شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم13%

شبهات وردود حول القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 578

شبهات وردود حول القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 578 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 297602 / تحميل: 13676
الحجم الحجم الحجم
شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

يقول الأُستاذ الطنطاوي: ويعتقد بعض العلماء اليوم أنّ تبادل الخواطر هو مستوى القوّة التي تُمكّن الشخص مِن نقل آرائه إلى شخصٍ آخر بدون أيّة واسطة مادّية أو ظاهريّة، فهل هذا الرأي مُمكن أو مُحتمل الوقوع؟ وإجابةً على ذلك يقول العالِم الإنجليزي (برسي): إنّ نقل الأفكار قد يحدث في أوقات شاذّة وحالات خاصّة، وذلك مالا يُعارض فيه أحد من الباحثينَ، ولكنّه لا ينطبق على الحالات العامّة، وذلك التبادل قد يُرى بوضوح بين الحشرات والحيوانات قد اقتربت حشرةً من أُخرى. قال: وبذلك نعرف أنّ الحيوانات تُكلّم بعضها بنقل الخواطر، والنَّمل من هذا القبيل، وأنّ الإنسان مُستعدّ لذلك؛ لأنّه من جُملة مواهبه، ولكن هذه المـَوهبة تجيء تارةً بطريق الوحي الخارق للعادة وتارةً بالتَمرين (1) .

فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً

زَعَموا أنّ القرآن ذَكَر مراحل تكوين الجنين فيما يُخالف العِلم الثابت اليوم!

ففي قوله تعالى: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) (2) .

جاء في تفسير الجلالَين: ( عَلَقَةً ) دماً جامداً، ( مُضْغَةً ) لَحمَة قَدَر ما يُمضغ (3) .

وهكذا جاء في تفسير المراغي (4) وغيره مِن المتأخّرين.

ومعنى ذلك: أنّ النطفة تحوّلت دماً مُتخثّراً، وتحوّل الدم إلى مُضغةٍ أي لَحمَة شِبه ممضوغة أو بقدرها، ثمّ تحوّلت اللَحمة إلى العظام.

الأمر الذي يتنافى مع العِلم القائل بأنّ اللحم ينبت على العظام بعد خَلقها، كما هو صريح القرآن أيضاً وهذا يبدو متناقضاً ( فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ) !!

____________________

(1) تفسير الجواهر، ج13، ص158 - 159.

(2) المؤمنون 23: 12 - 14.

(3) تفسير الجلالَين، ج2، ص44.

(4) تفسير المراغي، ج18، ص8.

٣٢١

غير أنّ هذه الشُبهة نشأت مِن خطأ هؤلاء المفسّرين وليست واردة على القرآن.

فقد كان تعبير القرآن أنّ النُطفة - وهي خليّة الذَكَر تمتزج ببويضة المرأة - تتحوّل إلى علقة: كُرة جرثوميّة لها خلايا آكلةً وقاضمةً تُعلّق بواسطتها وبواسطة حملات دقيقة بجدار الرحم، تتغذّى بدم المرأة، وهذه النُطفة الصغيرة العالقة تشبه دودة العَلَقة التي تَمتصّ الدم.

ثمّ إنّ هذه العَلَقَة تتحوّل إلى كُتلة غُضروفيّة تشبه ممضوغة العِلك في الفم، وتكون منشأ لتكوين العظام ثُمّ تكوين العضلات بعد بِضعة أيّام؛ لتكسو العظام أي تُغطّيها وتلتحم معها.

ومعنى ذلك: أنّ العِظام تسبق العضلات، ثُمّ تكسو العضلات العظام، وصدق الله العظيم حيث يقول: ( فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ) .

قال سيّد قطب: وهنا يَقف الإنسان مدهوشاً أمام ما كَشَف عنه القرآن من حقيقة في تكوين الجنين لم تُعرف على وجه الدقّة إلاّ أخيراً بعد تقدّم عِلم الأجنّة التشريحي، ذلك أنّ خلايا العظام غير خلايا اللحم (العضلات)، وقد ثبت أنّ خلايا العِظام هي الّتي تتكوّن أَوّلاً في الجنين، ولا تُشاهد خليّة واحدة من خلايا اللحم إلاّ بعد ظهور خلايا العِظام وتمام الهيكل العظمي للجنين، وهي الحقيقة التي يُسجّلها النصّ القرآني (1) .

وقد أشبعنا الكلام في ذلك عند الكلام عن إعجاز القرآن العلمي في الجزء السادس من التمهيد.

وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ

يبدو من ظاهر تعبير آيات قرآنيّة أنّ النجوم جُعلت شُهُباً يُرمى بها الشياطين، قال تعالى: ( وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ ) (2) .

وقال ( إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى

____________________

(1) في ظِلال القرآن، ج 18، ص 16 - 17.

(2) المـُلك 67: 5.

٣٢٢

الْمَلإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلاّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ) (1) .

وقال سبحانه: ( وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً ) (2) .

وقال عزّ مَن قائل: ( وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * إِلاّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ ) (3) .

غير خفيّ أنّ الشُهُب والنيازك إنّما تَحدث في الغلاف الغازي (الهواء) المحيط بالأرض؛ وقايةً لها، وقُدّر سُمكُه بأكثر من ثلاثمِئة كيلومتر، وذلك على أثر سقوط أحجار هي أشلاء متناثرة في الفضاء المتبقّية من كواكب اندثرت تعوم عبر الفضاء، فإذا ما اقتربت من الأرض انجذبت إليها بسرعة هائلة ما بين 50 و 60 كيلومتراً في الثانية، تخترق الهواء المحيط بالأرض، ولاحتكاكها الشديد بالهواء من جهةٍ ولتأثير الغازات الهوائيّة من جهةٍ أخرى تَحترق وتلتهب شعلة نار، لتتحوّل إلى ذرّات عالقة في الهواء مُكوّناً منها الغُبار الكوني، وهي في حال انقضاضها - وهي تشتعل ناراً - تُرى بصورة نجمة وهّاجة ذات ذَنب مستطيل تُدعى الشُهُب والنيازك.

فليست الشُهُب سِوى أحجار مُلتهبة في الهواء المحيط بالأرض، قريبة منها! فما وجه فَرضها نُجوماً في السماء يُرجم بها الشياطين الصاعدة إلى الملأ الأعلى؟!

لكن يجب أنْ نعلم قبل كلّ شيء أنّ التعابير القرآنيّة - وهي آخذة في الحديث عن كائنات ما وراء المادّة - ليس ينبغي الأخذ بظاهرها اللفظي؛ حيث الأفهام تقصر عن إدراك ما يفوق مستواها المادّي المحدود، والألفاظ أيضاً تضيق عن الإدلاء بتلك المفاهيم الرقيقة البعيدة عن متناول الحسّ.

وبتعبير اصطلاحي: إنّ الأفهام وكذا الألفاظ محدودة في إطار المادّة الكثيفة، فلا تَنال المجرّدات الرقيقة.

____________________

(1) الصافّات 37: 7 - 10.

(2) الجنّ 72: 8 و 9.

(3) الحجر 15: 16 - 18.

٣٢٣

وعليه، فكلّ تعبير جاء بهذا الشأن إنّما هو مجاز واستعارة وتمثيل بِلا ريب.

فلا تَحسب مِن الملأ الأعلى عالَماً يشبه عالَمَنا الأسفل، سوى أنّه واقع في مكان فوق أجواء الفضاء؛ لأنّه تصوّر مادّي عن أمرٍ هو يفوق المادةّ ومُتجرّد عنها، وعليه، فَقِس كلّ ما جاء في أمثال هذه التعابير.

فلا تتصوّر من الشياطين أجساماً على مثال الأناسي والطيور، ولا رَجمها بمِثل رمي النُشّاب إليها، ولا مُرودها بمثل نفور الوحش، ولا استماعها في محاولة الصعود إلى الملأ الأعلى بالسارق المتسلّق على الحيطان، ولا قذفها بمثل قذف القنابل والبندقيات، ولا الحرس الذين ملئوا السماء بالجنود المتصاكّة في القِلاع، ولا رصدها بالكمين لها على غِرار ميادين القتال... إذ كلّ ذلك تشبيه وتمثيل وتقريب في التعبير لأمرٍ غير محسوس إلى الحسّ لغرض التفهيم، فهو تقريبٌ ذهني، أمّا الحقيقة فالبون شاسع والشُقّة واسعة والمسافة بينهما بعيدة غاية البُعد.

قال العلاّمة الطباطبائي: إنّ هذه التعابير في كلامه تعالى من قبيل الأمثال المضروبة؛ ليُتصوّر بها الأمور الخارجة عن محدودة الحسّ في صور المحسوسات للتقريب إلى الأذهان، وهو القائل عزّ وجلّ: ( وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاّ الْعَالِمُونَ ) (1) (أي لا يتعقّلها ولا يعرف مغزاها إلاّ مَن عَرف أنها أمثال ظاهريّة ضُربت للتقريب محضاً).

قال: وأمثال هذه التعابير كثير في القرآن كالحديث عن العرش والكرسي واللوح والكتاب وغيرها.

قال: وعلى هذا، فيكون المـُراد من السماء التي مَلأَتْها الملائكة: عالَماً ملكوتيّاً هو أعلا مرتبة من العالم المشهود، على مِثال اعتلاء السماء الدنيا من الأرض، والمـُراد من اقتراب الشياطين إليها واستراق السمع والقذف بالشُهب: اقترابهم من عالم الملائكة لغرض؛ الاطّلاع على أسرار الملكوت، وثَمّ طردهم بما لا يَطيقون تَحمّله مِن قذائف النور،

____________________

(1) العنكبوت 29: 43.

٣٢٤

أو محاولتهم لتلبيس الحقّ الظاهر، وثَمّ دحرهم ليعودوا خائبينَ (1) ( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ) (2) .

والآيات من سورة الجنّ لعلّها إشارة إلى هذا المعنى، حيث هي ناظرة إلى بعثة نبيّ الإسلام، وقد أَيسَ الشيطان من أنْ يُعبد وعلا نفيره.

قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (ولقد سمعتُ رنّةَ الشيطان حين نَزل الوحي عليه (صلّى الله عليه وآله) فقلتُ: يا رسولَ الله، ما هذه الرنّة؟ فقال: هذا الشيطان قد أيسَ من عبادته) (3) .

يقول تعالى في سورة الجنّ: ( قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناًَ عَجَباً - إلى قوله: - وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً ) (4) ، فهي حكاية عن حالٍ حاضرة وَجَدَتها الجنّ حينما بُعث نبيّ الإسلام.

وبهذا يشير قوله تعالى: ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (5) ، وقوله: ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً ) (6) .

نعم، كانت تلك بُغية إبليس أنْ يتلاعب بوحي السماء ولكن في خيبة آيسة: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاّ إِذَا تَمَنَّى (ظهور شريعته) أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (7) ، أي حاول إبليس الحؤول دون بلوغ أُمنيّة الأنبياء، فكان يَندحر ويَغلب الحقّ الباطل وتَفشل دسائسه في نهاية المطاف.

أمّا عند ظهور الإسلام فقد خاب هو وجنوده منذ بدء الأمر وخَسِر هنالك المـُبطلون.

