شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم13%

شبهات وردود حول القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 578

شبهات وردود حول القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 578 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 297446 / تحميل: 13674
الحجم الحجم الحجم
شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

( قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) (١) .

شاهدٌ ثالث أخذوه دليلاً على عُموم الطوفان:

قال العلاّمة الطباطبائي: هذا كالنصّ في أنّ الطوفان عمّ البقاع اليابسة من الأرض جميعاً أو مُعظمها الذي هو بمنزلة الجميع، قال: ولو كان الطوفان خاصّاً بصُقع من أصقاع الأرض وناحية من نواحيها - كالعراق على ما قيل - لم يكن أيّ حاجة إلى أنْ يحمل في السفينة من كلّ جنس من أجناس الحيوان زوجين اثنين (٢) .

وهذا المعنى قائم على أساس ما حسبه المفسّرون في سبب حَمل زوجين من كلّ جنس من الحيوان؛ لعلّة استبقاء نسلها لئلاّ تنقرض، قال صاحب المنار: والتقدير - على قراءة حفص [بتنوينِ كلٍّ] -: احمل فيها من كلّ نوعٍ من الأحياء أو الحيوان زوجين اثنين ذكراً وأُنثى؛ لأجل أنْ تبقى بعد غَرق سائر الأحياء، فتتناسل ويبقى نوعها على الأرض (٣) .

وعامّة المفسّرين على ذلك، ولعلّهم متأثّرون بنصّ التوراة وتوارد الإسرائيليّات بهذا المعنى، جاء في سِفر التكوين: ومن جميع البهائم الطاهرة تأخذ معك سبعةً سبعةً ذكراً وأُنثى، ومن البهائم غير الطاهرة اثنين ذكراً وأُنثى، ومن طيور السماء أيضاً سبعةً سبعةً ذكراً وأُنثى؛ لاستبقاء نسلٍ على وجه كلّ الأرض (٤) وهكذا ورد في الإسرائيليّات (٥) .

ولكن ما قَدْر السفينة حتّى يُحمل فيها مثل هذا العدد الجمّ من أنواع الحيوان الأهليّة والوحشيّة والحشار والطيور؛ لئلاّ ينقرض نسل الأحياء، بل وفي هذه الروايات: حَمل الأزواج من أنواع النبات والشجر والأعشاب، وهو من الغرابة بمكان!!

وبحقٍّ قال سيّد قطب: ومرّة أخرى تتفرّق الأقوال حول ( مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) .

وتشيع في الجوّ رائحة الإسرائيليّات قويّة.

وتعقّبه بقوله: أمّا نحن فلا ندع الخيال يلعب بنا ويَشتطّ حول النصّ ( احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) ممّا يملك نوح أنْ يُمسك، وأنْ يَستصحب من الأحياء، وما وراء ذلك خبط عشواء (٦) .

____________________

(١) هود ١١: ٤٠، المؤمنون ٢٤: ٢٧.

(٢) تفسير الميزان، ج ١٠، ص ٢٧٤.

(٣) تفسير المنار، ج ١٢، ص ٧٦.

(٤) سِفر التكوين، إصحاح ٧/ ٢ - ٣.

(٥) راجع: الدرّ المنثور للسيوطي، ج ٤، ص ٤٢٣ فما بعد.

(٦) في ظِلال القرآن، ج ١٢، ص ٦٢، مجلّد ٤، ص ٥٤٨.

٤١

وهذا هو الرأي الصحيح، فقد رخّص الله لنوح أنْ يَحمل معه ما يَملكه من الحيوانات الأهليّة بقَدر ما يحتاج إليه من زادٍ وراحلة، ولا يُثقل حِملَه حتّى تعود الأحوال إلى أوضاعها الأُولى، وأمّا سائر الأحياء الأهليّة والوحش فتتشرّد لوجهها، ولا تبقى في المنطقة المصابة بالحادث، كما هو مألوف، هذا ما يدلّ عليه نصّ القرآن لا أكثر.

والزوجان - في الآية - يراد به المتعدّد في تشاكل، أي من كلّ جنس عدداً يفي لتأمين الحاجة بها.

وهذا نظير قوله تعالى: ( وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا (في الأرض) زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) (١) أي من كلّ نوع في أشكال وألوان متقاربة ومتنوّعة، كالتفّاحة في أشكالها وألوانها، وهكذا الليمون والرّمان، وسائر الفواكه من كلّ نوعٍ فيها أزواج متشابهة، كما قال تعالى: ( وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ) (٢) أي مُتشاكلاً وغير متشاكل.

وجاء في وصف فواكه الجنّة: ( فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ ) (٣) أي صنفان متشاكلان، والمراد المتعدّد في أشكالٍ وأصناف، كما قال: ( وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً ) (٤) أي متشاكلاً.

ومن الواضح أنّ الثمرة - وهي الفاكهة - ليس فيها ذكر ولا أُنثى ولا تزاوج لقاح، وإنّما ذاك في بذور الأزهار لا في الفواكه والثمار.

على أنّها لغةٌ دارجة: أنْ يُراد بالمثنّى الشِّياع في الجنس لا الاثنان عدداً، قال أبو علي: الزوجان في قوله: ( مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) يراد بهما الشِّياع، وليس يراد بهما عدد الاثنين، كما قال الشاعر:

فاعمَد لما يعلو فمالكَ بالذي

لا تستطيعُ مِن الأُمور يَدانِ

يريد: الأيدي والقُوى الكثيرة حتّى يستطيع التغلّب بها على الأمور.

قال: ويُبيّن هذا المعنى أيضاً قول الفرزدق:

وكلُّ رَفيقَي كلِّ رَحلٍ وإنْ هُما

تَعاطى القَنا قوماهُما أَخَوانِ (٥)

____________________

(١) الرعد ١٣: ٣.

(٢) الأنعام ٦: ١٤١.

(٣) الرحمان ٥٥: ٥٢.

(٤) البقرة ٢: ٢٥.

(٥) تعاطى مخفّف تعاطياً، حذف اللام للضرورة، جامع الشواهد، ص ٣٢٤.

٤٢

إذ رفيقان اثنان لا يكونان رفيقي كلّ رحَل، وإنّما يُريد الرفقاء كلّ واحد مع صاحبه يكونان رفيقين.

وأمّا وصف الزوجين بالاثنين؛ فلإرادة التأكيد والتشديد في المتبوع، كما قال تعالى: ( لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ ) (١) خطاباً مع المشركين، نهى عن اتخاذ الآلهة، ومع ذلك جاء تأكيده بالاثنين، زيادةً في المبالغة (٢) ، ومِن ثَمّ عقّبه بقوله: ( إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ) .

وإنّما جاء بالتثنية باعتبار اتخاذ إلهٍ آخر معه سبحانه، أي لا تتّخذوا مع الله إلهاً آخر، والمعنى: النهي عن التعدّد في الآلهة وإن كان في صياغة المثنّى (٣) وقد بحثنا عن إرادة الشِّياع من المثنّى بتفصيل فليُرجع إليه (٤) .

( وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ) (٥)

يقال: إنّه تعريب (جورداي) اليونانيّة، اسم لسلسلة جبال تمتدّ من شماليّ العراق فإلى تركيا، وبلاد أرمينيّة ذات قمّة رفيعة (٥١٧٥ متراً) عُرفت بـ (آراراط) شاع عند الأرامنة - القاطنين في المنطقة - أنّها مَرسى سفينة نوح، وأخذ عنهم العرب من غير تحقيق.

ويرجع هذا الشِّياع إلى عهدٍ متأخّر (منذ القرن العاشر بعد الميلاد) حيث تُرجمت عبارة التوراة: (رست السفينة على جبل الأكراد) بجبل آراراط.

ولم تكن الأرامنة تعرف لذلك الوقت مَرسى متعيّناً للسفينة، حتى شُوّهت عليهم هذه الترجمة الخاطئة، وجَعلت الأوهام تحيك حولها أساطير.

جاء في دائرة المعارف الإسلاميّة: والمـُحَقَّق من كتابات كثير من المؤلّفين الأرمن وغيرهم مِن الكُتّاب أنّ جبل (آراراط) لم يكن له حتّى القرن العاشر صلة مّا بحادث الطوفان.

____________________

(١) النحل ١٦: ٥١.

(٢) راجع: مجمع البيان للطبرسي، ج ٥، ص ١٦١.

(٣) المصدر: ج ٦، ص ٣٦٥.

(٤) فيما يأتي في البحث عن آية ( وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ) فيما توهّم من المخالفة مع العلم.

(٥) هود ١١: ٤٤.

٤٣

فالرواية الأرمنيّة القديمة لا تَعرف - على التحقيق - شيئاً على جبل استقرّت عليه فلُك نوح، فلمـّا أن جاء ذِكرُ جبلٍ في المؤلّفات الأرمنيّة المتأخّرة تبيّن أنّ ذلك كان بتأثير الكتاب المـُقدّس المتزايد في هذه المؤلّفات، والكتاب المـُقدّس هو الذي يقول: إنّ السفينة استقرّت على جبال أراراط، وأعلى هذه الجبال وأشهرها جبل (ماسك) (ماسيس) ومِن ثَمّ فلابدّ أنّ نوحاً قد حطّ بسفينته على هذا الجبل.

أمّا المرحلة الثانية مِن نموّ هذه الرواية الأرمنيّة فَتُرَدُّ إلى الأوربيّين، الّذين أطلقوا اسم آراراط (بالأرمنيّة: إيراراط) وهو اسم ناحية على جبل ماسك، استناداً على تفسيرٍ خاطئ لسِفر التكوين (١) .

وإنّما أخذت الرواية القائلة بأنّ (ماسك) هو الجبل الذي استقرّت عليه السفينة، تجد مكاناً في المؤلّفات الأرمنيّة في القرنَينِ الحادي عشر والثاني عشر، وتذهب التفاسير الدينيّة السابقة على هذا في الزمن، إلى أنّ الجبل المعروف الآن بجبل (الجوديّ) أو جبال (جورديين) (بالسريانيّة: قردو، وبالأرمنيّة: كُردُخ) - كما تقول المصادر النصرانيّة - هو المكان الذي رست عليه سفينة نوح.

والمـُحقَّق أنّ هذا التحديد للمكان الذي استقرّت عليه السفينة - وهو التحديد الذي ذُكِر حتّى في الترغوم (الترجمة الكلدانيّة للعهد القديم) - يُسنَد إلى الرواية البابليّة، وقد نشأ من الاسم البابلي (برسوس).

زد على ذلك أنّ جبل (نصر) الذي ذُكِر في قصّة الطوفان في الكتابات المسماريّة يصحّ أيضاً أنْ يُحدّد مكانه في جبال (جورديين) بالمدلول الواسع لهذا الاسم، وقد أخذ النصارى بالرواية البابليّة اليهوديّة القديمة، وعرفها العرب منهم عندما وصلوا بفتوحاتهم إلى إقليم (بهستان) (بلاد أرمينيّة)، وأطلق العرب اسم الجودي - الوارد في القرآن - في غير تثبّتٍ على جبل (قردو) المعروفة بذلك منذ أقدم الزمن.

____________________

(١) المصدر: ٨ / ٤.

٤٤

وما زالت المنطقة المحيطة بجبل الجودي إلى يومنا هذا حافلة - كالمنطقة المحيطة بجبل آراراط - بالأساطير والذكريات المتّصلة بقصّة الطوفان وحياة نوح بعد إذ غادر السفينة (١) .

