شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم10%

شبهات وردود حول القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 578

شبهات وردود حول القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 578 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 297538 / تحميل: 13676
الحجم الحجم الحجم
شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

( قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) (١) .

شاهدٌ ثالث أخذوه دليلاً على عُموم الطوفان:

قال العلاّمة الطباطبائي: هذا كالنصّ في أنّ الطوفان عمّ البقاع اليابسة من الأرض جميعاً أو مُعظمها الذي هو بمنزلة الجميع، قال: ولو كان الطوفان خاصّاً بصُقع من أصقاع الأرض وناحية من نواحيها - كالعراق على ما قيل - لم يكن أيّ حاجة إلى أنْ يحمل في السفينة من كلّ جنس من أجناس الحيوان زوجين اثنين (٢) .

وهذا المعنى قائم على أساس ما حسبه المفسّرون في سبب حَمل زوجين من كلّ جنس من الحيوان؛ لعلّة استبقاء نسلها لئلاّ تنقرض، قال صاحب المنار: والتقدير - على قراءة حفص [بتنوينِ كلٍّ] -: احمل فيها من كلّ نوعٍ من الأحياء أو الحيوان زوجين اثنين ذكراً وأُنثى؛ لأجل أنْ تبقى بعد غَرق سائر الأحياء، فتتناسل ويبقى نوعها على الأرض (٣) .

وعامّة المفسّرين على ذلك، ولعلّهم متأثّرون بنصّ التوراة وتوارد الإسرائيليّات بهذا المعنى، جاء في سِفر التكوين: ومن جميع البهائم الطاهرة تأخذ معك سبعةً سبعةً ذكراً وأُنثى، ومن البهائم غير الطاهرة اثنين ذكراً وأُنثى، ومن طيور السماء أيضاً سبعةً سبعةً ذكراً وأُنثى؛ لاستبقاء نسلٍ على وجه كلّ الأرض (٤) وهكذا ورد في الإسرائيليّات (٥) .

ولكن ما قَدْر السفينة حتّى يُحمل فيها مثل هذا العدد الجمّ من أنواع الحيوان الأهليّة والوحشيّة والحشار والطيور؛ لئلاّ ينقرض نسل الأحياء، بل وفي هذه الروايات: حَمل الأزواج من أنواع النبات والشجر والأعشاب، وهو من الغرابة بمكان!!

وبحقٍّ قال سيّد قطب: ومرّة أخرى تتفرّق الأقوال حول ( مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) .

وتشيع في الجوّ رائحة الإسرائيليّات قويّة.

وتعقّبه بقوله: أمّا نحن فلا ندع الخيال يلعب بنا ويَشتطّ حول النصّ ( احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) ممّا يملك نوح أنْ يُمسك، وأنْ يَستصحب من الأحياء، وما وراء ذلك خبط عشواء (٦) .

____________________

(١) هود ١١: ٤٠، المؤمنون ٢٤: ٢٧.

(٢) تفسير الميزان، ج ١٠، ص ٢٧٤.

(٣) تفسير المنار، ج ١٢، ص ٧٦.

(٤) سِفر التكوين، إصحاح ٧/ ٢ - ٣.

(٥) راجع: الدرّ المنثور للسيوطي، ج ٤، ص ٤٢٣ فما بعد.

(٦) في ظِلال القرآن، ج ١٢، ص ٦٢، مجلّد ٤، ص ٥٤٨.

٤١

وهذا هو الرأي الصحيح، فقد رخّص الله لنوح أنْ يَحمل معه ما يَملكه من الحيوانات الأهليّة بقَدر ما يحتاج إليه من زادٍ وراحلة، ولا يُثقل حِملَه حتّى تعود الأحوال إلى أوضاعها الأُولى، وأمّا سائر الأحياء الأهليّة والوحش فتتشرّد لوجهها، ولا تبقى في المنطقة المصابة بالحادث، كما هو مألوف، هذا ما يدلّ عليه نصّ القرآن لا أكثر.

والزوجان - في الآية - يراد به المتعدّد في تشاكل، أي من كلّ جنس عدداً يفي لتأمين الحاجة بها.

وهذا نظير قوله تعالى: ( وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا (في الأرض) زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) (١) أي من كلّ نوع في أشكال وألوان متقاربة ومتنوّعة، كالتفّاحة في أشكالها وألوانها، وهكذا الليمون والرّمان، وسائر الفواكه من كلّ نوعٍ فيها أزواج متشابهة، كما قال تعالى: ( وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ) (٢) أي مُتشاكلاً وغير متشاكل.

وجاء في وصف فواكه الجنّة: ( فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ ) (٣) أي صنفان متشاكلان، والمراد المتعدّد في أشكالٍ وأصناف، كما قال: ( وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً ) (٤) أي متشاكلاً.

ومن الواضح أنّ الثمرة - وهي الفاكهة - ليس فيها ذكر ولا أُنثى ولا تزاوج لقاح، وإنّما ذاك في بذور الأزهار لا في الفواكه والثمار.

على أنّها لغةٌ دارجة: أنْ يُراد بالمثنّى الشِّياع في الجنس لا الاثنان عدداً، قال أبو علي: الزوجان في قوله: ( مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) يراد بهما الشِّياع، وليس يراد بهما عدد الاثنين، كما قال الشاعر:

فاعمَد لما يعلو فمالكَ بالذي

لا تستطيعُ مِن الأُمور يَدانِ

يريد: الأيدي والقُوى الكثيرة حتّى يستطيع التغلّب بها على الأمور.

قال: ويُبيّن هذا المعنى أيضاً قول الفرزدق:

وكلُّ رَفيقَي كلِّ رَحلٍ وإنْ هُما

تَعاطى القَنا قوماهُما أَخَوانِ (٥)

____________________

(١) الرعد ١٣: ٣.

(٢) الأنعام ٦: ١٤١.

(٣) الرحمان ٥٥: ٥٢.

(٤) البقرة ٢: ٢٥.

(٥) تعاطى مخفّف تعاطياً، حذف اللام للضرورة، جامع الشواهد، ص ٣٢٤.

٤٢

إذ رفيقان اثنان لا يكونان رفيقي كلّ رحَل، وإنّما يُريد الرفقاء كلّ واحد مع صاحبه يكونان رفيقين.

وأمّا وصف الزوجين بالاثنين؛ فلإرادة التأكيد والتشديد في المتبوع، كما قال تعالى: ( لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ ) (١) خطاباً مع المشركين، نهى عن اتخاذ الآلهة، ومع ذلك جاء تأكيده بالاثنين، زيادةً في المبالغة (٢) ، ومِن ثَمّ عقّبه بقوله: ( إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ) .

وإنّما جاء بالتثنية باعتبار اتخاذ إلهٍ آخر معه سبحانه، أي لا تتّخذوا مع الله إلهاً آخر، والمعنى: النهي عن التعدّد في الآلهة وإن كان في صياغة المثنّى (٣) وقد بحثنا عن إرادة الشِّياع من المثنّى بتفصيل فليُرجع إليه (٤) .

( وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ) (٥)

يقال: إنّه تعريب (جورداي) اليونانيّة، اسم لسلسلة جبال تمتدّ من شماليّ العراق فإلى تركيا، وبلاد أرمينيّة ذات قمّة رفيعة (٥١٧٥ متراً) عُرفت بـ (آراراط) شاع عند الأرامنة - القاطنين في المنطقة - أنّها مَرسى سفينة نوح، وأخذ عنهم العرب من غير تحقيق.

ويرجع هذا الشِّياع إلى عهدٍ متأخّر (منذ القرن العاشر بعد الميلاد) حيث تُرجمت عبارة التوراة: (رست السفينة على جبل الأكراد) بجبل آراراط.

ولم تكن الأرامنة تعرف لذلك الوقت مَرسى متعيّناً للسفينة، حتى شُوّهت عليهم هذه الترجمة الخاطئة، وجَعلت الأوهام تحيك حولها أساطير.

جاء في دائرة المعارف الإسلاميّة: والمـُحَقَّق من كتابات كثير من المؤلّفين الأرمن وغيرهم مِن الكُتّاب أنّ جبل (آراراط) لم يكن له حتّى القرن العاشر صلة مّا بحادث الطوفان.

____________________

(١) النحل ١٦: ٥١.

(٢) راجع: مجمع البيان للطبرسي، ج ٥، ص ١٦١.

(٣) المصدر: ج ٦، ص ٣٦٥.

(٤) فيما يأتي في البحث عن آية ( وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ) فيما توهّم من المخالفة مع العلم.

(٥) هود ١١: ٤٤.

٤٣

فالرواية الأرمنيّة القديمة لا تَعرف - على التحقيق - شيئاً على جبل استقرّت عليه فلُك نوح، فلمـّا أن جاء ذِكرُ جبلٍ في المؤلّفات الأرمنيّة المتأخّرة تبيّن أنّ ذلك كان بتأثير الكتاب المـُقدّس المتزايد في هذه المؤلّفات، والكتاب المـُقدّس هو الذي يقول: إنّ السفينة استقرّت على جبال أراراط، وأعلى هذه الجبال وأشهرها جبل (ماسك) (ماسيس) ومِن ثَمّ فلابدّ أنّ نوحاً قد حطّ بسفينته على هذا الجبل.

أمّا المرحلة الثانية مِن نموّ هذه الرواية الأرمنيّة فَتُرَدُّ إلى الأوربيّين، الّذين أطلقوا اسم آراراط (بالأرمنيّة: إيراراط) وهو اسم ناحية على جبل ماسك، استناداً على تفسيرٍ خاطئ لسِفر التكوين (١) .

وإنّما أخذت الرواية القائلة بأنّ (ماسك) هو الجبل الذي استقرّت عليه السفينة، تجد مكاناً في المؤلّفات الأرمنيّة في القرنَينِ الحادي عشر والثاني عشر، وتذهب التفاسير الدينيّة السابقة على هذا في الزمن، إلى أنّ الجبل المعروف الآن بجبل (الجوديّ) أو جبال (جورديين) (بالسريانيّة: قردو، وبالأرمنيّة: كُردُخ) - كما تقول المصادر النصرانيّة - هو المكان الذي رست عليه سفينة نوح.

والمـُحقَّق أنّ هذا التحديد للمكان الذي استقرّت عليه السفينة - وهو التحديد الذي ذُكِر حتّى في الترغوم (الترجمة الكلدانيّة للعهد القديم) - يُسنَد إلى الرواية البابليّة، وقد نشأ من الاسم البابلي (برسوس).

زد على ذلك أنّ جبل (نصر) الذي ذُكِر في قصّة الطوفان في الكتابات المسماريّة يصحّ أيضاً أنْ يُحدّد مكانه في جبال (جورديين) بالمدلول الواسع لهذا الاسم، وقد أخذ النصارى بالرواية البابليّة اليهوديّة القديمة، وعرفها العرب منهم عندما وصلوا بفتوحاتهم إلى إقليم (بهستان) (بلاد أرمينيّة)، وأطلق العرب اسم الجودي - الوارد في القرآن - في غير تثبّتٍ على جبل (قردو) المعروفة بذلك منذ أقدم الزمن.

