شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم13%

شبهات وردود حول القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 578

شبهات وردود حول القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 578 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 297624 / تحميل: 13677
الحجم الحجم الحجم
شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

فتحصّنوا عنه بالحصون، وتمادى بهم التحصّن قريباً من سنة ونصف حتّى ظهر فيهم القحط والوباء.

وأصرّ بخت نصّر على المحاصرة حتّى فتح الحصون، وذلك في سنة خمسمائة وستّ وثمانين قبل المسيح، وقتل نفوسهم، وخرب ديارهم وخرّبوا بيت الله وأفنوا كلّ آية وعلامة دينيّة وبدّلوا هيكلهم تلّاً من تراب، وفقدت عند ذلك التوراة والتابوت الّذي كانت تجعل فيه.

وبقى الأمر على هذا الحال خمسين سنة تقريباً وهم قاطنون ببابل وليس من كتابهم عين ولا أثر ولا من مسجدهم وديارهم إلّا تلال ورياع.

ثمّ لمّا جلس كورش من ملوك فارس على سرير الملك وكان من أمره مع البابليّين ما كان وفتح بابل ودخله أطلق اُسراء بابل من بني اسرائيل وكان عزرا المعروف من المقرّبين عنده فأمّره عليهم وأجاز له أن يكتب لهم كتابهم التوراة ويبني لهم الهيكل ويعيدهم إلى سيرتهم الاُولى وكان رجوع عزرا بهم إلى بيت المقدس سنة أربعمائة وسبعة وخمسين قبل المسيح وبعد ذلك جمع عزرا كتب العهد العتيق وصحّحها وهي التوراة الدائرة اليوم(١) .

وأنت ترى بعد التدبّر في القصّة أنّ سند التوراة الدائرة اليوم مقطوعة غير متّصلة بموسى (عليه السلام) إلّا بواحد (وهو عزرا) لا نعرفه أوّلاً ولا نعرف كيفيّة اطّلاعه وتعمّقه ثانياً ولا نعرف مقدار أمانته ثالثاً، ولا نعرف من أين أخذ ما جمعه من أسفار التوراة رابعاً، ولا ندري بالاستناد إلى أيّ مستند صحّح الأغلاط الواقعة أو الدائرة خامساً.

وقد أعقبت هذه الحادثة المشئومة أثراً مشئوماً آخر وهو إنكار عدّة من باحثي المورّخين من الغربيّين وجود موسى وما يتبعه، وقولهم: إنّه شخص خياليّ كما قيل

____________________

(١) مأخوذ من قاموس الكتاب المقدّس تأليف مستر هاكس الامريكائي الهمداني ومآخذ اُخرى من التواريخ.

٣٤١

نظيره في المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام. لكنّ ذلك لا يسع لمسلم فإنّ القرآن الشريف يصرّح بوجوده (عليه السلام) وينصّ عليه.

٢ - قصّة المسيح والإنجيل:

اليهود مهتمون بتاريخ قوميّتهم وضبط الحوادث الظاهرة في الأعصار الّتي مرّت بهم، ومع ذلك فإنّك لو تتبّعت كتبهم ومسفوراتهم لم تعثر فيها على ذكر المسيح عيسى بن مريم (عليه السلام): لا على كيفيّة ولادته ولا على ظهوره ودعوته ولا على سيرته والآيات الّتي أظهرها الله على يديه ولا على خاتمة حياته من موت أو قتل أو صلب أو غير ذلك. فما هو السبب في ذلك؟ وما هو الّذي أوجب خفاء أمره عليهم أو إخفائهم أمره؟

والقرآن يذكر عنهم أنّهم قذفوا مريم ورموها بالبهتان في ولادة عيسى، وأنّهم ادّعوا قتل عيسى. قال تعالى:( وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً وقولهم إنّا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم وإنّ الّذين اختلفوا فيه لفي شكّ منه ما لهم به من علم إلّا اتّباع الظنّ وما قتلوه يقيناً ) النساء - ١٥٧.

فهل كانت دعواهم تلك مستندة إلى حديث دائر بينهم كانوا يذكرونه بين قصصهم القوميّة من غير أن يكون مودعاً في كتاب؟ وعند كلّ اُمّة أحاديث دائرة من واقعيّات وأساطير لا اعتبار بها ما لم تنته إلى مآخذ صحيحة قويمة.

أو أنّهم سمعوا من النصارى الذكر المكرّر من المسيح وولادته وظهوره ودعوته فأخذوا ذلك من أفواههم وباهتوا مريم، وادّعوا قتل المسيح؟ لا طريق إلى استبانة شئ من ذلك غير أنّ القرآن - كما يظهر بالتدبّر في الآية السابقة - لا ينسب إليهم صريحاً إلّا دعوى القتل دون الصلب، ويذكر أنّهم على ريب من الأمر وأنّ هناك اختلافاً.

وأمّا حقيقة ما عند النصارى من قصّة المسيح وأمر الإنجيل والبشارة فهي أنّ قصّته (عليه السلام) وما يتعلّق بها تنتهي عندهم إلى الكتب المقدّسة عندهم وهي الأناجيل الأربعة الّتي هي أناجيل متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا، وكتاب أعمال الرسل للوقا،

٣٤٢

وعدّة رسائل لبولس وبطرس ويعقوب ويوحنّا ويهودا. واعتبار الجميع ينتهي إلى اعتبار الأناجيل فلنشتغل بها:

أمّا إنجيل متّى فهو أقدم الأناجيل في تصنيفه وانتشاره ذكر بعضهم أنّه صنّف سنة ٣٨ الميلاديّة، وذكر آخرون أنّه كتب ما بين سنة ٥٠ إلى سنة ٦٠(١) فهو مؤلّف بعد المسيح.

والمحقّقون من قدمائهم ومتأخّريّهم على أنّه كان أصله مكتوباً بالعبرانيّة ثمّ ترجم إلى اليونانيّة وغيرها أمّا النسخة الأصليّة العبرانيّة فمفقودة، وأمّا الترجمة فلا يدري حالها، ولا يعرف مترجمها(٢) .

وأمّا إنجيل مرقس: فمرقس هذا كان تلميذاً لبطرس، ولم يكن من الحواريّين وربّما ذكروا أنّه إنّما كتب إنجيله بإشارة بطرس وأمره، وكان لا يرى إلهيّة المسيح(٣) ولذلك ذكر بعضهم أنّه إنّما كتب إنجيله للعشائر وأهل القرى فعرّف المسيح تعريف رسول إلهيّ مبلّغ لشرائع الله(٤) وكيف كان فقد كتب إنجيله سنة ٦١ ميلاديّة.

وأما إنجيل لوقا: فلوقا هذا لم يكن حواريّاً ولا رأى المسيح وإنّما تلقّن النصرانيّة من بولس، وبولس كان يهوديّاً متعصّباً على النصرانيّة يوذي المؤمنين بالمسيح ويقلّب الاُمور عليهم ثمّ اتّفق مفاجأة أن ادّعى أنّه صرع وفي حال الصرع لمسه المسيح ولامه وزجره عن الإساءة إلى متّبعيه وأنّه آمن بالمسيح وأرسله المسيح ليبشّر بإنجيله.

____________________

(١) قاموس الكتاب المقدّس للمستر هاكس مادّة - متى.

 (٢) كتاب ميزان الحقّ واعتراف به على تردّد في قاموس الكتاب المقدّس.

 (٣) نقل ذلك عبد الوهّاب النجّار في قصص الأنبياء عن كتاب مروج الاخبار في تراجم الاخبار لبطرس قرماج.

(٤) ذكره في قاموس الكتاب المقدّس. يقول فيه: إن نصّ تواتر السلف على أن مرقس كتب إنجيله برومية وانتشر بعد وفاة بطرس وبولس لكنّه ليس له كثير اعتبار لأن ظاهر إنجيله أنّه كتبه لأهل القبائل والقرويين لا لأهل البلاد وخاصّة الروميّة. فتدبّر في كلامه !

٣٤٣

وبولس هذا هو الّذي شيّد أركان النصرانيّة الحاضرة على ما هي عليها(١) فبني التعليم على أنّ الإيمان بالمسيح كاف في النجاة من دون عمل وأباح لهم أكل الميتة ولحم الخنزير ونهى عن الختنة وكثير ممّا في التوراة(٢) مع أنّ الإنجيل لم يأت إلّا مصدّقاً لما بين يديه من التوراة، ولم يحلّل إلّا أشياء معدودة. وبالجملة إنّما جاء عيسى ليقوّم شريعة التوراة ويردّ إليها المنحرفين والفاسقين لا ليبطل العمل ويقصر السعادة على الإيمان الخالي.

وقد كتب لوقا إنجيله بعد إنجيل مرقس. وذلك بعد موت بطرس وبولس. وقد صرّح جمع بأنّ إنجيله ليس كتاباً إلهاميّاً كسائر الأناجيل(٣) كما يدلّ عليه ما وقع في مبتدء إنجيله.

وأمّا إنجيل يوحنّا فقد ذكر كثير من النصارى أنّ يوحنّا هذا هو يوحنّا بن زبديّ الصيّاد أحد التلاميذ الإثنى عشر (الحواريّين) الّذي كان يحبّه المسيح حبّاً شديداً(٤) .

وذكروا أنّ (شيرينطوس) و(أبيسون) وجماعتهما لمّا كانوا يرون أنّ المسيح ليس إلّا إنساناً مخلوقاً لا يسبق وجوده وجود اُمّه اجتمعت أساقفة آسيا وغيرهم في سنة ٩٦

____________________

(١) راجع مادّة بولس من قاموس الكتاب المقدّس.

(٢) راجع كتاب أعمال الرسل ورسائل بولس.

(٣) قال في أوّل إنجيل لوقا:( لأجل أن كثيرين راموا كتب قصص الاُمور الّتي نحن بها عارفون كما عهد الينا اولئك الأوّلون الّذين كانوا من قبل معاينين وكانوا خداما للكلمة رأيت أنا أيضاً إذ كنت تابعا لكلّ شئ بتحقيق أن أكتب اليك أيّها العزيز ثاوفيلا) ودلالته على كون الكتاب نظريا غير إلهامي ظاهرة وقد نقل ذلك أيضاً عن مستر كدل في رسالة اللّهمّ وصرح جيروم أن بعض القدماء كانوا يشكون في البابين الأوّلين من إنجيل لوقا وأنّهما ما كانا في نسخة فرقة مارسيوني وجزم إكهارن في كتابه ص ٩٥ أن من ف ٤٣ إلى ٤٧ من الباب ٢٢ من إنجيل لوقا الحاقية وذكر إكهارن أيضاً في ص ٦١ من كتابه: قد اختلط الكذب الروائي ببيان المعجزات الّتي نقلها لوقا والكاتب ضمه على طريق المبالغة الشاعرية لكن تمييز الصدق عن الكذب في هذا الزمان عسير وقول:( كلي مي شيس أن متّى ومرقس يتخالفان في التحرير وإذا اتفقا ترجح قولهما على قول لوقا) نقل عن قصص الأنبياء للنجّار - ص ٤٧٧.

(٤) راجع قاموس الكتاب المقدّس مادّة يوحنّا.

٣٤٤

ميلاديّة عند يوحنّا والتمسوا منه أن يكتب ما لم يكتبه الآخرون في أناجيلهم ويبيّن بنوع خصوصيّ لاهوت المسيح فلم يسعه أن ينكر إجابة طلبهم(١) .

وقد اختلفت كلماتهم في السنة الّتي اُلّف فيها هذا الإنجيل فمن قائل أنّها سنة ٦٥ وقائل أنّها سنة ٩٦ وقائل أنّها سند ٩٨.

وقال جمع منهم إنّه ليس تأليف يوحنّا التلميذ: فبعضهم على أنّه تأليف طالب من طلبة المدرسة الاسكندريّة(٢) وبعضهم على أنّ هذا الإنجيل كلّه وكذا رسائل يوحنّا ليست من تصنيفه بل إنّما صنّفه بعضهم في ابتداء القرن الثاني، ونسبه إلى يوحنّا ليعتربه الناس(٣) وبعضهم على أنّ إنجيل يوحنّا كان في الأصل عشرين باباً فألحقت كنيسة (أفاس) الباب الحادي والعشرين بعد موت يوحنّا(٤) فهذه حال هذه الأناجيل الأربعة وإذا أخذنا بالقدر المتيقّن من هذه الطرق انتهت إلى سبعة رجال هم: متّى، مرقس، لوقا، يوحنّا، بطرس، بولس، يهوذا، ينتهي ركونهم كلّه إلى هذه الأناجيل الأربعة وينتهي الأربعة إلى واحد هو أقدمها وأسبقها وهو إنجيل متّى وقد مرّ أنّه ترجمة مفقود الأصل لا يدري من الّذي ترجمه؟ وكيف كان أصله. وعلى ما ذا كان يبني تعليمه أبرسالة المسيح أم باُلوهيّته.

وهذا الإنجيل الموجود يترجم أنّه ظهر في بني إسرائيل رجل يدعى عيسى بن يوسف النجّار وأقام الدعوة إلى الله، وكان يدّعي أنّه ابن الله مولود من غير أب بشريّ وأنّ أباه أرسله ليفدي به الناس عن ذنوبهم بالصلب والقتل، وأنّه أحيى الميّت وأبرء الأكمه والأبرص وشفى المجانين بإخراج الجنّ من أبدانهم، وأنّه كان له إثنا عشر تلميذاً: أحدهم متّى صاحب الإنجيل بارك لهم وأرسلهم للدعوة وتبليغ الدين المسيحيّ إلخ.

____________________

(١) نقله في قصص الأنبياء عند جرجس زوين الفتوحي اللبناني في كتابه.

 (٢) نقل ذلك من كتاب (كاتلك هر الد) في المجلد السابع المطبوع سنة ١٨٤٤ ص ٢٠٥ نقله عن استادلن (عن القصص) وأشار إليه في القاموس في مادّة يوحنّا.

 (٣) قال ذلك (بر طشنيدر) على ما نقل عن كتاب الفاروق المجلد الأوّل (عن القصص).

(٤) المدرك السابق.

٣٤٥

 فهذا ملخّص ما تنتهى إليه الدعوة المسيحيّة على انبساطها على شرق الأرض وغربها، وهو لا يزيد على خبر واحد مجهول الاسم والرسم، مبهم العين والوصف.

