شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم10%

شبهات وردود حول القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 578

شبهات وردود حول القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 578 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 297509 / تحميل: 13675
الحجم الحجم الحجم
شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

هذا.. ولسوف نرى أن أحمد أمين المصري يأخذ برأي ابن القفطي هذا. لكنه ينظر فيه إلى خصوص أئمة أهل البيتعليه‌السلام ، كما سيأتي بيانه، وبيان مدى خلطه وفساده في الفصل التالي.

وفيه دلالة على أن الفضل كان مخدوعاً، وعلى أن المأمون لم يكن مخلصاً فيما أقدم عليه..

د ـ : إنه لا بد لنا من الإشارة هنا إلى أن أكثر ثورات العلويين، التي قامت ضد المأمون ـ قبل البيعة للرضاعليه‌السلام طبعاً ـ كانت من بني الحسن، وبالتحديد من أولئك الذين يتخذون نحلة الزيدية، فأراد المأمون أن يقف في وجههم، ويقضي عليهم، وعلى نحلتهم تلك نهائياً، وإلى الأبد، فأقدم على ما أقدم عليه من البيعة للرضاعليه‌السلام بولاية العهد.

هذا.. وقد كانت نحلة الزيدية هذه ـ شائعة في تلك الفترة، وكانت تزداد قوة يوماً عن يوم، وكان للقائمين بها نفوذ واسع، وكلمة مسموعة، حتى إن المهدي قد استوزر يعقوب بن داوود، وهو زيدي، وآخاه، وفوضه جمع أمور الخلافة(١) .

وعلى حد تعبير الشبراوي: (.. فولاه الوزارة، وصارت الأوامر كلها بيديه، واستقل يعقوب حتى حسده جميع أقرانه..)(٢) .

____________

(١) البداية والنهاية ج ١٠ / ١٤٧، وغيره من كتب التاريخ، فراجع فصل: مصدر الخطر على العباسيين.

(٢) الإتحاف بحب الأشراف ص ١١٢.

٢٠١

بل كان: (لا ينفذ للمهدي كتاب إلى عامل، فيجوز، حتى يكتب يعقوب إلى أمينه وثقته بإنفاذه.)(١) .

وقد بلغ من نفوذ يعقوب هذا.. أن قال فيه بشار بن برد أبياته المشهورة، التي قدمناها، والتي يقول فيها: (إن الخليفة يعقوب ابن داوود).

وقد سعي بيعقوب هذا إلى المهدي: وقيل له: (.. إن الشرق والغرب في يد يعقوب، وأصحابه، وإنما يكفيه أن يكتب إليهم ؛ فيثوروا، في يوم واحد، فيأخذوا الدنيا)(٢) .

وذلك لأنه قد: (أرسل يعقوب هذا إلى الزيدية، وأتى بهم من كل أوب، وولاهم من أمور الخلافة في المشرق والمغرب كل جليل، وعمل نفيس، والدنيا كلها في يديه..)(٣) .

وإذا ما عرفنا أن معاوني يعقوب إنما كانوا هم: متفقهة الكوفة، والبصرة، وأهل الشام(٤) .. فإننا نعرف أن الاتجاه الزيدي سوف يؤثر كثيراً، وكثيراً جداً على الثقافة العامة، والاتجاهات الفكرية في ذلك العصر ـ كما حدث ذلك فعلاً.. حتى لقد صرح ابن النديم بأن:

(أكثر علماء المحدثين إلا قليلاً منهم، وكذلك قوم من الفقهاء، مثل: سفيان الثوري، وسفيان بن عيينة كانوا من الشيعة الزيدية.)(٥) وقد صرح المؤرخون أيضاً: بأن أصحاب الحديث جميعهم، قد

____________

(١) الطبري ج ١٠ / ٤٨٦، والكامل لابن الأثير ج ٥ / ٦٠، ومرآة الجنان ج ١ / ٤١٨.

(٢) الكامل لابن الأثير ج ٥ / ٦٦، ٦٧.

(٣) الطبري ج ١٠ / ٥٠٨، طبع ليدن، والوزراء والكتاب للجهشياري ص ١٥٨، والكامل لابن الأثير ج ٥ / ٦٦.

(٤) الطبري، طبع ليدن ج ١٠ / ٤٨٦.

(٥) الفهرست لابن النديم ص ٢٥٣.

٢٠٢

خرجوا مع إبراهيم بن عبد الله بن الحسن، أو أفتوا بالخروج معه(١) .

وعلى كل حال.. فإن ما يهمنا بيانه هنا: هو أن المأمون كان يريد

____________

(١) مقاتل الطالبيين ص ٣٧٧، وغيرها من الصفحات، وغيرها من الكتب. ويرى بعض أهل التحقيق: أن المقصود هو جميع أصحاب الحديث في الكوفة. ولكن الظاهر أن المراد: الجميع مطلقاً، كما يظهر من مراجعة مقاتل الطالبيين وغيره.

والأمر الذي تجدر الإشارة إليه هنا: هو أن فرقة من الزيدية، وفرقة من أصحاب الحديث، قد قالوا بالإمامة على النحو الذي يقول به الشيعة الإمامية، عندما جعل المأمون (الرضا)عليه‌السلام ولياً لعهده. لكنهم بعد وفاة الرضاعليه‌السلام رجعوا عن ذلك: قال النوبختي في فرق الشيعة ص ٨٦:

(.. وفرقة منهم تسمى (المحدثة) كانوا من أهل الإرجاء، وأصحاب الحديث، فدخلوا في القول بإمامة موسى بن جعفر، وبعده بإمامة علي بن موسى، وصاروا شيعة، رغبة في الدنيا وتصنعاً. فلما توفي علي بن موسىعليه‌السلام رجعوا إلى ما كانوا عليه.

وفرقة كانت من الزيدية الأقوياء، والبصراء، فدخلوا في إمامة علي بن موسىعليه‌السلام ، عندما أظهر المأمون فضله، وعقد بيعته، تصنعاً للدنيا، واستكانوا الناس بذلك دهراً. فلما توفي علي بن موسىعليه‌السلام رجعوا إلى قومهم من الزيدية.) وقد تقدم قول الشيبي: إنه قد التف حول الرضاعليه‌السلام (المرجئة، وأهل الحديث، والزيدية، ثم عادوا إلى مذاهبهم بعد موته..) وغير ذلك. والذي نريد أن نقوله هنا هو: أن (الإرجاء دين الملوك) على حد تعبير المأمون (على ما نقله عنه في ضحى الإسلام ج ٣ / ٣٢٦)، نقلاً عن طيفور في تاريخ بغداد.

وفي البداية والنهاية ج ١٠ / ٢٧٦: أن المأمون قال للنضر بن شميل: ما الإرجاء؟. قال: (دين يوافق الملوك، يصيبون به من دنياهم، وينقصون به من دينهم) قال: صدقت الخ. وليراجع كتاب بغداد ص ٥١، وعمدة القول بالإرجاء (القديم) هو: المغالاة في الشيخين، والتوقف في الصهرين، فالإرجاء والتشيع، وخصوصاً القول بإمامة موسى بن جعفر، وولده علي الرضا على طرفي نقيض ومن هنا كانت المساجلة الشعرية بين المأمون المظهر لحب علي وولده، وابن شكلة المرجي، يقول المأمون معرضا بابن شكلة:

إذا المرجي سرك أن تراه

يموت لحينه من قبل موته

فـجدد عـنده ذكرى علي

وصل على النبي وآل بيته

أما ابن شكلة فيقول معرضاً بالمأمون:

إذا الشيعي جمجم في مقال

فسرك أن يبوح بذات نفسه

فصل على النبي وصاحبيه

وزيـريه وجاريه برمسه

٢٠٣

= راجع: مروج الذهب ج ٣ / ٤١٧، والكنى والألقاب ج ١ / ٣٣١، وبعد هذا. فإنه لمن غرائب الأمور حقاً، الانتقال دفعة واحدة من القول بالإرجاء إلى التشيع، بل إلى الرفض (وهو الغلو في التشيع حسب مصطلحهم، والذي يتمثل بالقول بإمامة الأئمة الاثني عشرعليهم‌السلام ) وأغرب من ذلك العودة إلى الإرجاء بعد موت علي الرضاعليه‌السلام .

وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على مدى تأثير السياسة والمال في هؤلاء الذين أخذوا على عاتقهم ـ بادعائهم ـ مسؤولية الحفاظ على الدين والذود عن العقيدة، فإنهم كانوا في غاية الانحطاط الديني، يتلونون ـ طمعاً بالمال والشهرة ـ ألواناً، حتى إن ذلك يحملهم على القول بعقيدة، ثم القول بضدها، ثم الرجوع إلى المقالة الأولى، إذا رأوا أن الحاكم يرغب في ذلك، ويميل إليه، ولهذا أسموا بـ‍ (الحشوية) يعني: أتباع وحشو الملوك، وأذناب كل من غلب، ويقال لهم أيضاً (وهم في الحقيقة أهل الحديث): (الحشوية، والنابتة، والغثاء، والغثر) على ما في كتاب: تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة ص ٨٠.

وراجع أيضاً فرق الشيعة، ورسالة الجاحظ في بني أمية، وغير ذلك.

بل لقد أطلق عليهم المأمون نفسه لفظ (الحشوية) في مناقشته المشهورة للفقهاء والعلماء المذكور في العقد الفريد والبحار، وعيون أخبار الرضا وغير ذلك. وقال عنهم الزمخشري في مقام استعراضه للمذاهب والنحل، ومعتنقيها:

وإن قلت من أهل الحديث وحزبه

يـقولون تيس ليس يدري ويفهم

ويقابل كلمة (الحشوية) كلمة (الرافضة) التي شاع إطلاقها على الشيعة الإمامية.

ومعناها في الأصل: جند تركوا قائدهم. فحيث إن الشيعة لم يكونوا قائلين بإمامة أولئك المتغلبين، سموهم ب‍ـ (الرافضة) ولذا جاء في تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ١٦١: أن معاوية كتب إلى عمرو بن العاص:

 (أما بعد. فإنه قد كان من أمر علي وطلحة والزبير ما قد بلغك، فقد سقط إلينا مروان في رافضة أهل البصرة الخ..). ومثل ذلك ما في وقعة صفين لنصر بن مزاحم ص ٣٤، فالمراد بكلمة رافضة هنا هو ذلك المعنى اللغوي الذي أشرنا إليه، فسمي الشيعة بالرافضة، لأنهم ـ كما قلنا ـ رفضوا الانقياد لأولئك الحكام المتغلبين.

٢٠٤

= يقول السيد الحميري على ما جاء في ديوانه وغيره ـ يهجو البعض:

أبـوك ابن سارق عنز النبي

وأمـك بـنت أبـي جحدر

ونحن على رغمك الرافضون

لأهـل الـضلالة والـمنكر

ولكن قد جاء في الطبري، مطبعة الاستقامة ج ٦ ص ٤٩٨، والبداية والنهاية ج ٩ ص ٣٣٠، ومقدمة ابن خلدون ص ١٩٨، ومقالات الإسلاميين ج ١ ص ١٣٠، وغاية الاختصار ص ١٣٤: أن سبب تسمية الشيعة بـ‍ (الرافضة) هو أنهم عندما تركوا نصرة زيد بن علي في سنة ١٢٢ ه‍. قال لهم زيد: رفضتموني، رفضكم الله، وهذا كذب راج على بعض الشيعة أيضاً حيث ذكروا وذكر الطبري في نفس الصفحة المشار إليها آنفاً: أن التسمية كانت من المغيرة بن سعيد، لما رفضته الشيعة.. وكانت قضيته سنة ١١٩ ه‍.

ولكن الحقيقة هي أن التسمية بالرافضة كانت قبل سنتي ١٢٢ ه‍ و ١١٩ ه‍. فقد جاء في المحاسن للبرقي ص ١١٩ طبع النجف، باب الرافضة: أن الشيعة كانوا يشكون إلى الباقر المتوفى سنة ١١٤ أن الولاة قد استحلوا دماءهم وأموالهم باسم: (الرافضة) الخ.

وجاء في ميزان الاعتدال طبع سنة ١٩٦٣ م. ج ٢ ص ٥٨٤ بعد ذكره لإسناد طويل أن الشعبي المتوفى سنة ١٠٤ ه‍. قال لأحدهم: (ائتني بشيعي صغير، أخرج لك منه رافضياً كبيراً).

وفي كتاب: روض الأخبار المنتخب من ربيع الأبرار ص ٤٠، أن الشعبي قال: (أحبب آل محمد ولا تكن رافضياً، وأثبت وعيد الله، ولا تكن مرجئياً.). بل لدينا ما يدل على أن تسمية الشيعة بـ‍ (الرافضة) كان قبل سنة المئة، فقد جاء في المحاسن والمساوي للبيهقي ص ٢١٢، طبع دار صادر وأمالي السيد المرتضى ج ١ ص ٦٨ هامش: أن لما أنشد الفرزدق أبياته المشهورة في الإمام زين العابدين، المتوفى سنة ٩٥ ه‍ قال عبد الملك بن مروان المتوفى سنة ٨٦ ه‍ للفرزدق: (أرافضي أنت يا فرزدق؟!). وعلى كل حال: فإن ذلك كله قد كان قبل قضيتي زيد والمغيرة ابن سعيد بزمان بعيد.