____________________

(١) المصدر: ٨ / ٤.

٤٤

وما زالت المنطقة المحيطة بجبل الجودي إلى يومنا هذا حافلة - كالمنطقة المحيطة بجبل آراراط - بالأساطير والذكريات المتّصلة بقصّة الطوفان وحياة نوح بعد إذ غادر السفينة (١) .

* * *

وهكذا نرى الجغرافيّ الكبير ياقوت الحموي (ت ٦٢٦) متأثّراً بتلكُم الأساطير المسطّرة، يقول: الجوديّ جبل مُطلّ على جزيرة (ابن عمر) في الجانب الشرقي من دجلة من أعمال الموصل، عليه استوت سفينة نوح (عليه السلام).

ثُمّ يَذكر نصّ التوراة - مُستشهِداً به -: (... واستقرّت السفينة على الجودي في شهر كذا ويوم كذا... ويقول: هذا تعريب التوراة حرفاً حرفاً) (٢) .

ما ندري ماذا كان الأصل حتّى ترجمه إلى ذلك؛ ولعلّه لُقّن بذلك - وهو روميّ الأصل - من بعض الأرامنة المسيحيّين، وهكذا لقّن أبناء الإسلام بأوهام جاءتهم من قبل أهل الكتاب!

هذا، ومن ورائهم زَرافات من المفسّرين سواء في الغابر والحاضر - مع الأسف - من غير تريّث ولا تحقيق، وكم له من نظائر في مواضع من التفسير، أشهرها وأشنعها تفسيرهم ذا القرنين بالإسكندر الكبير!

ومِن مُضاعفات هذا الزعم - كما نبّه عليه المحقّق الشعراني - (٣) القول بعموم الطوفان المستحيل (٤) إذ لازمه أنْ يكون الماء قد غمر رؤوس الجبال الشامخات، حيث رست السفينة - بعد ما أخذت المياه في النضوب - على قمّة جبلٍ ترتفع خمس كيلو مترات!

وممّا يجدر التنبّه له: أنّ القوم حسبوا من كلمة (الجودي) - باعتبارها اسم جبل - أنّها أعجميّة معرّبة، فراحوا يجوبون البلاد علّهم يعثروا على ذلك الأصل أهو (جورداين) أو (جورداي) أو (قوردو) أو غيرها؟

____________________

(١) راجع: دائرة المعارف الإسلاميّة المـُترجمة إلى العربيّة، ج ٧، ص ١٦١ - ١٦٣ (الجودي).

(٢) معجم البلدان، ج ٢، ص ١٧٩.

(٣) معجم لغات القرآن للشعراني، ج ١١، ص ١٤٤.

(٤) عادةً في الطبيعة، ولا ضرورة تدعو إلى مثل هذا الإعجاز!

٤٥

لكن لا مُبرّر لهذا الحُسبان بعد أن كان لهذه الكلمة أصل عربي خالص، ولها سابق التعبير في جاهليّة العرب.

قال أُميّة بن أبي الصلت:

سبحانه ثُمّ سبحاناً يعود له

وقبله سبّح الجوديُّ والجُمُدُ

الجودي - من الجود -: الرَّبوة من الأرض تجود بنباتها إذا أصابها وابلٌ آتت أكلها ضعفين، والجُمُدُ: الحَزِنة من الأرض تجمُد بنباتها وتبخل سواء أصابها وابلٌ أو طلّ.

قال أبو مسلم الإصبهاني: الجودي اسم لكلّ جبل وأرض صُلبة (١) ، في مقابلة الرَّخوة، أي استقرّت على مرتفع من الأرض غير ذات وحلٍ، وكانت ذات بركة عليه حينما نزل بها.

( قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ ) (٢) فأَوّل مفاتح البركات نزوله بأرضٍ ذات بركةٍ .

وأين هذا من حُسبان نزوله في أعالي جبالٍ شامخاتٍ ترتفع عن الأرض السَّهلة بخمس كيلو مترات؟!

وهل كان نزوله حينذاك بسلام وبركاتٍ أم بشقاء وعناء؟!

( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ) (٣)

هذه العبارة (وفار التّنور) إمّا كناية عن فورة سخطه تعالى بمعنى: وثار غضبُ الربّ، كما يقال: فار فائرة إذا اشتدّ غضبه، وبنو فلان تفور علينا قِدْرهم أي يشتدّ غضبُهم علينا.

قال الشاعر:

تفورُ علينا قِدْرُهم فَنُديمها

ونفثؤها عنّا إذا حَمْيُها غلا (٤)

وهكذا فار تنّورهم أي احتدّ سخطهم وثارت نائرتهم، فمعنى (فار التنّور): حمى

____________________

(١) مجمع البيان، ج ٥، ص ١٦٥.

(٢) هود ١١: ٤٨.

(٣) هود ١١: ٤٠.

(٤) أساس البلاغة للزمخشري، ج ٢، ص ٢١٧. وفثأ القدر - بالثاء المثلّثة -: إذا صبّ عليه ماءاً بارداً ليفتر غليانه.

٤٦

غضبُ الربّ، وإمّا أن نأخذ التعبير على حقيقته ليكون التنّور مَفْجَر الماء.

غير أنّ التنّور - في أصله - اسم لما يخبز فيه، والكلمة فارسيّة واستعملتها العرب بلا تحوير.

قال ابن دريد: التنّور فارسيّ معرّب. لا تعرف العرب له اسماً غير هذا؛ فلذلك جاء في التنزيل؛ لأنّهم خوطبوا بما يعرفون.

وقال ابن قتيبة: رُوي عن ابن عبّاس أنّه قال: التنّور بكلّ لسان، عربيّ وعجمي (١) .

واستعير لمـَفْجَر الماء، والتنانير: ينابيع الماء، حيث تفور كما يفور التنّور بالنار.

قال الفيروز آبادي: التنّور: كلّ مَفْجَر ماء، ومحفل ماء الوادي أي مجتمعه، وتنانير الوادي محافله (مواضع تجتمع فيها المياه) وهي الوِهاد والمستنقعات في البراري.

ومعنى الآية على ذلك: وفارت تنانير الأرض أي فاضت ينابيعها وثارت.

وهكذا جاء التعبير في سورة القمر: ( فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ) (٢) .

( فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاّ خَمْسِينَ عَاماً) (٣)

وهل يعيش إنسان في مثل هذا العمر الطويل؟ الأمر الذي لم يَكد يكون معروفاً وحتّى في القرون الماضية، هؤلاء الفراعنة في مصر نجد أجسامهم كأجسام أهل هذه الأيام وأعمارهم لم تختلف عن أعمارنا، وقد مرّ لهم أربعون قرناً أو أكثر، فكيف يكون ذلك؟

يقول الأستاذ عبد الوهاب النجّار: لا مانع من أنْ يعمِّر آدم ومن قُرب منه أعماراً طويلة؛ لأنّ النوع الإنساني كان في بدء نشأته لم يَحمل هموماً، ولم تَعتوره الأمراض المختلفة، ولم تُنهك قوّته الأطعمةُ التي لا يقدر على هضمها، فكان من المعقول أنْ يعيش طويلاً، وأمّا نحن وأمثالنا - ممّن كانوا قبل أربعين قرناً - فقد جئنا بعد أنْ أنهكت النوع

____________________

(١) المعرَّب لأبي منصور الجواليقي، ص ٢١٣، وراجع: جمهرة اللغة لابن دريد، ج ٣، ص ٥٠٢، وج ٢، ص ١٤، وأدب الكاتب لابن قتيبة، ص ٣٨٤.

(٢) القمر ٥٤: ١١ - ١٣.

(٣) العنكبوت ٢٩: ١٤.

٤٧

الإنساني الأمراضُ وطحنته الأدواء، فالواحد منّا عُصارة لآلاف الأمراض التي انتابت آباءه وأُمّهاته، فلم تعد قُوانا تتحمّل العمر الطويل.

وعند العلماء بالطبّ والأحوال الاجتماعيّة أنّ الإنسان قُواه محدودة والحياة العريضة تستنفدها بسرعة، بخلاف الحياة الضيّقة فإنّها تكون طويلة؛ لقلّة ما يُستنفد من قُوى الأجسام بتلك الحياة، فنحن الآن لا نعيش عيشةَ البساطة التي كان يعيشها آدم ومن قُرب منه، بل نتفنّن في أنواع الطعام ولذائد المعيشة بما يُنهك قُُوانا، فلا غرابة أنْ تكون أعمارنا قصيرةً، وقد اجتمعت عليها الأمراض المـُتوارَثة والتبسيط في العيش.

ويقول بعض الأطبّاء الألمان: إنّ إنسان هذا الزمان يمكن أن يعيش ثلاثمِئة سنة إذا اتّبع نظاماً خاصّاً (١) .

وهكذا ذكر الشيخ مُحمّد عبده في إمكان إطالة الأعمار في عهدٍ كانت الحياة غير موسّعة الأطراف، والمعيشة على بساطتها الأُولى غير معقّدة الجوانب، ولا كانت مُزدَحَم الأمراض والأدواء والشدائد والآلام حيث كانت طبيعة العمران ومعيشة الإنسان الفطريّة أسلم للأبدان (٢) .

( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ) (٣)

دلّت الآية على أنّه لم يبقَ بعد الطوفان سوى نوح وَبنيه وذراريه، وحتّى الذين ركبوا معه في الفُلك ممّن آمن به ونجوا من الغَرَق هلكوا وانقرضوا بلا عَقِب، هكذا جاءت في الروايات الإسلاميّة عن ابن عباس وقتادة، قال الكلبي: (لمـّا خرج نوح من السفينة مات من كان معه من الرجال والنساء إلاّ ولده ونساءهم) (٤) ؛ ومِن ثَمّ كان نوح (عليه السلام) هو الأب الثاني لكافّة البشر بعد آدم (عليه السلام).

لكنّه يتنافي وقوله تعالى خطاباً لبني إسرائيل: ( ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ ) (٥) .

____________________

(١) قصص الأنبياء للنجّار، ص ٤٨.

(٢) تفسير المنار، ج ١٢، ص ١٠٤.

(٣) الصافّات ٣٧: ٧٧.

(٤) مجمع البيان، ج ٧، ص ٤٤٧.

(٥) الإسراء ١٧: ٣.

٤٨

والموصول عامّ يشمل مَن رَكَب مع نوح من المؤمنين، ولا يَخصّ وِلْدَ صُلبه - كما قيل - ؛ إذ لا شاهد عليه في ظاهر تعبير القرآن العامّ.

والقول بتشعّب البشر مِن وِلد نوح الثلاثة (سام، حام، يافث) رواية إسرائيليّة بحتة ذكرتها التوراة: (ومن هؤلاء تشعّب كلّ الأرض) (١) .