وهذا الوهن العجيب في مبدء القصّة هو الّذي أوجب لبعض أحرار الباحثين من اُروبه أن أدّعى أنّ المسيح عيسى بن مريم شخص خياليّ صوّره بعض النزعات الدينيّة على حكومات الوقت أو لها وتأيّد ذلك بموضوع خرافيّ آخر يشبهه كلّ الشبه في جميع شئون القصّة وهو موضوع (كرشنا) الّذي تدّعي وثنيّة الهند القديمة أنّه ابن الله نزل عن لاهوته، وفدى الناس بنفسه صلباً ليخلّصهم من الأوزار والخطايا كما يدّعى في عيسى المسيح حذو النعل بالنعل (كما سيجئ ذكره).

وأوجب لآخرين من منتقدي الباحثين أن يذهبوا إلى أنّ هناك شخصين مسمّيين بالمسيح: المسيح غير المصلوب، والمسيح المصلوب. وبينهما من الزمان ما يزيد على خمسة قرون.

وأنّ التاريخ الميلاديّ الّذي سنتنا هذه سنة الف وتسعمائة وستّة وخمسين منه لا ينطبق على واحد منهما بل المسيح الأوّل غير المصلوب يتقدّم عليه بما يزيد على مأتين وخمسين سنة وقد عاش نحواً من ستّين سنة والمسيح الثاني المصلوب يتأخّر عنه بما يزيد على مأتين وتسعين سنة وقد عاش نحواً من ثلاث وثلاثين سنة(١)

على أنّ عدم انطباق التاريخ الميلاديّ على ميلاد المسيح في الجملة ممّا لم يسع للنصارى إنكاره(٢) وهو سكتة تاريخيّة.

على أنّ هيهنا اُموراً مريبة موهمة اُخرى فقد ذكروا أنّه كتب في القرنين الأوّلين من الميلاد أناجيل كثيرة اُخرى ربّما أنهوها إلى نيّف ومائة من الأناجيل والأناجيل الأربعة منها ثمّ حرّمت الكنيسة جميع تلك الأناجيل إلّا الأناجيل الأربعة

____________________

(١) وقد فصل القول في ذلك الزعيم الفاضل (بهروز) في كتاب ألفه جديداً في البشارات النبوّية وأرجو أن أوفق لايداع شذرة منه في تفسير آخر سورة النساء من هذا الكتاب والقدر المتيقن (الّذي يهمنا منه) اختلال التاريخ المسيحي.

(٢) راجع مادّة مسيح من قاموس الكتاب المقدس.

٣٤٦

الّتي عرفت قانونيّة لموافقة متونها تعليم الكنيسة(١) .

ومن جملة الأناجيل المتروكة إنجيل برنابا الّذي ظهرت نسخة منها منذ سنين فترجمت إلى العربيّة والفارسيّة، وهو يوافق في عامّة قصصه ما قصّه القرآن في المسيح عيسى بن مريم(٢) .

ومن العجيب أنّ الموادّ التاريخيّة المأثورة عن غير اليهود أيضاً ساكتة عن تفاصيل ما ينسبه الإنجيل إلى الدعوة المسيحيّة من حديث البنوّة والفداء وغيرهما. ذكر المورّخ الإمريكيّ الشهير (هندريك ويلم وان لون) في تأليفه في تاريخ البشر كتاباً كتبه الطبيب (إسكولابيوس كولتلوس) الروميّ سنة ٦٢ الميلاديّة إلى ابن أخيه (جلاديوس أنسا) وكان جنديّاً في عسكر الروم بفلسطين، يذكر فيه أنّه عاد مريضاً بروميّة يسمّى بولس فأعجبه كلامه وقد كان بولس كلّمه بالدعوة المسيحيّة، وذكر له طرفاً من أخبار المسيح ودعوته.

ثمّ يذكر أنّه ترك بولس ولم يره حتّى سمع بعد حين أنّه قتل في طريق (أوستى) ثمّ يسأل ابن أخيه أن يبحث عن أخبار هذا النبيّ الاسرائيليّ الّذي كان يذكره بولس وعن أخبار بولس نفسه ويكتب إليه ما بلغه من ذلك.

____________________

(١) ولقد لام (شيلسوس) الفيلسوف في القرن الثاني النصارى في كتابه (الخطاب الحقيقي) على تلاعبهم بالاناجيل، ومحوهم بالغد ما أدرجوه بالامس، وفي سنة ٣٨٤ م أمر البابا داماسيوس أن تحرر ترجمة لاتينية جديدة من العهدين القديم والحديث تعتبر قانونيّة في الكنائس وكان تيودوسيس الملك قد ضجر من المخاصمات الجدلية بين الاساقفة، وتمت تلك الترجمة الّتي تسمى (فولكانا) وكان ذلك خاصّا بالاناجيل الاربعة: متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا وقد قال مرتب تلك الاناجيل: (بعد أن قابلنا عددا من النسخ اليونانية القديمة رتبناها بمعنى أننا نقحنا ماكان فيها مغايرا للمعنى، وأبقينا الباقي على ماكان عليه) ثمّ إن هذه الترجمة قد ثبتها المجمع (التريدنتيني) سنة ١٥٤٦ أي بعدها بأحد عشر قرنا، ثمّ خطأها سيستوس الخامس سنة ١٥٩٠ وأمر بطبع نسخ جديدة ثمّ خطأ كليمنضوس الثامن هذه النسخة الثانية أيضاً، وأمر بطبعة جديدة منقحة هي الدارجة اليوم عند الكاثوليكيين (تفسير الجواهر - الجزء الثاني - ص ١٢١ الطبعة الثانية).

(٢) وقد وجد هذا الانجيل بالخط الايطالي منذ سنين وترجمه إلى العربيّة الدكتور خليل سعاده بمصر وترجمه إلى الفارسيّة الحبر الفاضل (سردار كابلي) بإيران.

٣٤٧

فكتب إليه (جلاديوس أنسا) بعد ستّة أسابيع من معسكر الروم باُورشليم: أنّي سألت عدّة من شيوخ البلد ومعمّريهم عن عيسى المسيح فوجدتهم لا يحسنون مجاوبتي فيما أسألهم( هذا والسنة سنة ٦٢ ميلاديّة وهم شيوخ !) .

حتّى لقيت بيّاع زيتون فسألته هل يعرفه؟ فأنعم لي في الجواب ثمّ دلّني على رجل اسمه يوسف، و ذكر أنّه كان من أتباعه ومحبّيه وأنّه خبير بقصصه بصير بأخباره يستطيع أن يجيبك فيما تسأله عنه.

فلقيت يوسف اليوم بعد ما تفحّصت أيّاماً فوجدته شيخاً هرماً وقد كان قديماً يصطاد السمك في بعض البحيرات من هذه الناحية.

كان الرجل على كبر سنّه صحيح المشاعر جيّد الحافظة وقصّ لي جميع الأخبار والقضايا الحادثة في ذلك الأوان، أوان الاغتشاش والفتنة.

ذكر أنّ فونتيوس فيلاطوس كان حاكماً على سامرا ويهوديّه في عهد القيصر (تي بريوس).

فاتّفق أن وقع أيّام حكومته فتنة في اُورشليم فسافر فونتيوس فيلاطوس إليه لإخماد ما فيه من نار الفتنة وكانت الفتنة هي ما شاع يومئذ أنّ ابن نجّار من أهل الناصرة يدعو الناس ويستنهضهم على الحكومة.

فلمّا تحقّقوا أمره تبيّن أنّ ابن النجّار المتّهم شابّ عاقل متين لم يرتكب ما يوجب عليه سياسة غير أنّ رؤساء المذهب من اليهود كانوا يخالفونه ويباغضونه بأشدّ ما يكون وقد قالوا لفيلاطوس إنّ هذا الشابّ الناصريّ يقول: لو أنّ يونانيّاً أو روميّاً أو فلسطينيّاً عامل الناس وعاشرهم بالعدالة والشفقة كان عند الله كمن صرف عمره في مطّلعة كتاب الله وتلاوة آياته.

وكأنّ هذه التعرّضات والاقتراحات لم تؤثّر في فيلاطوس أثرها لكنّه لما سمع ازدحام الناس قبال المعبد وهم يريدون أن يقبضوا على عيسى وأصحابه ويقطّعوهم إرباً إرباً رأى أنّ الأصلح أن يقبض هو على هذا الشابّ النجّار ويسجنة حتّى لا يقتل بأيدي الناس في غوغائهم.

٣٤٨

وكان فيلاطوس لم يتّضح له سبب ما ينقمه الناس من عيسى كلّ الاتّضاح وكلّما كلّم الناس في أمره وسألهم واستوضحهم علت أصواتهم وتنادوا (هو كافر) (هو ملحد) (هو خائن) فلم ينته الأمر إلى طائل.

حتّى استقرّ رأي فيلاطوس أن يكلّم عيسى بنفسه فأشخصه وكلّمه وسأله عمّا يقصده بما يبلّغه من الدين فأجابه عيسى أنّه لا يهتمّ بأمر الحكومة والسياسة ولا له في ذلك غرض وأنّه يهتمّ بالحياة الروحانيّة أكثر ممّا يهتمّ بأمر الحياة الجسمانيّة وأنّه يعتقد أنّ الإنسان يجب أن يحسن إلى الناس ويعبد الله الفرد الواحد وحده الّذي هو في حكم الأب لجميع أرباب الحياة من المخلوقات.

وكان فيلاطوس ذا خبرة في مذاهب الرواقيّين وسائر فلاسفة يونان فكأنّه لم ير في ما كلّمه به عيسى موضع غمضة ولا محلّ مؤاخذة ولذلك عزم ثانياً أن يخلّص هذا النبيّ السليم المتين من شرّ اليهود وسوّف في حكم قتله وإنجازه.

لكنّ اليهود لم يرضوا بذلك ولم يتركوه على حاله بل أشاعوا عليه أنّه فتن بأكاذيب عيسى وأقاويله وأنّ فيلاطوس يريد الخيانة على قيصر، وأخذوا يستشهدون عليه ويسجّلون الطوامير على ذلك يريدون به عزله من الحكومة، وقد كان برز قبل ذلك فتن وانقلابات في فلسطين. والقوى المؤمّنة القيصريّة قليلة العدّة لا تقوى على إسكات الناس فيها كلّ القوّة.

وكان على الحكّام وسائر المأمورين من ناحية قيصر أن لا يعاملوا الناس بما يجلب شكواهم وعدم رضايتهم.

فلهذه الأسباب لم ير فيلاطوس بدّاً من أن يفدي هذا الشابّ المسجون للأمن العامّ، ويجيب الناس فيما سألوه من قتله.

وأمّا عيسى فإنّه لم يجزع من الموت بل استقبله على شهامة من نفسه وقد عفى قبل موته عمّن تسبّب إلى قتله من اليهود ثمّ قضى به على الصليب و الناس يسخرون منه ويشتمونه ويسبّونه.

٣٤٩

قال (جلاديوس أنسا) هذا ما قصّ لي يوسف من قصّة عيسى ودموعه تجري على خدّيه وحين ودّعني للمفارقة قدّمت إليه شيئاً من المسكوك الذهبيّ لكنّه أبى أن يأخذه، وقال لي يوجد هيهنا من هو أفقر منّي فأعطه إيّاه.

وسألته عن بولس رفيقك المعهود فما كان يعرفه معرفة تامّة. والقدر الّذي تبيّن من أمره أنّه كان رجلاً خيّاماً ثمّ ترك شغله واشتغل بالتبليغ لهذا المذهب الجديد مذهب الربّ الرؤوف الرحيم الإله الّذي بينه وبين (يهوّه) إله يهود الّذي لا نزال نسمعه من علماء اليهود من الفرق ما هو أبعد ممّا بين السماء والأرض.

والظاهر أنّ بولس سافر أوّلاً إلى آسيا الصغرى ثمّ إلى يونان وأنّه كان يقول للعبيد والأرقّاء إنّهم جميعاً أبناء لأب يحبّهم ويرأف بهم وأنّ السعادة ليست تخصّ بعض الناس دون بعض بل تعمّ جميع الناس من فقير وغنيّ بشرط أن يعاشروا على المواخاة ويعيشوا على الطهارة والصداقة انتهى ملخّصاً.

هذه عامّة فقرات هذا الكتاب ممّا يرتبط بما نحن فيه من البحث.

وبالتأمّل في جمل مضامين هذا الكتاب يتحصّل للمتأمّل أنّ ظهور الدعوة المسيحيّة كيف كان في بني إسرائيل بعيد عيسى (عليه السلام). وأنّه لم يكن إلّا ظهور دعوة نبويّة بالرسالة من عند الله لا ظهور دعوة إلهيّة بظهور اللاهوت ونزولها إليهم وتخليصهم بالفداء!

ثمّ إنّ عدّة من تلامذة عيسى أو المنتسبين إليه كبولس وتلامذة تلامذتهم سافروا بعد وقعة الصلب إلى مختلف أقطار الأرض من الهند وإفريقيّة وروميّة وغيرها وبسطوا الدعوة المسيحيّة لكنّهم لم يلبثوا دون أن اختلفوا في مسائل أصليّة من التعليم كلاهوت المسيح وكفاية الإيمان بالمسيح عن العمل بشريعة موسى وكون دين الإنجيل ديناً أصيلاً ناسخاً لدين موسى أو كونه تابعاً لشريعة التوراة مكمّلاً إيّاها(١) فافترقوا عند ذلك فرقاً.

____________________

(١) يشير إليه كتاب الرسل ووسائل بولس، وقد اعترضت به النصارى

٣٥٠

والّذي يجب الإمعان فيه أنّ الاُمم الّتي بسطت الدعوة المسيحيّة وظهرت فيها أوّل ظهورها كالروم والهند وغيرهما كانوا قبلها منتحلين بالوثنيّة الصابئة أو البرهمنيّة أو البوذائيّة وفيها اُصول من مذاق التصوّف من جهة والفلسفة البرهمنيّة من جهة وفيها جميعاً شطر وافر من ظهور اللاهوت في مظهر الناسوت. على أنّ القول بتثليث الوحدة ونزول اللاهوت في لباس الناسوت وتحمّلها الصلب(١) والعذاب فدائا كان دائراً بين القدماء من وثنيّة الهند والصين ومصر وكلدان والآشور والفرس وكذا قدماء وثنيّة الغرب كالرومان والاسكندناويّين وغيرهم على ما يوجد في الكتب المؤلّفة في الاديان والمذاهب القديمة.