* * *

وهكذا نرى الجغرافيّ الكبير ياقوت الحموي (ت ٦٢٦) متأثّراً بتلكُم الأساطير المسطّرة، يقول: الجوديّ جبل مُطلّ على جزيرة (ابن عمر) في الجانب الشرقي من دجلة من أعمال الموصل، عليه استوت سفينة نوح (عليه السلام).

ثُمّ يَذكر نصّ التوراة - مُستشهِداً به -: (... واستقرّت السفينة على الجودي في شهر كذا ويوم كذا... ويقول: هذا تعريب التوراة حرفاً حرفاً) (٢) .

ما ندري ماذا كان الأصل حتّى ترجمه إلى ذلك؛ ولعلّه لُقّن بذلك - وهو روميّ الأصل - من بعض الأرامنة المسيحيّين، وهكذا لقّن أبناء الإسلام بأوهام جاءتهم من قبل أهل الكتاب!

هذا، ومن ورائهم زَرافات من المفسّرين سواء في الغابر والحاضر - مع الأسف - من غير تريّث ولا تحقيق، وكم له من نظائر في مواضع من التفسير، أشهرها وأشنعها تفسيرهم ذا القرنين بالإسكندر الكبير!

ومِن مُضاعفات هذا الزعم - كما نبّه عليه المحقّق الشعراني - (٣) القول بعموم الطوفان المستحيل (٤) إذ لازمه أنْ يكون الماء قد غمر رؤوس الجبال الشامخات، حيث رست السفينة - بعد ما أخذت المياه في النضوب - على قمّة جبلٍ ترتفع خمس كيلو مترات!

وممّا يجدر التنبّه له: أنّ القوم حسبوا من كلمة (الجودي) - باعتبارها اسم جبل - أنّها أعجميّة معرّبة، فراحوا يجوبون البلاد علّهم يعثروا على ذلك الأصل أهو (جورداين) أو (جورداي) أو (قوردو) أو غيرها؟

____________________

(١) راجع: دائرة المعارف الإسلاميّة المـُترجمة إلى العربيّة، ج ٧، ص ١٦١ - ١٦٣ (الجودي).

(٢) معجم البلدان، ج ٢، ص ١٧٩.

(٣) معجم لغات القرآن للشعراني، ج ١١، ص ١٤٤.

(٤) عادةً في الطبيعة، ولا ضرورة تدعو إلى مثل هذا الإعجاز!

٤٥

لكن لا مُبرّر لهذا الحُسبان بعد أن كان لهذه الكلمة أصل عربي خالص، ولها سابق التعبير في جاهليّة العرب.

قال أُميّة بن أبي الصلت:

سبحانه ثُمّ سبحاناً يعود له

وقبله سبّح الجوديُّ والجُمُدُ

الجودي - من الجود -: الرَّبوة من الأرض تجود بنباتها إذا أصابها وابلٌ آتت أكلها ضعفين، والجُمُدُ: الحَزِنة من الأرض تجمُد بنباتها وتبخل سواء أصابها وابلٌ أو طلّ.

قال أبو مسلم الإصبهاني: الجودي اسم لكلّ جبل وأرض صُلبة (١) ، في مقابلة الرَّخوة، أي استقرّت على مرتفع من الأرض غير ذات وحلٍ، وكانت ذات بركة عليه حينما نزل بها.

( قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ ) (٢) فأَوّل مفاتح البركات نزوله بأرضٍ ذات بركةٍ .

وأين هذا من حُسبان نزوله في أعالي جبالٍ شامخاتٍ ترتفع عن الأرض السَّهلة بخمس كيلو مترات؟!

وهل كان نزوله حينذاك بسلام وبركاتٍ أم بشقاء وعناء؟!

( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ) (٣)

هذه العبارة (وفار التّنور) إمّا كناية عن فورة سخطه تعالى بمعنى: وثار غضبُ الربّ، كما يقال: فار فائرة إذا اشتدّ غضبه، وبنو فلان تفور علينا قِدْرهم أي يشتدّ غضبُهم علينا.

قال الشاعر:

تفورُ علينا قِدْرُهم فَنُديمها

ونفثؤها عنّا إذا حَمْيُها غلا (٤)

وهكذا فار تنّورهم أي احتدّ سخطهم وثارت نائرتهم، فمعنى (فار التنّور): حمى

____________________

(١) مجمع البيان، ج ٥، ص ١٦٥.

(٢) هود ١١: ٤٨.

(٣) هود ١١: ٤٠.

(٤) أساس البلاغة للزمخشري، ج ٢، ص ٢١٧. وفثأ القدر - بالثاء المثلّثة -: إذا صبّ عليه ماءاً بارداً ليفتر غليانه.

٤٦

غضبُ الربّ، وإمّا أن نأخذ التعبير على حقيقته ليكون التنّور مَفْجَر الماء.

غير أنّ التنّور - في أصله - اسم لما يخبز فيه، والكلمة فارسيّة واستعملتها العرب بلا تحوير.

قال ابن دريد: التنّور فارسيّ معرّب. لا تعرف العرب له اسماً غير هذا؛ فلذلك جاء في التنزيل؛ لأنّهم خوطبوا بما يعرفون.

وقال ابن قتيبة: رُوي عن ابن عبّاس أنّه قال: التنّور بكلّ لسان، عربيّ وعجمي (١) .

واستعير لمـَفْجَر الماء، والتنانير: ينابيع الماء، حيث تفور كما يفور التنّور بالنار.

قال الفيروز آبادي: التنّور: كلّ مَفْجَر ماء، ومحفل ماء الوادي أي مجتمعه، وتنانير الوادي محافله (مواضع تجتمع فيها المياه) وهي الوِهاد والمستنقعات في البراري.

ومعنى الآية على ذلك: وفارت تنانير الأرض أي فاضت ينابيعها وثارت.

وهكذا جاء التعبير في سورة القمر: ( فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ) (٢) .

( فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاّ خَمْسِينَ عَاماً) (٣)

وهل يعيش إنسان في مثل هذا العمر الطويل؟ الأمر الذي لم يَكد يكون معروفاً وحتّى في القرون الماضية، هؤلاء الفراعنة في مصر نجد أجسامهم كأجسام أهل هذه الأيام وأعمارهم لم تختلف عن أعمارنا، وقد مرّ لهم أربعون قرناً أو أكثر، فكيف يكون ذلك؟

يقول الأستاذ عبد الوهاب النجّار: لا مانع من أنْ يعمِّر آدم ومن قُرب منه أعماراً طويلة؛ لأنّ النوع الإنساني كان في بدء نشأته لم يَحمل هموماً، ولم تَعتوره الأمراض المختلفة، ولم تُنهك قوّته الأطعمةُ التي لا يقدر على هضمها، فكان من المعقول أنْ يعيش طويلاً، وأمّا نحن وأمثالنا - ممّن كانوا قبل أربعين قرناً - فقد جئنا بعد أنْ أنهكت النوع

____________________

(١) المعرَّب لأبي منصور الجواليقي، ص ٢١٣، وراجع: جمهرة اللغة لابن دريد، ج ٣، ص ٥٠٢، وج ٢، ص ١٤، وأدب الكاتب لابن قتيبة، ص ٣٨٤.

(٢) القمر ٥٤: ١١ - ١٣.

(٣) العنكبوت ٢٩: ١٤.

٤٧

الإنساني الأمراضُ وطحنته الأدواء، فالواحد منّا عُصارة لآلاف الأمراض التي انتابت آباءه وأُمّهاته، فلم تعد قُوانا تتحمّل العمر الطويل.

وعند العلماء بالطبّ والأحوال الاجتماعيّة أنّ الإنسان قُواه محدودة والحياة العريضة تستنفدها بسرعة، بخلاف الحياة الضيّقة فإنّها تكون طويلة؛ لقلّة ما يُستنفد من قُوى الأجسام بتلك الحياة، فنحن الآن لا نعيش عيشةَ البساطة التي كان يعيشها آدم ومن قُرب منه، بل نتفنّن في أنواع الطعام ولذائد المعيشة بما يُنهك قُُوانا، فلا غرابة أنْ تكون أعمارنا قصيرةً، وقد اجتمعت عليها الأمراض المـُتوارَثة والتبسيط في العيش.

ويقول بعض الأطبّاء الألمان: إنّ إنسان هذا الزمان يمكن أن يعيش ثلاثمِئة سنة إذا اتّبع نظاماً خاصّاً (١) .

وهكذا ذكر الشيخ مُحمّد عبده في إمكان إطالة الأعمار في عهدٍ كانت الحياة غير موسّعة الأطراف، والمعيشة على بساطتها الأُولى غير معقّدة الجوانب، ولا كانت مُزدَحَم الأمراض والأدواء والشدائد والآلام حيث كانت طبيعة العمران ومعيشة الإنسان الفطريّة أسلم للأبدان (٢) .

( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ) (٣)

دلّت الآية على أنّه لم يبقَ بعد الطوفان سوى نوح وَبنيه وذراريه، وحتّى الذين ركبوا معه في الفُلك ممّن آمن به ونجوا من الغَرَق هلكوا وانقرضوا بلا عَقِب، هكذا جاءت في الروايات الإسلاميّة عن ابن عباس وقتادة، قال الكلبي: (لمـّا خرج نوح من السفينة مات من كان معه من الرجال والنساء إلاّ ولده ونساءهم) (٤) ؛ ومِن ثَمّ كان نوح (عليه السلام) هو الأب الثاني لكافّة البشر بعد آدم (عليه السلام).

لكنّه يتنافي وقوله تعالى خطاباً لبني إسرائيل: ( ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ ) (٥) .

____________________

(١) قصص الأنبياء للنجّار، ص ٤٨.

(٢) تفسير المنار، ج ١٢، ص ١٠٤.

(٣) الصافّات ٣٧: ٧٧.

(٤) مجمع البيان، ج ٧، ص ٤٤٧.

(٥) الإسراء ١٧: ٣.

٤٨

والموصول عامّ يشمل مَن رَكَب مع نوح من المؤمنين، ولا يَخصّ وِلْدَ صُلبه - كما قيل - ؛ إذ لا شاهد عليه في ظاهر تعبير القرآن العامّ.

والقول بتشعّب البشر مِن وِلد نوح الثلاثة (سام، حام، يافث) رواية إسرائيليّة بحتة ذكرتها التوراة: (ومن هؤلاء تشعّب كلّ الأرض) (١) .

غير أنّها ذَكرتْ أيضاً أنّ الذين ركبوا مع نوح هم بَنوه وأزواجهم فحسب (٢) ؛ ليكون غيرهم لم يؤمنوا به إطلاقاً ممّا يبدو غريباً جدّاً، أو كانوا آمنوا ولكنّهم بقوا؛ ليكونوا مع المـُغرَقِينَ، وهذا أبعد وأغرب!

فالصحيح ما ذكره القرآن: ( قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاّ قَلِيلٌ ) (٣) فقد ركب معه من المؤمنين جماعة وإن كانوا في قلّة بالنسبة إلى قومه الأكثرين، وقد ذكر المفسّرون أنّهم كانوا ثمانين نفساً (٤) .

فلابدّ أنّ هؤلاء الذين ركبوا معه ونجوا كانوا معه وهبطوا جميعاً بسلام ( قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (٥) .

والتعبير بالأُمم ممّن معه يُعطي تناسل الأُمم منهم، منهم المؤمنون كآبائهم ومنهم الفاسقون، وهذا أيضاً مطلق شامل لكلّ من ركب معه وهبط إلى الأرض بسلام.

فالخطاب - مع بني إسرائيل - بأنّهم ذُرّيةُ مَن حملنا مع نوح (يعني الذين آمنوا به) يشمل الجميع.