غير أنّها ذَكرتْ أيضاً أنّ الذين ركبوا مع نوح هم بَنوه وأزواجهم فحسب (٢) ؛ ليكون غيرهم لم يؤمنوا به إطلاقاً ممّا يبدو غريباً جدّاً، أو كانوا آمنوا ولكنّهم بقوا؛ ليكونوا مع المـُغرَقِينَ، وهذا أبعد وأغرب!

فالصحيح ما ذكره القرآن: ( قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاّ قَلِيلٌ ) (٣) فقد ركب معه من المؤمنين جماعة وإن كانوا في قلّة بالنسبة إلى قومه الأكثرين، وقد ذكر المفسّرون أنّهم كانوا ثمانين نفساً (٤) .

فلابدّ أنّ هؤلاء الذين ركبوا معه ونجوا كانوا معه وهبطوا جميعاً بسلام ( قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (٥) .

والتعبير بالأُمم ممّن معه يُعطي تناسل الأُمم منهم، منهم المؤمنون كآبائهم ومنهم الفاسقون، وهذا أيضاً مطلق شامل لكلّ من ركب معه وهبط إلى الأرض بسلام.

فالخطاب - مع بني إسرائيل - بأنّهم ذُرّيةُ مَن حملنا مع نوح (يعني الذين آمنوا به) يشمل الجميع.

ثمّ لو كان المراد ذُرّية وِلد نوح الذين ركبوا معه لكان التعبير بذريّة نوحٍ أَولى، من غير ضرورة تدعو إلى هذا الالتواء في التعبير الموهم!

والوجه فيما ذكره الكلبي وغيره؛ أنّه تأثّرٌ بروايات إسرائيليّة وينبو عنه ظاهر تعبير القرآن.

بقي قوله تعالى: ( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) (٦) يظهر منه أنّ البشريّة أصبحت جميعاً

____________________

(١) سِفر التكوين، إصحاح ٩ / ١٨.

(٢) المصدر: ٧ / ٨.

(٣) هود ١١: ٤٠.

(٤) مجمع البيان، ج٥، ص ١٦٤.

(٥) هود ١١: ٤٨.

(٦) الصافّات ٣٧: ٧٧.

٤٩

من ذريّة نوح ولم يُعقّب الآخرون.

لكن في رواية أبي الجارود عن الإمام مُحمّد بن علي الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى:

( وَجَعَلْنَا ذُرّيّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) قال: (الباقون بالحقّ والنبوّة والكتاب والإيمان في عَقِبه، قال: وليس كلّ مَن في الأرض مِن بني آدم، مِن وِلد نوح) واستشهد (عليه السلام) بالآية من سورة هود: ( ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ ) (١) .

وهو تأويل وجيه يَدعمه قوله تعالى: ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ) (٢) وهذا هو معنى البقاء ( وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ ) (٣) . يعني إبراهيم (عليه السلام) وقال تعالى: ( فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ... ) (٤) .

فالبقيّة الباقية في مصطلح القرآن هم الذين وَرِثوا الكتاب والنبوّة والإيمان، يأمرون بالمعروف ويَنهون عن المنكر، هذا هو البقاء وفي غيره الفناء، الأمر الذي تحقّق في ذرّية نوح وإبراهيم (عليهما السلام).

قال الحسن البصري: هلك المتمتّعون في الدنيا؛ لأنّ الجهل يغلب عليهم والغفلة فلا يتفكّرون إلاّ في الدنيا وعمارتها وملاذّها... (٥)

قال الإمام أمير المؤمنين عليه صلوات المصلّين: (هَلكَ خُزّانُ الأموالِ وهُم أحياءٌ والعلماءُ باقونَ ما بقيَ الدهرُ) (٦) .

نوح (عليه السلام) بعد الهبوط

قال تعالى: ( قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (٧) .

دلّت الآية على أنّ نوحاً هبط بسلامٍ وبركات، فقد أسّس أُمّةً وبنى حضارةً من

____________________

(١) تفسير القُمي، ج ٢، ص ٢٢٣.

(٢) الحديد ٥٧: ٢٦.

(٣) الزخرف ٤٣: ٢٨.

(٤) هود ١١: ١١٦.

(٥) مجمع البيان، ج ٥، ص ١٦٨.

(٦) نهج البلاغة، قصار الكلم، رقم ١٤٧، في كلامه (عليه السلام) مع كميل بن زياد النخعي عليه الرحمة، ص ٤٩٦

(٧) هود ١١: ٤٨.

٥٠

جديد وعمّر الأرض وأحيى البلاد، وسعى في إعلاء كلمة الله في الأرض على بنيانٍ مرصوص.

فقد أخذ من تجارب ماضية دليلاً هادياً له إلى تأسيس معالم جديدة تُنير درب الإنسان إلى حيث سعادته الخالدة، وكان التوفيقُ حليفَه في هذا الشَطر من حياته الكريمة، وصار قدوةً لمـَن جاء بعده من الأنبياء، وحتّى أنّ إبراهيم الخليل (عليه السلام) أصبح من شيعته، ( إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) (١) .

قال تعالى: ( وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ * وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) (٢) .

وكم عاشَ نوح بعد الطوفان؟ القرآن ساكت عنه، وفي الروايات اختلاف، خمسين إلى خمسمِئة عام (٣) أو أكثر ممّا لا اعتداد به.

والدُ إبراهيم (عليه السلام) تارَح أو آزر؟

ذكرت التوراة: أنّ والد إبراهيم (عليه السلام) هو (تارَح) بِراءٍ مفتوحةٍ وحاءٍ مهملة (٤) .

وجاء في القرآن: ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ... ) (٥) .

قال الزجّاج: لا خلاف بين النسّابين أنّ اسم والد إبراهيم (عليه السلام) تارَح، ومِن المـُلحِدة مَن جعل هذا طعناً في القرآن، وقال: هذا النسب - الذي جاء في القرآن - خطأ وليس بصواب.

وحاول الإمام الرازي الإجابة عن ذلك، بأنّه من المحتمل أنّ والد إبراهيم كان مسمّىً باسمين، فلعلّ اسمه الأصلي آزر، وجعل تارَح لقباً له، فاشتهر هذا اللقب وخَفي الاسم، والقرآن ذكره بالاسم (٦) .

ويتأيّدُ هذا الاحتمال بأنّ (تارَح) بالعِبريّة يُعطي معنى الكسول المتقاعس في

____________________

(١) الصافّات ٣٧: ٨٤.

(٢) الصافّات ٣٧: ٧٥ - ٨٤.

(٣) راجع: كمال الدين للصدوق، ص ١٣٤، رقم ٣، وبحار الأنوار، ج ١١، ص ٢٨٩.

(٤) سِفر التكوين، إصحاح ١١ / ٢٧.

(٥) الأنعام ٦: ٧٤.

(٦) راجع: التفسير الكبير، ج ١٣، ص ٣٧، وتفسير البيضاوي، ج٢، ص ١٩٤.

٥١

العمل (١) . أمّا (آزر) فهو النشيط في العمل؛ لأنّه من (الأَزر) بمعنى القوّة والنصر والعون. ومنه (الوزير) أي المـُعين، قال تعالى حكايةً عن موسى بشأن هارون: ( اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ) (٢) وهذا المعنى قريب في اللغات الساميّة، ومن ذلك عازر وعُزير في العِبريّة، وجاءت المادّة بنفس المعنى في العربيّة، قال الله تعالى: ( فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصـَرُوهُ ) (٣) ، ومعلوم أنّ العين والهمزة يتعاوران في اللغتين العِبريّة والعربيّة (٤) .

فلعلّ اسمه الأصلي كان (آزر) بمعنى النشيط، لكنّهم رأوا منه كسلاً وفشلاً في العمل والهمّة فلقبّوه بتارح، وكما اشتهر نبيّ الله يعقوب بلقب (إسرائيل).

* * *

أمّا مفسّرو الشيعة الإماميّة فيَرونَ أنّ (آزر) هذا لم يكن والد نبيّ الله إبراهيم (عليه السلام) وإنْ كان إبراهيم يدعوه أباً؛ لأنّ (الأب) أعمّ من الوالد، فيُطلق على الجدّ للأُمّ، وعلى المربّي والمعلّم والمرشد، وعلى العمّ أيضاً، حيث جاء إطلاق الأب عليه في القرآن، فقد حكى الله على أولاد يعقوب قولهم: ( نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ) (٥) ، وإسماعيل كان عمّاً ليعقوب.

قال الشيخ أبو جعفر الطوسي: والذي قاله الزجّاج يُقوّي ما قاله أصحابُنا: أنّ آزر كان جدّ إبراهيم لأُمّه، أو كان عمّه؛ لأنّ أباه كان مؤمناً، لأنّه قد ثبت عندهم أنّ آباء النبي (صلّى الله عليه وآله) إلى آدم كلّهم كانوا مُوحّدين لم يكن فيهم كافر، ولا خلاف بين أصحابنا في هذه المسألة.

قال: وأيضاً رُوي عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: (نَقَلني اللهُ مِن أصلابِ الطّاهرينَ إلى أَرحامِ الطّاهراتِ، لمْ يُدنّسني بِدَنسِ الجاهليّةِ). وهذا خبر لا خلاف في صحّته (٦) ، فبيّنَ النبيُّ (صلّى الله عليه وآله) أنّ

____________________

(١) جاء في قاموس الكتاب المقدّس (بالفارسيّة) ص ٢٤١: (تارح: تنبل) أي الكسلان.

(٢) طه ٢٠: ٣١.                                      (٣) الأعراف ٧: ١٥٧.

(٤) راجع: قصص الأنبياء للنجّار، ص ٧٠.          (٥) البقرة ٢: ١٣٣.

(٦) ورد في تأويل قوله تعالى: ( وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ) ، الشعراء ٢٦: ٢١٩، بطرق الفريقين أحاديث متضافرة أنّه (صلّى الله عليه وآله) قال: (لمْ أَزَلْ أُنقلُ مِن أصلابِ الطّاهرين إلى أرحامِ الطّاهراتِ). راجع: التفسير الكبير، ج ١٣، ص ٣٩، والدرّ المنثور، ج ٦، ص ٣٣٢، مجمع البيان، ج ٧، ص ٢٠٧.

٥٢

الله نقله من أصلاب الطّاهرينَ، فلو كان فيهم كافر لما جاز وصْفُهم بأنّهم طاهرون؛ لأنّ الله وَصف المشركينَ بأنّهم أنجاس: ( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ) (١) .

قال: ولهم في ذلك أدلّة لا نطوّلُ بذكرها الكتابَ؛ لئلاّ يخرج عن الغرض (٢) .