ذكر (دوان) في كتابه (خرافات التوراة وما يماثلها في الأديان الاُخرى): إذا رجعنا البصر إلى الهند نرى أنّ أعظم وأشهر عبادتهم اللاهوتيّة هو التثليث ويسمّون هذا التعليم بلغتهم (ترى مورتى) وهي عبارة مركّبة من كلمتين بلغتهم السنسكريتيّة (ترى) ومعناها الثلاثة و(مورتى) ومعناها هيآت أو أقانيم وهي (برهما، وفشنو، وسيفا) ثلاثة أقانيم متّحدة لا ينفكّ عن الوحدة فهي إله واحد بزعمهم.

ثمّ ذكر: أنّ برهما عندهم هو الأب وفشنو هو الابن، وسيفا هو روح القدس.

ثمّ ذكر أنّهم يدعون سيفا (كرشنا)(٢) الربّ المخلّص والروح العظيم الّذي ولد منه (فشنو) الإله الّذي ظهر بالناسوت على الأرض ليخلّص الناس فهو أحد الأقانيم الثلاثة الّتي هي الإله الواحد.

____________________

(١) القتل بالصلب على الصليب من القواعد القديمة جدّاً فقد كانوا يقتلون من اشتدّ جرمه وفظع دنبه بالصلب الّذي هو من أشدّ أسباب القتل عذاباً وأسوئها ذكراً، وكانت الطريقة فيه أن يصنع من خشبتين تقاطع إحديهما الاُخرى ما هو على شكل الصليب المعروف بحيث ينطبق عليه إنسان لو حمل عليه ثمّ يوضع المجرم عليه مبسوط اليدين ويدق من باطن راحتيه على طرفي الخشبة المعترضة بالمسامير، وكذا تدق قدماه على الخشبة وربّما شدتا من غير دقّ ثمّ تقام الخشبة بنصب طرفها على الأرض بحيث يكون ما بين قدمه إلى الأرض ما يقرب من ذراعين فيبقى الصليب على ذلك يوماً أو أيّاماً ثمّ تكسر قدماه من الساقين ويقتل على الصليب أو ينزل فيقتل بعد الانزال، وكان المصلوب يعذب قبل الصلب بالجلد أو المثلة وكان من العار الشنيع على قوم أن يقتل واحد منهم بالصلب.

(٢) وهو المعبر عنه ابلانكليزية (كرس) وهو المسيح المخلص.

٣٥١

 وذكر أيضاً: أنّهم يرمزون للاُقنوم الثالث بصورة حمامة كما يقوله النصارى.

وقال مستر (فابر) في كتابه (أصل الوثنيّة) كما نجد عند الهنود ثالوثاً مؤلّفاً من (برهما) و(فشنو) و(سيفا) نجد عند البوذيّين ثالوثاً فإنّهم يقولون: إنّ (بوذ) إله له ثلاثة أقانيم. وكذلك بوذيو (جينست) يقولون: إنّ (جيفا) مثلّث الأقانيم.

قال: والصينيّون يعبدون بوذه ويسمّونه (فو) ويقولون إنّه ثلاثة أقانيم كما تقول الهنود.

وقال دوان في كتابه المتقدّم ذكره: وكان قسّيسوا هيكل منفيس بمصر يعبّرون عن الثالوث المقدّس للمبتدئين بتعلّم الدين بقولهم: إنّ الأوّل خلق الثاني والثاني خلق الثالث وبذلك تمّ الثالوث المقدّس.

وسأل توليسو ملك مصر الكاهن تنيشوكي أن يخبره: هل كان قبله أحد أعظم منه؟ وهل يكون بعده أحد أعظم منه فأجابه الكاهن: نعم يوجد من هو أعظم وهو الله قبل كلّ شئ ثمّ الكلمة ومعهما روح القدس ولهذه الثلاثة طبيعة واحدة، وهم واحد بالذات وعنهم صدرت القوّة الأبديّة فاذهب يا فاني يا صاحب الحياه القصيرة.

وقال بونويك في كتابه (عقائد قدماء المصريّين) أغرب كلمة عمّ انتشارها في ديانة المصريّين هي قولهم بلاهوت الكلمة، وأنّ كلّ شئ حصل بواسطتها، وأنّها منبثقة من الله، وأنّها هي الله انتهى. وهذا عين العبارة الّتي يبتدي بها إنجيل يوحنّا.

وقال (هيجين) في كتاب (الإنكلوساكسون) كان الفرس يدعون متروساً الكلمة والوسيط ومخلّص الفرس.

ونقل عن كتاب سكّان اُوروبة الأوّلين: أنّه كان الوثنيّون القدماء يقولون: إنّ الإله مثلّث الأقانيم.

ونقل عن اليونان والرومان والفنلنديّين والاسكندناويّين قضيّة الثالوث السابق الذكر وكذا القول بالكلمة عن الكلدانيّين والآشوريّين والفينيقيّين.

وقال دوان في كتابه (خرافات التوراة وما يقابلها من الديانات الاُخرى) (ص ١٨١ - ١٨٢) ما ترجمته بالتلخيص:

٣٥٢

(إنّ تصوّر الخلاص بواسطة تقديم أحد الآلهة ذبيحة فدائا عن الخطيئة قديم العهد جدّاً عند الهنود الوثنيّين وغيرهم) وذكر شواهد على ذلك:

منها قوله: يعتقد الهنود أنّ كرشنا المولود البكر - الّذي هو نفس الإلهة فشنو الّذى لا ابتداء له ولا انتهاء على رأيهم - تحرّك حنوّاً كي يخلّص الأرض من ثقل حملها فأتاها وخلّص الإنسان بتقديم ذبيحة عنه.

وذكر أنّ (مسترمور) قد صوّر كرشنا مصلوباً كما هو مصوّر في كتب الهنود مثقوب اليدين والرجلين، وعلى قميصه صورة قلب الإنسان معلّقاً، ووجدت له صورة مصلوباً وعلى رأسه إكليل من الذهب. والنصارى تقول: إن يسوع صلب وعلى رأسه إكليل من الشوك.

وقال (هوك) في ص ٣٢٦ من المجلد الأوّل من رحلته: ويعتقد الهنود الوثنيّون بتجسّد بعض الآلهة وتقديم ذبيحة فداء للناس من الخطيئة.

وقال (موريفور ليمس) في ص ٢٦ من كتابه (الهنود) ويعتقد الهنود الوثنيّون بالخطيئة الأصليّة وممّا يدلّ على ذلك ما جاء في مناجاتهم وتوسّلاتهم الّتي يتوسّلون بها بعد (الكياتري) وهو إنّي مذنب ومرتكب الخطيئة، وطبيعتي شريرة، وحملتني اُمّي بالإثم فخلّصني يا ذا العين الحندقوقيّة يا مخلّص الخاطئين من الآثام والذنوب.

وقال القسّ (جورج كوكس) في كتابه (الديانات القديمة) في سياق الكلام عن الهنود: ويصفون كرشنا بالبطل الوديع المملوء لاهوتاً لأنّه قدّم شخصه ذبيحة.

ونقل (هيجين) عن (اندارا دا الكروزوبوس) وهو أوّل اُوروبيّ دخل بلاد التيبال والتبّت: أنّه قال في الإله (اندرا) الّذي يعبدونه: أنّه سفك دمه بالصلب وثقب المسامير لكي يخلّص البشر من ذنوبهم وأنّ صورة الصلب موجودة في كتبهم.

وفي كتاب (جورجيوس) الراهب صورة الإله (اندرا) هذا مصلوباً، وهو بشكل صليب أضلاعه متساوية العرض متفاوتة الطول فالرأسيّ اقصرها - وفيه صورة وجهه - والسفلى أطولها ولو لا صورة الوجه لما خطر لمن يرى الصورة أنّها تمثّل شخصاً هذا.

٣٥٣

وأمّا ما يروى عن البوذيّين في بوذا فهو أكثر انطباقاً على ما يرويه النصارى عن المسيح من جميع الوجوه حتّى أنّهم يسمّونه المسيح، والمولود الوحيد، ومخلّص العالم ويقولون إنّه إنسان كامل وإله كامل تجسّد بالناسوت، وأنّه قدّم نفسه ذبيحة ليكفّر ذنوب البشر ويخلّصهم من ذنوبهم فلا يعاقبوا عليها، ويجعلهم وارثين لملكوت السماوات بيّن ذلك كثير من علماء الغرب: منهم (بيل) في كتابه و(هوك) في رحلته و(موالر) في كتابه تاريخ الآداب السنسكريتيّة وغيرهم.(١)

فهذه نبذة أو اُنموذجة من عقيدة تلبّس اللاهوت بالناسوت، وحديث الصلب والفداء في الديانات القديمة الّتي كانت الاُمم متمسّكين بها منكبّين عليها يوم شرعت الديانة النصرانيّة تنبسط على الأرض وأخذت الدعوة المسيحيّة تأخذ بمجامع القلوب في المناطق الّتي جال الدعاة المسيحيّون فيها فهل هذا إلّا أنّ الدعاة المسيحيّين أخذوا اُصول المسيحيّة وأفرغوها في قالب الوثنيّة واستمالوا بذلك قلوب الناس في تقبّل دعوتهم وهضم تعليمهم؟

ويؤيّد ذلك ما ترى في كلمات بولس وغيره من الطعن في حكمة الحكماء وفلسفتهم والإزراء بطرق الاستدلالات العقليّة وأنّ الإله الربّ يرجّح بلاهة الأبله على عقل العاقل.

وليس ذلك إلّا لأنّهم قابلوا بتعليمهم مكاتب التعقّل والاستدلال فردّه أهله بأنّه لا طريق إلى قبوله بل إلى تعقّله الصحيح من جهة الاستدلال فوضعوا الأساس على المكاشفة والامتلاء بالروح المقدّس فشاكلوا بذلك ما يصرّ به جهلة المتصوّفة أنّ طريقتهم طور وراء طور العقل.

ثمّ إنّ الدعاة منهم ترهبوا وجالوا في البلاد (على ما يحكيه كتاب أعمال الرسل والتواريخ) وبسطوا الدعوة المسيحيّة واستقبلتهم في ذلك العامّة في شتات البلاد، كان من سرّ موفّقيّتهم وخاصّة في إمبراطوريّة الروم هي الضغطة الروحيّة الّتي عمّت

____________________

(١) يجد القارئ هذه المنقولات في تفسير المنار - الجزء السادس في تفسير النساء وفي دوائر المعارف وفي كتاب العقائد الوثنيّة في الديانة النصرانيّة وغيرها.

٣٥٤

البلاد من فشوّ الظلم والتعدّي، وشمول أحكام الاسترقاق والاستعباد، والبون البعيد في حياة الطبقة الحاكمة والمحكومة والآمرة والمأمورة والفصل الشاسع بين عيشة الاغنياء وأهل الإتراف والفقراء والمساكين والأرقّاء.

وقد كانت الدعاة تدعو إلى المواخاة والمحابّة و التساوي والمعاشرة الجميلة بين الناس ورفض الدنيا وعيشتها الكدرة الفانية والاقبال على الحياة الصافية السعيدة الّتي في ملكوت السماء ولهذا بعينه ما كان يعني بحالهم الطبقة الحاكمة من الملوك والقياصرة كلّ العناية، ولا يقصدونهم بالأذى والسياسة والطرد.

فلم يزالوا يزيدون عدداً من غير تظاهر وتنافس وينمون قوّة وشدّة حتّى حصل لهم جمّ غفير في إمبراطوريّة الروم وإفريقيّة والهند وغيرها من البلاد. ولم يزالوا كلّما بنوا كنيسة وفتحوا بابها على وجوه الناس هدموا بذلك واحداً من بيوت الأوثان وأغلقوا بابه.

وكانوا لا يعتنون بمزاحمة رؤساء الوثنيّة في هدم أساسهم، ولا بملوك الوقت وحكّامه في التعالي عن خضوعهم وفي مخالفة أحكامهم ودساتيرهم وربّما كان ذلك يؤدّيهم إلى الهلاك والقتل والحبس والعذاب فكان لا تزال تقتل طائفة وتسجن اُخرى وتشرّد ثالثة.

وكان الأمر على هذه الصفة إلى أوان ملك القيصر (كنستانتين) فآمن بالملّة المسيحيّة وأعلن بها فأخذ التنصّر بالرسميّة وبنيت الكنائس في الروم وما يتبع إمبراطوريّته من الممالك وذلك في النصف الأخير من القرن الرابع الميلاديّ.

تمركزت النصرانيّة يومئذ في كنيسة الروم وأخذت تبعث القسّيسين إلى أكناف الأرض من البلاد التابعة يبنون الكنائس والديرات ومدارس يدرسون بها التعليم الإنجيليّ.

والّذي يجب إلتفات النظر إليه أنّهم وضعوا البحث على اُصول مسلّمة إنجيليّة فأخذوا التعاليم الإنجيليّة كمسألة الأب والابن والروح، ومسألة الصلب والفداء وغير ذلك اُصولاً مسلّمة وبنوا البحث والتنقير عليها.

٣٥٥

وهذا أوّل ما ورد على أبحاثهم الدينيّة من الوهن والوهي فإنّ استحكام البناء المبنيّ وإن بلغ ما بلغ واستقامته لا يغني عن وهن الأساس المبنيّ عليه شيئاً وما بنوا عليه من مسألة تثليث الوحدة والصلب والفداء أمر غير معقول.

وقد اعترف عدّة من باحثيهم في التثليث بأنّه أمر غير معقول لكنّهم اعتذروا عنه بأنّه من المسائل الدينيّة الّتي يجب أن تقبل تعبّداً فكم في الأديان من مسألة تعبديّة تحيلها العقول.

وهو من الظنون الفاسدة المتفرّعة على أصلهم الفاسد، وكيف يتصوّر وقوع مسألة مستحيلة في دين حقّ؟ ونحن إنّما نقبل الدين ونميّز كونه دين حقّ بالعقل وكيف يمكن عند العقل أن تشتمل العقيدة الحقّة على أمر يبطله العقل ويحيله؟ وهل هذا إلّا تناقض صريح؟

نعم يمكن أن يشتمل الدين على ممكن يخرق العادة الجارية، والسنّة الطبيعيّة القائمة، وأمّا المحال الذاتيّ فلا البتّة.

