبرٍ أَمامه مِن يابسٍ - في مسيرته تلك -!

فماذا بعد قُرص الشمس المـُحتَقِن وقد تَخضَّب بحُمرَةٍ كأنّه يَنزُف ما فيه من طاقةٍ... ماذا بعد قُرص الشمس وقد اصفَرّ واحتضَر وتضاءَل عند الأُفق، ثُمّ هوى وسقطَ غارِقاً في العين الحَمِئة... (٢) في خليج (إزمير) (٣) ، بين الماء والطين الأسود العَكِر اللّذَينِ يَسكُبهما نهر (جيديس)؟

لقد رأى كورش (ذو القَرنَينِ) في هذا المـَشهد ما يَشدُّه إلى الخالق الأَعظم، مالِك

____________________

(١) عن قتادة والضحّاك: عِلماً يَتسبّب به إلى تحقيق إرادته وبلوغ مِأَربَه، وعن الجبائي: كلّ شيء يَستعين به المـُلوك على فتح البلاد والظَفَر على الأعداء، مجمع البيان، ج ٦، ص ٤٩٠.

(٢) والعين - هنا -: لُجّة الماء وعُبابِه المـُتَموِّج، فيتراءى للناظر على ساحل البحر كأنّ الشمس تَغرب في عُبابِه، كما أنّ الناظر إليها وهي تغرب في البرّ، كأنّها تغرب في أرض مَلساءٍ.

(٣) هي (سميرنا) ( smyrne ) القديمة، مَرفأ عظيم في تركيا على بحر إيجه.

٤٧٤

السماوات والأرض ومُسيِّر الأَفلاك القابض الباسط العظيم المـُتعال.

لقد تَضاءَلَ - رُغم مُلكه العريض - أَمام سُقوط الشمس في عين حَمِئة، حيث أَظلمت الدنيا بعدها، فَعَرف أنّ لكلّ شيء نهايةً، وكلّ شيء هالِك إلاّ وَجهُ الله الكريم، لقد تَوصَّل كورش - بما لديه مِن خَلفيّة روحيّة استمدّها مِن زرادشت - إلى حقيقة البَعث والمـَمات وعَظمةِ الله في الآفاق.

هذا هو شَعب ليديا قد صارَ في قَبضَته، فماذا يفعل بهم؟

لقد مَنَح الله ذا القَرنَينِ حرّيةَ اختيار العفو عنهم أو تأديبهم والتَنكيل بهم... واختار ذو القَرنَينِ العفو عمَّن تابَ وآمنَ، وقال: من كان هذا شأنه فسَماحٌ وعَطفٌ ويُسرٌ وتكريمٌ وأَمانٌ ورحمةٌ، ومَن كفرَ وطغى وتجبَّر فضَربٌ بالأعناقِ وعُنفٌ وتأديبٌ.

قال تعالى: ( فَأَتْبَعَ سَبَباً * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْماً قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً ) (١) .

نحو مَغرب الشمس!

نعم قامَ كورش بحَملة نحو المـَغرب (غرب بلاد فارس) حيث مَغرب الشمس بالنسبة إليهم.

والشمس لا تَغرب في مكان مُحدَّد تهوي إليه حتّى الصباح الثاني، وإنّما أَيّ مكان في الكُرة الأرضيّة تَغرب فيه الشمس عند الأُفق يُسمّى مَغرب الشمس، وبالتالي فمَغرب الشمس شيء نسبيّ... قد يَراه ابن الصحراء وراءَ التِلال، وهو بالنسبة له مَغرب الشمس، وقد يَراه ابن السَهل الساحلي شاطئ البحر، وقد يكون سطح البحر المـُنحني مَغرباً للشمس في نظر الرائي، وما هي - آنذاك - إلاّ مشرقةً عند قومٍ آخرينَ.

____________________

(١) الكهف ١٨: ٨٦ - ٨٨.

٤٧٥

وتُؤخذ لحظة الغروب عندما يقع الأُفق على مُنتصف قُرص الشمس تماماً، ونقول ساعتها: هذا مَغرب الشمس!

فإذا قُلنا: إنّ كورش توجّه نحو مَغرب الشمس، فمعنى ذلك أنّنا نقول: إنّ مسارَ الحَملة كان صَوبَ الغرب.

فإذا كان كورش - مَلِك فارس الكبير - يُقيم في (أنشانا - خوزستان الحاليّة) على خط طول (٥٠ ش) فإنّ اتّجاهَه صَوب المـَغرب يعني حَملته على (ليديا - تركيا حاليّاً).

بعد أنْ انتَصَر كوروش على الميديّين ودخلَ عاصمتَهم (همدان)، سادَ الوُجُوم والانزعاج رُبوعَ أَعظم المـَمالك قاطبةً ذلك الحين: مَملكة مصر الفرعونيّة، مَملكة الليديين (ليديا) ومَملكة البابليّين، وجرت بينهم مُفاوضات لتحقيقِ الاتّحاد بينهم لمـُواجهة كورش، وكانت مَملكة ليديا (تركيا الآن) أَخوف الثلاثة وأَحرصَهم على تحقيق هذا الاتّحاد العسكري، رُغم أَنّ مَلِكها (كرزوس) كان قد بَذلَ أَقصى جهوده لازدهار ليديا حتّى صارت عاصمتها (سارد) يُقال عنها بسارد الذهبيّة.

وقد بلغَ الاضطراب بمَلِك ليديا درجةً أنّه كان يَتوقّع هُجوم كورش على بلاده بين لحظة وأخرى؛ ومِن ثَمّ جهَّز المـَلِك الليدي نفسه، فَدَخل في مُفاوضات مع اسبراطة (إحدى الدول اليونانيّة) وضَمَّها إلى حِلفه واتّحدت بابل ومصر كذلك معه وسارت الجيوش نحو كورش في إيران (١) .

يقول الأُستاذ خضر: لم يكن كورش - إذن - مُعتَدياً ولا سَفّاحاً ولا طامِعاً في مُلِك أحد (٢) .

أمّا الجُيوش التي سارت نحو كورش فلم تكن جُيوش الحُلفاء جميعاً، فالمـَلِك (نبونيد) مَلِك بابل لم يَكن ليَجسر على القيام بأيّ حركة؛ لخوفه من انتقام الفُرس والأسبارطيون وَعَدوا بالمـُساعدة ولكنّهم تَقاعَسوا عن العملِ، مُتمسّكين بسياسة العُزلة التي ظلّوا دَوماً يتّبعونها، أمّا مَلِك مصر (آماسيس) الذي أَدرك خطرَ الفُرس على بلاده فقد

____________________

(١) تأريخ إيران، ص ٦٤ - ٦٥.

(٢) مفاهيم جغرافيّة، ص ٢٤١.

٤٧٦

رَضِيَ بإرسال جيش صغير بطريق البحر، ولكن مَلِك ليديا (كرزوس) لم ينتظر وصول النَجدات مِن حُلفائه، بل أَسرعَ بالهُجوم وعَبَر نهر (هاليس) (قزل أرماق) وضَرَب البلاد التي في طريقه.

وفَجأَةً اصطدمَ بجيش كورش عند مدينة (بتريّة) أو (بتريوم) - العاصمة القديمة للحيثيّين - (١) ودارَت رَحى حرب ضَروس بين الجيشيَنِ... واضطرّ المـَلِك الليدي إلى الانسحاب غَرباً حتّى حدود مَملَكته.

واندفع كورش نحو (مَغرب الشمس) مُتقدِّماً بسرعة وباغَتَ جيشَ ليديا عند أَسوار العاصمة (سارد) أو (سارديس) فسَحَقَ الجيش الليدي مُنذ الحَملة الأُولى وَوَقع المـَلِك الليدي أَسيراً وجميعُ قادةِ جيشه وجنوده سنة ٥٤٦ ق. م، (٢) وهنا يأتي دَور الآية الكريمة: ( قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً... ) (٣) .

قال الدكتور خضر: كان العالَم القديم آنذاك قد تَعوَّد من المـُلوك الفاتحينَ المـُنتصرِينَ تدميرَ البلاد المـَقهورة التي تَخرج مَغلوبةً مَهزومةً مِن المعارك الحربيّة... ولكن كورش عامَلَ كرزوس بالحُسنى - وِفقاً للآية الكريمة - كما كانت شيمتُه الكريمة مع سائر المـُلوك المـَغلوبينَ، كان يُعاملهم بالحُسنى، كما فَعَل بمَلِك ماد ومَلِك أرمنستان وغيرهما (٤) .

ويَذكر هيرودوت أنّ كورش كان يَودُّ - في بداية الأمر - أنْ يَختبر صَلابة المـَلِك الأَسير وإيمانه فأَمر بإضرامِ النار ليُلقَى فيها، ثُمّ عَدَلَ عن ذلك - رأَفةً ورحمةً به - وزاد من إكرامه وتعزيزه، وبَلَغ مِن إكرامه أنْ اتّخذه مُستشاراً كان يَستشيره في مهامّ أُموره (٥) .

وأمّا بقيّة رواية هيرودوت مِن إلقاء المـَلِك الأَسير - فعلاً - في النار، ثُمّ عَنَّ له - لبادرةٍ بدرَتْ مِن كرزوس - فأمر بإنجائه وذَويه من النار... فإنّ المـُحقّقينَ من أَرباب

____________________

(١) الحيثيّون (هيتي ها - hiti-ha ): مِن الأَقوام القديمة مُنذ (١٨٠٠ ق. م) كانوا يَسكنون شرقيّ آسيا الصُغرى ممّا يلي البحر الأسود شمالاً، وجبال (توروس - كيليكيّة)، ونهر الفرات شرقاً، ونهر (هاليس - قزل إيرماق، الحاليّة) غرباً، واسم بلادهم (كابادوكيه) مُعرَّب (قباد و قيا)، وأَسّسوا حضارةً راقيةً، وكانت عاصمة بلادهم (بِتِريوم) المعروفة اليوم ببوغاز كوبي.