٢٠٥

أن يقضي على الزيدية، ويكسر شوكتهم بالبيعة للإمام الرضاعليه‌السلام بولاية العهد، ولهذا نرى أنه قد طبق اللقب، الذي طالما دعا إليه الزيدية، واعترف به العباسيون، بل ودعوا إليه في بدء دعوتهم ودولتهم، ألا وهو لقب: (الرضا من آل محمد)، طبقه على علي ابن موسىعليه‌السلام ، فسماه: (الرضا من آل محمد)(١) . فأصبحت بذلك حجته قوية على الزيدية، بل لم يعد لهم حجة أصلاً. وأصبح يستطيع أن ينام قرير العين، إذ قد أصبح (الرضا من آل محمد) موجوداً، فالدعوة إلى غيره ستكون لا معنى لها البتة. ولسوف تكون مرفوضة من الناس جملة وتفصيلا. وكان ذلك بطبيعة الحال السبب الرئيسي في إضعاف الزيدية، وكسر شوكتهم، وشل حركتهم.

والذي ساهم إلى حد كبير في إضعافهم، وشل حركتهم، هو اختياره الإمامعليه‌السلام بالذات، حيث إنه الرجل الذي لا يمكن لأحد كائناً من كان أن ينكر فضله، وعلمه، وتقواه، وسائر صفاته ومزاياه، التي لم تكن لأحد في زمانه على الإطلاق، فليس لهم بعد طريق للاعتراض عليه: بأن الذي اختاره لولاية عهده، والخلافة من بعده، ليس أهلاً لما أهله له. ولو أنهم ادعوا ذلك لما صدقهم أحد، ولكانت الدائرة حينئذ في ذلك عليهم، والخسران لهم دون غيرهم.

____________

(١) راجع: الفخري في الآداب السلطانية، ص ٢١٧، وضحى الإسلام ج ٣ ص ٢٩٤، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٤٧، والطبري، وابن الأثير، والقلقشندي وأبو الفرج. والمفيد وكل من تعرض من المؤرخين لولاية العهد. بل لقد صرح نفس المأمون بذلك في وثيقة ولاية العهد، وهذا يكفي في المقام.. ولقد قال دعبل:

أيا عجباً منهم يسمونك الرضا

ويـلقاك منهم كلحة وغضون

وهناك نصوص أخرى مفادها: أنه سمي الرضا، لرضا أعدائه، وأوليائه به، وعزى الشيبي في كتابه: الصلة بين التصوف والتشيع ص ١٣٨: عزا رضا أعدائه به إلى قوة شخصيتهعليه‌السلام .. أما نحن فنقول: إنه ليس من اليسير أبداً، أن تنال شخصية رضا كل أحد، حتى أعدائها. اللهم إلا إذا كان هناك سر إلهي، اختصت به تلك الشخصية، دون غيرها من سائر بني الإنسان..

٢٠٦

فذلكة لا بد منها:

هذا.. ولا يسعنا هنا إلا أن نشير إلى أن المأمون، لم يخترع أسلوباً جديداً للتصدي للزيدية، والحد من نفوذهم، وكسر شوكتهم، ببيعته للرضاعليه‌السلام ، إذ أنه كان قد استوحى هذه الفكرة من سلفة المهدي، الذي كان قد استوزر يعقوب بن داوود الزيدي، ليحد من نشاط الزيدية، ويكسر شوكتهم. وكان قد نجح في ذلك إلى حد ما: إذ لا يحدثنا التاريخ عن تحركات زيدية خطيرة ضد المهدي، بعد استيزاره ليعقوب، وتقريبه للزيدية، كتلك الأحداث التي حدثت ضد المنصور، وخصوصاً ثورة محمد وإبراهيم ابني عبد الله. كما يلاحظ أن تقريب العباسيين للزيدية في عصر المهدي، وتسليطهم على شؤون الدولة وإداراتها، لم يؤثر في الوضع العام أثراً يخشاه العباسيون، وذلك بلا شك مما يشجع المأمون على الإقدام على ما كان قد عقد العزم عليه، بجنان ثابت وإرادة راسخة.

يضاف إلى ذلك: أن سهولة إبعاد العباسيين لهم عن مراكز القوة، ومناصب الحكم على يد المهدي نفسه، الذي نكب يعقوب بن داوود، الوزير الزيدي، حيث لم تصاحبه ردة فعل، ولا نتج عنه أية حادثة تذكر ضد العباسيين، لا حقيرة، ولا خطيرة.. هو الذي شجع المأمون على أن يستوحي نفس الفكرة، ويلعب نفس اللعبة، ويتبع نفس طريقة المهدي. في مواجهتهم، وكسر شوكتهم، بالبيعة للرضاعليه‌السلام بولاية العهد بعده. وعلى كل حال، فإن هذا أسلوب قديم اتبعه العباسيون في دعوتهم الأولى أيضاً، حيث بايعوا للعلويين، وأظهروا أن الدعوة لهم وباسمهم..

ثم كانت النتيجة هي ما يعلمه كل أحد، حيث انقلبوا عليهم يوسعونهم قتلاً وعسفاً، وتشريداً عندما خافوهم. فلم يعودوا بحاجة إليهم.

ه‍ ـ : أضف إلى ذلك ما تقدم أن المأمون كان يعلم قبل أي شخص آخر بطبيعة العلاقات التي كانت قائمة بين الأئمةعليهم‌السلام ، وبين الزيدية، حيث إنها كانت على درجة من السوء والتدهور. وكان عدم التفاهم، والانسجام فيما بينهم واضحاً للعيان..

٢٠٧

حتى لقد شكى الأئمةعليهم‌السلام منهم، وصرحوا: بأن الناس قد نصبوا العداوة لشيعتهم، أما الزيدية فقد نصبوا العداوة لهم أنفسهم(١) ، وفي الكافي رواية مفادها: إنه عليه‌السلام قال إنهم قبل أن يصلوا إلى الحكم كانوا لا يطيعونهم فكيف تكون حالهم معهم لو أنهم وصلوا إلى الحكم وتبوءوا كرسي الرئاسة.

وقد رأينا: أن عبد الله بن الحسن، عندما جاء يعرض على الإمام الصادقعليه‌السلام كتاب أبي سلمة، الذي يدعوه فيه للقدوم إلى الكوفة، لتكون الدعوة له، وباسمه، فنهاه الإمامعليه‌السلام عن ذلك ـ رأيناه ـ ينازع الإمام الصادق الكلام، حتى قال له:

____________

(١) راجع: الوافي للفيض ج ١ ص ١٤٣، باب: الناصب ومجالسته.

هذا. ولا يمنع ذلك ما ورد عنهم عليهم‌السلام من أن خروج الزيدية وغيرهم على الحكام يدرؤا به عنهم، وعن شيعتهم: فقد جاء في السرائر قسم المستطرفات ص ٤٧٦ أنه: (ذكر بين يدي أبي عبد الله من خرج من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال عليه‌السلام : ((لا أزال أنا وشيعتي بخير ما خرج الخارجي من آل محمد ..)) إلخ وذلك لأن اصطدامهم مع الحكام كان يصرف أنظار الحكام إليهم، ويفسح المجال أمام أهل البيت وشيعتهم إلى حد ما. ولم يكن هناك مجال لاتهام الأئمة وشيعتهم بالتواطؤ معهم، مع ما كان يراه الحكام من عدم الانسجام الظاهر بين الأئمة وبين الزيدية، وغيرهم من الثائرين وسلبية كل فريق منهما تجاه الآخر..

وأخيراً.. فلا بد لنا هنا من الإشارة إلى أن ثورات العلويين، سواء على الحكم الأموي، أو الحكم العباسي، قد ساهمت في أن يبقى حق العلويين في الحكم متحفظاً بقوته وحيويته في ضمير الأمة، ووجدانها. ولم تؤثر عليه حملات القمع والتضليل، التي كان الحكم القائم آنذاك يمارسها ضدهم، وضد هذا الحق الثابت لأهل البيتعليهم‌السلام بالنص.

٢٠٨

(والله، ما يمنعك من ذلك إلا الحسد) إلخ وقد انصرف عبد الله آخر الأمر مغضباً(١) .

ورأينا أيضاً أنه في موقف آخر له مع الإمام الصادقعليه‌السلام يتهمه بنفس هذه التهمة، ويصمه بعين هذه الوصمة، وذلك عندما أرادوا البيعة لولده محمد، وأبدى الإمامعليه‌السلام رأيه في ذلك. ذلك الرأي الذي كشفت الأيام عن صحته وسداده(٢) .

بل لقد كان عيسى بن زيد يقول لمحمد بن عبد الله: (.. من خالفك من آل أبي طالب، فأمكني أضرب عنقه.)(٣) وقد تجرأ عيسى هذا أيضاً على الإمام الصادق بكلام لا نحب ذكره.

وأما موقف محمد بن عبد الله نفسه مع الإمام الصادقعليه‌السلام ، فأشهر من أن يذكر، حيث إنه سجن الإمامعليه‌السلام ، واستصفى أمواله، وأسمعه كلاماً قاسياً، لا يليق بمقام الإمام وسنه(٤) .

إلى آخر ما هنالك مما يدل على كرههم، وحقدهم على الأئمةعليهم‌السلام . أو بالأحرى حسدهم لهم..

____________

(١) راجع: مروج الذهب ج ٣ ص ٣٥٤، ٣٥٥، وغيره من المصادر.

(٢) الصواعق المحرقة ص ١٢١، وينابيع المودة للحنفي ص ٣٣٢، ٣٦١، ومقاتل الطالبيين ص ٢٥٥، ٢٥٦، ٢٧٠، وغير ذلك.. وفي هذا الأخير: أن عبد الله ابن الحسن لم يرض باستدعاء الإمام، ولا وافق عليه، عندما أرادوا البيعة لولده محمد، وبعد أن أقنعوه، وحضر الإمام، جرى بينهما ما جرى.

(٣) قاموس الرجال ج ٧ ص ٢٧٠.

(٤) قاموس الرجال ج ٧ ص ٢٧٠، و ج ٨ ص ٢٤٢، ٢٤٣ والبحار ج ٤٧ ص ٢٨٤، ٢٥٨.

٢٠٩

والمأمون.. كان يعلم بذلك كله، ويدركه كل الإدراك، ولهذا فإننا لا نستبعد أنه ـ وهو الداهية الدهياء ـ قد أراد أيضاً في جملة ما أراد: أن يوقع الفتنة بين آل علي أنفسهم. أي: بين الأئمة، والمتشيعين لهم، وبين الزيدية، ويقف هو في موقف المتفرج المتربص حتى إذا أضعف كل واحد من الفريقين الفريق الآخر، ولم يعد فيهما بقية.. انقض هو عليهما، وقضى عليهما بأهون سبيل.

بل إن بعض الباحثين يرى: أنه أراد من لعبته هذه: (.. ضرباً للثائرين العلويين من إخوة علي بن موسى بأخيهم.)(١) .

ولو أننا استبعدنا كل ذلك، فلا أقل ـ كما قلنا ـ من أن حجته أصبحت قوية على الزيدية، وعلى كل من يدعو إلى (الرضا من آل محمد)، ولم يعد يخشى أحداً منهم، بعد أن أصبح (الرضا من آل محمد) موجوداً.

الهدف التاسع:

كما أنه ببيعته للإمام الرضاعليه‌السلام بولاية العهد، وقبول الإمامعليه‌السلام بذلك.. يكون قد حصل على اعتراف من العلويين، على أعلى مستوى بشرعية الخلافة العباسية، ولقد صرح المأمون بأن ذلك، كان من جملة أهدافه، حيث قال: (.. فأردنا أن نجعله ولي عهدنا، ليكون دعاؤه لنا، وليعترف بالملك والخلافة لنا..) وسنتكلم حول تصريحات المأمون هذه بنوع من التفصيل في فصل: مع بعض خطط المأمون، وغيره إن شاء الله تعالى.

نعود إلى القول: إن تصريح المأمون هذا يعطينا: أن قبول الإمام بأن يكون ولي عهد المأمون، إنما يعني بالنسبة للمأمون: أن الإمام يكون قد أقر بأن الخلافة ليست له دون غيره، ولا في العلويين دون غيرهم، وأنه كما يمكن أن يكون هو جديراً بها، وأهلا لها، وكذلك غيره يمكن أن يكون كذلك. وليتمكن المأمون بذلك من محاربة العلويين بنفس السلاح الذي بأيديهم، وليصير ـ من ثم ـ من الصعب استجابة الناس لهم، إذا دعوا لأية ثورة ضد حكم اعترفوا هم بشرعيته، وأيدوه، وتعاونوا معه من قبل، وعلى أعلى مستوى ومن أعظم شخصية فيهم.

____________

(١) هو الدكتور كامل مصطفى الشيبي في كتابه: الصلاة بين التصوف والتشيع ص ٢١٩.

٢١٠

بل لقد كان يريد أن يحصل من العلويين على اعتراف بأن الحكم حق للعباسيين فقط. أما هم، فليس لهم فيه أدنى نصيب، وما فعله المأمون من إسناد ولاية العهد لواحد منهم، ما كان إلا تفضلاً وكرماً، ومن أجل أن يجمع شمل البيتين العلوي والعباسي، وتصفو القلوب ويمحو ما كان من أمر الرشيد وغيره من أسلافه مع العلويين.

ولقد حاول المأمون أن ينتزع من الإمام اعترافا بأن الخلافة حق للعباسيين، شفاهاً أيضاً فكانت النتيجة عكس ما أراد المأمون، وذلك عندما عرض بالمن على الإمام بأن جعله ولي عهده، فأجابه الإمامعليه‌السلام : بأن هذا الأمر لم يزده في النعمة شيئاً، وأنه وهو في المدينة كانت كتبه تنفذ في المشرق والمغرب.

كما أن المأمون قد قال لحميد بن مهران، وجمع من العباسيين: (.. وليعتقد فيه المفتونون به، بأنه ليس مما ادعى في قليل، ولا كثير، وأن هذا الأمر لنا دونه.) ولسوف يأتي الكلام عن هذه التصريحات إن شاء الله كما قلنا.