* * *

وللإمام الرازي هنا بحث طويل وحُجج أقامها دعماً لما يقوله مُفسّرو الشيعة، وأخيراً يقول: فثبت بهذه الوجوه أنّ (آزر) ما كان والد إبراهيم (عليه السلام) بل كان عمّاً له، والعمّ قد يُسمّى بالأب، كما سمّى أولادُ يعقوب إسماعيلَ أباً ليعقوب، وقال النبي (صلّى الله عليه وآله) بشأن عمّه العباس حين أُسِر: (ردّوا عليَّ أبي).

قال: وأيضاً يُحتمل أنّ (آزر) كان والد أُمّ إبراهيم، وهذا قد يقال له الأب، والدليل عليه قوله تعالى: ( وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ - إلى قوله - وَعـِيسَى ) (٣) ، فجعل عيسى من ذرّية إبراهيم، مع أنّه (عليه السلام) كان جدّاً لعيسى من قبل الأُمّ (٤) .

* * *

ولسيّدنا الطباطبائي تحقيق بهذا الشأن، استظهر من القرآن ذاته أنّ (آزر) الذي خاطبه إبراهيم بالأُبوّة وجاء ذلك في كثير من الآيات لم يكن والده قطعيّاً.

وذلك أنّ إبراهيم في بداية أمره حين كان بين أَظهُر قومِه من أرض كِلدان، وكان تحت كفالة آزر، وقد حاجّ قومه وحاجّ أَباه كثيراً وفي فترات ومناسبات مؤاتية، وكان أبوه آزر يطارده ويؤنّبُه على جُرأته على آلهة قومه: ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً * إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً * قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي

____________________

(١) التوبة ٩: ٢٨.

(٢) تفسير التبيان للطوسي، ج ٤، ص ١٧٥. وراجع: أيضاً مجمع البيان، ج ٤، ص ٣٢٢.

(٣) الأنعام ٦: ٨٤ و ٨٥.

(٤) التفسير الكبير، ج ١٣، ص ٤٠.

٥٣

حَفِيّاً ) (١) .

فإبراهيم هنا قد وَعَد أباه أنْ يستغفرَ له، وبالفعل وَفيَ بِوعده: ( رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ * وَاغْفِرْ لأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ ) (٢) .

لكن سُرعان ما رجع عمّا كان قد رجا في أبيه خيراً، ومِن ثَمّ تبرّأ منه حين لم يرجُ فيه الصلاح ويئِس منه، قال تعالى: ( وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ) (٣) .

هذا في بداية أمره قبل مغادرة بلادِه وقومِه قاصداً البلاد المقدّسة، والدليل على ذلك أنّه يبدأ الدعاء بقوله: ( رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ... الخ).

* * *

وبعد ذلك يأتي دورُ مغادرتِه إلى الأرض المقدّسة، ويبتهل إلى الله أن يرزقَه أولاداً صالحين. ( فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ * وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ) (٤) .

وهنا يُجيب الله دعاءه: ( وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ ) (٥) .

ثمّ إنّه لمـّا كَبُر ابنه إسماعيل وبنى البيتَ الحرام نراه يدعو لوالديه ويستغفر لهما: ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ ) إلى قوله: ( رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ) (٦) .

قال العلاّمة الطباطبائي: والآية بما لها من السياق والقرائن المـُحتفّة بها خير شاهدةٍ على أنّ والدَهُ الذي دعا له واستغفر له هنا غير أبيه آزر الذي تبرّأ منه في سالف الأيّام، فقد تحصّل أنّ آزر الذي جاء ذِكره في تلك الآيات لم يكنْ والد إبراهيم ولا أباه الحقيقي،

____________________

(١) مريم ١٩: ٤١ - ٤٧.

(٢) الشعراء ٢٦: ٨٣ - ٨٦.

(٣) التوبة ٩: ١١٤.

(٤) الصافّات ٣٧: ٩٨ - ١٠٠.

(٥) الأنبياء ٢١: ٧١ و ٧٢.

(٦) إبراهيم ١٤: ٣٥ - ٤١.

٥٤

وإنّما صحّ إطلاق الأب عليه لوجود عناوين تسوّغ اللغة مثل هذا الإطلاق كالجدّ للأمّ والعمّ، وزوج الأُمّ، وكلّ مَن يتولّى شأن صغير، وكذا كلّ كبير مُطاع، ونحو ذلك، وليس مثل هذا التوسّع في إطلاق لفظ الأب مختصّاً بلغة العرب، بل هو جارٍ في سائر اللغات أيضاً (١) .

الذبيح هو إسماعيل وليس بإسحاق!

جاء في سِفر التكوين، الإصحاح ٢٢:

١ - وحدث بعد هذه الأمور أنّ الله امتحن إبراهيم، فقال له: يا إبراهيم، خذ ابنك وحيدك الذي تحبّه إسحاق واذهب إلى أرض المريّا وأَصعِده هناك.

٩ - فلمـّا أتيا إلى الموضع ورتّب الحطب وربط إسحاق ابنه ووضعه على المـَذبح فوق الحطب.

١٠ - ثمّ مدّ إبراهيم يده وأخذ السكّين ليذبح ابنه.

١١ - فناداه مَلاك الربّ من السماء.

١٢ - فقال: لا تمدّ يدك إلى الغلام ولا تفعل به شيئاً؛ لأنّي الآن علمت أنّك خائف الله، فلم تُمسك ابنك وحيدك عنّي.

١٣ - فرفع إبراهيم عَينَيه ونظر وإذا كبش وراءه مُمسكاً في الغابة بِقرنَيه، فذهب إبراهيم وأخذ الكبش وأصعده مَحرقةً عِوضاً عن ابنه.

١٥ - ونادى مَلاك الربّ إبراهيم ثانيةً من السماء، وقال: بذاتي أقسمتُ يقول الربّ: إنّي من أجل أنّك فعلت هذا الأمر ولم تُمسك ابنك وحيدك، أبارِكُكَ مباركةً، وأُكثِر نسلك تكثيراً كنجوم السماء وكالرمل الذي على شاطئ البحر، ويرث نسلك باب أعدائه، ويتبارك في نسلك جميع أُممِ الأرض؛ من أجل أنّك سمعتَ لقولي.

* * *

بَطلُ هذه القصّة عند اليهود هو إسحاق، ولعلّ لفظ إسحاق حُشِر حشراً في غضون القصّة؛ وذلك حرصاً من بني إسرائيل على أن يكون أبوهم هو الذبيح الذي جاء بنفسه في طاعة ربّه، وبُوركَ للعالمينَ في نسله.

____________________

(١) راجع: تفسير الميزان، ج ٧، ص ١٦٨ - ١٧١.

٥٥

غير أنّ التعبير بـ (ابنك وحيدك) - دليلاً على سخاء نفس إبراهيم بولده الوحيد يذبحه امتثالاً لأمر ربّه - ممّا يتنافى وكون الذبيح هو إسحاق، الذي كان أصغر من أخيه إسماعيل بأربعة عشرة عاماً.

فالابن الوحيد الذي جادت نفس إبراهيم بذبحه ليس سوى إسماعيل.

وقرينة أخرى: إنّ الذي بُورك العالمونَ بنسلهِ وأفاض نسلُهُ بالبركات على العالمينَ هو إسماعيل، دون إسحاق الذي كان ولا يزال نسله (بنو إسرائيل) نكبةً في العالمينَ، ومَفْجَر الفساد بين العباد، والعيث في البلاد.

وفي القرآن إشارة إلى ذلك، حيث يقول تعالى ( فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ ) (١) .

فالتبشير الأَول بغلامٍ حليم يُنبئ عن أنّ إبراهيم لم يكن صاحب وَلَد لحينذاك؛ حيث بشّره بغلام.

والتبشير الثاني جاء تصريحاً باسم إسحاق نبيّاً من الصالحين، فيدلّ على أنّ التبشير الأَوّل كان بغير إسحاق، وهو إسماعيل.

وفي الإصحاح ٢١ من سِفر التكوين:

إنّ الربّ بشّر إبراهيم بنسلٍ في وَلَده إسحاق، وبنسلٍ في وَلَده إسماعيل، ولكن يجعل من نسلِ إسماعيلَ أُمّةً.

جاء في العدد ١٢: لأنّه بإسحاق يُدعى لك نسل.

____________________

(١) الصافّات ٣٧: ١٠١ - ١١٣.

٥٦

وفي العدد ١٣: وابن الجارية أيضاً سأجعله أُمّةً؛ لأنّه نسلك.

ومن ذلك يُعرف أنّ البركة العامّة الشاملة التي جُعِلت في نسل الذبيح خاصّة بوِلد إسماعيل، فقد أصبحوا أُمّةً هيمنت ببركتها ما بين الخافقَينِ.

قصّة لوط مع ابنتَيه كما هي في التوراة

جاء في الإصحاح ١٩ من سِفر التكوين:

٣٠ - وصعد لوط من صُوغَر وسكن في الجبل وابنتاه معه؛ لأنّه خاف أنْ يَسكن في صُوغَر، فسكن في المغارة هو وابنتاه.

٣١ - وقالت البِكر للصغيرة: أبونا قد شاخ وليس في الأرض رجلٌ ليدخلَ علينا كعادة كلّ الأرض.

٣٢ - هلمـّ نَسقي أبانا خمراً ونضطجعُ معه، فنُحيي من أبينا نسلاً.

٣٣ - فَسَقَتا أباهما خمراً في تلك الليلة، ودخلت البِكر واضطجعت مع أبيها، ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها.

٣٤- وحدث في الغد أنّ البكر قالت للصغيرة: إنّي قد اضطجعتُ البارحةَ مع أبي، نَسقيه خمراً الليلةَ أيضاً، فادخلي اضطجعي معه، فنُحيي من أبينا نسلاً.

٣٥ - فَسَقتا أباهما خمراً في تلك الليلة أيضاً، وقامت الصغيرة واضطجعت معه، ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها.

٣٦ - فجعلت ابنتا لوط من أبيهما.

٣٧ - فولدت البِكر ابناً ودعت اسمه مؤاب، وهو أبو المؤابيّين إلى اليوم.

٣٨ - والصغيرة أيضاً ولدت ابنا ودعت اسمه بن عمّي، وهو أبو بني عمّون إلى اليوم.

* * *

هذا، ولكنّ القرآن يأبى أنْ تتلوّث ساحة قُدسِ نبيٍّ من أنبيائه بِمثل هكذا تلوّث فضيع، فقد نزلت بشأنه ورفعةِ مقامِهِ آياتٌ تُتلى؛ ولتكون شهادةً من الله بنزاهةِ ساحةِ قدس أوليائه الكرام:

٥٧

قال تعالى: ( وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ) (١) .

( وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلاّ عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ ) (٢) .

يعقوب ينتهب النبوّة من أخيه عيسو!

