شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم6%

شبهات وردود حول القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 578

شبهات وردود حول القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 578 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 297571 / تحميل: 13676
الحجم الحجم الحجم
شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

قوله تعالى: ( إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَ كَفَرَ ) استثناء من المفعول المحذوف لقوله السابق:( فَذَكِّرْ ) و التقدير فذكّر الناس إلّا من تولّى منهم عن التذكرة و كفر إذ تذكرته لغو لا فائدة فيها، و معلوم أنّ التولّي و الكفر إنّما يكون بعد التذكرة فالمنفيّ بالاستثناء هو التذكرة بعد التذكرة كأنّه قيل: ذكّرهم و أدم التذكرة إلّا لمن ذكّرته فتولّى عنها و كفر، فليس عليك إدامة تذكرته بل أعرض عنه فيعذّبه الله العذاب الأكبر.

فقوله:( فَذَكِّرْ - إلى أن قال -إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَ كَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ ) في معنى قوله:( فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى‏ - إلى أن قال -وَ يَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى) الأعلى: 12 و قد تقدّم بيانه.

و قيل: الاستثناء من ضمير( عَلَيْهِمْ ) في قوله:( لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) و المعنى لست عليهم بمتسلّط إلّا على من تولّى منهم عن التذكرة و أقام على الكفر فسيُسلّطك الله عليه و يأمرك بالجهاد فتقاتله فتقتله.

و قيل: الاستثناء منقطع و المعنى لست عليهم بمتسلّط لكنّ من تولّى و كفر منهم يعذّبه الله العذاب الأكبر، و ما قدّمناه من الوجه أرجح و أقرب.

قوله تعالى: ( فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ ) هو عذاب جهنّم فالآية كما تقدّم محاذية لقوله في سورة الأعلى( الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى‏ ) .

قوله تعالى: ( إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ) الإياب الرجوع و( إِلَيْنا ) خبر إنّ و إنّما قدّم للتأكيد و لرعاية الفواصل دون الحصر إذ لا قائل برجوع الناس إلى غير الله سبحانه و الآية في مقام التعليل للتعذيب المذكور في الآية السابقة.

قوله تعالى: ( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ ) الكلام فيه كالكلام في الآية السابقة.

٤٠١

( بحث روائي‏)

في المجمع، و قال أبوعبداللهعليه‌السلام : كلّ ناصب و إن تعبّد و اجتهد يصير إلى هذه الآية( عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تَصْلى‏ ناراً حامِيَةً ) .

أقول: و رواه في ثواب الأعمال، مسنداً و لفظه: كلّ ناصب و إن تعبّد و اجتهد يصير إلى هذه الغاية( عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تَصْلى‏ ناراً حامِيَةً ) .

و فيه، عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الضريع شي‏ء في النار يشبه الشوك أمرّ من الصبر و أنتن من الجيفة و أشدّ حرّاً من النار سمّاه الله الضريع.

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً ) قال: الهزل و الكذب.

و فيه،: في قوله تعالى:( لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) قال: بحافظ و لا كاتب عليهم.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و عبد بن حميد و مسلم و الترمذيّ و النسائيّ و ابن ماجة و ابن جرير و الحاكم و ابن مردويه و البيهقيّ في الأسماء و الصفات عن جابر قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اُمرت أن اُقاتل الناس حتّى يقولوا: لا إله إلّا الله فإذا قالوها عصموا منيّ دماءهم و أموالهم إلّا بحقّها و حسابهم على الله ثمّ قرأ( فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) .

أقول: لا دلالة في الرواية على كون الاستثناء من ضمير( عَلَيْهِمْ ) و هو ظاهر.

و فيه، و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَ كَفَرَ ) يريد من لم يتّعظ و لم يصدّقك و جحد ربوبيّتي و كفر نعمتي( فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ ) يريد الغليظ الشديد الدائم( إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ) يريد مصيرهم( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ ) يريد جزاءهم.

و في النهج: و سئلعليه‌السلام : كيف يحاسب الله الخلق على كثرتهم؟ قال: كما يرزقهم على كثرتهم. قيل: فكيف يحاسبهم و لا يرونه؟ قال: كما يرزقهم و لا يرونه.

٤٠٢

و فيه، قال الصادقعليه‌السلام : كلّ اُمّة يحاسبها إمام زمانها، و يعرف الأئمّة أولياءهم و أعداءهم بسيماهم و هو قوله:( وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ‏ ) الحديث.

أقول: قد تقدّم توضيح معنى الحديث في تفسير الآية من سورة الأعراف، و روي هذا المعنى في البصائر، عن الصادقعليه‌السلام مسنداً و في الكافي، عن الباقر و الكاظمعليهما‌السلام و في الفقيه، عن الهاديعليه‌السلام في الزيارة الجامعة.

٤٠٣

( سورة الفجر مكّيّة و هي ثلاثون آية)

( سورة الفجر الآيات 1 - 30)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالْفَجْرِ ( 1 ) وَلَيَالٍ عَشْرٍ ( 2 ) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ( 3 ) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ( 4 ) هَلْ فِي ذَٰلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ ( 5 ) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ( 6 ) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ ( 7 ) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ( 8 ) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ ( 9 ) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ ( 10 ) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ ( 11 ) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ ( 12 ) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ( 13 ) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ( 14 ) فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ( 15 ) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ( 16 ) كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ( 17 ) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ ( 18 ) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا ( 19 ) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ( 20 ) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ( 21 ) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ( 22 ) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ ( 23 ) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ( 24 ) فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ ( 25 ) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ( 26 ) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ( 27 ) ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ( 28 ) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ( 29 ) وَادْخُلِي جَنَّتِي ( 30 )

٤٠٤

( بيان‏)

في السورة ذمّ التعلّق بالدنيا المتعقّب للطغيان و الكفران و إيعاد أهله بأشدّ عذاب الله في الدنيا و الآخرة فتبيّن أنّ الإنسان لقصور نظره و سوء فكره يرى أنّ ما آتاه الله من نعمه من كرامته على الله و أنّ ما يتلبّس به من الفقر و العدم من هوانه فيطغى و يفسد في الأرض إذا وجد و يكفر إذا فقد و قد اشتبه عليه الأمر فما يصيبه من القدرة و الثروة و من الفقر و ضيق المعاش امتحان و ابتلاء إلهيّ ليظهر به ما ذا يقدّم من دنياه لاُخراه.

فليس الأمر على ما يتوهّمه الإنسان و يقوله بل الأمر كما سيتذكره إذا وقع الحساب و حضر العذاب أنّ ما أصابه من فقر أو غنى أو قوّة أو ضعف كان امتحاناً إلهيّاً و كان يمكنه أن يقدّم من يومه لغده فلم يفعل و آثر العقاب على الثواب فليس ينال الحياة السعيدة في الآخرة إلّا النفس المطمئنّة إلى ربّها المسلمة لأمره الّتي لا تتزلزل بعواصف الابتلاءات و لا يطغيه الوجدان و لا يكفره الفقدان.

و السورة مكّيّة بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: ( وَ الْفَجْرِ وَ لَيالٍ عَشْرٍ وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ وَ اللَّيْلِ إِذا يَسْرِ هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ) الفجر الصبح و الشفع الزوج، قال الراغب: الشفع ضمّ الشي‏ء إلى مثله و يقال للمشفوع شفع. انتهى. و سري الليل مضيّه و إدباره، و الحجر العقل فقوله:( وَ الْفَجْرِ ) إقسام بالصبح و كذا الحال فيما عطف عليه من ليال و الشفع و الوتر و اللّيل.

و لعلّ ظاهر قوله:( وَ الْفَجْرِ ) أنّ المراد به مطلق الفجر و لا يبعد أيضاً أن يراد به فجر يوم النحر و هو عاشر ذي الحجّة.

و قيل: المراد فجر ذي الحجّة، و قيل: فجر المحرّم أوّل السنة و قيل: فجر يوم الجمعة، و قيل فجر ليلة جمع، و قيل: المراد به صلاة الفجر، و قيل: النهار كلّه

٤٠٥

و قيل: فجر العيون من الصخور و غيرها و هي وجوه رديّة.

و قوله:( وَ لَيالٍ عَشْرٍ ) لعلّ المراد بها الليالي العشر من أوّل ذي الحجّة إلى عاشرها و التنكير للتفخيم.

و قيل: المراد بها الليالي العشر من آخر شهر رمضان، و قيل: الليالي العشر من أوّله، و قيل الليالي العشر من أوّل المحرّم، و قيل: المراد عبادة ليال عشر على تقدير أن يراد بالفجر صلاة الفجر.

و قوله( وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ ) يقبل الانطباق على يوم التروية و يوم عرفة و هو الأنسب على تقدير أن يراد بالفجر و ليال عشر فجر ذي الحجّة و العشر الأوّل من لياليها.

و قيل: المراد صلاتاً الشفع و الوتر في آخر الليل، و قيل: مطلق الصلاة فمنها شفع و منها وتر، و قيل: الشفع يوم النحر و الوتر يوم عرفة، و قيل: الشفع جميع الخلق لأنّه قال:( وَ خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً ) النبأ: 8 و الوتر هو الله تعالى، و على هذه الأقوال روايات ستوافيك في البحث الروائيّ الآتي إن شاء الله.

و قيل: المراد الزوج و الفرد من العدد، و في الإقسام بهما تذكير بالعدد لما في ضبط المقادير به من عظيم النعمة من الله سبحانه، و قيل: الشفع و الوتر جميع المخلوقات لأنّ الأشياء إمّا زوج و إمّا فرد، و قيل: الوتر آدم شفع بزوجته، و قيل: الشفع الأيّام و الليالي و الوتر اليوم الّذي لا ليل بعده و هو يوم القيامة، و قيل: الشفع الصفا و المروة و الوتر البيت الحرام، و قيل: الشفع أيّام عاد و الوتر لياليها، و قيل: الشفع أبواب الجنّة و هي ثمانية و الوتر أبواب جهنّم و هي سبعة إلى غير ذلك و هي كثيرة أنّهاها بعضهم إلى ستّة و ثلاثين قولاً و لا يخلو أكثرها من تحكّم.

و قوله:( وَ اللَّيْلِ إِذا يَسْرِ ) أي يمضي فهو كقوله:( وَ اللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ) المدّثر: 33 و ظاهره أنّ اللّام للجنس فالمراد به مطلق آخر الليل، و قيل: المراد به ليلة المزدلفة و هي ليلة النحر الّتي يسري فيها الحاجّ من عرفات إلى المزدلفة فيجتمع فيها على طاعة الله ثمّ يغدوا منها إلى منى و هو كما ترى و خاصّة على القول بكون المراد بليال

٤٠٦

عشر هو الليالي العشر الأوائل منها.

و قوله:( هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ) الإشارة بذلك إلى ما تقدّم من القسم، و الاستفهام للتقرير، و المعنى أنّ في ذلك الّذي قدّمناه قسماً كافياً لمن له عقل يفقه به القول و يميّز الحقّ من الباطل، و إذا أقسم الله سبحانه بأمر - و لا يقسم إلّا بما له شرف و منزلة - كان من القول الحقّ المؤكّد الّذي لا ريب في صدقه.

و جواب الأقسام المذكورة محذوف يدلّ عليه ما سيذكر من عذاب أهل الطغيان و الكفران في الدنيا و الآخرة و ثواب النفوس المطمئنّة، و أنّ إنعامه تعالى على من أنعم عليه و إمساكه عنه فيمن أمسك إنّما هو ابتلاء و امتحان.

و حذف الجواب و الإشارة إليه على طريق التكنية أوقع و آكد في باب الإنذار و التبشير.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ ) هم عاد الاُولى قوم هود تكرّرت قصّتهم في القرآن الكريم و اُشير إلى أنّهم كانوا بالأحقاف، و قد قدّمنا ما يتحصّل من قصصهم في القرآن الكريم في تفسير سورة هود.

قوله تعالى: ( إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ ) العماد و جمعه عمد ما يعتمد عليه الأبنية، و ظاهر الآيتين أنّ إرم كانت مدينة لهم معمورة عديمة النظير ذات قصور عالية و عمد ممدّدة، و قد انقطعت أخبار القوم عهدهم و انمحت آثارهم، فلا سبيل إلى الحصول على تفصيل حالهم تطمئنّ إليها النفس إلّا ما قصّة القرآن الكريم من إجمال قصّتهم أنّهم كانوا بعد قوم نوح قاطنين بالأحقاف و كانوا ذوي بسطة في الخلق اُولي قوّة و بطش شديد، و كان لهم تقدّم و رقي في المدنيّة و الحضارة لهم بلاد عامرة و أراض خصبة ذات جنّات و نخيل و زروع و مقام كريم و قد تقدّمت القصّة.