(٢) تأريخ إيران، ص ٦٤ - ٦٥.

(٣) الكهف ١٨ - ٨٦.

(٤) مفاهيم جغرافيّة، ص ٢٤٢.

(٥) تأريخ هيرودوت، ترجمة الوحيد المازندراني، الكتاب الأَوّل، ص ٥٣ - ٥٥.

٤٧٧

التأريخ المـُعاصرِينَ، لا يَتوافقونَ على صحّته؛ إذ كان مُتنافياً مع معتقدات الفُرس آنذاك، حيث تقديسهم لجانب النار وأنْ لا تَتَلوّث بالأقذار، فضلاً عن مُخالفته لشيمة مُلوك الفُرس عامّة من اتّخاذ طريقة الرأفة بالأُسَراء المـُلوك، والأَخْذ بجانب حُرمتهم بالذات.

ولعلّ هيرودوت أَخَذ هذه القصّة من قَصّاصينَ قَبله وسَجّله في كتابه من غير تحقيق (١) .

بعد ذلك وَاصلَ كورش زَحفَه غَرباً في آسيا الصُغرى لإخضاع المـُستَعمَرات اليونانيّة - وكانت قد رفضتْ التَحالف مع كورش في حربه مع مَلِك ليديا - كما كان من الطبيعي بعد انتصاره على الليديّين أنْ يُفكِّر كورش في الوصول إلى بحر إيجه (غرب ليديا) الذي تحتاج إليه الإمبراطوريّة الفارسيّة لتسهيل مصالحها التجاريّة العالميّة، وكانت المـُدن الأيونيّة (المـُستَعمَرات اليونانيّة) على شواطئ هذا البحر مشهورةً بغِناها، ولكنّها مُنقسمة على بعضها وبالتالي كانت ضعيفةً، فكانت تُؤلِّف غنائمَ سَهْلة التَناول تُغري الفاتحينَ.

وكانت مُباغَتة فَجيعَة لليونانيّينَ على شواطئ آسيا الصُغرى عندما رَأَوا الجُيوش الفارسيّة الجَرَّارة تُطبِق عليهم جميعاً وتَستولي بحَملة واحدة على مُدنهم كلّها على سواحل بحر إيجه.

هذا هو ذا قد بلغ كورش مَغرب الشمس بالنسبة لبلاده، لقد صار على حافّة البحر الأبيض المتوسّط، فأين العين الحَمِئة إذن؟؟

وجدها تَغرب في عينٍ حَمِئة!

حين توقّف كورش عند شواطئ بحر إيجه - وهي جزء من سواحل تركيا على البحر المتوسّط - وجدَ الشاطئ - كما هو معروف في الخريطة - كثير التَعاريج، حيث تَتَداخل أَلسِنة البحر داخلَ اليابس، ومِن أَمثلة هذه الأَلسِنة البحريّة خليج هرمس

____________________

(١) راجع: تأريخ إيران، ص ٦٦، ومفاهيم جغرافيّة لعبد العليم خضر، ص ٢٤٢.

٤٧٨

ومندريس الأَكبر ومندريس الأَصغر، ويَتعمَّق خليج (إزمير) إلى الداخل بمِقدار (١٢٠ ك. م) تُحيط به الجبال البَلوريّة التي سمّاها (فيلبسون = philippson ): (العين الليديّة الكارية) (١) حيث تُحيط هذه الجبال من الغرب إلى الشرق حافّتَي هذا اللسان البحري الذي يتّخذ شكل العين، ويَصبّ فيه نهر (غديس) المياه العَكِرة المـُحمَّلة بالطين البُركاني والتُراب الأَحمر، من فوق هَضَبة الأناضول التي تَنحدر بِبُطء نحو الغرب قبل أنْ تصل إلى الحافّة الغربيّة؛ ولذلك تَزيد سُرعة جَريان نهر (غديس) في اتّجاه السَهل الساحلي المـُتقطِّع في شَكل خُلجان وأَخوار (٢) وأَجوان لا حصرَ لها، حتّى يَصل مُستوى قاعدة بحر إيجه، حيث يصبّ في خليج (إزمير) الغارق بين قَمَم الجبال المـُحيطة به بارتفاع يتراوح بين ١٠٠٠ و ٢٠٠٠ متر.

وحين وَقَف كورش ذو القَرنَينِ عند (سارد) قرب إزمير تَأَمّل قُرص الشمس وهو يسقط عند الغروب في هذا الخليج الذي يشبه العين (الكبيرة) تماماً واختلطت حُمرة الغَسَق بالطين الأَحمر والأَسود الذي يَلفظه نهر (غديس) في عين خليج إزمير.

ونُرجّح أنْ تكون تلك هي العين الحَمِئة التي ذَكَرها القرآن.

وهكذا وَرَد في التفسير: العين الحَمِئة، هي عُباب الماء ولُجّته المـَليئة بالوَحَل، أي الطين الأسود الفاحم.

روى عبد الرزّاق بإسناده إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي عن عثمان بن حاضر الحميري الأزدي (أبو حاضر القاصّ، شيخ مِن أَهل اليَمن مَقبول صَدوق وذَكَره ابن حبّان في الثِقات)، (٣) قال: قال لي ابن عباس: لو رأيت إليّ وإلى معاوية، وقرأتُ: (في عين حَمِئة) (أي وَحلة) وقَرأَ: (حامية) (أي دافئة)، فدخلَ كعب فسأله معاوية، فقال: أَنتم أَعرف بالعربيّة، ولكنّها تَغرب في عين سوداء.

____________________

(١) يقال: كرى البئر أي طواها بالشجر، وكرى الأرض: حفرها.

(٢) جمع خَوْر: المـُنخفض من الأرض بين النَشزَين، تجتمع فيها المياه بصورة أحواض طبيعيّة في السُهول.

(٣) تهذيب التهذيب لابن حجر، ج ٧، ص ١٠٩، رقم ٢٣٥، روى عن ابن عباس وابن الزبير وجابر وأنس، وعنه الخليل وخَلق كثير.

٤٧٩

وفي رواية: قال ابن عباس لمعاوية: في بيتي نَزَل القرآن، لكنّه أَرسلَ إلى كعب وسأَلَه، فقال: كعب: سَلْ أَهل العربيّة فإنّهم أَعلم بها، ثُمّ فَسّرها بماءٍ وطين.

قال أبو حاضر: لو أنّي عندكما أَيّدتُك بكلامٍ وتزدادَ به بصيرةً في (حَمِئة)! قال ابن عباس: وما هو؟ قال: فيما نأَثر قول الشاعر - وهو تُبَّع اليَماني - فيما ذَكَر به ذا القَرنَينِ في كلفه بالعِلم وإتِّباعه إيّاه:

قد كانَ ذو القَرنَينِ عَمرو مُسلماً

مَلِكاً تَدينُ له المـُلوك وتَحشُد

فأَتى المـَشارقَ والمـَغاربَ يَبتغي

أَسبابَ مُلكٍ مِن حكيمٍ مُرشد

فرأَى مَغيبَ الشمس عند مَغابها

في عين ذي خُلُبٍ وثأطٍ حِرْمد

فقال له ابن عباس: ما الخُلُب؟ قال: الطين، بلسانهم (أي الحمير)، قال: فما الثأط؟ قال: الحَمأَة (الوَحَل وهو الطين الرقيق الأسود)، قال: فما الحِرْمِد؟ قال: الأَسود، (١) فدعا ابن عباس غلاماً أنْ يأتيَ بالدَواة، فقال له: اكتُب ما يقوله الرجل (٢) .

قال الدكتور خضر: والبحث العلمي الجغرافي تَتَبَّع نَشأَة المـُدن القديمة على خليج إزمير، مثل (أفسوس) و(ملطيّة) فَوجدَ أنّ هذه الحَمْأَة السوداء التي كانت تُعكِّر خليج إزمير حين نَظَرَ كورش إلى الشمس وهي تَغرب في هذا الخليج، هي الرواسب التي سدّت جانباً كبيراً من هذا الخليج، وبعد أن كانت (أفسوس) و (ملاطيّة) - وكانتا ميناءَينِ في الزمن القديم - صارَتا تَقَعان اليوم على بُعد بِضعة كيلو مترات من البحر.

كما أنّ ميناء (إزمير) نفسه لم يَنجُ مِن الامتلاء برواسب الطين التي كان يَجلبها نهر (غديس) إلى الشمال منه بقليل. وأخيراً اضطرّت الحُكومة التركيّة إلى تحويل مياه

____________________

(١) الحِرْمِد أو الحَرْمَد: المـُتغيِّر اللّون والرائحة، يضرب إلى السواد الفاحم.

(٢) راجع: تفسير عبد الرزّاق، ج ٢، ص ٣٤٤ - ٣٤٥، رقم ١٧١٢ و ١٧١٣، وتفسير ابن أبي حاتم، ج ٧، ص ٢٣٨٣، رقم ١٢٩٤٧ - ١٢٩٤٨، والدرّ المنثور، ج ٥، ص ٤٥١، وتفسير القرطبي، ج ١١، ص ٤٩.

٤٨٠

النهر بعيداً عن هذا الخليج (1) .

* * *

ثُمّ وبعد أنْ فَرَغ مِن أَمر آسيا الصُغرى - الواقعة في غربيّ البلاد - تَوجّه شمالاً وفي شرقيّ البلاد؛ لإخضاع أَقوام هناك كانوا قد تَعسَّفوا وأَفسدوا في الأرض، فحاربهم مُحاربةً عنيفةً طالت ثَماني سنوات، حتّى سادَ الأَمن على تلك البلاد.

( ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ (شرقيّ البلاد) وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ (وَحْش) لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْر اً)، عن الباقر (عليه السلام): (لم يَعلموا صَنعَة البُيوت) (2) فلم يَعرفوا بِناية السُقُوف والبُنيان، سِوى اللجوء إلى الأَسراب وغُدران المياه من حرارة الشمس (3) .

والمنطقة كانت صحراويّةً قاحِلةً مُمتدّةً من شماليّ بحر قزوين حتّى شواطئ المـُحيط الهندي وتشمل بلاد (مكران - سيستان و بلوخستان)، وظلّ كورش يُعالج إخضاع تلك الأقوام خِلال ثمانية أعوام (4) .

وقد دلّت الدِراسات التي أُجريت على قياس الجنس الإنساني سنة 1901 م بالهند قبل التقسيم وحين كانت صحراء غيدروسيا (مكران، بلوخستان، سيستان) تابعةً لها على حُدود إيران و أفغانستان، على أنّ السّكّان يَنتمون إلى الجنس التركي الإيراني الذي يَتّسم بقِصَر القامَة على العُموم، ومُعظمهم من ذَوي الرؤوس العريضة، ويَبلُغ قياس مخّهم (80 - 81) وأُنوفهم طويلة، وشَعر رأسهم ولحيتهم غَزيرٌ، ولونُ العيون والشعر أَسود غالباً، وبَشَرتهم بَيّنة فاتحة وهي تَميل إلى الدُكْنَة كلّما اقتربنا من الشاطئ...

وهذه سِمات بقايا قبائل بدائيّة شَرِسَة كانت تَعيش بالإقليم منذ (4000) سنة، ويمكن تقسيم سُلالاتهم إلى البلوش - البراهوئي - الهُنود والبَربر.

وقِسمٌ مِن البلوش يَعيش الآن في سَهلِ كججهر حتّى خطّ عرض (31) شمالاً، ويَقطن عدد كبير منهم السُهُول الجنوبيّة وشماليّ سندة وناحية يعقوب آباد.

أمّا البراهوئي

____________________

(1) مفاهيم جغرافيّة، ص 239 - 245.

(2) مجمع البيان، ج 6، ص 491.

(3) عن الحسن وقتادة وابن جريج، والسَّرَب: الحفير تحتَ الأرض، النَفق.

(4) راجع: تأريخ إيران، ص 68.

٤٨١

فيتجمَّعون حولَ (كلات) و (كوطة) وتَتَّسع رُقعَة تواجدهم لتَشمل منطقة (ليس بيله).

والراجح أنّ البلوش - كما يقول علماء الأَجناس البشريّة - دَخَلوا صحراء مركان عن طريق كرمان وسجستان وانتشروا سريعاً حتّى حُدود الهند... وإن كان ذلك لا يزيد على درجة التَكهُّن كما قيل، وقد يكون الأَقرب إلى الصواب أنّ مُعظمَهم كانوا من الجنس الهندي...

وأَقدم تَسمية لدينا لهذه المنطقة ما عَثَر عليه المؤرِّخون في نُقُوش بهستون (بيستون)... وهي لفظة مِكيا ( Mekia ) كما ذَكَر لنا هيرودوت... أو لفظة ( Mykians ) أي بلد الميكيان التي كانت ضِمْن ولايات الإمبراطوريّة الفارسيّة الرابعة عشرة.

ويَجمع هيرودوت في كلامه - في مواضع أُخرى - بين الميكيان واليوتيان ( Utians ) والباركانيان ( parikanians ) الذين كانوا مُقاتِلينَ كالباكتيان ( poktans )...

وعَيَّن بطليموس الحُدود بين الهند وفارس بحيث ترك الجزء الشرقي من (سيستان) في الهند... ويقول أرّيان ( Arrian ): إنّ الغيدروسيّينَ أو الكيدروسيّينَ (سُكّان غيدروسيا) كانوا يُقيمون في الوديان الداخليّة إلى الغرب من سيستان، وقد سُمّي الإقليم كلّه باسمهم كدروسيا (كدرسيا) (غدروسيا) ( cadrosia ) كما ذَكَر مولانا أبو الكلام آزاد نفس التَسمية للإقليم...

وتَتَفرّع من قبائل غيدروسيا جماعات بدائيّة تُسمّى (الأشيوفاكوي) كانت تَقطُن المناطق الصحراويّة المـُطلِّة على المـُحيط الهندي وهم مِن الصيّادينَ القُدامى... ويُمثِّلهم الآن قبائل (الميديّة) وبعض القبائل الأخرى...

وظلّ غيدروسيا (مكران، سيستان، بلوخستان) الاسم المـُعتَرف به - لتلك الصحاري غرب الهند - في الزمن القديم... ومِن النادر أنْ نَعثر على تَسمية هيرودوت (مِكيا) في الكتابات التأريخيّة منسوبة للإقليم...

غير أنّنا لا نَنْكُر بقاء استعمال هذه التَسمية طَوال القُرون السبع الميلاديّة الأَوائل حتّى جاء الفتح الإسلامي للإقليم في العام السابع عشر للهجرة المـُوافِق سنة 639 م، فقد

٤٨٢

ذَكَروا لنا أنّهم وَجَدوا الاسم (مكيان) (مكران)، وهو النطق الحالي عند البلوش.

وتقترب الصورة مِن الوُضوح حين فَسَّر (مولسويرث سيكس) ( sykes Moulesworth ) المـَقطع الأخير مِن الاسم مَنطوقاً بالسنسكريتيّة، على أنّه (عرانيا) ومعناها: الأرض القاحِلة.

ويُؤكِّد (هولدخ) أنّ اسم (غيدروسيوي) هو مكران، وهو اسم عشيرة مِن (لس بيلة)... وعشيرة كِدور أو (غيدور) الآن اسم عشيرة ضَئيلة الشأن مِن أَصل هندي لا يزيد عددُ مَن بقي منها حتّى الآن على (2000) نَسَمَة.

وكثيراً ما بَحَث العلماء في أصل اسم (بلوش) وأسماء القبائل والعشائر الرئيسيّة القديمة الجذور، وَيَرون - على الأرجح - أنّ جميع أَسماء القبائل والعشائر الحديثة (الموجودة الآن) ليست إلاّ منسوبةً إلى السَلف وليس الحال كذلك بالنسبة للأسماء الأقدم عهداً مِثل الغيدروسيّين، كما أنّ بعض الأسماء الرئيسيّة الموجودة الآن إمّا أن تكون ألقاباً أو ألفاظاً تَدلّ على المـَدح أو الذمّ.

ومن الواضح أنّ الأرض القاحِلة (غيدروسيا) كانت مأوى لقبائل مُتأخِّرة، لا تَعِرف الزراعة ولا الاستقرار ولا بِناء البُيوت الثابتة حتّى ولا الخِيام، وأنّهم كانوا يعيشون على الجَمْعِ والالتقاط حتّى تحين فُرصة بين وقت وآخر فيُغيرون على حُدود الصحراء المـُتاخِمة للإمارات الفارسيّة في القَرن السادس قبل الميلاد.

والإقليم من الناحية الطبيعيّة جزء من الصحاري الحارّة المـُتاخِمة للمـَدارَينِ والتي يَقُلّ المـُعدّل السنوي للأمطار فيها عن (100 م. م) (1) ، وهذا لا يَسمح بنُموّ غطاء نباتي واضح، والإقليم مُصاب بالجَفاف مُنذ ما لا يقلّ عن خمسة آلاف سنة قبل الميلاد، وهو نوع الجَفاف المـُطلق، وربّما لم يَجد السُكّان القُدامى مِن قبائل غيدروسيا البدائيّين (زمن كورش في القَرن السادس قبل الميلاد) إلاّ جُذُور النباتات لالتهامها.

فالبيئة فعلاً تَخلو تماماً إلاّ مِن نباتات تلاءمَت للحياة في الأقاليم المناخيّة أو البيئات التي يَسودها الجَفاف، أو تلك التي لا تَتَمتّع إلاّ بقِسطٍ ضئيل من الرُطوبة مِثل صحراء سيستان ومكران، فهذه

____________________

(1) مفاهيم جغرافيّة، ص 269.

٤٨٣

النباتات - بما لها من تركيب خاصّ - تَتَحايل على الحصول على أكبر كميّة مُمكِنة من الماء والاحتفاظ به؛ ومِن ثَمّ كانت الجذور أطولَ وأَكثر تشعُّباً من السِيقان؛ ولذا فقد كانت هذه القبائل تَحفر في الأرض بَحثاً عن هذه الجُذُور لتَقتَاتَ بها.

وعندما كان العَطش يُهدِّد حياة هذه القبائل كانوا يَفتحون جُذُوع بعض النباتات الصحراويّة التي تَتَّصف بالانتفاخ ويَمتصّون ما فيها من ماء مَخزون.

والبيئة - والحال هذه - تَشبه تَماماً ما توحي به الآية الكريمة التي عَبَّرت عن نَمطِ حياة هؤلاء الأَقوام المعيشيّة حيث قال تعالى: ( حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْراً ) ، فسبحان الله أصدق القائلين!

وما أَروع دِقّة القرآن وشموليّته ومُعالجته لهذه القضايا، في شكل إشارات عابرة تَترُك للعقل البشري على تَتابُعِ العصور مُهمّةَ الكشفِ والتنقيبِ عن تفصيلاتها واتّخاذ العِبرة والمـُوعِظة الحَسَنة منها!

