شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم13%

شبهات وردود حول القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 578

شبهات وردود حول القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 578 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 297596 / تحميل: 13676
الحجم الحجم الحجم
شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ) (1) .

فهنالك الناس ذُهول، وعُميِّت عليهم الأنباء، ولا يسألُ حميمٌ حميماً، ولا يَتساءلون فيما بينهم، وهكذا لا يسأل أحدٌ أحداً عن ذنبه وعن شأنه الذي هو فيه.

أمّا وبعد أن أَخرجت الأرضُ أثقالَها، وَوضَعت الزلزلةُ أوزارها، وعاد الناس على حالتهم العادية وتفرّغوا للحساب فهناك السؤال والمـُؤاخذة، والتساؤل والتعارف، فاختلف الموقفان.

وهناك بعد انقضاء الحساب ودخول أهل الجنّة الجنّة ودخول أهل النار النار، يقع التساؤل والتعارف بينهم.

يقول تعالى عن المجرمين: ( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ * وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ * قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طَاغِينَ * فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ * فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ * فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ) (2) .

ويقول عن الصالحين: ( ...إِلاّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ..... فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ... ) (3) .

( إِلاّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ) (4) .

____________________

(1) الحج 22: 2.

(2) الصافّات 37: 22 - 34.

(3) الصافّات 37: 40 - 50.

(4) المدّثّر 74: 39 - 48.

٢٦١

( لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ)

سؤال:

قال تعالى ( لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ) (1) ، والبَلد هو البَلد الأمين مكّة المكرّمة، وقد أقسم به في سورة التين: ( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ ) (2) ، فكيف التوفيق؟

جواب:

قالوا بزيادة (لا) هنا ليكون معنى الكلام إثباتاً لا نفياً، وأن العرب قد تُدخل (لا) في أثناء كلامها وتُلغي معناها، وأنشدوا في ذلك أبياتاً، ونحن قد فنّدنا ذلك وذَكَرنا أنْ لا شاهد عليه في كلام العرب، فراجع (3) .

والصحيح أنْ يُقال: إنّ مورد الآيتَين مُختلف، فمرّة لا يُقسم ومرّة يُقسم باختلاف الموارد... إذ ليس المعنى في سورة البلد أنّه تعالى لا يُقسم أبداً بهذا البلد، بل لا يُقسم في موردٍ خاصّ - لوضوحه - وهو أنّ الإنسان خُلق في كَبَد... أمّا المعنى في سورة البلد فهو على القسم حيث أهمّية المورد (المـُقسم عليه) وهو أنّ الإنسان خُلق؛ ليكون رفيعاً لكنّه بيديه حطّ من شأن نفسه فارتدّ أسفل سافلين بسوء تدبيره وسوء عمله.

وهنا جواب آخر لعلّه أدقّ وهو: أنْ ليس المراد (في آية البلد) نفي الإقسام على الإطلاق، ليكون متنافياً مع الآية الأُخرى (في سورة التين)، بل هو نوع من القسم على الشكل السلبي، حيث عدم الحاجة إليه بعد وضوح الأمر وظهوره، وهو آكد في إثبات المطلوب بشكلٍ أدبيّ رائع.

والمعنى: إنّي لا أحلف، إذ لا حاجة إليه بعد وضوح الأمر، وهذا يعني أنّ الأمر مُتأكّد الثبوت بذاته واضحاً جليّاً من غير حاجة إلى إقامة حجّة ودليل.

فهو في حقيقته قسم، لكن بصورة سلبية هي آكد من صورة الإيجاب.

____________________

(1) البلد 90: 1 - 2.

(2) التين 95: 1 - 3.

(3) وللعلاّمة البلاغي تحقيق مستوف في ذلك: تفسير آلاء الرحمان، ج1، ص38 - 41.

٢٦٢

( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ)

سؤال:

قال تعالى: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) (1) .

ضَمِنَ تعالى أنْ لا يُعذّب العرب على قيد أحد شرطَين: حضور النبيّ بين أظهُرهم، أو استغفارهم هم؛ ومِن ثَمّ قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (كان في الأرض أمانان مِن عذاب اللّه، وقد رُفع أحدهما، فدونكم الآخر فتمسّكوا به، أمّا الأمان الذي رُفع فهو رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) وأمّا الأمان الباقي فالاستغفار)، ثمّ تلا الآية (2) .

لكن يَتعقّب الآية ما يُنافي ذلك ظاهراً، وقوله: ( وَمَا لَهُمْ أَلاّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاّ الْمُتَّقُونَ ) (3) ، فكيف التوفيق؟

جواب:

إنّ سياق الآيتَين يَدلّنا على اتصالِهما ونزولِهما معاً إحداهما تلو الأُخرى مباشرةً، الأمر الذي يستدعي وِئامَهما طبعاً وعدم تنافيهما؛ حيث المتكلّم النابه - فضلاً عن الحكيم - لا يتناقض في كلامه قيد تكلّمه، فزاعم التناقض واهمٌ في حَدسِه البتة.

على أنّه لا تهافت بين الآيتين حتّى بحسب الظاهر أيضاً، حيث الآية الأُولى إنّما تنفي فعلية العذاب وأنّه لا يقع لوجود المانع، أمّا الآية الثانية فناظرة إلى جهة الاقتضاء وأصل الاستحقاق، فهم مستحقّون للعذاب لتوفّر المقتضي فيهم، بصدّهم عن المسجد الحرام، وليسوا بأوليائه، وإنْ كانوا لا يُعذَّبون فعلاً مادام وجود المانع وهما الشرطان أو أحدهما، فلا مُنافاة بين وجود المقتضي ونفي الفعلية لمكان المانع، كما لا يخفى.

وقد ذكر الطبرسي في جواب المسألة وجوهاً ثلاثة:

أحدها: أنّ المراد بالأَوّل (نفي التعذيب) عذاب الاستئصال والاصطلام، كما وقع

____________________

(1) الأنفال 8: 33.

(2) نهج البلاغة، قصار الحكم، رقم 88، ص483.

(3) الأنفال 8: 34.

٢٦٣

بشأن الأُمَم الماضية، وبالثاني (وقوع التعذيب) عذاب القتل بالسيف والأسر بأيدي المؤمنين - كما في يوم بدر وغيره وأخيراً يوم الفتح - ولكن بعد خروج المؤمنين من بين أظهُرهم.

ثانيها: أنّه أراد: وما لهم أنْ لا يُعذّبهم اللّه في الآخرة، ويُريد بالأَوّل عذاب الدنيا، قاله الجبائي.

ثالثها: أنّ الأَوّل استدعاءٌ للاستغفار، يُريد أنّه لا يُعذّبهم بعذابٍ دُنياً ولا آخرةً إذا استغفروا وتابوا، فإذا لم يفعلوا عُذّبوا - وفي ذلك ترغيبٌ لهم في التوبة والإنابة - ثمّ إنّه بيّن وجه استحقاقهم للعذاب بصدّ الناس عن المسجد الحرام (1) .

( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ)

سؤال:

قال تعالى: ( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ) (2) .

وقال: ( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ) (3) .

وقال: ( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً ) (4) .

وقال: ( وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ) (5) .

هذا مع قوله تعالى بشأن المؤمنين: ( فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (6) .

____________________

(1) مجمع البيان، ج4، ص540.

(2) الأنبياء 21: 47.

(3) الأعراف 7: 8 و9.

(4) الإنشقاق 84: 7 و8.

(5) البقرة 2: 284.

(6) غافر 40: 40.

٢٦٤

وقوله: ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (1) .

وقوله بشأن الكافرين: ( الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ) (2) .

فكيف التوفيق؟

جواب:

ليس في القرآن ما ينفي المحاسبة وموازنة الأعمال، والآيات المـُستَند إليها إنّما تعني شيئاً آخر وهو: الرزق والأجر بما يَفوق الحساب، وكذا الذي حَبِطت أعماله، لا وزن له عند اللّه ولا مِقدار.

قال الطبرسي - عند قوله تعالى: ( وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (3) -: فيه أقوال:

أحدهما: أنّ معناه يُعطيهم الكثير الواسع الذي لا يَدخله الحساب مِن كثرته.

ثانيهما: أنّه تعالى لا يَرزق الناس في الدنيا على مقابلة أعمالهم وإيمانهم وكفرهم، وكذا في الآخرة لا يُثيبهم على قَدَرِ أعمالهم بل يَزيدهم فضلاً منه وإنعاماً.

ثالثها: أنّه تعالى يُعطي العطاء لا يؤاخذه عليه أحد، ولا يسأله عنه سائل، ولا يطلب عليه جزاءً ولا مُكافأة.

رابعها: أنّه يعطي العدد من الشيء الذي لا يُضبط بالحساب ولا يأتي عليه العَدَد؛ لأنّ ما يَقدر عليه غير متناهٍ ولا محصور، فهو يُعطي الشيء لا مِن عدد أكثر منه فينقص منه، كمَن يُعطي الألف من الألفين، والعشرة من المِئة، قاله قطرب.

خامسها: أنّ معناه يُعطي أهل الجنّة ما لا يَتناهى ولا يأتي عليه الحساب.

ثمّ قال رحمه اللّه: وكلّ هذه الوجوه جائز حسن (4) .

وقال الزمخشري - في تفسير قوله تعالى: ( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ

____________________

(1) الزّمر 39: 10.

(2) الكهف 18: 105.

(3) البقرة 2: 212.

(4) مجمع البيان، ج2، ص305 - 306.

٢٦٥

سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً ) -: (1) (ضلّ سعيهم) ضاع وبطل... وعن أبي سعيد الخدري: يأتي ناس بأعمالٍ يوم القيامة، هي عندهم في العِظَم كجبالِ تَهامة، فإذا وَزَنوها لم تَزن شيئاً، ( فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ) فنزدري بهم ولا يكون لهم عندنا وزن ولا مِقدار (2) .

وقال الطبرسي: أي لا قيمة لهم عندنا ولا كرامة، ولا نعتدّ بهم، بل نستخفّ بهم ونُعاقبهم، تقول العرب: ما لفلانٍ عندنا وزن أي قَدر ومَنزلة، ويُوصف الجاهل بأنّه لا وزن له؛ لخفّته بسرعة بطشه وقلة تثبّته، ورُوي في الصحيح: أنّ النبي (صلّى اللّه عليه وآله) قال: (إنّه ليأتي الرجلُ العظيمُ السَّمين يومَ القيامة لا يَزن جَناح بعوضة) (3) .

قال العلامة الطباطبائي: والوزن هنا هو الثِقل في العمل في مقابلة الخِفّة في العمل، وربّما تبلغ إلى مرتبة فَقْدِ الوزن رأساً.

وقال - في قوله تعالى: ( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ) (4) -: المراد أنّ الوزن الذي تُوزن به الأعمال يومئذٍ إنّما هو الحقّ. فبقَدَر اشتمال العمل على الحقّ يكون اعتباره وقيمته، والحسنات مُشتملة على الحقّ، فلها ثِقل، كما أن السيّئات ليست إلاّ باطلة فلا ثِقل لها، واللّه سبحانه يَزن الأعمال يومئذٍ بالحقّ، فما اشتمل عليه العمل مِن الحقّ فهو وزنه وثِقله (5) .

مواطن القيامة متفاوتة

سؤال:

هناك آيات تنصّ على أنّهم لا يَتكلّمون إلاّ صواباً (6) ونهوا أن يتخاصموا (7) بل وختم

____________________

(1) الكهف 18: 103 - 106.

(2) الكشّاف، ج2، ص749.

(3) مجمع البيان، ج6، ص497.

(4) الأعراف 7: 8.

(5) الميزان للطباطبائي، ج8، ص8 - 9.

(6) وهو قوله تعالى: ( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً ) النبأ 78: 38.

(7) وهو قوله تعالى: ( لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ) ق 50: 28.

٢٦٦

على أفواههم لتتكلّم أيديهم وتشهد أرجُلُهم بما كانوا يكسبون (1) .

الأمر الّذي يتنافى وقوله تعالى فيهم بأنّهم قالوا واللّه ما كنّا مشركين (2) فإنّه قول كَذِب بل ويمين كاذبة وقد أُذنوا بالتكلّم به!

وكذا مع قوله: ( إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ) (3) وقوله: ( ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ) (4) ، فقد تخاصموا لديه تعالى رُغم منعه سبحانه من ذلك! ثُمّ كيف يلتئم ذلك مع الختم على الأفواه؟!

جواب:

أولاً: إنّ مَن يتكلّم بالصواب في الآية الأُولى هم الملائكة أو المؤمنون، والكلام الصواب هنا هي الشفاعة بالحقّ على ما ذَكَره المفسّرون، وفي الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) وقد سُئل عن هذه الآية قال: (نحن واللّه المأذون لهم يوم القيامة، والقائلون صواباً: نُمجّد ربّنا ونُصلّي على نبيّنا ونَشفع لشيعتنا) (5) .