و قيل: المراد بإرم قوم عاد - و هو في الأصل اسم أبيهم سمّوا باسم أبيهم كما يقال: قريش و يراد به القرشيّون و يطلق إسرائيل و يراد به بنو إسرائيل - و المراد بكونهم ذات عماد كونهم اُولي قوّة و سطوة.

٤٠٧

و المعنى: أ لم تر كيف فعل ربّك بقوم عاد الّذين هم قوم إرم ذوو القوّة و الشدّة الّذين لم يخلق مثلهم في بسطة الجسم و القوّة و البطش في البلاد أو في أقطار الأرض و لا يخلو من بعد من ظاهر اللفظ.

و أبعد منه ما قيل: إنّ المراد بكونهم ذات العماد أنّهم كانوا أهل عمد سيّارة في الربيع فإذا هاج النبت رجعوا إلى منازلهم.

و من الأساطير قصّة جنّة إرم المشهورة المرويّة عن وهب بن منبّه و كعب الأحبار.

قوله تعالى: ( وَ ثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ ) الجوب القطع أي قطعوا صخر الجبال بنحتها بيوتاً فهو في معنى قوله:( وَ تَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً ) الشعراء: 149.

قوله تعالى: ( وَ فِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ ) هو فرعون موسى، و سمّي ذا الأوتاد - على ما في بعض الروايات - لأنّه كان إذا أراد أن يعذّب رجلاً بسطه على الأرض و وتد يديه و رجليه بأربعة أوتاد في الأرض و ربّما بسطه على خشب و فعل به ذلك، و يؤيّده ما حكاه الله من قوله يهدّد السحرة إذ آمنوا بموسى:( وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ) طه: 71 فإنّهم كانوا يوتّدون يدي المصلوب و رجليه على خشبة الصليب.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ ) صفة للمذكورين من عاد و ثمود و فرعون، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ ) صبّ الماء معروف و صبّ سوط العذاب كناية عن التعذيب المتتابع المتواتر الشديد، و تنكير عذاب للتفخيم.

و المعنى فأنزل ربّك على كلّ من هؤلاء الطاغين المكثرين للفساد إثر طغيانهم و إكثارهم الفساد عذاباً شديداً متتابعاً متوالياً لا يوصف.

قوله تعالى: ( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ ) المرصاد المكان الّذي يرصد منه و يرقب و كونه تعالى على المرصاد استعارة تمثيليّة شبّه فيها حفظه تعالى لأعمال عباده بمن

٤٠٨

يقعد على المرصاد يرقب من يراد رقوبه فيأخذه حين يمرّ به و هو لا يشعر فالله سبحانه رقيب يرقب أعمال عباده حتّى إذا طغوا و أكثروا الفساد أخذهم بأشدّ العذاب.

و في الآية تعليل ما تقدّم من حديث تعذيب الطغاة المكثرين للفساد من الماضين و في قوله:( رَبَّكَ ) بإضافة الربّ إلى ضمير الخطاب تلويح إلى أنّ سنّة العذاب جارية في اُمّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما جرت عليه في الاُمم الماضين.

قوله تعالى: ( فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ) متفرّع على ما قبله، فيه تفصيل حال الإنسان إذا اُوتي من نعم الدنيا أو حرم كأنّه قيل: إنّ الإنسان تحت رقوب إلهيّ يرصده ربّه هل يصلح أو يفسد؟ و يبتليه و يمتحنه فيما آتاه من نعمة أو حرمة هذا هو الأمر في نفسه و أمّا الإنسان فإنّه إذا أنعم الله عليه بنعمة حسب أنّ ذلك إكرام إلهيّ له أن يفعل بها ما يشاء فيطغى و يكثر الفساد، و إذا أمسك و قدر عليه رزقه حسب أنّه إهانة إلهيّة فيكفر و يجزع.

فقوله:( فَأَمَّا الْإِنْسانُ ) المراد به النوع بحسب الطبع الأوّليّ فاللّام للجنس دون الاستغراق.

و قوله:( إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ ) أي امتحنه و اختبره، و العامل في الظرف محذوف تقديره كائنا إذا إلخ و قيل: العامل فيه( فَيَقُولُ ) .

و قوله:( فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ ) تفسير للابتلاء، و المراد بالإكرام و التنعيم الصوريّان و إن شئت فقل: الإكرام و التنعيم حدوثاً لا بقاء أي إنّه تعالى أكرمه و آتاه النعمة ليشكره و يعبده لكنّه جعلها نقمة على نفسه تستتبع العذاب.

و قوله:( فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ) أي جعلني على كرامة منه بالنعم الّتي آتانيها و إن شئت فقل: القدرة و الجدة الموهوبتان إكرام و تنعيم حدوثاً و بقاء فلي أن أفعل ما أشاء.

و الجملة أعني قوله:( فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ) حكاية ما يراه الإنسان بحسب الطبع، و قول الإنسان:( رَبِّي أَكْرَمَنِ ) الظاهر في نسبة التدبير إلى الله سبحانه

٤٠٩

- و لا يقول به الوثنيّة و المنكرون للصانع - مبنيّ على اعترافه بحسب الفطرة به تعالى و إن استنكف عنه لساناً، و أيضاً لرعاية المقابلة مع قوله:( إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ ) .

قوله تعالى: ( وَ أَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ ) أي و أمّا إذا ما امتحنه و اختبره فضيق عليه رزقه فيقول ربّي أذلّني و استخفّ بي.

و يظهر من مجموع الآيتين أوّلاً حيث كرّر الابتلاء و أثبته في صورتي التنعيم و الإمساك عنه أنّ إيتاء النعم و الإمساك عنه جميعاً من الابتلاء و الامتحان الإلهيّ كما قال:( وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً ) الأنبياء: 35 لا كما يراه الإنسان.

و ثانياً أنّ إيتاء النعم بما أنّه فضل و رحمة إكرام إن لم يبدّلها الإنسان نقما على نفسه.

و ثالثاً أنّ الآيتين معاً تفيدان أنّ الإنسان يرى سعادته في الحياة هي التنعّم في الدنيا بنعم الله تعالى و هو الكرامة عنده و الحرمان منه شقاء عنده و الحال أنّ الكرامة هي في التقرّب إليه تعالى بالإيمان و العمل الصالح سواء في ذلك الغنى و الفقر و أي وجدان و فقدان فإنّما ذلك بلاء و امتحان.

و لهم في معنى الآيتين وجوه اُخر تركنا التعرّض لها لقلّة الجدوى.

قوله تعالى: ( كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَ لا تَحَاضُّونَ عَلى‏ طَعامِ الْمِسْكِينِ ) ردع لقولهم: إنّ الكرامة هي في الغنى و التنعّم، و في الفقر و الفقدان هوان و مذلّة، و المعنى ليس كما تقولون و إنّما إيتاؤه تعالى النعمة و إمساكه عنه كلّ ذلك ابتلاء و امتحان يختبر به حال الإنسان من حيث عبوديّته.

و في قوله:( بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ) إلخ إضراب يؤكّد الردع بذكر بعض التنعّم الّذي لا يجامع الكرامة البتّة كعدم إكرامهم اليتيم بأكل تراثه و منعه منه و عدم التحريض على إطعام المسكين حبّاً للمال فالفطرة الإنسانيّة لا يرتاب في أن لا كرامة في غنى هذا شأنه.

و في الإضراب مضافاً إلى أصل الردع تقريع و لتشديد هذا التقريع وقع الالتفات من الغيبة إلى الخطاب.

٤١٠

فقوله:( بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ) عدم إكرامه حرمانه من تراث أبيه - كما كانوا يحرمون صغار الأولاد من الإرث - و تركه صفر الكفّ بلغ به الجهد ما بلغ كما تؤيّده الآية التالية( وَ تَأْكُلُونَ التُّراثَ ) إلخ.

و قوله:( وَ لا تَحَاضُّونَ عَلى‏ طَعامِ الْمِسْكِينِ ) أصله و لا تتحاضّون، و هو تحريض بعضهم بعضاً على التصدّق على المساكين المعدمين، و منشأه حبّ المال كما في الآية الآتية( وَ تُحِبُّونَ الْمالَ ) إلخ.

قوله تعالى: ( وَ تَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا ) اللمّ أكل الإنسان نصيب نفسه و غيره و أكله ما يجده من دون أن يميّز الطيّب من الخبيث، و الآية تفسير لعدم إكرامهم اليتيم كما تقدّم.

قوله تعالى: ( وَ تُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا ) الجمّ الكثير العظيم، و الآية تفسّر عدم تحاضّهم على طعام المسكين كما تقدّم.

قوله تعالى: ( كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ) الدكّ هو الدقّ الشديد، و المراد بالظرف حضور يوم القيامة.

ردع ثان عمّا يقوله الإنسان في حالي الغنى و الفقر، و قوله:( إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ ) إلخ في مقام التعليل للردع، و محصّل المعنى ليس كما يقوله الإنسان فإنّه سيتذكّر إذا قامت القيامة إنّ الحياة الدنيا و ما فيها من الغنى و الفقر و أضرابهما لم تكن مقصودة بالذات بل كانت ابتلاء و امتحاناً من الله تعالى يميّز به السعيد من الشقيّ و يهيّئ الإنسان فيها ما يعيش به في الآخرة و قد التبس عليه الأمر فحسبها كرامة مقصودة بالذات فاشتغل بها و لم يقدّم لحياته الآخرة شيئاً فيتمنّى عند ذلك و يقول: يا ليتني قدّمت لحياتي و لن يصرف التمنّي عنه شيئاً من العذاب.

قوله تعالى: ( وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ) نسبة المجي‏ء إليه تعالى من المتشابه الّذي يحكمه قوله تعالى:( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ ) الشورى: 11 و ما ورد في آيات القيامة من خواصّ اليوم كتقطّع الأسباب و ارتفاع الحجب عنهم و ظهور أنّ الله هو الحقّ المبين.

٤١١

و إلى ذلك يرجع ما ورد في الروايات أنّ المراد بمجيئه تعالى مجي‏ء أمره قال تعالى:( وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ) الانفطار: 19، و يؤيّد هذا الوجه بعض التأييد قوله تعالى( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَ الْمَلائِكَةُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ ) البقرة: 210 إذا انضمّ إلى قوله:( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ ) النحل: 33 و عليه فهناك مضاف محذوف و التقدير جاء أمر ربّك أو نسبة المجي‏ء إليه تعالى من المجاز العقليّ.

و الكلام في نسبة المجي‏ء إلى الملائكة و كونهم صفّا صفّا كما مرّ.

قوله تعالى: ( وَ جِي‏ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ) إلى آخر الآية لا يبعد أن يكون المراد بالمجي‏ء بجهنّم إبرازها لهم كما في قوله تعالى:( وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى‏ ) النازعات: 36 و قوله:( وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ ) الشعراء: 91، و قوله:( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ق: 22.

و قوله:( يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ) أي يتذكّر أجلى التذكّر أنّ ما كان يؤتاه في الحياة الدنيا من خير أو شرّ كان من ابتلاء الله و امتحانه و أنّه قصر في أمره، هذا ما يفيده السياق.

و قوله:( وَ أَنَّى لَهُ الذِّكْرى) أي و من أين له الذكرى كناية عن عدم انتفاعه بها فإنّ الذكرى إنّما تنفع فيما أمكنه أن يتدارك ما فرّط فيه بتوبة و عمل صالح و اليوم يوم الجزاء لا يوم الرجوع و العمل.

قوله تعالى: ( يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي ) أي لحياتي هذه و هي الحياة الآخرة أو المراد الحياة الحقيقيّة و هي الحياة الآخرة على ما نبّه تعالى عليه بقوله:( وَ ما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) العنكبوت: 64.

و المراد بالتقديم للحياة تقديم العمل الصالح للحياة الآخرة و ما في الآية تمنّ يتمنّاه الإنسان عند ما يتذكّر يوم القيامة و يشاهد أنّه لا ينفعه.

قوله تعالى: ( فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ وَ لا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ ) ضميراً عذابه

٤١٢

و وثاقه لله تعالى و المعنى فيومئذ لا يعذّب عذاب الله أحد من الخلق و لا يوثق وثاق الله أحد من الخلق أي إنّ عذابه و وثاقه تعالى يومئذ فوق عذاب الخلق و وثاقهم، تشديد في الوعيد.

و قرئ( لا يُعَذِّبُ ) بفتح الذال و( وَ لا يُوثِقُ ) بفتح الثاء بالبناء للمفعول و ضميراً عذابه و وثاقه على هذا للإنسان و المعنى لا يعذّب أحد يومئذ مثل عذاب الإنسان و لا يوثق أحد يومئذ مثل وثاقه.