وهذا الطريق المذكور من البحث هو الّذي أوجب وقوع الخلاف والمشاجرة بين الباحثين المتفكّرين منهم في أوائل انتشار صيت النصرانيّة وانكباب المحصّلين على الأبحاث المذهبيّة في مدارس الروم والإسكندريّة وغيرهما.

فكانت الكنيسة تزيد كلّ يوم في مراقبتها لوحدة الكلمة وتهيّئ مجمعاً مشكّلاً عند ظهور كلّ قول حديث وبدعة جديدة من البطارقة والأساقفة لإقناعهم بالمذهب العامّ وتكفيرهم ونفيهم وطردهم وقتلهم إذا لم يقنعوا.

وأوّل مجمع عقدوه مجمع نيقيه لمّا قال أريوس: إنّ اُقنوم الابن غير مساو لاُقنوم الأب وإنّ القديم هو الله والمسيح مخلوق.

اجتمعت البطارقة والمطارنة والأساقفة في قسطنطينيّة بمحضر من القيصر كنستانتين وكانوا ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلاً واتّفقوا على هذه الكلمة( نؤمن بالله الواحد الأب مالك كلّ شئ وصانع ما يرى وما لا يرى وبالابن الواحد يسوع المسيح

٣٥٦

ابن الله الواحد، بكر الخلائق كلّها، وليس بمصنوع، إله حقّ من إله حقّ، من جوهر أبيه الّذي بيده اُتقنت العوالم وكلّ شئ، الّذي من أجلنا ومن أجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسّد من روح القدس، وولد من مريم البتول، وصلب أيّام فيلاطوس، ودفن، ثمّ قام في اليوم الثالث، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين أبيه، وهو مستعدّ للمجئ تارة اُخرى للقضاء بين الأموات والأحياء ونؤمن بروح القدس الواحد، روح الحقّ الّذي يخرج من أبيه، وبمعموديّة(١) واحدة لغفران الخطايا، وبجماعة واحدة قدسيّة مسيحيّة - جاثليقيّة وبقيام أبداننا(٢) والحياة أبد الآبدين(٣) ) .

هذا هو المجمع الأوّل، وكم من مجمع بعد ذلك عقدوه للتبرّي عن المذاهب المستحدثة كمذهب النسطوريّة واليعقوبيّة والأليانيّة واليليارسيّة و المقدانوسيّة والسباليوسيّة والنوئتوسيّة والبولسيّة وغيرها.

ومع هذا كانت الكنيسة تقوم بالواجب من مراقبتها، ولا تتوانى ولا تهن في دعوتها وتزيد كلّ يوم في قوّتها وسيطرتها حتّى وفّقت لجلب سائر دول اُوروبه إلى التنصّر كفرنسا و الإنجليز والنمسا والبروس والإسبانيا والبرتغال والبلجيك وهولاندا وغيرهم إلّا الروسيا أواخر القرن الخامس الميلاديّ سنة ٤٩٦.

ولم تزل تتقدّم وترتقي الكنيسة من جانب، ومن جانب آخر كانت تهاجم الاُمم الشماليّة والعشائر البدويّة على الروم، والحروب والفتن تضعّف سلطنة القياصرة،

____________________

(١) المراد بالمعمودية طهارة الباطن وقداسته.

(٢) أورد عليه أنّه يستلزم القول بالمعاد الجسمانيّ والنصارى تقول بالمعاد الروحانيّ كما يدلّ عليه الانجيل وأظنّ أنّ الانجيل إنّما يدلّ على عدم وجود اللذائذ الجسمانيّة الدنيويّة في القيامة وأمّا كون الإنسان روحاً مجرّداً من غير جسم فلا دلالة فيه عليه بل يدلّ على أنّ الإنسان يصير في المعاد كالملائكة لا ازدواج بينهم وظاهر العهدين أنّ الله سبحانه وملائكته جميعاً أجسام فضلا عن الإنسان يوم القيامة.

(٣) الملل والنجل للشهرستاني.

٣٥٧

وآل الأمر إلى أن أجمعت أهل الروم والاُمم المتغلّبة على إلقاء زمام اُمور المملكة إلى الكنيسة كما كانت زمام اُمور الدين بيدها فاجتمعت السلطنة الروحانيّة والجسمانيّة لرئيس الكنيسة اليوم وهو (البابا جريجوار) وكان ذلك سنة ٥٩٠ الميلاديّة.

وضارت كنيسة الروم لها الرئاسة المطلقة للعالم المسيحيّ غير أنّ الروم لمّا كانت انشعبت إمبراطوريّته إلى الروم الغربيّ الّذي عاصمتها رومة، والروم الشرقيّ الّذي عاصمتها قسطنطينيّة كانت قياصرة الروم الشرقيّ يعدّون أنفسهم رؤساء دينيّين لمملكتهم من غير أن يتّبعوا كنيسة روما وهذا مبدأ انشعاب المسيحيّة إلى الكاثوليك، أتباع كنيسة روما والأرثوذوكس وهم غيرهم.

وكان الأمر على ذلك حتّى إذا فتحت قسطنطينيّة بيد آل عثمان، وقتل القيصر (بالي اُولوكوس) وهو آخر قياصرة الروم الشرقيّ وقسّيس الكنيسة اليوم (قتل في كنيسة(أياصوفيا)).

وادّعى وراثة هذا المنصب الدينيّ أعني رئاسة الكنيسة قياصرة روسيا لقرابة سببيّة كانت بينهم وبين قياصرة الروم، وكانت الروس تنصّرت في القرن العاشر الميلاديّ فصارت ملوك روسيا قسّيسي كنيسة أرضهم غير تابعة لكنيسة رومة، وكان ذلك سنة ١٤٥٤ الميلاديّة.

وبقي الأمر على هذا الحال نحواً من خمسة قرون حتّى قتل (تزار نيكولا) وهو آخر قياصرة الروسيا قتل هو وجميع أهل بيته سنة ١٩١٨ الميلاديّة بيد الشيوعيّين فعادت كنيسة رومة تقريباً إلى حالها قبل الانشعاب.

لكنّ الكنيسة في أثر ما كانت تحاول رؤسائها السلطة على جميع جهات حياة الناس في القرون الوسطى الّتي كانت الكنيسة فيها في أوج ارتقائها وإرتفاعها ثار عليها جماهير من المتديّنين تخلّصاً من القيود الّتي كانت تحملها عليهم الكنيسة.

فخرجت طائفة عن تبعيّة أحكام رؤساء الكنيسة والباباوات وطاعتهم مع البقاء على طاعة التعليم الإنجيليّ على ما يفهمه مجامعهم، ويقرّره اتّفاق علمائهم وقسّيسهم وهؤلاء هم الأرثوذكس.

٣٥٨

 وطائفة خرجت عن متابعة كنيسة رومة أصلاً فليسوا بتابعين في التعليم الإنجيليّ لكنيسة رومة ولا معتنين للأوامر الصادرة منها وهؤلاء هم البروتستانت.

فأنشعب العالم المسيحيّ اليوم إلى ثلاث فرق: الكاثوليك وهي التابعة لكنيسة رومة وتعليمها والاُورثوذكس وهي التابعة لتعليم الكنيسة دون نفسها وقد حدثت شعبتهم بحدوث الانشعاب في الكنيسة وخاصّة بعد انتقال كنيسة قسطنطينيّة إلى مسكو بالروسيا (كما تقدّم) والبروتستانت وهي الخارجة عن تبعيّة الكنيسة وتعليمها جميعاً. وقد استقلّت طريقتهم وتظاهرت في القرن الخامس عشر الميلاديّ.

هذا إجمال ما جرى عليه الدعوة المسيحيّة في زمان يقرب من عشرين قرناً والبصير بالغرض الموضوع له هذا الكتاب يعلم أنّ القصد من ذكر جمل تاريخهم:

أوّلا: أن يكون الباحث على بصيرة من التحوّلات التاريخيّة في مذهبهم والمعاني الّتي يمكن أن تنتقل إلى عقائدهم الدينيّة بنحو التوارث أو السراية أو الانفعال بالامتزاج أو الإلف والعادة من عقائد الوثنيّة والأفكار الموروثة منهم أو المأخوذة عنهم.

وثانياً: أنّ اقتدار الكنيسة وخاصّة كنيسة رومة بلغ بالتدريج في القرون الوسطى الميلاديّة إلى نهاية أوجه حتّى كانت لهم سيطرة الدين والدنيا وانقادت لهم كراسيّ الملك بأوربه فكان لهم عزل من شاءوا ونصب من شاءوا(١) .

يروى أنّ البابا مرّة أمر إمبراطور آلمانيا أن يقف ثلاثة أيّام حافياً على باب قصره في فصل الشتاء لزلّة صدرت منه يريد ان يغفرها له(٢) .

ورفس البابا مرّة تاج الملك برجله حيث جائه جاثياً يطلب المغفرة(٣) .

وقد كانوا وصفوا المسلمين لأتباعهم وصفاً لم يدعهم إلّا أن يروا دين الإسلام دين الوثنيّة يستفاد ذلك من الشعارات والأشعار الّتي نظموها في استنهاض النصارى و

____________________

(١) الفتوحات الإسلاميّة.

(٢) المدرك السابق.

(٣) المدرك السابق.

٣٥٩

تهييجهم على المسلمين في الحروب الصليبيّة الّتي نشبت بينهم وبين المسلمين سنين متطاولة.

فإنّهم كانوا(١) يرون أنّ المسلمين يعبدون الأصنام وأنّ لهم آلهة ثلاثة أسماؤها على الترتيب (ماهوم) ويسمّى بافوميد وماهومند وهو أوّل الآلهة وهو (محمّد) وبعده (ايلين) وهو الثاني وبعده (ترفاجان) وهو الثالث وربّما يظهر من بعض كلماتهم أنّ للمسلمين إلهين آخرين وهما (مارتوان) و(جوبين) ولكنّهما بعد الثلاثة المتقدّمة رتبة وكانوا يقولون: إنّ محمّداً بنى دعوته على دعوى الاُلوهيّة وربّما قالوا: إنّه كان اتّخذ لنفسه صنماً من ذهب.

وفي أشعار ريشار الّتي قالها لاستنهاض الإفرنج على المسلمين: (قوموا وقلّبوا ماهومند وترفاجان وألقوهما في النار تقرّباً من إلهكم).

وفي أشعار رولان في وصف (ماهوم) إله المسلمين: (إنّه مصنوع تامّاً من الذهب والفضّة ولو رأيته أيقنت أنّه لا يمكن لصانع أن يصوّر في خياله أجمل منه ثمّ يصنعه عظيمة جثّته جيّدة صنعته وفي سيمائه آثار الجلالة ظاهرة ماهوم مصنوع من الذهب والفضّة يكاد سنا برقه يذهب بالبصر. وقد اُقعد على فيل هو من أحسن المصنوعات وأجودها بطنه خال وربّما أحسّ الناظر من بطنه ضوءاً هو مرصّعة بالأحجار الثمينة المتلالئة، يرى باطنه من ظاهره ولا يوجد له في جودة الصنعة نظير.

ولمّا كانت آلهة المسلمين يوحون إليهم في مواقع الشدّة وقد انهزم المسلمون في بعض حروبهم بعث قائد القوم واحداً في طلب إلههم الّذي كان بمكّة (يعني محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم)). يروي بعض من شاهد الواقعة: أنّ الإله (يعني محمّداً) جائهم وقد أحاط به جمّ غفير من أتباعه وهم يضربون الطبول والعيدان والمزامير والبوقات المعمولة من فضّة ويتغنّون ويرقصون حتّى أتوا به إلى المعسكر بسرور وترح ومرح، وقد كان خليفته منتظراً لقدومه فلمّا رآه قام على ساقه، واشتغل بعبادته بخضوع وخشوع.

____________________

(١) هذا وما بعده إلى آخر الفصل منقول عن ترجمة كتاب (هنري دوكاستري) في الديانة الإسلاميّة الفصل الأوّل منه.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

مَشهودَةً للعرب المـُعاصِر لنُزول القرآن في رحلاتهم إلى الشام صباحاً ومساءً ( وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْل ِ ) (١) ، يَرَوَن دِيارَهم التي عَفَت وأَضحت خَراباً يَباباً! أَلا فليَعتَبِروا ويَحذَروا أنْ يُصيبَهم مِثل ما أَصابهم، إنْ تَمادَوا في الغيّ والضَّلال البعيد!

أصحاب الكهف والرقيم!

قصّةُ أصحاب الكهف، تَعرض نَموذجاً للإيمان في النُفوس المـُؤمنة، كيف تَطمئِنُّ به، وتُؤثِرُه على زينة الأرض ومتاعها، وتَلجَأَُ به إلى الكهف حين يَعُزّ عليها أنْ تَعيش به مع الناس، وكيف يَرعى الله هذه النُفُوس المـُؤمنة، ويَقيها الفِتنة، ويَشملها بالرحمة.

وفي القصّة روايات شتّى وأَقاويل كثيرة، فقد وَرَدَت في بعض الكُتُب القديمة وفي الأساطير بصور شتّى، ولكن يَجب الوقوف فيها عند حدِّ ما جاء في القرآن، فهو المـَصدر الوحيد المـُستَيقَن، ولتُطرح سائر الروايات والأساطير التي اندسّتْ في التفاسير بِلا سندٍ، وبخاصّة أنّ القرآن الكريم قد نَهى عن استفتاءِ أحدٍ فيهم، وعن المِراء والجَدل رَجماً بالغيب ( فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاّ مِرَاءً ظَاهِراً وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِم مِنْهُمْ أَحَداً ) (٢) .

والكهف: المـَغارَة الواسعة، والرقيم، قيل: إنّه مُعرَّب (أركه = Arke ) اليونانيّة أحد أسماء مدينة (بطرا) (٣) هي قَصَبَة الأَنباط، كانت مدينةً صخريّةً قائمةً في مُستوٍ من الأرض، تُحيط بها الصُّخور كالسُّور المـَنيع، وهي واقعة في (وادي موسى) عند مُلتَقى طُرُق القوافل بين (تدمر) و (غزّة).