لم تتوان اليهود في الحطِّ من كرامة الأنبياء حتّى ولقد مدّوا يد التدنيس إلى حياة أبيهم يعقوب ليجعلوه مُتزوّراً، لبّسَ الأمرَ على أبيه إسحاق لينتهبَ النبوّة من أخيه - عيسو -؛ حيث كان مُرشّحاً لها من قِبل أبيه، فأغفل يعقوب أباه إسحاق واستغلّ عَماه ليتصوّر أنّه عيسو فيبارك له بالنبوّة! في مثل هذا التلاعب الصبياني تذكر التوراة حادث انتقال النبوّة من إسحاق إلى يعقوب، يا لها مِن مهزلة حمقانيّة وإساءة أدب إلى ساحة أنبياء الله العظام! (٣)

____________________

(١) الأنبياء ٢١: ٧٤ و ٧٥.

(٢) الصافّات ٣٧: ١٣٣ - ١٣٥.

(٣) جاء في الإصحاح ٢٧ من سِفر التكوين:

وحَدَث لمـّا شاخ إسحاق وكلّتْ عيناه أنّه دعا عيسو ابنه الأكبر وقال: اخرج إلى البريّة وتصيّد لي صيداً، واصنع لي أطعمةً حتّى تباركَك نفسي قبل أنْ أموت، وكانت رفقة (زوجة إسحاق وأُمّ يعقوب) سامعةً إذ تكلّم إسحاق مع عيسو ابنه، فكلّمت يعقوب ابنها بما قال أبوه، قال: فالآن يا بني اذهب إلى الغنم وخذ جديَّينِ جيّدين مِن المعزى، فاصنعهما أطعمةً لأبيك كما يحبّ، فتُحضرها إليه ليأكلَ و يباركك قبل وفاته، فذهب يعقوب وأخذ وأحضر لأُمّه، فصنعت أطعمةً كما كان يُحبّ أبوه، وأخذت رفقة لباس عيسو الفاخرة وألبستها ابنها يعقوب، وألبست يديه وملاسة عُنقه جلود جديَي المعزى - لأنّ عيسو كان أشعر ويعقوب كان أملس - صنعت ذلك تلبيساً على إسحاق، وأعطت الأطعمة في يد يعقوب، فدخل إلى أبيه وقال: يا أبي فقال: ها أنا ذا، من أنت يا بني؟ فقال يعقوب: أنا عيسو بِكرُك، قد فعلتُ كما كلّمتني، قم اجلس وكل من صيدي لكي تباركَني نفسُك، فقال إسحاق: ما هذا الذي أسرعت؟ فقال: إنّ الربّ إلهك قد يسّر لي. فقال إسحاق: تقدّم لأَجُسّك يا بني، أَأنت هو ابني عيسو أم لا؟ فتقدّم يعقوب، فجَسّه وقال: الصوتُ صوت يعقوب، ولكنّ اليدين يدا عيسو، ولم يعرفه؛ لأنّ يديه كانتا مُشعرتين كَيَدي عيسو أخيه، فباركه وقال: هل أنت هو ابني عيسو؟ فقال: أنا هو؛ فدعا له إسحاق وقال ليُستعبد لك شعوبٌ، وتسجد لك قبائلٌ، كنْ سيّداً لإخوتك وليسجد لك بنو أُمّك، وعندما فرغ إسحاق من بركةِ يعقوب وخرج من عنده جاء عيسو وأتى بالصيد ليبارك له أبوه فارتعد إسحاق ارتعاداً عظيماً جدّاً، واتّضح الأمر، فصرخ عيسو صرخةً عظيمةً ومرّةً جدّاً، وقال لأبيه: باركني أيضاً، فقال: قد جاء أخوك بمَكرٍ وأخذَ بركتَك، ورفع عيسو صوته وبكى، وقال: قد أخذ يعقوب بكورتي وبركتي، وعزم على قتل أخيه؛ لولا فراره من وجهه واختفاؤه عند أخواله بإشارة من أُمّه رفقة، وهكذا أصبح يعقوب نبيّاً وأصبح إخوته عبيداً له.

٥٨

يعقوب يصارع الربّ

وكارثةً أُخرى ألصقوها بنبيّ الله يعقوب، وهي أنّه صارع الربّ ليلته كلّها، ولم يتركه حتّى ضربه الربّ على حقّ فخذه أي رأس ورِكه، فباركَه حتّى تركه يعقوب (١) .

أمّا القرآن فإنّه يصف إسحاقَ ويعقوب بأجمل وصف، وأنّهما من عباد الله الصالحينَ: ( وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ * وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الأَخْيَارِ ) (٢) .

( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) (٣) .

والآيات بترفيع شأن إبراهيم وبَنيه إسحاق ويعقوب وإسماعيل كثيرةٌ في القرآن، على العكس ممّا جاء في التوراة اليهوديّة، من الحطّ بكرامة الأنبياء (عليهم السلام).

خروج بني إسرائيل وتجاوزهم البحر

جاء في سِفر الخروج أنّ فرعون اضطرّ إلى إطلاق سراح بني إسرائيل؛ لِما أصاب القبطيّين من الجدب والبلاء، لكنّه فور ما أطلق سراحهم ندم على ذلك فأخذ هو وجنوده

____________________

(١) جاء في الإصحاح ٣٢ من سِفر التكوين رقم ٢٢ - ٢٩:

ثمّ قام في تلك الليلة وأخذ امرأتَيه وجاريتَيه وأولاده الأحد عشر، وعَبَرَ مخاضةَ يبوق، أخذهم وأجازهم الوادي وأجاز ما كان له، فبقى يعقوب وحده. وصارعه إنسان حتّى طلوع الفجر، ولمـّا رأى أنّه لا يقدر عليه ضرب حُقّ فَخِذه، فانخلع حُقّ فَخِذ يعقوب في مصارعته معه، وقال: أَطلقني؛ لأنّه قد طلع الفجر، فقال لا أُطلقك إنْ لم تباركْني. فقال له ما اسمك؟ فقال: يعقوب. فقال: لا يُدعى اسمك في ما بعد يعقوب، بل إسرائيل؛ لأنّك جاهدت مع الله والناس وقدرت، وسأل يعقوب وقال: أَخبرني باسمك. فقال: لماذا تسأل عن اسمي؟ وباركه هناك، فدعا يعقوب اسم المكان فنيئيل، قائلاً: لأنّي نظرت الله وجهاً لوجه.

(٢) ص ٣٨: ٤٥ - ٤٧.

(٣) الأنعام ٦: ٨٣ - ٨٨.

٥٩

يعقّبونهم ليردّوهم إلى الذلّ والعبوديّة الأُولى، غير أنّ بني إسرائيل ضلّوا الطريق إلى فلسطين - وكانت قريبةً - فأخذوا في الطريق البعيد، وتقول التوراة: إنّ الله هو الذي أَضلّهم كي لا يندموا إذا رأَوا حرباً فيرجعوا إلى مصر، فأَدركهم فرعون وهم على ضفّة البحر الأحمر، فلمـّا رأى بنو إسرائيل فرعونَ وجنودَه ذَعَروا وفَزِعوا إلى موسى، فأوحى الله إليه أنّهم ناجون وأنّ فرعون وجنوده سوف يغرقون، وحال بينهم وبين فرعون.

فأَمر الله موسى أنْ يضربْ بعصاه البحر ويشقّه، ففعل فأجرى الله بريحٍ شرقيّةٍ شديدة كلّ اللّيل، وجعل البحر طريقاً يابسةً وانشقّ الماء، فمشى بنو إسرائيل على اليابسة في وسط البحر والماء كالسور عن يمينهم وعن يسارهم وعبروا إلى الضفّة الأُخرى، ورآهم فرعون يسيرون على اليابسة فسار في أَثرهم، فلمـّا توسّط اليمّ وعَبر بنو إسرائيل جميعاً انطبق الماء على فرعون وجنوده فأُغرِقوا جميعاً ولم يبقَ منهم ولا واحد (١) .

ونصّت التوراة أنّ البحر الذي جاوزه بنو إسرائيل هو بحر سُوف (٢) ، والموضع الذي انشقّ منه كان عند فم الحيروث أتام بعل صفون (٣) ، وجاء في قاموس الكتاب المقدّس أنّه (القُلزم) (٤) .

و(فم الحيروث) مَضيق قُرب نهاية خليج السويس على ما جاء في خارطة الأراضي المقدّسة - مُلحق كُتب العهدَين.

وهكذا جاء في المأثور من دعاء (السِّمات) المعروف بدعاء (شبّور): (ويوم فَرَقتَ لبني إسرائيل البحر وفي المـُنبجسات التي صنعت بها العجائب في بحر سُوف...).

وقال العلاّمة المجلسي - في شرح الدعاء -: سمّاه الهروي في الغريبَين (إساف) قال: وهو الذي غَرِق فيه فرعون: قال المجلسي: وهذا البحر هو بحر القُلزم (٥) .

ولعلّ ما جاء في عبارة الدعاء (وفي جبل حوريث) (٦) ، أيضاً إشارة إلى (فم الحيروث).

____________________

(١) سِفر الخروج، إصحاح ١٠ - ١٤.

(٢) المصدر: ١٣ / ١٨، و ١٥ / ٥.

(٣) المصدر: ١٤ / ٩.

(٤) قاموس الكتاب المقدّس لجيمس هاكس، ص ٤٩٦.

(٥) بحار الأنوار، ج ٨٧، ص ١١٢.

(٦) بحار الأنوار، ج ٨٧، ص ١١٢.

٦٠

٦١

ورد في كتاب ( السلطان المفرج عن أهل الإيمان )(١) ثلاث حكايات وقعت ببركة صاحب المقام عجل الله تعالى فرجه الشريففي القرن الثامن الهجري ، لم تقتري الحكاية الأولى بتاريخ لكن الحكايتين التاليتين ورد فيهما تاريخ صريح ، فلنورد الحكاية الأولى ثم الثانية والثالثة تباعاً

وقبل أن ننقل الحكايات الثلاث ، تذكر ترجمة صاحب الكتاب ، وثناء العلماء عليه حتى يتبين لنا صدقه في النقل.

أقول : إن مؤلف كتاب ( السلطان المفرج عن أهل الإيمان ) ، هو السيد بهاء الدين علي ابن السيد غياث الدين عبد الكريم بن عبد الحميد بن عبد الله بن أحمد بن حسن بن علي بن محمد بن علي غياث الدين(٢) ابن السيد جلال الدين عبد الحميد(٣) بن عبد الله بن أسامة(٤) بن أحمد بن علي بن محمد بن عمر(٥) بن يحيى ( القائم

__________________

١ ـ نقلاً عن بحار الأنوار / للعلامة المجلسي ( أعلى الله مقامه ).

٢ ـ الذي خرج عليه جماعة من العرب بشط سوراء بالعراق وحملوا عليه وسلبوه فمانعهم عن سلب سراويله فضربه أحدهم فقتله وكان عالماً تقياً.