قال الإمام الصادق (عليه السلام): (فلمـّا وُلد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حُجِب (إبليس) عن السبع السماوات ورُميت الشياطين بالنجوم...) (8) .

____________________

(1) تفسير الميزان، ج 17، ص 130 نقلاً مع تصرّفٍ يسير.

(2) الأنبياء 21: 18.

(3) نهج البلاغة، الخطبة القاصعة، ص 301.

(4) الجنّ 72: 1 - 9.

(5) الحجر 15: 9.

(6) الفتح 48: 28.

(7) الحجّ 22: 52.

(8) الأمالي للصدوق، ص 253، المجلس 48، وبحار الأنوار، ج 15، ص 257.

٣٢٥

وفي حديث الرضا عن أبيه الكاظم عن أبيه الصادق (عليهم السلام) في جواب مُساءَلة اليهود: (أنّ الجنّ كانوا يَسترقون السمعَ قَبل مَبعث النبيّ (صلّى الله عليه وآله) فمُنِعت مِن أوان رسالته بالرجوم وانقضاض النجوم وبُطلان (عمل) الكَهَنة والسحرة) (1) .

وهكذا حاول الشيخ الطنطاوي تأويل ظواهر التعابير الواردة في هذه الآيات إلى إرادة التمثيل، قال - ما مُلخّصه -: إنّ العلوم التي عَرفها الناس تُراد لأَمرَين: إمّا لمعرفة الحقائق لإكمال العقول، أو لنظام المعايش والصناعات لتربية الجسم، وإلى الأَوّل أشار بقوله تعالى: ( وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً ) (2) ، وإلى الثاني قوله: ( وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ ) (3) ، وكلّ مَن خالف هاتَين الطريقتَين فهو على أحد حالَين: إمّا أنْ يُريد ابتزاز أموال الناس بالاستعلاء بلا فائدة، وإمّا أنْ يُريد الصيت والشُهرة وكسب الجاه، وكلاهما لا نفع في عِلمه ولا فضل له.

فمَن طلب العِلم أو أكثر في الذِكر؛ ليكون عالةً على الأُمّة فهو داخلٌ في نوع الشيطان الرجيم، مرجوم مُبعدٌ عن إدراك الحقائق ومُعذّبٌ بالذّل والهوان، وهذا مِثال قوله تعالى:) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإِ الأَعْلَى (فلا يعرفون حقائق الأشياء) وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُوراً ) بما رُكّب فيهم من الشهوات وما اُبتلوا من العاهات ( وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ ) أي في أَمل متواصل مُلازم لهم مدى الحياة، فلو حاول أنْ يَخطِف خَطفة من الحقائق حالت دون بلوغه لها الأميال الباطلة ( فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ) (4) .

نعم ( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ ) (5) ، ولا شكّ أنّها كناية عن حرمانهم العناية الربّانيّة المـُفاضة مِن مَلكوت أعلى، الأمر الذي أُنعِمَ به الرّبانيّون في هذه الحياة: ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ ) (6) ، فملائكة الرَحمة تَهبط إليهم وهم في مواضعهم آمنون مستقرّون سائرون في طريقهم صُعُداً إلى قمّة الكمال.

____________________

(1) بحار الأنوار، ج 17، ص 226 عن قرب الإسناد للحميري، ص 133.

(2) الحجر 15: 16.

(3) الأعراف 7: 10، الحجر 15: 20.

(4) الصافّات 37: 6 - 10. راجع: تفسير الجواهر، ج 8، ص 13، وج 18، ص 10.

(5) الأعراف 7: 40.

(6) فصّلت 41: 30.

٣٢٦

وكذلك قوله تعالى: ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ) (1) ، أي آخذ في الصعود إلى سماء العزّ والشرف والسعادة. ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) (2) ، فما هذا الصعود وهذا الرفع؛ إلاّ ترفيعاً في مدارج الكمال.

وهكذا جاء التعبير بفتح أبواب السماء كنايةً عن هطول المطر ( فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ ) (3) ، وأمثال هذا التعبير في القرآن كثير (4) ، والجميع مَجاز وليس على الحقيقة سواء في المعنويّات أم الماديّات، فلو كان عيباً لعَابَه العرب أصحاب اللغة العَرباء في الجزيرة، لا أرباب اللغة العجماء من وراء البحار.

وأمّا النجوم التي يُرجم بها الشياطين (أبالسة الجنّ والإنس) فهم العلماء الربّانيّون المتلألئون في أُفق السماء، يقومون في وجه أهل الزيغ والباطل فيَرجموهم بقذائف الحُجج الدامغة ودلائل البيّنات الباهرة، ويَرمونهم من كلّ جانب دحوراً.

فسماء المعرفة مُلئت حرساً شديداً وشُهُباً. قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (يَحمل هذا الدِّين في كلِّ قَرن عدولٌ يَنفون عنه تأويل المـُبطلينَ وتحريف الغالينَ وانتحال الجاهلين...) (5) .

وقد أطلق النُجوم على أئمة الهُدى ومصابيح الدُجى من آل بيت الرسول (عليهم السلام) فقد روى عليّ بن إبراهيم في تفسير قوله تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ) (6) قال: النُجوم آل مُحمّد (صلّى الله عليه وآله) (7) .

وفي حديث سلمان الفارسي رضوان الله عليه قال: خَطَبنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقال: (مَعاشرَ الناسِ، إنّي راحل عنكم عن قريب ومُنطلق إلى المـَغيب، أُوصيكم في عترتي خيراً وإيّاكم والبِدع، فإنّ كلّ بِدعةٍ ضلالة وكلّ ضلالة وأهلها في النار، معاشرَ الناسِ، مَن افتقدَ الشمس فليتمسّك بالقمر، ومَن افتقدَ القمر فليتمسّك بالفرقَدَين، ومَن افتقدَ الفرقَدَين فليَتمسّك بالنجوم الزاهرة بعدي، أقول قولي واستغفر اللّه لي ولكم).

____________________

(1) إبراهيم 14: 24.

(2) فاطر 35: 10.

(3) القمر 54: 11.

(4) الأنعام 6: 44، الأعراف 7: 96، الحجر 15: 14، النبأ 78: 19.

(5) بحار الأنوار، ج2، ص93، رقم 22 من كتاب العلم.

(6) الأنعام 6: 97.

(7) تفسير القميّ، ج1، ص211.

٣٢٧

قال سلمان: فتَبِعتُه وقد دَخل بيت عائشة وسألتُه عن تفسير كلامه فقال - ما ملخّصه -: (أنا الشمس وعليٌّ القمر، والفرقَدان الحسن والحسين، وأمّا النجوم الزاهرة فالأئمة مِن وُلد الحسين واحداً بعد واحد...) (1) (كلّما غابَ نجمٌ طلعَ نجمٌ إلى يوم القيامة) كما في حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس رحمة اللّه عليهما قاله في شأن أهل البيت (عليهم السلام) (2) .

وفي حديث أبي ذر رضوان اللّه عليه التعبير عنهم بـ (النُجُوم الهادية) (3) وأمثال ذلك كثير.

سبع سماوات عُلا

قال تعالى: ( الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ - إلى قوله: - وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ ) (4) .

ظاهر التعبير أنّ السماوات السبع هي أجواء وفضاءات متراكبة بعضُها فوق بعضٍ؛ لتكون الجميع محيطةً بالأرض من كلّ الجوانب ( وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً ) (5) ، حيث الفوقيّة بالنسبة إلى جسم كريّ - هي الأرض - إنّما تعني الإحاطة بها من كلّ جانب.

وأيضاً فإنّ السماء الدنيا - وهو الفضاء الفسيح المـُحيط بالأرض - هي التي تَزينَّت بزينة الكواكب ( أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا ) (6) ، والظاهر يقتضي التركيز فيها، وإنْ كان مِن المـُحتمل تَجلّلها بما تُشِعّ عليها الكواكبُ من أنوار!

ويبدو أنّ هذا الفضاء الواسع الأرجاء - بما فيه من أَنجم زاهرة وكواكب مضيئة لامعة - هي السماء الأُولى الدنيا، ومن ورائها فضاءات ستٌّ في أبعادٍ مُترامية، هي مليئة بالحياة لا يعلم بها سِوى صانعها الحكيم، ( وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلاً ) (7) .

والعقل لا يفسح المجال لإنكار ما لم يَبلغه العلم، وهو في بدء مراحله الآخذة إلى الكمال.

____________________

(1) بحار الأنوار، ج36، ص 289، عن كتاب كفاية الأثر للخزّار الرازي، باب ما جاء عن سلمان في النصّ على الأئمة الاثني عشر، ص293.

(2) بحار الأنوار، ج40، ص203 عن جامع الأخبار للصدوق، ص15.

(3) راجع: بحار الأنوار، ج28، ص275.

(4) الملك 67: 3 - 5.

(5) النبأ 78: 12.

(6) ق 50: 6.

(7) الإسراء 17: 85.

٣٢٨

نعم، يزداد العلم يقيناً - كلّما رَصَد ظاهرة كونيّة - أنّ ما بَلَغه ضئيل جدّاً بالنسبة إلى ما لم يبلغه، ويزداد ضآلةً كلّما تقدّم إلى الأمام؛ حيث عَظَمة فُسحة الكون تَزداد اُبّهةً وكبرياءً كلّما كُشف عن سرٍّ من أسرار الوجود وربّما إلى غير نهاية، لاسيّما والكون في اتّساع مطّرد: ( وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ) (1) .

هذا وقد حاول بعضهم - في تَكلّفٍ ظاهر - التطبيق مع ما بَلغه العِلم قديماً وفي الجديد مِن غير ضرورة تدعو إلى ذلك، ولعلّ الأناة حتّى يأتي يوم يساعد التوفيق على حلّ هذا المجهول من غير تكلّفٍ، كانت أفضل.

يقول سيّد قطب: لا ضرورة لمحاولة تطبيق هذه النصوص على ما يَصل إليه عِلمنا؛ لأنّ علمنا لا يُحيط بالكون حتّى نقول على وجه التحقيق: هذا ما يريده القرآن، ولن يصحّ أنْ نقول هكذا إلاّ يوم يَعلم الإنسان تَركيبَ الكون كلّه عِلماً يقيناً، وهيهات... (2)

وإليك بعض محاولات القوم: حاول بعض القُدامى تطبيق التعبير الوارد في القرآن على فرضيّة بطلميوس لهيئة الأفلاك التي هي مَدارات الكواكب فيما حَسبه حول الأرض (3) ، ولكن من غير جَدوى؛ لأنّ الأفلاك في مزعومتِه تسعة؛ ومِن ثَمَّ أضافوا على

____________________

(1) الذاريات 51: 47.

(2) في ظِلال القرآن، ج28، ص152.