قوله تعالى: ( يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ) الّذي يعطيه سياق المقابلة بين هذه النفس بما ذكر لها من الأوصاف و عيّن لها من حسن المنقلب و بين الإنسان المذكور قبل بما ذكر له من وصف التعلّق بالدنيا و الطغيان و الفساد و الكفران، و ما اُوعد من سوء المصير هو أنّ النفس المطمئنّة هي الّتي تسكن إلى ربّها و ترضى بما رضي به فترى نفسها عبداً لا يملك لنفسه شيئاً من خير أو شرّ أو نفع أو ضرّ و يرى الدنيا دار مجاز و ما يستقبله فيها من غنى أو فقر أو أيّ نفع و ضرّ ابتلاء و امتحاناً إلهيّاً فلا يدعوه تواتر النعم عليه إلى الطغيان و إكثار الفساد و العلوّ و الاستكبار، و لا يوقعه الفقر و الفقدان في الكفر و ترك الشكر بل هو في مستقرّ من العبوديّة لا ينحرف عن مستقيم صراطه بإفراط أو تفريط.

قوله تعالى: ( ارْجِعِي إِلى‏ رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً ) خطاب ظرفه جميع يوم القيامة من لدن إحيائها إلى استقرارها في الجنّة بل من حين نزول الموت إلى دخول جنّة الخلد و ليس خطاباً واقعاً بعد الحساب كما ذكره بعضهم.

و توصيفها بالراضية لأنّ اطمئنانها إلى ربّها يستلزم رضاها بما قدّر و قضى تكويناً أو حكم به تشريعاً فلا تسخطها سانحة و لا تزيغها معصية، و إذا رضي العبد من ربّه رضي الربّ منه إذ لا يسخطه تعالى إلّا خروج العبد من زيّ العبوديّة فإذا لزم طريق العبوديّة استوجب ذلك رضى ربّه و لذا عقّب قوله( راضِيَةً ) بقوله:( مَرْضِيَّةً ) .

قوله تعالى: ( فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَ ادْخُلِي جَنَّتِي ) تفريع على قوله:( ارْجِعِي

٤١٣

إِلى‏ رَبِّكِ ) و فيه دلالة على أنّ صاحب النفس المطمئنّة في زمرة عباد الله حائز مقام العبوديّة.

و ذلك أنّه لمّا اطمأنّ إلى ربّه انقطع عن دعوى الاستقلال و رضي بما هو الحقّ من ربّه فرأى ذاته و صفاته و أفعاله ملكاً طلقاً لربّه فلم يرد فيما قدّر و قضى و لا فيما أمر و نهي إلّا ما أراده ربّه، و هذا ظهور العبوديّة التامّة في العبد ففي قوله:( فَادْخُلِي فِي عِبادِي ) تقرير لمقام عبوديّتها.

و في قوله:( وَ ادْخُلِي جَنَّتِي ) تعيين لمستقرّها، و في إضافة الجنّة إلى ضمير التكلّم تشريف خاصّ، و لا يوجد في كلامه تعالى إضافة الجنّة إلى نفسه تعالى و تقدّس إلّا في هذه الآية.

( بحث روائي‏)

في المجمع: في قوله تعالى:( وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ ) ، و قيل: الشفع الخلق لأنّه قال:( وَ خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً ) و الوتر الله تعالى: عن عطيّة العوفيّ و أبي صالح و ابن عبّاس و مجاهد و هي رواية أبي سعيد الخدريّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و قيل: الشفع و الوتر الصلاة منها شفع و منها وتر: و هي رواية عن ابن حصين عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و قيل: الشفع يوم النحر و الوتر يوم عرفة: عن ابن عبّاس و عكرمة و الضحّاك، و هي رواية جابر عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الوجه فيه أنّ يوم النحر يشفّع بيوم نفر بعده و يتفرّد يوم عرفة بالموقف، و قيل: الشفع يوم التروية و الوتر يوم عرفة: و روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام .

أقول: الروايات الثلاث المشار إليها مرويّة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من طرق أهل السنّة و يمكن الجمع بينها بأنّ المراد مطلق الشفع و الوتر و الروايات من قبيل الإشارة إلى بعض المصاديق.

و في تفسير القمّيّ:( وَ لَيالٍ عَشْرٍ ) قال: عشر ذي الحجّة( وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ ) قال: الشفع ركعتان و الوتر ركعة، و في حديث: الشفع الحسن و الحسين و الوتر أمير

٤١٤

المؤمنينعليهم‌السلام ( وَ اللَّيْلِ إِذا يَسْرِ ) قال: هي ليلة جمع.

و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله:( لِذِي حِجْرٍ ) يقول: لذي عقل.

و في العلل، بإسناده إلى أبان الأحمر قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( وَ فِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ ) لأيّ شي‏ء سمّي ذا الأوتاد؟ فقال: لأنّه كان إذا عذّب رجلاً بسطه على الأرض على وجهه و مدّ يديه و رجليه فأوتدها بأربعة أوتاد في الأرض. و ربّما بسطه على خشب منبسط فوتّد رجليه و يديه بأربعة أوتاد ثمّ تركه على حاله حتّى يموت فسمّاه الله عزّوجلّ فرعون ذا الأوتاد.

و في المجمع: في قوله تعالى:( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ ) وروي عن عليّعليه‌السلام أنّه قال: إنّ معناه أنّ ربّك قادر أن يجزي أهل المعاصي جزاءهم.

أقول: بناء الرواية على أخذ الجملة استعارة تمثيليّة.

و فيه، عن الصادقعليه‌السلام أنّه قال: المرصاد قنطرة على الصراط لا يجوزها عبد بمظلمة عبد.

و عن الغوالي، عن الصادقعليه‌السلام في حديث في تفسير قوله تعالى:( وَ ذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ) إنّما ظنّ بمعنى استيقن أنّ الله تعالى لن يضيّق عليه رزقه أ لا تسمع قول الله تعالى:( وَ أَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ ) أي ضيّق عليه.

و في تفسير القمّيّ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله:( كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ) قال: هي الزلزلة.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن عليّ بن أبي طالب قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هل تدرون ما تفسير هذه الآية( كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ - إلى قوله -وَ جِي‏ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ) قال: إذا كان يوم القيامة تقاد جهنّم بسبعين ألف زمام بيد سبعين ألف ملك فتشرد شردة لو لا أنّ الله حبسها لأحرقت السماوات و الأرض.

أقول: و هو مرويّ أيضاً عن أبي سعيد و ابن مسعود و من طرق الشيعة في أمالي

٤١٥

الشيخ، بإسناده عن داود بن سليمان عن الرضا عن آبائه عن عليّعليه‌السلام عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في العيون، في باب ما جاء عن الرضا من أخبار التوحيد بإسناده عن عليّ بن فضال عن أبيه قال: سألت الرضاعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ) فقال: إنّ الله سبحانه لا يوصف بالمجي‏ء و الذهاب تعالى عن الانتقال إنّما يعني بذلك و جاء أمر ربّك.

و في الكافي، بإسناده عن سدير الصيرفيّ قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام : جعلت فداك يا ابن رسول الله هل يكره المؤمن على قبض روحه؟ قال: لا و الله إنّه إذا أتاه ملك الموت ليقبض روحه جزع عند ذلك فيقول ملك الموت: يا وليّ الله لا تجزع فوالّذي بعث محمّداً لأنّي أبرّ بك و أشفق عليك من والد رحيم لو حضرك، افتح عينيك فانظر.

قال: و يمثّل له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أميرالمؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسين و الأئمّة من ذرّيّتهمعليهم‌السلام فيقال له: هذا رسول الله و أميرالمؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسين و الأئمّةعليهم‌السلام رفقاؤك.

قال: فيفتح عينيه فينظر فينادي روحه مناد من قبل ربّ العزّة فيقول: يا أيّتها النفس المطمئنّة إلى محمّد و أهل بيته ارجعي إلى ربّك راضية بالولاية مرضيّة بالثواب فادخلي في عبادي يعني محمّداً و أهل بيته و ادخلي جنّتي فما من شي‏ء أحبّ إليه من استلال روحه و اللحوق بالمنادي.

أقول: و روى هذا المعنى القمّيّ في تفسيره و البرقيّ في المحاسن.

٤١٦

( سورة البلد مكّيّة و هي عشرون آية)

( سورة البلد الآيات 1 - 20)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ( 1 ) وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ( 2 ) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ( 3 ) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ( 4 ) أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ( 5 ) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا ( 6 ) أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ ( 7 ) أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ ( 8 ) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ ( 9 ) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ( 10 ) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ( 11 ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ( 12 ) فَكُّ رَقَبَةٍ ( 13 ) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ( 14 ) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ ( 15 ) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ( 16 ) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ ( 17 ) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ( 18 ) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ( 19 ) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ ( 20 )

( بيان‏)

تذكر السورة أنّ خلقة الإنسان مبنيّة على التعب و المشقّة فلا تجد شأناً من شؤن الحياة إلّا مقروناً بمرارة الكدّ و التعب من حين يلج في جثمانه الروح إلى أن يموت فلا راحة له عارية من التعب و المشقّة و لا سعادة له خالصة من الشقاء و المشأمة إلّا في الدار الآخرة عند الله.

فليتحمّل ثقل التكاليف الإلهيّة بالصبر على الطاعة و عن المعصية و ليجدّ في نشر الرحمة على المبتلين بنوائب الدهر كاليتم و الفقر و المرض و أضرابها حتّى يكون

٤١٧

من أصحاب الميمنة و إلّا فآخرته كاُولاه و هو من أصحاب المشأمة عليهم نار مؤصدة.

و سياق آيات السورة، يشبه السياق المكّيّ فيؤيّد به كون السورة مكّيّة و قد ادّعى بعضهم عليه الإجماع، و قيل: السورة مدنيّة و السياق لا يساعد عليه، و قيل: مدنيّة إلّا أربع آيات من أوّلها و سيأتي في البحث الروائيّ التالي إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ( لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ ) ذكروا أنّ المراد بهذا البلد مكّة و تؤيّده مكّيّة سياق السورة و قوله:( وَ والِدٍ وَ ما وَلَدَ ) خاصّة بناء على كون المراد بوالد هو إبراهيمعليه‌السلام على ما سيجي‏ء.

قوله تعالى: ( وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ ) حال من هذا البلد، و وضع الظاهر موضع الضمير في قوله:( بِهذَا الْبَلَدِ ) للدلالة على عظم شأنه و الاعتناء بأمره و هو البلد الحرام، و الحلّ مصدر كالحلول بمعنى الإقامة و الاستقرار في مكان و المصدر بمعنى الفاعل.

و المعنى اُقسم بهذا البلد و الحال أنك حالٌ به مقيم فيه و في ذلك تنبيه على تشرّف مكّة بحلولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها و كونها مولده و مقامه.

و قيل: الجملة معترضة بين القسم و المقسم به و المراد بالحلّ المستحلّ الّذي لا حرمة له قال في الكشاف: و اعترض بين القسم و المقسم عليه بقوله:( وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ ) يعني و من المكابدة أنّ مثلك على عظم حرمتك يستحلّ بهذا البلد الحرام كما يستحلّ الصيد في غير الحرم - عن شرحبيل - يحرّمون أن يقتلوا بها صيداً و يعضدوا(1) بها شجرة و يستحلّون إخراجك و قتلك، و فيه تثبيت من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بعث على‏ احتمال ما كان يكابد من أهل مكّة و تعجيب من حالهم في عداوته انتهى.

ثمّ قال: أو سلّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقسم ببلده أنّ الإنسان لا يخلو من مقاساة الشدائد و اعترض بأن وعده فتح مكّة تتميماً للتسلية و التنفيس عنه فقال:( وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ ) يعني و أنت حلّ به في المستقبل تصنع فيه ما تريد من القتل و الأسر إلى آخر ما قال، و محصّله تفسير الحلّ بمعنى المحلّ ضدّ المحرم، و المعنى و سنحلّ لك يوم فتح مكّة حيناً فنقاتل و تقتل فيه من شئت.

____________________

(1) عضد الشجرة: قطعها و نثر ورقها للإبل. و شرحبيل راوي الحديث.

٤١٨

قوله تعالى: ( وَ والِدٍ وَ ما وَلَدَ ) لزوم نوع من التناسب و الارتباط بين القسم و المقسم عليه يستدعي أن يكون المراد بوالد و ما ولد من بينه و بين البلد المقسم به نسبة ظاهرة و ينطبق على إبراهيم و ولده إسماعيلعليهما‌السلام و هما السببان الأصليّان لبناء بلدة مكّة و البانيان للبيت الحرام قال تعالى:( وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ ) البقرة: 127 و إبراهيمعليه‌السلام هو الّذي سأل الله أن يجعل مكّة بلداً آمنا قال تعالى:( وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً ) إبراهيم: 35. و تنكير( والِدٍ ) للتعظيم و التفخيم، و التعبير بقوله( وَ ما وَلَدَ ) دون أن يقال: و من ولد، للدلالة على التعجيب من أمره مدحاً كما في قوله:( وَ اللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ ) آل عمران: 36.