٣ ـ الذي يروي عنه محمد بن جعفر المشهدي في المزار الكبير وقال فيه : أخبرني السيد الأجل العالم عبد الحميد بن التقي عبد الله بن أسامة العلوي الحسيني رَضيَ اللهُ عَنه في ذي القعدة نم سنة ثمانين وخمسمائة قراءة عليه بحلة الجامعين.

٤ ـ متولّي النقابة بالعراق.

٥ ـ الوئيس الجليل الذي رد الله على يده الحجر الأسود لما نهبت القرامطة مكة في سنة

٦٢

٦٣

بالكوفة ) ابن الحسين ( النقيب الطاهر ابن أبي عاتقة أحمد الشاعر المحدث ) ابن أبي علي عمر بن أبي الحسين يحيى(١) ابن أبي عاتقة الزاهد العابد الحسين(٢) بن زيد الشهيد ابن علي زين العابدين ابن الحسين بن علي بن أبي طالب: النيلي(٣) النجفي النسابة.

وهو من مشايخ العلامة أبي العباس أحمد بن فهد المجاز منه في ٧٩١ هـ أدرك أواخر عهد فخر المحققين تـ ٧٧١ هـ والسيدين العلمين عميد الدين وضياء الدين والشهيد محمد بن مكي العاملي ويروي عنهم جميعاً ، كما يروي عن الشيخ المقريء والحافظ شمس الدين محمد بن قارون وغيرهم.

وأما كتابه هذا فقد نقل عنه الشيخ حسن ين سليمان الحلي ( من علماء القرن التاسع ) في كتابه ( مختصر بصائر الدرجات ) ص ١٧٦ ، والعلامة المجلسي; في ( بحار الأنوار ) ، والميرزا الافندي; في ( رياض العلماء ) والبهبهاني; في ( الدمعة الساكبة ).

__________________

ثلاث وعشرين وثلاثمائة وأخذوا الحجر وأتو به إلى الكوفة وعلقوه في السارية السابعة من المسجد التي كان ذكرها أمير المؤمنين7 فإنه قال ذات يوم بالكوفة : لا بد أن يسلب في هذه السارية وأومى إلى السارية السابعة والقصة طويلة وبنى قبة جده أمير المؤمنين7 من خالص ماله.

١ ـ من أصحاب الكاظم7 المقتول سنة خمسين ومثتين الذي حمل رأسه في قوصرة إلى المستعين.

٢ ـ الملقب بذي الدمعة الذي رباه الإمام الصادق7 وأورثه علماً جمّا.

٣ ـ النيل : بلدة تقع على نهر النيل ، وهو يتفرع من نهر الفرات العظمى احتفره الحجاج بن يوسف الثقفي سنة ٨٢ هـ وهي مركز الإمارة المزيدية قبل تأسيس الحلة.

٦٤

ويظهر من بعض حكايات الكتاب أن تاريخ كتابته سنة ٧٨٩ هـ(١) وللسيد هذا كتب أخرى لا أرى بايراد أسمائها هنا بأساً :

أ ـ كتاب الأنوار المضيّة في الحكم الشرعية.

ب ـ كتاب الغيبة.

جـ ـ كتاب الدر النضيد في تعازي الحسين الشهيد.

د ـ سرور أهل الإيمان.

هـ ـ كتاب الانحراف من كلام صاحب الكشاف.

و ـ كتاب الأنصاف في الرد على صاحب الكشاف.

ز ـ كتاب شرح المصباح للشيخ الطوسي.

ي ـ كتاب الرجال ( ينسب اليه ).

في الثناء عليه :

قال تلميذه ابن فهد الحلي; تـ ٨٤١ هـ : حدثني المولى السيد السعيد الإمام بهاء الدين

وقال تلميذه الشيخ حسن بن سليمان الحلي; : ومما رواه لي ورويته عنه السيد الجليل السعيد الموفق الموثق بهاء الدين

وقال العلامة المجلسي; : السيد النقيب الحسيب بهاء الدين

وقال الميرزا الافندي; : السيد المرتضى النقيب الحسيب

__________________

١ ـ وللاسف الشديد ان هذا الكتاب لم يطبع إلى الآن برغم وجود نسخه الخطية في المكتبات العامة فمن قلمنا هذا ندعو مؤسسات النشر والتأليف إلى اخراجه للطبع وطبع كتب هذا السيد الجليل وتحقيقها خدمة للمذهب الإمامي واحياءً لآثار هذا السيد الجليل.

٦٥

النسابة الكامل السعيد الفقيه الشاعر الماهر العالم الفاضل الكامل صاحب المقامات والكرامات العظيمة قدس الله روحه الشريفة كان من أفاضل عصره وقال الميرزا النوري; : السيد الأجل الأكمل الارشد المؤيد العلامة النحرير ،(١) كان حياً سنة ٨٠٠ هـ

الحكاية الأولى :

حكاية أبي راجح الحمامي الشيخ الذي أصبح شاباً

نقل العلامة المجلسي ( ١٠٣٧ ـ ١١١١ هـ ) في بحار الانوار عن كتاب ( السلطان المفرج عن أهل الايمان ) تأليف العامل الكامل السيد علي بن عبد الحميد النيلي النجفي ، انه قال : فمن ذلك ما اشتهر وذاع ، وملأ البقاع ، وشهد بالعيان أبناء الزمان ، وهو قصّة أبي راجح الحمامي بالحلة ، وقد حكى ذلك جماعة من الاعيان الاماثل ، وأهل الصدق الافاضل ، منهم الشيخ الزاهد العابد المحقق شمس الدين محمد بن قارون سلّمه الله تعالى قال :

كان الحاكم بالحلة شخصاً يدعى مرجان الصغير ، فرفع إليه أنّ أباراجح هذا يسبّ الصحابة ، فأحضره وأمر بضربه فضرب ضرباً شديداً مهلكاً على جميع بدنه ، حتى انه ضرب على وجهه فسقطت ثناياه ، وأخرج لسانه فجعل فيه مسلّة من الحديد ، وخرق النفه ، ووضع فيه شركة من الشعر وشدّ فيها حبلاً وسلمه الى جماعة من اصحابه ،

__________________

١ ـ انظر : رياض العلماء ج ٤ / ص ٨٨ و ١٢٤ ـ ١٣٠ ، خاتمة المستدرك ط ح ص ٤٣٥ ، سفينة البحار ج ٢ / ط. ح / ص ٢٤٨ الذريعة في أجزائها وطبقات أعلام الشيعة.

٦٦

وأمرهم أن يدوروا به أزقّة الحلة ، والضرب يأخذه من جميع جوانبه ، حتى سقط الى الارض وعاين الهلاك ، فأخبر الحاكم بذلك ، فأمر بقتله ، فقال الحاضرون انه شيخ كبير ، وقد حصل له ما يكفيه ، وهو ميّت لما به فاتر كه وهو يموت حتف أنفه ، ولا تتقلّد بدمه ، وبالغوا في ذلك حتى أمر بتخليته وقد انتفخ وجهه ولسانه ، فنقله أهله في البيت ولم يشكّ أحدّ أنه يموت من ليلته.

فلما كان من الغدغدا عليه الناس فاذا هو قائم يصلّي على أتم حالة ، وقد عادت ثناياه التي سقطت كما كانت ، واندملت جراحاته ، ولم يبق لها أثر ، والشجّة قد زالت من وجهه!

فعجب الناس من حاله وساءلوه عن أمره فقال : اني لما عاينت الموت ولم يبق لي لسان اسأل الله تعالى به فكنت اسأله بقلبي واستغثت الى سيدي ومولاي صاحب الزمان7 .

فلما جنّ عليّ الليل فاذا بالدار قد امتلأت نوراً وإذا بمولاي صاحب الزمان7 قد أمرّ يده الشريفة على وجهي وقال لي : ( اخرج وكدّ على عيالك ، فقد عافاك الله تعالى ) فأصبحت كما ترون.

وحكى الشيخ شمس الدين محمد بن قارون المذكور قال :

وأقسم بالله تعالى إن هذا ابو راجح كان ضعيفاً جداً ، ضعيف التركيب ، اصفر اللون ، شين الوجه ، مقرض اللحية ، وكنت دائماً أدخل في الحمام الذي هو فيه ، وكنت دائماً أراه على هذه الحالة وهذا الشكل.

فلما أصبحت كنت ممن دخل عليه ، فرأيته وقد اشتدّت قوته وانتصبت قامته ، وطالت لحيته ، واحمر وجهه ، وعاد كأنّه ابن عشرين سنة ولم يزل على ذلك حتى أدر كته الوفاة.

٦٧

ولما شاع هذا الحبر وذاع ، طلبه الحاكم وأحضره عنده وقد كان رآه بالأمس على تلك الحالة ، وهو الان على ضدّها كما وصفناه ، ولم يرَ لجراحاته أثراً ، وثناياه قد عادت ، فداخل الحاكم في ذلك رعب عظيم ، وكان يجلس في مقام الأمام7 في الحلة ويعطي ظهره القبلة الشريفة ، فصار بعد ذلك يجلس ويستقبلها ، وعاد يتلطّف بأهل الحلة ، ويتجاوز عن مسيئهم ، ويحسن الى محسنهم ، ولم ينفعه ذلك بل لم يلبث في ذلك الا قليلاً حتى مات.(١)

أقول : روحي وأرواح العالمين لك الفداء.

إيه أيتها الجوهرة المحفوفة بالاسرار كم جهلناك وكم بخسناك حقك؟!

كم أغفلنا ذكرك وانشغلنا بغيرك كم سرحنا أفكارنا بعيداً عنك؟

أترك تعطف علينا اليوم بنظرة من تلك التي مننت بها على ذاك الرجل صاحب الحمام ( العمومي ) ، فتمسح قلوبنا بذاك الاكسير؟! فنحن في هذا الحمى.

بحث حول الحكاية :

أقول : إن هذه الحكاية مشهورة ومتواترة النقل في عصر المؤلف السيد بهاء الدين وتناقلها علماء الحلة ، انظر إلى قول السيد في بداية الحكاية ( فمن ذلك ما اشتهر وذاع وملأ البقاع وشهد بالعيان أبناء الزمان وقد حكى ذلك جماعة من الأعيان الأماثل وأهل الصدق الأفاضل ).

__________________

١ ـ انظر : بحار الانوار ج ٥٢ / ص ٧١ ؛ النجم الثاقب ج ٢ / ص ٢١٩.