وقد عَمُرَت في إبّان دولة الأَنباط وكَثُرَت فيها الأَبنية، فلمـّا ذهبت الدولة تَخَرَّب مُعظمُها، وبقيَ منها إلى الآن أَطلال لا تَفنيها الأيّام ولا يؤثِّر فيها الإقليم، منها (خزنة فرعون) وهي بِناء شامخ مَنقور في صَخرٍ ورديّ اللّون، على وِجهتِه نُقُوش وكتابات بالقلم النَّبطي، وبجانبها مسرح مَنقور في الصَّخر أيضاً، ويُستطَرق مِن هناك إلى

____________________

(١) الصافات ٣٧: ١٣٧ - ١٣٨.

(٢) الكهف ١٨: ٢٢.

(٣) يقول عنها العرب: البَتراء، مدينة أثريّة في الأُردن، هي سَلْع القديمة أو الصخرة، أَهم آثارها قَصرُ فرعون والبوّابة الأثريّة والمـَسرح الكبير وقبور بيترا وهيجرا.

٤٦١

سَهلٍ واسع فيه عَشَرات من الكُهوف الطبيعيّة أو المـَنقورة، ولبعضها وِجهات مَنقوشة وجُدران أَكثرُها ظُهوراً مكان يُقال له (الدير)، وكانت هذه الكُهوف مساكن الحوريّين القُدماء، ويَلجأَُ إليها اليوم بعضُ المارّة، فِراراً مِن المـَطر أو البَرد.

ومدينة بطرا، أو الرقيم أنشأها الأنباط - في الجنوب الشرقي من فلسطين - مدينة عربيّة قَبْلَ القَرن الرابع قبل الميلاد، وظلّت قائِمةً إلى أَوائل القَرن الثاني بعده، إذ دَخَلت في حَوزة الرّومان سنة ١٠٦ م.

وبطرا لفظ يوناني معناه الصَّخر، وقد سُمّي البلد بذلك؛ لأنّ مبانيَه مَنحوتةٌ في الصَّخر، واسمها القديم سَلْع وسالع، ويعني أيضاً الصَّخر، ولا زالت أَطلالُه إلى اليوم في وادي موسى في الأُردن، ويُسمّى أيضاً وادي السيق.

والعرب شاهَدوا آثارَ هذه المدينة بعد الإسلام وسَمّوها (الرقيم) وهو تعريبُ أَحد أسمائها اليونانيّة؛ لأنّ اليونانيّين كانوا يُسمّونها أركه - كما تقدّم - فحرّفه العرب وقالوا: الرقيم (١) .

وقال المقريزي في عَرْضِ كلامِه عن التَيه: (إنّ بعضَ المـَماليك البحريّة هَرَبوا من القاهرة سنة ٦٥٢ هـ فمرّت طائفةٌ منهم بالتَيه فَتاهوا خَمسَةَ أيّامٍ، ثُمّ تراءى لهم في اليوم السادس سوادٌ على بُعْدٍ فَقَصَدوه، فإذا مدينة عظيمة لها سُور وأبواب كلّها من رُخَام أخضر، فَدَخلوا بها وطَافوا، فإذا هي قد غَلَب عليها الرَّمل حتّى طمَّ أَسواقَها ودُورَها، ووجدوا بها أواني ومَلابِس.

وكانوا إذا تَنَاولوا منها شيئاً تَناثر مِن طُول البِلى، وَوَجدوا في صينيّة بعض البزّازينَ تِسعةَ دنانير ذهباً عليها صورة غَزال وكتابة عِبرانيَة، وحَفَروا مَوضعاً فإذا حَجَر على صهريجِ ماءٍ، فشربوا ماءً أَبرد مِن الثلج، ثُمّ خَرَجوا ومَشوا ليلةً فإذا بطائفة من العُربان، فحَملوهم إلى مدينة الكرك، فدفعوا الدنانير لبعض الصيارِفة... ودفع لهم في كلِّ دينار مِئة درهم... وقيل لهم: إنّ هذه المدينة لها طُوفان رَمل يزيد تارة ويَنقص أخرى

____________________

(١) العرب قبل الإسلام، ص ٨٣ - ٨٤.

٤٦٢

لا يراها إلاّ تائِهٌ (١) .

ولعلّ في هذا الوَصْفِ اختلاطاً للحقيقة بالخيال، وأنّ المماليك شاهدوا أَطلال بطرا - كما احتمله زيدان - وَوَجَدوا الدنانير، إمّا مِن ضَرْبِ اليهود أو النبطيّينَ، وقد زَارَ المدينة غير واحد من المـُستشرقينَ في القَرن الماضي (١٩) وقرأوا ما عليها من نقوش نبطيّة (٢) .

مَن هُم أصحاب الكهف؟

قد ذَكَر المـُؤرِّخونَ والمـُفسِّرونَ عن أهل الكهف شيئاً كثيراً، أَورده الطبري في التأريخ وفي تفسيره، ويتّفق أكثر الروايات على القول بأنّ عدداً من الفتية نَبَذوا عبادةَ الأوثان واعتنقوا التوحيدَ في مدينة (أَبْسُس) (٣) ثُمّ فَرّوا مِن تلك المدينة وأَوَوا إلى كهفٍ وكان معهم كَلب عَجَزوا عن إبعاده، وناموا في هذا الكهف، ثُمّ جاء المـَلِك الوَثَني داقيوس (ويُسمّى أيضاً داقينوس وداقيانوس) ومعه أَتباعُه للقبض عليهم، ولكن لم يستطع أيُّ واحدٍ منهم دُخولَ الكهفِ، فَبَنَوا عليهم بابَ الكهفِ؛ ليموت الفتية جُوعاً وعَطشاً، ونَسيَ الناسُ أمرَهم بعد ذلك.

وفي يوم من الأيّام بَعَثَ أحدُ الرُّعاةِ برجاله وأَمَرَهم بفتحِ فَمِ الغار ليتّخذه حَظيرةً لغنمِهِ، ولمـّا دخلوا لمـَ يَروا أَوّل الأمر الفتيةَ الذين بَعثهم الله في الأَجل الذي ضَرَبه ليَقظَتِهم، وعندما استيقظوا كانوا لا يَزالون يَملؤُهم الفَزَعُ والرُّعبُ مِن الخَطر الذي نَجَوا منه، فَعَمدوا إلى الحِيطة وبعثوا بأَحدهم إلى المدينة ليشتري لهم طعاماً، ولم يَعرف بائعُ الطعام النقود التي دفعها إليه الفتى، فَسَاقَه إلى المـَلِك وهناك تبيّن كلّ شيء: فقد نام الفتية ثلاثمِئة سَنة وتسعاً، وكانت الوثنيّة قد انقرضت خلال هذه المـُدَّة وحلّ محلّها التوحيد، وفَرِح المـَلِك بأصحاب الكهف فَرَحاً عظيماً؛ لأنّ بَعْثَهُم أَيّدَ عقيدةً دينيّةً كان البعض يَشكّ في صحّتها، وهي أنّ الناس يُبعثون كما هم بالجَسَد والروح معاً.

____________________

(١) الخطط المقريزيّة، ج ١، ص ٣٧٦.

(٢) العرب قبل الإسلام، ص ٨٥.

(٣) بلدة رومانيّة من ثغور طرسوس بين حلب وأنطاكية.

٤٦٣

ولم يَكد الفتى يعود إلى الكهف ثانيةً حتى ضَرَب الله على آذانهم مرّةً أخرى، فجاء الناس وشَيَّدوا هناك - على المـَغارة - مَسجِداً، تَبرُّكاً بهم.

* * *

وهنا عدة أسئلة أخرى:

ما هي تلك المدينة التي هَرَب منها الفتية ولَجأُوا إلى الكهف؟

يقول ابن عاشور: والذي ذَكَره الأكثر أنّ في بَلدٍ يُقال له: (أَبْسُس) - بفتح الهمزة وسكون الباء وضمّ السين، بعدها سين أخرى - وكان بَلداً مِن ثُغور طرسوس (١) بين حَلَب وبلاد أرمينيّة وأنطاكيّة.

قال: وليست هي (أفسس) بالفاء، المعروفة في بلاد اليونان بشُهرةِ هَيكَلِ المـُشتري فيها، فإنّها من بلاد اليونان، وقد اشتبه ذلك على بعض المـُؤرِّخينَ والمـُفسِّرين، وهي قريبة من (مَرْعَش) (٢) مِن بلادٍ أرمينيّة (٣) .

وأَبْسُس هذه هي مدينة (عَرْبَسُوس) (٤) القديمة في (كبادوشيا)، وكانت تُسمّى أيضاً (أَبْسُس)، وتُسمّى اليوم (بربوز) (٥) .

فهل كانت مدينة (أَبْسُس) هذه هي المـَسرح الذي وَقَعت فيه تلك الحوادث بما فيها مِن غرائبٍ؟

أمّا (ده غوى) فيُؤيِّد هذا الرأي مُعتَمِداً على براهين اسمتدّها مِن النُصوص، وفي الحقّ إنّ بعض الرَحّالة قالوا: إنّهم رَأَوا في مدينة (أَبْسُس) هذه كَهفاً كان به جُثَث ثلاثة عشر رجلاً قد يَبِسَت (٦) .

قال ياقوت: أَبْسُس، اسم لمدينةٍ خراب قُرب (أَبُلُسْتَين) من نواحي الروم، يُقال:

____________________

(١) مدينة في جنوبيّ تركيا الآسيويّة (قيليقيا)، وفيها وُلِد بولس وَفَتَحها المأمون سنة ٧٨٨ م وفيها دُفن.

(٢) مدينة في جنوب تركيا على حدود سوريّة.

(٣) تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور، ج ١٥، ص ٢١.

(٤) عَرْبَسُوس: بلد من نواحي الثُغور قُرب المِصْيَصة (مدينة على شاطئ نهر جيحان قُرب طَرَسوس - تركيا).

(٥) دائرة المعارف الإسلاميّة المـُتَرجَمة، ج ٢، ص ٢٤٢.

(٦) ليس في ذلك دليل؛ لأنّ العُثور على جُثَث مُتَيبِّسة في الكُهوف، كان أمراً شائِعاً ذلك العَهد، وَوُجِد من ذلك الكثير وليس هذا وحده.

٤٦٤

منها أصحاب الكهف والرقيم، وقيل: هي مدينة دقيانوس، وفيها آثار عجيبة مع خَرابِها (١) .

وفوقَ هذا فقد تَضمَّنت مجموعةُ النُصوص المـُتعلّقة بتأريخ السَّلاجقة ما يَنصّ على أنّ (عَرْبَسوس) هي مدينة أصحاب الكهف والرقيم، وربّما كان اكتشاف هذه الجُثث الثلاث عشرة هو الأصل لهذا القول، ثُمّ حَرَّف الناسُ (أبسس) فيما بعد إلى (أفسس)! (٢) .

وقيل: هي البتراء (بطرا) مدينة أَثريّة في الأُردن وفيها المـَسرح الكبير، حسبما تَقدّم، ولعلّه المـُراد فيما أُثِر عن ابن عباس، قال: الرقيم، وادٍ دونَ فلسطين قريب من أيلة (٣) .

* * *

متى كان هذا الهُروب واللجوء؟

والأكثر على أنّه كان بعد ظُهور النصرانيّة ولعلّه في بدايتها، كانت الدِّيانة النصرانيّة دَخَلت في تلك الجِهات، وكان الغالب عليها دين عبادة الأوثان على الطريقة الروميّة الشرقيّة قبل تَنْصُّر قسطنطين، فكان مِن أهلِ (أَبْسُس) نفرٌ مِن صالحي النصارى يُقاومون عبادة الأصنام، وكانوا في زَمن الإمبراطور (دقيانوس) الذي مَلَك في حُدود سنة ٢٣٧ م، وكان مُتعصِّباً للديانة الرومانيّة وشديد البُغْض للنصرانيّة؛ ولذلك تَوعَّدهم بالتعذيب، فاتّفقوا على أنْ يَخرجوا من المدينة إلى جبلٍ بينه وبين المدينة فَرسخان يقال له: (بنجلوس) أو (أنخيلوس).

وتقول الروايات: إنّ المـَلِك الوَثني الذي اضطهدَ النصارى كان يُسمّى (داقيوس) الذي مَلَك مابين (٢٤٩ - ٢٥١ م)، أمّا المـَلِك النصراني الذي بُعِث الفتية في عهده فهو المـَلِك (تيودوس) الثاني (٤٠٨ - ٤٥٠ م)، فتكون مدّة مُكُوثِهم في الكهف ما يَقرُب من (٢٠٠) سنة، وهذا لا يتّفق مع ما وَرَد في القرآن مِن أنّ أصحاب الكهف ( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً ) ! (٤)

____________________

(١) مُعجم البُلدان، ج ١، ص ٧٣.

(٢) دائرة المعارف الإسلاميّة المـُتَرجَمة، ج٢، ص ٢٤٣.

(٣) الدُرّ المنثور، ج ٥، ص ٣٦٢. وأيلة: ميناء أُردني في شمال العَقبة على البحر الأحمر يقوم على أنقاض أيلة الرومانيّة.

(٤) الكهف ١٨: ٢٥، راجع: دائرة المعارف الإسلاميّة المـُتَرجَمة، ج ٢، ص ٢٤٢.

٤٦٥

يقول الدكتور عبد الوهّاب النجّار - مُعلِّقاً على ذلك في الهامش -: الذي أُلاحِظُه، أنّ عبارة دائرة المعارف الإسلاميّة كعبارة أكثر المـُفسّرينَ، تَعتَبِر أنّ قوله تعالى ( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً ) خبر عن مُدّة مَكثِ أهل الكهف في كهفهم مُنذ دَخَلوه إلى أنْ استيقظوا!

ولكنّي أفهم غير ذلك وأقول: إنّ قوله (ولبثوا...) معمولٌ لقوله (سيقولون ثلاثة...) فهو مِن مَقول السائلينَ وليس خبراً من الله تعالى، ولذا أُتبع ذلك القول بقوله ( قُل رَبّي أَعْلَمُ بِعِدّتِهِم مَا يَعْلَمُهُمْ إِلاّ قَلِيلٌ ) ، وكذا هنا أُتبع قوله ( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ... ) بقوله ( اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السّماوَاتِ وَالأَرْضِ... ) .