(3) زَعموا أنّ الأرض في مركز العالَم، وأنّ القمر وعطارد والزُهرة والشمس والمرّيخ والمشتري وزحل سيّارات حولها، في مَدارات هي أفلاك بعضها فوق بعض بنفس الترتيب، وكلّ وأحدٍ منها في فَلكٍ دائر حول الأرض من الغرب إلى الشرق في حركةٍ معاكسةٍ لحركتها اليوميّة من الشرق إلى الغرب على أثر تحريك الفَلك التاسع، المـُسمّى عندهم بفَلك الأفلاك أو بالفَلك الأطلس؛ لعدم وجود نجم فيه وأمّا النجوم الثوابت فهي مركوزة في الفَلك الثامن، فهذه تسعة أفلاك مُحيطة بالأرض بعضها فوق بعض.

وهكذا جاء في إنجيل برنابا من كلام المسيح (عليه السلام): أنّ السماوات تسع، فيها السيّارات، وتَبعُد إحداها عن الأُخرى مسيرة خمسمِئة عام.

ولمـّا تُرجمت فلسفة اليونان إلى العربيّة، ودَرَسها علماء الإسلام وَثقوا بأنّ الأفلاك تسعة، وقال بعضهم: هي سبع سماوات، والكرسي فَلك الثوابت، والعرش هو الفَلك المـُحيط.

والغريب أنّ مِثل مُحيي الدين ابن عربي اغترّ بهذه الغريبة وحسبها حقيقة وبنى عليها معارفَه الإشراقيّة فيما زعم، (راجع: الفتوحات المكّيّة، الباب 371 والفصل الثالث منه، ج3، ص416 و433، وكذا الفصّ الإدريسي من فصوص الحكم، ج1، ص75)، وهكذا شيخنا العلاّمة بهاء الدين العاملي في كتابه تشريح الأفلاك، وهو عجيب!

ولقد أَعجبني كلام أبي الحسن علي بن عيسى الرّمّاني المـُعتزلي في تفسير الآية، حيث أنكر إرادة الأفلاك البطلميوسيّة من السماوات السبع في القرآن؛ محتجّاً بأنّه تفسير يُخالف ظاهر النصّ، راجع: تفسير التبيان للشيخ الطوسي، ج1، ص 127.

٣٢٩

السماوات السبع - الواردة في القرآن - العرش والكرسي؛ ليَكتمل التسع ويحصل التطابق بين القرآن وفرضيّةٍ أساسُها الحَدسُ والتخمينُ المجرّد.

وأمّا المحدَثون فحاولوا التطبيق على النظرة الكوبرنيكيّة الحديثة، حيث الشمس هي نواة منظومتها والكُرات دائرة حولها ومنها الأرض مع قمرها (1) .

زَعَموا أنّ المـُراد بالسماوات السبع، هي الأجرام السماويّة، الكُرات الدائرة حول الشمس، تُرى فوق الأرض في أُفقها. فالسماوات - في تعبير القرآن على هذا الفرض - هي الأجرام العالقة في جوّ السماء (وكان جديراً أنْ يُقال - بَدلَ السماوات - السماويّات).

يقول الشيخ الطنطاوي: هذا هو الذي عرفه الإنسان اليوم من السماوات. فَقَايسَ بين ما ذَكَره علماء الإسكندريّة بالأمس، ويبن ما عرفه الإنسان الآن، إنّ عظمة اللّه تَجلّت في هذا الزمان..

إذن فما جاء في إنجيل برنابا مَبنيّاً على عِلم الإسكندرون أصبح لا قيمة له بالنسبة للكشف الحديث الذي يُوافق القرآن (2) .

ويزداد تَبّجُحاً قائلاً: إذن دين الإسلام صار الكشف الحديث مُوافقاً له، وهذه معجزة جديدة جاءت في زماننا.

ثُمَّ يورد أسئلةً وُجّهت إليه، منها: التعبير بالسبع، فيجيب: أنّ العدد غير حاصر، فسواء قُلت سبعاً أو ألفاً فذلك كلّه صحيح؛ إذ كلّ ذلك من فعل اللّه دالّ على جماله وكماله.

____________________

(1) جاءت النظرية على الأَساس التالي:

1 - الشمس: نَواة المنظومة.

2 - نجمة فلكان: بُعدها عن الشمس 13 مليون ميلاً، ودورها المحوري 18 ساعة، ودورها حول الشمس 20 يوماً.

3 - كوكب عطارد: بُعدها 35 مليون ميلاً دَورها المحوري 24 ساعة و5 دقائق، حول الشمس 88 يوماً.

4 - الزُهرة: بُعدها 66 مليون ميلاً، دَورها المحوري 23 ساعة و22 دقيقة، حول الشمس 225 يوماً.

5 - الأرض: بُعدها 93 مليون ميلاً، دَورها المحوري 24 ساعة، حول الشمس 365 يوماً.

6 - المرّيخ: بُعدها 140 مليون ميلاً، دَورها المحوري 24 ساعة و38 دقيقة، حول الشمس 687 يوماً.

7 - المشتري: بُعدها 476 مليون ميلاً، دَورها المحوري 10 ساعات، حول الشمس 12 سنة.

8 - زُحل: بُعدها 876 مليون ميلاً، دَورها المحوري 10 ساعات و 15 دقيقة، حول الشمس 29 سنة ونصفاً.

9 - أُورانوس: بُعدها 1753 مليون ميلاً، دَورها المحوري 10 ساعات، حول الشمس 84 سنة وأُسبوعا.

10 - نبتون: بُعدها 2746 مليون ميلاً، دَورها المحوري مجهول، حول الشمس 164 سنة و285 يوماً.

راجع: الهيئة والإسلام للسيّد هبة الدين الشهرستاني، ص61 - 62.

(2) تفسير الجواهر، ج1، ص49 الطبعة الثانية.

٣٣٠

وأخيراً يقول: إنّ ما قُلناه ليس القصد منه أنْ يَخضع القرآن للمباحث (العلميّة) فإنّه ربّما يَبطل المذهب الحديث كما بَطل المذهب القديم، فالقرآن فوق الجميع، وإنّما التطبيق؛ كان ليأنس المؤمنون بالعلم ولا ينفروا منه لظاهر مخالفته لألفاظ القرآن في نظرهم (1) .

وللسيّد هبة الدين الشهرستاني - علاّمة بغداد في عصره - محاولة أُخرى للتطبيق، فَفَرض من كلّ كُرة دائرة حول الشمس ومنها الأرض أرضاً والجوّ المحيط بها سماءً، فهناك أَرَضون سبع وسماوات سبع، الأُولى: في أرضنا وسماؤها الغلاف الهوائي المحيط بها، والأرض الثانية: هي الزُهرة وسماؤها الغلاف البخاري المحيط بها، والثالثة: عطارد وسماؤها المحيط بها، الرابعة: المرّيخ وسماؤها المحيط بها، الخامسة: المشتري وسماؤها المحيط بها، السادسة: زُحل وسماؤها المحيط بها، السابعة: أورانوس وسماؤها المحيط بها.

قال: ترتيبنا المـُختار تنطبق عليه مقالات الشريعة الإسلاميّة ويُوافق الهيئة الكوبرنيكيّة.

وأسند ذلك إلى حديث عن الإمام الرضا (عليه السلام) سنوافيك به عند الكلام عن الأَرَضين (2) .

وذكر الحجّة البلاغي أنّ السماوات السبع لا يمتنع انطباقها على كلّ واحدة من الهيئتَين القديمة والجديدة، فيُمكن أنْ يُقال على الهيئة القديمة: إنّ السماوات السبع هي أفلاك السيّارات السبع، وإنّ فَلك الثوابت هو الكرسي في قوله تعالى: ( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ) (3) ، وإنّ الفَلك الأطلس المـُدير - على ما زَعَموا - هو العرش في قوله تعالى: ( رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) (4) .

ويُمكن أنْ يُقال على الهيئة الجديدة: إنّ السماوات السبع هي أفلاكٌ خمسٌ من السيّارات مع فَلكَي (الأرض) و(فلكان) والعرش والكرسي هما فَلَكا (نبتون) و(أُورانوس)، وأمّا الشمس فهي مركز الأفلاك، والقمر تابع للأرض وفَلَكه جزء من فَلَكها (5) .

____________________

(1) المصدر: ص 50 - 51 بتصرّف وتلخيص.

(2) الهيئة والإسلام، ص177 - 179.

(3) البقرة 2: 255.

(4) المؤمنون 23: 86.

(5) الهدى إلى دين المصطفى للبلاغي، ج2، ص7.

٣٣١

قال: والحاصل أنّ كلاًّ مِن وضعَي الهيئة القديمة والجديدة يُمكن من حيث انطباق الحركات المحسوسة عليه، ولكنّه يُمكن أنْ يتعدّاه التحقيق إلى وضعٍ ثالث ورابع، فلا يَحسُن الجزم بشيءٍ ما لم يُشاهد بالتفصيل أو بصراحة الوحي، لكنّ الحِكمة تقتضي أنْ لا يتولّى الوحي بصراحته بالتفصيل (1) .

وبعد، فالطريقة السليمة هي التي سَلكها سيّدنا العلاّمة الطباطبائي، يقول:

إنّ المـُستفاد من ظاهر الآيات الكريمة - وليست نصّاً - أنّ السماء الدنيا هي عالم النجوم والكواكب فوقنا، وأنّ السماوات السبع هي أجواء متطابقة أقربُها منّا عالم النُجوم، ولم يَصف لنا القرآن شيئاً مِن الستّ الباقية سِوى أنّها طِباق، وليس المراد بها الأَجرام العلوية سواء من مَنظُومتنا الشمسيّة أو غيرها.

وما وَرد مِن كون السماوات مأوى الملائكة يَهبطون منها ويَعرجون إليها، ولها أبواب تُفتَّح لنزول البركات، كلّ ذلك يكشف عن أنّ لهذه الأُمور نوع تعلّق بها لا كتعلّقها بالجسمانيّات، فإنّ للملائكة عوالم ملكوتيّة مُترتّبة سماوات سبعاً ونُسب ما لها من الآثار إلى ظاهر هذه السماوات؛ بلحاظ ما لها من العلوّ والإحاطة والشمول، وهو تسامح في التعبير تقريباً إلى الأذهان الساذجة (2) .

ولبعض العلماء الباحثين في المسائل الروحيّة في إنجلترا - (هو: جيمس آرثر فندلاي من مواليد 1883م) - تصوير عن السماوات السبع يَشبه تصويرنا بعض الشيء: يرى من كُرة الأرض واقعة في وسط أبهاء وفضاءات تُحيط بها من كلّ الجوانب، في شكل كُراتٍ مُتخلِّلةٍ بعضُها بعضاً ومتراكبة إلى سبعة أطباق، كلّ طبقة ذات سطحَين أعلى وأسفل، مِلءُ ما بينهما الحياة النابضة، يُسمّى المجموع العالَم الأكبر الذي نعيش فيه، نحن في الوسط على وجه الأرض.

وهذه الأجواء المتراكبة تُحيط بنا طِباقاً بعضها فوق بعض إلى سبع طَبقات، وإنْ شئت فعبّر بسبع سماوات؛ لأنّها مبنيّة في جهةٍ أعلى فوق رؤوسنا، وإليك الصورة حسبما رَسَمها في كتابه (الكون المنشور).

____________________

(1) المصدر: ج2، ص6.

(2) تفسير الميزان، ج17، ص392 - 393.