(ثمّ أَتبع سبباً).

وهي رحلة ثالثة، كانت أُولاها إلى الغرب لإخضاع بلاد ليديا، والثانية نحو الشرق شماليّ بحر قزوين لإخضاع قبائل عُزَّل وَحش لم يَعرفوا حتّى الوِقاء من الشمس، وهذه هي الثالثة نحو الشرق أيضاً، ولكن حيث مُتّجه بلاد قوقاز بين بحر قزوين والبحر الأسود.

( حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ ) بين الجبلَينِ من سِلسلة جبال قوقاز، والسدّ: الجبل الشامخ يَصعُب عبوره كأنّه سدّ حاجز.

( وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا (وراءهما) (1) قَوْماً لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً ) لصُعوبة لُغتهم وَوعورة لَهجَتِهم بحيث لم يَكد يُمكن التفاهم معهم بسُهولة.

ينتهي هذا الطريق الذي سَلَكه كورش، إلى منطقة جبليّة وَعِرة مُتضرِّسة تُمثّل حائِطاً جبليّاً طبيعيّاً عرضيّاً شامخاً، يَحول دون هِجرات الشُعوب المـُتوحِّشة وإغارتها على مَن وراء الحائط الجبلي من شعوب بدائيّة مُستَضعَفة.

____________________

(1) حسبما ذكره الرازي في التفسير الكبير، ج 21، ص 170.

٤٨٤

ولكن الحائِط الجبلي كان مُنثَلِماً مِن وَسَطِه بثَغرة (مضيق جبلي) (1) مُخيفَة، اتّخذها الغُزاة المـُتوحِّشون مَعبَراً نحو الشُعوب المـُسالِمة في ظَهرانَيه، حيث كانت تَتَعرّض باستمرار لهجمات أُولئك البَرابِرة المـُتوحّشينَ.

كان قد قضى المـَلِك الهخامنشي العظيم (كورش) ثماني سنوات (2) في تأَديب وإخضاع قبائل غيدروسيا الهمجيّة في صحاري سيستان ومكران وبلوجستان، وزَحزَح حُدود الإمبراطوريّة حتّى حُدود نهر (سيحون) حيث بنى مدينةً باسمه على شاطئ هذا النهر، فكانت هذه المدينة تُسمّى إِبّان عصر الإسكندر (المدينة الأقصى الكورشي) ويعتقد أنّها مكان مدينة (أُوراتبّه) الحاليّة.

ووجد كورش أنّه آنَ الأَوان لتأديب الشعوب المـُتوحِّشة، التي كانت تغير عِبر مَضيق داريال في جبال قوقاز على شُعوب إماراته الطيّبة، في آذربيجان وجورجيا وأرمينيا جنوب الحائط الجبلي الرهيب، الذي يُسمّى جبال القوقاز التي تَمتدّ من بحر قزوين في الشرق عند مدينة (دربند) حتّى (سرخوم) على البحر الأسود.

فَتَوجّه إليها سنة 537 ق. م، وقضى بالإقليم حوالي تسع سنوات مُتوالية (3) ، مابين بِناء السدّ عِبر المـَضيق وتأَديب قبائل الأسكوذيّين أو (الماساجيت) أو (يأجوج ومأجوج) على حدِّ تعبير القرآن (4) .

وحيث إنّ كورش قد وَصَل إلى الحائط الجبلي العظيم (جبال قوقاز) فهذا معناه أنّه عَبَر كردستان وآذربيجان وأرمينيا وجورجيا، وَوَصل إلى أجزاء من داغستان، حتّى مدينة (دربند) وما حولها، وكذلك إقليم أُوسنينا الجنوبيّة، ويكون شمال هذا الحدّ حائط القوقاز الجبلي، ذو فَتحَة في مُنتَصَفه تُسمّى مَضيق (داريال) حيث تُقيم جَماعات يأجوج ومأجوج، وإلى الجنوب من هذا الخطّ الجبلي كانت تُقيم جَماعات مُجرّدة من الحضارة، وَصَفَهم القرآن بقوله: ( لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً ) أي يَعسُر التفاهم معهم، هذا إنْ

____________________

(1) سَنذكُر أنّه مَضيق داريال.

(2) حسبما ذَكَره حسن بيرنيا: أنّه قضى تَجوالَه العسكري في شرق وشمال إيران لمـُدّة 8 سنوات، تأريخ إيران، ص 68.

(3) حسبما ذَكَره الدكتور عبد العليم: أنّه قضى بالإقليم حوالي تسع سنوات، مفاهيم جغرافيّة، ص 273، هذا إنْ قُلنا بأنّها كانت بعد فتح بابل كما قيل، تأريخ إيران، ص 68.

(4) مفاهيم جغرافيّة، ص 273.

٤٨٥

فَسَّرنا ( مِنْ دُونِهِمَا ) بما قَبل السّدَّينِ لا الوراء كما سَبَق.

وقد اتّخَذَ كورش طريقَه إليهم مُتوجِّهاً شمالاً عِبر إقليم كردستان الجبلي الوعِر، الذي يَعتلي ظهر المـُرتفعات الآسيويّة وسَلاسل الجبال على مَحاورها المـُنتشِرة في موقع يَضمّ بعضاً من شمال العراق وشرق أو جنوب شرق تركيا وبعضاً من غرب إيران، ويَسكنُه الأَكراد مُنذ سنة (2400 ق. م).

والإقليم به مَعابر مشهورة لمـُرور التجارة بقوافلها وفَيالق الحروب بجحافلِها، وهي مَعابر تَتَّجه على مُحور عام يخدم الصِّلات والعلاقات فيما بين قلب آسيا وشرقها الأقصى وآسيا الصُغرى والشام.

وقد احتَرَف الأَكراد - عَلاوةً على تَمرير التجارة - حِرفَة الرَعي واقتَنَوا قُطعاناً مِن الأَغنام والماعز، وعاشوا عِيشَةَ البَداوة والحركة في حركات فصليّة شِبه مُنتَظَمة سعياً وراء المرعى وتأمين العُشب لقُطعان أَغنامهم.

وعلى ذلك فقد عَبَر كورش إقليماً مُتضرِّعاً وَعِراً غَنيّاً بالموارد الاقتصاديّة المـُتاحة تَكفُل تأَمين إطعام الجيوش الفارسيّة، وانحرف شمالاً بشَرقٍ حتّى بلغَ بُحَيرةَ أَروميّة التي يَصبّ فيها نهر طلخة وهي أَكبر بُحَيرات فارس، وتقع في الشمال الغربي من فارس في إقليم آذربيجان ويبلغ طُولها 130 كم وأقصى عَرضها بلغ 50 كم، وهي بُحَيرة ضَحْلة قليلة الغَوْر لا يزيد عُمقُها على 21 متراً، وعلى صخرة (كورجين) تقع قَلعة قديمة تُشرِف على البُحَيرة قُبالَة شاطئ (سلماس)، ووُجِد فيها نَقشٌ يُشير إلى عَراقتها في القِدَم.

ويَبدو أنّ كورش آثَرَ مُحاذاةَ شواطئ بحر قزوين (خزر) بحيث يكون البحر عن يَمينه وهو مُتَّجه نحو الشمال إلى جبال قوقاز، ومعنى ذلك أنّه سَلَك ضِفاف نهر طلخة نحو الإقليم الساحلي لبحر قزوين.

والإقليم: عبارة عن سُهُول ضَيّقة تَتَّسم بالدِفء؛ لأنّ ارتفاعها قليل وقد يَنخفض دونَ سطح البحر، ويَندُر أنْ يحدث الصَّقيع (الجليد) هناك في الشتاء، كما يَندُر أنْ تَرتفع درجة الحرارة في الصيف عن 32، ولكنْ الرطوبة شديدة، وتَكثُر الأَمطار وتَتَوزَّع على مَدار السَّنة، وبسبب هذه الأَمطار الغزيرة تَنمو الغابات النفضيَّة مثل البَلوط والدردار، وهي التي تَنفُض أي تَسقط أَوراقُها في فصل الشتاء.

٤٨٦

وظلّ كورش مُحاذياً شاطئ بحر قزوين حتّى وصلَ إلى نهر أَطلق عليه اسمَه (كورش) أي سائرس (سيروس) (1) ، والإقليم جُزء من آذربيجان الشرقيّة التي تقع في الجنوب الشرقي من قفقاسيا وتشمل سُهُول نهر (كورا) المـُنخَفِضة والتي تُحيط بها الجبال مِن كلِّ الجهات، فلا تَنفتح إلاّ من جهة الشرق حيث بحر قزوين.

وهذه الجبال هي القفقاز من الشمال، وأرمينيا من الغرب، وجبال آذربيجان الشرقيّة من الجنوب، وتجري المياه نحو هذه السُهُول من جميع الأطراف من الجبال المـُحيطة بها، وتكون شَديدةَ الانحِدار، لقِصر المـَسافة التي تَقطعها، فتَحفر أَوديةً واسعةً سَحيقةً، تُعتَبر من مراكز الزراعة في الإقليم، وأَمطار هذه السُهُول نادرة لانحصارها بين المـُرتفعات التي تَحجُب الأَمطارَ عنها مِمّا يَجعلها جافّةً، ولكن هذا الجَفاف يُعوَّض بالمياه المـُتدفِّقة التي تجري مِن المـُرتفعات.

وأَشهر هذه المجاري وأَطولها نهر (كورا) الذي يجري من جورجيا (كرجستان) ويَمرّ من عاصمتها تَفليس، ثُمّ يدخل أَراضي آذربيجان حيث يَرفِدُه نهر (أيورا) المـُنساب أيضاً من جورجيا، ويَتّجه النهر نحو الجنوب الشرقي حتّى يَصبّ في البحر.