ثمّ لو كان المراد ذُرّية وِلد نوح الذين ركبوا معه لكان التعبير بذريّة نوحٍ أَولى، من غير ضرورة تدعو إلى هذا الالتواء في التعبير الموهم!

والوجه فيما ذكره الكلبي وغيره؛ أنّه تأثّرٌ بروايات إسرائيليّة وينبو عنه ظاهر تعبير القرآن.

بقي قوله تعالى: ( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) (٦) يظهر منه أنّ البشريّة أصبحت جميعاً

____________________

(١) سِفر التكوين، إصحاح ٩ / ١٨.

(٢) المصدر: ٧ / ٨.

(٣) هود ١١: ٤٠.

(٤) مجمع البيان، ج٥، ص ١٦٤.

(٥) هود ١١: ٤٨.

(٦) الصافّات ٣٧: ٧٧.

٤٩

من ذريّة نوح ولم يُعقّب الآخرون.

لكن في رواية أبي الجارود عن الإمام مُحمّد بن علي الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى:

( وَجَعَلْنَا ذُرّيّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) قال: (الباقون بالحقّ والنبوّة والكتاب والإيمان في عَقِبه، قال: وليس كلّ مَن في الأرض مِن بني آدم، مِن وِلد نوح) واستشهد (عليه السلام) بالآية من سورة هود: ( ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ ) (١) .

وهو تأويل وجيه يَدعمه قوله تعالى: ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ) (٢) وهذا هو معنى البقاء ( وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ ) (٣) . يعني إبراهيم (عليه السلام) وقال تعالى: ( فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ... ) (٤) .

فالبقيّة الباقية في مصطلح القرآن هم الذين وَرِثوا الكتاب والنبوّة والإيمان، يأمرون بالمعروف ويَنهون عن المنكر، هذا هو البقاء وفي غيره الفناء، الأمر الذي تحقّق في ذرّية نوح وإبراهيم (عليهما السلام).

قال الحسن البصري: هلك المتمتّعون في الدنيا؛ لأنّ الجهل يغلب عليهم والغفلة فلا يتفكّرون إلاّ في الدنيا وعمارتها وملاذّها... (٥)

قال الإمام أمير المؤمنين عليه صلوات المصلّين: (هَلكَ خُزّانُ الأموالِ وهُم أحياءٌ والعلماءُ باقونَ ما بقيَ الدهرُ) (٦) .

نوح (عليه السلام) بعد الهبوط

قال تعالى: ( قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (٧) .

دلّت الآية على أنّ نوحاً هبط بسلامٍ وبركات، فقد أسّس أُمّةً وبنى حضارةً من

____________________

(١) تفسير القُمي، ج ٢، ص ٢٢٣.

(٢) الحديد ٥٧: ٢٦.

(٣) الزخرف ٤٣: ٢٨.

(٤) هود ١١: ١١٦.

(٥) مجمع البيان، ج ٥، ص ١٦٨.

(٦) نهج البلاغة، قصار الكلم، رقم ١٤٧، في كلامه (عليه السلام) مع كميل بن زياد النخعي عليه الرحمة، ص ٤٩٦

(٧) هود ١١: ٤٨.

٥٠

جديد وعمّر الأرض وأحيى البلاد، وسعى في إعلاء كلمة الله في الأرض على بنيانٍ مرصوص.

فقد أخذ من تجارب ماضية دليلاً هادياً له إلى تأسيس معالم جديدة تُنير درب الإنسان إلى حيث سعادته الخالدة، وكان التوفيقُ حليفَه في هذا الشَطر من حياته الكريمة، وصار قدوةً لمـَن جاء بعده من الأنبياء، وحتّى أنّ إبراهيم الخليل (عليه السلام) أصبح من شيعته، ( إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) (١) .

قال تعالى: ( وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ * وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) (٢) .

وكم عاشَ نوح بعد الطوفان؟ القرآن ساكت عنه، وفي الروايات اختلاف، خمسين إلى خمسمِئة عام (٣) أو أكثر ممّا لا اعتداد به.

والدُ إبراهيم (عليه السلام) تارَح أو آزر؟

ذكرت التوراة: أنّ والد إبراهيم (عليه السلام) هو (تارَح) بِراءٍ مفتوحةٍ وحاءٍ مهملة (٤) .

وجاء في القرآن: ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ... ) (٥) .

قال الزجّاج: لا خلاف بين النسّابين أنّ اسم والد إبراهيم (عليه السلام) تارَح، ومِن المـُلحِدة مَن جعل هذا طعناً في القرآن، وقال: هذا النسب - الذي جاء في القرآن - خطأ وليس بصواب.

وحاول الإمام الرازي الإجابة عن ذلك، بأنّه من المحتمل أنّ والد إبراهيم كان مسمّىً باسمين، فلعلّ اسمه الأصلي آزر، وجعل تارَح لقباً له، فاشتهر هذا اللقب وخَفي الاسم، والقرآن ذكره بالاسم (٦) .

ويتأيّدُ هذا الاحتمال بأنّ (تارَح) بالعِبريّة يُعطي معنى الكسول المتقاعس في

____________________

(١) الصافّات ٣٧: ٨٤.

(٢) الصافّات ٣٧: ٧٥ - ٨٤.

(٣) راجع: كمال الدين للصدوق، ص ١٣٤، رقم ٣، وبحار الأنوار، ج ١١، ص ٢٨٩.

(٤) سِفر التكوين، إصحاح ١١ / ٢٧.

(٥) الأنعام ٦: ٧٤.

(٦) راجع: التفسير الكبير، ج ١٣، ص ٣٧، وتفسير البيضاوي، ج٢، ص ١٩٤.

٥١

العمل (١) . أمّا (آزر) فهو النشيط في العمل؛ لأنّه من (الأَزر) بمعنى القوّة والنصر والعون. ومنه (الوزير) أي المـُعين، قال تعالى حكايةً عن موسى بشأن هارون: ( اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ) (٢) وهذا المعنى قريب في اللغات الساميّة، ومن ذلك عازر وعُزير في العِبريّة، وجاءت المادّة بنفس المعنى في العربيّة، قال الله تعالى: ( فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصـَرُوهُ ) (٣) ، ومعلوم أنّ العين والهمزة يتعاوران في اللغتين العِبريّة والعربيّة (٤) .

فلعلّ اسمه الأصلي كان (آزر) بمعنى النشيط، لكنّهم رأوا منه كسلاً وفشلاً في العمل والهمّة فلقبّوه بتارح، وكما اشتهر نبيّ الله يعقوب بلقب (إسرائيل).

* * *

أمّا مفسّرو الشيعة الإماميّة فيَرونَ أنّ (آزر) هذا لم يكن والد نبيّ الله إبراهيم (عليه السلام) وإنْ كان إبراهيم يدعوه أباً؛ لأنّ (الأب) أعمّ من الوالد، فيُطلق على الجدّ للأُمّ، وعلى المربّي والمعلّم والمرشد، وعلى العمّ أيضاً، حيث جاء إطلاق الأب عليه في القرآن، فقد حكى الله على أولاد يعقوب قولهم: ( نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ) (٥) ، وإسماعيل كان عمّاً ليعقوب.

قال الشيخ أبو جعفر الطوسي: والذي قاله الزجّاج يُقوّي ما قاله أصحابُنا: أنّ آزر كان جدّ إبراهيم لأُمّه، أو كان عمّه؛ لأنّ أباه كان مؤمناً، لأنّه قد ثبت عندهم أنّ آباء النبي (صلّى الله عليه وآله) إلى آدم كلّهم كانوا مُوحّدين لم يكن فيهم كافر، ولا خلاف بين أصحابنا في هذه المسألة.

قال: وأيضاً رُوي عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: (نَقَلني اللهُ مِن أصلابِ الطّاهرينَ إلى أَرحامِ الطّاهراتِ، لمْ يُدنّسني بِدَنسِ الجاهليّةِ). وهذا خبر لا خلاف في صحّته (٦) ، فبيّنَ النبيُّ (صلّى الله عليه وآله) أنّ

____________________

(١) جاء في قاموس الكتاب المقدّس (بالفارسيّة) ص ٢٤١: (تارح: تنبل) أي الكسلان.

(٢) طه ٢٠: ٣١.                                      (٣) الأعراف ٧: ١٥٧.

(٤) راجع: قصص الأنبياء للنجّار، ص ٧٠.          (٥) البقرة ٢: ١٣٣.

(٦) ورد في تأويل قوله تعالى: ( وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ) ، الشعراء ٢٦: ٢١٩، بطرق الفريقين أحاديث متضافرة أنّه (صلّى الله عليه وآله) قال: (لمْ أَزَلْ أُنقلُ مِن أصلابِ الطّاهرين إلى أرحامِ الطّاهراتِ). راجع: التفسير الكبير، ج ١٣، ص ٣٩، والدرّ المنثور، ج ٦، ص ٣٣٢، مجمع البيان، ج ٧، ص ٢٠٧.

٥٢

الله نقله من أصلاب الطّاهرينَ، فلو كان فيهم كافر لما جاز وصْفُهم بأنّهم طاهرون؛ لأنّ الله وَصف المشركينَ بأنّهم أنجاس: ( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ) (١) .

قال: ولهم في ذلك أدلّة لا نطوّلُ بذكرها الكتابَ؛ لئلاّ يخرج عن الغرض (٢) .

* * *

وللإمام الرازي هنا بحث طويل وحُجج أقامها دعماً لما يقوله مُفسّرو الشيعة، وأخيراً يقول: فثبت بهذه الوجوه أنّ (آزر) ما كان والد إبراهيم (عليه السلام) بل كان عمّاً له، والعمّ قد يُسمّى بالأب، كما سمّى أولادُ يعقوب إسماعيلَ أباً ليعقوب، وقال النبي (صلّى الله عليه وآله) بشأن عمّه العباس حين أُسِر: (ردّوا عليَّ أبي).

قال: وأيضاً يُحتمل أنّ (آزر) كان والد أُمّ إبراهيم، وهذا قد يقال له الأب، والدليل عليه قوله تعالى: ( وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ - إلى قوله - وَعـِيسَى ) (٣) ، فجعل عيسى من ذرّية إبراهيم، مع أنّه (عليه السلام) كان جدّاً لعيسى من قبل الأُمّ (٤) .

* * *

ولسيّدنا الطباطبائي تحقيق بهذا الشأن، استظهر من القرآن ذاته أنّ (آزر) الذي خاطبه إبراهيم بالأُبوّة وجاء ذلك في كثير من الآيات لم يكن والده قطعيّاً.

وذلك أنّ إبراهيم في بداية أمره حين كان بين أَظهُر قومِه من أرض كِلدان، وكان تحت كفالة آزر، وقد حاجّ قومه وحاجّ أَباه كثيراً وفي فترات ومناسبات مؤاتية، وكان أبوه آزر يطارده ويؤنّبُه على جُرأته على آلهة قومه: ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً * إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً * قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي

____________________

(١) التوبة ٩: ٢٨.

(٢) تفسير التبيان للطوسي، ج ٤، ص ١٧٥. وراجع: أيضاً مجمع البيان، ج ٤، ص ٣٢٢.

(٣) الأنعام ٦: ٨٤ و ٨٥.

(٤) التفسير الكبير، ج ١٣، ص ٤٠.

٥٣

حَفِيّاً ) (١) .

فإبراهيم هنا قد وَعَد أباه أنْ يستغفرَ له، وبالفعل وَفيَ بِوعده: ( رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ * وَاغْفِرْ لأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ ) (٢) .

لكن سُرعان ما رجع عمّا كان قد رجا في أبيه خيراً، ومِن ثَمّ تبرّأ منه حين لم يرجُ فيه الصلاح ويئِس منه، قال تعالى: ( وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ) (٣) .