٣٣٢

شَكل الأرض في الوسط تَحيط بها سبع أطباق هي سماوات عُلى:

في هذا الشَكل - كما رَسَمه (جيمس آرثر فندلاي) - نجد العالم الأَكبر في صورة أبهاء متراكبة بعضها فوق بعض مملوءة بالحياة، ويُرى الحياة في حركتها إلى أعلى وأسفل في شكل خُطوطٍ مُنحنية على السطوح، وتُمثّل الصُلبان الصغيرة الحياة على الأرض، أمّا النُقط فتُمثّل الحياة الأثيريّة ويُلاحظ أنّها ليست مقصورة على السطوح وحدَها؛ لأنّ الفضاءات بين السطوح مِلؤها الحياة سابحة فيها! (1)

____________________

(1) راجع: ملحق كتابه (على حافّة العالم الأثيري) تَرجمة أحمد فهمي أبو الخير (ط3)، ص199.

٣٣٣

مسائل ودلائل

هنا عدة أسئلة تستدعي الوقوف لديها:

1 - ( كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)

قال تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) (1) .

وقال: ( لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) (2) .

هلاّ كان التعبير بالفَلَك مُتابعة لِما حَسبه بطلميوس؟

قلت: لا؛ لأنّ الفَلَك لفظة عربيّة قديمة يُراد بها الشيء المـُستدير، ومن الشيء مُستداره، قال ابن فارس: الفاء واللام والكاف أصل صحيح (3) يدلّ على استدارةٍ في شيء، من ذلك (فَلْكَةُ المِغزل) لاستدارتها؛ ولذلك قيل: فَلَكَ ثديُ المرأة، إذا استدار، ومن هذا القياس: فَلَكُ السماء (4) .

إذن، فكما أنّ السماء مستديرة حتّى في شكلها الظاهري، فكلّ ما يَسبح في فضائِها يَسير في مَسلك مُستدير؛ وبذلك صحّت استعارة هذا اللفظ.

والدليل على أنها استعارة هو استعمال اللفظة بشأن الليل والنهار أيضاً، أي أنّ لكلّ ظاهرة من الظواهر الكونيّة مَجراها الخاصّ وفي نظام رتيب لا تَجور ولا تَحور.

2 - ( فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ)

قال تعالى: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ ) (5) .

أو هل كانت الطرائق هنا هي مَدارات الأفلاك البطليميوسيّة؟

قلت: كلاّ، إنّها الطَرائق بمعنى مَجاري الأُمور في التدبير والتقدير والتي هي محلّها السماوات العُلا.

____________________

(1) الأنبياء 21: 33.

(2) يس 36: 40.

(3) مقصوده من الأصل: كونها ذات أصالة عربيّة وليس مستعارة من لغةٍ أجنبيّة.

(4) معجم مقاييس اللغة، ج4، ص452 - 453.

(5) المؤمنون 23: 17.

٣٣٤

الطَرَائق: جمعُ الطَريقة بمعنى المـَذهب والمـَسلك الفكري والعقائدي وليس بمعنى سبيل الاستطراق على الأقدام، ولم تُستعمل في القرآن إلاّ بهذا المعنى:

يقول تعالى - حكايةً عن لسان الجنّ -: ( وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً ) (1) ، أي مَذاهب شتّى.

( وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ) (2) ، أي بمَذهبكم القويم الأفضل.

( إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاّ يَوْماً ) (3) ، وذاك يوم الحَشر يَتخافت المـُجرمون: كم لَبِثوا؟ فيقول بعضهم: عشراً. ويقول أَعقلهم وأَفضلهم بصيرةً: ( إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاّ يَوْماً ) .

( وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً ) (4) ، أي الطريقة المـُثلى والمـَذهب الحقّ.

فالمقصود بالطَرَائق - في الآية الكريمة - هي طَرائق التدبير والتقدير، المـُتّخذة في السماوات حيث مُستقرّ الملائِكِ المدبِّرات أمراً والمقسّمات (5) ، ( يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ) (6) ، ( وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ) (7) ، أي تقدير أرزاقكم وكلّما قُدّر لكم مِن مَجاري الأُمور، ( ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ ) (8) ، ( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) (9) .

فالتدبير في السماء ثُمّ التنزيل إلى الأرض ( وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاّ بِأَمْرِ رَبِّكَ ) (10) ، ( تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ) (11) ، ومِن ثَمَّ تعقّب الآية بقوله تعالى: قال العلاّمة الطباطبائي: أي لستُم بمُنقطعينَ عنّا ولا بمَعزلٍ عن مراقبتِنا وتدبيرنا لشؤونكم، فهذه الطَرائق السبع إنّما جُعلت؛ ليستطرقَها رُسُل ربّكم في التقدير والتدبير والتنزيل (12) .

____________________

(1) الجن 72: 11.

(2) طه 20: 63.

(3) طه 20: 104.

(4) الجنّ 72: 16.

(5) النازعات 79: 5، والذرايات 51: 4.

(6) السجدة 32: 5.

(7) الذاريات 51: 22.

(8) يونس 10: 3.

(9) الحجر 15: 21.

(10) مريم 10: 64.

(11) القدر 97: 4.

(12) راجع: الميزان، ج15، ص21.

٣٣٥

3 - ( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ) (1)

ماذا يعنى بذات الحُبُك؟

الحُبُك: جمع الحَبِيكة بمعنى الطَريقة المـَتّخذة، قال الراغب. فمنهم مَن تصوّر منها الطَرائق المحسوسة بالنجوم والمـَجرّات، ومنهم مَن اعتبر ذلك بما فيه مِن الطَرائق المعقولة المـُدرَكة بالبصيرة.

والحُبُك: المـُنعطفات على وجه الماء الصافي تحصل على أثرِ هُبوب الرياح الخفيفة، وهي تكسّرات على وجه الماء كتجعّدات الشعر، ويُقال للشعر المـُجعَّد: حُبُك والواحد حِباك وحَبيكة، قاله الشيخ أبو جعفر الطوسي في التبيان.

من ذلك قول زهير يصف روضة:

مُكلَّلٌ بأُصولِ النَجْمِ تَنْسِجُهُ

ريحٌ خَريقٌ لضاحي مائِهِ حُبُكُ

مراده بالنَجم النبات الناعم، وشَبّه تربية الرياح له بالنَسج، كأنّه إكليل (تاج مزيّن بالجواهر) نَسَجته الريح، ووصف الريح بالخَريق، وهو العاصف.

ثُمّ وَصَف ضاحي مائِهِ - وهو الصافي الزُلال - بأنّ على وجهه قَسَمات وتَعاريج على أثر مَهبّ الرياح عليه، وهو منظر بهيج.

فعلى احتمال إرادة التعرّجات المتأرجحة من الآية، فهي إشارة إلى تلكُم التمرُّجات النوريّة التي تُجلِّل كَبْدَ السماء زينةً لها وبهجةً للناظرين، فسبحان الصانع العظيم!

4 - ( أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً) (2)

في هذه الآية تَوجّه الخطاب إلى عامّة الناس ولا سيّما الأُمَم السالفة الجاهلة حيث لا يعرفون من أطباق السماء شيئاً، فكيف يُعرض عليهم دليلاً على إتقان صنعه تعالى؟ (الآية في سورة نوح والخطاب عن لسانه موجّه إلى قومه).

____________________

(1) الذاريات 51: 7.

(2) نوح 71: 15.

٣٣٦

وهكذا قوله تعالى: ( أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ ) (1) .

وقوله: ( الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ) (2) .

قلت: هذا بناءً على تفسير الطِباق بذات الطَبقات.

هكذا فسّره المشهور: طِباقاً، واحدة فوق أخرى كالقِباب بعضها فوق بعض (3) .

لكنّ الطِباق هو بمعنى الوِفاق والتَماثل في الصُنع والإتقان، بدليل تفسيره بقوله تعالى: ( مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ ) ، أي كلّها في الصُنع والاستحكام متشاكل.

وقد أُشرِب هنا معنى الالتحام والتلاصق التامّ بين أجزائها مُراداً به الانسجام في الخَلق، بدليل قوله تعالى: ( هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ) أي انشقاق وخَلَل وعَدم انسجام، وكذا قوله: ( وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ ) أي منفرجات وخلاّت تُوجب فصل بعضها عن بعض بحيث تُضادّ النَظم القائم، الأمر الذي يستطيع كلّ إنسان - مهما كان مَبلَغه مِن العِلم - من الوقوف عليه إذا تأمّل في النَظم الساطي على السماوات والأرض.

5 - ( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ) (4)

( وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ ) (5) ( تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً ) (6) ، أو هل تعني البُرُوج هذه ما تصوّره الفلكيّون بشأن البروج الاثني عشر في أشكالٍ رَسَموها لرصد النجوم؟

قلت: المعنيّ بالبُرُوج هذه هي نفس النُجوم؛ تشبيهاً لها بالقصور الزاهية والحصون المنيعة الرفيعة، بدليل عطف السِراج - وهي الشمس الوهّاجة - والقمر المنير عليها.

____________________

(1) ق 50: 6.

(2) الملك 67: 3.

(3) راجع: مجمع البيان، ذيل الآية من سورة المـُلك والآية من سورة نوح، ج 10، ص 322 و 363، وروح المعاني للآلوسي، ج 29، ص 6 و75، وتفسير المراغي، ج 29، ص 6 و 85... وغيرها.

(4) البروج 85: 1.

(5) الحجر 15: 16.

(6) الفرقان 25: 61.

٣٣٧

ولا صلة لها بالأَشكال الفَلكيّة الاثني عشر.

البُرج - في اللغة - بمعنى الحِصن والقصر وكلّ بناءٍ رفيع على شكلٍ مُستدير، فالنُجوم باعتبار إنارتها تبدو مُستديرةً، وباعتبار تلألؤها تبدو كعُبابات تَعوم على وجه السماء زينةً لها، وباعتبارها مراصد لحراسة السماء ( وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ ) (1) ، هي حُصون منيعة، فصحّ إطلاق البروج عليها من هذه الجوانب لا غيرها.

هذا، وقد خُلِط على لفيفٍ من المفسّرين فَحَسبوها منازل الشمس والقمر حسب ترسيم الفلكيّين (2) .

وسيّدنا العلاّمة الطباطبائي وإنْ كان في تفسيره لسورتَي الحِجر والفُرقان قد ذهب مذهب المشهور، لكنّه (قدس سره) عَدَل عنه عند تفسيره لسورة البُروج، قال: البُروج، جمع بُرج وهو الأمر الظاهر ويَغلب استعماله في القصر العالي والبِناء المـُرتفع على سُور البلد، وهو المـُراد في الآية، فالمـُراد بالبُروج مواضع الكواكب من السماء، قال: وبذلك يَظهر أنّ تفسير البُروج (في الآيات الثلاث) بالبُروج الاثني عشر المـُصطلح عليها في عِلم النجوم غير سديد (3) .

وقال الشيخ مُحمّد عَبده: وفُسّرت البُروج بالنُجوم وبالبُروج الفلكيّة وبالقُصور على التشبيه، ولا ريب في أنّ النُجوم أَبنية فخيمة عظيمة، فيصحّ إطلاق البُروج عليها تشبيهاً لها بما يُبنى من الحُصون والقُصور في الأرض (4) .