و المعنى و اُقسم بوالد عظيم الشأن هو إبراهيم و ما ولد من ولد عجيب أمره مبارك أثره و هو إسماعيل ابنه و هما البانيان لهذا البلد فمفاد الآيات الثلاث الإقسام بمكّة المشرّفة و بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذي هو حلّ فيها و بإبراهيم و إسماعيل اللّذين بنياها.

و قيل: المراد بالوالد إبراهيم و بما ولد جميع أولاده من العرب.

و فيه أنّ من البعيد أن يقارن الله سبحانه بين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و إبراهيمعليه‌السلام و بين أمثال أبي لهب و أبي جهل و غيرهم من أئمّة الكفر فيقسم بهم جميعاً في سياق، و قد تبرّأ إبراهيمعليه‌السلام ممّن لم يتّبعه من بنيه على التوحيد إذ قال فيما حكاه الله:( وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) إبراهيم: 36.

فعلى من يفسّر ما ولد بأولاد إبراهيم أن يخصّهم بالمسلمين من ذرّيّته كما في دعاء إبراهيم و إسماعيل عند بنائهما الكعبة على ما حكاه الله:( رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَ أَرِنا مَناسِكَنا وَ تُبْ عَلَيْنا ) البقرة: 128.

و قيل: المراد بوالد و ما ولد، آدمعليه‌السلام و ذرّيّته جميعاً بتقريب أنّ المقسم عليه بهذه الأقسام خلق الإنسان في كبد و قد سنّ الله في خلق هذا النوع و إبقاء وجوده سنّة الولادة فقد أقسم في هذه الآيات بمحصول هذه السنّة و هو الوالد و ما ولد على أنّ الإنسان في كدّ و تعب بحسب نوع خلقته من حين يحيى إلى حين يموت.

٤١٩

و هذا الوجه في نفسه لا بأس به لكن يبقى عليه بيان المناسبة بين بلدة مكّة و بين والد و كلّ مولود في الجمع بينهما في الأقسام.

و قيل: المراد بهما آدم و الصالحون من ذرّيّته، و كأنّ الوجه فيه تنزيهه تعالى من أن يقسم بأعدائه الطغاة و المفسدين من الكفّار و الفسّاق.

و قيل: المراد بهما كلّ والد و كلّ مولود و قيل: من يلد و من لا يلد منهم بأخذ( ما ) في( ما وَلَدَ ) نافية لا موصولة.

و قيل: المراد بوالد هو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بما ولد اُمّته لأنّه بمنزلة الأب لاُمّته و هي وجوه بعيدة.

قوله تعالى: ( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ ) الكبد الكدّ و التعب، و الجملة جواب القسم فاشتمال الكبد على خلق الإنسان و إحاطة الكدّ و التعب به في جميع شؤن حياته ممّا لا يخفى على ذي لبّ فليس يقصد نعمة من نعم الدنيا إلّا خالصة في طيبها محضة في هنائها و لا ينال شيئاً منها إلّا مشوبة بما ينغّص العيش مقرونة بمقاساة و مكابدة مضافاً إلى ما يصيبه من نوائب الدهر و يفاجئه من طوارق الحدثان.

قوله تعالى: ( أَ يَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ) بمنزلة النتيجة لحجّة الآية السابقة تقريرها أنّ الإنسان لمّا كانت خلقته مبنيّة على كبد مظروفة له لا ينال قطّ شيئاً ممّا يريد إلّا دون ما يريد أو غير ما يريد فهو محاط في خلقه مغلوب في إرادته مقهور فيما قدّر له من الأمر و الّذي يغلبه في إرادته و يقهره على التلبّس بما قدّر له و هو الله سبحانه يقدر عليه من كلّ جهة فله أن يتصرّف فيه بما شاء و يأخذه إذا أراد.

فليس للإنسان أن يحسب أن لن يقدر عليه أحد فيدعوه ذلك إلى أن يعلو على الله و يستكبر عن عبادته أو يعطيه في بعض ما أمر به كالإنفاق في سبيله فيستكثره و يمتنّ به على الله أو يمكر به تعالى بعد ما عمله رياء و سمعة عملاً لوجه الكريم فيقول: أهلكت مالاً لبدا.

قوله تعالى: ( يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً ) اللبد الكثير، سياق الآية و ما يتلوها من الآيات إلى آخر السورة مشعر بأنه كان هناك بعض من أظهر الإسلام أو مال إليه

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

النهر بعيداً عن هذا الخليج (١) .

* * *

ثُمّ وبعد أنْ فَرَغ مِن أَمر آسيا الصُغرى - الواقعة في غربيّ البلاد - تَوجّه شمالاً وفي شرقيّ البلاد؛ لإخضاع أَقوام هناك كانوا قد تَعسَّفوا وأَفسدوا في الأرض، فحاربهم مُحاربةً عنيفةً طالت ثَماني سنوات، حتّى سادَ الأَمن على تلك البلاد.

( ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ (شرقيّ البلاد) وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ (وَحْش) لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْر اً)، عن الباقر (عليه السلام): (لم يَعلموا صَنعَة البُيوت) (٢) فلم يَعرفوا بِناية السُقُوف والبُنيان، سِوى اللجوء إلى الأَسراب وغُدران المياه من حرارة الشمس (٣) .

والمنطقة كانت صحراويّةً قاحِلةً مُمتدّةً من شماليّ بحر قزوين حتّى شواطئ المـُحيط الهندي وتشمل بلاد (مكران - سيستان و بلوخستان)، وظلّ كورش يُعالج إخضاع تلك الأقوام خِلال ثمانية أعوام (٤) .

وقد دلّت الدِراسات التي أُجريت على قياس الجنس الإنساني سنة ١٩٠١ م بالهند قبل التقسيم وحين كانت صحراء غيدروسيا (مكران، بلوخستان، سيستان) تابعةً لها على حُدود إيران و أفغانستان، على أنّ السّكّان يَنتمون إلى الجنس التركي الإيراني الذي يَتّسم بقِصَر القامَة على العُموم، ومُعظمهم من ذَوي الرؤوس العريضة، ويَبلُغ قياس مخّهم (٨٠ - ٨١) وأُنوفهم طويلة، وشَعر رأسهم ولحيتهم غَزيرٌ، ولونُ العيون والشعر أَسود غالباً، وبَشَرتهم بَيّنة فاتحة وهي تَميل إلى الدُكْنَة كلّما اقتربنا من الشاطئ...

وهذه سِمات بقايا قبائل بدائيّة شَرِسَة كانت تَعيش بالإقليم منذ (٤٠٠٠) سنة، ويمكن تقسيم سُلالاتهم إلى البلوش - البراهوئي - الهُنود والبَربر.

وقِسمٌ مِن البلوش يَعيش الآن في سَهلِ كججهر حتّى خطّ عرض (٣١) شمالاً، ويَقطن عدد كبير منهم السُهُول الجنوبيّة وشماليّ سندة وناحية يعقوب آباد.

أمّا البراهوئي

____________________

(١) مفاهيم جغرافيّة، ص ٢٣٩ - ٢٤٥.

(٢) مجمع البيان، ج ٦، ص ٤٩١.

(٣) عن الحسن وقتادة وابن جريج، والسَّرَب: الحفير تحتَ الأرض، النَفق.

(٤) راجع: تأريخ إيران، ص ٦٨.

٤٨١

فيتجمَّعون حولَ (كلات) و (كوطة) وتَتَّسع رُقعَة تواجدهم لتَشمل منطقة (ليس بيله).

والراجح أنّ البلوش - كما يقول علماء الأَجناس البشريّة - دَخَلوا صحراء مركان عن طريق كرمان وسجستان وانتشروا سريعاً حتّى حُدود الهند... وإن كان ذلك لا يزيد على درجة التَكهُّن كما قيل، وقد يكون الأَقرب إلى الصواب أنّ مُعظمَهم كانوا من الجنس الهندي...

وأَقدم تَسمية لدينا لهذه المنطقة ما عَثَر عليه المؤرِّخون في نُقُوش بهستون (بيستون)... وهي لفظة مِكيا ( Mekia ) كما ذَكَر لنا هيرودوت... أو لفظة ( Mykians ) أي بلد الميكيان التي كانت ضِمْن ولايات الإمبراطوريّة الفارسيّة الرابعة عشرة.

ويَجمع هيرودوت في كلامه - في مواضع أُخرى - بين الميكيان واليوتيان ( Utians ) والباركانيان ( parikanians ) الذين كانوا مُقاتِلينَ كالباكتيان ( poktans )...

وعَيَّن بطليموس الحُدود بين الهند وفارس بحيث ترك الجزء الشرقي من (سيستان) في الهند... ويقول أرّيان ( Arrian ): إنّ الغيدروسيّينَ أو الكيدروسيّينَ (سُكّان غيدروسيا) كانوا يُقيمون في الوديان الداخليّة إلى الغرب من سيستان، وقد سُمّي الإقليم كلّه باسمهم كدروسيا (كدرسيا) (غدروسيا) ( cadrosia ) كما ذَكَر مولانا أبو الكلام آزاد نفس التَسمية للإقليم...

وتَتَفرّع من قبائل غيدروسيا جماعات بدائيّة تُسمّى (الأشيوفاكوي) كانت تَقطُن المناطق الصحراويّة المـُطلِّة على المـُحيط الهندي وهم مِن الصيّادينَ القُدامى... ويُمثِّلهم الآن قبائل (الميديّة) وبعض القبائل الأخرى...

وظلّ غيدروسيا (مكران، سيستان، بلوخستان) الاسم المـُعتَرف به - لتلك الصحاري غرب الهند - في الزمن القديم... ومِن النادر أنْ نَعثر على تَسمية هيرودوت (مِكيا) في الكتابات التأريخيّة منسوبة للإقليم...

غير أنّنا لا نَنْكُر بقاء استعمال هذه التَسمية طَوال القُرون السبع الميلاديّة الأَوائل حتّى جاء الفتح الإسلامي للإقليم في العام السابع عشر للهجرة المـُوافِق سنة ٦٣٩ م، فقد

٤٨٢

ذَكَروا لنا أنّهم وَجَدوا الاسم (مكيان) (مكران)، وهو النطق الحالي عند البلوش.

وتقترب الصورة مِن الوُضوح حين فَسَّر (مولسويرث سيكس) ( sykes Moulesworth ) المـَقطع الأخير مِن الاسم مَنطوقاً بالسنسكريتيّة، على أنّه (عرانيا) ومعناها: الأرض القاحِلة.

ويُؤكِّد (هولدخ) أنّ اسم (غيدروسيوي) هو مكران، وهو اسم عشيرة مِن (لس بيلة)... وعشيرة كِدور أو (غيدور) الآن اسم عشيرة ضَئيلة الشأن مِن أَصل هندي لا يزيد عددُ مَن بقي منها حتّى الآن على (٢٠٠٠) نَسَمَة.

وكثيراً ما بَحَث العلماء في أصل اسم (بلوش) وأسماء القبائل والعشائر الرئيسيّة القديمة الجذور، وَيَرون - على الأرجح - أنّ جميع أَسماء القبائل والعشائر الحديثة (الموجودة الآن) ليست إلاّ منسوبةً إلى السَلف وليس الحال كذلك بالنسبة للأسماء الأقدم عهداً مِثل الغيدروسيّين، كما أنّ بعض الأسماء الرئيسيّة الموجودة الآن إمّا أن تكون ألقاباً أو ألفاظاً تَدلّ على المـَدح أو الذمّ.

ومن الواضح أنّ الأرض القاحِلة (غيدروسيا) كانت مأوى لقبائل مُتأخِّرة، لا تَعِرف الزراعة ولا الاستقرار ولا بِناء البُيوت الثابتة حتّى ولا الخِيام، وأنّهم كانوا يعيشون على الجَمْعِ والالتقاط حتّى تحين فُرصة بين وقت وآخر فيُغيرون على حُدود الصحراء المـُتاخِمة للإمارات الفارسيّة في القَرن السادس قبل الميلاد.

والإقليم من الناحية الطبيعيّة جزء من الصحاري الحارّة المـُتاخِمة للمـَدارَينِ والتي يَقُلّ المـُعدّل السنوي للأمطار فيها عن (١٠٠ م. م) (١) ، وهذا لا يَسمح بنُموّ غطاء نباتي واضح، والإقليم مُصاب بالجَفاف مُنذ ما لا يقلّ عن خمسة آلاف سنة قبل الميلاد، وهو نوع الجَفاف المـُطلق، وربّما لم يَجد السُكّان القُدامى مِن قبائل غيدروسيا البدائيّين (زمن كورش في القَرن السادس قبل الميلاد) إلاّ جُذُور النباتات لالتهامها.