هذا في بداية أمره قبل مغادرة بلادِه وقومِه قاصداً البلاد المقدّسة، والدليل على ذلك أنّه يبدأ الدعاء بقوله: ( رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ... الخ).

* * *

وبعد ذلك يأتي دورُ مغادرتِه إلى الأرض المقدّسة، ويبتهل إلى الله أن يرزقَه أولاداً صالحين. ( فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ * وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ) (٤) .

وهنا يُجيب الله دعاءه: ( وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ ) (٥) .

ثمّ إنّه لمـّا كَبُر ابنه إسماعيل وبنى البيتَ الحرام نراه يدعو لوالديه ويستغفر لهما: ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ ) إلى قوله: ( رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ) (٦) .

قال العلاّمة الطباطبائي: والآية بما لها من السياق والقرائن المـُحتفّة بها خير شاهدةٍ على أنّ والدَهُ الذي دعا له واستغفر له هنا غير أبيه آزر الذي تبرّأ منه في سالف الأيّام، فقد تحصّل أنّ آزر الذي جاء ذِكره في تلك الآيات لم يكنْ والد إبراهيم ولا أباه الحقيقي،

____________________

(١) مريم ١٩: ٤١ - ٤٧.

(٢) الشعراء ٢٦: ٨٣ - ٨٦.

(٣) التوبة ٩: ١١٤.

(٤) الصافّات ٣٧: ٩٨ - ١٠٠.

(٥) الأنبياء ٢١: ٧١ و ٧٢.

(٦) إبراهيم ١٤: ٣٥ - ٤١.

٥٤

وإنّما صحّ إطلاق الأب عليه لوجود عناوين تسوّغ اللغة مثل هذا الإطلاق كالجدّ للأمّ والعمّ، وزوج الأُمّ، وكلّ مَن يتولّى شأن صغير، وكذا كلّ كبير مُطاع، ونحو ذلك، وليس مثل هذا التوسّع في إطلاق لفظ الأب مختصّاً بلغة العرب، بل هو جارٍ في سائر اللغات أيضاً (١) .

الذبيح هو إسماعيل وليس بإسحاق!

جاء في سِفر التكوين، الإصحاح ٢٢:

١ - وحدث بعد هذه الأمور أنّ الله امتحن إبراهيم، فقال له: يا إبراهيم، خذ ابنك وحيدك الذي تحبّه إسحاق واذهب إلى أرض المريّا وأَصعِده هناك.

٩ - فلمـّا أتيا إلى الموضع ورتّب الحطب وربط إسحاق ابنه ووضعه على المـَذبح فوق الحطب.

١٠ - ثمّ مدّ إبراهيم يده وأخذ السكّين ليذبح ابنه.

١١ - فناداه مَلاك الربّ من السماء.

١٢ - فقال: لا تمدّ يدك إلى الغلام ولا تفعل به شيئاً؛ لأنّي الآن علمت أنّك خائف الله، فلم تُمسك ابنك وحيدك عنّي.

١٣ - فرفع إبراهيم عَينَيه ونظر وإذا كبش وراءه مُمسكاً في الغابة بِقرنَيه، فذهب إبراهيم وأخذ الكبش وأصعده مَحرقةً عِوضاً عن ابنه.

١٥ - ونادى مَلاك الربّ إبراهيم ثانيةً من السماء، وقال: بذاتي أقسمتُ يقول الربّ: إنّي من أجل أنّك فعلت هذا الأمر ولم تُمسك ابنك وحيدك، أبارِكُكَ مباركةً، وأُكثِر نسلك تكثيراً كنجوم السماء وكالرمل الذي على شاطئ البحر، ويرث نسلك باب أعدائه، ويتبارك في نسلك جميع أُممِ الأرض؛ من أجل أنّك سمعتَ لقولي.

* * *

بَطلُ هذه القصّة عند اليهود هو إسحاق، ولعلّ لفظ إسحاق حُشِر حشراً في غضون القصّة؛ وذلك حرصاً من بني إسرائيل على أن يكون أبوهم هو الذبيح الذي جاء بنفسه في طاعة ربّه، وبُوركَ للعالمينَ في نسله.

____________________

(١) راجع: تفسير الميزان، ج ٧، ص ١٦٨ - ١٧١.

٥٥

غير أنّ التعبير بـ (ابنك وحيدك) - دليلاً على سخاء نفس إبراهيم بولده الوحيد يذبحه امتثالاً لأمر ربّه - ممّا يتنافى وكون الذبيح هو إسحاق، الذي كان أصغر من أخيه إسماعيل بأربعة عشرة عاماً.

فالابن الوحيد الذي جادت نفس إبراهيم بذبحه ليس سوى إسماعيل.

وقرينة أخرى: إنّ الذي بُورك العالمونَ بنسلهِ وأفاض نسلُهُ بالبركات على العالمينَ هو إسماعيل، دون إسحاق الذي كان ولا يزال نسله (بنو إسرائيل) نكبةً في العالمينَ، ومَفْجَر الفساد بين العباد، والعيث في البلاد.

وفي القرآن إشارة إلى ذلك، حيث يقول تعالى ( فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ ) (١) .

فالتبشير الأَول بغلامٍ حليم يُنبئ عن أنّ إبراهيم لم يكن صاحب وَلَد لحينذاك؛ حيث بشّره بغلام.

والتبشير الثاني جاء تصريحاً باسم إسحاق نبيّاً من الصالحين، فيدلّ على أنّ التبشير الأَوّل كان بغير إسحاق، وهو إسماعيل.

وفي الإصحاح ٢١ من سِفر التكوين:

إنّ الربّ بشّر إبراهيم بنسلٍ في وَلَده إسحاق، وبنسلٍ في وَلَده إسماعيل، ولكن يجعل من نسلِ إسماعيلَ أُمّةً.

جاء في العدد ١٢: لأنّه بإسحاق يُدعى لك نسل.

____________________

(١) الصافّات ٣٧: ١٠١ - ١١٣.

٥٦

وفي العدد ١٣: وابن الجارية أيضاً سأجعله أُمّةً؛ لأنّه نسلك.

ومن ذلك يُعرف أنّ البركة العامّة الشاملة التي جُعِلت في نسل الذبيح خاصّة بوِلد إسماعيل، فقد أصبحوا أُمّةً هيمنت ببركتها ما بين الخافقَينِ.

قصّة لوط مع ابنتَيه كما هي في التوراة

جاء في الإصحاح ١٩ من سِفر التكوين:

٣٠ - وصعد لوط من صُوغَر وسكن في الجبل وابنتاه معه؛ لأنّه خاف أنْ يَسكن في صُوغَر، فسكن في المغارة هو وابنتاه.

٣١ - وقالت البِكر للصغيرة: أبونا قد شاخ وليس في الأرض رجلٌ ليدخلَ علينا كعادة كلّ الأرض.

٣٢ - هلمـّ نَسقي أبانا خمراً ونضطجعُ معه، فنُحيي من أبينا نسلاً.

٣٣ - فَسَقَتا أباهما خمراً في تلك الليلة، ودخلت البِكر واضطجعت مع أبيها، ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها.

٣٤- وحدث في الغد أنّ البكر قالت للصغيرة: إنّي قد اضطجعتُ البارحةَ مع أبي، نَسقيه خمراً الليلةَ أيضاً، فادخلي اضطجعي معه، فنُحيي من أبينا نسلاً.

٣٥ - فَسَقتا أباهما خمراً في تلك الليلة أيضاً، وقامت الصغيرة واضطجعت معه، ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها.

٣٦ - فجعلت ابنتا لوط من أبيهما.

٣٧ - فولدت البِكر ابناً ودعت اسمه مؤاب، وهو أبو المؤابيّين إلى اليوم.

٣٨ - والصغيرة أيضاً ولدت ابنا ودعت اسمه بن عمّي، وهو أبو بني عمّون إلى اليوم.

* * *

هذا، ولكنّ القرآن يأبى أنْ تتلوّث ساحة قُدسِ نبيٍّ من أنبيائه بِمثل هكذا تلوّث فضيع، فقد نزلت بشأنه ورفعةِ مقامِهِ آياتٌ تُتلى؛ ولتكون شهادةً من الله بنزاهةِ ساحةِ قدس أوليائه الكرام:

٥٧

قال تعالى: ( وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ) (١) .

( وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلاّ عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ ) (٢) .

يعقوب ينتهب النبوّة من أخيه عيسو!

لم تتوان اليهود في الحطِّ من كرامة الأنبياء حتّى ولقد مدّوا يد التدنيس إلى حياة أبيهم يعقوب ليجعلوه مُتزوّراً، لبّسَ الأمرَ على أبيه إسحاق لينتهبَ النبوّة من أخيه - عيسو -؛ حيث كان مُرشّحاً لها من قِبل أبيه، فأغفل يعقوب أباه إسحاق واستغلّ عَماه ليتصوّر أنّه عيسو فيبارك له بالنبوّة! في مثل هذا التلاعب الصبياني تذكر التوراة حادث انتقال النبوّة من إسحاق إلى يعقوب، يا لها مِن مهزلة حمقانيّة وإساءة أدب إلى ساحة أنبياء الله العظام! (٣)

____________________

(١) الأنبياء ٢١: ٧٤ و ٧٥.

(٢) الصافّات ٣٧: ١٣٣ - ١٣٥.

(٣) جاء في الإصحاح ٢٧ من سِفر التكوين:

وحَدَث لمـّا شاخ إسحاق وكلّتْ عيناه أنّه دعا عيسو ابنه الأكبر وقال: اخرج إلى البريّة وتصيّد لي صيداً، واصنع لي أطعمةً حتّى تباركَك نفسي قبل أنْ أموت، وكانت رفقة (زوجة إسحاق وأُمّ يعقوب) سامعةً إذ تكلّم إسحاق مع عيسو ابنه، فكلّمت يعقوب ابنها بما قال أبوه، قال: فالآن يا بني اذهب إلى الغنم وخذ جديَّينِ جيّدين مِن المعزى، فاصنعهما أطعمةً لأبيك كما يحبّ، فتُحضرها إليه ليأكلَ و يباركك قبل وفاته، فذهب يعقوب وأخذ وأحضر لأُمّه، فصنعت أطعمةً كما كان يُحبّ أبوه، وأخذت رفقة لباس عيسو الفاخرة وألبستها ابنها يعقوب، وألبست يديه وملاسة عُنقه جلود جديَي المعزى - لأنّ عيسو كان أشعر ويعقوب كان أملس - صنعت ذلك تلبيساً على إسحاق، وأعطت الأطعمة في يد يعقوب، فدخل إلى أبيه وقال: يا أبي فقال: ها أنا ذا، من أنت يا بني؟ فقال يعقوب: أنا عيسو بِكرُك، قد فعلتُ كما كلّمتني، قم اجلس وكل من صيدي لكي تباركَني نفسُك، فقال إسحاق: ما هذا الذي أسرعت؟ فقال: إنّ الربّ إلهك قد يسّر لي. فقال إسحاق: تقدّم لأَجُسّك يا بني، أَأنت هو ابني عيسو أم لا؟ فتقدّم يعقوب، فجَسّه وقال: الصوتُ صوت يعقوب، ولكنّ اليدين يدا عيسو، ولم يعرفه؛ لأنّ يديه كانتا مُشعرتين كَيَدي عيسو أخيه، فباركه وقال: هل أنت هو ابني عيسو؟ فقال: أنا هو؛ فدعا له إسحاق وقال ليُستعبد لك شعوبٌ، وتسجد لك قبائلٌ، كنْ سيّداً لإخوتك وليسجد لك بنو أُمّك، وعندما فرغ إسحاق من بركةِ يعقوب وخرج من عنده جاء عيسو وأتى بالصيد ليبارك له أبوه فارتعد إسحاق ارتعاداً عظيماً جدّاً، واتّضح الأمر، فصرخ عيسو صرخةً عظيمةً ومرّةً جدّاً، وقال لأبيه: باركني أيضاً، فقال: قد جاء أخوك بمَكرٍ وأخذَ بركتَك، ورفع عيسو صوته وبكى، وقال: قد أخذ يعقوب بكورتي وبركتي، وعزم على قتل أخيه؛ لولا فراره من وجهه واختفاؤه عند أخواله بإشارة من أُمّه رفقة، وهكذا أصبح يعقوب نبيّاً وأصبح إخوته عبيداً له.