6 - ( وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ)

قال تعالى: ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ

____________________

(1) الحجر 15: 17.

(2) تفسير القمي، ج 1، ص 373، والميزان، ج 12، ص 143 و 154، وتفسير ابن كثير، ج 2، ص 548، وروح المعاني، ج 14، ص 20.

(3) تفسير الميزان، ج 20، ص 368.

(4) تفسير جزء عمّ لمـُحمّد عبده، ص 57.

٣٣٨

يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ ) (1) .

(يُزجي): يَسوق، (يُؤلّف بينه): يؤلّف بين متفرّقه، (يجعله رُكاماً): متكاثفاً، (فترى الوَدق): قَطرات المطر الآخِذة في الهُطول.

( وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ ) ؟

السؤال هنا: ماذا يعني بالجبال هذه؟ وماذا يكون المقصود مِن البَرد وهو الماء المتجمّد على أثر ضغط البرد؟ وكيف يكون هناك في السماء جبالٌ مِن بردٍ؟

وقد مرّ عليها أكثر المفسّرين القُدامى مرور الكرام، وبعضهم أَخذها على ظاهرها وقال: إنّ في السّماء جِبالاً من برد (من ثلج) يَنزل منها المطر، كما تنحدر المياه من جبال الأرض على أثر تراكم الثلوج عليها، عن الحسن والجبّائي (2) وعن مجاهد والكلبي وأكثر المفسّرين: أنّ المراد بالسّماء هي المظلّة وبالجبال حقيقتها، قالوا: إنّ الله خَلَق في السّماء جِبالاً من برد كما خَلق في الأرض جبالاً من صخر، قال الآلوسي: وليس في العقل ما ينفيه من قاطع، فيجوز إبقاء الآية على ظاهرها كما قيل (3) .

قال السيّد المرتضى: وجدتُ المفسّرين على اختلاف عباراتهم يذهبون إلى أنّه تعالى أراد: أنّ في السّماء جِبالاً من بردٍ، وفيهم مَن قال: ما قَدْرُه قَدْرُ جبال، يعني مِقدار جبال مِن كثرته.

قال: وأبو مسلم بن بحر الإصبهانيّ خاصّةً انفرد في هذا الموضع بتأويلٍ طريف، وهو أنْ قال: الجبال، ما جَبَل الله مِن بَرَد، وكلّ جسم شديد مُستحجِر فهو من الجبال، ألم ترَ إلى قوله تعالى في خَلق الأُمَم: ( وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ ) (4) ، والناس يقولون: فلا مجبول على كذا.

وأورد عليه السيّد بأنّه يَلزمه أنّ جعل الجبال اسماً للبرد نفسه؛ من حيث كان مجبولاً مستحجراً! وهذا غلط؛ لأنّ الجبال وإن كانت في الأصل مشتقّة من الجَبْل

____________________

(1) النور 24: 43.

(2) مجمع البيان، ج 7، ص 148.

(3) روح المعاني، ج 18، ص 172، وراجع: التفسير الكبير، ج 24، ص 14.

(4) الشعراء 26: 184.

٣٣٩

والجَمْع، فقد صارت اسماً لذي هيئةٍ مخصوصة؛ ولهذا لا يُسمّي أحد من أهل اللغة كلَّ جسم ضُمَّ بعضه إلى بعض - مع استحجار أو غير استحجار - بأنّه جبل، ولا يخصّون بهذا اللفظ إلاّ أجساماً مخصوصةً... كما أنّ اسم الدابّة وإن كان مشتقّاً في الأصل من الدبيب فقد صار اسماً لبعض ما دبّ، ولا يعمّ كلّ ما وقع منه الدبيب.

قال: والأَولى أنْ يُريد بلفظة السماء - هنا - ما عَلا من الغَيم وارتفع فصار سماءً لنا؛ لأنّ سماء البيت وسماواته ما ارتفع منه، وأراد بالجبال التشبيه؛ لأنّ السحاب المتراكب المتراكم تُشبّهه العرب بالجِبال والجِمال، وهذا شائعٌ في كلامها، كأنّه تعالى قال: ويُنزّل من السحاب الذي يشبه الجِبال في تَراكُمِه بَرداً.

قال: وعلى هذا التفسير تكون (مِن) الأُولى والثانية لابتداء الغاية، والثالثة زائدة لا حكم لها، ويكون تقدير الكلام: ويُنزّل من جبالٍ في السماء بَرداً، فزادت (مِن) كما تزاد في قولهم: ما في الدار من أحد، وكم أعطيته من درهم، ومالك عندي من حقّ، وما أشبه ذلك.

وأضاف: إنّه قد ظهر مفعولٌ صحيحٌ لـ (نُنزّل)، ولا مفعول لهذا الفعل على سائر التأويلات (1) .

قلت: وهو تأويل وجيه لولا جانب زيادة (مِن) في الإيجاب.

قال ابن هشام: شرط زيادتها تقدّم نفي أو نهي أو استفهام ولم يشترطه الكوفيّون واستدلّوا بقول العرب، قد كان من مطر. وبقول عمر بن أبي ربيعة:

ويَنمي لها حبُّها عندَنا

فما قال مِن كاشحٍ لم يَضِرّ

أي فما قاله كاشحٌ - وهو الذي يُضمر العداوة - لم يَضرّ.

قال: وقال الفارسي في قوله تعالى: ( وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ ) : يجوز كون (مِن) الثانية والثالثة زائدتَين، فجوّز الزيادة في الإيجاب (2) .

____________________

(1) الأمالي للسيّد المرتضى عَلَم الهدى، ج 2، ص 304 - 306.

(2) مغني اللبيب لابن هشام، حرف الميم، ج 1، ص 325.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

سرورستان وفيرزآباد على أَقواس وقِباب لأَبنية قديمة، يُعتقد أنّها من بقايا عصر كورش الكبير، كما يُوجد حجر مُكعّب الشكل يُعرف بتَخت طاووس في باساركاد على مَقربة من مقبرة كورش كان واحداً من أعتاب معبد قديم.

أَضف إلى ذلك (تُرْعَة سويس) - قناة تصل البحر الأحمر بالمتوسّط - ذلك المـَشروع العظيم، كان أَوّل مَن أَمر بحفرها هو المـَلِك الفارسي داريوش الأَوّل الهخامنشي، وذلك بعد أنْ استولى على مصر وبلاد أفريقيّة مُجاورة، وقد عُثِر في حَفريّات هناك على ضِفاف التُرْعَة كتيبة فيها دلالة واضحة على السيرة الحَسنة التي كان يُراعيها مُلوك فارس مع أبناء البلاد التي كانوا يَمتلكونها آنذاك، الأمر الذي يدلّ على حضارة راقية كانت تسود إمبراطوريّة فارس (١) .

والأَمثلة لا حصرَ لها في هذا المـَبحث مِن موضوعنا، وكلّها تُجيب على السؤال المطروح: هل كانت فارس على درجة من التَحضُّر والتقدُّم بما يُوفّر الخُبرة الهندسيّة لتشييد السُدود والأعمال العُمرانيّة؟

ومن العرض البسيط قد تحقّقنا من تقديم كورش الخُبرة والمهندسينَ والإشراف لسُكّان منطقة سُهول القوقاز وبحر قزوين والبحر الأسود.

* * *

وأمّا عن الإمكانيّات التي يُمكن أنْ يكون قد طلبها ذو القَرنَينِ من الأُمَم المـُسالِمة في المنطقة الوادِعة، حسب فهمنا للآية الكريمة، فنأخذ أوّلاً: القوّة البشرية (العَمّالة) التي يُمكن أنْ يكون كورش قد طلبها، فإنّ المنطقة حسب التخمين العام كانت آهِلة ومُزدحِمة بالسُكّان ويُمكن حساب عدد السُكّان (تقريباً) في إقليم آذربيجان - أرمينيّة - داغستان - جورجيا - وما والاها سنة ٥٥٠ ق. م كان على الأرجح ما يَقُرب من ٠٠٠/ ١٧٠ نَسَمة (٢) .

____________________

(١) راجع: تأريخ إيران، ص ١٢٤ - ١٣٢.

(٢) وذلك على حسب الإحصاءات التقريبيّة والتي قَدّرت عدد نُفوس العالَم قبل الميلاد بثمانية آلاف سنة، وكانت خمسة ملايين نَسَمة، وقبل خمسة قُرون من الميلاد بعشرين مليون، وقبل الميلاد بثلاثة آلاف سنة بأَربعين مليون، وقبل الميلاد بألف سنة بمِئة مليون، وبعده بألف: ٠٠٠/٠٠٠/٢٧٥ وفي سنة ١٦٥٠ م: ٠٠٠/٠٠٠/٥٤٥، وذلك على

٥٠١

فلو افترضنا أنّ العَمّالة كانت تُمثّل بنسبة ٦% من السُكّان، لعرفنا أنّ العَمّالة التي تُقدَّر للاشتراك في بِناء السدّ ما يزيد على (٠٠٠/١٠٠) مِئة ألف عامل.

وهذا العدد يُمكنه بالفعل إنجاز العمل في سدّ ثغرة (داريال) لمدّة عشر سنوات تقريباً.

والموادّ الخام التي شُيّد منها سدّ ذي القَرنَينِ حسب وصف القرآن الكريم: خامات الحديد.

تحتوي أراضي آذربيجان على معادن الحديد بكمّيات كبيرة، ويشهد لذلك قيام صناعة الحديد والصُلب الآن في مدينة (باكو)، فإذا كان الإقليم غنيّاً به الآن فلا شكّ أنّه كان أغنى زمن كورش بالطبع.

أمّا أرمينيّة فغنيّة بمعادنها، ويَكثُر بها على وجه الخصوص خام الحديد والنُحاس والرَصاص والزرنيخ وحجر الشبّ والكبريت والذهب. وابن الفقيه (١) هو الكاتب الإسلامي الوحيد الذي أَمدّنا بمعلومات قيّمة عن الثروة المعدنيّة في أرمينيّة.

ويَذكر المؤرّخ الأَرمني (ليونتيوس) أنّ مَناجم الحديد والفضّة في تلك البلاد كُشِفت حوالي نهاية القرن الثامن للميلاد، وتَدلّ مَلامح الأرض على مناطق محفورة في الجبال تُشير إلى استنفاد السُكّان الأقدمين لاحتياطي الحديد القديم الذي كان يُستخرج في العَراء دون عَناءٍ كبير، وهي تقع في مُنتصف الطريق بين أطرابزندة وأرزن الروم.

كما يوجد الحديد بوِفرة في جورجيا بالقُرب من (تسخالطوبو) و (محج قلعة) و (دربند) في داغستان وغيرها، وفي مناطق الحدود الأرمينيّة في تركيا إقليم الحديد المشهور الذي يُقدَّر احتياطيّه بحوالي ٢٥ مليون طنّ وتبلغ نسبة الحديد في الفلز ما بين ٦٠ - ٦٦% وهي نسبة عالية، وقد استخرج الحيثيّون من آلاف السنين كمّيّات هائلة من الحديد من هذا الإقليم، وأَهمّ مناطق إنتاجه الآن هناك إقليم (ديفرجي).