٦٨

في أحوال راوي الحكاية وعصرها :

أقول : إن راوي الحكاية هو شمس الدين محمد بن قارون الذي لم أجد له ترجمة في كتب الرجال ، فللفائدة والاستدراك على الكتب الرجالية نذكر ترجمته :

قال السيد بهاء الدين : انه من الأعيان وأهل الصدق الأفاضل ، وقال عنه أيضاً الشيخ الزاهد العابد المحقق شمس الدين محمد بن قارون ،(١) المحترم العامل الفاضل(٢) الشيخ العالم الكامل القدوة المقري الحافظ المحمود المعتمرشمس الحق والدين محمد بن قارون.(٣)

وكما قال عنه الشيخ شمس الدين محمد بن قارون السيبي ،(٤) وكما وصفه أيضاً الشيخ عز الدين حسن بن عبد الله بن حسن التغلبي بـ ( الشيخ الصالح محمد بن قارون ) ،(٥) كان حياً سنة ٧٥٩ هـ

فهو يعد من مشايخ السيد بهاء الدين ، يعني أن شمس الدين كان بالقطع مععاصراً للشهيد الأول ( ٧٣٤ ـ ٧٨٦ هـ ) فاذن وجود شمس الدين محمد بن قارون في بداية القرن الثامن الهجري حياً وروايته لهذه الحكاية ، يدل على أن الحكاية وقعت في النصف الأول من هذا

__________________

١ ـ انظر : بحار الأنوار / المجلسي; ، ج ٥٢ / ص ٧١.

٢ ـ انظر : المصدر السابق ص ٧٢.

٣ ـ انظر : جنة المأوى / النوري; ص ٢٠٢.

٤ ـ نسبة إلى ( السيب ) بكسر أوله وسكون ثانيه ، وهو نهر في ذنابة الفرات بقرب الحلة ، وعليه بلد يسمى باسمه.

٥ ـ كتاب الدر النضيد في تعازي الحسين الشهيد نقلا عن رياض العلماء ج ٢ / ص ١١.

٦٩

القرن السالف الذكر والدليل على ذلك الحكاية الثانية التالية والتي يرويها أيضا شمس الدين محمد بن قارون والحاصلة في سنة ٧٤٤ هـ

وهو غير الشيخ الفقيه الصالح شمس الدين محمد بن أحمد بن صالح السيبي القسيني ، تلميذ السيد فخار بن معد الموسوي المجاز منه سنة ٦٣٠ هـ ( وهي سنة وفاة السيد فخار ) وهو صغير لم يبلغ الحلم وأجازه الشيخ والده أحمد سنة ٦٣٥ هـ وأجازه الشيخ محمد بن أبي البركات اليماني الصنعاني سنة ٦٣٦ هـ والمجيز لنجم الدين طومان بن أحمد العاملي سنة ٧٢٨ هـ فإن هذا الشيخ متقدم على الشيخ شمس الدين محمد بن قارون السيبي.(١)

تنبيه لكل نبيه :

قال ابن بطوطة في رحلته ( سافرنا من البصرة فوصلنا إلى مشهد علي ابن ابي طالب رَضي اللهُ عَنه وزرنا ، ثم توجهنا إلى الكوفة فزرنا مسجدها المبارك ثم إلى الحلة حيث مشهد صاحب الزمان واتفق في بعض الأيام أن وليها بعض الامراء فمنع أهلها من التوجه على عادتهم الى مسجد صاحب الزمان وانتظاره هنالك ومنع عنهم الدابة التي كانوا يأخذونها كل ليلة من الأمير فأصابت ذلك الوالي علة مات منها سريعاً فزاد ذلك في فتنة الرافضة وقالوا انما أصابه ذلك لأجل منعه الابة فلم تمنع بعد ).(٢)

أقول : ان كلام ابن بطوطة المتقدم آنفاً هو في زيارته الثانية للحلة ، فابن بطوطة مرَّ في الحلة مرتين الأولى كانت سنة ٧٢٥ هـ في عهد الوالي ( حسن

__________________

١ ـ انظر : الذريعة إلى تصانيف الشيعة / الطهراني; ج ١ / ص ٢٢٩ و ٢٢٠.

٢ ـ انظر : رحلة ابن بطوطة ج ٢ / ص ١٧٤.

٧٠

الجلايري ) والثانية بعد عودته من بلاد الهند والصين والتتر وبينهما عدة سنين ، وأظن ان الوالي المذكور في حكاية أبي راجح الحمامي والمذكور في زيارة ابن بطوطة الثانية واحد باعتبار أن عصر الحكايتين واحد وان الوالي المذكور في الحكايتين كان يؤذي أهل الحلة ( فالأمر ليس أمر انتظار صاحب الزمان ولا أمر الدابة ) ، وقد مات بفعله هذا ، وهذا عن أهل الحلة ليس ببعيد ففيهم بقول أمير المؤمنين7 : ( يظهر بها قوم أخيار لو أقسم أحدهم على الله لأبرقسمه ).(١)

الحكاية الثانية :

حكاية ابن الخطيب وعثمان والمرأة العمياء التي أبصرت

ونقل من ذلك الكتاب عن الشيخ المحترم العامل الفاضل شمس الدين محمد بن قارون المذكور قال :

كان من أصحاب السلاطين المعمر بن شمس يسمى مذوّر ، يضمن القرية المعروفة ببرس ، ووقف العلويين ، وكان له نائب يقال له : ابن الخطيب وغلام يتولّى نفقاته يدعى عثمان ، وكان ابن الخطيب من أهل الصلاح والايمان بالضدّ من عثمان وكانا دائماً يتجادلان ، فاتفق انهما حضرا في مقام ابراهيم الخليل7 بمحضر جماعة من الرّعيّة والعوام فقال ابن الخطيب لعثمان : يا عثمان الان اتضح الحق واستبان ، أنا أكتب على يديّ من أتولاه ، وهم علي والحسي والحسين ، واكتب أنت من تتولاه ابوبكر وعمر وعثمان ، ثم تشدّ يديّ ويدك ، فأيّهما احترقت يده بالنار كان على الباطل ، ومن سلمت يده كان على الحق ، فنكل عثمان ، وأبى أن يفعل ، فأخذ الحاضرون من الرّعيّة

____________

١ ـ انظر : بحار الأنوار المجلسي; ج ٦ / ص ١٢٢.

٧١

والعوان بالعياط عليه ، هذا وكانت ام عثمان مشرفة عليهم تسمع كلامهم فلمّا رأت ذلك لعنت الحضور الذين كانوا يعيّطون على ولدها عثمان وشتمتهم وتهدّدت وبالغت في ذلك فعميت في الحال! فلما أحست بذلك نادت الى رفقائها فصعدن اليها فاذا هي صحيحة العينين! لكن لاترى شيئاً ، فقادوها وأنزلوها ، ومضوا بها الى الحلة وشاع خبرها بين الصحابها وقرائبها وترائبها ، فاحضروا لها الاطباء من بغداد والحلة ، فلم يقدروا لها على شيء ، فقال لها نسوة مؤمنات كنّ أخدانها : ان الذي أعماكِ هو القائم7 فأن تشيعتي وتولّيتي وتبرأتي ( كذا )(١) ضمنّا لك العافية على الله تعالى ، وبدون هذا لا يمكنك الخلاص ، فأذعنت لذلك ورضنبت به ، فلما كانت ليلة الجمعة حملنها حتى أدخلنها القبة الشريفة في مقام صاحب الزمان7 وبتن بأجمعهنّ في باب القبة ، فلما كان ربع الليل فاذا هي قد خرجت عليهنّ وقد ذهب العمى عنها! وهي تقعدهنّ واحدة بعد واحدة وتصف ثيابهنّ وحليَهنَ ، فسررن بذلك ، وحمدنَ الله تعالى على حسن العافية ، وقلن لها : كيف كان ذلك؟! فقالت : لما جعلتنني في القبة وخرجتنّ عني أحسست بيد قد وضعت على يديّ ، وقائل يقول : اخرجي قد عافاك الله تعالى. فانكشف العمى عني ورأيت القبة قد امتلات ونوراً ورأيت الرجل ، فقلت له : من أنت يا سيدي؟ فقال : محمد بن الحسن ، ثم غاب عني ، فقمنَ وخرجنَ الى بيوتهنّ وتشيّع ولدها عثمان وحسن اعتقاده واعتقاد أمه المذكورة ، واشتهرت القصة بين أولئك الأقوام ومن سمع هذا الكلام واعتقد وجود الأمام7 وكان ذلك في سنة أربع واربعين وسبعمائة.(٢)

__________________

١ ـ كذا ورد في المطبوع والاصح ( تشيعتِ وتوليتِ وتبرأتِ ).

٢ ـ انظر : بحار الانوار ج ٥٢ / ص ٧٢ ؛ النجم الثاقب ج ٢ / ص ٢٢٠.

٧٢

أقول : حدثت هذه الكرامة سنة ( ٧٤٤ هـ / ١٣٢٣ م ) وراويها محمد بن قارون المتقدم ذكره وترجمته في الحكاية الأولى من هذا الباب.

وبرس : بضم الباء وسكون الراء والسين المهملة ناحية من ارض بابل وهي بحضرة الصرح ( صرح نمرود بن كنعان ) وهي الآن قرية معروفة بقبل الكوفة وينسب إليها الحافظ رجب البرسي; .

ومقام ابراهيم الخليل7 : موجود الى زماننا هذا ويقع بالحلة في تلك القرية ( تشرفت بزيارته انا عدة مرات ).

لحكاية الثالثة :

حكاية شفاء الشيخ جمال الدين الزهدري

وذكر هناك أيضاً : أي ( في كتاب السلطان المفرج عن أهل الايمان ).

ومن ذلك بتأريخ صفر سنة سبعمائة وتسع وخمسين حكي لي المولى الاجل الامجد العالم الفاضل ، القدوة الكامل ، المحقّق المدقّق ، مجمع الفضائل ومرجع الافاضل ، افتخار العلماء في العالمين ، كمال الملة والدين ، عبد الرحمن ابن العمّاني ( كذا ) ، وكتب بخطه الكريم ، عندي ما صورته :

قال العبد الفقير الى رحمة الله تعالى عبد الرحمن بن ابراهيم القبائقي :(١) اني كنت أسمع في الحلة السيفية حماها الله تعالى ان المولى الكبير المعظم جمال الدين ابن الشيخ الاجل الاوحد الفقيه القاريء نجم الدين جعفر ابن الزاهدري كان به فالج ، فعالجته جدّته لأبيه بعد موت أبيه بكل علاج للفالج فلم يبرأ ، فأشار عليها بعض

__________________

١ ـ هكذا ورد في الاصل والصحيح العتالقي.

٧٣

الاطباء ببغداد فأحضرتهم فعالجوه زماناً طويلاً فلم يبرأ ، وقيل لها :ألا تبيّتينه تحت القبة الشريفة بالحلة المعروفة بمقام صاحب الزمان 7 لعل الله تعالى يعافيه ويبرأه ، ففعلت وبيّتته تحتها وان صاحب الزمان7 أقامه وأزال عنه الفالج.

ثم بعد ذلك حصل بيني وبينه صحبة حتى كّنا لم نكد نفترق ، وكان له دار المعشرة ، يجتمع فيها وجوه أهل الحلة وشبابهم وأولاد الاماثل منهم ، فاستحكيته عن هذه الحكاية ، فقال لي :

إني كنت مفلوجاً وعجز الاطباء عني ، وحكى لي ما كنت اسمعه مستفاضاً في الحلة من قضيته وان الحجة صاحب الزمان7 قال لي : ( وقد أباتتني جدّتي تحت القبة ) :قم.