وبعد.. فإنه لا يكون من المبالغة في شيء لو قلنا: إن حصول المأمون على اعتراف من العلويين، ومن الإمام الرضاعليه‌السلام خاصة، بشرعية خلافته، وخلافة، بني أبيه أخطر على العلويين من الأسلوب الذي انتهجه أسلافه من أمويين وعباسيين ضدهم،: من قتلهم، وتشريدهم، وسلب أموالهم، إلى غير ذلك مما هو معروف ومشهور.

الهدف العاشر:

يضاف إلى ذلك، أنه يكون قد حصل على اعتراف ضمني من الإمام بشرعية تصرفاته، طيلة فترة ولاية العهد، وليعطي الناس ـ من ثم ـ الصورة التي يريدها عن الحكم والحاكم، وليؤكد للملأ أجمع: أن الحاكم هذا هو سلوكه، وهذه هي تصرفاته: من كان، ومهما كان، وإذن فليس لهم بعد حق في أن يتطلعوا إلى حكومة أحد على أن بها شيئاً جديداً، ولا أن ينظروا إلى جهة على أنها يمكن أن يكون بها المنقذ لهم، والمخرج من الظلمات إلى النور، حتى ولو كانت تلك الجهة هي آل بيت نبيهم، فإنه من الطبيعي أن يتبع السياسيون أساليب، ويتكلموا بأشياء كثيرة، ينسبونها بمجرد وصولهم إلى الحكم، وتسلمهم لازمة السلطة، فإن تلك لا تعدو كونها تكتيكات، ووعودا انتخابية، يحتاجون إليها في ظروف معينة، ثم يستغنون عنها.. كما كانت الحال في وعود المأمون، التي أشرنا إليها فيما تقدم.

٢١١

وهكذا.. فيكون سكوت الإمام في فترة ولاية العهد، عن تصرفات الهيئة الحاكمة، دالا على رضاه بها، ويعتبر إمضاء لها.. وبعد هذا.

فلا يجب أن يكون من العسير على الناس أن يتصوروا طبيعة وماهية حكم الإمام، وكل من يقدر له أن يصل الحكم والسلطان، سواء من العلويين، أو من غيرهم.

وإذا كانت الصورة واحدة، والجوهر واحد، والاختلاف إنما هو فقط في الاسم والعنوان، فليس لهم بعد حق، أو على الأقل ما الداعي لهم، لأن يطلبوا حكماً أفضل، أو حكاماً أعدل، فإنه طلب لغير موجود، وسعي وراء مفقود.

الهدف الحادي عشر:

هذا.. وبعد أن يكون المأمون قد حصل على كل ما قدمناه، وحقن دماء العباسيين، واستوثقت له الممالك، ولم يعد هناك ما يعكر صفو حياته(١) ، وقوي مركزه، وارتفع بالخلافة من الحضيض المهين، الذي أوصلها إليه أسلافه إلى أوج العظمة، والتمكن والمجد. وأعطاها من القوة والمنعة، ووهبها من الحياة في ضمير الأمة ووجدانها ما هي بأمس الحاجة إليه.. ولتتمكن من ثم من الصمود في وجه أية عاصفة، وإخماد أية ثورة، ومقاومة كل الأنواء، وذلك هو حلمه الكبير، الذي طالما جهد في تحقيقه إنه بعد أن يكون قد حصل على كل ذلك وسواه مما قدمناه:

____________

(١) لقد صرح الذهبي في الجزء الأول من كتابه (العبر) بأنه في سنة ٢٠٠ ه‍. استوثقت الممالك للمأمون. وهذه هي نفس السنة التي أتي فيها بالإمامعليه‌السلام من المدينة إلى مرو.. ولكن اليافعي في مرآة الجنان ج ٢ ص ٨: قد جعل ذلك في سنة ٢٠٣: أي في السنة التي تخلص فيها المأمون من الإمام الرضاعليه‌السلام بواسطة السم الذي دسه إليه.. وفي اليعقوبي ج ٢ ص ٤٥٢ طبع صادر: أنه في السنة التي غادر فيها المأمون خراسان: (لم تبق ناحية من نواحي خراسان يخاف خلافها).

٢١٢

يكون قد أفسح لنظام حكمه المجال ـ تلقائيا ـ لتصفية حساباته مع خصومه، أياً كانوا. وبأي وسيلة كانت، وبهدوء، وراحة فكر واطمئنان إن اقتضى الأمر ذلك.

كما أنه يكون قد مهد الطريق لتنفيذ الجزء الثاني ـ ولعله الأهم ـ من خطته الجهنمية، بعيداً عن الشبهات، ودون أن يتعرض لتهمة أحد، أو شك من أحد..

ألا وهو: القضاء على العلويين بالقضاء على أعظم شخصية فيهم. وليكون بذلك قد قضى نهائياً، وإلى الأبد، على أكبر مصدر للخطر، يمكن أن يتهدده، ويتهدد خلافته ومركزه.

إنه يريد زعزعة ثقة الناس بهم، واستئصال تعاطفهم معهم، وليحوله ـ إن استطاع ـ إلى كره ومقت، بالطرق التي لا تمس العواطف والمشاعر، ولا تثير الكثير من الشكوك والشبهات.

يظهر ذلك في محاولاته إسقاط الإمام إجتماعياً، والوضع منه قليلاً قليلاً، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر، وليدبر فيه في نهاية الأمر بما يحسم عنه مواد بلائه.. كما صرح لحميد بن مهران، وجمع من العباسيين، وسنتكلم بنوع من التفصيل عن محاولات المأمون هذه، التي باءت كلها بالفشل الذريع، وعادت عليه بالخسران، لأن الإمامعليه‌السلام كان قد أحبطها عليه، بل لقد كان لها من النتائج العكسية بالنسبة إليه ما جعله يتعجل بتصفية الإمام جسديا، بعد أن أشرف هو منهعليه‌السلام على الهلاك.. بالطريقة التي حسب أنها سوف لا تثير الكثير من الشكوك والشبهات.

ملاحظة لا بد منها:

ومن الأمور الجديرة بالملاحظة هنا: أن المأمون كان يقدر أن مجرد جعل ولاية العهد للإمام، سوف يكون كافيا لتحطيمه إجتماعياً، وإسقاطه نهائياً من أعين الناس، حيث يظهر لهم بالعمل ـ لا بالقول: أن الإمام رجل دنيا فقط، وأن تظاهره بالزهد والتقوى ما هو إلا طلاء زائف، لا واقع له، ولا حقيقة وراءه. ولسوف تكون النتيجة هي تشويه سمعة الإمامعليه‌السلام ، وزعزعة ثقة الناس به، وذلك بسبب الفارق الكبير بالسن، بين الخليفة الفعلي، وبين ولي عهده، إذ إن ولي العهد لا يكبر الخليفة الفعلي بسنتين، أو ثلاثة، أو خمسة، لا.. بل أكثر من ذلك بكثير، إنه يكبره بـ‍(٢٢) سنة،

٢١٣

وإنه لمن الأمور غير الطبيعية أبداً: أن يقبل ولاية العهد، وهو يكبر الخليفة الفعلي بهذا المقدار الكبير من السنين، ولسوف يكون قبوله لها ـ مع هذا الفارق بينهما ـ موجبا لجعله عرضة لشكوك الناس، وظنونهم، ولسوف يتسبب بوضع علامات استفهام كبيرة حوله.. كما كان الحال، بالنسبة لسؤال محمد بن عرفة، وكلام الريان المتقدم.. ولسوف يفسر(١) ذلك من أولئك الذين لا يدركون حقيقة ما يجري، وما يحدث، ـ وما أكثرهم ـ بتفسيرات تنسجم مع رغائب المأمون، وأهدافه. لأنهم سوف يرون أن زهدهعليه‌السلام بالدنيا، ليس إلا ستاراً تختفي وراءه مطامعه فيها، وحبه المستميت لها، حتى إنه ليطمع أن يعيش إلى ما بعد الخليفة الفعلي، الذي هو أصغر من ولده، ويصل إلى الحكم.. وباختصار نقول:

إنه يريد أن: (.. يعتقد فيه المفتونون به بأنه: ليس ما ادعى في قليل ولا كثير.) حسبما صرح به هو نفسه.. وعلى حد قول الإمام نفسه، الذي كان يدرك خطة المأمون هذه: (.. أن يقول الناس: إن علي بن موسى، لم يزهد في الدنيا، بل زهدت الدنيا فيه، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعا بالخلافة؟!.). كما سيأتي.

____________

(١) ولكنا، مع ذلك نجد: أن قسما من أصحاب الرضاعليه‌السلام ، ممن كانوا يراقبون الأحداث بوعي ودراية، كانوا يدركون نوايا المأمون وأهدافه هذه ففي البحار ج ٤٩ ص ٢٩٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٩: أنه قد سئل أبو الصلت: (كيف طابت نفس المأمون بقتل الرضا مع إكرامه ومحبته له، وما جعل له من ولاية العهد بعده؟! فقال: إن المأمون كان يكرمه ويحبه لمعرفته بفضله، وجعل له ولاية العهد من بعده، ليري الناس أنه راغب في الدنيا، فلما لم يظهر منه إلا ما ازداد به فضلاً عندهم، ومحلاً في نفوسهم، جلب عليه إلخ.).

٢١٤

وعن الريان قال: دخلت على الرضا، فقلت: يا ابن رسول الله، إن الناس يقولون: إنك قبلت ولاية العهد، مع إظهارك الزهد في الدنيا؟!، فقالعليه‌السلام :((قد علم الله كراهتي..)) (١) وقد أشرنا إلى سؤال محمد بن عرفة، وكلام الريان فيما تقدم.

وعلى أي شيء يبكي المأمون، ومن أجل أي شيء يشقى ويتعب، ويسهر الليالي، ويتحمل المشاق.. إلا على هذا.. إن هذا هو أجل أمنياته وأغلاها.

سؤال وجوابه:

قد يدور بخلد القارئ أن ما ذكرناه هنا: فيما يتعلق بالفارق الكبير بالسن، ينافي ما تقدم من أن المأمون كان يريد الحصول على قاعدة شعبية، والارتفاع بالخلافة من الحضيض الخ.

ولكن الحقيقة هي:

أنه لا منافاة هناك.. ويمكن للمأمون أن يقصد كل ذلك من البيعة، لأن مقدار التفاوت بالسن بين الإمامعليه‌السلام والمأمون، لم يكن مما يعرفه الكثيرون، ولا مما يلتفت إليه عوام الناس في بادئ الأمر، لأنهم يأخذون الأمور على ظواهرها، ولا يتنبهون إلى مثل ذلك، إلا بعد تنبيه وتذكير، فللوهلة الأولى تجوز عليهم الخدعة، ويقدرون خطوة المأمون هذه، وتنتعش الآمال في نفوسهم بالحياة الهنيئة السعيدة، تحت ظلم حكم بدا أنه يتخذ العدل ديدنا، والإنصاف طريقة..

____________

(١) علل الشرايع ص ٢٣٨، والبحار ج ٤٩ ص ١٣٠، وأمالي الصدوق ص ٤٤، ٤٥.

٢١٥

ثم.. وبعد أن يجند المأمون أجهزة إعلامه، من أجل تسميم الأفكار، يجد أن نفوس الناس مهيأة ومستعدة لتقبل ما يلقى إليها. ويكون لديه ـ باعتقاده ـ من الحجج ما يكفي لإسقاط الإمام، وزعزعة ثقة الناس به. ولا يؤثر ذلك بعد ذلك على الحكم، فإن الحكم يكون قد استنفذ أغراضه من البيعة. وحصل على ما يريد الحصول عليه منها.. هذا ولا بد لنا هنا من ملاحظة أن المأمون وأجهزة إعلامه كانوا في مقابل وصم الإمام بالرغبة بالدنيا والتفاني في سبيلها.. يشيعون بين الناس عن المأمون عكس ذلك تمام، فيطلب المأمون من وزيره أن يشيع عنه الزهد، والورع والتقوى(١) .. وأنه لا يريد مما أقدم عليه الأخير الأمة ومصلحتها، حيث قد اختار لولاية عهده أفضل رجل قدر عليه، رغم أن ذلك الرجل هو من ذلك البيت الذي لا يجهل أحد موقفه من حكم العباسيين، وموقف العباسيين منه كما يتضح ذلك من وثيقة ولاية العهد، وغيرها.

رأي الناس فيمن يتصدى للحكم:

لعل من الواضح أن كثيراً من الناس كانوا يرون ـ في تلك الفترة من الزمن ـ لقصر نظرهم، وقلة معرفتهم: أن هناك منافاة بين الزهد والورع، والتقوى، وبين المنصب، وأنهما لا يتفقان، ولا يجتمعان.

____________

(١) تاريخ التمدن الإسلامي ج ٤ ص ٢٦١.

٢١٦

وقد رأينا الكثيرين يمتنعون على تولي المناصب للحكام، لما يرونه من المنافاة المشار إليها.

ولعل سر فهمهم هذا: هو أنهم كانوا قد اعتادوا من الحكام التجاوز على الحقوق، والدماء، والأموال، وعلى أحكام الدين، والنواميس الإنسانية، بشكل عام. والزهد والورع لا يتلائم مع ذلك كله، ولا ينسجم معه.

ولكن الحقيقة هي: أن لا منافاة بينهما أبداً، فإن الحكم إذا كان وسيلة لإيصال الخير إلى الآخرين، ورفع الظلم عنهم، وإشاعة العدل، إقامة شريعة الله تعالى، فيجب السعي إليه، والعمل من أجله، وفي سبيله.. بل إذا لزم من ترك السعي إليه، تضييع الحقوق، وانهيار صرح العدل، والخروج على أحكام الدين، فإن ترك السعي هذا، يكون هو المنافي للزهد والورع والتقوى..