وثانياً: مواطن القيامة متفاوتة ومواقفها متنوّعة، فقوله ( لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ ) (6) خطاب إلى الكَفّار العنيد وقرينه الشيطان الذي أغواه، حيث يقول الشيطان: ( رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ) (7) ، ويحاول الكافر أنْ يَجعل اللّوم على الّذي أغواه، فكان النهي موجّهاً إليهم: لا تختصموا لديَّ بل اجعلوا بأسَكم بينكم فليس منعاً عن التخاصم على الإطلاق.

غير أنّ هذا التخاصم والتشاجر والمنع منه لديه سبحانه إنّما هو بعد الفراغ من الحساب وفي مقام الاعتذار بعد الاعتراف بالاقتراف، أمّا الختم على الأفواه فهو عند الحساب وفي أثنائه حيث يحاولون الإنكار رأساً، فتتكلّم أيديهم وتشهد أرجُلُهم بما

____________________

(1) وهو قوله تعالى: ( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) ، يس 36: 65.

(2) وهو قوله تعالى: ( وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ * ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاّ أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ) ، الأنعام 6: 22 - 23.

(3) ص 38: 64.

(4) العنكبوت 29: 25.

(5) رواه العيّاشي حسبما ذكره الطبرسي في مجمع البيان، ج10، ص427.

(6) ق 50: 28.

(7) ق 50: 27.

٢٦٧

اقترفوه، فالمـَواطن مُختلفة والمواقف متعدّدة:

فالموطن الأَوّل: موطن المـُداقّة في الحساب، (يختم على أفواه أهل الإلحاد والإنكار).

والموطن الثاني: موطن الفراغ من الحساب، (يتخاصم فيه أهل النار).

والموطن الثالث: موطن الشفاعة لأهل الإيمان، (موطن النُطق بالصواب).

ولكلِّ موطن مناسبتُه وشأنُه.

هكذا يُحمل على اختلاف المواطن ما وَرَد من قوله ( وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ) (1) ، مع قوله:) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ) (2) ، وقوله ( فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ ) (3) .

( اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا)

سؤال:

قال تعالى: ( اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ) (4) .

وقال: ( وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ ) (5) .

وقال: ( قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) (6) .

وقال: ( تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ) (7) .

وقال: ( تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ) (8) .

جواب:

اللّه خالق الموت والحياة، ومَلَك الموت هو الآمر الأَوّل، والملائكة أعوانه المباشرون (9) .

____________________

(1) المرسلات 77: 36.

(2) غافر 40: 52.

(3) الروم 30: 57.

(4) الزمر 39: 42.

(5) الأنعام 6: 60.

(6) السجدة 32: 11.

(7) الأنعام 6: 61.

(8) النحل 16: 28.

(9) راجع: البرهان، ج2، ص64.

٢٦٨

( وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً)

سؤال:

قال تعالى: ( يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً ) (1) .

فقد أخبر تعالى عنهم بأنّهم لا يَكتمون لديه حديثاً... وهذا يتنافى ظاهراً وقوله في موضع آخر: ( ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاّ أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ) (2) فقد كتموا إشراكَهم!

الجواب عن ذلك من وجهين:

الأوّل: أنّ قوله ( لا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً ) داخل في التمنّي، أي يَودّون لو كانوا لم يَكتموا حديثاً في الدنيا بشأن الرسالة والإسلام، أو لم يَكتموا في الآخرة كفرَهم في الدنيا، حيث قولهم: ( وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُـشْرِكِينَ ) ، وذلك باختلاف الموقف، ففي الوَهلة الأُولى كَتموا، وفي الثانية تمنّوا لو لم يكتموا...

الثاني: أنّهم لا يَستطيعون الكتمان؛ حيث تشهد عليهم أرجُلُهم وأيديهم بما كانوا يَكسبون.

مضاعفة العذاب

سؤال:

قال تعالى: ( وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ) (3) .

لكنّه في موضع آخر قال: ( يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ ) (4) ...؟!

جواب:

المـُجازاة بالمِثل خاصّة بالدنيا في مثل القِصاص والعقوبات الجزائيّة، والآية الأُولى واردة بهذا الشأن.

____________________

(1) النساء 4: 42.

(2) الأنعام 6: 23.

(3) الشورى 42: 40.

(4) هود 11: 20.

٢٦٩

أمّا مُضاعفة العذاب ففي الآخرة على حسب مراتب الكبيرة التي ارتكبَها أهلُ الكبائر، والآثار التي خلّفتها تلك الكبيرة المـُوبقة في الأوساط الاجتماعيّة حين الارتكاب وبعدها، ومورد الآية هم الذين كانوا يَصدّون عن سبيل اللّه ويبغونها عِوجاً وهم بالآخرة هم كافرون؛ ومِن ثَمّ يُضاعف لهم العذاب.

التكليم من وراء حجاب

سؤال:

قال تعالى: ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ) (1) .

كيف يلتئم وقوله: ( وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً ) (2) ، وقوله: ( وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا ) (3) حيث وقع التكليم مباشرةً؟!

جواب:

لم تنفِ الآية الأُولى التكليم رأساً، وإنّما نَفَته على الطريقة المعهودة بين الناس حيث يقع مشافهةً، نعم تكليمه تعالى يقع على طرائق ثلاث:

1 - إمّا وحياً وهو النَفث في الرَوع، فيتلقّى النبيّ بشخصيّته الباطنة ما يُلقيه إليه وحي السماء، وهو نوع مِن الإلهام خاصّ بالأنبياء والرسل.

2 - أو بإسماع الصوت من غير أن يُرى شخص المتكلّم، كأنّه يتكلّم من وراء حجاب، وهذا بِخَلقِ التموّج الصوتي في الهواء ليَقرع مسامع النبيّ فيستمع إليه، ولكنّه لا يُرى المتكلّم وإن كان يسمع صوته؛ ومِن ثَمّ وقع التشبيه من وراء حجاب. وهذا هو الذي وقع مع موسى النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله).

3 - أو بإرسال رسول - ملك الوحي - وهو جبرائيل (عليه السلام)، فيُلقي ما تلقّاه وحياً على

____________________

(1) الشورى 42: 51.

(2) النساء 4: 164.

(3) الأعراف 7: 22.

٢٧٠

النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله)، والأكثر ولعلّه الشامل من الوحي القرآني هذا النوع الأخير.

والتكليم والنداء في الآيتَين هُما من النوع الثاني أي التكليم من وراء حجاب، إذن فلا منافاة.

نظرة أو انتظار؟

سؤال:

قال تعالى: ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) (1) ، وقال: ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ) (2) .

قالوا: كيف يلتئم ذلك مع قوله: ( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ) (3) . ( وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ) (4) ، في حين أنّ مَن رأى الشيء وحَدّق النظر إليه فقد أَدركه ببصره وأحاط به علمه؟!

جواب:

هناك فَرق بين نظر رؤية ونظر انتظار وتوقّع، فيومئذٍ تكون الأنظار إليه سبحانه لكنّها نظرة توقّع وانتظار عَميم رحمته، ولا نظر إلاّ إليه (عظمت آلاؤه)، فالنظر إنّما هو إلى ربّهم كيف يُثيبهم؟ وإلى ما وَعَدهم مِن المثوبة في جنّة عدن.

قال الزمخشري: و(الناظرة) مِن نضرة النعيم، ( إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) تنظر إلى ربّها خاصّة ولا تنظر إلى غيره، والمراد: نظر توقّع ورجاء، كقولك: أنا إلى فلان ما يَصنع بي، تُريد معنى التوقّع والرجاء، ومنه قول القائل:

وإذا نظرتُ إليك من مَلِكٍ

والبحرُ دونك زدتني نِعَماً

قال: وسمعت سَرَويَّة مُستجدية بمكّة وقت الظهيرة حين يُغلق الناس أبوابهم ويأوون إلى مقائلهم تقول: عُيَينَتي نُوَيظرة إلى اللّه وإليكم، أي رجائي إلى اللّه وإليكم.

فمعنى الآية: أنّهم لا يتوقّعون النعمة والكرامة إلاّ من ربّهم، كما كانوا في الدّنيا لا يَخشون ولا يرجون إلاّ إيّاه (5) .

____________________

(1) القيامة 75: 22 و23.

(2) النجم 53: 13 و14.

(3) الأنعام 6: 103.

(4) طه 20: 110.

(5) الكشّاف، ج4، ص662 بتصرّف.

٢٧١

وأمّا الآية من سورة النَّجم فالمـُراد: رؤية جبرائيل على صورته الأصليّة؛ حيث وقعت لمـُحمّد (صلّى اللّه عليه وآله) مرّتَين، مرّة عند التبشير بنبوّته، ومرّة أُخرى في المعراج عند سورة المنتهى.

التناسي أو النسيان

سؤال:

قال تعالى: ( فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا ) (1) ، وقال: ( نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ) (2) .

كيف يلتئم ذلك مع قوله: ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً ) (3) ، وقوله: ( لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى ) ؟! (4) .

جواب:

النسيان في الآيتَين الأَوّليتَين هو التناسي والتغافل، أمّا المنفّي في الآيتَين الأخيريتَين فهي الغفلة والنسيان حقيقة.

والنسيان - بمعنى التناسي - في القرآن، كما في قوله تعالى: ( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ) (5) أي تناسى العهد ولم يأخذ بجدٍّ؛ إذ لو كان نَسيَ حقيقةً لكان معذوراً، إذ لا مؤاخذة على التناسي عقلاً ولا لوم عليه.

وقوله: ( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ ) (6) أي تَغافلوا حضورَه تعالى في الحياة؛ ومِن ثَمَّ تغافلوا ولم يأخذوا كرامة الإنسان بجدّ.

فقوله تعالى: ( قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ) (7) يعني نَبَذتَ آياتنا وراء ظهرك ولم تأخذها بجدٍّ، فكذلك اليوم تُنسى ولا تَشملك العناية الإلهيّة.

كما في قوله تعالى: ( فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً ) (8) أي استهانوا بشأن الكتاب واستعاضوا به مَتاع الحياة الدنيا القليل، وهو مِن التغافل في الأمر والتساهل فيه وليست حقيقة الغفلة.

____________________

(1) الأعراف 7: 51.                                   (2) التوبة 9: 67.

(3) مريم 19: 64.                                      (4) طه 20: 52.

(5) طه 20: 115.                                    (6) الحشر 59: 19.

(7) طه 20: 126.                                     (8) آل عمران 3: 187.

٢٧٢

وهكذا جاء في الجواب فيما نُسب إلى الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قال:

(أمّا قوله: ( نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ) فإنّما يعني: نَسوا الله في دار الدنيا، لم يَعملوا بطاعته، فنَسَيهم في الآخرة أي لم يَجعل لهم في ثوابه شيئاً، فصاروا منسيّينَ من الخير، وقد يقول العرب: قد نَسيَنا فلان فلا يَذكُرُنا، أي إنّه لا يَأمر لنا بخير ولا يَذكُرُنا به، وأمّا قوله: ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً ) فإنّ ربّنا تبارك و تعالى ليس بالذي يَنسى ولا يَغفل بل هو الحفيظ العليم) (1) .

كسب التأنيث والتذكير

سؤال:

قال تعالى: ( وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ) (2) .

وقال: ( وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ) (3) .

كيف جاء الوصف وكذا الضمير في الآية الأُولى مُذَكّراً، وفي الآية الثانية مُؤنّثاً في حين وحدة السياق؟!

جواب:

المضاف إلى مؤنّث إن كان يجوز حذفه ولا يُخلّ حذفُه بمَفاد الكلام يجوز في وصفه التذكير والتأنيث، قال ابن مالك:

وربّما أكسبَ ثانٍ أَوَّلاً

تأنيثاً إن كانِ لحذف مُوهَلاَ

فإنّ المضاف المـُذَكّر قد يَكتسب التأنيث من المضاف إليه المؤنّث بشرط جواز حذفه من غير إخلال بمَفاد الكلام، كما قال الأعشى:

وَتَشرِقُ بالقول الذي قد أَذعتَه

كما شَرِقَت صدرُ القناة مِن الدمِ

فتأنيث الفعل (شرقت) المسند إلى (صدر) إنّما هو باعتبار كسبه التأنيث من

____________________

(1) كتاب التوحيد للصدوق، ص259 - 260.

(2) السجدة 32: 20.

(3) سبأ 34: 42.

٢٧٣

المضاف إليه، فلو قُدّر حذفه لم يختلّ مَفاد الكلام.