فالقرآن ساكت عن عَدَدِهم وكذا عن مِقدار لَبْثِهم؛ إذ لا غَرض يترتب على الهدف الذي سَاقَه القرآن.

وقد وَرَد هذا القول عن ابن عباس وتلميذِه قتادة.

قال ابن عباس: إنّ الرجل لَيُفسّر الآية يَرى أنّها كذلك، فَيَهوي أبعد ما بين السماء والأرض!

ثُمّ تلا: ( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ... ) قال: لو كانوا لَبِثوا كذلك لم يَقُل الله: ( قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا ) ، لكنّه حكى مَقالةَ القوم في العَدَد وفي المـُدّة، وردَّ عليهم بأنّه تعالى أَعلم.

وقال قتادة: في حرف (أي قراءة) ابن مسعود: ( وقالوا لبثوا في كهفهم... ) يعني إنّما قالَهُ الناس، أَلا ترى أنّه قال: ( قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا ) .

وفي رواية أُخرى عنه أيضاً: هذا قولُ أهل الكتاب، فردَّ الله عليهم ( قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا ) (١) .

* * *

قلت: قصّة أصحاب الكهف، حَسبما جاءت في القرآن، قصّة قديمة مُوغِلة في القِدَم، يَرجع عَهدُها إلى ما قَبلَ الميلاد، ولعلّه بقُرون، ولأنّها بقضيّة يهوديّة أشبه منها أن تكون قضيّة مسيحيّة.

____________________

(١) الدرّ المنثور، ج ٥، ص ٣٧٩.

٤٦٦

روى مُحمّد بن إسحاق بإسناده إلى سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس، قال: إنّ النضر بن الحرث بن كلدة وعقبة بن أبي معيط، أَنفَذَهُما قريش إلى أَحبار اليهود بالمدينة، وقالوا لهما: سَلاهم عن مُحمّد، وَصِفا لهم صفته، وَخَبِّراهم بقوله، فإنّهم أهلُ الكتاب الأَوّل وعندهم من عِلم الأنبياء ما ليس عندنا، فَخَرجا حتّى قَدِما المدينة فَسَأَلا أَحبار اليهود عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وقالا لهم ما قالت قريش.

فقالَ لهما أَحبار اليهود: اسأَلوه عن ثلاث، فإنْ أَخبَرَكم بهنّ فهو نبيّ مُرسَل، وإنْ لم يَفعل فهو رجل مُتقوِّل، فَرَأُوا فيه رأَيَكم، سَلُوه عن فتية ذَهَبوا في الدهر الأَوّل، ما كان أَمرُهم؟ فإنّه قد كان لهم حديث عجيب، وسَلُوه عن رجلٍ طوّاف قد بَلَغ مَشارق الأرض ومَغاربها، ما كان نَبأُه؟ وسَلُوه عن الرُوح ما هو؟

وفي رواية أخرى: فإنْ أَخبَرَكم عن الثنتين ولم يُخبِرْكم بالروح فهو نبيّ.

فانصرَفا إلى مكّة، فقالا: يا معاشر قريش، قد جِئناكم بفَصلٍ ما بينكم وبين مُحمّد، وقصّا عليهم القصّة فجاءوا إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله) فَسَأَلوه، فاستمهَلَهم النبيّ (صلّى الله عليه وآله) حتّى يَأتيَه الوحي، فَمَكث أُسبوعينِ حتّى نزلتْ الآيات بشأن أصحاب الكهف وذي القرنَينِ وبشأن الرُوح: إنّه مِن أَمر ربّي ولم يُبيّن (١)

وفي هذا الوصف الذي جاء في رواية ابن إسحاق، دلالة واضحة على أنّ حديث الفِتية حديث قديم يَرجع عَهدُه إلى الدهر الأَوّل، وربّما يعني ذلك: العَهد القديم السابق على عهد موسى وبني إسرائيل، فقد كان حديثاً شائعاً يَتَداولُه أبناء الأديان القديمة وتَوارَثَها المـُتأخِّرون ومنهم اليهود، ولعلّه كان مِن شارات أصحاب الأديان، هي معرفة هكذا قَصَص دينيّة فيها اضطِهاد وفيها الصبر والأَناة والمقاومة تجاه الإلحاد، وفي النهاية: النصر والظَفَر... فهو حديث غَلَبة الحقّ على الباطل، وظُهور السلام على العَسْف والطغيان في أيّ زمان ( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ) (٢) ، جاءت الآية حديثاً عن مواضع الأنبياء الظافرة.

إذن فقد كان حديث الفِتية رَمزاً قديماً لانتصار التوحيد على الشرك كلّه، وشِعارَاً

____________________

(١) مجمع البيان، ج ٦، ص ٤٥١ - ٤٥٢.

(٢) الأنبياء ٢١: ١٨.

٤٦٧

لائِحاً بمَحَجّة الدِّين الظاهرة والدائِمة على مَدى الدهر.

وجاءت القصّة في الأوساط المسيحيّة بعنوان (نُوّام أَفَسُس (١) السبعة) نُشِرت لأَوّل مرّة في الشرق في كتاب سرياني يَرجع تأريخه إلى القَرن الخامس بعد الميلاد (٢) ، وَوَردت عند الغربيّينَ في كتاب (ثيودوسيوس) (٣) عن الأرض المـُقدّسة. وقصّة أصحاب الكهف مشهورة ذائِعة في الآداب الشرقيّة والغربيّة على حدّ سواء (٤) .

غير أنّ فكرة تَقادم القصّة في أوساط سابقة على المسيحيّة، قد شَغَلت أذهان المـُحقّقينَ، حتّى عَثَر بعضهم على آثار مُشابِهة في مصادر يهوديّة ويونانيّة وغيرهما، منها: قصّة (أُنياس) - حوني - التي جاءت في كتاب (تعانيت) في فُصول مِن كتاب (التلمود)، وكان قد استغرق نومُه ٧٠ سنة.

وهكذا قصّة (هلني) والنُوّام التسعة بساردينيا، التي أشار إليه (أرسطو)، وغير ذلك مِمّا ذَكَروه بهذا الصدد (٥) .

حديث ذي القرنَينِ

وهكذا حديث ذي القرنَينِ، الرجل الذي جَابَ البلادَ وطافَ المـَعمورةَ فأتى مَطلع الشمس (شرقيّ الأرض) ومَغربها (غربيّ الأرض) حديث قديم قد يَرجع تأريخه إلى عهد بعيد، غير أنّ الذي حقّقه بعض أعلام العصر، الأستاذ أبو الكلام آزاد الهندي، مُستَمِدّاً مِن نُصوص التوراة (العهد القديم) هو احتمال أنْ يكون هو المـَلِك الفارسي (كورش) الكبير (٥٥٧ - ٥٢٨ ق. م) الذي دَانتْ له البلاد شرقاً وغرباً، استولى على بلاد ماداى وآسيا

____________________

(١) مدينة قديمة في آسيا الصُغرى على بحر إيجة، تقع أنقاضها بالقُرب مِن (سلجوق) الحاليّة (تركيا)، كانت مركزاً تجاريّاً عامراً مُنذ القَرن الثامن قبل الميلاد.

(٢) نُشِرت على يد الأُسقف السرياني يعقوب السروجي (٤٥١ - ٥٢١ م) شاعر سرياني كبير، وُلِد في (كرتم) (ما بين النهرين) ودَرَس في مدرسة (الرها) الشهيرة، أُسقف بطنان المونوفيزي ٥١٩.

(٣) بطريرك الإسكندريّة (٥٣٥ - ٥٦٦ م)، كان مونوفيزيّاً فَنُفي إلى القسطنطينيّة ٥٣٧، له مؤلّفات دينيّة.

(٤) راجع: دائرة المعارف الإسلاميّة المـُتَرجَمة، ج ٢، ص ٢٤٣.

(٥) راجع: دائرة المعارف الإسلاميّة الكُبرى للبجنوردي، ج ٩، ص ١٤١.

٤٦٨

الصُغرى وبابل، وأَطلق سَراح اليهود مِن أَسر البابليّينَ وأَذِنَ لهم بالعودة إلى فلسطين وأَعانَهم على إحياء القُدُس مِن جديد؛ ومِن ثَمّ جاء ذِكره في أسفار التوراة بإعظام وتبجيل.

وكانت تَسميته بذي القرنَينِ تعبيراً عن رؤيا رآها دانيال النبيّ عندما كانوا في الأَسر، (١) وكانت الرؤيا تُبشِّر بِخَلاصِهم على يد مَلِكٍ ذي سلطان قاهر يَسطو على بلاد ميديا وفارس.

جاء في الرؤيا: (في السّنة الثالثة مِن مُلكِ (بيلشاصَّر) البابلي، ظهرت لي أنا (دانيال) رؤيا... وكان في رُؤياي، وأنا في شوشان القصر الذي في ولاية عيلام، ورأيتُ في الرؤيا وأنا عند نهر أولاي، فرفعتُ عَيْنَيَّ ورأيتُ وإذا بكبشٍ واقف عند النهر وله قَرنانِ، والقَرنانِ عاليَانِ... رأيتُ الكبشَ يَنطح غَرباً وشمالاً وجنوباً، فلم يَقف حَيَوان قُدّامه ولا مُنقذ مِن يده، وفَعَل كمرضاته وعَظُم...

ثُمّ إنّه طلبَ مِن الله أنْ يَبعث له مِن يُعبِّر له الرؤيا، وإذا بشَبحِ إنسان واقف قُبَالَته، وسَمِع صوتاً يَقول: يا جبرائيل، فَهِّم هذا الرجلَ الرؤيا... فَجَعَل جبرائيل يُفسّر الرؤيا في تفصيلٍ حتّى أَتى على ذِكر الكَبش والقَرنَينِ، فقال: أمّا الكَبش الذي رأيته ذا القَرنَينِ، فهو مَلِك مادى وفارس... (٢)

وبالفعل فإنّ (كورش) وَحَّدَ مَملَكَتَي ماديا وفارس غَرباً وشمالاً واستولى على بابل في الجنوبِ وبسطَ سلطانَه على أرجاءِ البلاد.

وهكذا جاء في كتاب (إشَعْياء): وأقول بشأن كورش، إنّه خير راعٍ اصطَفَيتُه، وإنّه يُحقِّق إرادتي، ويُجدِّد بِناء أُورشليم ويَعمُر بيتي من أساس (٣) .

____________________

(١) ولعلّ دانيال هو قَصَّ على كورش رؤياه، فتَبَشَّر كورش بها وأَخذها شِعارَاً في مُلكِه تَبرُّكاً بذلك وتقويةً لسلطانه، ومِن ثَمّ كان قد أَعجَبَه أنْ ينحت صورتَه على الحَجَر ويَحمل على رأسه تاجاً ذا قَرنَينِ يَسطو بهما على الشمال والجنوب جميعاً. وهكذا نجد تِمثال كورش الذي عُثِر عليه في مشهد مرغاب وعلى رأسه التاج الشهير بالقَرنَينِ.

(٢) سِفر دانيال، إصحاح ٨: ١ - ٤ و ١٥ - ٢١.

(٣) سِفر إشَعْياء، إصحاح ٤٤: ٢٥ - ٢٨.

٤٦٩

وفي الإصحاح ٤٥: هكذا يقول الربّ لمسيحه (١) يعنى كورش: إنّي مَنَحتُ لك القُدرة والسَّطوة والمـُلك، وسوف يخضع أَمامك كلُّ المـُلوكِ، ويُفتَح لك الأبواب كلّها وسوف تُصفَى لك الأرض ويُذاب لك النُحاس والحديد، وتَستَولي على خزائن الأرض وذَخائرِها، - إلى قوله - أنا أَنهضتُه بالنصر وكلّ طُرُقِه أُسهِّل، وهو يَبني مدينتي ويُطلِق سبيي... (٢) .

وفي الإصحاح ٤٦ جاء تشبيه كورش بالعُقاب الكاسر، (٣) يقول: أَبعثُ مِن المـَشرق عُقاباً كاسراً ينقضُّ على الأكاسرة ليُحطِّمهم ويَفعل في الأرض ما أُريد، وسوف يَتحقّق على يديه ما قضيتُ (٤) .

وكتاب إشَعْياء - ولعلّه عاشَ قَبْلَ ظُهور كورش بأكثر من قَرن ونصف (١٦٠ سنة) - لم يُؤلَّف في زَمنٍ واحد، وقد أَكمَلَه بَعدَهُ أنبياء مُتأخِّرون وبعضهم عاصرَ ظُهور كورش وسُقوط بابل، غير أنّ الجميعَ وصفوا كورش بالقُدرة والسَّطوة الربّانيّة والذي جاء ليُخلّص العبادَ من الظُلم والجَور عليهم، وهكذا فَعَلَ في خَلاص بني إسرائيل وإعادة بِناء البيت وقد مَلَك الأرض شرقاً وغرباً وبَسَط العدلَ فيها.

الأمر الذي يَهمّنا ويَرتبط بصُلب البحث عن شخصيّة ذي القَرنَينِ في كُتب السالفينَ.

وفي كتاب إرميا، إصحاح ٥٠: أَخْبِرُوا في الشعوب وارفعوا رايةَ الفَخار. وقولوا: أُخِذت بابل، وخُزِي بيل ومَرودَخ و أَوثانها، وسُحِقت الأصنام؛ لأنّه قد طلعتْ عليها من الشمال أُمّة تَهدم كلَّ هذه البنايات وتَكسر سطوتَها (٥) .

وفي هذا التعبير جاء تشبيه الأُمّة الفارسيّة ذلك اليوم بالشمس الطالعة والتي تَبعث على العالَم أشعّتها للدفء والحيويّة والنشاط.

____________________

(١) أي عَبدَه الذي اصطفاه، وهكذا يُقال لعيسى بن مريم المسيح؛ لأنّه النبيّ المـُختار لإسعاد أُمّته، والمسيح: المـُبارك. حيث بارَكَه الله وجَعَل في وجوده البَركة واللُطف لعباده المؤمنينَ، وبهذا المعنى أُطلِق (المسيح) على كورش.

(٢) سفر ِإشَعْياء، إصحاح ٤٥: ١ - ١٤ نقلاً بتلخيص وتوضيح.