ولقد قاد النبيعليه‌السلام الأمة، وقبله قادها سليمان بن داوود، وغيره، وبعده الإمام علي بن أبي طالب، وولده الحسن، ثم الحسين، وهكذا..

وحال هؤلاء في الزهد والورع، لا يحتاج إلى مزيد بيان، وإقامة برهان، بل لم يكن على ظهرها أزهد، ولا أتقى، ولا أفضل، ولا أورع منهم، عدوهم يعرف منهم ذلك تماماً كما يعرفه منهم صديقهم. فعدا عن الأنبياء الذين كانوا القمة في الورع والزهد والتقوى، نرى الإمام عليعليه‌السلام قمة في ذلك أيضاً، وقد رقع مدرعته حتى استحيا من راقعها، وكان راقعها هو ولده (الإمام الحسنعليه‌السلام )(١) . وكان يصلي في بيت المال ركعتين شكراً لله، بعد فراغ المال منه. وكان يقول:((إليك عني يا دنيا غري غيري، أبي تعرضت؟!..)) الخ وهو الذي قال فيه عدوه معاوية: (لو كان له بيتان: بيت من تبر، وآخر من تبن، لأنفق تبره قبل تبنه.). إلى غير ذلك مما لا مجال لنا لتتبعه واستقصائه..

____________

(١) راجع: الدرة النجفية ص ٣٠٣، طبعة حجرية.

٢١٧

العلويون يدركون نوايا المأمون:

إن نوايا المأمون تجاه العلويين، ومحاولاته لإسقاطهم إجتماعياً، وابتزازهم سياسياً.. حتى إذا أخفق في ذلك راح يختلهم واحداً فواحداً، كلما واتاه الظرف، وسنحت له الفرصة.. لم يكن العلويون يجهلونها، بل كانوا يدركونها كل الإدراك، ولم تكن تخدعهم تلك الشعارات والأساليب المبهرجة. وحسبنا هنا أن نذكر في مقام التدليل على هذا: أن المأمون كتب لعبد الله بن موسى، بعد وفاة الرضا، يعده بأنه يجعله ولي عهده، ويقول له: (ما ظننت أن أحداً من آل أبي طالب يخافني بعد ما عملته بالرضا).

فأجابه عبد الله يقول: (وصل إلي كتابك، وفهمته، تختلني فيه عن نفسي مثل القانص، وتحتال علي حيلة المغتال، القاصد لسفك دمي. وعجبت من بذلك العهد، ولايته لي بعدك، كأنك تظن: أنه لم يبلغني ما فعلته بالرضا؟! ففي أي شيء ظننت أني أرغب من ذلك؟ أفي الملك الذي غرتك حلاوته؟!.

إلى أن يقول: أم في العنب المسموم الذي قتلت به الرضا؟!).

ويقول له أيضاً ـ والظاهر أنه نص آخر للرسالة ـ: (هبني لا ثأر لي عندك، وعند آبائك المستحلين لدمائنا الآخذين حقنا، الذين جاهروا في أمرنا، فحذرناهم. وكنت ألطف حيلة منهم، بما استعملته من الرضا بنا، والتستر لمحننا، تختل واحداً،

____________

(١) ترجمة الإمام عليعليه‌السلام من تاريخ ابن عساكر بتحقيق المحمودي ج ٣ ص ٥٨ ـ ٦٠.

٢١٨

فواحداً منا الخ..)(١) .

ولا بد من ملاحظة: منافاة وعده هذا لعبد الله بن موسى بأن يجعل له ولاية العهد.. للرسالة التي أرسلها إلى العباسيين في بغداد، فور وفاة الرضاعليه‌السلام ، ويعدهم فيها بأن يجعل ولاية العهد فيهم، وسنشير إلى رسالته لهم في فصل: مع بعض خطط المأمون إن شاء الله وعلى كل حال.. فإننا نستطيع أن نفهم من هذه الرسالة التي لعبد الله بن موسى أموراً، نشير إلى بعضها:

أولاً: إن المأمون كان قد جعل ولاية العهد وسيلة لختل الشخصيات التي كان يخشاها، والغدر بها، إذ إن من المقبول والطبيعي ـ كما يرى البعض ـ أن يكون ولي العهد هو الذي يتآمر، ويدبر للتخلص من الخليفة الفعلي، ليختصر المسافة، ويصل إلى الحكم، الذي ينتظر الوصول إليه، والحصول عليه بفارغ الصبر. وليس من الطبيعي، ولا من المقبول أن يتآمر الخليفة على ولي عهده، إلا إذا كان يريد أن يجعل الخلافة لمن هو أعز عليه منه، وهذا ما نفاه المأمون عن نفسه في أكثر من مناسبة.

وهكذا.. فإن النتيجة تكون: أن الخليفة الفعلي يكون آخر من يتهم في ولي العهد، إذا ما راح ضحية التآمر والاغتيال، وعرف الناس ذلك. وهذا بلا شك من جملة ما كان يريده المأمون، ويسعى إليه.

ثانياً: إن المأمون رغم الصعوبات التي واجهها في فترة تولية الرضاعليه‌السلام العهد.. يبدو أنه كان يعتبر نفسه منتصراً وناجحاً في لعبته تلك، ولذلك نرى أنه قد حاول تكرار نفس اللعبة مع عبد الله بن موسى. ولكن يقظة هذا الأخير، الذي كانت ظروفه تختلف عن ظروف الإمامعليه‌السلام قد فوتت عليه الفرصة، وأعادته. بخفي حنين.

____________

(١) مقاتل الطالبيين للأصفهاني ص ٦٢٨، إلى ص ٦٣١، وسنورد الرسالة في أواخر هذا الكتاب إن شاء الله.

٢١٩

كما أننا لا نستبعد أن المأمون قد أراد بالإضافة إلى ذلك التستر على غدره بالرضاعليه‌السلام ، بعد أن كان قد افتضح واشتهر، رغم محاولاته الجادة للتستر والكتمان.

ثالثاً: ما تقدمت الإشارة إليه من أن إكرامه للعلويين، والرضا بهم، والتستر لمحنهم، ما كان منه إلا ضمن خطة مرسومة، وإلا سياسة منه ودهاء، من أجل أن يأمن العلويون جانبه، ويطمئنوا إليه، كما يدل عليه قوله لعبد الله بن موسى: (ما ظننت أحداً من آل أبي طالب يخافني بعد ما عملته بالرضا) وقد قدمنا أنه أشار إلى ذلك أيضاً في كتابه للعباسيين، فلا نعيد..

رابعاً: أنه لم يستطع أن يخفي عن العلويين ـ كما لم يستطع أن يخفي عن غيرهم ـ غدره بالإمام الرضاعليه‌السلام ، وسمه له بالعنب، وكذلك غدره بغيره من العلويين. وسر ذلك واضح، فإن جميع الدلائل والشواهد كانت متوفرة على ذلك، كما سيأتي بيان جانب من ذلك في فصول هذا الكتاب بنوع من التفصيل.

موقف الإمام في مواجهة مؤامرات المأمون:

لقد رأينا كيف أن المأمون أراد من لعبته تلك، التغلب على المشاكل التي كان يواجهها، والاستفادة في تقوية دعائم خلافته، وخلافة العباسيين بشكل عام.. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما هو موقف الإمامعليه‌السلام نفسه من لعبة المأمون تلك، وخططه، وأهدافه؟، وهل أفسح المجال للمأمون ليحقق كل ما يريد تحقيقه، ويصل إلى ما

كان يريد الوصول إليه؟.. وهل كانت لديه خطط من نوع معين، وأهداف معينة كان يسعى من أجل الوصول إليها، والحصول عليها؟!.

الحقيقة هي: أن الإمامعليه‌السلام قد استطاع، بما اتبعه من خطة حكيمة، وسلوك مثالي: أن يضيع على المأمون كافة الفرص، ويجعله يبوء بالخيبة والخسران، ويمنى بالفشل الذريع، حتى لقد أشرف المأمون منه على الهلاك، وبدا الارتباك واضحاً في كل تصرفاته، وأقواله، وأفعاله..

وسيأتي في الفصول الآتية في القسمين: الثالث، والرابع بيان بعض ما يتعلق بذلك إن شاء الله.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

سرورستان وفيرزآباد على أَقواس وقِباب لأَبنية قديمة، يُعتقد أنّها من بقايا عصر كورش الكبير، كما يُوجد حجر مُكعّب الشكل يُعرف بتَخت طاووس في باساركاد على مَقربة من مقبرة كورش كان واحداً من أعتاب معبد قديم.

أَضف إلى ذلك (تُرْعَة سويس) - قناة تصل البحر الأحمر بالمتوسّط - ذلك المـَشروع العظيم، كان أَوّل مَن أَمر بحفرها هو المـَلِك الفارسي داريوش الأَوّل الهخامنشي، وذلك بعد أنْ استولى على مصر وبلاد أفريقيّة مُجاورة، وقد عُثِر في حَفريّات هناك على ضِفاف التُرْعَة كتيبة فيها دلالة واضحة على السيرة الحَسنة التي كان يُراعيها مُلوك فارس مع أبناء البلاد التي كانوا يَمتلكونها آنذاك، الأمر الذي يدلّ على حضارة راقية كانت تسود إمبراطوريّة فارس (١) .

والأَمثلة لا حصرَ لها في هذا المـَبحث مِن موضوعنا، وكلّها تُجيب على السؤال المطروح: هل كانت فارس على درجة من التَحضُّر والتقدُّم بما يُوفّر الخُبرة الهندسيّة لتشييد السُدود والأعمال العُمرانيّة؟

ومن العرض البسيط قد تحقّقنا من تقديم كورش الخُبرة والمهندسينَ والإشراف لسُكّان منطقة سُهول القوقاز وبحر قزوين والبحر الأسود.

* * *

وأمّا عن الإمكانيّات التي يُمكن أنْ يكون قد طلبها ذو القَرنَينِ من الأُمَم المـُسالِمة في المنطقة الوادِعة، حسب فهمنا للآية الكريمة، فنأخذ أوّلاً: القوّة البشرية (العَمّالة) التي يُمكن أنْ يكون كورش قد طلبها، فإنّ المنطقة حسب التخمين العام كانت آهِلة ومُزدحِمة بالسُكّان ويُمكن حساب عدد السُكّان (تقريباً) في إقليم آذربيجان - أرمينيّة - داغستان - جورجيا - وما والاها سنة ٥٥٠ ق. م كان على الأرجح ما يَقُرب من ٠٠٠/ ١٧٠ نَسَمة (٢) .

____________________

(١) راجع: تأريخ إيران، ص ١٢٤ - ١٣٢.

(٢) وذلك على حسب الإحصاءات التقريبيّة والتي قَدّرت عدد نُفوس العالَم قبل الميلاد بثمانية آلاف سنة، وكانت خمسة ملايين نَسَمة، وقبل خمسة قُرون من الميلاد بعشرين مليون، وقبل الميلاد بثلاثة آلاف سنة بأَربعين مليون، وقبل الميلاد بألف سنة بمِئة مليون، وبعده بألف: ٠٠٠/٠٠٠/٢٧٥ وفي سنة ١٦٥٠ م: ٠٠٠/٠٠٠/٥٤٥، وذلك على

٥٠١

فلو افترضنا أنّ العَمّالة كانت تُمثّل بنسبة ٦% من السُكّان، لعرفنا أنّ العَمّالة التي تُقدَّر للاشتراك في بِناء السدّ ما يزيد على (٠٠٠/١٠٠) مِئة ألف عامل.

وهذا العدد يُمكنه بالفعل إنجاز العمل في سدّ ثغرة (داريال) لمدّة عشر سنوات تقريباً.

والموادّ الخام التي شُيّد منها سدّ ذي القَرنَينِ حسب وصف القرآن الكريم: خامات الحديد.

تحتوي أراضي آذربيجان على معادن الحديد بكمّيات كبيرة، ويشهد لذلك قيام صناعة الحديد والصُلب الآن في مدينة (باكو)، فإذا كان الإقليم غنيّاً به الآن فلا شكّ أنّه كان أغنى زمن كورش بالطبع.

أمّا أرمينيّة فغنيّة بمعادنها، ويَكثُر بها على وجه الخصوص خام الحديد والنُحاس والرَصاص والزرنيخ وحجر الشبّ والكبريت والذهب. وابن الفقيه (١) هو الكاتب الإسلامي الوحيد الذي أَمدّنا بمعلومات قيّمة عن الثروة المعدنيّة في أرمينيّة.

ويَذكر المؤرّخ الأَرمني (ليونتيوس) أنّ مَناجم الحديد والفضّة في تلك البلاد كُشِفت حوالي نهاية القرن الثامن للميلاد، وتَدلّ مَلامح الأرض على مناطق محفورة في الجبال تُشير إلى استنفاد السُكّان الأقدمين لاحتياطي الحديد القديم الذي كان يُستخرج في العَراء دون عَناءٍ كبير، وهي تقع في مُنتصف الطريق بين أطرابزندة وأرزن الروم.

كما يوجد الحديد بوِفرة في جورجيا بالقُرب من (تسخالطوبو) و (محج قلعة) و (دربند) في داغستان وغيرها، وفي مناطق الحدود الأرمينيّة في تركيا إقليم الحديد المشهور الذي يُقدَّر احتياطيّه بحوالي ٢٥ مليون طنّ وتبلغ نسبة الحديد في الفلز ما بين ٦٠ - ٦٦% وهي نسبة عالية، وقد استخرج الحيثيّون من آلاف السنين كمّيّات هائلة من الحديد من هذا الإقليم، وأَهمّ مناطق إنتاجه الآن هناك إقليم (ديفرجي).