فالبيئة فعلاً تَخلو تماماً إلاّ مِن نباتات تلاءمَت للحياة في الأقاليم المناخيّة أو البيئات التي يَسودها الجَفاف، أو تلك التي لا تَتَمتّع إلاّ بقِسطٍ ضئيل من الرُطوبة مِثل صحراء سيستان ومكران، فهذه

____________________

(١) مفاهيم جغرافيّة، ص ٢٦٩.

٤٨٣

النباتات - بما لها من تركيب خاصّ - تَتَحايل على الحصول على أكبر كميّة مُمكِنة من الماء والاحتفاظ به؛ ومِن ثَمّ كانت الجذور أطولَ وأَكثر تشعُّباً من السِيقان؛ ولذا فقد كانت هذه القبائل تَحفر في الأرض بَحثاً عن هذه الجُذُور لتَقتَاتَ بها.

وعندما كان العَطش يُهدِّد حياة هذه القبائل كانوا يَفتحون جُذُوع بعض النباتات الصحراويّة التي تَتَّصف بالانتفاخ ويَمتصّون ما فيها من ماء مَخزون.

والبيئة - والحال هذه - تَشبه تَماماً ما توحي به الآية الكريمة التي عَبَّرت عن نَمطِ حياة هؤلاء الأَقوام المعيشيّة حيث قال تعالى: ( حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْراً ) ، فسبحان الله أصدق القائلين!

وما أَروع دِقّة القرآن وشموليّته ومُعالجته لهذه القضايا، في شكل إشارات عابرة تَترُك للعقل البشري على تَتابُعِ العصور مُهمّةَ الكشفِ والتنقيبِ عن تفصيلاتها واتّخاذ العِبرة والمـُوعِظة الحَسَنة منها!

(ثمّ أَتبع سبباً).

وهي رحلة ثالثة، كانت أُولاها إلى الغرب لإخضاع بلاد ليديا، والثانية نحو الشرق شماليّ بحر قزوين لإخضاع قبائل عُزَّل وَحش لم يَعرفوا حتّى الوِقاء من الشمس، وهذه هي الثالثة نحو الشرق أيضاً، ولكن حيث مُتّجه بلاد قوقاز بين بحر قزوين والبحر الأسود.

( حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ ) بين الجبلَينِ من سِلسلة جبال قوقاز، والسدّ: الجبل الشامخ يَصعُب عبوره كأنّه سدّ حاجز.

( وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا (وراءهما) (١) قَوْماً لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً ) لصُعوبة لُغتهم وَوعورة لَهجَتِهم بحيث لم يَكد يُمكن التفاهم معهم بسُهولة.

ينتهي هذا الطريق الذي سَلَكه كورش، إلى منطقة جبليّة وَعِرة مُتضرِّسة تُمثّل حائِطاً جبليّاً طبيعيّاً عرضيّاً شامخاً، يَحول دون هِجرات الشُعوب المـُتوحِّشة وإغارتها على مَن وراء الحائط الجبلي من شعوب بدائيّة مُستَضعَفة.

____________________

(١) حسبما ذكره الرازي في التفسير الكبير، ج ٢١، ص ١٧٠.

٤٨٤

ولكن الحائِط الجبلي كان مُنثَلِماً مِن وَسَطِه بثَغرة (مضيق جبلي) (١) مُخيفَة، اتّخذها الغُزاة المـُتوحِّشون مَعبَراً نحو الشُعوب المـُسالِمة في ظَهرانَيه، حيث كانت تَتَعرّض باستمرار لهجمات أُولئك البَرابِرة المـُتوحّشينَ.

كان قد قضى المـَلِك الهخامنشي العظيم (كورش) ثماني سنوات (٢) في تأَديب وإخضاع قبائل غيدروسيا الهمجيّة في صحاري سيستان ومكران وبلوجستان، وزَحزَح حُدود الإمبراطوريّة حتّى حُدود نهر (سيحون) حيث بنى مدينةً باسمه على شاطئ هذا النهر، فكانت هذه المدينة تُسمّى إِبّان عصر الإسكندر (المدينة الأقصى الكورشي) ويعتقد أنّها مكان مدينة (أُوراتبّه) الحاليّة.

ووجد كورش أنّه آنَ الأَوان لتأديب الشعوب المـُتوحِّشة، التي كانت تغير عِبر مَضيق داريال في جبال قوقاز على شُعوب إماراته الطيّبة، في آذربيجان وجورجيا وأرمينيا جنوب الحائط الجبلي الرهيب، الذي يُسمّى جبال القوقاز التي تَمتدّ من بحر قزوين في الشرق عند مدينة (دربند) حتّى (سرخوم) على البحر الأسود.

فَتَوجّه إليها سنة ٥٣٧ ق. م، وقضى بالإقليم حوالي تسع سنوات مُتوالية (٣) ، مابين بِناء السدّ عِبر المـَضيق وتأَديب قبائل الأسكوذيّين أو (الماساجيت) أو (يأجوج ومأجوج) على حدِّ تعبير القرآن (٤) .

وحيث إنّ كورش قد وَصَل إلى الحائط الجبلي العظيم (جبال قوقاز) فهذا معناه أنّه عَبَر كردستان وآذربيجان وأرمينيا وجورجيا، وَوَصل إلى أجزاء من داغستان، حتّى مدينة (دربند) وما حولها، وكذلك إقليم أُوسنينا الجنوبيّة، ويكون شمال هذا الحدّ حائط القوقاز الجبلي، ذو فَتحَة في مُنتَصَفه تُسمّى مَضيق (داريال) حيث تُقيم جَماعات يأجوج ومأجوج، وإلى الجنوب من هذا الخطّ الجبلي كانت تُقيم جَماعات مُجرّدة من الحضارة، وَصَفَهم القرآن بقوله: ( لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً ) أي يَعسُر التفاهم معهم، هذا إنْ

____________________

(١) سَنذكُر أنّه مَضيق داريال.

(٢) حسبما ذَكَره حسن بيرنيا: أنّه قضى تَجوالَه العسكري في شرق وشمال إيران لمـُدّة ٨ سنوات، تأريخ إيران، ص ٦٨.

(٣) حسبما ذَكَره الدكتور عبد العليم: أنّه قضى بالإقليم حوالي تسع سنوات، مفاهيم جغرافيّة، ص ٢٧٣، هذا إنْ قُلنا بأنّها كانت بعد فتح بابل كما قيل، تأريخ إيران، ص ٦٨.

(٤) مفاهيم جغرافيّة، ص ٢٧٣.

٤٨٥

فَسَّرنا ( مِنْ دُونِهِمَا ) بما قَبل السّدَّينِ لا الوراء كما سَبَق.

وقد اتّخَذَ كورش طريقَه إليهم مُتوجِّهاً شمالاً عِبر إقليم كردستان الجبلي الوعِر، الذي يَعتلي ظهر المـُرتفعات الآسيويّة وسَلاسل الجبال على مَحاورها المـُنتشِرة في موقع يَضمّ بعضاً من شمال العراق وشرق أو جنوب شرق تركيا وبعضاً من غرب إيران، ويَسكنُه الأَكراد مُنذ سنة (٢٤٠٠ ق. م).

والإقليم به مَعابر مشهورة لمـُرور التجارة بقوافلها وفَيالق الحروب بجحافلِها، وهي مَعابر تَتَّجه على مُحور عام يخدم الصِّلات والعلاقات فيما بين قلب آسيا وشرقها الأقصى وآسيا الصُغرى والشام.

وقد احتَرَف الأَكراد - عَلاوةً على تَمرير التجارة - حِرفَة الرَعي واقتَنَوا قُطعاناً مِن الأَغنام والماعز، وعاشوا عِيشَةَ البَداوة والحركة في حركات فصليّة شِبه مُنتَظَمة سعياً وراء المرعى وتأمين العُشب لقُطعان أَغنامهم.

وعلى ذلك فقد عَبَر كورش إقليماً مُتضرِّعاً وَعِراً غَنيّاً بالموارد الاقتصاديّة المـُتاحة تَكفُل تأَمين إطعام الجيوش الفارسيّة، وانحرف شمالاً بشَرقٍ حتّى بلغَ بُحَيرةَ أَروميّة التي يَصبّ فيها نهر طلخة وهي أَكبر بُحَيرات فارس، وتقع في الشمال الغربي من فارس في إقليم آذربيجان ويبلغ طُولها ١٣٠ كم وأقصى عَرضها بلغ ٥٠ كم، وهي بُحَيرة ضَحْلة قليلة الغَوْر لا يزيد عُمقُها على ٢١ متراً، وعلى صخرة (كورجين) تقع قَلعة قديمة تُشرِف على البُحَيرة قُبالَة شاطئ (سلماس)، ووُجِد فيها نَقشٌ يُشير إلى عَراقتها في القِدَم.

ويَبدو أنّ كورش آثَرَ مُحاذاةَ شواطئ بحر قزوين (خزر) بحيث يكون البحر عن يَمينه وهو مُتَّجه نحو الشمال إلى جبال قوقاز، ومعنى ذلك أنّه سَلَك ضِفاف نهر طلخة نحو الإقليم الساحلي لبحر قزوين.

والإقليم: عبارة عن سُهُول ضَيّقة تَتَّسم بالدِفء؛ لأنّ ارتفاعها قليل وقد يَنخفض دونَ سطح البحر، ويَندُر أنْ يحدث الصَّقيع (الجليد) هناك في الشتاء، كما يَندُر أنْ تَرتفع درجة الحرارة في الصيف عن ٣٢، ولكنْ الرطوبة شديدة، وتَكثُر الأَمطار وتَتَوزَّع على مَدار السَّنة، وبسبب هذه الأَمطار الغزيرة تَنمو الغابات النفضيَّة مثل البَلوط والدردار، وهي التي تَنفُض أي تَسقط أَوراقُها في فصل الشتاء.

٤٨٦

وظلّ كورش مُحاذياً شاطئ بحر قزوين حتّى وصلَ إلى نهر أَطلق عليه اسمَه (كورش) أي سائرس (سيروس) (١) ، والإقليم جُزء من آذربيجان الشرقيّة التي تقع في الجنوب الشرقي من قفقاسيا وتشمل سُهُول نهر (كورا) المـُنخَفِضة والتي تُحيط بها الجبال مِن كلِّ الجهات، فلا تَنفتح إلاّ من جهة الشرق حيث بحر قزوين.

وهذه الجبال هي القفقاز من الشمال، وأرمينيا من الغرب، وجبال آذربيجان الشرقيّة من الجنوب، وتجري المياه نحو هذه السُهُول من جميع الأطراف من الجبال المـُحيطة بها، وتكون شَديدةَ الانحِدار، لقِصر المـَسافة التي تَقطعها، فتَحفر أَوديةً واسعةً سَحيقةً، تُعتَبر من مراكز الزراعة في الإقليم، وأَمطار هذه السُهُول نادرة لانحصارها بين المـُرتفعات التي تَحجُب الأَمطارَ عنها مِمّا يَجعلها جافّةً، ولكن هذا الجَفاف يُعوَّض بالمياه المـُتدفِّقة التي تجري مِن المـُرتفعات.

وأَشهر هذه المجاري وأَطولها نهر (كورا) الذي يجري من جورجيا (كرجستان) ويَمرّ من عاصمتها تَفليس، ثُمّ يدخل أَراضي آذربيجان حيث يَرفِدُه نهر (أيورا) المـُنساب أيضاً من جورجيا، ويَتّجه النهر نحو الجنوب الشرقي حتّى يَصبّ في البحر.

وعليه فكان العائِشونَ في المـَنطقة في رفاهيّة من العيش، حيث خُصُوبة الأرض ووِفْرَة المياه، آمِنينَ مُطمئنّينَ سِوى ما كان يُهدِّدهم أَقواهم وحشيّةً كانوا يَسكُنون وراء الجبال فربّما أَغاروا عليهم بين حين وآخر، ولم يكن التهديد لسُكّان تلك المناطق الشاطئيّة وحدها من القبائل الوحشيّة، بل كان يَشمل سُكّان أرمينيا وجورجيا أيضاً.

من هم يأجوج ومأجوج؟

عنوان أَطلقه القرآن الكريم على السُلالات البشريّة المـُتوحِّشة في عصر ذي القَرنَينِ.

( قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ

____________________

(١) والآن يُسمّى نهر كورا، كما يأتي.

٤٨٧

أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً... ) (١) .