____________________

حساب ( F.A.O ) المعروف، مفاهيم جغرافيّة، ص ٣٠٤. وبذلك يُقدّر عدد نُفوس العالَم سنة (٥٥٠ ق. م): ١٦٨ مليون نَسَمة. ويكون قِسط إقليم آذربيجان وأرمينيّة وداغستان وجورجيا ذلك العهد - على حساب التقسيم على المائة - ما يَقُرب من ٠٠٠/ ١٧٠ نَسَمة.

(١) كاتب شاعر مجيد من أهل الموصل تُوفي ٦٣٦ هـ / ١٢٣٨ م.

٥٠٢

أمّا عن الفحم والأخشاب اللازمَينِ لصهر الحديد، فتكوينيّات منطقة (كلاكنت) بأرمينيّة فيها احتياطيّ كبير، وفي سواحل البحر الأسود تُعتَبر مناجم (زونفلداك) من المـَناطق الغنيّة جدّاً بخامات الفحم، وهو من النوع البيتومين ويُعطي نوعاً جيّداً مِن فحم الكوك الذي يُستخدم في صناعة الحديد.

وأمّا عن الأَخشاب فيَذكر ابن حوقل أنّ إقليم أَردبيل كثير البساتين والأنهار والمياه والأشجار والفواكه الحَسنة والخَيْرات والغَلاّت، وكذلك إقليم المراغة، ويقول عن إقليم أُروميّة: إنّه كثير الكُرُوم والمياه الجارية والضياع والرَسَاتيق، ويضمّ الإقليم أيضاً: أُشنَه، كثيرة الشجر والخُضر والخَيْرات ومدينة بردغة كثيرة الخِصب والزرع والثِمار والأشجار.

كما أنّ مجموعة أنهار كورا (كورش) ونهر ترك، وكذلك صولاق ونهر آراكس ونهر آيورا، كلّها مُحاطة بمساحات هائلة من الأخشاب، لانتشار أشجار الدَردَار والبَلوط والصنوبر والأَرز والشوح والعَرعَر والزيتون البرّي.

وخامات النُحاس - التي طلبها (كورش = ذو القَرنَينِ) من سُكّان الإقليم حسبما عَبَّر القرآن الكريم: ( قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً ) ... هذه الخامات ثَبُت علميّاً وتأريخيّاً تَوفّرها بالمنطقة، فالدراسات الجيولوجيّة الحديثة أثبتت وجودها بوِفرة في تكوينيّات (زنجان) و (أنارك) وشمال أصفهان، وفي جنوب آذربيجان كميّات هائلة منه.

وفي أرمينيّة أَصبحت مناجم النُحاس الكبيرة المعروفة مُنذ القِدَم، شاهد على استخراج السُكّان القُدامى لخاماته، خصوصاً في منطقة (كدابك) وما يَتبعها من مَنجم فرعي في إقليم (كلاكنت) - بين البزاوتيول وبُحَيرة كوك جاي - وقد أُعيد إحياء مَجد الإقليم في مجال استخراج النُحاس حديثاً في السنوات الأخيرة، بفضل إدارة إخوان (سيمنس) مُؤسّسي مصانع سَبْك المعادن هناك.

ومن ناحية تَوفّر العدد اللازم من حيوانات الجرّ والحَمل، فالإقليم غنيّ بالثروة الرَعويّة والحيوانيّة؛ لأنّه يقع بين خطَّي عَرض ٣٠ - ٤٥ شمالاً، وينحصر بين إقليم البحر

٥٠٣

المتوسّط غرباً وإقليم الصين شرقاً ويمتدّ في أُوراسيا بين التركستان الصينيّة ورومانيا، ويشمل بذلك كلّ آذربيجان وأرمينيّة والقوقاز وجورجيا وداغستان وأنجازيا وأجاريا، ولكَثرة حشائش الإقليم سُمّيت إقليم المـَراعي المـُعتَدلِة الدفيئة، وهي غنيّة تكفي رَعيَ الماعز والضأن على الهِضاب، والأبقار والمواشي في السُهول، والجَمَل أيضاً معروف هناك وهو من نوع ذي السنامَينِ وحيوان الياك ( YAK ) ).

وقد استخدمه السُكّان في النَقل تَماماً كالحَمير، وهو يَمتاز على الحَمير بوجود أَظفار في رجلَيه تُساعده على ارتقاء المـُرتفعات والتنقّل بأَحماله بينها، كما يوجد هناك مُنذ القِدَم عشرات الآلاف من الخُيول السيسي الشهيرة بقُدرتها على حَمل الأثقال وجرّ العَربات.

ومن حيث توفّر المـُؤَن لمواجهة استهلاك العُمّال والمهندسين من غذاء لازم حتّى إتمام تشييد السّدّ، فقد عَرَف الإقليم جميع الحُبوب من آلاف السنين، وكانت أرمينيّة تُعتبر من أَخصب أملاك الخلافة العباسيّة، وكانت الغِلال تُستَنبت فيها بكَثرة وتُصدّر إلى الخارج كبغداد مثلاً (٢) ، وكان السمك يكثُر في بُحيراتها وأَنهارها ويُصدّر إلى الخارج أيضاً (٣) ، وكانت خَيرات الإقليم تَتَوجّه زمن كورش إلى همدان وسائر البلاد المعروفة ذلك اليوم.

وأودية هذا الإقليم الكبير مُزدَحِمة بغابات الأشجار المـُثمرة، وفي مناطق العَراء كانت زراعة البطاطا والشمندر السكّري مِن أَهمّ حِرَف السُكّان في العصور القديمة.

ففي آذربيجان كان القمح الشتوي يُزرع هناك بنجاح كبير، عَلاوةً على أنواع أُخرى من الحبوب وكذلك الكُرُوم والجوز... وداغستان بلاد زراعيّة بالدرجة الأُولى من

____________________

(١) نوع من البَقر الوَحش عظيم الجُثّة وقوّتها، يكثُر وجوده في جبال آسيا الغربيّة والوسطى ولا سيّما هَضبات تبّتب، وقد استخدموه لحَمل الأثقال.

(٢) أُنظر: تأريخ الطبري، ج ٣، ص ٢٧٢ - ٢٧٥، (مفاهيم جغرافيّة، ص ٣١١).

(٣) وقد ورد أنّ شُهرة الإقليم بالأسماك كمورد غذائي للسكّان والتصدير لا تُضارَع، حيث كانت الأسماك تكثُر في بُحيرات أرمينيّة وسواحل القوقاز وخصوصاً بُحَيرة (وان) التي اشتهرت بنوع خاصّ وبكميّات هائلة منه، وهو الذي يَعرفه العرب باسم (الطريخ) وكان هذا السمك في العُصور القديمة يُملّح ويُصدّر إلى الجهات البعيدة كالهند، أُنظر: القزويني، طبعة قستنفلد، ج ٢، ص ٣٥٢، (مفاهيم جغرافيّة، ص ٣١١)، ولا يزال الناس في أرمينيّة وآذربيجان وبلاد القوقاز وآسيا الصُغرى يستطيبون هذا السمك المـُمَلَّح حتّى يومنا هذا.

٥٠٤

العصور القديمة حتّى الآن، فهي تَنتُج القمح والذُرّة والبطاطا والخضروات والكَرمة، كما أنّ الماشية تَرعى في سُفوح الجبال وأَشهر مواشيها الأغنام... ومناخ جورجيا (طرجستان) من آلاف السنين ملائم لزراعة الحبوب وخاصّة الذُرّة والكَرمة والحُمّضيّات والشمندر السكّري (١) وهذه المزروعات تجدها في كلّ أنحاء الإقليم، وثروة الإقليم بالماشية هائلة، إذ تنتشر المـَراعي الواسعة كما رأينا وتَربّى عليها قُطعان الماشية وخاصّة الأغنام.

ومن المـَلامح التي عَرضناها بإيجاز تأَكّد لنا قُدرة الإقليم على تَموين العُمّال والمهندسينَ بالطعام والشراب الكافي، دون أنْ يَحدث نقص في إمدادات الغذاء، أي أنّ الأَمن الغذائي كان مَكفولاً.

والموادّ الخام اللازمة كانت متوفّرة، من حديد ونُحاس وفحم وأخشاب، وحيوانات الجرّ والحِمل كانت موجودة تفي بالغرض تماماً، والأَيدي العاملة الرخيصة كانت متوفّرة كذلك، والخُبرة الفارسيّة، والتخطيط الدقيق لكورش كلّها كانت مُقوّمات نجاح تشييد أَعظم السدود في العالَم، لدرجة جَعلت القرآن يَصفه بالرَدم، أي السّدّ الضخم الهائل في قوله تعالى: ( فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً ) (٢) .

وبعد فإليك الكلام عن السدّ (سدّ ذي القَرنَينِ الذي ذَكَره القرآن) وهل هو سدّ كورش التأريخي؟

سدّ كورش (ذي القَرنَينِ) التأريخي

في وصف شامل لسدّ كورش (ذي القَرنَينِ) وتحديد موقعه الجغرافي حاليّاً على الخريطة السياسيّة، وتحديد نوعيّة الدَولة التي كانت تُسيطر على المنطقة الجبليّة التي شُيّد فيها، يُمكن القول: إنّه من المـُعطيات السابقة، تتبلور ملامح سدّ كورش التأريخي في:

____________________

(١) فقد عَرف الإقليم جميع الحبوب من آلاف السنين - حسبما تقول الجغرافيا التأريخيّة - وعُثِر عليها في الآثار القديمة، ووُجِدت قوارير مملوءة بالحبوب وغيرها (القمح - الذُرّة - القصب - الأَرز). أُنظر: مواطن الشعوب الإسلاميّة، قفقازيا لمحمود شاكر، ص ٦٢ - ٦٩. (مفاهيم جغرافيّة، ص ٣١١).

(٢) مفاهيم جغرافيّة، الفصل السابع، ص ٣٠١ - ٣١٢.

٥٠٥

أنّ السّدّ بُنيَ فيما بين عامَي - ٥٣٩ ق. م. و ٥٢٩ ق. م - في مكان جبليّ شاهق شديد التَضرّس قائم كجدارَينِ شامخَينِ على جانبَيه، وبذلك - وعلى هذه الصورة - يكون السّدّ حجازاً مضافاً على الجدارَينِ، في مكان المـَضيق الجبليّ الذي كان موجوداً بينهما، ويُعرف بمَضيق (داريال)، وهو موسوم في جميع الخرائط الإسلاميّة والروسيّة في جمهوريّة جورجيا (كرجستان).

وقد استُخدِمت في تشييد السدّ زُبُر الحديد أي قطع الحديد الكبيرة، وأُفرغ عليها النُحاس المـُنصهِر. وهذا هو وصف القرآن، ولا نقبل عنه بديلاً، مهما كانت درجة التقارب أو التشابه، ونرفض أيّ سدٍّ آخر يكون قد شُيّد من الحِجارة - مِثل سور الصين العظيم - حتّى ولو كانت عناصر ومُقوّمات وظروف إنشائه مُشابهةً لِما جاء عن سدّ ذي القَرنَينِ.