____________________

حساب ( F.A.O ) المعروف، مفاهيم جغرافيّة، ص ٣٠٤. وبذلك يُقدّر عدد نُفوس العالَم سنة (٥٥٠ ق. م): ١٦٨ مليون نَسَمة. ويكون قِسط إقليم آذربيجان وأرمينيّة وداغستان وجورجيا ذلك العهد - على حساب التقسيم على المائة - ما يَقُرب من ٠٠٠/ ١٧٠ نَسَمة.

(١) كاتب شاعر مجيد من أهل الموصل تُوفي ٦٣٦ هـ / ١٢٣٨ م.

٥٠٢

أمّا عن الفحم والأخشاب اللازمَينِ لصهر الحديد، فتكوينيّات منطقة (كلاكنت) بأرمينيّة فيها احتياطيّ كبير، وفي سواحل البحر الأسود تُعتَبر مناجم (زونفلداك) من المـَناطق الغنيّة جدّاً بخامات الفحم، وهو من النوع البيتومين ويُعطي نوعاً جيّداً مِن فحم الكوك الذي يُستخدم في صناعة الحديد.

وأمّا عن الأَخشاب فيَذكر ابن حوقل أنّ إقليم أَردبيل كثير البساتين والأنهار والمياه والأشجار والفواكه الحَسنة والخَيْرات والغَلاّت، وكذلك إقليم المراغة، ويقول عن إقليم أُروميّة: إنّه كثير الكُرُوم والمياه الجارية والضياع والرَسَاتيق، ويضمّ الإقليم أيضاً: أُشنَه، كثيرة الشجر والخُضر والخَيْرات ومدينة بردغة كثيرة الخِصب والزرع والثِمار والأشجار.

كما أنّ مجموعة أنهار كورا (كورش) ونهر ترك، وكذلك صولاق ونهر آراكس ونهر آيورا، كلّها مُحاطة بمساحات هائلة من الأخشاب، لانتشار أشجار الدَردَار والبَلوط والصنوبر والأَرز والشوح والعَرعَر والزيتون البرّي.

وخامات النُحاس - التي طلبها (كورش = ذو القَرنَينِ) من سُكّان الإقليم حسبما عَبَّر القرآن الكريم: ( قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً ) ... هذه الخامات ثَبُت علميّاً وتأريخيّاً تَوفّرها بالمنطقة، فالدراسات الجيولوجيّة الحديثة أثبتت وجودها بوِفرة في تكوينيّات (زنجان) و (أنارك) وشمال أصفهان، وفي جنوب آذربيجان كميّات هائلة منه.

وفي أرمينيّة أَصبحت مناجم النُحاس الكبيرة المعروفة مُنذ القِدَم، شاهد على استخراج السُكّان القُدامى لخاماته، خصوصاً في منطقة (كدابك) وما يَتبعها من مَنجم فرعي في إقليم (كلاكنت) - بين البزاوتيول وبُحَيرة كوك جاي - وقد أُعيد إحياء مَجد الإقليم في مجال استخراج النُحاس حديثاً في السنوات الأخيرة، بفضل إدارة إخوان (سيمنس) مُؤسّسي مصانع سَبْك المعادن هناك.

ومن ناحية تَوفّر العدد اللازم من حيوانات الجرّ والحَمل، فالإقليم غنيّ بالثروة الرَعويّة والحيوانيّة؛ لأنّه يقع بين خطَّي عَرض ٣٠ - ٤٥ شمالاً، وينحصر بين إقليم البحر

٥٠٣

المتوسّط غرباً وإقليم الصين شرقاً ويمتدّ في أُوراسيا بين التركستان الصينيّة ورومانيا، ويشمل بذلك كلّ آذربيجان وأرمينيّة والقوقاز وجورجيا وداغستان وأنجازيا وأجاريا، ولكَثرة حشائش الإقليم سُمّيت إقليم المـَراعي المـُعتَدلِة الدفيئة، وهي غنيّة تكفي رَعيَ الماعز والضأن على الهِضاب، والأبقار والمواشي في السُهول، والجَمَل أيضاً معروف هناك وهو من نوع ذي السنامَينِ وحيوان الياك ( YAK ) ).

وقد استخدمه السُكّان في النَقل تَماماً كالحَمير، وهو يَمتاز على الحَمير بوجود أَظفار في رجلَيه تُساعده على ارتقاء المـُرتفعات والتنقّل بأَحماله بينها، كما يوجد هناك مُنذ القِدَم عشرات الآلاف من الخُيول السيسي الشهيرة بقُدرتها على حَمل الأثقال وجرّ العَربات.

ومن حيث توفّر المـُؤَن لمواجهة استهلاك العُمّال والمهندسين من غذاء لازم حتّى إتمام تشييد السّدّ، فقد عَرَف الإقليم جميع الحُبوب من آلاف السنين، وكانت أرمينيّة تُعتبر من أَخصب أملاك الخلافة العباسيّة، وكانت الغِلال تُستَنبت فيها بكَثرة وتُصدّر إلى الخارج كبغداد مثلاً (٢) ، وكان السمك يكثُر في بُحيراتها وأَنهارها ويُصدّر إلى الخارج أيضاً (٣) ، وكانت خَيرات الإقليم تَتَوجّه زمن كورش إلى همدان وسائر البلاد المعروفة ذلك اليوم.

وأودية هذا الإقليم الكبير مُزدَحِمة بغابات الأشجار المـُثمرة، وفي مناطق العَراء كانت زراعة البطاطا والشمندر السكّري مِن أَهمّ حِرَف السُكّان في العصور القديمة.

ففي آذربيجان كان القمح الشتوي يُزرع هناك بنجاح كبير، عَلاوةً على أنواع أُخرى من الحبوب وكذلك الكُرُوم والجوز... وداغستان بلاد زراعيّة بالدرجة الأُولى من

____________________

(١) نوع من البَقر الوَحش عظيم الجُثّة وقوّتها، يكثُر وجوده في جبال آسيا الغربيّة والوسطى ولا سيّما هَضبات تبّتب، وقد استخدموه لحَمل الأثقال.

(٢) أُنظر: تأريخ الطبري، ج ٣، ص ٢٧٢ - ٢٧٥، (مفاهيم جغرافيّة، ص ٣١١).

(٣) وقد ورد أنّ شُهرة الإقليم بالأسماك كمورد غذائي للسكّان والتصدير لا تُضارَع، حيث كانت الأسماك تكثُر في بُحيرات أرمينيّة وسواحل القوقاز وخصوصاً بُحَيرة (وان) التي اشتهرت بنوع خاصّ وبكميّات هائلة منه، وهو الذي يَعرفه العرب باسم (الطريخ) وكان هذا السمك في العُصور القديمة يُملّح ويُصدّر إلى الجهات البعيدة كالهند، أُنظر: القزويني، طبعة قستنفلد، ج ٢، ص ٣٥٢، (مفاهيم جغرافيّة، ص ٣١١)، ولا يزال الناس في أرمينيّة وآذربيجان وبلاد القوقاز وآسيا الصُغرى يستطيبون هذا السمك المـُمَلَّح حتّى يومنا هذا.

٥٠٤

العصور القديمة حتّى الآن، فهي تَنتُج القمح والذُرّة والبطاطا والخضروات والكَرمة، كما أنّ الماشية تَرعى في سُفوح الجبال وأَشهر مواشيها الأغنام... ومناخ جورجيا (طرجستان) من آلاف السنين ملائم لزراعة الحبوب وخاصّة الذُرّة والكَرمة والحُمّضيّات والشمندر السكّري (١) وهذه المزروعات تجدها في كلّ أنحاء الإقليم، وثروة الإقليم بالماشية هائلة، إذ تنتشر المـَراعي الواسعة كما رأينا وتَربّى عليها قُطعان الماشية وخاصّة الأغنام.

ومن المـَلامح التي عَرضناها بإيجاز تأَكّد لنا قُدرة الإقليم على تَموين العُمّال والمهندسينَ بالطعام والشراب الكافي، دون أنْ يَحدث نقص في إمدادات الغذاء، أي أنّ الأَمن الغذائي كان مَكفولاً.

والموادّ الخام اللازمة كانت متوفّرة، من حديد ونُحاس وفحم وأخشاب، وحيوانات الجرّ والحِمل كانت موجودة تفي بالغرض تماماً، والأَيدي العاملة الرخيصة كانت متوفّرة كذلك، والخُبرة الفارسيّة، والتخطيط الدقيق لكورش كلّها كانت مُقوّمات نجاح تشييد أَعظم السدود في العالَم، لدرجة جَعلت القرآن يَصفه بالرَدم، أي السّدّ الضخم الهائل في قوله تعالى: ( فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً ) (٢) .

وبعد فإليك الكلام عن السدّ (سدّ ذي القَرنَينِ الذي ذَكَره القرآن) وهل هو سدّ كورش التأريخي؟

سدّ كورش (ذي القَرنَينِ) التأريخي

في وصف شامل لسدّ كورش (ذي القَرنَينِ) وتحديد موقعه الجغرافي حاليّاً على الخريطة السياسيّة، وتحديد نوعيّة الدَولة التي كانت تُسيطر على المنطقة الجبليّة التي شُيّد فيها، يُمكن القول: إنّه من المـُعطيات السابقة، تتبلور ملامح سدّ كورش التأريخي في:

____________________

(١) فقد عَرف الإقليم جميع الحبوب من آلاف السنين - حسبما تقول الجغرافيا التأريخيّة - وعُثِر عليها في الآثار القديمة، ووُجِدت قوارير مملوءة بالحبوب وغيرها (القمح - الذُرّة - القصب - الأَرز). أُنظر: مواطن الشعوب الإسلاميّة، قفقازيا لمحمود شاكر، ص ٦٢ - ٦٩. (مفاهيم جغرافيّة، ص ٣١١).

(٢) مفاهيم جغرافيّة، الفصل السابع، ص ٣٠١ - ٣١٢.

٥٠٥

أنّ السّدّ بُنيَ فيما بين عامَي - ٥٣٩ ق. م. و ٥٢٩ ق. م - في مكان جبليّ شاهق شديد التَضرّس قائم كجدارَينِ شامخَينِ على جانبَيه، وبذلك - وعلى هذه الصورة - يكون السّدّ حجازاً مضافاً على الجدارَينِ، في مكان المـَضيق الجبليّ الذي كان موجوداً بينهما، ويُعرف بمَضيق (داريال)، وهو موسوم في جميع الخرائط الإسلاميّة والروسيّة في جمهوريّة جورجيا (كرجستان).

وقد استُخدِمت في تشييد السدّ زُبُر الحديد أي قطع الحديد الكبيرة، وأُفرغ عليها النُحاس المـُنصهِر. وهذا هو وصف القرآن، ولا نقبل عنه بديلاً، مهما كانت درجة التقارب أو التشابه، ونرفض أيّ سدٍّ آخر يكون قد شُيّد من الحِجارة - مِثل سور الصين العظيم - حتّى ولو كانت عناصر ومُقوّمات وظروف إنشائه مُشابهةً لِما جاء عن سدّ ذي القَرنَينِ.

وقد رأينا خلال السرد التأريخي أنّ القبائل المـَغولية - وراء سِلسلة جبال قوقاز - كانت لا تَتَكاسل عن الانقضاض على مناطق آسيا الغربيّة خلال القرن السادس قبل الميلاد.

وكلّ صفحات التأريخ تَذكر لنا أنّ ثَمّة تَوقُّف مُفاجئ حَدث في عمليّة تَدفّق هذه القبائل البدائيّة المـُتوحِّشة، وتُشير أَصابع الدقّة التأريخيّة نحو الحُقبة التي ظهر فيها كورش الهخامنشي!

ومِن ثَمّ جاء قول المـُؤرّخينَ بأنّ هذه القبائل التي سُمّيت (ميكاك) عند اليونان و (منكوك) عند الصينيّين، هم قوم (يأجوج ومأجوج) الذي جاء ذِكرهم في القرآن، وقد تقدّم الكلام عن ذلك.

هذا وقد تَتَّبع مولانا أبو الكلام آزاد، من خلال استقراء التأريخ ومُراجعة النَصوص في العهد القديم وما جاء فيها عن يأجوج ومأجوج، ووصل إلى نفس ما هو قائم في الواقع في جمهوريّة جورجيا (كرجستان) الآن، وقد عُثر على كُتَل هائلة من الحديد المخلوط بالنُحاس، موجودة في جبال قوقاز، مُبعثَرة في منطقة مضيق (داريال) الجبلي.

وهذه حقيقة قائمة لكلّ من أراد أنْ يشاهدها برَأْي العَين.

٥٠٦

جبال شاهقة تمتدّ من البحر الأسود حتّى بحر قزوين، التي تمتدّ لتصل بين البحرين طول (١٢٠٠ ك. م) وهي جبال التوائيّة حديثة التكوين، شامخة مُتجانسة التركيب، إلاّ من كُتَل هائلة من الحديد الصافي المخلوط بالنُحاس الصافي في مَضيق داريال، غير أنّ جسم الجبال الصخري (جبال قوقاز) من جانبي السدّ تآكل بفعل عوامل التَعريَة طِوال ٢٥٠٠ سنة وصار هناك فراغ فيما بين الصخور الجبليّة وجسم السدّ الحديدي النُحاسي، وأصبح كُتَلاً ضَخمة تَبعثرت في مَعبَر المـَضيق.

ويُشار إلى هذا السدّ في الأطالس الجغرافيّة الحديثة بين فلادي ( Fladi ) وكوكس ( Kiuakass ) وبين تفليس، ويَذكره الأَرمَن - هناك - في صفحات تأريخهم (الشاهد على أحداثهم) باسم (بهاك غورائي) و (كابان غورائي) أي مَضيق كورش أو (ممرّ كورش)، كما أنّ سُكّان كرجستان يَعرفونه في بلادهم باسم الباب الحديدي، وذَكره الأتراك في كتاباتهم أيضاً باسم (دامركابو) (قابو) (١) ، و (دامر) - بالتركيّة - يعني: الحديد. و (قابو): الباب.