والجغرافيّة البشريّة تُحاول وضع تصوّر مُحدَّد لأنماط الاستيطان البشري لتلك الجماعات وتدرس تسلسلهم في قائمة الأجناس البشريّة، وتُحدّد الحقبة الحضاريّة - من عُمر البشريّة - التي كانوا يعيشون أًثناءها.

تَذكر بعض الدراسات أنّ أصل يأجوج ومأجوج من أولاد يافث بن نوح، وأنّ التَسمية مأخوذة من أَجيج النار وهو: ضَوءها وشَرَرها، عنوان مُستعار يُشير إلى كثرتهم وشدّتهم.

وذَكَر بعض المـُدقّقينَ في البحث عن تأصيلهم: أنّ أصلَ المـُغول والتَّتَر من رجل واحد يقال له: (ترك)، وهو نفس الذي سَمّاه أبو الفِداء باسم (مأجوج)، فيظهر من هذا القول أنّ المـُغول والتَّتَر هم المـَقصودونَ بيأجوج ومأجوج، وهم كانوا يَشغلون الجزء الشمالي من آسيا، تمتدّ بلادهم من (التبّت والصين) إلى المحيط المـُنجمد الشمالي، وتنتهي غرباً بما يلي بلاد (التركستان) (٢) .

وكلمة (تَتَر) تُكتب تاتار وتُكتب تتار، وهي اسم لشعب يختلف مدلوله باختلاف العصور، وقد ورد في الكتابات الاُورخونيّة التركيّة التي يرجع تأريخها إلى القَرن الثامن، ذَكَر طائفتَينِ من القبائل التَّتَريّة، وهما (التتر الثلاثون) و(التتر التسعة)، ولكن (طومسون) ( Thomson ) يَرى أنّ التتار اسم يُطلق حتى في ذلك العصر على المـُغول أو فريق منهم، وليس الشعب التركي!

ويقول: إنّ هؤلاء التتار كانوا يَعيشون على وجه التقريب في الجنوب الغربي من بُحيرة بيكال حتى كرولين (٣) ، ويقول: إنّ التُرك أُخرجوا مِن منغوليا ليَحلّ محلّهم المـَغول، حينما قامت إمبراطوريّة قره خِطائي (٤) ، وقد صَحبت بعض العشائر التَتَريّة قبائل التُرك حين خرجت من منغوليا وسارت معها مُتّجهة من أواسط آسيا

____________________

(١) الكهف ١٨: ٩٤.

(٢) انظُر: الشيخ طنطاوي جوهري في تفسيره، ج٩، ص٢٠٣ - ٢٠٤.

(٣) نهر كورا ( Koura ) في قفقاسيا يَصبّ في غرب بحر قزوين.

(٤) اسم أَطلقته المصادر الإسلاميّة مُنذ القرن ١١م على بعض شُعوب الصين المغول، أَسّس زعيمهم (آبااُوكي) سُلالة (لياد) الصينيّة، أُجبروا على مغادرة الصين ١١٢٥م فاصطدموا بالدول الإسلاميّة المجاورة، صَدّهم الإيلخانيّون.

٤٨٨

صوبَ الغرب.

وجاء في أخبار الغزوات المغوليّة التي تمّتْ في القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي) أنّ الغُزاة كانوا يُعرفون (في الصين - والعالم الإسلامي - والروسيا - وغرب أُوربا) باسم التتر وهي بالصينيّة: تاتا.

وقد أَطلق ابن الأثير (ت ٦٣٠هـ) هذا الاسم (التتر) على أَسلاف (جنكيزخان) وأنّهم نوع كثير من التُرك، وكانت مساكنهم جبال طمغاج من نحو الصين (١) .

وقد قُسِّمت عدّة شعوب باسم التتر في خطاي والهندوستان وجين ماجين، وبين القرقيز وفي كلارا (بولندا) وباشقرد (المجر) وفي سهوب (دشت) قفجاق، وفي البلاد الشماليّة بين البدو، ولا يزال يُطلق على جميع الشعوب التركيّة حتّى اليوم اسم التتار.

ويظهر أنّ الشُعوب التي انحدرت من أصل مغولي وتتحدُّث بالمغوليّة كانت تُسمّى نفسها باسم التتر، ولكن حلّ محلّ هذا الاسم بعد عهد جنكيزخان في منغوليا وآسيا الوسطى اسم (مَغُول) وهو الاسم الذي استعمله رسميّاً جنكيزخان.

وقد ورد هذا الاسم في المصادر الإسلاميّة (مُغُل) و(مَغُول)، وكذلك يُنطق سلالة المـُغول في أفغانستان الذين احتفظوا بلغتهم حتى اليوم بهذا الاسم (مُغُل).

وكان هؤلاء التتر أثناء غزو تيمور يعيشون عِيشة البدو الرُحَّل فيما بين أماسيّة وقيساريّة، ويتراوح عددهم بين ثلاثين ألفاً وأربعين ألف أُسرة (٢) .

وقد اتّسع مدلول كلمة (تتر) باعتباره اسم شعب يتكلّم التركيّة في حوض نهر (ثولغا) من قازان (٣) حتّى آستراخان (٤) وشبه جزيرة القرم وجزء من سيبريا، أي في المكان الذي حَدّده القرآن خَلف السدَّينِ أي وراء حاجز جبال القوقاز وبحر قزوين والبحر الأسود.

____________________

(١) راجع: الكامل في التأريخ، ج١٢، ص٣٦١ (أحداث سنة ٦١٧).

(٢) اُنظر: ظفرنامه - الطبعة الهنديّة - كلكتا، سنة ١٨٨٨، ج٢، ص٥٠٢ وما بعدها، وكذلك أبن عربشاه، طبعة مانجر، ج٢، ص٣٣٨ وما بعدها (مفاهيم جغرافية، ص٢٨٥ - ٢٨٦).

(٣) هي عاصمة جمهورية التتر المستقلّة شرقي مسكو.

(٤) مدينة ومرفأ على مَصبّ نهر ثولغا في بحر قزوين، أسّسها المـَغول.

٤٨٩

وهم الذين سَكنوا هذه المناطق قبل الميلاد وعُرفوا بالوحشيّة والإغارة على المـُسالِمينَ، وكلّ الأبحاث العلميّة الحديثة تؤكّد على أنّ الشعب الذي يتحدّث بالتركيّة في آستراخان على بحر قزوين شمال جبال القوقاز، من سُلالات التَتَر القُدامى الذين كانوا يَغيرون عِبر مَضيق داريال الجبلي في جبال القوقاز، على شعوب جورجيا وأرمينيّة وآذربيجان، وهم يُقيمون الآن في السُفوح الشماليّة لجبال القوقاز، ويُطلق عليهم (ششن أنفوشيا)، وينتمي سُكّان كبرداي أو قبرطاي أَيضاً إلى الجنس التَتَري وهم مُبالِغون في عصبيّتهم ويَتفاخرون بها أَشدّ المـُفاخرة وينظرون إلى جميع العناصر المجاروة لهم من شركسيّة وغيرها نظرةً فيها شيء من الاحتقار، وجميع هذه القبائل تُسمّى تَتَر في آسيا.

ويرى أبو الكلام آزاد أنّ كلمتَي يأجوج ومأجوج تَبدوان كأنّهما عِبريّتان، ولكنّهما في الأصل والواقع أجنبيّتان اتَّخذتا الصورة العِبريّة، فهما تُنطَقان باليونانيّة كوك ( Gog ) وماكوك ( Magog )، ) ويبدو أنّ فِرعاً منهم سكن ما وراء القوقاز في القرن السابع قبل الميلاد وعاصر، كورشُ غارةً من غاراتهم (٢) ، وسنذكره.

وقد حدَّد مولانا أبو الكلام، الأدوار السبعة لخروج يأجوج ومأجوج كالتالي:

الدور الأَوّل منها كان قبل ٥٠٠٠ سنة وقد اندفعت هذه القبائل نحو الجنوب الغربي من سيبريا إلى هِضاب وسط آسيا (منغوليا).

الدور الثاني ويبدأ ما بين ١٥٠٠ - ١٠٠٠ق. م، وفيه كانت تَتَابع مَوجات المغوليّة من أقصى الشمال الشرقي نحو سُهول الصين وهِضاب وسط آسيا ومنغوليا والتركستان الغربيّة وزونغاريا.

الدور الثالث وصلت جحافل المـَغول حوالي ١٠٠٠ ق. م، إلى منطقة بحر قزوين والبحر الأسود وشمال القوقاز وحوض نهر الدانوب والفلجا. وظهرت قبائل (سي تهين) على مسرح التأريخ سنة ٧٠٠ ق. م، وهاجمت مناطق آسيا الغربيّة.

____________________

(١) وإذا كان حرف ( g ) ينطق بـ (جي)، فلفط القرآن أقرب تعبيراً بالكلمة: جاج وماجاج!

(٢) كورش الكبير لأبي الكلام آزاد، ترجمة باستاني باريزي، ص٢٧١.

٤٩٠

الدور الرابع - جعله أبو الكلام سنة ٥٠٠ ق. م، حيث برز كورش كأَعظم مُلوك العالَم قاطبةً، فقد أخضع ميديا وليديا وبابل والشام وجميع المـَمالك الشرقيّة حتّى نهر السند وسيحون.

وبذلك توقّف سيلُ قبائل (سي تهين) وخصوصاً بعد أنْ أَقام كورش سدّ داريال في جبال القوقاز.

الدور الخامس تزعزع أَمن الصين بجحافل جديدة من قبائل المـَغول الهمجيّة ويَطلق الصينيّون على هؤلاء المـُتوحّشين اسم (هيونغ نو) وقد تَحوَّر فيما بعد وصار (هون)، ولم يجد إمبراطور الصين بُدّاً من تشييد سور الصين الحجري العظيم، لصدّ هجمات هذه القبائل.

وبذلك توقّف غزو قبائل (هون) لسُهول الصين بعد بناء السور، ولكن ذلك جعلهم يتوجّهون نحو أواسط آسيا من جديد.

وفي الدور السادس تَجمَّع شَمل هذه القبائل في أُوربا تحت قيادة (آتيلا) وقَضَوا على الإمبراطوريّة الرومانيّة في القَرن الرابع الميلادي.

وكان الدور الأخير هو هجوم جنكيزخان على الحضارة الإسلاميّة من منغوليا في القَرن الثاني عشر للميلاد وخرَّبت بغداد (١) .

ويَذكر المؤرّخون أنّ هذه القبائل كثيراً ما أَفسدت في الأرض وبَطشت بالآمِنينَ، وهدّمت حضارات وأَراقت دماءً وحرّقت زروعاً ومُدناً، وكم أهلكوا الحَرث والنسل؟! فهم إذن مُفسِدون في الأرض بنصّ القرآن - أَصدق الحديث - وشهادة التأريخ.

* * *

إنّ منطقة بحر قزوين والبحر الأسود وجبال القوقاز كانت مستقرّاً لجماعات من المـَغول والتُرك من فجر التأريخ، وتتار شبه جزيرة القرم حول البحر الأسود، والأتراك والمـَجريونَ والفنلنديون، هم المـُتخلِّفون من ذرّيتهم في المنطقة، ولم يكن هؤلاء يَقنعون

____________________

(١) كورش كبير، ص٢٧٤ - ٢٧٦.

٤٩١

بالموارد الطبيعيّة المـُتاحة لهم في الأرض التي احتلّوها، وإنّما كان مَضيق داريال مَعبَراً لهم إلى حضارات العالم القديم في غرب آسيا، وما زالت سُلالاتهم حتّى اليوم تُقيم في المنطقة، وإن اتّخذوا أَسماء جديدة، فالجركس مثلاً اسم عام يُطلق على هؤلاء الأقوام.

وكانت هذه القبائل المـُتوحّشة زَمن كورش تسكن المـُنحدَرات الشماليّة والجنوبيّة لسلاسل جبال قوقاز ولكن في أقصى الغرب، أي الضِفة اليسرى لنهر قوبان وروافده وشاطئ البحر الأسود حتّى نهر شخة، وما تزال البقية منهم في القوقاز وما والاها.

* * *

وهناك للشيخ طنطاوي حديث مع عالِم من أُمّة يأجوج ومأجوج، يقول: كان أَوّل ما ألّفتُ كتاباً من كُتبي، كان انتشاره وترجمته في بلاد (روسيا) بناحية (قازان) وما والاها، حيث تُرجِمت تلك الكُتب باللغة القازانية، وكانت مقالة (يأجوج ومأجوج) نَشَرتها في أواخر القرن التاسع عشر بمجلّة (الهلال)، ثمّ أُعيد نشرها بزيادة تحقيق في جريدة (المؤيّد) المـُنتشِرة إذ ذاك في أقطار العالم الإسلامي في نحو العشر سنين الأُولى من القرن العشرين.