٥٨

يعقوب يصارع الربّ

وكارثةً أُخرى ألصقوها بنبيّ الله يعقوب، وهي أنّه صارع الربّ ليلته كلّها، ولم يتركه حتّى ضربه الربّ على حقّ فخذه أي رأس ورِكه، فباركَه حتّى تركه يعقوب (١) .

أمّا القرآن فإنّه يصف إسحاقَ ويعقوب بأجمل وصف، وأنّهما من عباد الله الصالحينَ: ( وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ * وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الأَخْيَارِ ) (٢) .

( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) (٣) .

والآيات بترفيع شأن إبراهيم وبَنيه إسحاق ويعقوب وإسماعيل كثيرةٌ في القرآن، على العكس ممّا جاء في التوراة اليهوديّة، من الحطّ بكرامة الأنبياء (عليهم السلام).

خروج بني إسرائيل وتجاوزهم البحر

جاء في سِفر الخروج أنّ فرعون اضطرّ إلى إطلاق سراح بني إسرائيل؛ لِما أصاب القبطيّين من الجدب والبلاء، لكنّه فور ما أطلق سراحهم ندم على ذلك فأخذ هو وجنوده

____________________

(١) جاء في الإصحاح ٣٢ من سِفر التكوين رقم ٢٢ - ٢٩:

ثمّ قام في تلك الليلة وأخذ امرأتَيه وجاريتَيه وأولاده الأحد عشر، وعَبَرَ مخاضةَ يبوق، أخذهم وأجازهم الوادي وأجاز ما كان له، فبقى يعقوب وحده. وصارعه إنسان حتّى طلوع الفجر، ولمـّا رأى أنّه لا يقدر عليه ضرب حُقّ فَخِذه، فانخلع حُقّ فَخِذ يعقوب في مصارعته معه، وقال: أَطلقني؛ لأنّه قد طلع الفجر، فقال لا أُطلقك إنْ لم تباركْني. فقال له ما اسمك؟ فقال: يعقوب. فقال: لا يُدعى اسمك في ما بعد يعقوب، بل إسرائيل؛ لأنّك جاهدت مع الله والناس وقدرت، وسأل يعقوب وقال: أَخبرني باسمك. فقال: لماذا تسأل عن اسمي؟ وباركه هناك، فدعا يعقوب اسم المكان فنيئيل، قائلاً: لأنّي نظرت الله وجهاً لوجه.

(٢) ص ٣٨: ٤٥ - ٤٧.

(٣) الأنعام ٦: ٨٣ - ٨٨.

٥٩

يعقّبونهم ليردّوهم إلى الذلّ والعبوديّة الأُولى، غير أنّ بني إسرائيل ضلّوا الطريق إلى فلسطين - وكانت قريبةً - فأخذوا في الطريق البعيد، وتقول التوراة: إنّ الله هو الذي أَضلّهم كي لا يندموا إذا رأَوا حرباً فيرجعوا إلى مصر، فأَدركهم فرعون وهم على ضفّة البحر الأحمر، فلمـّا رأى بنو إسرائيل فرعونَ وجنودَه ذَعَروا وفَزِعوا إلى موسى، فأوحى الله إليه أنّهم ناجون وأنّ فرعون وجنوده سوف يغرقون، وحال بينهم وبين فرعون.

فأَمر الله موسى أنْ يضربْ بعصاه البحر ويشقّه، ففعل فأجرى الله بريحٍ شرقيّةٍ شديدة كلّ اللّيل، وجعل البحر طريقاً يابسةً وانشقّ الماء، فمشى بنو إسرائيل على اليابسة في وسط البحر والماء كالسور عن يمينهم وعن يسارهم وعبروا إلى الضفّة الأُخرى، ورآهم فرعون يسيرون على اليابسة فسار في أَثرهم، فلمـّا توسّط اليمّ وعَبر بنو إسرائيل جميعاً انطبق الماء على فرعون وجنوده فأُغرِقوا جميعاً ولم يبقَ منهم ولا واحد (١) .

ونصّت التوراة أنّ البحر الذي جاوزه بنو إسرائيل هو بحر سُوف (٢) ، والموضع الذي انشقّ منه كان عند فم الحيروث أتام بعل صفون (٣) ، وجاء في قاموس الكتاب المقدّس أنّه (القُلزم) (٤) .

و(فم الحيروث) مَضيق قُرب نهاية خليج السويس على ما جاء في خارطة الأراضي المقدّسة - مُلحق كُتب العهدَين.

وهكذا جاء في المأثور من دعاء (السِّمات) المعروف بدعاء (شبّور): (ويوم فَرَقتَ لبني إسرائيل البحر وفي المـُنبجسات التي صنعت بها العجائب في بحر سُوف...).

وقال العلاّمة المجلسي - في شرح الدعاء -: سمّاه الهروي في الغريبَين (إساف) قال: وهو الذي غَرِق فيه فرعون: قال المجلسي: وهذا البحر هو بحر القُلزم (٥) .

ولعلّ ما جاء في عبارة الدعاء (وفي جبل حوريث) (٦) ، أيضاً إشارة إلى (فم الحيروث).

____________________

(١) سِفر الخروج، إصحاح ١٠ - ١٤.

(٢) المصدر: ١٣ / ١٨، و ١٥ / ٥.

(٣) المصدر: ١٤ / ٩.

(٤) قاموس الكتاب المقدّس لجيمس هاكس، ص ٤٩٦.

(٥) بحار الأنوار، ج ٨٧، ص ١١٢.

(٦) بحار الأنوار، ج ٨٧، ص ١١٢.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

إن كان حسناً ، ولا يوحشك إلاّ هو إن كان قبيحاً .

واعلم أنّك إن تنصر الله ينصرك ويثبّت أقدامك ، فإنّ الله تعالى ضمن إعزاز مَن يعزّه ، ونصر مَن ينصره ، وقال سبحانه :( إن تنصروا الله ينصركم ويثبّت أقدامكم ) (١) .

وقال سبحانه :( ولينصرنّ الله مَن ينصره ) (٢) .

وقال : كيف أنتم إذا ظهر فيكم البدع حتّى يربوا فيها الصغير ، ويهرم الكبير ، ويسلم عليها الأعاجم ، فإذا ظهرت البدع قيل سنّة ، وإذا عمل بالسنّة قيل بدعة ، قيل : ومتى يكون ذلك ؟ قال : إذا ابتعتم الدنيا بعمل الآخرة .

وقال ابن عباس : لا يأتي على الناس زمان إلاّ أماتوا فيه سنّة ، وأحيوا فيه بدعة حتّى تموت السنن ، وتحيى البدع ، وبعد فو الله ما أهلك الناس وأزالهم عن المحجّة قديماً وحديثاً إلاّ علماء السوء ، قعدوا على طريق الآخرة فمنعوا الناس سلوكها والوصول إليها ، وشكّكوهم فيها .

مثال ذلك مثل رجل كان عطشاناً فرأى جرّة مملوءة فيها ماء ، فأراد أن يشرب منها فقال له الرجل : لا تدخل يدك فيها فإنّ فيها أفعى يلسعك وقد ملأها سمّاً ، فامتنع الرجل من ذلك ، ثم إنّ المخبر بذلك أخذ يدخل يده فيها ، فقال العطشان : لو كان فيها سّماً لما أدخل يده .

وكذلك حال الناس مع علماء السوء ، زهّدوا الناس في الدنيا ورغبوا هم فيها ، ومنعوا الناس من الدخول إلى الولاة والتعظيم لهم ودخلوا هم إليهم ، وعظّموهم ومدحوهم ، وحسّنوا إليهم أفعالهم ، ووعدوهم بالسلامة ، لا بل قالوا لهم : قد رأينا لكم المنامات بعظيم المنازل والقبول ، ففتنوهم وغرّوهم ، ونسوا قول

____________

(١) محمد : ٧ .

(٢) الحج : ٤٠ .

١٤١

الله تعالى :( إنّ الأبرار لفي نعيم * وإنّ الفجّار لفي جحيم ) (١) .

وقوله تعالى :( ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع ) (٢) .

وقوله تعالى :( يوم يعضّ الظالم على يديه ) (٣) .

وقوله تعالى :( يوم لا يغني مولىً عن مولىً شيئاً ) (٤) .

وقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :الجنّة محرّمة على جسد غذّي بالحرام (٥) .

وقول أمير المؤمنينعليه‌السلام :ليس من شيعتي مَن أكل مال امرء حرام (٦) .

وقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :لا يشمّ ريح الجنّة جسد نبت على الحرام .

وقالعليه‌السلام :إنّ أحدكم ليرفع يده إلى السماء فيقول : يا رب يا رب ، ومطعمه حرام ، وملبسه حرام ، فأيّ دعاء يُستجاب له ؟! وأيّ عمل يُقبل منه ؟! وهو ينفق من غير حلٍّ ، إن حجّ حجّ بحرام ، وإن تزوّج تزوّج بحرام ، وإن صام أفطر على حرام ، فيا ويحه ، أما علم أنّ الله تعالى طيّب لا يقبل إلاّ الطيّب ، وقد قال في كتابه : ( إنّما يتقبّل الله من المتقين ) (٧) .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :ليكون عليكم أُمراء سوء ، فمَن صدّقهم في قولهم ، وأعانهم على ظلمهم ، وغشى أبوابهم ، فليس منّي ولست منه ، ولن يرد عليّ الحوض .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لحذيفة :كيف أنت يا حذيفة إذا كانت أُمراء إن

____________

(١) الإنفطار : ١٣ ـ ١٤ .

(٢) غافر : ١٨ .

(٣) الفرقان : ٢٧ .

(٤) الدخان : ٤١ .

(٥) كنز العمال ٤ : ١٤ ح٩٢٦١ .

(٦) البحار ١٠٤ : ٢٩٦ ح١٧; عن مجموعة ورام .

(٧) المائدة : ٢٧ .

١٤٢

أطعتموهم أكفروكم ، وإن عصيتموهم قتلوكم ؟! ، فقال حذيفة : كيف أصنع يا رسول الله ؟ قال :جاهدهم إن قويت ، واهرب عنهم إن ضعفت .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :صنفان من أُمّتي إذا صلحا صلح الناس ، وإذا فسدا فسد الناس : الأُمراء والعلماء (١) .

وقال الله تعالى :( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسّكم النار ) (٢) .

وقال :( ولا تطغوا فيحلّ عليكم غضبي ) (٣) ، والله ما فسدت أمور الناس إلاّ بفساد هذين الصنفين ، وخصوصاً الجائر في قضائه ، والقابل الرشا في الحكم .

ولقد أحسن أبو نواس في قوله :

إذا خان الأمير وكاتباه

وقاضي الأمر داهن في القضاءِ

فويل ثمّ ويلٌ ثمّ ويل

لقاضي الأرض من قاضي السماءِ

وجاء في تفسير قوله تعالى :( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ . ) (٤) الآية ، نزلت فيمن يخالط السلاطين والظلمة .