فالسدّ شُيّد في منطقة جبليّة بين صَدفَينِ في مَضيق داريال، وليس في مناطق سَهليّة مِثل سور الصين العظيم، وقد أُقيم لإيقاف زحف الأجناس المـُتوحِّشة عِبر جبال القوقاز إلى شمال مَملكة فارس وغرب آسيا، ولم يكن لحجز مياه السيول والفيضان مثل سدّ مأرب.

وقد شُيّد من خامات الحديد وأُشعلت النيران لصهر النُحاس ليُصَبّ فوق الحديد، وبقاياه تدلّ فعلاً على انطباق مواصفاته مع ما جاء في القرآن الكريم.

ولذلك عبّر القرآن عن متانته بقوله تعالى: ( فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً ) .

إذن، لم يكن السدّ من الحَجَر، مثل سور الصين العظيم (٢) ، أو جدار (دربند) الذي بَناه

____________________

(١) كورش الكبير، ص ٢٨٠.

(٢) بَناه الإمبراطور (تشين شيه هوانج) بعد سنة (٢٢١ ق. م)، حاجزاً بين (منغوليا) والصين، وهو مُشيّد من الطُوب (اللِبْن

٥٠٧

أنوشيروان المـَلِك الساساني (١) بعد (١٠٠٠ عام) من بِناء سدّ كورش، أو سدّ (مأرب) الذي شُيّد لتنظيم الريّ ووقاية المنطقة - وعاصمتها مدينة مأرب قاعدة المـَملكة السبئيّة (باليَمن) - من أخطار الفيضانات المـُوسميّة، وتَهدَّم بين (٥٠٧ - ٥٤٢ ق. م) على أثر السيل العَرِم (الهائج المـُدمّر) ونتيجةً للإهمال بشأن ترميم ثُلَمها (٢) .

هذا هو سدّ كورش ذي القَرنَينِ - كما وَصَفه القرآن الكريم - يَشهد على ذلك جميع الشُعوب التي دخلت أُوربا عن شمال جبال قوقاز وشاهدته بعد ما شُيّد أو اجتازت مضيق داريال قبل تشييده، هذا هو السدّ، في منطقة استراتيجيّة ذات أهميّة كبيرة، جرَّ عليها موقعها هذا صِعاباً كثيرةً، فطَمعت فيها كلّ الدُول المـُجاورة!

وهكذا، فكلّ مَن سيطر على الإقليم صارت كلّ المناطق شماله وجنوبه تحت رحمته؛ لذلك فقد وصل الغُزاة إلى المنطقة من فجر التأريخ، فغزاها الآشوريّون والكلدانيّون والمصريّون والقُدماء والفارسيّون، ثُمّ اليونانيّون... وخضعت لنُفوذ بيزانطة في القَرن الثالث الميلادي بعد أن انتشرت المسيحيّة في جنوبها في القرن الأوّل الميلادي، وكذلك استولت الصين على جنوب قوقاز في القَرن الرابع الميلادي، وكانت دَولَتا الفُرس والروم كفَرَسَي رِهان على امتلاك أرمينيا وقوقاز وآذربيجان طول التأريخ.

بناء جِدار (دربند)

وفيما بين عامَي (٥٣١ - ٥٧٩ م) حَكم الفُرس في عهد أنوشيروان هذه المنطقة وَوَجد المـَلِك الفارسي أنّ السدّ (الذي بَناه كورش قبل ١٠٠٠ عام ) لم يَعد يمنع المـُغيرينَ عن بلاد فارس، خصوصاً وأنّ النوعيّة قد تغيّرت، فقد أُضيف إليها العُنصر الروماني

____________________

المحروق) والطين والحجارة، يبلغ طوله (١٥٠٠ مِيلاً ) ويمتدّ من البحر الأصفر حتّى سَلاسل جبال (تاين تاغ)؛ لتَحول دون القبائل الهمجيّة - التي كانت تسكن صحراوات منغوليا - الدائمة الإغارة على سُهول الصين، ويَشتمل السور على عدد مِن البوّابات الضَخمة في مناطق مُتباعدة يقوم على حراستها جُنُود أشدّاء، مفاهيم جغرافيّة، ص ١٢٨ - ١٢٩.

(١) بَناه في مُنحدَرات جبال قوقاز حتّى شواطئ بحر قزوين حيث مدينة دربند في طول سبعة فراسخ؛ سدّاً لهجمات الرومان البيزنطيّين والأتراك حيث كانوا يتدفّقون على شمال فارس عِبر الشريط الساحلي الذي بلغ اتّساعه ٣٠ مِيلاً بين بحر قزوين وجبال قوقاز، مفاهيم جغرافيّة، ص ٣١٥، ولغت نامه دهخدا، حرف الدال.

(٢) المـُنجد في الأعلام، حرف الميم.

٥٠٨

والتركي.

فمن أين جاء التهديد هذه المرّة، وكيف بَطَل مفعول السدّ الكورشي؟

... كان بحر قزوين يَضرب بأمواجه أقدامَ جبال قوقاز من جهة الشرق، وكانت مياه البحر الأسود تَضرب أقدامها من ناحية الغرب، وكان من المستحيل على الغُزاة بعد بِناء سدّ كورش الشهير أنْ يتوغَّلوا إلى جنوب قوقاز.

ولكن بعد (١٠٠٠ عام) من بِناء السدّ في مضيق داريال، كان البحر قد فعل مفعوله في مياه بحر قزوين.

وبما أنّه بحرٌ مُغلق لا يتّصل ببِحار العالَم ومحيطاتها، فقد تناقصت مياهُه وانحسرت عن شواطئه، مُتراجعةً نحو القاع، فانكشف جزءٌ مُدرَّج على طُول امتداد تعاريج الساحل، وظهر بذلك شريط ساحلي ضَيّق بين خطّ ماء البحر الجديد وأقدام جبال قوقاز عند (دربند)، وصار الرومان البيزنطيّون والأتراك يَتدفّقون على شمال فارس عِبر هذا الشريط الساحلي الذي بلغ اتساعه ٣٠ ميلاً بين بحر قزوين وجبال قوقاز.

لذلك أمر (أنوشيروان) ببِناء جِدار من الحَجَر بين مياه بحر قزوين وأقدام الجبال، بعَرض هذا الشريط الساحلي، حتّى التَحَم الجِدار تماماً بجبال قوقاز، وبذلك عاد لسدّ كورش مفعوله مرّةً أخرى (١) .

جدار (دربند) (٢)

ويَجدُر بنا و نحن على وَشَك الانتهاء من حديث ذي القَرنَينِ، أنْ نتحدّث شيئاً عن السُدود المعروفة في العالَم القديم وربّما اشتبهت بسدّ ذي القَرنَينِ الآتي في القرآن الكريم:

____________________

(١) مفاهيم جغرافيّة، ص ٣١٤ - ٣١٥.

(٢) دربند، مدينة في داغستان على ساحل بحر قزوين غرباً، سَمّاها العرب (باب الأبواب) مشهورة بأَسوارها التي تَسدّ المـَمرّ بين البحر والجبل، احتلّها المـُسلمون عام (٢٢ هـ / ٦٤٣ م) وكانت آخر مدينة على حُدود إيران الشماليّة حتّى عهد فتحعلي شاه قاجار فاستلبها الرُوس عام ١٧٩٦ م.

٥٠٩

منها: (جدار دربند) أو (حائط قوقاز) الذي بناه المـَلِك الساساني أنوشيروان في امتداد جبال قوقاز حتّى مياه بحر قزوين في طول سبعة فراسخ، سدّاً لهَجمات أَقوام هَمَج كانوا وراء السدّ، كانوا يُغيرون على حدود مَمالك فارس، فصدّهم ببِناء هذا الحائط العظيم، وجَعل له باباً ضَخماً كان يُوصد بوجه المـَغول والتتار، واشتهر بباب الأبواب.

وكانت مدينة (دربند) والتي بَناها أنوشيروان في نَفس المكان، قد سُمّيت بنفس الاسم، وهي اليوم عاصمة جمهوريّة (داغستان) على ساحل البحر (١)، لقد كانت الحروب دامية بين مُلوك فارس والقبائل الوَحش خَلف جبال قوقاز مُنذ عهد بعيد، حيث أَطماع تلك الأَقوام الصحراويّين في ثَراء منطقة آذربيجان وأرمينيّة وداغستان وكرجستان وسائر البلاد الخِصبة الغنيّة بالحَرث والنَسل.

وكان المـَلِك الساساني (قباد) (والد أنوشيروان) كان قد شَنّ حَملاته الدفاعيّة ضدّ أقوام التتر؛ ليَمنعهم عن إغارة البلاد، وكانوا يُغيرون عِبر حُدود مَمالك فارس حتى نهر كورا (كورش القديم)، فحاربهم (قباد) ومَزَّق شملَهم في حروب دامية، وقَتَلهم شرَّ قتلة وسبى وغَنِم الكثير من أموالهم، وهكذا كانت الإغارات والهجمات ظلّت مُستمرّةً بين حين وآخر حتى جاء دور (أنوشيروان) وتَسنَّم الحُكم، فكان ممّا شَدَّ العَزم على إنهاء تلك العَرقلة، أنْ قام بتشييد حائط متين يَحجز دون إغارات الأَقوام الهَمَج نهائيّاً، وليريح شَعبه من المـُزاحمينَ طول حُقبات (٢) .

وفيما بين عامَي(٥٣١ - ٥٧٩ م) (أي بعد بِناء سدّ كورش بأَلف عام) وجَدَ المـَلِك أنوشيروان أنّ السدّ القديم لم يَعد يمنع المـُغيرينَ عن فارس، خصوصاً وأنّ النوعيّة قد تغيّرت، فقد أُضيف إلى أقوام التتر والمـَغول، العنصر الروماني والتركي، وكان بحر قزوين قد أَخذ في الانخفاض والانحسار عن أقدام جبال قوقاز؛ نظراً لأنّه بحر مُغلق لا يتّصل بالمـُحيطات، فقد تناقصت مياهه وانحسرت عن شواطئه نحو القاع، فانكشف جُزء مُدرَّج على طول امتداد تعاريج الساحل، وظهر بذلك شريط ساحليّ ضيّق بين خطّ ماء البحر الجديد وأقدام جبال القوقاز عند (دربند) وصار الرومان البيزنطيّون والأتراك، مع البقايا

____________________

(١) لغت نامه دهخدا، حرف الدال، ص ١٠٥٥٤.

(٢) تأريخ إيران، ص ٢٠٥ - ٢٠٦ و ٢١٥.

٥١٠

من أقوام التَتَر الهَمج يتدفّقون على شمال فارس، عِبر هذا الشريط الساحلي الذي بلغ اتّساعه (٣٠ ميلاً) (١) بين بحر قزوين وجبال قوقاز.

لذلك قام أنوشيروان ببِناء جِدار متين من الصخور الغِلاظ، مُمتدّاً من سُفوح جبال قوقاز حتّى مياه البحر، وآخِذاً فيه بعض الشيء - على ما ذَكَره المسعودي والحَموي - (٢) حتّى التَحم الجِدار مع الجبال تماماً.

* * *

وهل كان أنوشيروان هو الذي تَبنّى بناء جِدار دربند، أَم كان هو القائم بتجديد بنائه بعد انهيارات حَصلت في أَطرافه وتَضعضع وأشرف على الخراب، فأعاد أنوشيروان بِناءه على أُسس متينة وعلى استحكام بالغ بَقيَ طيلة قرون، (وقد كان قائماً حتّى عهد المسعودي سنة ٣٢٣ هـ )؟

يبدو مِن كتاب تأريخ كرمان: أنّ الجِدار كان قد بُني قَبل ذلك بما أَثّر فيه طول العهد

____________________

(١) حسب تقديره الآن وقد انحسر البحر أكثر، وقد قَدَّره الحَموي آنذاك على عهد المـَلِك أنوشيروان بسبعة فراسخ، كلّ فرسخ ثلاثة أميال اليوم، فقد اتّسع هذا الشريط بعد أَلفي عام بعَرض عشرة فراسخ.

(٢) قال الحَموي: وعلى مدينة باب الأبواب (دربند) سور من الحجارة مُمتدّ من الجبل طولاً، ومع طول السور فقد مُدّت قطعة في البحر شبه أنف طولاني لمنع مِن تقارب السُفن من السور، وهي مُحكَمة البِناء موثّقة الأَساس من بِناء أنوشيروان، وهي أحد الثغور الجليلة العظيمة؛ لأنّها كثيرة الأَعداء الذين حَفُّوا بها من أُمم شتّى وأَلسِنة مختلفة وعدد كثير.

قال: وأقام أنوشيروان يبني الحائط بالصخر والرصاص، ثُمّ قاده في البحر، وقد أَحكم هذا المـُمتدّ في البحر بحيث لا يَتهيّأ سلوكه، وقد بَناه بالحجارة المنقورة المـُربّعة المـُهندّمة، لا يُقِلُّ أَصغَرَها خمسون رجلاً، وقد أُحكمت بالمسامير والرصاص، وأُلقيت في قَرار البحر حتى اعتلى السور على وجه البحر بما استوى مع الذي في البرّ في عَرضه وارتفاعه.

وقُدِّر طول الحائط من البحر إلى سَفح الجبل بسبعة فراسخ، معجم البلدان، ج ١، ص ٣٠٣ - ٣٠٥.