يقول: بينما أنا بالمدرسة الخديويّة أُدرِّس اللغة العربيّة، إذ قابلني تلميذ فقال: قد قابلني الأُستاذ عبد اللّه بوبي من مدينة (أوفا) ببلاد روسيا ويُريد مَوعداً للمـُقابلة بالمـَنزل، فعيّنتُ له مَوعداً ليلاً، فلمـّا حضر خاطبني باللغة العربيّة الفُصحى، وأَوّل ما بادرَني به أنْ قال: عرفتُك من مؤلّفاتك وقرأتُ في (المؤيّد) أنّك تقول: إنّنا من (يأجوج ومأجوج)، وهذه المـَقالة ترجمتُها بلُغتنا ولم أُطلِع عليه الشيوخ الكِبار؛ لظنّهم أنّ هذا كُفرٌ، وقد جهلوا أَصلنا، وإنّنا نحن المـَغول (يأجوج ومأجوج) والتتر فريق من تلك الأُمَم، فأنا والشبّان جميعاً فَهِمنا مقالك... (١)

* * *

ومن الغريب وليس بعجيب تصريح (جنكيزخان) بأنّ قومه المـُغُل والتُرك (التتار)

____________________

(١) تفسير الشيخ طنطاوي، ج٩، ص٢٠٨ - ٢٠٩.

٤٩٢

هم قوم (يأجوج ومأجوج) الذين حدَّثَ عنهم القرآن وحذَّر بطشَهم.

جاء في كتاب بَعَثه إلى محمّد خوارزم شاه يُؤنبِّه على تَعسُّفه في سياسته الغاشمة وقتله الوُدَعاء من أصحابه (التجّار المغل) ونَهب أَموالهم زوراً (١) ، مُتوعّداً له شرّ الانتقام إن هو لم يَتَلافَ الخَرق قبل تَوسُّعها.

جاء في الكتاب: (... كيف تجرّأتم على أصحابي ورجالي وأَخذتهم تجارتي ومالي، وهل وَرَد في دينكم أو جازَ في اعتقادكم ويقينكم أنْ تُريقوا دّم الأبرياء أو تَستحلّوا أموال الأتقياء أو تُعادوا مَن لا عاداكم وتُكدِّروا صفوَ عيش مَن صادقكم وصافاكم، أَتُحرّكون الفتنة الخامدة وتُنبّهون الشُرور الكامنة! أَوَ ما جاءكم عن نبيّكم... أنْ تمنعوا عن السفاهة غوّيَكم وعن ظلم الضعيف قويَّكم؟! أَوَ ما أَخبركم مُرشدوكم ومُحدّثوكم عنه قوله: اُتركوا التُرك ما تَركوكم؟! وكيف تُؤذون الجار وتُسيئون الجِوار ونبيّكم قد أَوصى بهم... فَتلافوا هذا التَلف قبل أنْ ينهض داعي الانتقام وتقوم سوق الفتنة ويظهر مِن الشرّ ما بَطَنَ ويَروج بحر البلاء ويَموج، وينفتح عليكم سدّ (يأجوج ومأجوج) وسينصر اللّه المظلوم، والانتقام من الظالم أمر معلوم، ولابدّ أنّ الخالق القديم والحاكم الحكيم يُظهر سرّ ربوبيّته وآثار عدله في بريّته، فإنّ به الحَول والقوّة ومنه النُصرة مرجوّة، فلتَروُنّ من جزاء أفعالكم العَجَب، وليَنسلُنّ عليكم يأجوج ومأجوج من كلّ حَدب... (٢)

____________________

(١) ذَكَر ابن الأثير أنّ جنكيزخان المعروف بتموجين كان قد فارق بلاده، وسار إلى نواحي تركستان، وسيّر جماعةً مِن التُجّار والأتراك ومعهم شيء كثير من النُّقرة والقندر (حيوان بحري يُصنع من جلده الفرو) وغيرهما، إلى بلاد ما وراء النهر (سمرقند وبخارا) ليشتروا به ثياباً للكسوة.

فوصلوا إلى مدينة مِن بلاد التُرك تُسمّى (اُوترار) وهي آخر ولاية خوارزم شاه، وكان له نائب هناك، فلمـّا ورد عليه هذه الطائفة من التتر أَرسلَ إلى خوارزم شاه يُعلِمه بوصولهم ويَذكر له ما معهم من الأموال، فبعث إليه خوارزم شاه يأمرهم بقتلهم وأَخْذ ما معهم من الأموال وإنفاذه إليه، فقتلهم وسيَّر ما معهم وكان شيئاً كثيراً، فلمـّا وصل إلى خوارزم شاه فرّقه على تُجّار بُخارى وسمرقند وأخذ ثمنه منهم.

وسُرعان ما نَدم خوارزم شاه على صنيعه هذا وأَشغل فكره فَهَمَّ بمهاجمة جنكيزخان قبل أنْ يُهاجمه في جُموعه وعساكره التي أَخبر جواسيسه عنها بأنّها لا تُحصى، فاستشار أُمراءه في ذلك، وبينما هم كذلك إذ ورد رسول جنكيزخان ومعه جماعة يُهدّد خوارزم شاه ويقول: تقتلون أصحابي وتُجّاري وتأخذون مالي منهم! استعدّوا للحرب فإنّي واصل إليكم بجمع لا قِبَلَ لكم به، لكن خوارزم شاه بدل أنْ يَستميل جنكيزخان من صنيعه هذا القبيح، أَمر بقتل الرسول وحَلق لُحى الجماعة الذين كانوا معه وأَعادهم إلى صاحبهم جنكيزخان يُخبرونه بما فَعل ويقولون له: إنّ خوارزم شاه يقول لك: أنا سائر إليك ولو أنّك في آخر الدنيا حتّى أفعل بك كما فعلتُ بأصحابك... الكامل في التأريخ، ج١٢، ص٣٦١ - ٣٦٤.

(٢) تفسير الشيخ طنطاوي، ج٩، ص٢٠٤.

٤٩٣

وأيضاً كان بين مَمالك مُغُل ومَمالك خوارزم منطقة وسيعة يَحكمها أُمراء (قراختائيان) وكان ما وراء النهر (سمرقند وبخارا) تحت سُلطتهم وكانت الفاصل الحاجز بين المـُغُل والخوارزميّة، فعَمَد المـَلِك مُحمّد خوارزم شاه إلى فَتحِها وإلحاقِها بممالكه الوسيعة الأمر الذي تحقّق سنة ٦٠٧هـ.

وفي سنة ٦١٢هـ زَحَف خوارزم شاه من مدينة (جند) نحو مساكن قبائل (قبجاق) فَواجَه أفواجَ (جوجي) ابن جنكيزخان، وهذا وإنْ سامَحَه وأَخبره أنّه لم يأتِ للحرب سِوى إخماد نائرة بعض البُغاة، لكن المـَلِك مُحمّد خوارزم شاه لغروره عَزَم على مُقاتلتهم، سِوى أنّ (جوجي) غادَرَ المحلّ ليلاً وأخبر أَباه بمُفاجئة المـَلِك الخوارزمي وأنّه عازم على مُقاتلتهم بالذات، فكان أَوّل بادرة حدثت بين الدولتَينِ (١) .

ويُضيف الشيخ طنطاوي هنا: أنّ المـَلِك الخوارزمي لمـّا غزا بلاد ما وراء النهر، سُرت السرائر، وابتهجت القلوب بهذا الفتح، وكان إذ ذاك في (نيسابور) عالِمان فاضلان فأقاما العزاء على الإسلام وبَكيا، فَسُئلا عن ذلك فقالا: وأَنتم تَعدّون هذا الثَلم فَتحاً وتَتَصوّرون هذا الفساد صُلحاً، وإنّما هو مبدأ الخروج وتسليط العلوج وفتح سدّ يأجوج ومأجوج، ونحن نُقيم العزاء على الإسلام والمسلمين وما سيحدث من هذا الفتح من الحَيف على قواعد الدين ( وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ) (٢) .

قال الطنطاوي: فهذا تصريح من هذَينِ العالِمَينِ بما أوردناه بشأن يأجوج ومأجوج وأنّهم من أقوام التتر، وانظر كيف ظهر صِدق كلامهما في حينه وظهر التتر وأَفنَوا المسلمينَ وماجَ الناس بعضهم في بعض (٣) ، ( حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ) (٤) .

____________________

(١) راجع: تأريخ إيران، ص ٤٠٤ - ٤٠٥.

(٢) ص ٣٨: ٨٨.

(٣) تفسير الشيخ طنطاوي، ج٩، ص٢٠٥.

(٤) الأنبياء ٢١: ٩٦.

٤٩٤

يأجوج ومأجوج في التأريخ

وهكذ جاء لفظ يأجوج ومأجوج في الأَسفار القديمة وفي التأريخ، تعبيراً عن أُمّة مُتوحِّشة يَموج بعضهم في بعض، ويكونون خطراً بين حين وآخر يُهدّد الأُمَم المـُتحضِّرة المـُجاورة لها وحتّى غير المـُجاورة إلى حدّ بعيد.

جاء في سِفر التكوين عند ذِكر وُلد نوح وأحفاده: (بنو يافث: جومر وماجوج وماداي) (١) .

وفي سِفر حزقيال، يَتحدّث عن جوج، أرض ماجوج، وأنّهم يُفسدون في الأرض وأنْ سَوف يَذلّ بهم جبابرة الأرض (٢) .

وذكر جيمس هاكس: أنّ السوريّين - في القُرون الوسطى - سَمّوا قبائل التتر بمأجوج، وكانت العرب تعتبر السُهول الواقعة بين البحر الأسود وبحر قزوين ببلاد يأجوج ومأجوج، وفي أيام حزقيال كانت الأقوام السكيتيّة في الشمال الغربي من آسيا وراء جبال قوقاز معروفين بأقوام مأجوج، وفي عام (٦٢٩ ق.م) انسالوا بجُموعهم نحو مدينة (ساردس) عاصمة ليديا، وتَغلّبوا عليها، واستولوا عام (٦٢٤ ق.م) على مُلك ماديا (سياكرس)، وأَخذوا بالهُجوم نحو مصر، لولا أنْ واجَهَهم المـَلِك (بساميتخس) بالهدايا الكثيرة ليُقنعهم بالرجوع إلى أوطانهم.

وحزقيال يَصفهم بالفروسيّة والقدرة على ضَرْب الكتائب بما يَفوقون سائر الأُمّم، وهكذا وَصَفهم مؤرّخو يونان القُدامى (٣) .

وليهرودوت حديث عن هذه الأقوام يَتوافق مع حديث حزقيال (٤) .

وله أيضاً حديث عن أقوام وَحْش كان مسكنهم وراء جبال قوقاز، سَمّاهم (ما ساكت) (ما ساجيت = massagetes ) = (ماجوج) وقال عنهم: أنّهم أصحاب فروسيّة وشجاعة فائقة، ويَعتبرهم البعض أنّهم من أفخاذ الأقوام السكائيّة (الكسكيتيّة) (٥) حسبما

____________________

(١) سِفر التكوين ١٠: ٣، أخبار الأيّام الأُوَل ١: ٥.

(٢) سِفر حزقيال، إصحاح ٣٨.

(٣) قاموس الكتاب المقدس، حرف م، ص٧٧٥.

(٤) تأريخ هيرودوت، ص٦٢.

(٥) المصدر: ص٩٨.

٤٩٥

جاء في كلام حزقيال.

ومِن ثَمّ جاء قول المـُؤرّخين بأنّ هذه القبائل التي سُمّيت (ميكاك) عند اليونان و(منكوك) عند الصينيّين هي (يأجوج ومأجوج) التي ذُكرت في القرآن (١) .

ذكر الأُستاذ أبو الكلام آزاد: أنّ لفظتَي يأجوج ومأجوج، يبدو في صِيغتهما أنّهما عِبريّتان، في حين أنّها أَعرق وذواتا أَصل غير عِبراني. وقد عَبَّر اليونان عنهما (كوك) ( Gog ) و(ماكوك) ( Magog )، وهكذا جاءَتا في التَرجمة السبعينيّة للتوراة، ومنها تَسرَّب إلى اللغات الأُوربيّة.

وقد أُطلق على أقوام وَحْش كانوا يسكنون مُنذ (٦٠٠ ق.م) ما وراء جبال قوقاز، عُرفوا باسم (التَتَر) وبلادهم حسب تعبير الصينيّين معروف باسم (منغوليا)، وهذه القبائل قد أُطلق عليهم (المنغول) (المغول)، والمصادر الصينيّة تُعطينا أنّ أصل هذه الكلمة هي: (منكوك) أو (منجوك)! وهذا قريب من الكلمة في صيغتها العِبريّة (مأجوج) وعند اليونان (ميكاك).