وقالعليه‌السلام :الإسلام علانية باللسان ، والإيمان سرّ بالقلب ، والتقوى عمل بالجوارح ، كيف تكون مسلماً ولا تسلم الناس منك ؟ وكيف تكون مؤمناً ولا تأمنك الناس ؟ وكيف تكون تقيّاً والناس يتّقون من شرّك وأذاك ؟ .

وقال :إنّ مَن ادعى حبّنا وهو لا يعمل [عملنا ولا يقول] (٥) بقولنا ، فليس منّا ولا نحن منه ، أما سمعوا قول الله تعالى يقول مخبراً عن نبيّه : ( قل إن كنتم تحبّون الله فاتبعوني يحببكم الله ) (٦) .

____________

(١) الخصال : ٣٦ ح١٢ باب الاثنين ، عنه البحار ٢ : ٤٩ ح١٠ .

(٢) هود : ١١٣ .

(٣) طه : ٨١ .

(٤) المجادلة : ٢٢ .

(٥) أثبتناه من ( ب ) .

(٦) آل عمران : ٣١ .

١٤٣

ولمّا بايع أصحابه أخذ عليهم العهد والميثاق بالسمع لله تعالى وله بالطاعة في العسر واليسر ، وعلى أن يقولوا الحق أينما كانوا ، وأن لا تأخذهم في الله لومة لائم ، وقال : إنّ الله تعالى ليحصي على العبد كل شيء حتّى أنينه في مرضه ، والشاهد على ذلك قوله تعالى :

( ما يلفظ من قول إلاّ لديه رقيب عتيد ) (١) .

وقوله تعالى :( إنّ عليكم لحافظين * كراماً كاتبين * يعلمون ما تفعلون ) (٢) .

وقوله تعالى :( إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ) (٣) .

____________

(١) ق : ١٨ .

(٢) الانفطار : ١٠ ـ ١٢ .

(٣) البقرة : ٢٨٤ .

١٤٤

الباب الثامن عشر : في عقاب الزّنا والربا

قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :إنّ لأهل النار صرخة من نتن فروج الزناة ، فإيّاكم والزنا فإنّ فيه ست خصال ، ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة فأمّا التي في الدنيا : فإنّه يذهب ببهاء الوجه ، ويورث الفقر ، وينقص العمر ، وأمّا التي في الآخرة : يوجب سخط الله ، وسوء الحساب ، وعظم العذاب ، إنّ الزناة يأتون يوم القيامة تشتعل فروجهم ناراً ، يعرفون بنتن فروجهم (١) .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :إنّ الله مستخلفكم في الدنيا فانظروا كيف تعملون ، فاتقوا الزنا والربا والرياء (٢) .

قيل : قالت المعتزلة يوماً في مجلس الرضاعليه‌السلام :إنّ أعظم الكبائر القتل ، لقوله تعالى : ( ومَن يقتل مؤمناً متعمّداً فجزاؤه جهنّم خالداً فيها . ) (٣) .

____________

(١) الكافي ٥ : ٥٤١ ح٣ ، مَن لا يحضره الفقيه ٣ : ٥٧٣ ح٤٩٦٠ باختلاف ، وفي معالم الزلفى : ٣٣٧ .

(٢) الرياء ، لم يرد في ( ب ) و ( ج ) .

(٣) النساء : ٩٣ .

١٤٥

قال الرضاعليه‌السلام :أعظم من القتل عندي إثماً ، وأقبح منه بلاءً الزنا وأدوم ؛ لأنّ القاتل لم يفسد بضرب المقتول غيره ، ولا بعده فساد ، والزاني قد أفسد النسل إلى يوم القيامة ، وأحلّ المحارم فلم يبق في المجلس فقيه إلاّ قبّل يده وأقرّ بما قال .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :إذا كانت خمس منكم رميتم بخمس : إذا أكلتم الربا رميتم بالخسف ، وإذا ظهر فيكم الزنا أُخذتم بالموت ، وإذا جارت الحكّام ماتت البهائم ، وإذا ظلم أهل الملّة ذهبت الدولة ، وإذا تركتم السنّة ظهرت البدعة .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :ما نقض قوم عهدهم إلاّ سلّط عليهم عدوّهم ، وما جار قوم إلاّ كثر القتل بينهم ، وما منع قوم الزكاة إلاّ حبس القطر عنهم ، ولا ظهرت فيهم الفاحشة إلاّ نشأ فيهم الموت ، وما بخس قوم المكيال والميزان إلاّ أُخذوا بالسنين .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :إذا عملت أُمّتي خمس عشرة خصلة حلّ بهم البلاء : إذا كان الفيء دولاً ، والأمانة مغنماً ، والصدقة مغرماً ، وأطاع الرجل امرأته ، وعصى أُمّه ، وبرّ صديقه ، وجفا أباه ، وارتفعت الأصوات في المساجد وأُكرم الرجل مخافة شرّه ، وكان زعيم القوم أرذلهم ، ولبسوا الحرير ، واتخذوا القينات والمعازف (١) ، وشربوا الخمور ، وكثر الزنا ، فارتقبوا عند ذلك ريحاً حمراء ، وخسفاً ومسخاً ، وظهور العدو عليكم ثم لا تنصرون (٢) .

____________

(١) في ( ج ) : المغنّيات .

(٢) عنه الوسائل ١٢ : ٢٣١ ح٣١ .

١٤٦

الباب التاسع عشر : [ وصايا وحكم بليغة ]

وصيّة لقمان لابنه بعلوم وحكمة ، قال : يا بني ! لا يكن الديك أكيس منك وأكثر محافظة على الصلوات ، ألا تراه عند كلّ صلاة يؤذّن لها ، وبالأسحار يعلن بصوته وأنت نائم .

وقال : يا بني ! مَن لا يملك لسانه يندم ، ومَن يكثر المراء يشتم ، ومَن يدخل مداخل السوء يُتّهم ، ومَن يُصاحب صاحب السوء لا يسلم ، ومَن يجالس العلماء يغنم ، يا بني ! لا تؤخّر التوبة فإنّ الموت يأتي بغتة ، يا بني ! اجعل غناك في قلبك ، وإذا افتقرت فلا تحدّث الناس بفقرك فتهون عليهم ، ولكن اسأل الله من فضله .

يا بني ! كذب مَن يقول : الشرّ يقطع بالشرّ ، ألا ترى إنّ النار لا تطفئ بالنار ولكن بالماء ، وكذلك الشرّ لا يطفئ إلاّ بالخير ، يا بني ! لا تشمت بالمصائب ، ولا تعيّر المبتلي ، ولا تمنع المعروف فإنّه ذخيرة لك في الدنيا والآخرة .

يا بني ! ثلاثة تجب مداراتهم : المريض والسلطان والمرأة ، وكن قنعاً تعش غنيّاً ، وكن متّقياً تكن عزيزاً ، يا بني ! إنّك من حين سقطت من بطن أُمّك استدبرت

١٤٧

الدنيا واستقبلت الآخرة ، وأنت كل يوم إلى ما استقبلت أقرب منك ممّا استدبرت ، فتزوّد لدار أنت مستقبلها ، وعليك بالتقوى فإنّه أربح التجارات ، وإذا أحدثت ذنباً فأتبعه بالاستغفار والندم والعزم على ترك العود لمثله .

واجعل الموت نصب عينيك ، والوقوف بين يدي خالقك ، وتمثّل شهادة جوارحك عليك بعملك ، والملائكة الموكّلين بك تستحي(١) منهم ومن ربّك الذي هو مشاهدك ، وعليك بالموعظة فاعمل بها ، فإنّها عند العاقل أحلى من العسل الشهد ، وهي في السفيه أشقّ من صعود الدرجة على الشيخ الكبير ، ولا تسمع الملاهي فإنّها تنسك الآخرة ، ولكن احضر الجنائز ، و زُر المقابر ، وتذكّر الموت وما بعده من الأهوال فتأخذ حذرك .

يا بني استعذ بالله من شرار النساء ، وكن من خيارهنّ على حذر ، يا بني لا تفرح بظلم أحد بل احزن على ظلم من ظلمته ، يا بني الظلم ظلمات ويوم القيامة حسرات ، وإذا دعتك القدرة إلى ظلم من هو دونك فاذكر قدرة الله عليك .

يا بني تعلّم من العلماء ما جهلت ، وعلّم الناس ممّا علمت تذكر بذلك في الملكوت ، يا بني أغنى الناس مَن قنع بما في يديه ، وأفقرهم مَن مد عينيه إلى ما في أيدي الناس ، وعليك يا بني باليأس ممّا في أيدي الناس ، والوثوق بوعد الله ، واسع فيما فرض عليك ، ودع السعي فيما ضمن لك ، وتوكّل على الله في كل أُمورك يكفيك ، وإذا صلّيت فصلّ صلاة مودّع تظنّ أن لا تبقى بعدها أبداً .

وإيّاك وما يُعتذر منه فإنّه لا يُعتذر من خير ، وأحبب للناس ما تحب لنفسك ، واكره لهم ما تكرهه لنفسك ، ولا تقل ما لا تعلم ، واجهد أن يكون اليوم خيراً لك من أمس ، وغداً خيراً لك من اليوم ، فإنّه مَن استوى يوماه فهو مغبون ، ومَن كان يومه شرّاً من أمسه فهو ملعون ، وارض بما قسّم الله لك فإنّه سبحانه يقول : أعظم عبادي

____________

(١) في ( ب ) : لم لا تستحي منهم .

١٤٨

ذنباً مَن لم يرض بقضائي ، ولم يشكر نعمائي ، ولم يصبر على بلائي .

وأوصى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معاذ بن جبل ، فقال له : أوصيك باتقاء الله ، وصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وخفض الجناح ، والوفاء بالعهد ، وترك الخيانة ، وحسن الجوار ، وصلة الأرحام ، ورحمة اليتيم ، ولين الكلام ، وبذل السلام وحسن العمل ، وقصر الأمل ، وتوكيد الإيمان ، والتفقّه في الدين ، وتدبّر القرآن ، وذكر الآخرة ، والجزع من الحساب ، وكثرة ذكر الموت ، ولا تسب مسلماً ، ولا تطع آثماً ، ولا تقطع رحماً ، ولا ترض بقبيح تكن كفاعله ، واذكر الله عند كل شجر ومدر وبالأسحار وعلى كل حال يذكرك ، فإنّ الله تعالى ذاكر مَن ذكره ، وشاكر مَن شكره ، وجدّد لكل ذنب توبة ، السرّ بالسرّ والعلانية بالعلانية .

واعلم أنّ أصدق الحديث كتاب الله(١) ، وأوثق العرى التقوى ، وأشرف الذكر ذكر الله تعالى ، وأحسن القصص القرآن ، وشرّ الأمور محدثاتها ، وأحسن الهدى هدى الأنبياء ، وأشرف الموت الشهادة ، وأعمى العمى الضلالة بعد الهدى ، وخير العلم ما نفع ، وشرّ العمى عمى القلب ، واليد العليا خير من اليد السفلى ، وما قلّ وكفى خير ممّا كثر وألهى .

وشرّ المعذرة عند الموت ، وشرّ الندامة يوم القيامة ، ومن أعظم الخطايا اللسان الكذوب ، وخير الغنى غنى النفس ، وخير الزاد التقوى ، ورأس الحكمة مخافة الله تعالى في السر والعلانية ، وخير ما أُلقي في القلب اليقين ، وأنّ جماع الإثم الكذب والارتياب ، والنساء حبائل الشيطان ، والشباب شعبة من الجنون ، وشرّ الكسب كسب الربا ، وشرّ المأثم أكل مال اليتيم .