وجاء عكسه في قول الآخر:

رؤية الفكرِ ما يؤولُ له الأمرُ

مُعينٌ على اجتناب التَواني

وقال غيره:

إنارةُ العقلِ مكسوفٌ بطوعِ هوىً

وعقلُ عاصي الهوى يَزداد تَنويراً

فالضمائر الراجعة إلى المضاف - وهو مؤنّث - في البيتَين، إنّما رُوعي فيها جانب المضاف إليه المـُذَكّر، باعتبار أنّ حذف المضاف في مثل هذا الكلام غير مُخلّ بمفاده.

وهكذا في الآية الكريمة يَجوز في وصف العذاب المضاف إلى النار مُراعاة التذكير على الأصل، كما في الآية من سورة السجدة، وكذا مراعاة التأنيث باعتبار إضافته إلى النار، كما في الآية من سورة سبأ.

وكِلا الأمرَين جائز، كما قال ابن مالك: (وربّما أكسب ثانٍ أوَّلاً تأنيثاً...)، وليس دائماً ولا ضرورة.

* * *

هذا بناءً على كون الوصف نعتاً للمضاف في كلتا الآيتَين؛ نظراً لوحدة السياق فيهما.

وربما فرّقوا بين الآيتَين فجعلوا الوصف نعتاً للمضاف في الآية الأُولى، وللمضاف إليه في الآية الثانية، وعلّلوا ذلك باختلاف الموجب:

قال الزركشي: جاء في سورة السجدة بلفظ (الذي) على وصف العذاب، وفي سورة سبأ بلفظ (التي) على وصف النار. وذلك لوقوع (النار) في سورة السجدة موقع الضمير الذي لا يُوصف، وإنّما وقعت موقع الضمير لتقدّم إضمارها في قوله: ( أَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ ) (1) .

____________________

(1) السجدة 32: 20.

٢٧٤

فحقّ الكلام أنْ يُقال: (وقيل لهم ذوقوا عذابها...) فلمـّا وضعها موضع المضمر الذي لا يقبل الوصف عَدَل إلى وصف العذاب.

وأمّا في (سبأ) فوَصَفَها لعدم المانع مِن وصفِها (1) .

* * *

وربّما ذهبوا إلى أنّه وصفٌ للنار في كلتا الآيتَين، وجاء التذكير في سورة السجدة على معنى (الجحيم) أو (الحريق) (2) .

وهنا وجوه استحسانيّة لا نُطيل بذِكرها فليراجع مظانّها (3) .

فرعون يُقتّل أبناء إسرائيل قبل بعثة موسى أم بعدها؟

جاء في آيات من سورة غافر (4) وسورة الأعراف (5) ما يَدلّ على أنّ فرعون هَمَّ بقتل أبناء إسرائيل واستحياء نسائهم بعد أنْ بُعث موسى (عليه السلام) ودعاه إلى الإيمان.

وفي سورة القصص (6) وسورة طه (7) وإبراهيم (8) والأعراف (9) والبقرة (10) ما يدلّ على أنّ ذبح الأبناء واستحياء النساء كان قد وقع من قبل.

كان فرعون قد أَمر بقتل الذُكور من مواليد بني إسرائيل مِن قبل؛ خوفاً من ظهور نبيّهم موسى (عليه السلام) وقد خاب ظنّه، لكنّه بعد أنْ ظهرت نبوّته وقام في وجهه مُهدّداً له

____________________

(1) البرهان، ج2، ص63 - 64.

(2) إملاء ما مَنَّ به الرحمان لأبي البقاء العكبري، ج2، ص190.

(3) ذكر الزركشي وجوهاً أربعة، وقد ذَكَرنا اثنين منها، راجع: البرهان، ج2، ص63 - 64.

(4) ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ ) . غافر 40: 23 - 25.

(5) ( وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ) . الأعراف 7: 127.

(6) ( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) . القصص 28: 4.

(7) ( أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ ) . طه 20: 39.

(8) ( إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ) .إبراهيم 14: 6.

(9) ( وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ) . الأعراف 7: 141.

(10) ( وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ) . البقرة 2: 49.

٢٧٥

- ولا سيّما بعد أنْ آمن السَحَرة - خاف ازدياد قوّة موسى وقومه والنجدة بالأبناء، فحاول كسر شوكتِهم بالقتل في الأبناء واستعباد النساء، لكنّه لم يُساعده الحظّ؛ حيث أَهلَكَهم اللّه.

قال الطبرسي عند تفسير الآيات من سورة غافر: أُمروا بقتل الذُكور من قوم موسى؛ لئلاّ يكثر قومه ولا يتقوّى بهم، وباستبقاء نسائهم للخِدمَة، وهذا غير القتل الأَوّل؛ لأنّه أمر بالقتل أَوّلاً لئلاّ ينشأ منهم مَن يزول مُلكُه على يده، ثُمَّ ترك ذلك لمـّا أنْ تيقّن ولادة موسى، ولا فائدة في ذبح الأبناء، لكنّه بعد أن ظهرت نبوّة موسى وقام في وجهه مهدِّداً له حاول العَودَ إلى القتل ثانياً؛ حتّى لا تكون فيهم نجدة وقوّة، لكنه تعالى حال دون بلوغ أُمنيّته وأَخذهم بالبلاء والعذاب (1) .

التقدير أَزلاً أم في ليلة القَدر؟

قد يَزعم البعض أنّ في ذلك تناقضاً في القرآن، فتارةً يُرى من تقدير الأُمور مُثبتاً في اللوح المحفوظ ( فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا ) (2) ، وأُخرى تقديرها في ليلة القَدر لكلّ عام ( فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) (3) .

قلت: ليس التقدير ممّا يختلف وإنّما يختلف العلم به، فالّذي يعلم تقدير الأمور ومجاريها أَزلاً وفي اللوح المحفوظ هو اللّه وحده لا شريك له، وأمّا الذي يتنزّل به ويُطلع أولياءه عليه فهو في ليلةٍ مباركةٍ هي ليلة القدر من شهر رمضان من كلّ عام. يتنزّل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كلّ أمر، يتنزّلون بتقادير الأمور على الحجّة القائم مِن أوليائه؛ ليُطلعه على مجاري الأُمور عامّة ذلك، وبذلك تواترت روايات أئمة أهل البيت الصادقين (عليهم السلام) ومِن ثمَّ فإنّ عِلمـَهم الحتم بمجاري الأُمور محدود بعامِهم، دون علم اللّه المحيط الشامل (4) .

____________________

(1) راجع: مجمع البيان، ج4، ص465، وج 8، ص520.

(2) الحديد 57: 22.

(3) الدخان 44: 4، راجع: هاشم العربي في ملحق ترجمة كتاب الإسلام، ص384 - 385.

(4) راجع: الكافي، ج1، ص242 - 253.

٢٧٦

والدليل على ذلك أنّ الوارد في سورَتي الدخان والقَدْر هو النزول والتفريق، وليس أصل التقدير، فتدبّر جيّداً.

فاللّه تبارك وتعالى يعلم تقدير الأُمور حسب مجاريها عِلماً في الأَزل، لكنّه تعالى يُنزل بهذا التقدير في كلّ ليلة قدر بشأن تفريقه طول ذلك العام، الأمر الذي لا يبدو عليه أيّ شبهة تناقض.

متى وقع التقدير؟ وهل لا يتنافى التقدير مع الاختيار؟

جاء في سورة الدخان أنّ التقدير إنّما يقع في كلّ ليلة قَدْرٍ مِن شهر رمضان في كلّ سنة ( فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) (1) . وقد وردت روايات أيضاً بأنّ ما يقع في تلك السنّة إنّما يُقدَّر في ليلة القدر.

هذا، في حين كَثرة الآيات والروايات بأنّ التقدير إنّما وقع في الأَزل، وتجري الأمور حسبما قُدّرت في اللّوح المحفوظ من غير تخلّف ولا تبديل، ( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا ) (2) ، ( وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاّ فِي كِتَابٍ ) (3) .

على أنّ هذه الآيات تَرمي إلى سلب مسؤوليّة الإنسان عمّا يفعله؛ حيث إنّه كان مُقدّراً من قبل، وهذا يتنافى وقوله تعالى: ( وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً ) (4) .

أمّا المسألة الأُولى: فقد سَبَق البحث عنها في مسألة البداء وأنّ هناك تقديرَين، تقديرٌ ظاهري حسب مجاري الأمور الطبيعيّة من عللٍ وأسبابٍ تتفاعل حسب طبيعتها الأُولى، وهي السُنَن الساطية على الكون ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) (5) .

وهذه السُنَن ليست حتميّة، في حين كونها هي الغالبة، حيث احتمال مفاجئة أُمور

____________________

(1) الدخان 44: 4.

(2) الحديد 57: 22.

(3) فاطر 35: 11.

(4) الإسراء 17: 13.

(5) القمر 54: 49.

٢٧٧

طارِئة من خارج مَدارات السُنَن فتُغيّر من اتجاهاتها أحياناً، الأمر الذي لا يَعلمه إلاّ اللّه وكان مُقدّراً أي معلوماً لديه تعالى في الأَزل، خافياً عن أعين الخلائق إلاّ مَن علّمه اللّه، وهذا هو التقدير المكنون في اللوح المحفوظ، ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ ) (1) .

فالأَجل الأَوّل هو الذي تقتضيه مجاري الأمور الطبيعيّة حسب السُنَن الجارية في الخَلق، وهذا ليس بحتم، أمّا الأَجل الآخر الحتمي فهو الذي عَلِمَه اللّه في الأَزل حسب الأسباب الطارئة الخافية عن غيره تعالى، ( لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (2) .

روى الصدوق بإسناده إلى الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (وهل يَمحو اللّه إلاّ ما كان؟ وهل يُثبت إلاّ ما لم يكن؟) (2) .

فهناك تغيير وتبديل على خلاف مجاري الأُمور، لا يَعلمه إلاّ اللّه عِلماً كائناً في الأَزل.

قال الإمام الباقر (عليه السلام): (من الأُمور أُمور موقوفة عند اللّه، يُقدّم منها ما يشاء ويُؤخّر منها ما يشاء ويُثبت منها ما يشاء) (4) ، أي: من الأمور ما هي موقوفة - في جريانها حسب العادة الطبيعيّة - على شرائط، إنْ وُجدت جرت، وإلاّ تخلّفت، فحصول هذه الشرائط في وقتها أو عدم حصولها شيء لا يعلمه إلاّ اللّه.

فالعلم بالتقادير الحتميّة الأَزليّة خاصّ اللّه تعالى، أمّا غيره تعالى من الملائكة المقرّبين والمدبِّرات أمراً وكذا المـُصطَفون من عباد اللّه المـُكرمينَ فلا عِلم لهم بسِوى مُقتضيات السُنَن الطبيعيّة في مجاري الأمور، والتي هي بمَعرض البَداء والتبديل، أمّا حتميّتها فهذا شيءٌ إنّما يعرفونه في كلّ ليلة قدرٍ من كلّ سنةٍ وفي محدودة عامِها فحسب.

قال الإمام الصادق (عليه السلام): (إنّ للّه عِلمـَينِ، عِلمٌ مكنونٌ مخزونٌ لا يَعلمه إلاّ هو، من

____________________

(1) الأنعام 6: 2.

(2) الرعد 13: 38 - 39.

(3) كتاب التوحيد للصدوق، ص333، رقم 4.

(4) بحار الأنوار، ج4، ص116 - 117، رقم 44.

٢٧٨

ذلك يكون البداء، وعِلم علّمه ملائكتَه ورسلَه وأنبياءَه، فنحن نعلمه) (1) ، وقد عنى بهذا العلم الذي تَعلمه الملائكة والأنبياء والأئمّة هو العِلم وِفق مجاري الأمور الطبيعيّة، والتي يُمكن التخلّف فيها؛ ومِن ثَمَّ قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (واللّه لولا آية في كتاب اللّه لحدّثتُكم بما يكون إلى يوم القيامة، وهي قوله تعالى: ( يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) ) (2) .

* * *

وأمّا المسألة الثانية: هل لا يتنافى التقدير مع الاختيار؟ فقد استوفينا الكلام عنها عند البحث عن مسألة الاستطاعة والاختيار، وتَبيّن أنّ التقدير السابق لا يَعدو سوى العِلم بما سيقع وتقديره حسبما يقع، من غير أن يكون العِلم السابق ذا أثرٍ في تحقّق المعلوم، فإنّ للظواهر الكونيّة عِللاً وأسباباً تكوينيّةً هي التي تُؤثّر في الفعل والانفعال التكوينيّينِ، كما أنّ للأفعال الاختياريّة الصادرة من الفاعل المختار (الحيوان والإنسان) سبباً مباشراً هي إرادته بالذات وليس مقهوراً فيها.

فإذا كان اللّه يعلم - أَزلاً - ماذا سيقع وسيتحقّق عِبر الأبد ثُمّ قدّر مجاريها ودبّر من شؤونها بما يتوائم ونظام الكون فهذا لا يعني الإجبار، ولا سيّما فيما يَعود إلى أعمالٍ يقوم بها الإنسان حسب إرادته واختياره، وليس مِن المنطق أن يُفرض العلم بأمرٍ علّةً لوجوده.