وذَكَر المسعودي أنّ كسرى أنوشيروان بنى السور من جَوف البحر بمقدار ميل (٤٠٠٠ ذراع) بالصخر والحديد والرصاص، ويُسمّى هذا المـَوضع من السور في البحر: الصدّ. وهو باقٍ إلى وقتنا هذا، وهو سنة (٣٣٢ هـ ) مانِعاً للمـَراكب في البحر إنْ وردت من بعض الأعداء. ثُمّ مَدَّ السور في البرّ مابين الجبل والبحر.

وزاد: أنّه مَدَّ السور حتى أعالي الجبال ومنخفضاته وشِعابه (أي سَدَّ جميع الخلل والفُرج هناك) نحواً من أربعين فرسخاً إلى أنْ ينتهي إلى قلعة (طبرستان)، مُروج الذهب، ج ١، ص ١٧٦ و ٢٦٤.

قلتُ: ولعلّه الصاروج بدل الرصاص وقد التَبَس عليهم، لوجود المـُشابَهة شكليّاً وبعد مرور ألف عام على بِنائه، والصاروج: خليط من حجر الكِلس وأَملاح الكلسيوم والباريون مَحروق القَصَب وغيرها، يُستعمل في طِلاء الجدران والأحواض والحمّامات، صَنعة قديمة استُخدمت في أُسُس البِنايات الضَخمة وأَعمدة الجسور ولمخازن المياه؛ لمقاومتها تجاه تأثير الرطوبة واستحكامها عن كلّ مؤثّرات الجوّ والمـُحيط، وهي على مقاومة الإسمنت في هذا العصر.

٥١١

مِن التَضعضع والإشراف على الانهيار، فكان أنوشيروان قام بتَرميمه وتجديد عمارته.

جاء فيه: أنّ شاهنشاه إيران أنوشيروان عَمَد من (المدائن) عاصمة مُلوك الفُرس، قاصداً مدينة باب الأبواب لتَرميم السدّ في منطقة (شروان) (١) ، فأَخذ طريقه على ساحل الخزر ومعه العُمّال والمهندسون لعمارة السدّ، وأنفق أموالاً طائلة، لكن المشروع استنفدها دون الاكتمال، وبعد التدبُّر والمـُشاورة رأى المـَلِك أنّ أَحداً من عُظماء مَملكته لا تَسَعه المـُساهمة في إكمال المشروع الجَلَل، سِوى الأمير (آذرماهان) وكان والياً على بلاد كرمان من قبل السلطان، وكانت بلاد كرمان يومذاك غنيّة بالثروات الطبيعيّة والزراعيّة بما يَفوق سائر البلاد.

غير أنّ المـَلِك لم يَرُقه تكليف مُوظّفيه بأكثر من المـُقرّر الرسمي المفروض عليهم، حيث كان خِلاف العَدل السُلطاني؛ ولذلك عَزَم على المسير إليه في أَلف من خواصّه المهندسينَ والعُمّال الفنّيينَ، حتّى ورد (إيلغار كواشير) (٢) نازلاً في دار الأمير، فوَعَدهم بالمـُساهمة في المشروع بما يكفي مؤنة إكمال السدّ نهائيّاً... ذكروا أنّ السدّ اكتمل بما بَذَله أمير كرمان آنذاك (٣) .

شكوك حول كورش: هل هو ذو القَرنَينِ؟

ربّما تَشكّك البعض في الرأي القائل بأنّ ذا القَرنَينِ - الذي وَصَفه القرآن بالصلاح - هو كورش الكبير المـَلِك الفارسي العظيم؟!

وعُمدة مَسارب الشكّ هو جانب سلوكه السياسي المـُتسامح مع أصحاب الأديان وحتّى مع عَبَدة الأوثان، ومن غير أنْ يسير سعياً وراء إعلاء كلمة الله في الأرض، يشهد لذلك سلوكه الخاصّ مع البابليّينَ وإفساح المجال لهم في عقيدتهم الأُولى ولا سيّما تَزلّفه في تكريم كبير آلهتهم (مردوك) - حتّى أنّه عَدّ نفسه مَوضعاً لعنايته في مَنشورٍ عام، كما رَدّ إلى عَبَدة الأوثان كلّ ما نُهب منهم من أصنام وجَعلها في معابد كانت تُسمّى (شادي

____________________

(١) شروان: منطقة في الجنوب الشرقي من بلاد قوقاز بين أعالي نهر أرس وكورا كانت في القديم من نواحي باب الأبواب.

(٢) إيلغار، لفظة تُركية تَعني: المـُعسكر - الحامية، وكواشير اسم قديم لمدينة كرمان الفعليّة.

(٣) راجع: كورش كبير، ص ٢٨٣ - ٢٨٤ الهامش، عن تأريخ كرمان، ص ٢٤.

٥١٢

دل) أَي فَرحة النَفْس.

يقول في ذلك الأُستاذ مُحمّد خير رمضان: تلك المقاطع التأريخيّة إنْ دلّت على شيء فإنّما تدلّ على وثنيّة كورش وتعظيمه للآلهة وإفساح المـَجال لعبادتها لكلّ الشعوب المـُقدِّسة لها، ويكفيك ما قاله في منشوره العام: (أَرجعتُ الآلهة التي نُقِلَت إليها (معابد بابل) إلى مواطنها... وأَعدتُ إلى سومر وأَكَد آلهتها التي حُملت إلى بابل ووضعتُها في قصورها التي تُسمّى (شادي دل) وبذلك أَنهيتُ غضب الآلهة بأمر مِن مردوك الإله الكبير - ومردوك هو صنم بابلي.

وهذا يُقوّي ما ذَهب إليه المؤرّخون ممّا قيل عن عقيدته وإعطائه الحريّة الدينيّة كيفما كانت، وبخاصّة عبادة الأصنام، لا كما هي صفات ذي القَرنَينِ - حسبما جاءت في القرآن - مِن أنّه كان يُحارب هذا الشرك، ولا يَتعامل معهم ولا يَقبل منهم إلاّ الإيمان أو الحرب!! (١)

ومن ناحية أُخرى هي جانب بِناء السدّ - الذي ذَكَره القرآن - تَشَكّكوا في كونه عمل كورش بالذات، ولعلّه قام بترميمه نظير ما عَمِله أنوشيروان بعد ألف عام، ومُستند الشكّ أنّه لم يأتِ في التأريخ ذِكر عن بناء هذا السدّ على يد كورش، في حين أنّه لم يكن بذلك البعيد بحيث يُجهل تأريخ حياته ولا سيّما في مِثل هذا العمل الضخم، كما لم يَذكره هو في مَفاخره، حيث ذَكَر مفاخر هي أقلّ شأناً من بِناء هذا السدّ العظيم.

يقول الأُستاذ مُحمّد خير رمضان: لا دليل لاستناد بِناء السدّ إلى كورش، وعُمدة ما يستدلّون به: أنّ القبائل المـَغوليّة كانت لا تَتَكاسل عن الانقضاض على مناطق آسيا الغربيّة خلال القرن السادس قبل الميلاد... وكلّ صفحات التأريخ تَذكر لنا أنّ ثَمّة توقّفاً مُفاجئاً حَدَث في عمليّة تدفّق هذه القبائل البدائيّة المـُتوحّشة... وتُشير أصابع الدقّة التأريخيّة نحو الحُقبة التي ظهر فيها كورش الهخامنشي.

هذا هو الدليل الوحيد الذي استند إليه أصحاب القول بأنّ السدّ من عَمل كورش

____________________

(١) ذو القَرنَينِ، القائد الفاتح والحاكم الصالح لمـُحمّد خير رمضان يوسف، ص ٢٣٦ - ٢٣٨.

٥١٣

الكبير.

ولكن: هل يعني توقّف هذه القبائل: أنّ كورش بنى السدّ؟!

لماذا لا نقول: إنّ السدّ كان مَبنيّاً من قَبل، ولكنّ الحوادث الطبيعيّة أَثّرت في جوانب السدّ، كأَن تكون مياه بحر قزوين قد انحسرت عن شواطئه فكانت القبائل تغزو من الساحل الذي كان مكانه الماء، ثُمّ أُعيد ترميم السدّ في عهد ذلك المـَلِك، وَوَقفت هجمات القبائل المـُتوحّشة على تلك المنطقة بعد هذا؟!

وهذا نظير ما حدث على عهد أنوشيروان بعد ألف عام... أَفَليس من المعقول أنْ يكون كورش قد فعل مِثل صنيع أنوشيروان في ذلك، ويكون السدّ - بطبيعة الحال - قد بُنيَ قبله بزمن طويل؟!

قال: إنّني أرى ما ذكرتَه أَسلم، لأسباب:

١ - لم يَثبت تأريخيّاً قطّ أنّ كورش قد بنى سدّاً هناك...

٢ - لم يَذكر كورش في الوثيقة السابقة التي كَتَبها، أنّه بنى السدّ... رُغم أنّ هذا يُعدّ عَملاً عظيماً جدّاً لا يرتقي إليه أيّ عَمل من أعمال كورش السابقة...

فكيف يَهمل كورش ذِكر هذا السدّ - والذي استغرق بناؤه عشر سنوات كما يقول الأُستاذ خضر - والذي هو أَبلغُ آثاره على مرّ السنين، ثُمّ يَذكر أشياء أُخر أَبسط منه بكثير، والتي يُشارك فيها مُلوك غيره؟!!

٣ - ليس كورش بذلك المـَلِك القديم جدّاً حتّى تخفى أخباره على جزيرة العرب... في حين يجب أنْ لا ننسى أنّ قَصَص الفُرس كانت مُنتشرةً بين العرب، وكان لهم أنصار بينهم، وقد تَأثّروا بأَدبهم ورواياتهم وقَصَصهم الشعبيّة... وتُحدّثنا السيرة النبويّة الشريفة عن النضر بن الحارث، الذي قَدِم من الحيرة وكان قد تَعلّم بها أحاديث مُلوك فارس وأحاديث رستم واسفنديار... وكان يُحدّث بها إثر ما يقوم رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله) من مجلسه حينذاك...

وإذا كان كورش من أعظم مُلوك فارس، فلابدّ أنّه كان له نصيب من بين تلك

٥١٤

الأحاديث...

قال: هذا ما بدا لي خلال هذا البحث، والقارئ حرّ فيما يَرتئيه، وبخاصّة بعد أنْ بُيّنت له كلّ الأوجه بدقّة وإنصاف... (١)

* * *

إذن: فمن هو ذو القرنين؟

يرى الأُستاذ رمضان: إنّه رجل آخر، عاش في عصور غابِرة، قبل تُبّع، وقبل الإسكندر، وقبل كورش، فقد كان في زمن نبي الله وخليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام (أي قبل كورش هذا بألف عام) كما ذَكَره وصَحّحه ثقات المؤرّخين!!

إذن فذو القرنين رجل آخر ضاعت أخباره على مرّ التاريخ ولم يسلم منها إلاّ ما ذكره الله - عزّ وجلّ - وما ثبت عن الرسول (صلّى اللّه عليه وآله) ونتف أخرى قليلة من التاريخ، اعتمدها بعض الثِقات من المؤرّخينَ (٢) .

وهنا أَورد روايات وحكايات - أسندها إلى السَلف - بشأن ذي القَرنَينِ:

ذو القَرنَينِ في الروايات

قال: وأنا هنا سأَصِل بالقارئ إلى النتيجة، من تلك الروايات إلى ما سَنَستقرّ عليه بعونه تعالى.

فقد ذكر الأزرقي وغيره: أنّ ذا القَرنَينِ أَسلم على يدي إبراهيم الخليل (عليه السلام) وطاف معه بالكعبة المـُكرّمة هو وإسماعيل (عليه السلام).

ورُوي عن عبيد بن عمير وابنه عبد الله وغيرهما: أنّ ذا القَرنَينِ حَجَّ ماشياً، وأنّ إبراهيم لمـّا سَمع بقُدومه تلقّاه، فلمـّا اجتمعا دعا له الخليل ورضّاه وأنّ الله سَخَّر لذي القَرنَينِ السَحاب يحمله حيث أراد.

وقال إسحاق بن بشر عن عثمان بن الساج عن خصيف عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان ذو القَرنَينِ مَلِكاً صالحاً رضيَ الله عملَه وأثنى عليه في كتابه وكان منصوراً وكان

____________________

(١) المصدر: ص ٢٤٢ - ٢٤٤.

(٢) المصدر: ص ٢٤٨.

٥١٥

الخضر وزيره، وذَكَر أنّ الخضر (عليه السلام) كان على مُقدّمة جيشه، وكان عنده بمنزلة المـُشاور... (١)

وروى الفاكهي من طريق عبيد بن عمير - أحد كِبار التابعين -: أنّ ذا القَرنَينِ حجَّ ماشياً فسَمع به إبراهيم فتلقّاه، ومن طريق عطا عن ابن عباس: أنّ ذا القَرنَينِ دَخَل المسجد الحرام فسلّم على إبراهيم وصافحه، ويُقال: إنّه أَوّل من صَافح (٢) .

ومن طريق عثمان بن الساج: أنّ ذا القَرنَينِ سأل إبراهيم أنْ يدعو له. فقال: وكيف وقد أفسدتم بئري! فقال ذو القَرنَينِ: لم يُكن ذلك عن أمري، يعني أنّ بعض الجُند فعل ذلك بغير عِلمه! وذكر ابن هشام - في التيجان -: أنّ إبراهيم تَحاكم إلى ذي القَرنَينِ في شيء فحَكم له! وروى ابن أبي حاتم من طريق علي بن أحمد: أن ذا القَرنَينِ قَدِم مكّة فوجد إبراهيم وإسماعيل يَبنيان الكعبة، فاستفهَمهُما عن ذلك، فقالا: نحن عَبدانِ مَأموران، فقال: مَن يشهد لكما؟ فقامت خمسة أَكبُش فشهدت! فقال: قد صَدَقتُما، قال ابن حجر: فهذه الآثار يَشدّ بعضها بعضاً وتدلّ على قِدَم عهد ذي القَرنَينِ (٣) .