السعيد مَن وُعظ بغيره ، وليس لجسم نبت على الحرام إلاّ النار ، ومَن تغذّى بالحرام فالنار أولى به ، ولا يستجاب له دعاء ، والصلاة نور ، والصدقة حرز ،

____________

(١) في ( ب ) : كلام الله .

١٤٩

والصوم جُنّة حصينة ، والسكينة مغنم وتركها مغرم ، وعلى العاقل أن يكون له ساعة يناجي فيها ربّه ، وساعة يتفكّر فيها في صنع الله ، وساعة يحاسب فيها نفسه ، وساعة يتخلّى فيها لحاجته من حلال .

وعلى العاقل أن لا يكون ضاعناً(١) إلاّ في ثلاث(٢) : تزوّد لمعاد ، ومرمّة لمعاش ، لذّة في غير محرّم ، وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه ، مقبلاً على شأنه ، حافظاً للسانه .

وفي توراة موسىعليه‌السلام : عجبت لمَن أيقن بالموت كيف يفرح ، ولمَن أيقن بالحساب كيف يذنب ، ولمَن أيقن بالقدر كيف يحزن ، ولمَن أيقن بالنار كيف يضحك ، ولمَن رأى تقلّب الدنيا بأهلها كيف يطمئنّ إليها ، ولمَن أيقن بالجزاء كيف لا يعمل ، لا عقل كالدين ، ولا ورع كالكف ، ولا حسب كحسن الخلق .

وقال أبو ذر : أوصاني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم [ بسبع خصال ](٣) : حب المساكين والدنو منهم ، وهجران الأغنياء ، وأن أصل رحمي ، وأن لا أتكلّم بغير الحق ، ولا أخاف في الله لومة لائم ، وأن أنظر إلى مَن هو دوني ولا أنظر إلى مَن هو فوقي ، وأن أكثر من قول : ( سبحان الله والحمد الله ولا اله إلاّ الله والله اكبر ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم ) فهنّ الباقيات الصالحات .

وقال بعضهم : مَن سلك الجدد أمن العثار ، والصبر مطيّة السلامة ، والجزع مطيّة الندامة ، ومرارة الحلم أعذب من مرارة(٤) الانتقام ، وثمرة الحقد الندامة ، ومَن صبر على ما يكره أدرك ما يحب ، والصبر على المصيبة مصيبة للشامت بها ، والجزع عليها مصيبة ثانية لفوات الثواب وهي أعظم المصائب .

____________

(١) ضعن : سار (القاموس) .

(٢) في ( ج ) : أن يكون ساعياً في ثلاث .

(٣) أثبتناه من ( ب ) و ( ج ) .

(٤) في ( ج ) : حلاوة .

١٥٠

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :خير الرزق ما يكفي ، وخير الذكر ما يخفى ، وإنّي أوصيكم بتقوى الله ، وبحسن النظر لأنفسكم ، وقلّة الغفلة عن معادكم ، وابتياع ما يبقى بما يفنى .

واعلموا أنّها أيّام معدودة ، وأرزاق مقسومة ، وآجال معلومة ، والآخرة أبد لا أمد له ، وأجل لا منتهى له ، ونعيم لا زوال له ، فاعرفوا ما تريدون وما يُراد بكم ، واتركوا من الدنيا ما يشغلكم عن الآخرة ، واحذروا حسرة المفرطين ، وندامة المغترّين ، واستدركوا فيما بقي ما فات ، وتأهّبوا للرحيل من دار البوار إلى دار القرار ، واحذروا الموت أن يفجأكم على غرّة ويعجلكم عن التأهّب والاستعداد ، إنّ الله تعالى قال : ( فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون ) (١) .

فربّ ذي عقل شغله هواه عمّا خُلق له حتّى صار كمن لا عقل له ، ولا تعذروا أنفسكم في خطائها ، ولا تجادلوا بالباطل فيما يوافق هواكم ، واجعلوا همّكم نصر الحق من جهتكم أو من جهة مَن يجادلكم ، فإنّ الله تعالى يقول :( يا أيّها الذين آمنوا كونوا أنصار الله ) (٢) . فلا تكونوا أنصاراً لهواكم والشيطان .

واعلموا أنّه ما هدم الدين مثل إمام ضلالة وضلّ وأضلّ ، وجدالِ منافق بالباطل ، والدنيا قطعت رقاب طالبيها والراغبين إليها ، واعلموا أنّ القبر روضة من رياض الجنّة ، أو حفرة من حفر النار ، فمهّدوه بالعمل الصالح ، فمثل أحدكم يعمل الخير كمثل الرجل ينفذ كلامه يمهّد له ، قال الله تعالى : ( فلأنفسهم يمهدون ) (٣) .

وإذا رأيتم الله يعطي العبد ما يحب وهو مقيم على المعصية ، فاعلموا أنّ ذلك استدراج له ، قال الله تعالى : ( سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ) (٤) .

____________

(١) يس : ٥٠ .

(٢) الصف : ١٤ .

(٣) الروم : ٤٤ .

(٤) الأعراف : ١٨٢ .

١٥١

وسئل ابن عباس عن صفة الذين صدقوا الله المخافة ، فقال : هم قوم قلوبهم من الخوف قرحة ، وأعينهم باكية ، ودموعهم على خدودهم جارية ، يقولون : كيف نفرح والموت من ورائنا ، والقبر موردنا ، والقيامة موعدنا ، وعلى الله عرضنا ، وشهودنا جوارحنا ، والصراط على جهنّم طريقنا ، وعلى الله حسابنا .

فسبحان الله وتعالى ، فإنّا نعوذ به من ألسن واصفة ، وأعمال مخالفة مع قلوب عارفة ، فإنّ العمل ثمرة العلم ، والخشية والخوف ثمرة العمل ، والرجاء ثمرة اليقين ، ومَن اشتاق إلى الجنّة اجتهد في أسباب الوصول إليها ، ومَن حذر النار تباعد ممّا يدني إليها ، ومَن أحبّ لقاء الله استعدّ للقائه .

وروي أنّ الله تعالى يقول في بعض كتبه :يا ابن آدم أنا حيٌّ لا أموت ، أطعني فيما أمرتك أجعلك حيّاً لا تموت ، يا ابن آدم أنا أقول للشيء كن فيكون ، أطعني فيما أمرتك أجعلك تقول للشيء كن فيكون (١) .

ولذلك قال الله تعالى في كتابه العزيز :( ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون * نزلاً من غفور رحيم ) (٢) .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :ثلاث مهلكات وثلاث منجيات ، فأمّا المهلكات : فشحٌّ مطاع ، وهوىً متّبع ، وإعجاب المرء بنفسه ، وأمّا المنجيات : فخشية الله في السر والعلانية ، والقصد في الغنى والفقر ، والعدل في الرضا والغضب (٣) .

وقال الحسنعليه‌السلام :لقد أصحبت (٤) أقواماً كأنّهم كانوا ينظرون إلى الجنّة ونعيمها ، والنار وجحيمها ، يحسبهم الجاهل مرضى وما بهم من مرض ، أو قد خولطوا وإنّما خالطهم أمر عظيم ، خوف الله ومهابته في قلوبهم .

____________

(١) عنه مستدرك الوسائل ١١ : ٢٥٨ ح١٢٩٢٨ .

(٢) فصلت : ٣١ـ٣٢ .

(٣) الخصال : ٨٤ ح١١ باب٣ ، عنه البحار ٧٠ : ٦ ح٢ .

(٤) في ( ألف ) و ( ج ) : أصبحت .

١٥٢

كانوا يقولون ليس لنا في الدنيا من حاجة ، ليس لها خُلقنا ولا بالسعي لها أُمرنا ، أنفقوا أموالهم ، وبذلوا دماءهم ، اشتروا بذلك رضى خالقهم ، علموا أنّ الله اشترى منهم أموالهم وأنفسهم بالجنّة فباعوه ، ربحت تجارتهم ، وعظمت سعادتهم ، أفلحوا وأنجحوا ، فاقتفوا آثارهم رحمكم الله ، واقتدوا بهم فإنّ الله تعالى وصف لنبيّه صفة آبائه إبراهيم وإسماعيل وذرّيتهما ، وقال : ( فبهداهم اقتده ) (١) .

واعلموا عباد الله أنّكم مأخوذون بالإقتداء بهم والإتباع لهم ، فجدّوا واجتهدوا واحذروا أن تكونوا أعواناً للظالم ، فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : مَن مشى (٢) مع ظالم ليعينه على ظلمه فقد خرج من ربقة الإسلام ، ومَن حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد حادّ الله ورسوله ، ومَن أعان ظالماً ليبطل حقّاً لمسلم فقد برئ من ذمّة الإسلام ومن ذمّة الله ومن ذمّة رسوله .

ومَن دعا لظالم بالبقاء فقد أحبّ أن يعصى الله ، ومَن ظُلم بحضرته مؤمن أو اغتيب وكان قادراً على نصره ولم ينصره فقد باء بغضب من الله ورسوله ، ومَن نصره فقد استوجب الجنّة من الله تعالى .

وإنّ الله أوحى إلى داودعليه‌السلام :قل لفلان الجبّار : إنّي لم أبعثك لتجمع الدنيا على الدنيا ، ولكن لترد عنّي دعوة المظلوم وتنصره ، فإنّي آليت على نفسي أن أنصره وأنتصر له ممّن ظُلم بحضرته ولم ينصره (٣) .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :مَن آذى مؤمناً ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه : آيساً من رحمة الله ، وكان كمَن هدم الكعبة والبيت المقدس ، وقتل عشرة آلاف من الملائكة .

____________

(١) الأنعام : ٩٠ .

(٢) في ( ج ) : مضى .

(٣) عنه البحار ١٤ : ٤٠ ح٢٤ .

١٥٣

وقال رفاعة بن أعين : قال لي الصادقعليه‌السلام :ألا أخبرك بأشد الناس عذاباً يوم القيامة ؟ قلت : بلى يا مولاي ، قال : أشد الناس عذاباً يوم القيامة مَن أعان على مؤمن بشطر كلمة ، ثم قال : ألا أخبرك بأشد من ذلك ؟ فقلت : بلى يا سيّدي ، فقال : مَن أعاب على شيء من قوله أو فعله .

ثم قال :اُدن منّي أزدك أحرفاً أُخر ، ما آمن بالله ولا برسوله ولا بولايتنا أهل البيت من أتاه المؤمن في حاجة لم يضحك في وجهه ، فإن كان عنده قضاها له ، وإن لم تكن عنده تكلّفها له حتّى يقضيها له ، فإن لم يكن كذلك فلا ولاية بيننا وبينه ولو علم الناس ما للمؤمن عند الله لخضعت له الرقاب ، وإنّ الله تعالى اشتق للمؤمن اسماً من أسمائه ، فالله تعالى هو المؤمن سبحانه وسمّى عبده مؤمناً تشريفاً له وتكريماً ، وأنّه يوم القيامة يؤمن على الله تعالى فيجيز إيمانه (١) .

وقال الله تعالى :ليأذن بحرب منّي مَن آذى مؤمناً وأخافه .

وكان عيسىعليه‌السلام يقول :يا معشر الحواريين تحبّبوا إلى الله ببغض أهل المعاصي ، وتقرّبوا إلى الله بالبعد عنهم ، والتمسوا رضاه في غضبهم ، وإذا جلستم فجالسوا مَن يزيد في عملكم منطقه ، ويذكركم الله رؤيته ، ويرغبكم في الآخرة عمله (٢) .