والتقدير السابق، إنّما هو العِلم بالأسباب والمسبّبات - كما هي - ثمّ تدبير مجاريها حسب نظام الكون، فلا هناك جَبر ولا سلب للمسؤوليّة فيما يَمسّ أفعال العباد الاختياريّة.

( إِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وَارِدُهَا)

قال تعالى: ( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً ) (3) ، والخطاب عامّ يشمل

____________________

(1) الكافي للكليني، ج1، ص147، رقم 8.

(2) بحار الأنوار، ج4، ص97، رقم 4 و5، والآية 38 من سورة الرعد.

(3) مريم 19: 71.

٢٧٩

المؤمن والكافر، وبدليل ما بعد الآية: ( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً ) (1) ، حيث قوله: ( وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا ) ، أي الجميع يَرِدُونها فيخرج المؤمن ويُترك الظالم بحاله.

الأمر الذي يتنافى وقوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا ) (2) ، فيكف الوئام؟!

وقد ذَكَر المفسّرون هنا وجوهاً، أوجهُها - ما عن ابن مسعود والحسن وقتادة واختاره أبو مسلم - أنّه بمعنى الإشراف عليها ليَشهدوا ذلك العرض الرهيب، فالمؤمنون يَجوزونها ويَدنون منها ويَمرّون بها وهي تتأجّج وتتميّز وتتلمـّظ، ويَرَون العتاة ينزعون فيقذفون فيها.

قال تعالى: ( فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ ) لن يكونوا لوحدِهم بل ( وَالشَّيَاطِينَ ) الذين هم قادتُهم، وبينهما صلة التابع والمتبوع والقائد والمـَقود، ( ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً ) جاثين على رُكَبِهم في ذلّ وفَزَع، ( ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً ) ، فلا يُؤخذ أحدٌ جُزافاً من تلك الجُموع المتكاثفة، ( ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً ) ليكونوا طليعةَ المقذوفينَ فيها.

وبعد، فيأتي دور المؤمنينَ الذين سَبَقت لهم مِن اللّه الحُسنى، فيأتي زَرَافات منهم، يَمرّون بهذا المشهد الرهيب، فيُزَحزَحون عنها وفي منجاةٍ منها يَجوزونه ( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا ) أي نجعلهم في منجاةٍ منه ( وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً ) (3) أي نَدعهم جاثمين على رُكَبِهم على شفا جُرُفٍ هارٍ؛ لينهار بهم في نار جهنّم.

فقد كان المـُراد بالورود هنا هو الإشراف عليها، كما في قوله تعالى: ( وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ ) (4) ، وقوله: ( فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ ) (5) ، إذ ليس المـُراد من الورود هنا الدخول، بل الدنوّ والاقتراب، قال الراغب: الورود، أصله قَصْدُ الماء، ثُمّ يُستعمل في غيره (6) قوله: ( وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ ) أي قَصَدَه واقترب منه. والوارد: الذي

____________________

(1) مريم 19: 72.

(2) الأنبياء 21: 101 - 102.

(3) مريم 19: 68 - 72.

(4) القصص 28: 23.

(5) يوسف 12: 19.

(6) المفردات، ص519.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

سرورستان وفيرزآباد على أَقواس وقِباب لأَبنية قديمة، يُعتقد أنّها من بقايا عصر كورش الكبير، كما يُوجد حجر مُكعّب الشكل يُعرف بتَخت طاووس في باساركاد على مَقربة من مقبرة كورش كان واحداً من أعتاب معبد قديم.

أَضف إلى ذلك (تُرْعَة سويس) - قناة تصل البحر الأحمر بالمتوسّط - ذلك المـَشروع العظيم، كان أَوّل مَن أَمر بحفرها هو المـَلِك الفارسي داريوش الأَوّل الهخامنشي، وذلك بعد أنْ استولى على مصر وبلاد أفريقيّة مُجاورة، وقد عُثِر في حَفريّات هناك على ضِفاف التُرْعَة كتيبة فيها دلالة واضحة على السيرة الحَسنة التي كان يُراعيها مُلوك فارس مع أبناء البلاد التي كانوا يَمتلكونها آنذاك، الأمر الذي يدلّ على حضارة راقية كانت تسود إمبراطوريّة فارس (١) .

والأَمثلة لا حصرَ لها في هذا المـَبحث مِن موضوعنا، وكلّها تُجيب على السؤال المطروح: هل كانت فارس على درجة من التَحضُّر والتقدُّم بما يُوفّر الخُبرة الهندسيّة لتشييد السُدود والأعمال العُمرانيّة؟

ومن العرض البسيط قد تحقّقنا من تقديم كورش الخُبرة والمهندسينَ والإشراف لسُكّان منطقة سُهول القوقاز وبحر قزوين والبحر الأسود.

* * *

وأمّا عن الإمكانيّات التي يُمكن أنْ يكون قد طلبها ذو القَرنَينِ من الأُمَم المـُسالِمة في المنطقة الوادِعة، حسب فهمنا للآية الكريمة، فنأخذ أوّلاً: القوّة البشرية (العَمّالة) التي يُمكن أنْ يكون كورش قد طلبها، فإنّ المنطقة حسب التخمين العام كانت آهِلة ومُزدحِمة بالسُكّان ويُمكن حساب عدد السُكّان (تقريباً) في إقليم آذربيجان - أرمينيّة - داغستان - جورجيا - وما والاها سنة ٥٥٠ ق. م كان على الأرجح ما يَقُرب من ٠٠٠/ ١٧٠ نَسَمة (٢) .

____________________

(١) راجع: تأريخ إيران، ص ١٢٤ - ١٣٢.

(٢) وذلك على حسب الإحصاءات التقريبيّة والتي قَدّرت عدد نُفوس العالَم قبل الميلاد بثمانية آلاف سنة، وكانت خمسة ملايين نَسَمة، وقبل خمسة قُرون من الميلاد بعشرين مليون، وقبل الميلاد بثلاثة آلاف سنة بأَربعين مليون، وقبل الميلاد بألف سنة بمِئة مليون، وبعده بألف: ٠٠٠/٠٠٠/٢٧٥ وفي سنة ١٦٥٠ م: ٠٠٠/٠٠٠/٥٤٥، وذلك على

٥٠١

فلو افترضنا أنّ العَمّالة كانت تُمثّل بنسبة ٦% من السُكّان، لعرفنا أنّ العَمّالة التي تُقدَّر للاشتراك في بِناء السدّ ما يزيد على (٠٠٠/١٠٠) مِئة ألف عامل.

وهذا العدد يُمكنه بالفعل إنجاز العمل في سدّ ثغرة (داريال) لمدّة عشر سنوات تقريباً.

والموادّ الخام التي شُيّد منها سدّ ذي القَرنَينِ حسب وصف القرآن الكريم: خامات الحديد.

تحتوي أراضي آذربيجان على معادن الحديد بكمّيات كبيرة، ويشهد لذلك قيام صناعة الحديد والصُلب الآن في مدينة (باكو)، فإذا كان الإقليم غنيّاً به الآن فلا شكّ أنّه كان أغنى زمن كورش بالطبع.

أمّا أرمينيّة فغنيّة بمعادنها، ويَكثُر بها على وجه الخصوص خام الحديد والنُحاس والرَصاص والزرنيخ وحجر الشبّ والكبريت والذهب. وابن الفقيه (١) هو الكاتب الإسلامي الوحيد الذي أَمدّنا بمعلومات قيّمة عن الثروة المعدنيّة في أرمينيّة.

ويَذكر المؤرّخ الأَرمني (ليونتيوس) أنّ مَناجم الحديد والفضّة في تلك البلاد كُشِفت حوالي نهاية القرن الثامن للميلاد، وتَدلّ مَلامح الأرض على مناطق محفورة في الجبال تُشير إلى استنفاد السُكّان الأقدمين لاحتياطي الحديد القديم الذي كان يُستخرج في العَراء دون عَناءٍ كبير، وهي تقع في مُنتصف الطريق بين أطرابزندة وأرزن الروم.

كما يوجد الحديد بوِفرة في جورجيا بالقُرب من (تسخالطوبو) و (محج قلعة) و (دربند) في داغستان وغيرها، وفي مناطق الحدود الأرمينيّة في تركيا إقليم الحديد المشهور الذي يُقدَّر احتياطيّه بحوالي ٢٥ مليون طنّ وتبلغ نسبة الحديد في الفلز ما بين ٦٠ - ٦٦% وهي نسبة عالية، وقد استخرج الحيثيّون من آلاف السنين كمّيّات هائلة من الحديد من هذا الإقليم، وأَهمّ مناطق إنتاجه الآن هناك إقليم (ديفرجي).

____________________

حساب ( F.A.O ) المعروف، مفاهيم جغرافيّة، ص ٣٠٤. وبذلك يُقدّر عدد نُفوس العالَم سنة (٥٥٠ ق. م): ١٦٨ مليون نَسَمة. ويكون قِسط إقليم آذربيجان وأرمينيّة وداغستان وجورجيا ذلك العهد - على حساب التقسيم على المائة - ما يَقُرب من ٠٠٠/ ١٧٠ نَسَمة.

(١) كاتب شاعر مجيد من أهل الموصل تُوفي ٦٣٦ هـ / ١٢٣٨ م.

٥٠٢

أمّا عن الفحم والأخشاب اللازمَينِ لصهر الحديد، فتكوينيّات منطقة (كلاكنت) بأرمينيّة فيها احتياطيّ كبير، وفي سواحل البحر الأسود تُعتَبر مناجم (زونفلداك) من المـَناطق الغنيّة جدّاً بخامات الفحم، وهو من النوع البيتومين ويُعطي نوعاً جيّداً مِن فحم الكوك الذي يُستخدم في صناعة الحديد.

وأمّا عن الأَخشاب فيَذكر ابن حوقل أنّ إقليم أَردبيل كثير البساتين والأنهار والمياه والأشجار والفواكه الحَسنة والخَيْرات والغَلاّت، وكذلك إقليم المراغة، ويقول عن إقليم أُروميّة: إنّه كثير الكُرُوم والمياه الجارية والضياع والرَسَاتيق، ويضمّ الإقليم أيضاً: أُشنَه، كثيرة الشجر والخُضر والخَيْرات ومدينة بردغة كثيرة الخِصب والزرع والثِمار والأشجار.

كما أنّ مجموعة أنهار كورا (كورش) ونهر ترك، وكذلك صولاق ونهر آراكس ونهر آيورا، كلّها مُحاطة بمساحات هائلة من الأخشاب، لانتشار أشجار الدَردَار والبَلوط والصنوبر والأَرز والشوح والعَرعَر والزيتون البرّي.

وخامات النُحاس - التي طلبها (كورش = ذو القَرنَينِ) من سُكّان الإقليم حسبما عَبَّر القرآن الكريم: ( قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً ) ... هذه الخامات ثَبُت علميّاً وتأريخيّاً تَوفّرها بالمنطقة، فالدراسات الجيولوجيّة الحديثة أثبتت وجودها بوِفرة في تكوينيّات (زنجان) و (أنارك) وشمال أصفهان، وفي جنوب آذربيجان كميّات هائلة منه.

وفي أرمينيّة أَصبحت مناجم النُحاس الكبيرة المعروفة مُنذ القِدَم، شاهد على استخراج السُكّان القُدامى لخاماته، خصوصاً في منطقة (كدابك) وما يَتبعها من مَنجم فرعي في إقليم (كلاكنت) - بين البزاوتيول وبُحَيرة كوك جاي - وقد أُعيد إحياء مَجد الإقليم في مجال استخراج النُحاس حديثاً في السنوات الأخيرة، بفضل إدارة إخوان (سيمنس) مُؤسّسي مصانع سَبْك المعادن هناك.

ومن ناحية تَوفّر العدد اللازم من حيوانات الجرّ والحَمل، فالإقليم غنيّ بالثروة الرَعويّة والحيوانيّة؛ لأنّه يقع بين خطَّي عَرض ٣٠ - ٤٥ شمالاً، وينحصر بين إقليم البحر

٥٠٣

المتوسّط غرباً وإقليم الصين شرقاً ويمتدّ في أُوراسيا بين التركستان الصينيّة ورومانيا، ويشمل بذلك كلّ آذربيجان وأرمينيّة والقوقاز وجورجيا وداغستان وأنجازيا وأجاريا، ولكَثرة حشائش الإقليم سُمّيت إقليم المـَراعي المـُعتَدلِة الدفيئة، وهي غنيّة تكفي رَعيَ الماعز والضأن على الهِضاب، والأبقار والمواشي في السُهول، والجَمَل أيضاً معروف هناك وهو من نوع ذي السنامَينِ وحيوان الياك ( YAK ) ).