وقد رأينا خلال السرد التأريخي أنّ القبائل المـَغولية - وراء سِلسلة جبال قوقاز - كانت لا تَتَكاسل عن الانقضاض على مناطق آسيا الغربيّة خلال القرن السادس قبل الميلاد.

وكلّ صفحات التأريخ تَذكر لنا أنّ ثَمّة تَوقُّف مُفاجئ حَدث في عمليّة تَدفّق هذه القبائل البدائيّة المـُتوحِّشة، وتُشير أَصابع الدقّة التأريخيّة نحو الحُقبة التي ظهر فيها كورش الهخامنشي!

ومِن ثَمّ جاء قول المـُؤرّخينَ بأنّ هذه القبائل التي سُمّيت (ميكاك) عند اليونان و (منكوك) عند الصينيّين، هم قوم (يأجوج ومأجوج) الذي جاء ذِكرهم في القرآن، وقد تقدّم الكلام عن ذلك.

هذا وقد تَتَّبع مولانا أبو الكلام آزاد، من خلال استقراء التأريخ ومُراجعة النَصوص في العهد القديم وما جاء فيها عن يأجوج ومأجوج، ووصل إلى نفس ما هو قائم في الواقع في جمهوريّة جورجيا (كرجستان) الآن، وقد عُثر على كُتَل هائلة من الحديد المخلوط بالنُحاس، موجودة في جبال قوقاز، مُبعثَرة في منطقة مضيق (داريال) الجبلي.

وهذه حقيقة قائمة لكلّ من أراد أنْ يشاهدها برَأْي العَين.

٥٠٦

جبال شاهقة تمتدّ من البحر الأسود حتّى بحر قزوين، التي تمتدّ لتصل بين البحرين طول (١٢٠٠ ك. م) وهي جبال التوائيّة حديثة التكوين، شامخة مُتجانسة التركيب، إلاّ من كُتَل هائلة من الحديد الصافي المخلوط بالنُحاس الصافي في مَضيق داريال، غير أنّ جسم الجبال الصخري (جبال قوقاز) من جانبي السدّ تآكل بفعل عوامل التَعريَة طِوال ٢٥٠٠ سنة وصار هناك فراغ فيما بين الصخور الجبليّة وجسم السدّ الحديدي النُحاسي، وأصبح كُتَلاً ضَخمة تَبعثرت في مَعبَر المـَضيق.

ويُشار إلى هذا السدّ في الأطالس الجغرافيّة الحديثة بين فلادي ( Fladi ) وكوكس ( Kiuakass ) وبين تفليس، ويَذكره الأَرمَن - هناك - في صفحات تأريخهم (الشاهد على أحداثهم) باسم (بهاك غورائي) و (كابان غورائي) أي مَضيق كورش أو (ممرّ كورش)، كما أنّ سُكّان كرجستان يَعرفونه في بلادهم باسم الباب الحديدي، وذَكره الأتراك في كتاباتهم أيضاً باسم (دامركابو) (قابو) (١) ، و (دامر) - بالتركيّة - يعني: الحديد. و (قابو): الباب.

فالسدّ شُيّد في منطقة جبليّة بين صَدفَينِ في مَضيق داريال، وليس في مناطق سَهليّة مِثل سور الصين العظيم، وقد أُقيم لإيقاف زحف الأجناس المـُتوحِّشة عِبر جبال القوقاز إلى شمال مَملكة فارس وغرب آسيا، ولم يكن لحجز مياه السيول والفيضان مثل سدّ مأرب.

وقد شُيّد من خامات الحديد وأُشعلت النيران لصهر النُحاس ليُصَبّ فوق الحديد، وبقاياه تدلّ فعلاً على انطباق مواصفاته مع ما جاء في القرآن الكريم.

ولذلك عبّر القرآن عن متانته بقوله تعالى: ( فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً ) .

إذن، لم يكن السدّ من الحَجَر، مثل سور الصين العظيم (٢) ، أو جدار (دربند) الذي بَناه

____________________

(١) كورش الكبير، ص ٢٨٠.

(٢) بَناه الإمبراطور (تشين شيه هوانج) بعد سنة (٢٢١ ق. م)، حاجزاً بين (منغوليا) والصين، وهو مُشيّد من الطُوب (اللِبْن

٥٠٧

أنوشيروان المـَلِك الساساني (١) بعد (١٠٠٠ عام) من بِناء سدّ كورش، أو سدّ (مأرب) الذي شُيّد لتنظيم الريّ ووقاية المنطقة - وعاصمتها مدينة مأرب قاعدة المـَملكة السبئيّة (باليَمن) - من أخطار الفيضانات المـُوسميّة، وتَهدَّم بين (٥٠٧ - ٥٤٢ ق. م) على أثر السيل العَرِم (الهائج المـُدمّر) ونتيجةً للإهمال بشأن ترميم ثُلَمها (٢) .

هذا هو سدّ كورش ذي القَرنَينِ - كما وَصَفه القرآن الكريم - يَشهد على ذلك جميع الشُعوب التي دخلت أُوربا عن شمال جبال قوقاز وشاهدته بعد ما شُيّد أو اجتازت مضيق داريال قبل تشييده، هذا هو السدّ، في منطقة استراتيجيّة ذات أهميّة كبيرة، جرَّ عليها موقعها هذا صِعاباً كثيرةً، فطَمعت فيها كلّ الدُول المـُجاورة!

وهكذا، فكلّ مَن سيطر على الإقليم صارت كلّ المناطق شماله وجنوبه تحت رحمته؛ لذلك فقد وصل الغُزاة إلى المنطقة من فجر التأريخ، فغزاها الآشوريّون والكلدانيّون والمصريّون والقُدماء والفارسيّون، ثُمّ اليونانيّون... وخضعت لنُفوذ بيزانطة في القَرن الثالث الميلادي بعد أن انتشرت المسيحيّة في جنوبها في القرن الأوّل الميلادي، وكذلك استولت الصين على جنوب قوقاز في القَرن الرابع الميلادي، وكانت دَولَتا الفُرس والروم كفَرَسَي رِهان على امتلاك أرمينيا وقوقاز وآذربيجان طول التأريخ.

بناء جِدار (دربند)

وفيما بين عامَي (٥٣١ - ٥٧٩ م) حَكم الفُرس في عهد أنوشيروان هذه المنطقة وَوَجد المـَلِك الفارسي أنّ السدّ (الذي بَناه كورش قبل ١٠٠٠ عام ) لم يَعد يمنع المـُغيرينَ عن بلاد فارس، خصوصاً وأنّ النوعيّة قد تغيّرت، فقد أُضيف إليها العُنصر الروماني

____________________

المحروق) والطين والحجارة، يبلغ طوله (١٥٠٠ مِيلاً ) ويمتدّ من البحر الأصفر حتّى سَلاسل جبال (تاين تاغ)؛ لتَحول دون القبائل الهمجيّة - التي كانت تسكن صحراوات منغوليا - الدائمة الإغارة على سُهول الصين، ويَشتمل السور على عدد مِن البوّابات الضَخمة في مناطق مُتباعدة يقوم على حراستها جُنُود أشدّاء، مفاهيم جغرافيّة، ص ١٢٨ - ١٢٩.

(١) بَناه في مُنحدَرات جبال قوقاز حتّى شواطئ بحر قزوين حيث مدينة دربند في طول سبعة فراسخ؛ سدّاً لهجمات الرومان البيزنطيّين والأتراك حيث كانوا يتدفّقون على شمال فارس عِبر الشريط الساحلي الذي بلغ اتّساعه ٣٠ مِيلاً بين بحر قزوين وجبال قوقاز، مفاهيم جغرافيّة، ص ٣١٥، ولغت نامه دهخدا، حرف الدال.

(٢) المـُنجد في الأعلام، حرف الميم.

٥٠٨

والتركي.

فمن أين جاء التهديد هذه المرّة، وكيف بَطَل مفعول السدّ الكورشي؟

... كان بحر قزوين يَضرب بأمواجه أقدامَ جبال قوقاز من جهة الشرق، وكانت مياه البحر الأسود تَضرب أقدامها من ناحية الغرب، وكان من المستحيل على الغُزاة بعد بِناء سدّ كورش الشهير أنْ يتوغَّلوا إلى جنوب قوقاز.

ولكن بعد (١٠٠٠ عام) من بِناء السدّ في مضيق داريال، كان البحر قد فعل مفعوله في مياه بحر قزوين.

وبما أنّه بحرٌ مُغلق لا يتّصل ببِحار العالَم ومحيطاتها، فقد تناقصت مياهُه وانحسرت عن شواطئه، مُتراجعةً نحو القاع، فانكشف جزءٌ مُدرَّج على طُول امتداد تعاريج الساحل، وظهر بذلك شريط ساحلي ضَيّق بين خطّ ماء البحر الجديد وأقدام جبال قوقاز عند (دربند)، وصار الرومان البيزنطيّون والأتراك يَتدفّقون على شمال فارس عِبر هذا الشريط الساحلي الذي بلغ اتساعه ٣٠ ميلاً بين بحر قزوين وجبال قوقاز.

لذلك أمر (أنوشيروان) ببِناء جِدار من الحَجَر بين مياه بحر قزوين وأقدام الجبال، بعَرض هذا الشريط الساحلي، حتّى التَحَم الجِدار تماماً بجبال قوقاز، وبذلك عاد لسدّ كورش مفعوله مرّةً أخرى (١) .

جدار (دربند) (٢)

ويَجدُر بنا و نحن على وَشَك الانتهاء من حديث ذي القَرنَينِ، أنْ نتحدّث شيئاً عن السُدود المعروفة في العالَم القديم وربّما اشتبهت بسدّ ذي القَرنَينِ الآتي في القرآن الكريم:

____________________

(١) مفاهيم جغرافيّة، ص ٣١٤ - ٣١٥.

(٢) دربند، مدينة في داغستان على ساحل بحر قزوين غرباً، سَمّاها العرب (باب الأبواب) مشهورة بأَسوارها التي تَسدّ المـَمرّ بين البحر والجبل، احتلّها المـُسلمون عام (٢٢ هـ / ٦٤٣ م) وكانت آخر مدينة على حُدود إيران الشماليّة حتّى عهد فتحعلي شاه قاجار فاستلبها الرُوس عام ١٧٩٦ م.

٥٠٩

منها: (جدار دربند) أو (حائط قوقاز) الذي بناه المـَلِك الساساني أنوشيروان في امتداد جبال قوقاز حتّى مياه بحر قزوين في طول سبعة فراسخ، سدّاً لهَجمات أَقوام هَمَج كانوا وراء السدّ، كانوا يُغيرون على حدود مَمالك فارس، فصدّهم ببِناء هذا الحائط العظيم، وجَعل له باباً ضَخماً كان يُوصد بوجه المـَغول والتتار، واشتهر بباب الأبواب.

وكانت مدينة (دربند) والتي بَناها أنوشيروان في نَفس المكان، قد سُمّيت بنفس الاسم، وهي اليوم عاصمة جمهوريّة (داغستان) على ساحل البحر (١)، لقد كانت الحروب دامية بين مُلوك فارس والقبائل الوَحش خَلف جبال قوقاز مُنذ عهد بعيد، حيث أَطماع تلك الأَقوام الصحراويّين في ثَراء منطقة آذربيجان وأرمينيّة وداغستان وكرجستان وسائر البلاد الخِصبة الغنيّة بالحَرث والنَسل.