وعليه فكان العائِشونَ في المـَنطقة في رفاهيّة من العيش، حيث خُصُوبة الأرض ووِفْرَة المياه، آمِنينَ مُطمئنّينَ سِوى ما كان يُهدِّدهم أَقواهم وحشيّةً كانوا يَسكُنون وراء الجبال فربّما أَغاروا عليهم بين حين وآخر، ولم يكن التهديد لسُكّان تلك المناطق الشاطئيّة وحدها من القبائل الوحشيّة، بل كان يَشمل سُكّان أرمينيا وجورجيا أيضاً.

من هم يأجوج ومأجوج؟

عنوان أَطلقه القرآن الكريم على السُلالات البشريّة المـُتوحِّشة في عصر ذي القَرنَينِ.

( قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ

____________________

(1) والآن يُسمّى نهر كورا، كما يأتي.

٤٨٧

أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً... ) (1) .

والجغرافيّة البشريّة تُحاول وضع تصوّر مُحدَّد لأنماط الاستيطان البشري لتلك الجماعات وتدرس تسلسلهم في قائمة الأجناس البشريّة، وتُحدّد الحقبة الحضاريّة - من عُمر البشريّة - التي كانوا يعيشون أًثناءها.

تَذكر بعض الدراسات أنّ أصل يأجوج ومأجوج من أولاد يافث بن نوح، وأنّ التَسمية مأخوذة من أَجيج النار وهو: ضَوءها وشَرَرها، عنوان مُستعار يُشير إلى كثرتهم وشدّتهم.

وذَكَر بعض المـُدقّقينَ في البحث عن تأصيلهم: أنّ أصلَ المـُغول والتَّتَر من رجل واحد يقال له: (ترك)، وهو نفس الذي سَمّاه أبو الفِداء باسم (مأجوج)، فيظهر من هذا القول أنّ المـُغول والتَّتَر هم المـَقصودونَ بيأجوج ومأجوج، وهم كانوا يَشغلون الجزء الشمالي من آسيا، تمتدّ بلادهم من (التبّت والصين) إلى المحيط المـُنجمد الشمالي، وتنتهي غرباً بما يلي بلاد (التركستان) (2) .

وكلمة (تَتَر) تُكتب تاتار وتُكتب تتار، وهي اسم لشعب يختلف مدلوله باختلاف العصور، وقد ورد في الكتابات الاُورخونيّة التركيّة التي يرجع تأريخها إلى القَرن الثامن، ذَكَر طائفتَينِ من القبائل التَّتَريّة، وهما (التتر الثلاثون) و(التتر التسعة)، ولكن (طومسون) ( Thomson ) يَرى أنّ التتار اسم يُطلق حتى في ذلك العصر على المـُغول أو فريق منهم، وليس الشعب التركي!

ويقول: إنّ هؤلاء التتار كانوا يَعيشون على وجه التقريب في الجنوب الغربي من بُحيرة بيكال حتى كرولين (3) ، ويقول: إنّ التُرك أُخرجوا مِن منغوليا ليَحلّ محلّهم المـَغول، حينما قامت إمبراطوريّة قره خِطائي (4) ، وقد صَحبت بعض العشائر التَتَريّة قبائل التُرك حين خرجت من منغوليا وسارت معها مُتّجهة من أواسط آسيا

____________________

(1) الكهف 18: 94.

(2) انظُر: الشيخ طنطاوي جوهري في تفسيره، ج9، ص203 - 204.

(3) نهر كورا ( Koura ) في قفقاسيا يَصبّ في غرب بحر قزوين.

(4) اسم أَطلقته المصادر الإسلاميّة مُنذ القرن 11م على بعض شُعوب الصين المغول، أَسّس زعيمهم (آبااُوكي) سُلالة (لياد) الصينيّة، أُجبروا على مغادرة الصين 1125م فاصطدموا بالدول الإسلاميّة المجاورة، صَدّهم الإيلخانيّون.

٤٨٨

صوبَ الغرب.

وجاء في أخبار الغزوات المغوليّة التي تمّتْ في القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي) أنّ الغُزاة كانوا يُعرفون (في الصين - والعالم الإسلامي - والروسيا - وغرب أُوربا) باسم التتر وهي بالصينيّة: تاتا.

وقد أَطلق ابن الأثير (ت 630هـ) هذا الاسم (التتر) على أَسلاف (جنكيزخان) وأنّهم نوع كثير من التُرك، وكانت مساكنهم جبال طمغاج من نحو الصين (1) .

وقد قُسِّمت عدّة شعوب باسم التتر في خطاي والهندوستان وجين ماجين، وبين القرقيز وفي كلارا (بولندا) وباشقرد (المجر) وفي سهوب (دشت) قفجاق، وفي البلاد الشماليّة بين البدو، ولا يزال يُطلق على جميع الشعوب التركيّة حتّى اليوم اسم التتار.

ويظهر أنّ الشُعوب التي انحدرت من أصل مغولي وتتحدُّث بالمغوليّة كانت تُسمّى نفسها باسم التتر، ولكن حلّ محلّ هذا الاسم بعد عهد جنكيزخان في منغوليا وآسيا الوسطى اسم (مَغُول) وهو الاسم الذي استعمله رسميّاً جنكيزخان.

وقد ورد هذا الاسم في المصادر الإسلاميّة (مُغُل) و(مَغُول)، وكذلك يُنطق سلالة المـُغول في أفغانستان الذين احتفظوا بلغتهم حتى اليوم بهذا الاسم (مُغُل).

وكان هؤلاء التتر أثناء غزو تيمور يعيشون عِيشة البدو الرُحَّل فيما بين أماسيّة وقيساريّة، ويتراوح عددهم بين ثلاثين ألفاً وأربعين ألف أُسرة (2) .

وقد اتّسع مدلول كلمة (تتر) باعتباره اسم شعب يتكلّم التركيّة في حوض نهر (ثولغا) من قازان (3) حتّى آستراخان (4) وشبه جزيرة القرم وجزء من سيبريا، أي في المكان الذي حَدّده القرآن خَلف السدَّينِ أي وراء حاجز جبال القوقاز وبحر قزوين والبحر الأسود.

____________________

(1) راجع: الكامل في التأريخ، ج12، ص361 (أحداث سنة 617).

(2) اُنظر: ظفرنامه - الطبعة الهنديّة - كلكتا، سنة 1888، ج2، ص502 وما بعدها، وكذلك أبن عربشاه، طبعة مانجر، ج2، ص338 وما بعدها (مفاهيم جغرافية، ص285 - 286).

(3) هي عاصمة جمهورية التتر المستقلّة شرقي مسكو.

(4) مدينة ومرفأ على مَصبّ نهر ثولغا في بحر قزوين، أسّسها المـَغول.

٤٨٩

وهم الذين سَكنوا هذه المناطق قبل الميلاد وعُرفوا بالوحشيّة والإغارة على المـُسالِمينَ، وكلّ الأبحاث العلميّة الحديثة تؤكّد على أنّ الشعب الذي يتحدّث بالتركيّة في آستراخان على بحر قزوين شمال جبال القوقاز، من سُلالات التَتَر القُدامى الذين كانوا يَغيرون عِبر مَضيق داريال الجبلي في جبال القوقاز، على شعوب جورجيا وأرمينيّة وآذربيجان، وهم يُقيمون الآن في السُفوح الشماليّة لجبال القوقاز، ويُطلق عليهم (ششن أنفوشيا)، وينتمي سُكّان كبرداي أو قبرطاي أَيضاً إلى الجنس التَتَري وهم مُبالِغون في عصبيّتهم ويَتفاخرون بها أَشدّ المـُفاخرة وينظرون إلى جميع العناصر المجاروة لهم من شركسيّة وغيرها نظرةً فيها شيء من الاحتقار، وجميع هذه القبائل تُسمّى تَتَر في آسيا.

ويرى أبو الكلام آزاد أنّ كلمتَي يأجوج ومأجوج تَبدوان كأنّهما عِبريّتان، ولكنّهما في الأصل والواقع أجنبيّتان اتَّخذتا الصورة العِبريّة، فهما تُنطَقان باليونانيّة كوك ( Gog ) وماكوك ( Magog )، (1 ) ويبدو أنّ فِرعاً منهم سكن ما وراء القوقاز في القرن السابع قبل الميلاد وعاصر، كورشُ غارةً من غاراتهم (2) ، وسنذكره.

وقد حدَّد مولانا أبو الكلام، الأدوار السبعة لخروج يأجوج ومأجوج كالتالي:

الدور الأَوّل منها كان قبل 5000 سنة وقد اندفعت هذه القبائل نحو الجنوب الغربي من سيبريا إلى هِضاب وسط آسيا (منغوليا).

الدور الثاني ويبدأ ما بين 1500 - 1000ق. م، وفيه كانت تَتَابع مَوجات المغوليّة من أقصى الشمال الشرقي نحو سُهول الصين وهِضاب وسط آسيا ومنغوليا والتركستان الغربيّة وزونغاريا.

الدور الثالث وصلت جحافل المـَغول حوالي 1000 ق. م، إلى منطقة بحر قزوين والبحر الأسود وشمال القوقاز وحوض نهر الدانوب والفلجا. وظهرت قبائل (سي تهين) على مسرح التأريخ سنة 700 ق. م، وهاجمت مناطق آسيا الغربيّة.

____________________

(1) وإذا كان حرف ( g ) ينطق بـ (جي)، فلفط القرآن أقرب تعبيراً بالكلمة: جاج وماجاج!

(2) كورش الكبير لأبي الكلام آزاد، ترجمة باستاني باريزي، ص271.