وقد استخدمه السُكّان في النَقل تَماماً كالحَمير، وهو يَمتاز على الحَمير بوجود أَظفار في رجلَيه تُساعده على ارتقاء المـُرتفعات والتنقّل بأَحماله بينها، كما يوجد هناك مُنذ القِدَم عشرات الآلاف من الخُيول السيسي الشهيرة بقُدرتها على حَمل الأثقال وجرّ العَربات.

ومن حيث توفّر المـُؤَن لمواجهة استهلاك العُمّال والمهندسين من غذاء لازم حتّى إتمام تشييد السّدّ، فقد عَرَف الإقليم جميع الحُبوب من آلاف السنين، وكانت أرمينيّة تُعتبر من أَخصب أملاك الخلافة العباسيّة، وكانت الغِلال تُستَنبت فيها بكَثرة وتُصدّر إلى الخارج كبغداد مثلاً (٢) ، وكان السمك يكثُر في بُحيراتها وأَنهارها ويُصدّر إلى الخارج أيضاً (٣) ، وكانت خَيرات الإقليم تَتَوجّه زمن كورش إلى همدان وسائر البلاد المعروفة ذلك اليوم.

وأودية هذا الإقليم الكبير مُزدَحِمة بغابات الأشجار المـُثمرة، وفي مناطق العَراء كانت زراعة البطاطا والشمندر السكّري مِن أَهمّ حِرَف السُكّان في العصور القديمة.

ففي آذربيجان كان القمح الشتوي يُزرع هناك بنجاح كبير، عَلاوةً على أنواع أُخرى من الحبوب وكذلك الكُرُوم والجوز... وداغستان بلاد زراعيّة بالدرجة الأُولى من

____________________

(١) نوع من البَقر الوَحش عظيم الجُثّة وقوّتها، يكثُر وجوده في جبال آسيا الغربيّة والوسطى ولا سيّما هَضبات تبّتب، وقد استخدموه لحَمل الأثقال.

(٢) أُنظر: تأريخ الطبري، ج ٣، ص ٢٧٢ - ٢٧٥، (مفاهيم جغرافيّة، ص ٣١١).

(٣) وقد ورد أنّ شُهرة الإقليم بالأسماك كمورد غذائي للسكّان والتصدير لا تُضارَع، حيث كانت الأسماك تكثُر في بُحيرات أرمينيّة وسواحل القوقاز وخصوصاً بُحَيرة (وان) التي اشتهرت بنوع خاصّ وبكميّات هائلة منه، وهو الذي يَعرفه العرب باسم (الطريخ) وكان هذا السمك في العُصور القديمة يُملّح ويُصدّر إلى الجهات البعيدة كالهند، أُنظر: القزويني، طبعة قستنفلد، ج ٢، ص ٣٥٢، (مفاهيم جغرافيّة، ص ٣١١)، ولا يزال الناس في أرمينيّة وآذربيجان وبلاد القوقاز وآسيا الصُغرى يستطيبون هذا السمك المـُمَلَّح حتّى يومنا هذا.

٥٠٤

العصور القديمة حتّى الآن، فهي تَنتُج القمح والذُرّة والبطاطا والخضروات والكَرمة، كما أنّ الماشية تَرعى في سُفوح الجبال وأَشهر مواشيها الأغنام... ومناخ جورجيا (طرجستان) من آلاف السنين ملائم لزراعة الحبوب وخاصّة الذُرّة والكَرمة والحُمّضيّات والشمندر السكّري (١) وهذه المزروعات تجدها في كلّ أنحاء الإقليم، وثروة الإقليم بالماشية هائلة، إذ تنتشر المـَراعي الواسعة كما رأينا وتَربّى عليها قُطعان الماشية وخاصّة الأغنام.

ومن المـَلامح التي عَرضناها بإيجاز تأَكّد لنا قُدرة الإقليم على تَموين العُمّال والمهندسينَ بالطعام والشراب الكافي، دون أنْ يَحدث نقص في إمدادات الغذاء، أي أنّ الأَمن الغذائي كان مَكفولاً.

والموادّ الخام اللازمة كانت متوفّرة، من حديد ونُحاس وفحم وأخشاب، وحيوانات الجرّ والحِمل كانت موجودة تفي بالغرض تماماً، والأَيدي العاملة الرخيصة كانت متوفّرة كذلك، والخُبرة الفارسيّة، والتخطيط الدقيق لكورش كلّها كانت مُقوّمات نجاح تشييد أَعظم السدود في العالَم، لدرجة جَعلت القرآن يَصفه بالرَدم، أي السّدّ الضخم الهائل في قوله تعالى: ( فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً ) (٢) .

وبعد فإليك الكلام عن السدّ (سدّ ذي القَرنَينِ الذي ذَكَره القرآن) وهل هو سدّ كورش التأريخي؟

سدّ كورش (ذي القَرنَينِ) التأريخي

في وصف شامل لسدّ كورش (ذي القَرنَينِ) وتحديد موقعه الجغرافي حاليّاً على الخريطة السياسيّة، وتحديد نوعيّة الدَولة التي كانت تُسيطر على المنطقة الجبليّة التي شُيّد فيها، يُمكن القول: إنّه من المـُعطيات السابقة، تتبلور ملامح سدّ كورش التأريخي في:

____________________

(١) فقد عَرف الإقليم جميع الحبوب من آلاف السنين - حسبما تقول الجغرافيا التأريخيّة - وعُثِر عليها في الآثار القديمة، ووُجِدت قوارير مملوءة بالحبوب وغيرها (القمح - الذُرّة - القصب - الأَرز). أُنظر: مواطن الشعوب الإسلاميّة، قفقازيا لمحمود شاكر، ص ٦٢ - ٦٩. (مفاهيم جغرافيّة، ص ٣١١).

(٢) مفاهيم جغرافيّة، الفصل السابع، ص ٣٠١ - ٣١٢.

٥٠٥

أنّ السّدّ بُنيَ فيما بين عامَي - ٥٣٩ ق. م. و ٥٢٩ ق. م - في مكان جبليّ شاهق شديد التَضرّس قائم كجدارَينِ شامخَينِ على جانبَيه، وبذلك - وعلى هذه الصورة - يكون السّدّ حجازاً مضافاً على الجدارَينِ، في مكان المـَضيق الجبليّ الذي كان موجوداً بينهما، ويُعرف بمَضيق (داريال)، وهو موسوم في جميع الخرائط الإسلاميّة والروسيّة في جمهوريّة جورجيا (كرجستان).

وقد استُخدِمت في تشييد السدّ زُبُر الحديد أي قطع الحديد الكبيرة، وأُفرغ عليها النُحاس المـُنصهِر. وهذا هو وصف القرآن، ولا نقبل عنه بديلاً، مهما كانت درجة التقارب أو التشابه، ونرفض أيّ سدٍّ آخر يكون قد شُيّد من الحِجارة - مِثل سور الصين العظيم - حتّى ولو كانت عناصر ومُقوّمات وظروف إنشائه مُشابهةً لِما جاء عن سدّ ذي القَرنَينِ.

وقد رأينا خلال السرد التأريخي أنّ القبائل المـَغولية - وراء سِلسلة جبال قوقاز - كانت لا تَتَكاسل عن الانقضاض على مناطق آسيا الغربيّة خلال القرن السادس قبل الميلاد.

وكلّ صفحات التأريخ تَذكر لنا أنّ ثَمّة تَوقُّف مُفاجئ حَدث في عمليّة تَدفّق هذه القبائل البدائيّة المـُتوحِّشة، وتُشير أَصابع الدقّة التأريخيّة نحو الحُقبة التي ظهر فيها كورش الهخامنشي!

ومِن ثَمّ جاء قول المـُؤرّخينَ بأنّ هذه القبائل التي سُمّيت (ميكاك) عند اليونان و (منكوك) عند الصينيّين، هم قوم (يأجوج ومأجوج) الذي جاء ذِكرهم في القرآن، وقد تقدّم الكلام عن ذلك.

هذا وقد تَتَّبع مولانا أبو الكلام آزاد، من خلال استقراء التأريخ ومُراجعة النَصوص في العهد القديم وما جاء فيها عن يأجوج ومأجوج، ووصل إلى نفس ما هو قائم في الواقع في جمهوريّة جورجيا (كرجستان) الآن، وقد عُثر على كُتَل هائلة من الحديد المخلوط بالنُحاس، موجودة في جبال قوقاز، مُبعثَرة في منطقة مضيق (داريال) الجبلي.

وهذه حقيقة قائمة لكلّ من أراد أنْ يشاهدها برَأْي العَين.

٥٠٦

جبال شاهقة تمتدّ من البحر الأسود حتّى بحر قزوين، التي تمتدّ لتصل بين البحرين طول (١٢٠٠ ك. م) وهي جبال التوائيّة حديثة التكوين، شامخة مُتجانسة التركيب، إلاّ من كُتَل هائلة من الحديد الصافي المخلوط بالنُحاس الصافي في مَضيق داريال، غير أنّ جسم الجبال الصخري (جبال قوقاز) من جانبي السدّ تآكل بفعل عوامل التَعريَة طِوال ٢٥٠٠ سنة وصار هناك فراغ فيما بين الصخور الجبليّة وجسم السدّ الحديدي النُحاسي، وأصبح كُتَلاً ضَخمة تَبعثرت في مَعبَر المـَضيق.

ويُشار إلى هذا السدّ في الأطالس الجغرافيّة الحديثة بين فلادي ( Fladi ) وكوكس ( Kiuakass ) وبين تفليس، ويَذكره الأَرمَن - هناك - في صفحات تأريخهم (الشاهد على أحداثهم) باسم (بهاك غورائي) و (كابان غورائي) أي مَضيق كورش أو (ممرّ كورش)، كما أنّ سُكّان كرجستان يَعرفونه في بلادهم باسم الباب الحديدي، وذَكره الأتراك في كتاباتهم أيضاً باسم (دامركابو) (قابو) (١) ، و (دامر) - بالتركيّة - يعني: الحديد. و (قابو): الباب.

فالسدّ شُيّد في منطقة جبليّة بين صَدفَينِ في مَضيق داريال، وليس في مناطق سَهليّة مِثل سور الصين العظيم، وقد أُقيم لإيقاف زحف الأجناس المـُتوحِّشة عِبر جبال القوقاز إلى شمال مَملكة فارس وغرب آسيا، ولم يكن لحجز مياه السيول والفيضان مثل سدّ مأرب.

وقد شُيّد من خامات الحديد وأُشعلت النيران لصهر النُحاس ليُصَبّ فوق الحديد، وبقاياه تدلّ فعلاً على انطباق مواصفاته مع ما جاء في القرآن الكريم.

ولذلك عبّر القرآن عن متانته بقوله تعالى: ( فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً ) .

إذن، لم يكن السدّ من الحَجَر، مثل سور الصين العظيم (٢) ، أو جدار (دربند) الذي بَناه

____________________

(١) كورش الكبير، ص ٢٨٠.

(٢) بَناه الإمبراطور (تشين شيه هوانج) بعد سنة (٢٢١ ق. م)، حاجزاً بين (منغوليا) والصين، وهو مُشيّد من الطُوب (اللِبْن

٥٠٧

أنوشيروان المـَلِك الساساني (١) بعد (١٠٠٠ عام) من بِناء سدّ كورش، أو سدّ (مأرب) الذي شُيّد لتنظيم الريّ ووقاية المنطقة - وعاصمتها مدينة مأرب قاعدة المـَملكة السبئيّة (باليَمن) - من أخطار الفيضانات المـُوسميّة، وتَهدَّم بين (٥٠٧ - ٥٤٢ ق. م) على أثر السيل العَرِم (الهائج المـُدمّر) ونتيجةً للإهمال بشأن ترميم ثُلَمها (٢) .

هذا هو سدّ كورش ذي القَرنَينِ - كما وَصَفه القرآن الكريم - يَشهد على ذلك جميع الشُعوب التي دخلت أُوربا عن شمال جبال قوقاز وشاهدته بعد ما شُيّد أو اجتازت مضيق داريال قبل تشييده، هذا هو السدّ، في منطقة استراتيجيّة ذات أهميّة كبيرة، جرَّ عليها موقعها هذا صِعاباً كثيرةً، فطَمعت فيها كلّ الدُول المـُجاورة!