إزاحة شُبُهات

تلك شُبُهات أُثيرت حول الرأي القائل بأنّ ذا القَرنَينِ - الذي جاء وَصْفه في القرآن - هو كورش الهخامنشي المـَلِك الفارسي العظيم!!

لكنّها لم تَحسب حسابها الدقيق، ومِن ثَمّ فإنّ الترجيح مع هذا القول المـُعتَمد على أُصول متينة، أمّا الشُبهات أو الشُكوك فلا مَجال لها بعد إحكام الدليل:

____________________

(١) اُنظر: البداية والنهاية لابن كثير، ج ٢، ص ١٠٣.

(٢) وهكذا روى الشيخ في أماليه (المجلس ٨ والحديث ٢٥ - ترتيب الأمالي، ج ٢، ص ٤٥، رقم ١٠ - ٦٠٣) بإسناده إلى أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (أوّل اثنين تَصافحا على وجه الأرض ذو القَرنَينِ وإبراهيم الخليل، استقبله إبراهيم فصافحه...).

وفي قَصَص الأنبياء للراوندي: وكان ذو القَرنَينِ أَوّل المـُلوك بعد نوح (عليه السلام) مَلَك مابين المشرق والمغرب، بحار الأنوار، ج ١٢، ص ١٧٥.

قال الصدوق: والصحيح الذي أَعتقده في ذي القَرنَينِ أنّه لم يُكن نبيّاً، وإنّما كان عبداً صالحاً أَحبّ الله فأحبّه الله ونصح لله فنصحه، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (وفيكم مِثله) - يعني نفسه الشريفة، بحار الأنوار، ج ١٢، ص ١٨١، رقم ٩.

(٣) اُنظر: فتح الباري بشرح البخاري، ج ٦، ص ٢٧١.

٥١٦

أَوّلاً - ليس في الروايات أو الحكايات التي سَردوها لغرض إثبات قِدَم عهد ذي القَرنَينِ بما يُقارن عهد إبراهيم الخليل، ليس فيها ما يُفيد اليقين؛ لضعف الأَسناد واضطراب المـُتون إلى حدّ بعيد.

يقول الدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي - ردّاً على اختيار الأُستاذ مُحمّد خير رمضان يوسف -: (كم كنتُ أتمنّى على الأُستاذ... أنْ يأتي على رأيه بأدلّة علميّة يقينيّة، وهذه لا تكون إلاّ فيما أُخذ من القرآن والحديث الصحيح، أمّا اعتماده على كلام مؤرّخينَ ومفسّرينَ، لا دليل عليه من المصادر المـُعتَمدة، فهذا لا يُقبل في البحث العلمي المنهجي اليقيني.

ولذلك نحن مُضطرّون أنْ نُخالف الأُستاذ مُحمّد خير في ترجيحه عن ذي القَرنَينِ، من أنّه كان يعيش في زمن إبراهيم (عليه السلام) كما أنّنا مضطرّون إلى تَرك كلّ الأقوال المذكورة في كُتب التأريخ والتفسير عن التقاء ذي القَرنَينِ بإبراهيم (عليه السلام) في فلسطين أو الحجاز؛ لكونها غير مذكورة في حديث واحد صحيح، يُمكن للإنسان أنْ يعتمده ويَطمئنّ به، والله أعلم) (١) .

كورش هو ذلك العبد الصالح؟

جاء في وَصْف القرآن لذي القَرنَينِ ما يَنمّ على صلاح وإيمان واعتقاد باللّه العظيم، وأنّه كان على بصيرة من أَمره ومَوضع عنايته تعالى فيما انتهجه من الحياة السياسيّة الاجتماعيّة، وفي سبيل إحياء كلمة اللّه في الأرض، بما آتاه اللّه من القدرة والحِكمة وحُسن التدبير:

( إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً... )

( قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً... )

____________________

(١) مع قَصَص السابقينَ في القرآن (٢) من كنوز القرآن (٦) - دار القلم - دمشق، ط ٢، ١٤١٦ هـ / ١٩٩٦ م. الدار الشاميّة، بيروت، دار البشير بجدّة، المـَملكة العربيّة السعوديّة.

٥١٧

( قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ... هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي... ) (١)

كان قد مَكّنه اللّه في الأرض وكان قد استخدم سلطانه هذا في سبيل عمارة الأرض وإفشاء السلام فيها، وبذلك وبنعمته تعالى أَصبح عبداً شكوراً!

وهل تَتَصادق صفاتٌ كهذه مع سيرة كورش السياسيّة آنذاك؟

المـُمعِن في سيرة كورش بدقّة يَجده على الوصف الذي جاء في القرآن الكريم:

كان مُؤمناً معتقداً باللّه العظيم وأنْ لا حول ولا قوّة إلاّ به، وأنّه تعالى هو الذي رَعاه وأَلهمه الخير وهَداه إلى سبيل الرشاد، في إصلاح البلاد والعناية بشؤون العباد، الأمر الذي يبدو بوضوح من سيرته الحكيمة مع مختلف شعوب الأرض:

يقول الدكتور خضر: ويَميل كثير من المؤرّخينَ إلى اعتبار أنّ كورش كان مَلِكاً يَتّصف بالعقل والحزم والعزم والرأفة في آن واحد، وأنّه كان يَمضي إلى آخر المـَطاف في أيّ عمل يبدأه، ولا يَترك أيّ عمل دون إتمام. وكان يلجأ إلى العقل أكثر من لجوئه إلى القوّة.

وكان يعامل الشُعوب المـَغلوبة معاملة حَسنة تتّصف بالرأفة والشفقة، بخلاف ما كان عليه الحال عند المـُلوك الآشوريّين والبابليّين، وكان يَعامل المـُلوك المـَهزومينَ مُعاملة طيّبة جدّاً لدرجة أنّهم كانوا يُصبحونَ أصدقاء حميمينَ له، وكانوا يُقدِّمون له العَون إذا تطّلب الأمر.

وكان العدل يُرفرف على جميع الشعوب التي خضعت له من نهر السند حتى بحر إيجه (وهي مَسافة تقرُب من طول الولايات المـُتّحدة الأمريكيّة من الشرق إلى الغرب)... ومن خليج عدن حتى صحراء بحر قزوين، وكان النظام الذي أَرسى الحاكم العظيم كورش دعائمه في هذه الإمبراطوريّة المـُترامية الأطراف عَمَلاً خارقاً يُعدّ من الأعمال الخالدة المجيدة في تأريخ الشرق بل في تأريخ العالَم كلّه...

حقّاً... لقد كان حاكماً رحيماً مُستنيراً يَدعو إلى الخير... وكان يُلقّب بالمـَلِك

____________________

(١) الكهف ١٨: ٨٤ و٨٦ و٩٥ و٩٨.

٥١٨

الأكبر... وظلّ هذا تَقليداً عامّاً لكلّ عاهل فارسي.

ويرى العلاّمة أبو الكلام آزاد: أنّ كورش كان يُطبّق تعاليم الفيلسوف والحكيم المشهور (زرادشت) والتي تدعو إلى الخير وتَعتقد بالحياة الأُخرى وبقاء الروح، كما يرى أبو الكلام آزاد في تعاليم (زرادشت) أنّها مُحور دارت عليه الدعوة إلى طهارة النفس وحُسن العمل، يرى فيها أيضاً تَحريماً لعبادة الأصنام في أيّ شكل من الأشكال.

ومن دلائل تَديُّن الحاكم العظيم كورش ما كَشفه الأُستاذ (هرتزفلد) ( Herzfeld ) مِن بقايا مَعبد قديم، يُعتَقد أنّ كورش هو الذي بَناه في مدينة (باساركاد) ويقوم هذا المـَعبد على مَقربة من قصر المـَلِك، وقبره في تلك المـَنطقة، وهذا المـَعبد يُعبِّر عن مَبلغ أَهميّة هذه الديانة في عهد كورش ومَن بعده، ويراها المـُؤرّخون ديانةً قديمةً كانت ذات أهميّة كبيرة عند أهل فارس القديمة، وأنّها دَعت كلّ إنسان وحثّته على اختيار أحد الطريقَينِ:

إمّا أن يَملأ قلبَه بالخير والنور أو يَنغمس في الشرّ والظُلمة، وعلى كلٍّ فسَيُلاقي جزاءه ويُحاسب على ما آتاه، ويَعتبر المؤرّخون هذه العقيدة أَقدم ديانة ظهرت في آسيا تعتقد بالحِساب بعد البعث.

قال الدكتور خضر: ولعلّنا نجد في قول ذي القَرنَينِ ما يُشير إلى ذلك:

( قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْراً ) .

أي هناك إلهاً، سَيرِد إليه كلّ إنسان يوم البعث للحساب، فإن كان ظالماً في حياته فسوف يعذّبه الله عذاباً شديداً.

وقد ذَكَرت كُتب المؤرّخينَ أنّ كورش لم يَعمل السَلب والنهب في القبائل الأَيونيّة (١) التي أَخضعها، ولم يَسمح بالنهب والقتل فيما آل إليه من مُدُن ومَمالك، وكان بذلك على العكس تماماً من المـُلوك الآشوريّينَ... فإنّهم جعلوا المـُدُن التي فتحوها في مستوى الأرض، وكانوا يتبجّحون بأنّهم تركوها خَراباً يباباً، فلم يَعد يُسمع فيها نُباح كلب

____________________

(١) أيونيّة: منطقة وسيعة في غرب آسيا الصُغرى تشمل السُهول الساحليّة لبحر إيجة والبحر الأسود وجُزر منتشرة هناك، كان يسكنها المهاجرون اليونانيّون القُدامى وأَسّسوا هناك مَملكةً وسيعةً مُقتدرة حالفت ليديا ومَلِكها (كرزوس) العاتي على كورش، لكنّ كورش سامَحَهم بعد الاستيلاء عليهم جميعاً.

٥١٩

أو صياح ديك، وقد وَرد نفسُ الشيء عن مُلوك عيلام.

وحين رأى الناس سُلوك كورش، وقارنوا ذلك بما كان سائداً ومُتَّبعاً آنذاك، كانوا يَعتبرونه حاكماً عادلاً مُنصفاً، طيّب القلب يُحبّ الخير للناس (١) .

ويَعتبره المؤرّخونَ أَوّل مَن أَرسى الأُسس الأخلاقيّة في العالَم القديم، وأدخل أُسلوباً جديداً لمعاملة المـَمالك التابعة والشُعوب المـَغلوبة (٢) .

ويَذكر المؤرّخ اليوناني الكبير (هيرودتس) أنّ كورش - بعد إخضاع بابل - توجّه نحو الشمال الغربي لإعادة الأَمن على البلاد، وإخضاع القبائل الوَحْش (ماساجيت - ماجوج) التي كانت تَشنّ إغارتها على البلاد الآمِنة، يقول: وكان قد تَوجّه لذلك الصَوب بدافع إلهي... أَوّلاً: أَصالة نزعته الإلهيّة... وثانياً: ثقته النفسيّة اعتماداً على ما مكّنه الله تعالى من القوّة والسطوة وقدرته الفائقة على إخضاع كلّ الصِعاب (٣) .

ويقول (ول ديورانت): كان كورش من الحُكّام الذين خُلقوا ليكونوا حُكّاماً، والذين يقول فيهم (إمرسن): كان الناس يَبتَهجون عندما يَرَون هؤلاء يُتوَّجون.

فلقد كان مَلِكاً بحقٍّ في رُوحه وأَعماله، قديراً في الأَعمال الإداريّة والفُتوح الخاطِفة المـُحيّرة، كريماً في معاملة المـَغلوبينَ، مَحبوباً لدى أعدائه السابقينَ، فلا عجب والحالة هذه أنْ يتّخذ اليونان منه مَوضوعاً لعدّة روايات بُطوليّة وأنْ يَصفوه بأنّه أكبر أبطال العالم (٤) .

كان وَسيمَاً بهيّ الطَّلعة - وقد اتّخذه الفُرس نَموذجاً للجمال البشري حتى آخر أيّام فُنونهم القديمة - (٥) وأنّه أَسّس الأُسرة الهخامنشيّة أُسرة المـُلوك العِظام التي حَكَمت بلاد الفُرس في أزهى أَيّامها وأَعظمها شُهرةً، وأنّه نَظَّم قوّات ميديا وفارس الحربيّة، فجَعَل منها

____________________

(١) مفاهيم جغرافيّة، ص ٢٥١ - ٢٥٥.

(٢) تأريخ إيران، ص ٧١ - ٧٢.

(٣) (أَنكيزه هاي مُتعددي داشت، يكى اصل و تبار إزدي وي، ديكر بيروزيهاي بي در بي...). تأريخ هيرودت، ص ٩٩.

(٤) قصة الحضارة، ج ٢، ص ٤٠٣.

(٥) يَبدو مِن وصف (ول ديورانت) عن الشعب الفارسي أنّهم كانوا أَجمل شُعوب الشرق الأدنى في الزمن القديم، فالآثار الباقية مِن عهدهم تُصوِّرهم شعباً معتدل القامات قويّ الأجسام، قد وهبتهم طبيعة البلاد شِدّةً وصَلابةً، ولكن ثروتهم الطائلة رقّقت طِباعهم، وهم ذَوو ملامح متناسبة متناسقة، شُمُّ الأُنوف، تبدو على وجناتهم سِمات النُبل والرَوعة - ثُمّ يأتي في وصف ملابسهم الجميلة ذوات وِقار وإكبار... قصّة الحضارة - تأريخ الشرق القديم، ج ٢، ص ٤١٠.

٥٢٠

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578