(٣) يُقال للعُقاب: كاسر؛ لأنّه يَنقضّ على ما يَصيده فيَكسره كَسرَاً.

(٤) سِفر إشَعْياء، إصحاح ٤٦: ١٠ - ١١.

(٥) كتاب إرميا، إصحاح ٥٠، نقلاً بتلخيص وتوضيح.

٤٧٠

وهكذا جاء التعبير في القرآن عن ذي القَرنَينِ بالعبد الصالح، والذي مَنَحه الله القُدرة والسَّطوة، لا ليَستعملها في الشرّ، بل في الخير والصلاح ونشر العدل في البلاد وحماية العباد عن مَظالم الطُغاة.

فكانت سيرته حسنةً وكانت سياسته على أساس الحِكمة وقد ارتضاه الله، فأَلهَمَه الخير وَوَفَّقه في إسعاد العباد وإصلاح البلاد.

ومِن العِباد مُلهَمُون وربّما مُحدَّثون، وإنْ لم يكونوا أنبياء، الأمر الذي يَنطبق على ذي القَرنَينِ بكلّ وضوح، ولعلّه هو كورش على ما جاء في العهد العتيق؛ نظراً لهذا الانطِباق أيضاً حسب الظاهر.

وإليك وَصْفُه على ما جاء في القرآن:

( وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُم مِنْهُ ذِكْراً * إِنّا مَكّنّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلّ شَيْ‏ءٍ سَبَباً * فَأَتْبَعَ سَبَباً * حَتّى‏ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمّا أَن تُعَذّبَ وَإِمّا أَن تَتّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً * قَالَ أَمّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذّبُهُ ثُمّ يُرَدّ إِلَى‏ رَبّهِ فَيُعَذّبُهُ عَذَاباً نُكْراً * وَأَمّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى‏ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً * ثُمّ أَتْبَعَ سَبَباً * حَتّى‏ إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى‏ قَوْمٍ لّمْ نَجْعَل لّهُم مِن دُونِهَا سِتْراً * كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً * ثُمّ أَتْبَعَ سَبَباً * حَتّى‏ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السّدّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً * قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى‏ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً * قَالَ مَا مَكّنّي فِيهِ رَبّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً * ءَأَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتّى‏ إِذَا سَاوَى‏ بَيْنَ الصّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتّى‏ إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ ءَاتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً *

٤٧١

فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً * قَالَ هذَا رَحْمَةٌ مِن رّبّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبّي جَعَلَهُ دَكّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبّي حَقّاً ) (١) .

والذي يبدو من هذه الآيات: أنّ لذي القَرنَينِ شأناً عند الله، وأنّه كان مُلهَمَاً مِن عنده، بعثه الله (٢) سَطوةً على الطُغاة ونجاةً للعباد في أرجاء البلاد.

وهكذا جاء في مَنشور كورش دَعْماً لإحياء القُدس من جديد وإطلاق سراح إسرائيل من الأَسر، مُنَوِّهاً أنّ ذلك مِن أمر الإله ربّ العالمين.

جاء في كتاب عَزْرا، إصحاح ١: ١ - ١١: (وفي السنة الأُولى لكورش مَلِك فارس، عند تمام كلام الربّ بفم إِرميا، نَبّه الربُّ روحَ كورش مَلِك فارس، فأَطلقَ نداءً في كلّ مَملكَتِه، وبالكتابة أيضاً، قائلاً: (هكذا قال كورش مَلِك فارس: جميع مَمالِك الأرض دَفَعها لي الربُّ إله السماء، وهو أَوصاني أنْ أَبني له بيتاً في أُورشليم التي في يهوذا...).

وجَمَع الإعانة مِن كلّ أبناء مُلكه الوسيع، قائلاً: (وكلّ مَن بقي في أحد الأماكن، حيث هو مُتغرِّب، فليُنجده أهلُ مكانه بفضّةٍ وبذَهبٍ وبأَمتعةٍ وببهائمٍ، مع التبرُّع لبيتِ الرّبّ في أورشليم.

وحتّى أنّه أَرجع التُراث الإسرائيلي الذي كان قد نَهَبَه بخت نصّر، وَرَدَّه إلى البيت، وكانت أَواني مِن ذهبٍ وفضّةٍ ما يُعدّ بالألوف) (٣) .

والتعبير في هذا البيان: أنّ الربّ نبّه رُوحَ كورش، وهو الوحي بمعنى الإلهام.

وهذا يتّحد مع قوله هو: وهو أَوصاني أنْ أَبني له بيتاً... أي وقع في خَلَدي فِعْلُ هذا الخير، وكلّ فكرة خير إنّما هو مِن عند الله، كما أنّ فكرة الشرّ مِن الشيطان ( وَإِنّ الشّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى‏ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ) (٤) ، ( وَكَذلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِيّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى‏ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً ) (٥) .

____________________

(١) الكهف ١٨: ٨٣ - ٩٨.

(٢) كما بُعِث بخت نصّر نقمةً على العُتاة، في قوله تعالى: ( بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ... ) . الإسراء ١٧: ٥.

(٣) كتاب عَزْرا، إصحاح ١: ١ - ١١.

(٤) الأنعام ٦: ١٢١.

(٥) الأنعام ٦: ١١٢.

٤٧٢

وهذا هو إلهام الشرّ الشيطاني، أمّا إلهام الخير الرحماني، فهو كما بشأن أُمّ موسى: ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ ... ) (١) ، وأوحينا بمعنى أَلهمنا، في القرآن كثير.

وهكذا (قُلنا) حديثاً مع ذوات الأنفس وليس مشافهةً بالكلام، وليس بشأن الإنسان فحسب، بل بشأن الحيوان والجماد، أَيضاً كثير.

فجاء حديثاً مع أَصحاب البقرة: ( فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) (٢) ، إذ لم يكن خِطاب مُشافهة، ولا دليل على أنّه بواسطة الرسول، والمـُحتَمل قويّاً هو إيحاء هذا المعنى كما في أُمّ موسى.

وهكذا قوله بشأن بني إسرائيل - بعد هلاك فرعون -: ( وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأَرْضَ... ) (٣) ، إلقاء في النُفُوس بطبيعة الحال.

وكان الخِطاب مع النار في قوله تعالى: ( قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) (٤) ، أيضاً من قبيل إيحاء إرادته تعالى، لكن تكويناً، نظير الإيحاء إلى النحل والنمل وسائر الحَيوان ليَسلكوا سُبُل ربهم ذُلُلاً.

ومن هذا القبيل قوله تعالى بشأن مَرَدة بني إسرائيل: ( فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ) (٥) ، لم يكن خِطاب تكليف بل خِطاب تكوين.

وهكذا الحديث مع الأرض والسماء في قوله تعالى: ( وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي... ) (٦) ، ( فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) (٧) .

فلا غَرابة بعدئذٍ أنْ يأتي بشأن الإيحاء - نفسيّاً - إلى عبدٍ من عباد الله الصالحينَ: ( قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً ) (٨) .

وهذا عندما سارَ كورش مُتوجِّهاً في فُتوحاته نحو الغرب لتسخير بلاد ليديا، (٩)

____________________

(١) القصص ٢٨: ٧.                                   (٢) البقرة ٢: ٧٣.

(٣) الإسراء ١٧: ١٠٤.                                 (٤) الأنبياء ٢١: ٦٩.

(٥) البقرة ٢: ٦٥.                                       (٦) هود ١١: ٤٤.

(٧) فصّلت ٤١: ١١.                                   (٨) الكهف ١٨: ٨٦ - ٨٨.

(٩) مَملكة قديمة غربيّ آسيا الصُغرى ممّا يلي بحر إيجه، كانت قاعدةَ مُلكها مدينة (سارد) الزاهية بفخامتها يومذاك.

٤٧٣

فوَقَع مَلِكُها (كرزوس) أسيراً في يد كورش، وكان قد تآمرَ ضدّه مع سائر الدُول للقضاء على إمبراطوريّة فارس، ولكنّه فَشِل ووقعت بلادَه طُعمَةً رخيصةً للمـَلِك الفارسي، ومِن ثَمّ حاولَ إحراقَه بالنار، لكنّه سامَحَه وعفا عنه، حسب دَأَبه مع سائر أُمراء البلاد الذين بَغَوا عليه وأَصفَح عنهم.

وبذلك نرى الآيات لعلّها تَتَصادق مع ما سجّله التأريخ بشأن كورش، فقد قَويَت شوكتُه بعد أنْ وحّد فارس ماديا بعد الاستيلاء على (إكباتان) (همدان - اليوم)، فذهبَ مُتوجِّهاً نحو الغرب لإخضاع مُناوئيه هناك (ليديا)، الأمر الذي يَتصادقَ مع قوله تعالى: ( إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ (بتوحيد بلاد فارس وماديا) وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبا ً (أي عِلماً بطُرُق الفتح والظَفَر على الخُصوم) (١) فَأَتْبَعَ سَبَباً * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ (هي الضِّفة الغربيّة من آسيا الصُغرى، حيث بلاد ليديا، تركيا الحاليّة) وَجَدَها (أي الشمس) تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) حيث بحر إيجه ويُسمّى بحر المـَغرب، وبحر مرمرة وعلى امتدادهما البحر الأسود، وكلّها تُضرَب بالسواد، كأنّه الوَحل، والحَمْأَة: الطين الأسود، وكانت الشمس تَغرب على آفاقٍ تُتاخِم تلك البحار الضارب لونها إلى السواد.

وهكذا سارَ كورش (ذو القَرنَينِ) بجُيوشِه نحو مَغرب الشمس (غربيّ بلاد فارس - آسيا الصُغرى) حتّى أَوقَفه البحر، ولم يَكن مِن شبرٍ أَمامه مِن يابسٍ - في مسيرته تلك -!

فماذا بعد قُرص الشمس المـُحتَقِن وقد تَخضَّب بحُمرَةٍ كأنّه يَنزُف ما فيه من طاقةٍ... ماذا بعد قُرص الشمس وقد اصفَرّ واحتضَر وتضاءَل عند الأُفق، ثُمّ هوى وسقطَ غارِقاً في العين الحَمِئة... (٢) في خليج (إزمير) (٣) ، بين الماء والطين الأسود العَكِر اللّذَينِ يَسكُبهما نهر (جيديس)؟

لقد رأى كورش (ذو القَرنَينِ) في هذا المـَشهد ما يَشدُّه إلى الخالق الأَعظم، مالِك

____________________

(١) عن قتادة والضحّاك: عِلماً يَتسبّب به إلى تحقيق إرادته وبلوغ مِأَربَه، وعن الجبائي: كلّ شيء يَستعين به المـُلوك على فتح البلاد والظَفَر على الأعداء، مجمع البيان، ج ٦، ص ٤٩٠.

(٢) والعين - هنا -: لُجّة الماء وعُبابِه المـُتَموِّج، فيتراءى للناظر على ساحل البحر كأنّ الشمس تَغرب في عُبابِه، كما أنّ الناظر إليها وهي تغرب في البرّ، كأنّها تغرب في أرض مَلساءٍ.

(٣) هي (سميرنا) ( smyrne ) القديمة، مَرفأ عظيم في تركيا على بحر إيجه.

٤٧٤

السماوات والأرض ومُسيِّر الأَفلاك القابض الباسط العظيم المـُتعال.

لقد تَضاءَلَ - رُغم مُلكه العريض - أَمام سُقوط الشمس في عين حَمِئة، حيث أَظلمت الدنيا بعدها، فَعَرف أنّ لكلّ شيء نهايةً، وكلّ شيء هالِك إلاّ وَجهُ الله الكريم، لقد تَوصَّل كورش - بما لديه مِن خَلفيّة روحيّة استمدّها مِن زرادشت - إلى حقيقة البَعث والمـَمات وعَظمةِ الله في الآفاق.

هذا هو شَعب ليديا قد صارَ في قَبضَته، فماذا يفعل بهم؟

لقد مَنَح الله ذا القَرنَينِ حرّيةَ اختيار العفو عنهم أو تأديبهم والتَنكيل بهم... واختار ذو القَرنَينِ العفو عمَّن تابَ وآمنَ، وقال: من كان هذا شأنه فسَماحٌ وعَطفٌ ويُسرٌ وتكريمٌ وأَمانٌ ورحمةٌ، ومَن كفرَ وطغى وتجبَّر فضَربٌ بالأعناقِ وعُنفٌ وتأديبٌ.

قال تعالى: ( فَأَتْبَعَ سَبَباً * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْماً قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً ) (١) .

نحو مَغرب الشمس!

نعم قامَ كورش بحَملة نحو المـَغرب (غرب بلاد فارس) حيث مَغرب الشمس بالنسبة إليهم.

والشمس لا تَغرب في مكان مُحدَّد تهوي إليه حتّى الصباح الثاني، وإنّما أَيّ مكان في الكُرة الأرضيّة تَغرب فيه الشمس عند الأُفق يُسمّى مَغرب الشمس، وبالتالي فمَغرب الشمس شيء نسبيّ... قد يَراه ابن الصحراء وراءَ التِلال، وهو بالنسبة له مَغرب الشمس، وقد يَراه ابن السَهل الساحلي شاطئ البحر، وقد يكون سطح البحر المـُنحني مَغرباً للشمس في نظر الرائي، وما هي - آنذاك - إلاّ مشرقةً عند قومٍ آخرينَ.

____________________

(١) الكهف ١٨: ٨٦ - ٨٨.

٤٧٥

وتُؤخذ لحظة الغروب عندما يقع الأُفق على مُنتصف قُرص الشمس تماماً، ونقول ساعتها: هذا مَغرب الشمس!

فإذا قُلنا: إنّ كورش توجّه نحو مَغرب الشمس، فمعنى ذلك أنّنا نقول: إنّ مسارَ الحَملة كان صَوبَ الغرب.

فإذا كان كورش - مَلِك فارس الكبير - يُقيم في (أنشانا - خوزستان الحاليّة) على خط طول (٥٠ ش) فإنّ اتّجاهَه صَوب المـَغرب يعني حَملته على (ليديا - تركيا حاليّاً).