وهكذا، فكلّ مَن سيطر على الإقليم صارت كلّ المناطق شماله وجنوبه تحت رحمته؛ لذلك فقد وصل الغُزاة إلى المنطقة من فجر التأريخ، فغزاها الآشوريّون والكلدانيّون والمصريّون والقُدماء والفارسيّون، ثُمّ اليونانيّون... وخضعت لنُفوذ بيزانطة في القَرن الثالث الميلادي بعد أن انتشرت المسيحيّة في جنوبها في القرن الأوّل الميلادي، وكذلك استولت الصين على جنوب قوقاز في القَرن الرابع الميلادي، وكانت دَولَتا الفُرس والروم كفَرَسَي رِهان على امتلاك أرمينيا وقوقاز وآذربيجان طول التأريخ.

بناء جِدار (دربند)

وفيما بين عامَي (٥٣١ - ٥٧٩ م) حَكم الفُرس في عهد أنوشيروان هذه المنطقة وَوَجد المـَلِك الفارسي أنّ السدّ (الذي بَناه كورش قبل ١٠٠٠ عام ) لم يَعد يمنع المـُغيرينَ عن بلاد فارس، خصوصاً وأنّ النوعيّة قد تغيّرت، فقد أُضيف إليها العُنصر الروماني

____________________

المحروق) والطين والحجارة، يبلغ طوله (١٥٠٠ مِيلاً ) ويمتدّ من البحر الأصفر حتّى سَلاسل جبال (تاين تاغ)؛ لتَحول دون القبائل الهمجيّة - التي كانت تسكن صحراوات منغوليا - الدائمة الإغارة على سُهول الصين، ويَشتمل السور على عدد مِن البوّابات الضَخمة في مناطق مُتباعدة يقوم على حراستها جُنُود أشدّاء، مفاهيم جغرافيّة، ص ١٢٨ - ١٢٩.

(١) بَناه في مُنحدَرات جبال قوقاز حتّى شواطئ بحر قزوين حيث مدينة دربند في طول سبعة فراسخ؛ سدّاً لهجمات الرومان البيزنطيّين والأتراك حيث كانوا يتدفّقون على شمال فارس عِبر الشريط الساحلي الذي بلغ اتّساعه ٣٠ مِيلاً بين بحر قزوين وجبال قوقاز، مفاهيم جغرافيّة، ص ٣١٥، ولغت نامه دهخدا، حرف الدال.

(٢) المـُنجد في الأعلام، حرف الميم.

٥٠٨

والتركي.

فمن أين جاء التهديد هذه المرّة، وكيف بَطَل مفعول السدّ الكورشي؟

... كان بحر قزوين يَضرب بأمواجه أقدامَ جبال قوقاز من جهة الشرق، وكانت مياه البحر الأسود تَضرب أقدامها من ناحية الغرب، وكان من المستحيل على الغُزاة بعد بِناء سدّ كورش الشهير أنْ يتوغَّلوا إلى جنوب قوقاز.

ولكن بعد (١٠٠٠ عام) من بِناء السدّ في مضيق داريال، كان البحر قد فعل مفعوله في مياه بحر قزوين.

وبما أنّه بحرٌ مُغلق لا يتّصل ببِحار العالَم ومحيطاتها، فقد تناقصت مياهُه وانحسرت عن شواطئه، مُتراجعةً نحو القاع، فانكشف جزءٌ مُدرَّج على طُول امتداد تعاريج الساحل، وظهر بذلك شريط ساحلي ضَيّق بين خطّ ماء البحر الجديد وأقدام جبال قوقاز عند (دربند)، وصار الرومان البيزنطيّون والأتراك يَتدفّقون على شمال فارس عِبر هذا الشريط الساحلي الذي بلغ اتساعه ٣٠ ميلاً بين بحر قزوين وجبال قوقاز.

لذلك أمر (أنوشيروان) ببِناء جِدار من الحَجَر بين مياه بحر قزوين وأقدام الجبال، بعَرض هذا الشريط الساحلي، حتّى التَحَم الجِدار تماماً بجبال قوقاز، وبذلك عاد لسدّ كورش مفعوله مرّةً أخرى (١) .

جدار (دربند) (٢)

ويَجدُر بنا و نحن على وَشَك الانتهاء من حديث ذي القَرنَينِ، أنْ نتحدّث شيئاً عن السُدود المعروفة في العالَم القديم وربّما اشتبهت بسدّ ذي القَرنَينِ الآتي في القرآن الكريم:

____________________

(١) مفاهيم جغرافيّة، ص ٣١٤ - ٣١٥.

(٢) دربند، مدينة في داغستان على ساحل بحر قزوين غرباً، سَمّاها العرب (باب الأبواب) مشهورة بأَسوارها التي تَسدّ المـَمرّ بين البحر والجبل، احتلّها المـُسلمون عام (٢٢ هـ / ٦٤٣ م) وكانت آخر مدينة على حُدود إيران الشماليّة حتّى عهد فتحعلي شاه قاجار فاستلبها الرُوس عام ١٧٩٦ م.

٥٠٩

منها: (جدار دربند) أو (حائط قوقاز) الذي بناه المـَلِك الساساني أنوشيروان في امتداد جبال قوقاز حتّى مياه بحر قزوين في طول سبعة فراسخ، سدّاً لهَجمات أَقوام هَمَج كانوا وراء السدّ، كانوا يُغيرون على حدود مَمالك فارس، فصدّهم ببِناء هذا الحائط العظيم، وجَعل له باباً ضَخماً كان يُوصد بوجه المـَغول والتتار، واشتهر بباب الأبواب.

وكانت مدينة (دربند) والتي بَناها أنوشيروان في نَفس المكان، قد سُمّيت بنفس الاسم، وهي اليوم عاصمة جمهوريّة (داغستان) على ساحل البحر (١)، لقد كانت الحروب دامية بين مُلوك فارس والقبائل الوَحش خَلف جبال قوقاز مُنذ عهد بعيد، حيث أَطماع تلك الأَقوام الصحراويّين في ثَراء منطقة آذربيجان وأرمينيّة وداغستان وكرجستان وسائر البلاد الخِصبة الغنيّة بالحَرث والنَسل.

وكان المـَلِك الساساني (قباد) (والد أنوشيروان) كان قد شَنّ حَملاته الدفاعيّة ضدّ أقوام التتر؛ ليَمنعهم عن إغارة البلاد، وكانوا يُغيرون عِبر حُدود مَمالك فارس حتى نهر كورا (كورش القديم)، فحاربهم (قباد) ومَزَّق شملَهم في حروب دامية، وقَتَلهم شرَّ قتلة وسبى وغَنِم الكثير من أموالهم، وهكذا كانت الإغارات والهجمات ظلّت مُستمرّةً بين حين وآخر حتى جاء دور (أنوشيروان) وتَسنَّم الحُكم، فكان ممّا شَدَّ العَزم على إنهاء تلك العَرقلة، أنْ قام بتشييد حائط متين يَحجز دون إغارات الأَقوام الهَمَج نهائيّاً، وليريح شَعبه من المـُزاحمينَ طول حُقبات (٢) .

وفيما بين عامَي(٥٣١ - ٥٧٩ م) (أي بعد بِناء سدّ كورش بأَلف عام) وجَدَ المـَلِك أنوشيروان أنّ السدّ القديم لم يَعد يمنع المـُغيرينَ عن فارس، خصوصاً وأنّ النوعيّة قد تغيّرت، فقد أُضيف إلى أقوام التتر والمـَغول، العنصر الروماني والتركي، وكان بحر قزوين قد أَخذ في الانخفاض والانحسار عن أقدام جبال قوقاز؛ نظراً لأنّه بحر مُغلق لا يتّصل بالمـُحيطات، فقد تناقصت مياهه وانحسرت عن شواطئه نحو القاع، فانكشف جُزء مُدرَّج على طول امتداد تعاريج الساحل، وظهر بذلك شريط ساحليّ ضيّق بين خطّ ماء البحر الجديد وأقدام جبال القوقاز عند (دربند) وصار الرومان البيزنطيّون والأتراك، مع البقايا

____________________

(١) لغت نامه دهخدا، حرف الدال، ص ١٠٥٥٤.

(٢) تأريخ إيران، ص ٢٠٥ - ٢٠٦ و ٢١٥.

٥١٠

من أقوام التَتَر الهَمج يتدفّقون على شمال فارس، عِبر هذا الشريط الساحلي الذي بلغ اتّساعه (٣٠ ميلاً) (١) بين بحر قزوين وجبال قوقاز.

لذلك قام أنوشيروان ببِناء جِدار متين من الصخور الغِلاظ، مُمتدّاً من سُفوح جبال قوقاز حتّى مياه البحر، وآخِذاً فيه بعض الشيء - على ما ذَكَره المسعودي والحَموي - (٢) حتّى التَحم الجِدار مع الجبال تماماً.

* * *

وهل كان أنوشيروان هو الذي تَبنّى بناء جِدار دربند، أَم كان هو القائم بتجديد بنائه بعد انهيارات حَصلت في أَطرافه وتَضعضع وأشرف على الخراب، فأعاد أنوشيروان بِناءه على أُسس متينة وعلى استحكام بالغ بَقيَ طيلة قرون، (وقد كان قائماً حتّى عهد المسعودي سنة ٣٢٣ هـ )؟

يبدو مِن كتاب تأريخ كرمان: أنّ الجِدار كان قد بُني قَبل ذلك بما أَثّر فيه طول العهد

____________________

(١) حسب تقديره الآن وقد انحسر البحر أكثر، وقد قَدَّره الحَموي آنذاك على عهد المـَلِك أنوشيروان بسبعة فراسخ، كلّ فرسخ ثلاثة أميال اليوم، فقد اتّسع هذا الشريط بعد أَلفي عام بعَرض عشرة فراسخ.

(٢) قال الحَموي: وعلى مدينة باب الأبواب (دربند) سور من الحجارة مُمتدّ من الجبل طولاً، ومع طول السور فقد مُدّت قطعة في البحر شبه أنف طولاني لمنع مِن تقارب السُفن من السور، وهي مُحكَمة البِناء موثّقة الأَساس من بِناء أنوشيروان، وهي أحد الثغور الجليلة العظيمة؛ لأنّها كثيرة الأَعداء الذين حَفُّوا بها من أُمم شتّى وأَلسِنة مختلفة وعدد كثير.

قال: وأقام أنوشيروان يبني الحائط بالصخر والرصاص، ثُمّ قاده في البحر، وقد أَحكم هذا المـُمتدّ في البحر بحيث لا يَتهيّأ سلوكه، وقد بَناه بالحجارة المنقورة المـُربّعة المـُهندّمة، لا يُقِلُّ أَصغَرَها خمسون رجلاً، وقد أُحكمت بالمسامير والرصاص، وأُلقيت في قَرار البحر حتى اعتلى السور على وجه البحر بما استوى مع الذي في البرّ في عَرضه وارتفاعه.

وقُدِّر طول الحائط من البحر إلى سَفح الجبل بسبعة فراسخ، معجم البلدان، ج ١، ص ٣٠٣ - ٣٠٥.

وذَكَر المسعودي أنّ كسرى أنوشيروان بنى السور من جَوف البحر بمقدار ميل (٤٠٠٠ ذراع) بالصخر والحديد والرصاص، ويُسمّى هذا المـَوضع من السور في البحر: الصدّ. وهو باقٍ إلى وقتنا هذا، وهو سنة (٣٣٢ هـ ) مانِعاً للمـَراكب في البحر إنْ وردت من بعض الأعداء. ثُمّ مَدَّ السور في البرّ مابين الجبل والبحر.

وزاد: أنّه مَدَّ السور حتى أعالي الجبال ومنخفضاته وشِعابه (أي سَدَّ جميع الخلل والفُرج هناك) نحواً من أربعين فرسخاً إلى أنْ ينتهي إلى قلعة (طبرستان)، مُروج الذهب، ج ١، ص ١٧٦ و ٢٦٤.

قلتُ: ولعلّه الصاروج بدل الرصاص وقد التَبَس عليهم، لوجود المـُشابَهة شكليّاً وبعد مرور ألف عام على بِنائه، والصاروج: خليط من حجر الكِلس وأَملاح الكلسيوم والباريون مَحروق القَصَب وغيرها، يُستعمل في طِلاء الجدران والأحواض والحمّامات، صَنعة قديمة استُخدمت في أُسُس البِنايات الضَخمة وأَعمدة الجسور ولمخازن المياه؛ لمقاومتها تجاه تأثير الرطوبة واستحكامها عن كلّ مؤثّرات الجوّ والمـُحيط، وهي على مقاومة الإسمنت في هذا العصر.

٥١١

مِن التَضعضع والإشراف على الانهيار، فكان أنوشيروان قام بتَرميمه وتجديد عمارته.