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام لأبي ذر :ألزم قلبك الفكر ، ولسانك الذكر ، وجسدك العبادة ، وعينيك البكاء من خشية الله ، ولا تهتم برزق غد ، والزم المساجد فإنّ عمّارها هم أهل الله ، وخاصّته قرّاء كتابه والعاملون به .

وقالعليه‌السلام :المروءة ست ، ثلاث في السفر وثلاث في الحضر : فالذي في الحضر تلاوة القرآن ، وعمارة المساجد ، واتخاذ الإخوان في الله ، وأمّا الذي في

____________

(١) البحار ٧٥ : ١٧٦ ح١٢ باختلاف .

(٢) مجموعة ورام ٢ : ٢٣٥ ، عنه البحار ١٤ : ٢٣٠ ح٦٥ باختصار .

١٥٤

السفر : بذل الزاد ، وحسن الخلق ، والمعاشرة بالمعروف (١) .

وكان الحسنعليه‌السلام يقول :يا ابن آدم مَن مثلك وقد خلّى ربّك بينه وبينك ، متى شئت أن تدخل عليه توضّأت وقمت بين يديه ، ولم يجعل بينك وبينه حجّاباً ولا بوّاباً ، تشكو إليه همومك وفاقتك ، وتطلب منه حوائجك ، وتستعينه على أمورك ، وكان يقول :أهل المسجد زوّار الله ، وحق على المزور التحفة لزائره .

وروي : إنّ المتنخّم في المسجد يجد بها خزياً في وجهه يوم القيامة .

وكان الناس في المساجد ثلاثة أصناف : صنف في الصلاة ، وصنف في تلاوة القرآن ، وصنف في تعليم العلوم ، فأصبحوا صنف في البيع والشراء ، وصنف في غيبة الناس ، وصنف في الخصومات وأقوال الباطل .

وقالعليه‌السلام :ليعلم الذي يتنخّم في القبلة أنّه يُبعث وهي في وجهه .

وقال : يقول الله تعالى :المصلّي يناجيني ، والمنفق يقرضني [ في الغنى ] (٢) ، والصائم يتقرّب إليّ .

وقال :إنّ الرجلين يكونان في صلاة واحدة وبينهما مثل ما بين السماء والأرض من فضل الثواب .

____________

(١) الخصال : ٣٢٤ ح١١ باب ٦ ، عنه البحار ٧٦ : ٣١١ ح٢ .

(٢) أثبتناه من ( ج ) .

١٥٥

الباب العشرون : في قراءة القرآن المجيد

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :إن هذه القلوب لتصدئ كما يصدئ الحديد ، وأنّ جلاءها قراءة القرآن (١) .

وقال ابن عباس : قارئ القرآن التابع له لا يضل في الدنيا ، ولا يشقى في الآخرة .

وقال : ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون ، وبنهاره إذا الناس غافلون ، وببكائه إذا الناس ضاحكون ، وبورعه إذا الناس يطمعون ، وبخشوعه إذا الناس يمزحون ، وبحزنه إذا الناس يفرحون ، وبصمته إذا الناس يخوضون .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :القرآن على خمسة أوجه ، حلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال ، فاعملوا بالحلال ، واجتنبوا الحرام ، واتبعوا المحكم ، وآمنوا بالمتشابه ، واعتبروا بالأمثال ، وما آمن بالقرآن مَن استحلّ محارمه ، وشرّ الناس

____________

(١) كنز العمّال ١ : ٥٤٥ ح٢٤٤١ .

١٥٦

مَن يقرأ القرآن ولا يرعوي عن شيء به .

وقال جعفر بن محمدعليهما‌السلام في قوله تعالى :( الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته ) (١) قال : يرتلون آياته ، ويتفقّهون فيه ، ويعملون بأحكامه ، ويرجون وعده ، ويخافون وعيده ، ويعتبرون بقصصه ، ويأتمرون بأوامره ، ويتناهون عن نواهيه .

ما هو والله حفظ آياته ، ودرس حروفه ، وتلاوة سوره ، ودرس أعشاره وأخماسه ، حفظوا حروفه وأضاعوا حدوده ، وانّما هو تدبّر آياته ، والعمل بأحكامه ، قال الله تعالى : ( كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته ) (٢) .

واعلموا رحمكم الله أنّ سبيل الله سبيل واحدة وجماعها الهدى ، ومصير العامل بها الجنّة والمخالف لها النار ، وإنّما الإيمان ليس بالتمنّي ولكن ما ثبت بالقلب ، وعملت به الجوارح ، وصدّقته الأعمال الصالحة ، واليوم فقد ظهر الجفاء ، وقلّ الوفاء ، وتركت السنّة ، وظهرت البدعة ، وتواخا الناس على الفجور ، وذهب منهم الحياء ، وزالت المعرفة ، وبقيت الجهالة ، ما ترى إلاّ مترفاً صاحب دنيا ، لها يرضى ولها يغضب وعليها يقاتل ، ذهب الصالحون وبقيت تفالة كتفالة الشعير وحثالة التمر .

وقال الحسنعليه‌السلام :ما بقي في الدنيا بقيّة غير هذا القرآن ، فاتخذوه إماماً يدلّكم على هداكم ، وإنّ أحق الناس بالقرآن مَن عمل به وإن لم يحفظه ، وأبعدهم منه مَن لم يعمل به وإن كان يقرأه .

وقال :مَن قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ .

وقال :إنّ هذا القرآن يجيء يوم القيامة قائداً وسائقاً ، يقود قوماً إلى الجنّة ، أحلّوا حلاله وحرّموا حرامه وآمنوا بمتشابهه ، ويسوق قوماً إلى النار ، ضيّعوا

____________

(١) البقرة : ١٢١ .

(٢) ص : ٢٩ .

١٥٧

حدوده وأحكامه واستحلّوا محارمه .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :رتلوا القرآن ولا تنثروه نثراً ، ولا تهذوه هذّ الشعر (١) ، قفوا عند عجائبه وحرّكوا به القلوب ، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة .

وخطبصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال :لا خير في العيش إلاّ لعالم ناطق أو مستمع واع ، أيّها الناس إنّكم في زمن هدنة وإنّ السير بكم سريع ، وقد رأيتم الليل والنهار كيف يبليان كل جديد ، ويقرّبان كل بعيد ، ويأتيان بكل موعود .

فقال له المقداد : يا نبي الله وما الهدنة ؟ فقال :دار بلاء وانقطاع ، فإذا التبست عليكم الأمور كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن ، فإنّه شافع مشفّع وشاهد مصدّق ، مَن جعله أمامه قاده إلى الجنّة ، ومَن جعله خلفه قاده (٢) إلى النار ، وهو أوضح دليل إلى خير سبيل ، ظاهره حكم وباطنه علم ، لا تحصى عجائبه ولا تنقضي غرائبه ، هو حبل الله المتين وصراطه المستقيم ، مَن قال به صدق ، ومَن حكم به عدل ، ومَن عمل به فاز ، فإنّ المؤمن الذي يقرأ القرآن كالأترجة طعمها طيّب وريحها طيّب ، وإنّ الكافر كالحنظلة طعمها مرّ ورائحتها كريهة (٣) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :ألا أدلّكم على أكسل الناس وأبخل الناس وأسرق الناس وأجفى الناس وأعجز الناس ؟ فقالوا : بلى يا رسول الله .

فقال :أكسل الناس عبد صحيح فارغ لا يذكر الله بشفة ولا لسان ، وأبخل الناس رجل اجتاز على مسلم فلم يسلّم عليه ، وأمّا أسرق الناس فرجل يسرق من صلاته ، تلفّ كما يلفّ الثوب الخلق فيضرب به وجهه (٤) ، وأجفى الناس رجل ذكرت بين يديه فلم يصلّ عليّ ، وأعجز الناس مَن عجز عن الدعاء (٥) .

____________

(١) تهدروه هدر الشعر ، (خل) .

(٢) في ( ج ) : ساقه .

(٣) أورده المصنف في أعلام الدين : ٣٣٣ ، عنه البحار ٧٧ : ١٧٧ .

(٤) في ( ب ) : وجه صاحبها .

(٥) راجع البحار ٨٤ : ٢٥٧ ح٥٥ ، عن عدة الداعي .

١٥٨

الباب الحادي والعشرون: يتضمّن خطبة بليغة على سورة

قال : أيّها الناس تدبّروا القرآن المجيد ، فقد دلّكم على الأمر الرشيد ، وسلّموا لله أمره فإنّه فعّال لما يُريد ، واحذروا يوم الوعيد ، واعملوا بطاعته فهذا شأن العبيد ، واحذروا غضبه فكم قصم من جبّار عنيد ،( ق والقرآن المجيد ) (١) .

أين مَن بنى وشاد وطول ، وتأمّر على الناس وساد في الأوّل ، وظنّ جهالة منه وجرأة أنّه لا يتحوّل ، عاد الزمان عليه سالباً ما خُوّل ، فسقوا إذ فسقوا كأساً على هلاكهم عوّل ،( أفعيينا بالخلق الأوّل بل هم في لبس من خلق جديد ) .

فيا مَن أنذره يومه وأمسه ، وحادثه بالعبر قمره وشمسه ، واستلب منه ولده وأخوه وعرسه ، وهو يسعى في الخطايا مستتر(٢) وقد دنا حبسه ( ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ) .

أما علمت أنّك مسؤول عن الزمان ، مشهود عليك يوم تنطق عليك

____________

(١) الآيات الواردة في هذا الباب كلّها من سورة ( ق ) .

(٢) في ( ج ) : مشمّراً .

١٥٩

الأركان ، محفوظ عليك ما عملت في زمان الإمكان ،( إذ يتلقّى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد * ما يلفظ من قول إلاّ لديه رقيب عتيد ) .

وكأنّك بالموت وقد اختطفك اختطاف البرق ، ولم تقدر على دفعه بملك الغرب والشرق ، وندمت على تفريطك بعد اتساع الخرق ، وتأسفت على ترك الأولى والأخرى أحق ،( وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد ) .

ثم ترحّلت من القصور إلى القبور ، وبقيت وحيداً على ممرّ الدهور كالأسير المحصور ،( ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد ) ، فحينئذ أعاد الأجسام من صنعها ، وألّف أشتاتها بقدرته ، وجمعها وناداها بنفخة الصور فأسمعها ،( وجآءت كل نفس معها سائق وشهيد ) .

فهرب منك الأخ وتنسى أخاك ، ويعرض عنك الصديق ويرفضك ولاءك(١) ، ويتجافاك صاحبك ويجحد الآءك ، وتلقى من الأهوال كلّما أعجزك وساءك ، وتنسى أولادك وتنسى نساءك ،( لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ) .

وتجري دموع الأسف وابلاً ورذاذاً ، وتسقط الأكباد من الحسرات أفلاذاً ، ولهب لهيب النار إلى الكفّار فجعلهم جذاذاً ، ولا يجد العاصي من النار لنفسه ملجأً ولا معاذاً ،( وقال قرينه هذا ما لديّ عتيد ) .

يوم تقوم الزبانية إلى الكفّار ، ويبادر مَن يسوقهم سوقاً عنيفاً والدموع تتحادر ، وتثب النار [ إلى الكفار ](٢) كوثوب الليث إذا استاخر(٣) ، فيذلّ زفيرها كل مَن عزّ وفاخر ،( الذي جعل مع الله إلهاً آخر فألقياه في العذاب الشديد ) .

____________

(١) في ( ج ) : يرفض ولاءك .

(٢) أثبتناه من ( ج ) .

(٣) في ( ج ) : شاخر .

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578