فقلت : ياسيدي لا أقدر على القيام منذ سنتي ، فقال :قم باذن الله تعالى وأعانني على القيام ، فقمت وزال عني الفالج ( أي شلل الاعضاء ).

وانطبق عليّ الناس حتى كادوا يقتلونني ، وأخذوا ما كان عليّ من الثياب تقطيعاً وتنتيفاً يتبرّكون فيها ، وكساني الناس من ثيابهم ، ورحت الى البيت ، وليس بيّ أثر الفالج ، وبعثت الى الناس ثيابهم ، وكنت أسمعه يحكي ذلك للناس ولمن يستحكيه مراراً حتى مات; .(١)

بحث حول الحكاية :

تاريخ الحكاية : أقول ، إنَّ تاريخ نقل هذه الحكاية هو سنة ( ٧٥٩ هـ ـ ١٢٣٨ م ).

__________________

١ ـ انظر : بحار الانوار ج ٥٢ / ص ٧٣.

٧٤

راوي الحكاية : الشيخ العالم الفاضل المحقق المدقق الفقيه المتبحر كمال الدين عبد الرحمن بن محمد بن ابراهيم ابن العتايقي(١) الحلي الامامي ، كان معاصرا للشهيد الاول; وبعض تلامذة العلامة الحلي; ، وقال البعض انه ادرك العلامة ، وتلمذ على يد نصير الدين علي بن محمد الكاشي تـ ٧٥٥ هـ ، وكان من مشايخ السيد بهاء الدين علي بن عبد الحميد النجفي ، وبروي عن جماعة منهم جمال الدين الزهدري ، توفى بعد سنة ٧٨٨ هـ التي الف فيها كتابه ( الارشاد في معرفة الابعاد ) وهو صاحب التصانيف الكثيرة والموجود بعضها في الخزانة الغروية ، ولا أرى بأماً بايراد اسمائها هنا فله كتاب ( شرح على نهج البلاغة ) وكتاب ( مختصر الجزء الثاني من كتاب الاوائل لأبي هلال العسكري ) وكتاب ( الاعمار ) وكتاب ( الاضداد في اللغة ) وكتاب ( الايضاح والتبيين في شرح منهاج اليقين ) وكتاب ( اختيار حقائق الخللفي دقائق الحيل ) وكتاب ( صفوة الصفوة ) وكتاب ( اختصار كتاب بطليموس ) وكتاب ( الشهدة في شرح معرف الزبدة ) وكتاب ( الايماقي ) وكتاب ( في التفسير وهو مختصر تفسير القمي ) وكتاب ( الارشاد ) و( الرسالة المفيدة لكل طالب مقدار ابعاد الافلاك والكواكب ) وله ( شرح على الجغميني ) وله ( شرح التلويح ) ، وغيرها من الكتب في شبى أنواع العلوم ، وللأسف الشديد ان كتبه لم تر النور.

_________________

١ ـ العتائقي نسبة الى العتائق قرية بقرب الحلة المزيدية ، وليس بالقبائقي كما في نسخ البحار المطبوعه فانه تصحيف ، كما اني لم ارَّ من الرجاليين من ذكرن بابن العماني بل المشهور انه ابن العتائقي ولعلها تصحيف ايضا او من خطأ النساخ.

٧٥

الى الآن مع كثرتها سوى كتابه ( الناسخ والمنسوخ ) فمن قلمنا هذا ندعو دور النشر والتأليف لأخراج كتبه خدمة للمذهب الامامي واحياء لآثار هذا الشيخ الجليل ، وصرح جمع من العلماء كالسيد محسن الأمين; والشيخ عباس القمي; والشيخ اغا بزرك الطهراني بمشاهدة كتبه في الخزانة الغروبة وكتب أخرى لغيره بخط يده ذكر فيها نسبه وتأريخه من ( ٧٣٨ ـ ٧٨٨ هـ ).(١)

صاحب الحكاية : الشيخ جمال الدين بن نجم الدين جعفر الزهدري ، لم أجد له ذكراً في كتب الرجال وانما وقفت على ترجمة والده الاجل الشيخ جعفر الزهدري صاحب كتاب ( ايضاح ترددات الشرائع )(٢) ويظهر من ثناء ابن العتائقي عليهما ، عظيم منزلتهما وجلالتهما.

وبهذه الحكاية انتهى ما أردنا نقله من حكايات كتاب ( السلطان المفرج عن اهل الايمان ).

الحكاية الرابعة :

حكاية ابن ابي الجواد النعماني

قال العالم الفاضل المتبحّر النقّاد الآميرزا عبد الله الاصفهاني الشهير بالافندي في المجلد الخامس من كتاب ( رياض العلماء

__________________

١ ـ انظر : رياض العلماء ج ٣ / ص ١٠٣ ، سفينة البحار ط ج / ج ٢ / ص ١٥٧ ، كذلك الذريعة في اجزائها.

٢ ـ وقد طبع الكتاب في زماننا هذا بجهود العلامة الحجة السيد محمود المرعشي في قم المقدسة وقد رأيت نسخته المطبوعة.

٧٦

وحياض الفضلاء ) في ترجمة الشيخ ابن ابي الجواد النِّعماني(١) انه ممن رأى القائم7 في زمن الغيبة الكبرى ، وروى عنه7 ، ورأيت في بعض المواضع نقلاً عن خط الشيخ زين الدين علي بن الحسن بن محمد الخازن الحائري تلميذ الشهيد انه قد رأى ابن ابي جواد النعماني مولانا المهدي7 فقال له :

يا مولاي لك مقام بالنعمانية ومقام بالحلة ، فأين تكون فيهما؟

فقال له :أكون بالنعمانية ليلة الثلاثاء ويوم الثلاثاء ، ويوم الجمعة وليلة الجمعة أكون بالحلة ولكن أهل الحلة ما يتأدّبون في مقامي ، وما من رجل دخل مقامي بالأدب يتأدّب ويسلم عليّ وعلى الأئمة وصلّى عليّ وعليهم اثني عشر (٢) مرة ثم صلى ركعتين بسورتين ، وناجى الله بهما المناجاة إلاّ اعطاه تعالى ما يسأله احدها المغفرة.

فقلت : يا مولاي علمني ذلك.

فقال : قل« اللهم قد أخذ التأديب مني حتى مسني الضر وأنت أرحم الراحمين ، وان كان ما اقترفته من الذنوب استحق به أضعاف أضعاف ما أدبتني به ، وأنت حليم ذو اناة تعفو عن كثير حتى يسبق عفوك ورحمتك عذابك » وكررها عليّ ثلاثاً حتى فهمتها(٣) .(٤)

__________________

١ ـ النعمانية : بليدة بناها النعمان بن المنذر وتقع بين واسط وبغداد في نصف الطريق على ضفة دجلة معدودة من اعمال الزاب الاعلى.

٢ ـ هكذا ورد في المطبوع والاصح اثنتي عشرة.

٣ ـ قال المؤلف; : يعني حفظتها.

٤ ـ انظر : النجم الثاقب / النوري; ج ٢ / ص ١٣٨.

٧٧

بحث حول الحكاية :

راوي الحكاية : زين الدين علي بن أبي محمد الحسن بن محمد الخازن الحائري ، تلميذ الشهيد الاول ( ٧٣٤ ـ ٧٨٦ هـ ) وقد أجازه الشهيد الاول سنة ٧٨٤ هـ وهو من مشايخ العلامة أبي العباس أحمد بن فهد الحلي ويروي عنه ، وأجازه في سنة ٧٩١ هـ ويعبر عنه بالشيخ علي الخازن الحائري ، وهو من علماء المائة الثامنة ، قال عنه الشهيد الاول; في إجازته له :

المولى الشيخ العالم التقي الورع المحصل العالم بأعباء العلوم الفائق أولي الفضائل والفهوم زين الدين أبو علي(١)

صاحب الحكاية : ابن أبي الجواد النعماني ، لم أجد له ترجمة في كتب الرجال ، سوى ما ترجمه ناقل الحكاية الافندي; في كتابه رياض العلماء الذي فقد معظم مجلداته ، ويظهر من راوي الحكاية الشيخ علي الخازن الذي هو من تلاميذ الشهيد الاول; أنَّ ابن ابي الجواد من طبقة الشهيد الاول ، أي من تلامذة العلامة الحلي; .

أقول : ولا يبعد اتحاده بالشيخ الفاضل العالم المتكلم عبد الواحد بن الصفي النعماني ، صاحب كتاب ( نهج السداد في شرح رسالة واجب الاعتقاد ) الذي نسبه اليه الكفعمي; في حواشي مصباحه ونؤيد ما قلناه آنفاً قول المتبحر الخيبر الافندي; في كتاب رياض العلماء ج ٣ ص ٢٧٩ قال : » وأظن أنه من تلامذة الشهيد أو تلامذة تلامذته « فلاحظ.

__________________

١ ـ انظر : رسائل الشهيد الاول ص ٣٠٤ وطبقات اعلام الشيعة للطهراني; .

٧٨

أقول : ومن خلال هذه الحكاية نستدل على شهرة المقام في ذلك القرن إذ الرجل من النعمانية ويسأله عن مقامه7 في الحلة ويستدل أيضاً على استحباب زيارة المقام الشريف في الحلة في ليلة الجمعة ويومها لوجود الإمام به ، وربما ينفي الزائر للمقام هذا الكلام ، فنقول له : إن الأمام عجل الله تعالى فرجه الشريف ليس بغائب ولكن هو غائب عمّن هو غائب عن الله.

وعلى أهل الحلة وغيرهم أن يتأدّبوا بمقامه جلّ التأدب ( فلا لاختلاط الرجال بالنساء في المصلى ، ولا لتبرج النساء ، ولا ) مما يصل الى سوء الادب بمحضر نائب الملك العلام ، فان أهل الحلة أشاد بهم أمير المؤمنين7 وأيّ إشادة ، فليكونوا دئاماً مصداق حديث مولاهم ومولاي علي بن أبي طالب7 .

فقد ذكر الشيخ عباس القمي في كتابه وقائع ايام ص (٣٠٢) :

روى أصبغ بن نباتة قال : صحبت مولاي أمير المؤمنين7 عند وروده صفين ، وقد وقف على تل ثم أومأالى أجمة ما بين بابل والتل قال :مدينة وأي مدينة.

فقلت له : يامولاي أراك تذكر مدينة أكان هناك مدينة وانمحت آثارُها؟ فقال7 : لا ولكن ستكون مدينة يقال لها الحلة ( السيفية ) يمدتها رجل من بني أسد يظهر بها قوم أخيار لو أقسم أحدهم على الله لأبرّ قسمه. (١)

* * *

__________________

١ ـ انظر : بحار الانوار ، ٦ / ١٢٢ رواية ٥٥.

٧٩

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578