جاء فيه: أنّ شاهنشاه إيران أنوشيروان عَمَد من (المدائن) عاصمة مُلوك الفُرس، قاصداً مدينة باب الأبواب لتَرميم السدّ في منطقة (شروان) (١) ، فأَخذ طريقه على ساحل الخزر ومعه العُمّال والمهندسون لعمارة السدّ، وأنفق أموالاً طائلة، لكن المشروع استنفدها دون الاكتمال، وبعد التدبُّر والمـُشاورة رأى المـَلِك أنّ أَحداً من عُظماء مَملكته لا تَسَعه المـُساهمة في إكمال المشروع الجَلَل، سِوى الأمير (آذرماهان) وكان والياً على بلاد كرمان من قبل السلطان، وكانت بلاد كرمان يومذاك غنيّة بالثروات الطبيعيّة والزراعيّة بما يَفوق سائر البلاد.

غير أنّ المـَلِك لم يَرُقه تكليف مُوظّفيه بأكثر من المـُقرّر الرسمي المفروض عليهم، حيث كان خِلاف العَدل السُلطاني؛ ولذلك عَزَم على المسير إليه في أَلف من خواصّه المهندسينَ والعُمّال الفنّيينَ، حتّى ورد (إيلغار كواشير) (٢) نازلاً في دار الأمير، فوَعَدهم بالمـُساهمة في المشروع بما يكفي مؤنة إكمال السدّ نهائيّاً... ذكروا أنّ السدّ اكتمل بما بَذَله أمير كرمان آنذاك (٣) .

شكوك حول كورش: هل هو ذو القَرنَينِ؟

ربّما تَشكّك البعض في الرأي القائل بأنّ ذا القَرنَينِ - الذي وَصَفه القرآن بالصلاح - هو كورش الكبير المـَلِك الفارسي العظيم؟!

وعُمدة مَسارب الشكّ هو جانب سلوكه السياسي المـُتسامح مع أصحاب الأديان وحتّى مع عَبَدة الأوثان، ومن غير أنْ يسير سعياً وراء إعلاء كلمة الله في الأرض، يشهد لذلك سلوكه الخاصّ مع البابليّينَ وإفساح المجال لهم في عقيدتهم الأُولى ولا سيّما تَزلّفه في تكريم كبير آلهتهم (مردوك) - حتّى أنّه عَدّ نفسه مَوضعاً لعنايته في مَنشورٍ عام، كما رَدّ إلى عَبَدة الأوثان كلّ ما نُهب منهم من أصنام وجَعلها في معابد كانت تُسمّى (شادي

____________________

(١) شروان: منطقة في الجنوب الشرقي من بلاد قوقاز بين أعالي نهر أرس وكورا كانت في القديم من نواحي باب الأبواب.

(٢) إيلغار، لفظة تُركية تَعني: المـُعسكر - الحامية، وكواشير اسم قديم لمدينة كرمان الفعليّة.

(٣) راجع: كورش كبير، ص ٢٨٣ - ٢٨٤ الهامش، عن تأريخ كرمان، ص ٢٤.

٥١٢

دل) أَي فَرحة النَفْس.

يقول في ذلك الأُستاذ مُحمّد خير رمضان: تلك المقاطع التأريخيّة إنْ دلّت على شيء فإنّما تدلّ على وثنيّة كورش وتعظيمه للآلهة وإفساح المـَجال لعبادتها لكلّ الشعوب المـُقدِّسة لها، ويكفيك ما قاله في منشوره العام: (أَرجعتُ الآلهة التي نُقِلَت إليها (معابد بابل) إلى مواطنها... وأَعدتُ إلى سومر وأَكَد آلهتها التي حُملت إلى بابل ووضعتُها في قصورها التي تُسمّى (شادي دل) وبذلك أَنهيتُ غضب الآلهة بأمر مِن مردوك الإله الكبير - ومردوك هو صنم بابلي.

وهذا يُقوّي ما ذَهب إليه المؤرّخون ممّا قيل عن عقيدته وإعطائه الحريّة الدينيّة كيفما كانت، وبخاصّة عبادة الأصنام، لا كما هي صفات ذي القَرنَينِ - حسبما جاءت في القرآن - مِن أنّه كان يُحارب هذا الشرك، ولا يَتعامل معهم ولا يَقبل منهم إلاّ الإيمان أو الحرب!! (١)

ومن ناحية أُخرى هي جانب بِناء السدّ - الذي ذَكَره القرآن - تَشَكّكوا في كونه عمل كورش بالذات، ولعلّه قام بترميمه نظير ما عَمِله أنوشيروان بعد ألف عام، ومُستند الشكّ أنّه لم يأتِ في التأريخ ذِكر عن بناء هذا السدّ على يد كورش، في حين أنّه لم يكن بذلك البعيد بحيث يُجهل تأريخ حياته ولا سيّما في مِثل هذا العمل الضخم، كما لم يَذكره هو في مَفاخره، حيث ذَكَر مفاخر هي أقلّ شأناً من بِناء هذا السدّ العظيم.

يقول الأُستاذ مُحمّد خير رمضان: لا دليل لاستناد بِناء السدّ إلى كورش، وعُمدة ما يستدلّون به: أنّ القبائل المـَغوليّة كانت لا تَتَكاسل عن الانقضاض على مناطق آسيا الغربيّة خلال القرن السادس قبل الميلاد... وكلّ صفحات التأريخ تَذكر لنا أنّ ثَمّة توقّفاً مُفاجئاً حَدَث في عمليّة تدفّق هذه القبائل البدائيّة المـُتوحّشة... وتُشير أصابع الدقّة التأريخيّة نحو الحُقبة التي ظهر فيها كورش الهخامنشي.

هذا هو الدليل الوحيد الذي استند إليه أصحاب القول بأنّ السدّ من عَمل كورش

____________________

(١) ذو القَرنَينِ، القائد الفاتح والحاكم الصالح لمـُحمّد خير رمضان يوسف، ص ٢٣٦ - ٢٣٨.

٥١٣

الكبير.

ولكن: هل يعني توقّف هذه القبائل: أنّ كورش بنى السدّ؟!

لماذا لا نقول: إنّ السدّ كان مَبنيّاً من قَبل، ولكنّ الحوادث الطبيعيّة أَثّرت في جوانب السدّ، كأَن تكون مياه بحر قزوين قد انحسرت عن شواطئه فكانت القبائل تغزو من الساحل الذي كان مكانه الماء، ثُمّ أُعيد ترميم السدّ في عهد ذلك المـَلِك، وَوَقفت هجمات القبائل المـُتوحّشة على تلك المنطقة بعد هذا؟!

وهذا نظير ما حدث على عهد أنوشيروان بعد ألف عام... أَفَليس من المعقول أنْ يكون كورش قد فعل مِثل صنيع أنوشيروان في ذلك، ويكون السدّ - بطبيعة الحال - قد بُنيَ قبله بزمن طويل؟!

قال: إنّني أرى ما ذكرتَه أَسلم، لأسباب:

١ - لم يَثبت تأريخيّاً قطّ أنّ كورش قد بنى سدّاً هناك...

٢ - لم يَذكر كورش في الوثيقة السابقة التي كَتَبها، أنّه بنى السدّ... رُغم أنّ هذا يُعدّ عَملاً عظيماً جدّاً لا يرتقي إليه أيّ عَمل من أعمال كورش السابقة...

فكيف يَهمل كورش ذِكر هذا السدّ - والذي استغرق بناؤه عشر سنوات كما يقول الأُستاذ خضر - والذي هو أَبلغُ آثاره على مرّ السنين، ثُمّ يَذكر أشياء أُخر أَبسط منه بكثير، والتي يُشارك فيها مُلوك غيره؟!!

٣ - ليس كورش بذلك المـَلِك القديم جدّاً حتّى تخفى أخباره على جزيرة العرب... في حين يجب أنْ لا ننسى أنّ قَصَص الفُرس كانت مُنتشرةً بين العرب، وكان لهم أنصار بينهم، وقد تَأثّروا بأَدبهم ورواياتهم وقَصَصهم الشعبيّة... وتُحدّثنا السيرة النبويّة الشريفة عن النضر بن الحارث، الذي قَدِم من الحيرة وكان قد تَعلّم بها أحاديث مُلوك فارس وأحاديث رستم واسفنديار... وكان يُحدّث بها إثر ما يقوم رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله) من مجلسه حينذاك...

وإذا كان كورش من أعظم مُلوك فارس، فلابدّ أنّه كان له نصيب من بين تلك

٥١٤

الأحاديث...

قال: هذا ما بدا لي خلال هذا البحث، والقارئ حرّ فيما يَرتئيه، وبخاصّة بعد أنْ بُيّنت له كلّ الأوجه بدقّة وإنصاف... (١)

* * *

إذن: فمن هو ذو القرنين؟

يرى الأُستاذ رمضان: إنّه رجل آخر، عاش في عصور غابِرة، قبل تُبّع، وقبل الإسكندر، وقبل كورش، فقد كان في زمن نبي الله وخليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام (أي قبل كورش هذا بألف عام) كما ذَكَره وصَحّحه ثقات المؤرّخين!!

إذن فذو القرنين رجل آخر ضاعت أخباره على مرّ التاريخ ولم يسلم منها إلاّ ما ذكره الله - عزّ وجلّ - وما ثبت عن الرسول (صلّى اللّه عليه وآله) ونتف أخرى قليلة من التاريخ، اعتمدها بعض الثِقات من المؤرّخينَ (٢) .

وهنا أَورد روايات وحكايات - أسندها إلى السَلف - بشأن ذي القَرنَينِ:

ذو القَرنَينِ في الروايات

قال: وأنا هنا سأَصِل بالقارئ إلى النتيجة، من تلك الروايات إلى ما سَنَستقرّ عليه بعونه تعالى.

فقد ذكر الأزرقي وغيره: أنّ ذا القَرنَينِ أَسلم على يدي إبراهيم الخليل (عليه السلام) وطاف معه بالكعبة المـُكرّمة هو وإسماعيل (عليه السلام).

ورُوي عن عبيد بن عمير وابنه عبد الله وغيرهما: أنّ ذا القَرنَينِ حَجَّ ماشياً، وأنّ إبراهيم لمـّا سَمع بقُدومه تلقّاه، فلمـّا اجتمعا دعا له الخليل ورضّاه وأنّ الله سَخَّر لذي القَرنَينِ السَحاب يحمله حيث أراد.

وقال إسحاق بن بشر عن عثمان بن الساج عن خصيف عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان ذو القَرنَينِ مَلِكاً صالحاً رضيَ الله عملَه وأثنى عليه في كتابه وكان منصوراً وكان

____________________

(١) المصدر: ص ٢٤٢ - ٢٤٤.

(٢) المصدر: ص ٢٤٨.

٥١٥

الخضر وزيره، وذَكَر أنّ الخضر (عليه السلام) كان على مُقدّمة جيشه، وكان عنده بمنزلة المـُشاور... (١)

وروى الفاكهي من طريق عبيد بن عمير - أحد كِبار التابعين -: أنّ ذا القَرنَينِ حجَّ ماشياً فسَمع به إبراهيم فتلقّاه، ومن طريق عطا عن ابن عباس: أنّ ذا القَرنَينِ دَخَل المسجد الحرام فسلّم على إبراهيم وصافحه، ويُقال: إنّه أَوّل من صَافح (٢) .

ومن طريق عثمان بن الساج: أنّ ذا القَرنَينِ سأل إبراهيم أنْ يدعو له. فقال: وكيف وقد أفسدتم بئري! فقال ذو القَرنَينِ: لم يُكن ذلك عن أمري، يعني أنّ بعض الجُند فعل ذلك بغير عِلمه! وذكر ابن هشام - في التيجان -: أنّ إبراهيم تَحاكم إلى ذي القَرنَينِ في شيء فحَكم له! وروى ابن أبي حاتم من طريق علي بن أحمد: أن ذا القَرنَينِ قَدِم مكّة فوجد إبراهيم وإسماعيل يَبنيان الكعبة، فاستفهَمهُما عن ذلك، فقالا: نحن عَبدانِ مَأموران، فقال: مَن يشهد لكما؟ فقامت خمسة أَكبُش فشهدت! فقال: قد صَدَقتُما، قال ابن حجر: فهذه الآثار يَشدّ بعضها بعضاً وتدلّ على قِدَم عهد ذي القَرنَينِ (٣) .

إزاحة شُبُهات

تلك شُبُهات أُثيرت حول الرأي القائل بأنّ ذا القَرنَينِ - الذي جاء وَصْفه في القرآن - هو كورش الهخامنشي المـَلِك الفارسي العظيم!!

لكنّها لم تَحسب حسابها الدقيق، ومِن ثَمّ فإنّ الترجيح مع هذا القول المـُعتَمد على أُصول متينة، أمّا الشُبهات أو الشُكوك فلا مَجال لها بعد إحكام الدليل:

____________________

(١) اُنظر: البداية والنهاية لابن كثير، ج ٢، ص ١٠٣.