بعد أنْ انتَصَر كوروش على الميديّين ودخلَ عاصمتَهم (همدان)، سادَ الوُجُوم والانزعاج رُبوعَ أَعظم المـَمالك قاطبةً ذلك الحين: مَملكة مصر الفرعونيّة، مَملكة الليديين (ليديا) ومَملكة البابليّين، وجرت بينهم مُفاوضات لتحقيقِ الاتّحاد بينهم لمـُواجهة كورش، وكانت مَملكة ليديا (تركيا الآن) أَخوف الثلاثة وأَحرصَهم على تحقيق هذا الاتّحاد العسكري، رُغم أَنّ مَلِكها (كرزوس) كان قد بَذلَ أَقصى جهوده لازدهار ليديا حتّى صارت عاصمتها (سارد) يُقال عنها بسارد الذهبيّة.

وقد بلغَ الاضطراب بمَلِك ليديا درجةً أنّه كان يَتوقّع هُجوم كورش على بلاده بين لحظة وأخرى؛ ومِن ثَمّ جهَّز المـَلِك الليدي نفسه، فَدَخل في مُفاوضات مع اسبراطة (إحدى الدول اليونانيّة) وضَمَّها إلى حِلفه واتّحدت بابل ومصر كذلك معه وسارت الجيوش نحو كورش في إيران (١) .

يقول الأُستاذ خضر: لم يكن كورش - إذن - مُعتَدياً ولا سَفّاحاً ولا طامِعاً في مُلِك أحد (٢) .

أمّا الجُيوش التي سارت نحو كورش فلم تكن جُيوش الحُلفاء جميعاً، فالمـَلِك (نبونيد) مَلِك بابل لم يَكن ليَجسر على القيام بأيّ حركة؛ لخوفه من انتقام الفُرس والأسبارطيون وَعَدوا بالمـُساعدة ولكنّهم تَقاعَسوا عن العملِ، مُتمسّكين بسياسة العُزلة التي ظلّوا دَوماً يتّبعونها، أمّا مَلِك مصر (آماسيس) الذي أَدرك خطرَ الفُرس على بلاده فقد

____________________

(١) تأريخ إيران، ص ٦٤ - ٦٥.

(٢) مفاهيم جغرافيّة، ص ٢٤١.

٤٧٦

رَضِيَ بإرسال جيش صغير بطريق البحر، ولكن مَلِك ليديا (كرزوس) لم ينتظر وصول النَجدات مِن حُلفائه، بل أَسرعَ بالهُجوم وعَبَر نهر (هاليس) (قزل أرماق) وضَرَب البلاد التي في طريقه.

وفَجأَةً اصطدمَ بجيش كورش عند مدينة (بتريّة) أو (بتريوم) - العاصمة القديمة للحيثيّين - (١) ودارَت رَحى حرب ضَروس بين الجيشيَنِ... واضطرّ المـَلِك الليدي إلى الانسحاب غَرباً حتّى حدود مَملَكته.

واندفع كورش نحو (مَغرب الشمس) مُتقدِّماً بسرعة وباغَتَ جيشَ ليديا عند أَسوار العاصمة (سارد) أو (سارديس) فسَحَقَ الجيش الليدي مُنذ الحَملة الأُولى وَوَقع المـَلِك الليدي أَسيراً وجميعُ قادةِ جيشه وجنوده سنة ٥٤٦ ق. م، (٢) وهنا يأتي دَور الآية الكريمة: ( قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً... ) (٣) .

قال الدكتور خضر: كان العالَم القديم آنذاك قد تَعوَّد من المـُلوك الفاتحينَ المـُنتصرِينَ تدميرَ البلاد المـَقهورة التي تَخرج مَغلوبةً مَهزومةً مِن المعارك الحربيّة... ولكن كورش عامَلَ كرزوس بالحُسنى - وِفقاً للآية الكريمة - كما كانت شيمتُه الكريمة مع سائر المـُلوك المـَغلوبينَ، كان يُعاملهم بالحُسنى، كما فَعَل بمَلِك ماد ومَلِك أرمنستان وغيرهما (٤) .

ويَذكر هيرودوت أنّ كورش كان يَودُّ - في بداية الأمر - أنْ يَختبر صَلابة المـَلِك الأَسير وإيمانه فأَمر بإضرامِ النار ليُلقَى فيها، ثُمّ عَدَلَ عن ذلك - رأَفةً ورحمةً به - وزاد من إكرامه وتعزيزه، وبَلَغ مِن إكرامه أنْ اتّخذه مُستشاراً كان يَستشيره في مهامّ أُموره (٥) .

وأمّا بقيّة رواية هيرودوت مِن إلقاء المـَلِك الأَسير - فعلاً - في النار، ثُمّ عَنَّ له - لبادرةٍ بدرَتْ مِن كرزوس - فأمر بإنجائه وذَويه من النار... فإنّ المـُحقّقينَ من أَرباب

____________________

(١) الحيثيّون (هيتي ها - hiti-ha ): مِن الأَقوام القديمة مُنذ (١٨٠٠ ق. م) كانوا يَسكنون شرقيّ آسيا الصُغرى ممّا يلي البحر الأسود شمالاً، وجبال (توروس - كيليكيّة)، ونهر الفرات شرقاً، ونهر (هاليس - قزل إيرماق، الحاليّة) غرباً، واسم بلادهم (كابادوكيه) مُعرَّب (قباد و قيا)، وأَسّسوا حضارةً راقيةً، وكانت عاصمة بلادهم (بِتِريوم) المعروفة اليوم ببوغاز كوبي.

(٢) تأريخ إيران، ص ٦٤ - ٦٥.

(٣) الكهف ١٨ - ٨٦.

(٤) مفاهيم جغرافيّة، ص ٢٤٢.

(٥) تأريخ هيرودوت، ترجمة الوحيد المازندراني، الكتاب الأَوّل، ص ٥٣ - ٥٥.

٤٧٧

التأريخ المـُعاصرِينَ، لا يَتوافقونَ على صحّته؛ إذ كان مُتنافياً مع معتقدات الفُرس آنذاك، حيث تقديسهم لجانب النار وأنْ لا تَتَلوّث بالأقذار، فضلاً عن مُخالفته لشيمة مُلوك الفُرس عامّة من اتّخاذ طريقة الرأفة بالأُسَراء المـُلوك، والأَخْذ بجانب حُرمتهم بالذات.

ولعلّ هيرودوت أَخَذ هذه القصّة من قَصّاصينَ قَبله وسَجّله في كتابه من غير تحقيق (١) .

بعد ذلك وَاصلَ كورش زَحفَه غَرباً في آسيا الصُغرى لإخضاع المـُستَعمَرات اليونانيّة - وكانت قد رفضتْ التَحالف مع كورش في حربه مع مَلِك ليديا - كما كان من الطبيعي بعد انتصاره على الليديّين أنْ يُفكِّر كورش في الوصول إلى بحر إيجه (غرب ليديا) الذي تحتاج إليه الإمبراطوريّة الفارسيّة لتسهيل مصالحها التجاريّة العالميّة، وكانت المـُدن الأيونيّة (المـُستَعمَرات اليونانيّة) على شواطئ هذا البحر مشهورةً بغِناها، ولكنّها مُنقسمة على بعضها وبالتالي كانت ضعيفةً، فكانت تُؤلِّف غنائمَ سَهْلة التَناول تُغري الفاتحينَ.

وكانت مُباغَتة فَجيعَة لليونانيّينَ على شواطئ آسيا الصُغرى عندما رَأَوا الجُيوش الفارسيّة الجَرَّارة تُطبِق عليهم جميعاً وتَستولي بحَملة واحدة على مُدنهم كلّها على سواحل بحر إيجه.

هذا هو ذا قد بلغ كورش مَغرب الشمس بالنسبة لبلاده، لقد صار على حافّة البحر الأبيض المتوسّط، فأين العين الحَمِئة إذن؟؟

وجدها تَغرب في عينٍ حَمِئة!

حين توقّف كورش عند شواطئ بحر إيجه - وهي جزء من سواحل تركيا على البحر المتوسّط - وجدَ الشاطئ - كما هو معروف في الخريطة - كثير التَعاريج، حيث تَتَداخل أَلسِنة البحر داخلَ اليابس، ومِن أَمثلة هذه الأَلسِنة البحريّة خليج هرمس

____________________

(١) راجع: تأريخ إيران، ص ٦٦، ومفاهيم جغرافيّة لعبد العليم خضر، ص ٢٤٢.

٤٧٨

ومندريس الأَكبر ومندريس الأَصغر، ويَتعمَّق خليج (إزمير) إلى الداخل بمِقدار (١٢٠ ك. م) تُحيط به الجبال البَلوريّة التي سمّاها (فيلبسون = philippson ): (العين الليديّة الكارية) (١) حيث تُحيط هذه الجبال من الغرب إلى الشرق حافّتَي هذا اللسان البحري الذي يتّخذ شكل العين، ويَصبّ فيه نهر (غديس) المياه العَكِرة المـُحمَّلة بالطين البُركاني والتُراب الأَحمر، من فوق هَضَبة الأناضول التي تَنحدر بِبُطء نحو الغرب قبل أنْ تصل إلى الحافّة الغربيّة؛ ولذلك تَزيد سُرعة جَريان نهر (غديس) في اتّجاه السَهل الساحلي المـُتقطِّع في شَكل خُلجان وأَخوار (٢) وأَجوان لا حصرَ لها، حتّى يَصل مُستوى قاعدة بحر إيجه، حيث يصبّ في خليج (إزمير) الغارق بين قَمَم الجبال المـُحيطة به بارتفاع يتراوح بين ١٠٠٠ و ٢٠٠٠ متر.

وحين وَقَف كورش ذو القَرنَينِ عند (سارد) قرب إزمير تَأَمّل قُرص الشمس وهو يسقط عند الغروب في هذا الخليج الذي يشبه العين (الكبيرة) تماماً واختلطت حُمرة الغَسَق بالطين الأَحمر والأَسود الذي يَلفظه نهر (غديس) في عين خليج إزمير.

ونُرجّح أنْ تكون تلك هي العين الحَمِئة التي ذَكَرها القرآن.

وهكذا وَرَد في التفسير: العين الحَمِئة، هي عُباب الماء ولُجّته المـَليئة بالوَحَل، أي الطين الأسود الفاحم.

روى عبد الرزّاق بإسناده إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي عن عثمان بن حاضر الحميري الأزدي (أبو حاضر القاصّ، شيخ مِن أَهل اليَمن مَقبول صَدوق وذَكَره ابن حبّان في الثِقات)، (٣) قال: قال لي ابن عباس: لو رأيت إليّ وإلى معاوية، وقرأتُ: (في عين حَمِئة) (أي وَحلة) وقَرأَ: (حامية) (أي دافئة)، فدخلَ كعب فسأله معاوية، فقال: أَنتم أَعرف بالعربيّة، ولكنّها تَغرب في عين سوداء.

____________________

(١) يقال: كرى البئر أي طواها بالشجر، وكرى الأرض: حفرها.

(٢) جمع خَوْر: المـُنخفض من الأرض بين النَشزَين، تجتمع فيها المياه بصورة أحواض طبيعيّة في السُهول.

(٣) تهذيب التهذيب لابن حجر، ج ٧، ص ١٠٩، رقم ٢٣٥، روى عن ابن عباس وابن الزبير وجابر وأنس، وعنه الخليل وخَلق كثير.

٤٧٩

وفي رواية: قال ابن عباس لمعاوية: في بيتي نَزَل القرآن، لكنّه أَرسلَ إلى كعب وسأَلَه، فقال: كعب: سَلْ أَهل العربيّة فإنّهم أَعلم بها، ثُمّ فَسّرها بماءٍ وطين.

قال أبو حاضر: لو أنّي عندكما أَيّدتُك بكلامٍ وتزدادَ به بصيرةً في (حَمِئة)! قال ابن عباس: وما هو؟ قال: فيما نأَثر قول الشاعر - وهو تُبَّع اليَماني - فيما ذَكَر به ذا القَرنَينِ في كلفه بالعِلم وإتِّباعه إيّاه:

قد كانَ ذو القَرنَينِ عَمرو مُسلماً

مَلِكاً تَدينُ له المـُلوك وتَحشُد

فأَتى المـَشارقَ والمـَغاربَ يَبتغي

أَسبابَ مُلكٍ مِن حكيمٍ مُرشد

فرأَى مَغيبَ الشمس عند مَغابها

في عين ذي خُلُبٍ وثأطٍ حِرْمد

فقال له ابن عباس: ما الخُلُب؟ قال: الطين، بلسانهم (أي الحمير)، قال: فما الثأط؟ قال: الحَمأَة (الوَحَل وهو الطين الرقيق الأسود)، قال: فما الحِرْمِد؟ قال: الأَسود، (١) فدعا ابن عباس غلاماً أنْ يأتيَ بالدَواة، فقال له: اكتُب ما يقوله الرجل (٢) .

قال الدكتور خضر: والبحث العلمي الجغرافي تَتَبَّع نَشأَة المـُدن القديمة على خليج إزمير، مثل (أفسوس) و(ملطيّة) فَوجدَ أنّ هذه الحَمْأَة السوداء التي كانت تُعكِّر خليج إزمير حين نَظَرَ كورش إلى الشمس وهي تَغرب في هذا الخليج، هي الرواسب التي سدّت جانباً كبيراً من هذا الخليج، وبعد أن كانت (أفسوس) و (ملاطيّة) - وكانتا ميناءَينِ في الزمن القديم - صارَتا تَقَعان اليوم على بُعد بِضعة كيلو مترات من البحر.

كما أنّ ميناء (إزمير) نفسه لم يَنجُ مِن الامتلاء برواسب الطين التي كان يَجلبها نهر (غديس) إلى الشمال منه بقليل. وأخيراً اضطرّت الحُكومة التركيّة إلى تحويل مياه

____________________

(١) الحِرْمِد أو الحَرْمَد: المـُتغيِّر اللّون والرائحة، يضرب إلى السواد الفاحم.

(٢) راجع: تفسير عبد الرزّاق، ج ٢، ص ٣٤٤ - ٣٤٥، رقم ١٧١٢ و ١٧١٣، وتفسير ابن أبي حاتم، ج ٧، ص ٢٣٨٣، رقم ١٢٩٤٧ - ١٢٩٤٨، والدرّ المنثور، ج ٥، ص ٤٥١، وتفسير القرطبي، ج ١١، ص ٤٩.

٤٨٠

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578