٤٩٠

الدور الرابع - جعله أبو الكلام سنة 500 ق. م، حيث برز كورش كأَعظم مُلوك العالَم قاطبةً، فقد أخضع ميديا وليديا وبابل والشام وجميع المـَمالك الشرقيّة حتّى نهر السند وسيحون.

وبذلك توقّف سيلُ قبائل (سي تهين) وخصوصاً بعد أنْ أَقام كورش سدّ داريال في جبال القوقاز.

الدور الخامس تزعزع أَمن الصين بجحافل جديدة من قبائل المـَغول الهمجيّة ويَطلق الصينيّون على هؤلاء المـُتوحّشين اسم (هيونغ نو) وقد تَحوَّر فيما بعد وصار (هون)، ولم يجد إمبراطور الصين بُدّاً من تشييد سور الصين الحجري العظيم، لصدّ هجمات هذه القبائل.

وبذلك توقّف غزو قبائل (هون) لسُهول الصين بعد بناء السور، ولكن ذلك جعلهم يتوجّهون نحو أواسط آسيا من جديد.

وفي الدور السادس تَجمَّع شَمل هذه القبائل في أُوربا تحت قيادة (آتيلا) وقَضَوا على الإمبراطوريّة الرومانيّة في القَرن الرابع الميلادي.

وكان الدور الأخير هو هجوم جنكيزخان على الحضارة الإسلاميّة من منغوليا في القَرن الثاني عشر للميلاد وخرَّبت بغداد (1) .

ويَذكر المؤرّخون أنّ هذه القبائل كثيراً ما أَفسدت في الأرض وبَطشت بالآمِنينَ، وهدّمت حضارات وأَراقت دماءً وحرّقت زروعاً ومُدناً، وكم أهلكوا الحَرث والنسل؟! فهم إذن مُفسِدون في الأرض بنصّ القرآن - أَصدق الحديث - وشهادة التأريخ.

* * *

إنّ منطقة بحر قزوين والبحر الأسود وجبال القوقاز كانت مستقرّاً لجماعات من المـَغول والتُرك من فجر التأريخ، وتتار شبه جزيرة القرم حول البحر الأسود، والأتراك والمـَجريونَ والفنلنديون، هم المـُتخلِّفون من ذرّيتهم في المنطقة، ولم يكن هؤلاء يَقنعون

____________________

(1) كورش كبير، ص274 - 276.

٤٩١

بالموارد الطبيعيّة المـُتاحة لهم في الأرض التي احتلّوها، وإنّما كان مَضيق داريال مَعبَراً لهم إلى حضارات العالم القديم في غرب آسيا، وما زالت سُلالاتهم حتّى اليوم تُقيم في المنطقة، وإن اتّخذوا أَسماء جديدة، فالجركس مثلاً اسم عام يُطلق على هؤلاء الأقوام.

وكانت هذه القبائل المـُتوحّشة زَمن كورش تسكن المـُنحدَرات الشماليّة والجنوبيّة لسلاسل جبال قوقاز ولكن في أقصى الغرب، أي الضِفة اليسرى لنهر قوبان وروافده وشاطئ البحر الأسود حتّى نهر شخة، وما تزال البقية منهم في القوقاز وما والاها.

* * *

وهناك للشيخ طنطاوي حديث مع عالِم من أُمّة يأجوج ومأجوج، يقول: كان أَوّل ما ألّفتُ كتاباً من كُتبي، كان انتشاره وترجمته في بلاد (روسيا) بناحية (قازان) وما والاها، حيث تُرجِمت تلك الكُتب باللغة القازانية، وكانت مقالة (يأجوج ومأجوج) نَشَرتها في أواخر القرن التاسع عشر بمجلّة (الهلال)، ثمّ أُعيد نشرها بزيادة تحقيق في جريدة (المؤيّد) المـُنتشِرة إذ ذاك في أقطار العالم الإسلامي في نحو العشر سنين الأُولى من القرن العشرين.

يقول: بينما أنا بالمدرسة الخديويّة أُدرِّس اللغة العربيّة، إذ قابلني تلميذ فقال: قد قابلني الأُستاذ عبد اللّه بوبي من مدينة (أوفا) ببلاد روسيا ويُريد مَوعداً للمـُقابلة بالمـَنزل، فعيّنتُ له مَوعداً ليلاً، فلمـّا حضر خاطبني باللغة العربيّة الفُصحى، وأَوّل ما بادرَني به أنْ قال: عرفتُك من مؤلّفاتك وقرأتُ في (المؤيّد) أنّك تقول: إنّنا من (يأجوج ومأجوج)، وهذه المـَقالة ترجمتُها بلُغتنا ولم أُطلِع عليه الشيوخ الكِبار؛ لظنّهم أنّ هذا كُفرٌ، وقد جهلوا أَصلنا، وإنّنا نحن المـَغول (يأجوج ومأجوج) والتتر فريق من تلك الأُمَم، فأنا والشبّان جميعاً فَهِمنا مقالك... (1)

* * *

ومن الغريب وليس بعجيب تصريح (جنكيزخان) بأنّ قومه المـُغُل والتُرك (التتار)

____________________

(1) تفسير الشيخ طنطاوي، ج9، ص208 - 209.

٤٩٢

هم قوم (يأجوج ومأجوج) الذين حدَّثَ عنهم القرآن وحذَّر بطشَهم.

جاء في كتاب بَعَثه إلى محمّد خوارزم شاه يُؤنبِّه على تَعسُّفه في سياسته الغاشمة وقتله الوُدَعاء من أصحابه (التجّار المغل) ونَهب أَموالهم زوراً (1) ، مُتوعّداً له شرّ الانتقام إن هو لم يَتَلافَ الخَرق قبل تَوسُّعها.

جاء في الكتاب: (... كيف تجرّأتم على أصحابي ورجالي وأَخذتهم تجارتي ومالي، وهل وَرَد في دينكم أو جازَ في اعتقادكم ويقينكم أنْ تُريقوا دّم الأبرياء أو تَستحلّوا أموال الأتقياء أو تُعادوا مَن لا عاداكم وتُكدِّروا صفوَ عيش مَن صادقكم وصافاكم، أَتُحرّكون الفتنة الخامدة وتُنبّهون الشُرور الكامنة! أَوَ ما جاءكم عن نبيّكم... أنْ تمنعوا عن السفاهة غوّيَكم وعن ظلم الضعيف قويَّكم؟! أَوَ ما أَخبركم مُرشدوكم ومُحدّثوكم عنه قوله: اُتركوا التُرك ما تَركوكم؟! وكيف تُؤذون الجار وتُسيئون الجِوار ونبيّكم قد أَوصى بهم... فَتلافوا هذا التَلف قبل أنْ ينهض داعي الانتقام وتقوم سوق الفتنة ويظهر مِن الشرّ ما بَطَنَ ويَروج بحر البلاء ويَموج، وينفتح عليكم سدّ (يأجوج ومأجوج) وسينصر اللّه المظلوم، والانتقام من الظالم أمر معلوم، ولابدّ أنّ الخالق القديم والحاكم الحكيم يُظهر سرّ ربوبيّته وآثار عدله في بريّته، فإنّ به الحَول والقوّة ومنه النُصرة مرجوّة، فلتَروُنّ من جزاء أفعالكم العَجَب، وليَنسلُنّ عليكم يأجوج ومأجوج من كلّ حَدب... (2)

____________________

(1) ذَكَر ابن الأثير أنّ جنكيزخان المعروف بتموجين كان قد فارق بلاده، وسار إلى نواحي تركستان، وسيّر جماعةً مِن التُجّار والأتراك ومعهم شيء كثير من النُّقرة والقندر (حيوان بحري يُصنع من جلده الفرو) وغيرهما، إلى بلاد ما وراء النهر (سمرقند وبخارا) ليشتروا به ثياباً للكسوة.

فوصلوا إلى مدينة مِن بلاد التُرك تُسمّى (اُوترار) وهي آخر ولاية خوارزم شاه، وكان له نائب هناك، فلمـّا ورد عليه هذه الطائفة من التتر أَرسلَ إلى خوارزم شاه يُعلِمه بوصولهم ويَذكر له ما معهم من الأموال، فبعث إليه خوارزم شاه يأمرهم بقتلهم وأَخْذ ما معهم من الأموال وإنفاذه إليه، فقتلهم وسيَّر ما معهم وكان شيئاً كثيراً، فلمـّا وصل إلى خوارزم شاه فرّقه على تُجّار بُخارى وسمرقند وأخذ ثمنه منهم.

وسُرعان ما نَدم خوارزم شاه على صنيعه هذا وأَشغل فكره فَهَمَّ بمهاجمة جنكيزخان قبل أنْ يُهاجمه في جُموعه وعساكره التي أَخبر جواسيسه عنها بأنّها لا تُحصى، فاستشار أُمراءه في ذلك، وبينما هم كذلك إذ ورد رسول جنكيزخان ومعه جماعة يُهدّد خوارزم شاه ويقول: تقتلون أصحابي وتُجّاري وتأخذون مالي منهم! استعدّوا للحرب فإنّي واصل إليكم بجمع لا قِبَلَ لكم به، لكن خوارزم شاه بدل أنْ يَستميل جنكيزخان من صنيعه هذا القبيح، أَمر بقتل الرسول وحَلق لُحى الجماعة الذين كانوا معه وأَعادهم إلى صاحبهم جنكيزخان يُخبرونه بما فَعل ويقولون له: إنّ خوارزم شاه يقول لك: أنا سائر إليك ولو أنّك في آخر الدنيا حتّى أفعل بك كما فعلتُ بأصحابك... الكامل في التأريخ، ج12، ص361 - 364.