(٢) وهكذا روى الشيخ في أماليه (المجلس ٨ والحديث ٢٥ - ترتيب الأمالي، ج ٢، ص ٤٥، رقم ١٠ - ٦٠٣) بإسناده إلى أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (أوّل اثنين تَصافحا على وجه الأرض ذو القَرنَينِ وإبراهيم الخليل، استقبله إبراهيم فصافحه...).

وفي قَصَص الأنبياء للراوندي: وكان ذو القَرنَينِ أَوّل المـُلوك بعد نوح (عليه السلام) مَلَك مابين المشرق والمغرب، بحار الأنوار، ج ١٢، ص ١٧٥.

قال الصدوق: والصحيح الذي أَعتقده في ذي القَرنَينِ أنّه لم يُكن نبيّاً، وإنّما كان عبداً صالحاً أَحبّ الله فأحبّه الله ونصح لله فنصحه، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (وفيكم مِثله) - يعني نفسه الشريفة، بحار الأنوار، ج ١٢، ص ١٨١، رقم ٩.

(٣) اُنظر: فتح الباري بشرح البخاري، ج ٦، ص ٢٧١.

٥١٦

أَوّلاً - ليس في الروايات أو الحكايات التي سَردوها لغرض إثبات قِدَم عهد ذي القَرنَينِ بما يُقارن عهد إبراهيم الخليل، ليس فيها ما يُفيد اليقين؛ لضعف الأَسناد واضطراب المـُتون إلى حدّ بعيد.

يقول الدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي - ردّاً على اختيار الأُستاذ مُحمّد خير رمضان يوسف -: (كم كنتُ أتمنّى على الأُستاذ... أنْ يأتي على رأيه بأدلّة علميّة يقينيّة، وهذه لا تكون إلاّ فيما أُخذ من القرآن والحديث الصحيح، أمّا اعتماده على كلام مؤرّخينَ ومفسّرينَ، لا دليل عليه من المصادر المـُعتَمدة، فهذا لا يُقبل في البحث العلمي المنهجي اليقيني.

ولذلك نحن مُضطرّون أنْ نُخالف الأُستاذ مُحمّد خير في ترجيحه عن ذي القَرنَينِ، من أنّه كان يعيش في زمن إبراهيم (عليه السلام) كما أنّنا مضطرّون إلى تَرك كلّ الأقوال المذكورة في كُتب التأريخ والتفسير عن التقاء ذي القَرنَينِ بإبراهيم (عليه السلام) في فلسطين أو الحجاز؛ لكونها غير مذكورة في حديث واحد صحيح، يُمكن للإنسان أنْ يعتمده ويَطمئنّ به، والله أعلم) (١) .

كورش هو ذلك العبد الصالح؟

جاء في وَصْف القرآن لذي القَرنَينِ ما يَنمّ على صلاح وإيمان واعتقاد باللّه العظيم، وأنّه كان على بصيرة من أَمره ومَوضع عنايته تعالى فيما انتهجه من الحياة السياسيّة الاجتماعيّة، وفي سبيل إحياء كلمة اللّه في الأرض، بما آتاه اللّه من القدرة والحِكمة وحُسن التدبير:

( إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً... )

( قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً... )

____________________

(١) مع قَصَص السابقينَ في القرآن (٢) من كنوز القرآن (٦) - دار القلم - دمشق، ط ٢، ١٤١٦ هـ / ١٩٩٦ م. الدار الشاميّة، بيروت، دار البشير بجدّة، المـَملكة العربيّة السعوديّة.

٥١٧

( قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ... هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي... ) (١)

كان قد مَكّنه اللّه في الأرض وكان قد استخدم سلطانه هذا في سبيل عمارة الأرض وإفشاء السلام فيها، وبذلك وبنعمته تعالى أَصبح عبداً شكوراً!

وهل تَتَصادق صفاتٌ كهذه مع سيرة كورش السياسيّة آنذاك؟

المـُمعِن في سيرة كورش بدقّة يَجده على الوصف الذي جاء في القرآن الكريم:

كان مُؤمناً معتقداً باللّه العظيم وأنْ لا حول ولا قوّة إلاّ به، وأنّه تعالى هو الذي رَعاه وأَلهمه الخير وهَداه إلى سبيل الرشاد، في إصلاح البلاد والعناية بشؤون العباد، الأمر الذي يبدو بوضوح من سيرته الحكيمة مع مختلف شعوب الأرض:

يقول الدكتور خضر: ويَميل كثير من المؤرّخينَ إلى اعتبار أنّ كورش كان مَلِكاً يَتّصف بالعقل والحزم والعزم والرأفة في آن واحد، وأنّه كان يَمضي إلى آخر المـَطاف في أيّ عمل يبدأه، ولا يَترك أيّ عمل دون إتمام. وكان يلجأ إلى العقل أكثر من لجوئه إلى القوّة.

وكان يعامل الشُعوب المـَغلوبة معاملة حَسنة تتّصف بالرأفة والشفقة، بخلاف ما كان عليه الحال عند المـُلوك الآشوريّين والبابليّين، وكان يَعامل المـُلوك المـَهزومينَ مُعاملة طيّبة جدّاً لدرجة أنّهم كانوا يُصبحونَ أصدقاء حميمينَ له، وكانوا يُقدِّمون له العَون إذا تطّلب الأمر.

وكان العدل يُرفرف على جميع الشعوب التي خضعت له من نهر السند حتى بحر إيجه (وهي مَسافة تقرُب من طول الولايات المـُتّحدة الأمريكيّة من الشرق إلى الغرب)... ومن خليج عدن حتى صحراء بحر قزوين، وكان النظام الذي أَرسى الحاكم العظيم كورش دعائمه في هذه الإمبراطوريّة المـُترامية الأطراف عَمَلاً خارقاً يُعدّ من الأعمال الخالدة المجيدة في تأريخ الشرق بل في تأريخ العالَم كلّه...

حقّاً... لقد كان حاكماً رحيماً مُستنيراً يَدعو إلى الخير... وكان يُلقّب بالمـَلِك

____________________

(١) الكهف ١٨: ٨٤ و٨٦ و٩٥ و٩٨.

٥١٨

الأكبر... وظلّ هذا تَقليداً عامّاً لكلّ عاهل فارسي.

ويرى العلاّمة أبو الكلام آزاد: أنّ كورش كان يُطبّق تعاليم الفيلسوف والحكيم المشهور (زرادشت) والتي تدعو إلى الخير وتَعتقد بالحياة الأُخرى وبقاء الروح، كما يرى أبو الكلام آزاد في تعاليم (زرادشت) أنّها مُحور دارت عليه الدعوة إلى طهارة النفس وحُسن العمل، يرى فيها أيضاً تَحريماً لعبادة الأصنام في أيّ شكل من الأشكال.

ومن دلائل تَديُّن الحاكم العظيم كورش ما كَشفه الأُستاذ (هرتزفلد) ( Herzfeld ) مِن بقايا مَعبد قديم، يُعتَقد أنّ كورش هو الذي بَناه في مدينة (باساركاد) ويقوم هذا المـَعبد على مَقربة من قصر المـَلِك، وقبره في تلك المـَنطقة، وهذا المـَعبد يُعبِّر عن مَبلغ أَهميّة هذه الديانة في عهد كورش ومَن بعده، ويراها المـُؤرّخون ديانةً قديمةً كانت ذات أهميّة كبيرة عند أهل فارس القديمة، وأنّها دَعت كلّ إنسان وحثّته على اختيار أحد الطريقَينِ:

إمّا أن يَملأ قلبَه بالخير والنور أو يَنغمس في الشرّ والظُلمة، وعلى كلٍّ فسَيُلاقي جزاءه ويُحاسب على ما آتاه، ويَعتبر المؤرّخون هذه العقيدة أَقدم ديانة ظهرت في آسيا تعتقد بالحِساب بعد البعث.

قال الدكتور خضر: ولعلّنا نجد في قول ذي القَرنَينِ ما يُشير إلى ذلك:

( قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْراً ) .

أي هناك إلهاً، سَيرِد إليه كلّ إنسان يوم البعث للحساب، فإن كان ظالماً في حياته فسوف يعذّبه الله عذاباً شديداً.

وقد ذَكَرت كُتب المؤرّخينَ أنّ كورش لم يَعمل السَلب والنهب في القبائل الأَيونيّة (١) التي أَخضعها، ولم يَسمح بالنهب والقتل فيما آل إليه من مُدُن ومَمالك، وكان بذلك على العكس تماماً من المـُلوك الآشوريّينَ... فإنّهم جعلوا المـُدُن التي فتحوها في مستوى الأرض، وكانوا يتبجّحون بأنّهم تركوها خَراباً يباباً، فلم يَعد يُسمع فيها نُباح كلب

____________________

(١) أيونيّة: منطقة وسيعة في غرب آسيا الصُغرى تشمل السُهول الساحليّة لبحر إيجة والبحر الأسود وجُزر منتشرة هناك، كان يسكنها المهاجرون اليونانيّون القُدامى وأَسّسوا هناك مَملكةً وسيعةً مُقتدرة حالفت ليديا ومَلِكها (كرزوس) العاتي على كورش، لكنّ كورش سامَحَهم بعد الاستيلاء عليهم جميعاً.

٥١٩

أو صياح ديك، وقد وَرد نفسُ الشيء عن مُلوك عيلام.

وحين رأى الناس سُلوك كورش، وقارنوا ذلك بما كان سائداً ومُتَّبعاً آنذاك، كانوا يَعتبرونه حاكماً عادلاً مُنصفاً، طيّب القلب يُحبّ الخير للناس (١) .

ويَعتبره المؤرّخونَ أَوّل مَن أَرسى الأُسس الأخلاقيّة في العالَم القديم، وأدخل أُسلوباً جديداً لمعاملة المـَمالك التابعة والشُعوب المـَغلوبة (٢) .

ويَذكر المؤرّخ اليوناني الكبير (هيرودتس) أنّ كورش - بعد إخضاع بابل - توجّه نحو الشمال الغربي لإعادة الأَمن على البلاد، وإخضاع القبائل الوَحْش (ماساجيت - ماجوج) التي كانت تَشنّ إغارتها على البلاد الآمِنة، يقول: وكان قد تَوجّه لذلك الصَوب بدافع إلهي... أَوّلاً: أَصالة نزعته الإلهيّة... وثانياً: ثقته النفسيّة اعتماداً على ما مكّنه الله تعالى من القوّة والسطوة وقدرته الفائقة على إخضاع كلّ الصِعاب (٣) .

ويقول (ول ديورانت): كان كورش من الحُكّام الذين خُلقوا ليكونوا حُكّاماً، والذين يقول فيهم (إمرسن): كان الناس يَبتَهجون عندما يَرَون هؤلاء يُتوَّجون.

فلقد كان مَلِكاً بحقٍّ في رُوحه وأَعماله، قديراً في الأَعمال الإداريّة والفُتوح الخاطِفة المـُحيّرة، كريماً في معاملة المـَغلوبينَ، مَحبوباً لدى أعدائه السابقينَ، فلا عجب والحالة هذه أنْ يتّخذ اليونان منه مَوضوعاً لعدّة روايات بُطوليّة وأنْ يَصفوه بأنّه أكبر أبطال العالم (٤) .

كان وَسيمَاً بهيّ الطَّلعة - وقد اتّخذه الفُرس نَموذجاً للجمال البشري حتى آخر أيّام فُنونهم القديمة - (٥) وأنّه أَسّس الأُسرة الهخامنشيّة أُسرة المـُلوك العِظام التي حَكَمت بلاد الفُرس في أزهى أَيّامها وأَعظمها شُهرةً، وأنّه نَظَّم قوّات ميديا وفارس الحربيّة، فجَعَل منها

____________________

(١) مفاهيم جغرافيّة، ص ٢٥١ - ٢٥٥.

(٢) تأريخ إيران، ص ٧١ - ٧٢.

(٣) (أَنكيزه هاي مُتعددي داشت، يكى اصل و تبار إزدي وي، ديكر بيروزيهاي بي در بي...). تأريخ هيرودت، ص ٩٩.

(٤) قصة الحضارة، ج ٢، ص ٤٠٣.

(٥) يَبدو مِن وصف (ول ديورانت) عن الشعب الفارسي أنّهم كانوا أَجمل شُعوب الشرق الأدنى في الزمن القديم، فالآثار الباقية مِن عهدهم تُصوِّرهم شعباً معتدل القامات قويّ الأجسام، قد وهبتهم طبيعة البلاد شِدّةً وصَلابةً، ولكن ثروتهم الطائلة رقّقت طِباعهم، وهم ذَوو ملامح متناسبة متناسقة، شُمُّ الأُنوف، تبدو على وجناتهم سِمات النُبل والرَوعة - ثُمّ يأتي في وصف ملابسهم الجميلة ذوات وِقار وإكبار... قصّة الحضارة - تأريخ الشرق القديم، ج ٢، ص ٤١٠.

٥٢٠

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578