وفي تأريخ الصين نجد الحديث عن قبيلة أُخرى باسم (يوشي) ( Yuechi )، والظاهر أنّ الكلمة حُرّفت فيما بعد في صورة (يأجوج) العِبريّة، وجاءت في تعبير الإفرنج: (يوئه جي) (٢) .

إذن فالتعابير الواردة في التأريخ القديم (تأريخ هيرودوت): (ماساكيت) (ماساجيت)، وعند اليونان: (كوك) و(ماكوك)، وطِبقاً للتوراة: (جوج) و(ماجوج)، وعند الصينيّين: (منكوك) أو (منجوك)، و(يوشي) (ياجوج)، وعند الإفرنج: (يوئه جي)... كلّها تَنمّ عن أصل هذه الكلمة تَعبيراً عن أقوام وَحش هَمَج كانوا خَطراً على البلاد، وجاء التعبير عنهم في القرآن بـ (يأجوج ومأجوج) وأنّهم مُفسدون في الأرض.

وقد التَمَس أهل البلاد الخِصبة من كورش (ذي القرنين) أنْ يَجعل لهم سدّاً يَمنعهم عن هَجمات تلك الأقوام.

____________________

(١) مفاهيم جغرافيّة، ص٣١٣.

(٢) كورش الكبير، ص٢٧١ - ٢٧٣.

٤٩٦

أين السدّ وأين موضعه الآن؟

سَبق أنْ دلّت الشواهد على أنّ موضعه هي الثَغرة في ثنايا جبال قوقاز، كانت تَعبُرها أقوام وَحْش للإغارة على المـُسالمينَ في الأرض. وعُرِفت الثغرة باسم مضيق (داريال) حسبما مرَّ، وهي بالقُرب من مدينة (تفليس) عاصمة (كرجستان).

لَمَسنا من المفاهيم القرآنيّة المـُفسَّرة أن لم يكن من سبيل - في القَرن السادس قبل الميلاد - إلى الأمان للشُعوب المـُسالِمة البدائيّة الضعيفة جنوب جبال القوقاز (في آذربيجان وجورجيا وأرمينيّة وسواحل جنوب بحر قزوين) إلاّ بتشييد سدّ منيع يَحكم إغلاق الثغرة بين شطرَي جبال قوقاز، ويَحول دونَ عبور القبائل المغوليّة (القديمة المـُتوحِّشة) للمسلك الجغرافي الوحيد نحو تلِكُم الشُعوب المـُستضعَفَة.

ويبدو أنّ الحائط الجبلي المذكور في القرآن كان مُمتدّاً امتداداً عَرضيّاً كبيراً يُفضي من جانبَيه إلى بحرَينِ لا يُمكن عُبورهما (بحر قزوين في الشرق والبحر الأسود في الغرب)؛ لذلك عَرَض القوم البدائيّون الضُعفاء في جنوب جبال قوقاز على ذي القَرنَينِ (كورش) بناء سدٍّ يُوقف زَحف المـُتوحّشين تماماً.

وقبل أنْ نتحدّث عن سدّ ذي القَرنَينِ وأنّه هل هو سدّ كورش الذي بناه على أقوم استحكام، ممّا يتطّلب تقدُّماً حضارياً من حيث الإمكانيّات التي قدّمها كورش لانجاز هذا المشروع الجَلَل والذي يُعدّ آية في تأريخ البشريّة الصناعيّة والهندسيّة والعلميّة... لابدّ أنْ نُلقي ضوءً على المـَقدِرات الفنيّة يومذاك ولا سيّما في بلاد فارس على عهد كورش أي قبل الميلاد ببِضع قُرون.

التحضّر البشري في عهد ذي القَرنَينِ

يقول الدكتور عبد العليم - أُستاذ الجغرافيا المـُساعِد في جامعة ابن سعود ويحمل شهادة زَمالة الجغرافيّين الملكيّة - لندن -: دراسة جغرافيّة منطقة السّدّ، دراسة جيولوجيّة واقتصاديّة لمعرفة إمكانيّاتها الطبيعيّة والإمكانات البشريّة التي كان من المفروض

٤٩٧

تَوفُّرها للوفاء باحتياجات السّدّ التي طلبها ذو القَرنَينِ، ودراسة مدى التَحضّر البشري حينذاك.

بالنظر إلى الآية الكريمة ( فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً ) (١) نرى أنّ الإمكانيّات التي قدّمها كورش لإتمام السّدّ هي: الخُبرَة والمـُهندسينَ والإشراف، وأمّا الإمكانيّات التي طلبها من سُكّان المنطقة فكانت تنحصر في:

١ - القوّة البشريّة (العَمّالة).

٢ - خامات الحديد.

٣ - الفحم أو الخشب لصَهر الحديد.

٤ - خامات النُحاس.

٥ - عددٍ مّا من حيوانات الجرّ والحَمل.

٦ - استهلاك العُمّال والمـُهندسينَ من طعام وشراب ومأوى.

ولنا أنْ نتساءل: هل كانت (فارس) على درجة من التحضّر والتقدّم بما يُوفّر الخُبرَة الهندسيّة لتشييد السُدود والأعمال العُمرانيّة الضَخمة؟

لفارس، حضارتها الخاصّة بها بلا شكّ، ولكن مصر الفرعونيّة - بشهادة التأريخ - قَدَّمت لها أعظم مدرسة في التشييد والبِناء والصناعة. لقد قدّمت مصر - وكانت على اتّصال وثيق ببلاد الشرق الأدنى منذ ٤٠٠٠ سنة - للحضارة الفارسيّة العلوم الرياضيّة والهندسيّة والطبّ والفَلَك وتعبيد الطُرُق والكتابة والتقويم والساعات والورق وفنّ المكتبات وحفظ الوثائق، والأثاث الدقيق والمصقول، وفنّ التلوين.

ولم تقتبس فارس من حضارة مصر فقط، وإنّما نَقلت أيضاً - زَمن الهخامنشيّين - من بابل كثيراً من العلوم والفنون والصناعات، وهكذا من اليونان استخدموا مهندسينَ كِباراً لفنّ النحت وبِناء القُصور الشامخات والأَعمدة الرفيعة والأقواس من الرُخام

____________________

(١) الكهف ١٨: ٩٥ - ٩٦.

٤٩٨

والأحجار الثمينة (١) ، ولا نَنكُر أنّهم - أي الفُرس - أَضافوا إلى ما أَخذوه وخَلَّفوا لنا حضارةً راقيةً، هي مَزيج من حضارات العالَم القديم مصر - بابل - يونان.

وإجابة على السؤال، يُمكن القول: إنّ الفُرس - في عصر الهخامنشيّين - امتازوا بمهارتهم في فنّ العِمارة والبِناء، يشهد بذلك كلّ ما اكتشفه علماء الآثار هناك من أَبنية تَدلّ على عَظَمة التصميم الهندسي، ودقّة اختيار الموادّ الخام، وتطويعها للغرض الإنشائي المـَنشود، فقد أَخذ البنّاءون الفُرس يَتعلّمون فنّ المِعمار من الشُعوب التي خَضَعت لهم (سومر - آشور - كلدان - يونان) وسُرعان ما استوعبوا أَسراره.

ومَن ينظر إلى مقبرة وقُصور كورش، ودارا الأَوّل، وخِشَيارْشا الأَوّل، يُدرك عُمق تأثّر المِعمار الفارسي بما يُحيط به من أَنماط في مصر ويونان وبابل وميديا وليديا... ونُدرك نحن ذلك إذا فَحصنا جيّداً ما شيّده كورش في (باساركاد) (٢) رُغم تَهدُّمها، فالواقع أنّها صور من الرَوعة والجمال ترسم ملامح الفنّ الفارسي الهخامنشي مُنذ أربعة وعشرين قَرناً، وتزداد صورُ الرَوعة إشراقاً إذا فحصنا (نقش رستم) بالقُرب من (برسبوليس) (٣) والآثار الموجودة في هذه المدينة.

بالإضافة إلى ذلك تُوجد أَبنية فارسيّة قُدّر لها أنْ تَفلت مِن مَخالب الحروب والدمار والغارات والسَرِقات وتقلّبات الأجواء، وهي تتمثّل في مجموعة من حُطام القُصور، وبقاياها موجودة حتى الآن في العواصم الفارسيّة القديمة مثل (بارساركاد) و(برس بوليس) و(اكبتانا - همدان).

وهي جميعها تُفيد في دراسة مراحل تَطوّر فنّ التشييد والبِناء في تلك المـَرحلة من حكم الهخامنشيّين لفارس، وتؤكّد أنّ الهخامنشيّين تَتَلمذوا على حضارات أُمَم مُجاورة وأحسنوا التَلمـَذة وأجادوها في كلّ الحقول، سواء أكانت الصناعات المختلفة أو التكنيك

____________________

(١) تأريخ إيران، ص١٢٥.

(٢) جاء تعريبه: (بازارجاد)، هي مدينة ضخمة بقيت آثارها الفخيمة في مشهد مرغاب، عاصمة الهخامنشيّين القديمة، واقعة على بُعد ١٨ فرسخاً في الشمال الشرقي من شيراز، وبها مقبرة كورش الكبير قائمة إلى اليوم وفيها عُثِر على تمثال كورش الحجري الشهير.

(٣) تخت جمشيد. وتُسمّيه اليونان: (برس بليس).

٤٩٩

أو تعبيد الطُرُق أو الإنشاءات المِعماريّة والفنّية والجسور والسدود.

وكلّها اتّسمت بطابع الأصالة في التخطيط وحُسن التنفيذ بما يُمكن أنْ يجعلنا نقول: إنّ الفُرس صَنعوا ممّا نقلوه رمزاً شاهداً على اتّجاههم الخاصّ وأُسلوبهم المـُتطوِّر.

ويبدو ممّا بقي من آثار حجريّة ودَرَج وأعمدة وأقواس، وتماثيل الحيوانات المـُجسّمة، وبقايا البِناء الذي خَلّد فيه كورش ذِكرى انتصاره على الميديّين، درجة كفاءة التَحضّر الفارسيّ آنذاك، ويبدو أيضاً ممّا بقي من آثار أنّ صوراً قد نُحتت مِن الحجر في هذا المكان من (مشهد مرغاب) ولكنّها خَرُبت، وأنّ نقشاً يُظنّ أنّه لكورش قد دُرِس، وعلى مَقربة من هذا البِناء بِناء عظيم من الحَجَر يقع في ستّ مُدرجات وقد عُرف هذا البِناء اليوم باسم قبر أُمّ سُليمان، ويعتقد المحقّقون أنّه قبر كورش، كما عُثِر على مَقربة منه نقش ترجمته: (أنا كورش المـَلِك الهخامنشي...).

وفي باساركاد تِمثال بارز مَنحوت من الحَجَر يُصوّر شخصاً واقفاً مادّاً يده إلى الأَمام وله جناحان وأجنحة شبيهة بتماثيل الآشوريّين، إلاّ أنّ لِحيته فارسيّة وتاجه مصري وثيابه عيلاميّة (- وهو تِمثال كورش، حسبما استقرّ عليه الرأي أخيراً - ويَنطبق على ذي القَرنَينِ الذي جاء وَصْفه في القرآن وفي العهد القديم، باعتبار أنّ لتاجه قَرنَينِ، أحدهما إلى الأَمام والآخر إلى الخلف) (١) ، هذا عَلاوة على الكثير مِن الحَفريّات التي تَدلّ على أنّ الخرائب هي آثار مدينة عامِرة وعريقة مُوغِلة في القِدَم، لم يبقَ منها سِوى خرائب وآثار قُصور وأَبنية كثيرة فَخمة بقيت الأجزاء الحجريّة منها، يَدلّك على فَخَامتها تلك الدَرَج وهي مِئة وست درجات في عَرض سبعة أَذرع تتصاعد إلى قاعة فسيحة عليها مِئة عمود من الرُخام وبعضها قائمة حتّى اليوم.

وعلى أجنحة الدَرَج تماثيل وتصاوير رجال مَنحوتة على الحَجَر وكان سرير المـَلِك يَحمله ٢٨ مُجسّمة حجريّة، رمزاً إلى مُمَثّلي المـَمالك التي سخَّرها داريوش، وهو جالس على السرير ويرى مِن خَلفه رجل يُظنّ أنّه خشيارشا، كما عَثَر المنقّبون في

____________________

(١) ولعلّه صُنع بأَمره، تَيمّناً بما فاتَحَه دانيال من الرؤيا التي كان قد رآها وهو في أَسر البابليّين، لغت نامه دهخدا، حرف الذال، ص ١١٥٦٩، ذو القَرنَينِ الثاني.

٥٠٠

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578