(2) تفسير الشيخ طنطاوي، ج9، ص204.

٤٩٣

وأيضاً كان بين مَمالك مُغُل ومَمالك خوارزم منطقة وسيعة يَحكمها أُمراء (قراختائيان) وكان ما وراء النهر (سمرقند وبخارا) تحت سُلطتهم وكانت الفاصل الحاجز بين المـُغُل والخوارزميّة، فعَمَد المـَلِك مُحمّد خوارزم شاه إلى فَتحِها وإلحاقِها بممالكه الوسيعة الأمر الذي تحقّق سنة 607هـ.

وفي سنة 612هـ زَحَف خوارزم شاه من مدينة (جند) نحو مساكن قبائل (قبجاق) فَواجَه أفواجَ (جوجي) ابن جنكيزخان، وهذا وإنْ سامَحَه وأَخبره أنّه لم يأتِ للحرب سِوى إخماد نائرة بعض البُغاة، لكن المـَلِك مُحمّد خوارزم شاه لغروره عَزَم على مُقاتلتهم، سِوى أنّ (جوجي) غادَرَ المحلّ ليلاً وأخبر أَباه بمُفاجئة المـَلِك الخوارزمي وأنّه عازم على مُقاتلتهم بالذات، فكان أَوّل بادرة حدثت بين الدولتَينِ (1) .

ويُضيف الشيخ طنطاوي هنا: أنّ المـَلِك الخوارزمي لمـّا غزا بلاد ما وراء النهر، سُرت السرائر، وابتهجت القلوب بهذا الفتح، وكان إذ ذاك في (نيسابور) عالِمان فاضلان فأقاما العزاء على الإسلام وبَكيا، فَسُئلا عن ذلك فقالا: وأَنتم تَعدّون هذا الثَلم فَتحاً وتَتَصوّرون هذا الفساد صُلحاً، وإنّما هو مبدأ الخروج وتسليط العلوج وفتح سدّ يأجوج ومأجوج، ونحن نُقيم العزاء على الإسلام والمسلمين وما سيحدث من هذا الفتح من الحَيف على قواعد الدين ( وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ) (2) .

قال الطنطاوي: فهذا تصريح من هذَينِ العالِمَينِ بما أوردناه بشأن يأجوج ومأجوج وأنّهم من أقوام التتر، وانظر كيف ظهر صِدق كلامهما في حينه وظهر التتر وأَفنَوا المسلمينَ وماجَ الناس بعضهم في بعض (3) ، ( حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ) (4) .

____________________

(1) راجع: تأريخ إيران، ص 404 - 405.

(2) ص 38: 88.

(3) تفسير الشيخ طنطاوي، ج9، ص205.

(4) الأنبياء 21: 96.

٤٩٤

يأجوج ومأجوج في التأريخ

وهكذ جاء لفظ يأجوج ومأجوج في الأَسفار القديمة وفي التأريخ، تعبيراً عن أُمّة مُتوحِّشة يَموج بعضهم في بعض، ويكونون خطراً بين حين وآخر يُهدّد الأُمَم المـُتحضِّرة المـُجاورة لها وحتّى غير المـُجاورة إلى حدّ بعيد.

جاء في سِفر التكوين عند ذِكر وُلد نوح وأحفاده: (بنو يافث: جومر وماجوج وماداي) (1) .

وفي سِفر حزقيال، يَتحدّث عن جوج، أرض ماجوج، وأنّهم يُفسدون في الأرض وأنْ سَوف يَذلّ بهم جبابرة الأرض (2) .

وذكر جيمس هاكس: أنّ السوريّين - في القُرون الوسطى - سَمّوا قبائل التتر بمأجوج، وكانت العرب تعتبر السُهول الواقعة بين البحر الأسود وبحر قزوين ببلاد يأجوج ومأجوج، وفي أيام حزقيال كانت الأقوام السكيتيّة في الشمال الغربي من آسيا وراء جبال قوقاز معروفين بأقوام مأجوج، وفي عام (629 ق.م) انسالوا بجُموعهم نحو مدينة (ساردس) عاصمة ليديا، وتَغلّبوا عليها، واستولوا عام (624 ق.م) على مُلك ماديا (سياكرس)، وأَخذوا بالهُجوم نحو مصر، لولا أنْ واجَهَهم المـَلِك (بساميتخس) بالهدايا الكثيرة ليُقنعهم بالرجوع إلى أوطانهم.

وحزقيال يَصفهم بالفروسيّة والقدرة على ضَرْب الكتائب بما يَفوقون سائر الأُمّم، وهكذا وَصَفهم مؤرّخو يونان القُدامى (3) .

وليهرودوت حديث عن هذه الأقوام يَتوافق مع حديث حزقيال (4) .

وله أيضاً حديث عن أقوام وَحْش كان مسكنهم وراء جبال قوقاز، سَمّاهم (ما ساكت) (ما ساجيت = massagetes ) = (ماجوج) وقال عنهم: أنّهم أصحاب فروسيّة وشجاعة فائقة، ويَعتبرهم البعض أنّهم من أفخاذ الأقوام السكائيّة (الكسكيتيّة) (5) حسبما

____________________

(1) سِفر التكوين 10: 3، أخبار الأيّام الأُوَل 1: 5.

(2) سِفر حزقيال، إصحاح 38.

(3) قاموس الكتاب المقدس، حرف م، ص775.

(4) تأريخ هيرودوت، ص62.

(5) المصدر: ص98.

٤٩٥

جاء في كلام حزقيال.

ومِن ثَمّ جاء قول المـُؤرّخين بأنّ هذه القبائل التي سُمّيت (ميكاك) عند اليونان و(منكوك) عند الصينيّين هي (يأجوج ومأجوج) التي ذُكرت في القرآن (1) .

ذكر الأُستاذ أبو الكلام آزاد: أنّ لفظتَي يأجوج ومأجوج، يبدو في صِيغتهما أنّهما عِبريّتان، في حين أنّها أَعرق وذواتا أَصل غير عِبراني. وقد عَبَّر اليونان عنهما (كوك) ( Gog ) و(ماكوك) ( Magog )، وهكذا جاءَتا في التَرجمة السبعينيّة للتوراة، ومنها تَسرَّب إلى اللغات الأُوربيّة.

وقد أُطلق على أقوام وَحْش كانوا يسكنون مُنذ (600 ق.م) ما وراء جبال قوقاز، عُرفوا باسم (التَتَر) وبلادهم حسب تعبير الصينيّين معروف باسم (منغوليا)، وهذه القبائل قد أُطلق عليهم (المنغول) (المغول)، والمصادر الصينيّة تُعطينا أنّ أصل هذه الكلمة هي: (منكوك) أو (منجوك)! وهذا قريب من الكلمة في صيغتها العِبريّة (مأجوج) وعند اليونان (ميكاك).

وفي تأريخ الصين نجد الحديث عن قبيلة أُخرى باسم (يوشي) ( Yuechi )، والظاهر أنّ الكلمة حُرّفت فيما بعد في صورة (يأجوج) العِبريّة، وجاءت في تعبير الإفرنج: (يوئه جي) (2) .

إذن فالتعابير الواردة في التأريخ القديم (تأريخ هيرودوت): (ماساكيت) (ماساجيت)، وعند اليونان: (كوك) و(ماكوك)، وطِبقاً للتوراة: (جوج) و(ماجوج)، وعند الصينيّين: (منكوك) أو (منجوك)، و(يوشي) (ياجوج)، وعند الإفرنج: (يوئه جي)... كلّها تَنمّ عن أصل هذه الكلمة تَعبيراً عن أقوام وَحش هَمَج كانوا خَطراً على البلاد، وجاء التعبير عنهم في القرآن بـ (يأجوج ومأجوج) وأنّهم مُفسدون في الأرض.

وقد التَمَس أهل البلاد الخِصبة من كورش (ذي القرنين) أنْ يَجعل لهم سدّاً يَمنعهم عن هَجمات تلك الأقوام.

____________________

(1) مفاهيم جغرافيّة، ص313.

(2) كورش الكبير، ص271 - 273.

٤٩٦

أين السدّ وأين موضعه الآن؟

سَبق أنْ دلّت الشواهد على أنّ موضعه هي الثَغرة في ثنايا جبال قوقاز، كانت تَعبُرها أقوام وَحْش للإغارة على المـُسالمينَ في الأرض. وعُرِفت الثغرة باسم مضيق (داريال) حسبما مرَّ، وهي بالقُرب من مدينة (تفليس) عاصمة (كرجستان).

لَمَسنا من المفاهيم القرآنيّة المـُفسَّرة أن لم يكن من سبيل - في القَرن السادس قبل الميلاد - إلى الأمان للشُعوب المـُسالِمة البدائيّة الضعيفة جنوب جبال القوقاز (في آذربيجان وجورجيا وأرمينيّة وسواحل جنوب بحر قزوين) إلاّ بتشييد سدّ منيع يَحكم إغلاق الثغرة بين شطرَي جبال قوقاز، ويَحول دونَ عبور القبائل المغوليّة (القديمة المـُتوحِّشة) للمسلك الجغرافي الوحيد نحو تلِكُم الشُعوب المـُستضعَفَة.

ويبدو أنّ الحائط الجبلي المذكور في القرآن كان مُمتدّاً امتداداً عَرضيّاً كبيراً يُفضي من جانبَيه إلى بحرَينِ لا يُمكن عُبورهما (بحر قزوين في الشرق والبحر الأسود في الغرب)؛ لذلك عَرَض القوم البدائيّون الضُعفاء في جنوب جبال قوقاز على ذي القَرنَينِ (كورش) بناء سدٍّ يُوقف زَحف المـُتوحّشين تماماً.

وقبل أنْ نتحدّث عن سدّ ذي القَرنَينِ وأنّه هل هو سدّ كورش الذي بناه على أقوم استحكام، ممّا يتطّلب تقدُّماً حضارياً من حيث الإمكانيّات التي قدّمها كورش لانجاز هذا المشروع الجَلَل والذي يُعدّ آية في تأريخ البشريّة الصناعيّة والهندسيّة والعلميّة... لابدّ أنْ نُلقي ضوءً على المـَقدِرات الفنيّة يومذاك ولا سيّما في بلاد فارس على عهد كورش أي قبل الميلاد ببِضع قُرون.

التحضّر البشري في عهد ذي القَرنَينِ

يقول الدكتور عبد العليم - أُستاذ الجغرافيا المـُساعِد في جامعة ابن سعود ويحمل شهادة زَمالة الجغرافيّين الملكيّة - لندن -: دراسة جغرافيّة منطقة السّدّ، دراسة جيولوجيّة واقتصاديّة لمعرفة إمكانيّاتها الطبيعيّة والإمكانات البشريّة التي كان من المفروض

٤٩٧

تَوفُّرها للوفاء باحتياجات السّدّ التي طلبها ذو القَرنَينِ، ودراسة مدى التَحضّر البشري حينذاك.

بالنظر إلى الآية الكريمة ( فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً ) (1) نرى أنّ الإمكانيّات التي قدّمها كورش لإتمام السّدّ هي: الخُبرَة والمـُهندسينَ والإشراف، وأمّا الإمكانيّات التي طلبها من سُكّان المنطقة فكانت تنحصر في:

1 - القوّة البشريّة (العَمّالة).

2 - خامات الحديد.

3 - الفحم أو الخشب لصَهر الحديد.

4 - خامات النُحاس.

5 - عددٍ مّا من حيوانات الجرّ والحَمل.

6 - استهلاك العُمّال والمـُهندسينَ من طعام وشراب ومأوى.

ولنا أنْ نتساءل: هل كانت (فارس) على درجة من التحضّر والتقدّم بما يُوفّر الخُبرَة الهندسيّة لتشييد السُدود والأعمال العُمرانيّة الضَخمة؟

لفارس، حضارتها الخاصّة بها بلا شكّ، ولكن مصر الفرعونيّة - بشهادة التأريخ - قَدَّمت لها أعظم مدرسة في التشييد والبِناء والصناعة. لقد قدّمت مصر - وكانت على اتّصال وثيق ببلاد الشرق الأدنى منذ 4000 سنة - للحضارة الفارسيّة العلوم الرياضيّة والهندسيّة والطبّ والفَلَك وتعبيد الطُرُق والكتابة والتقويم والساعات والورق وفنّ المكتبات وحفظ الوثائق، والأثاث الدقيق والمصقول، وفنّ التلوين.

ولم تقتبس فارس من حضارة مصر فقط، وإنّما نَقلت أيضاً - زَمن الهخامنشيّين - من بابل كثيراً من العلوم والفنون والصناعات، وهكذا من اليونان استخدموا مهندسينَ كِباراً لفنّ النحت وبِناء القُصور الشامخات والأَعمدة الرفيعة والأقواس من الرُخام

____________________

(1) الكهف 18: 95 - 96.

٤٩٨

والأحجار الثمينة (1) ، ولا نَنكُر أنّهم - أي الفُرس - أَضافوا إلى ما أَخذوه وخَلَّفوا لنا حضارةً راقيةً، هي مَزيج من حضارات العالَم القديم مصر - بابل - يونان.

وإجابة على السؤال، يُمكن القول: إنّ الفُرس - في عصر الهخامنشيّين - امتازوا بمهارتهم في فنّ العِمارة والبِناء، يشهد بذلك كلّ ما اكتشفه علماء الآثار هناك من أَبنية تَدلّ على عَظَمة التصميم الهندسي، ودقّة اختيار الموادّ الخام، وتطويعها للغرض الإنشائي المـَنشود، فقد أَخذ البنّاءون الفُرس يَتعلّمون فنّ المِعمار من الشُعوب التي خَضَعت لهم (سومر - آشور - كلدان - يونان) وسُرعان ما استوعبوا أَسراره.

ومَن ينظر إلى مقبرة وقُصور كورش، ودارا الأَوّل، وخِشَيارْشا الأَوّل، يُدرك عُمق تأثّر المِعمار الفارسي بما يُحيط به من أَنماط في مصر ويونان وبابل وميديا وليديا... ونُدرك نحن ذلك إذا فَحصنا جيّداً ما شيّده كورش في (باساركاد) (2) رُغم تَهدُّمها، فالواقع أنّها صور من الرَوعة والجمال ترسم ملامح الفنّ الفارسي الهخامنشي مُنذ أربعة وعشرين قَرناً، وتزداد صورُ الرَوعة إشراقاً إذا فحصنا (نقش رستم) بالقُرب من (برسبوليس) (3) والآثار الموجودة في هذه المدينة.

بالإضافة إلى ذلك تُوجد أَبنية فارسيّة قُدّر لها أنْ تَفلت مِن مَخالب الحروب والدمار والغارات والسَرِقات وتقلّبات الأجواء، وهي تتمثّل في مجموعة من حُطام القُصور، وبقاياها موجودة حتى الآن في العواصم الفارسيّة القديمة مثل (بارساركاد) و(برس بوليس) و(اكبتانا - همدان).

وهي جميعها تُفيد في دراسة مراحل تَطوّر فنّ التشييد والبِناء في تلك المـَرحلة من حكم الهخامنشيّين لفارس، وتؤكّد أنّ الهخامنشيّين تَتَلمذوا على حضارات أُمَم مُجاورة وأحسنوا التَلمـَذة وأجادوها في كلّ الحقول، سواء أكانت الصناعات المختلفة أو التكنيك

____________________

(1) تأريخ إيران، ص125.

(2) جاء تعريبه: (بازارجاد)، هي مدينة ضخمة بقيت آثارها الفخيمة في مشهد مرغاب، عاصمة الهخامنشيّين القديمة، واقعة على بُعد 18 فرسخاً في الشمال الشرقي من شيراز، وبها مقبرة كورش الكبير قائمة إلى اليوم وفيها عُثِر على تمثال كورش الحجري الشهير.

(3) تخت جمشيد. وتُسمّيه اليونان: (برس بليس).

٤٩٩

أو تعبيد الطُرُق أو الإنشاءات المِعماريّة والفنّية والجسور والسدود.

وكلّها اتّسمت بطابع الأصالة في التخطيط وحُسن التنفيذ بما يُمكن أنْ يجعلنا نقول: إنّ الفُرس صَنعوا ممّا نقلوه رمزاً شاهداً على اتّجاههم الخاصّ وأُسلوبهم المـُتطوِّر.

ويبدو ممّا بقي من آثار حجريّة ودَرَج وأعمدة وأقواس، وتماثيل الحيوانات المـُجسّمة، وبقايا البِناء الذي خَلّد فيه كورش ذِكرى انتصاره على الميديّين، درجة كفاءة التَحضّر الفارسيّ آنذاك، ويبدو أيضاً ممّا بقي من آثار أنّ صوراً قد نُحتت مِن الحجر في هذا المكان من (مشهد مرغاب) ولكنّها خَرُبت، وأنّ نقشاً يُظنّ أنّه لكورش قد دُرِس، وعلى مَقربة من هذا البِناء بِناء عظيم من الحَجَر يقع في ستّ مُدرجات وقد عُرف هذا البِناء اليوم باسم قبر أُمّ سُليمان، ويعتقد المحقّقون أنّه قبر كورش، كما عُثِر على مَقربة منه نقش ترجمته: (أنا كورش المـَلِك الهخامنشي...).

وفي باساركاد تِمثال بارز مَنحوت من الحَجَر يُصوّر شخصاً واقفاً مادّاً يده إلى الأَمام وله جناحان وأجنحة شبيهة بتماثيل الآشوريّين، إلاّ أنّ لِحيته فارسيّة وتاجه مصري وثيابه عيلاميّة (- وهو تِمثال كورش، حسبما استقرّ عليه الرأي أخيراً - ويَنطبق على ذي القَرنَينِ الذي جاء وَصْفه في القرآن وفي العهد القديم، باعتبار أنّ لتاجه قَرنَينِ، أحدهما إلى الأَمام والآخر إلى الخلف) (1) ، هذا عَلاوة على الكثير مِن الحَفريّات التي تَدلّ على أنّ الخرائب هي آثار مدينة عامِرة وعريقة مُوغِلة في القِدَم، لم يبقَ منها سِوى خرائب وآثار قُصور وأَبنية كثيرة فَخمة بقيت الأجزاء الحجريّة منها، يَدلّك على فَخَامتها تلك الدَرَج وهي مِئة وست درجات في عَرض سبعة أَذرع تتصاعد إلى قاعة فسيحة عليها مِئة عمود من الرُخام وبعضها قائمة حتّى اليوم.

وعلى أجنحة الدَرَج تماثيل وتصاوير رجال مَنحوتة على الحَجَر وكان سرير المـَلِك يَحمله 28 مُجسّمة حجريّة، رمزاً إلى مُمَثّلي المـَمالك التي سخَّرها داريوش، وهو جالس على السرير ويرى مِن خَلفه رجل يُظنّ أنّه خشيارشا، كما عَثَر المنقّبون في

____________________

(1) ولعلّه صُنع بأَمره، تَيمّناً بما فاتَحَه دانيال من الرؤيا التي كان قد رآها وهو في أَسر البابليّين، لغت نامه دهخدا، حرف الذال، ص 11569، ذو القَرنَينِ الثاني.

٥٠٠

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578