وكان المـَلِك الساساني (قباد) (والد أنوشيروان) كان قد شَنّ حَملاته الدفاعيّة ضدّ أقوام التتر؛ ليَمنعهم عن إغارة البلاد، وكانوا يُغيرون عِبر حُدود مَمالك فارس حتى نهر كورا (كورش القديم)، فحاربهم (قباد) ومَزَّق شملَهم في حروب دامية، وقَتَلهم شرَّ قتلة وسبى وغَنِم الكثير من أموالهم، وهكذا كانت الإغارات والهجمات ظلّت مُستمرّةً بين حين وآخر حتى جاء دور (أنوشيروان) وتَسنَّم الحُكم، فكان ممّا شَدَّ العَزم على إنهاء تلك العَرقلة، أنْ قام بتشييد حائط متين يَحجز دون إغارات الأَقوام الهَمَج نهائيّاً، وليريح شَعبه من المـُزاحمينَ طول حُقبات (٢) .

وفيما بين عامَي(٥٣١ - ٥٧٩ م) (أي بعد بِناء سدّ كورش بأَلف عام) وجَدَ المـَلِك أنوشيروان أنّ السدّ القديم لم يَعد يمنع المـُغيرينَ عن فارس، خصوصاً وأنّ النوعيّة قد تغيّرت، فقد أُضيف إلى أقوام التتر والمـَغول، العنصر الروماني والتركي، وكان بحر قزوين قد أَخذ في الانخفاض والانحسار عن أقدام جبال قوقاز؛ نظراً لأنّه بحر مُغلق لا يتّصل بالمـُحيطات، فقد تناقصت مياهه وانحسرت عن شواطئه نحو القاع، فانكشف جُزء مُدرَّج على طول امتداد تعاريج الساحل، وظهر بذلك شريط ساحليّ ضيّق بين خطّ ماء البحر الجديد وأقدام جبال القوقاز عند (دربند) وصار الرومان البيزنطيّون والأتراك، مع البقايا

____________________

(١) لغت نامه دهخدا، حرف الدال، ص ١٠٥٥٤.

(٢) تأريخ إيران، ص ٢٠٥ - ٢٠٦ و ٢١٥.

٥١٠

من أقوام التَتَر الهَمج يتدفّقون على شمال فارس، عِبر هذا الشريط الساحلي الذي بلغ اتّساعه (٣٠ ميلاً) (١) بين بحر قزوين وجبال قوقاز.

لذلك قام أنوشيروان ببِناء جِدار متين من الصخور الغِلاظ، مُمتدّاً من سُفوح جبال قوقاز حتّى مياه البحر، وآخِذاً فيه بعض الشيء - على ما ذَكَره المسعودي والحَموي - (٢) حتّى التَحم الجِدار مع الجبال تماماً.

* * *

وهل كان أنوشيروان هو الذي تَبنّى بناء جِدار دربند، أَم كان هو القائم بتجديد بنائه بعد انهيارات حَصلت في أَطرافه وتَضعضع وأشرف على الخراب، فأعاد أنوشيروان بِناءه على أُسس متينة وعلى استحكام بالغ بَقيَ طيلة قرون، (وقد كان قائماً حتّى عهد المسعودي سنة ٣٢٣ هـ )؟

يبدو مِن كتاب تأريخ كرمان: أنّ الجِدار كان قد بُني قَبل ذلك بما أَثّر فيه طول العهد

____________________

(١) حسب تقديره الآن وقد انحسر البحر أكثر، وقد قَدَّره الحَموي آنذاك على عهد المـَلِك أنوشيروان بسبعة فراسخ، كلّ فرسخ ثلاثة أميال اليوم، فقد اتّسع هذا الشريط بعد أَلفي عام بعَرض عشرة فراسخ.

(٢) قال الحَموي: وعلى مدينة باب الأبواب (دربند) سور من الحجارة مُمتدّ من الجبل طولاً، ومع طول السور فقد مُدّت قطعة في البحر شبه أنف طولاني لمنع مِن تقارب السُفن من السور، وهي مُحكَمة البِناء موثّقة الأَساس من بِناء أنوشيروان، وهي أحد الثغور الجليلة العظيمة؛ لأنّها كثيرة الأَعداء الذين حَفُّوا بها من أُمم شتّى وأَلسِنة مختلفة وعدد كثير.

قال: وأقام أنوشيروان يبني الحائط بالصخر والرصاص، ثُمّ قاده في البحر، وقد أَحكم هذا المـُمتدّ في البحر بحيث لا يَتهيّأ سلوكه، وقد بَناه بالحجارة المنقورة المـُربّعة المـُهندّمة، لا يُقِلُّ أَصغَرَها خمسون رجلاً، وقد أُحكمت بالمسامير والرصاص، وأُلقيت في قَرار البحر حتى اعتلى السور على وجه البحر بما استوى مع الذي في البرّ في عَرضه وارتفاعه.

وقُدِّر طول الحائط من البحر إلى سَفح الجبل بسبعة فراسخ، معجم البلدان، ج ١، ص ٣٠٣ - ٣٠٥.

وذَكَر المسعودي أنّ كسرى أنوشيروان بنى السور من جَوف البحر بمقدار ميل (٤٠٠٠ ذراع) بالصخر والحديد والرصاص، ويُسمّى هذا المـَوضع من السور في البحر: الصدّ. وهو باقٍ إلى وقتنا هذا، وهو سنة (٣٣٢ هـ ) مانِعاً للمـَراكب في البحر إنْ وردت من بعض الأعداء. ثُمّ مَدَّ السور في البرّ مابين الجبل والبحر.

وزاد: أنّه مَدَّ السور حتى أعالي الجبال ومنخفضاته وشِعابه (أي سَدَّ جميع الخلل والفُرج هناك) نحواً من أربعين فرسخاً إلى أنْ ينتهي إلى قلعة (طبرستان)، مُروج الذهب، ج ١، ص ١٧٦ و ٢٦٤.

قلتُ: ولعلّه الصاروج بدل الرصاص وقد التَبَس عليهم، لوجود المـُشابَهة شكليّاً وبعد مرور ألف عام على بِنائه، والصاروج: خليط من حجر الكِلس وأَملاح الكلسيوم والباريون مَحروق القَصَب وغيرها، يُستعمل في طِلاء الجدران والأحواض والحمّامات، صَنعة قديمة استُخدمت في أُسُس البِنايات الضَخمة وأَعمدة الجسور ولمخازن المياه؛ لمقاومتها تجاه تأثير الرطوبة واستحكامها عن كلّ مؤثّرات الجوّ والمـُحيط، وهي على مقاومة الإسمنت في هذا العصر.

٥١١

مِن التَضعضع والإشراف على الانهيار، فكان أنوشيروان قام بتَرميمه وتجديد عمارته.

جاء فيه: أنّ شاهنشاه إيران أنوشيروان عَمَد من (المدائن) عاصمة مُلوك الفُرس، قاصداً مدينة باب الأبواب لتَرميم السدّ في منطقة (شروان) (١) ، فأَخذ طريقه على ساحل الخزر ومعه العُمّال والمهندسون لعمارة السدّ، وأنفق أموالاً طائلة، لكن المشروع استنفدها دون الاكتمال، وبعد التدبُّر والمـُشاورة رأى المـَلِك أنّ أَحداً من عُظماء مَملكته لا تَسَعه المـُساهمة في إكمال المشروع الجَلَل، سِوى الأمير (آذرماهان) وكان والياً على بلاد كرمان من قبل السلطان، وكانت بلاد كرمان يومذاك غنيّة بالثروات الطبيعيّة والزراعيّة بما يَفوق سائر البلاد.

غير أنّ المـَلِك لم يَرُقه تكليف مُوظّفيه بأكثر من المـُقرّر الرسمي المفروض عليهم، حيث كان خِلاف العَدل السُلطاني؛ ولذلك عَزَم على المسير إليه في أَلف من خواصّه المهندسينَ والعُمّال الفنّيينَ، حتّى ورد (إيلغار كواشير) (٢) نازلاً في دار الأمير، فوَعَدهم بالمـُساهمة في المشروع بما يكفي مؤنة إكمال السدّ نهائيّاً... ذكروا أنّ السدّ اكتمل بما بَذَله أمير كرمان آنذاك (٣) .

شكوك حول كورش: هل هو ذو القَرنَينِ؟

ربّما تَشكّك البعض في الرأي القائل بأنّ ذا القَرنَينِ - الذي وَصَفه القرآن بالصلاح - هو كورش الكبير المـَلِك الفارسي العظيم؟!

وعُمدة مَسارب الشكّ هو جانب سلوكه السياسي المـُتسامح مع أصحاب الأديان وحتّى مع عَبَدة الأوثان، ومن غير أنْ يسير سعياً وراء إعلاء كلمة الله في الأرض، يشهد لذلك سلوكه الخاصّ مع البابليّينَ وإفساح المجال لهم في عقيدتهم الأُولى ولا سيّما تَزلّفه في تكريم كبير آلهتهم (مردوك) - حتّى أنّه عَدّ نفسه مَوضعاً لعنايته في مَنشورٍ عام، كما رَدّ إلى عَبَدة الأوثان كلّ ما نُهب منهم من أصنام وجَعلها في معابد كانت تُسمّى (شادي

____________________

(١) شروان: منطقة في الجنوب الشرقي من بلاد قوقاز بين أعالي نهر أرس وكورا كانت في القديم من نواحي باب الأبواب.

(٢) إيلغار، لفظة تُركية تَعني: المـُعسكر - الحامية، وكواشير اسم قديم لمدينة كرمان الفعليّة.

(٣) راجع: كورش كبير، ص ٢٨٣ - ٢٨٤ الهامش، عن تأريخ كرمان، ص ٢٤.

٥١٢

دل) أَي فَرحة النَفْس.

يقول في ذلك الأُستاذ مُحمّد خير رمضان: تلك المقاطع التأريخيّة إنْ دلّت على شيء فإنّما تدلّ على وثنيّة كورش وتعظيمه للآلهة وإفساح المـَجال لعبادتها لكلّ الشعوب المـُقدِّسة لها، ويكفيك ما قاله في منشوره العام: (أَرجعتُ الآلهة التي نُقِلَت إليها (معابد بابل) إلى مواطنها... وأَعدتُ إلى سومر وأَكَد آلهتها التي حُملت إلى بابل ووضعتُها في قصورها التي تُسمّى (شادي دل) وبذلك أَنهيتُ غضب الآلهة بأمر مِن مردوك الإله الكبير - ومردوك هو صنم بابلي.

وهذا يُقوّي ما ذَهب إليه المؤرّخون ممّا قيل عن عقيدته وإعطائه الحريّة الدينيّة كيفما كانت، وبخاصّة عبادة الأصنام، لا كما هي صفات ذي القَرنَينِ - حسبما جاءت في القرآن - مِن أنّه كان يُحارب هذا الشرك، ولا يَتعامل معهم ولا يَقبل منهم إلاّ الإيمان أو الحرب!! (١)

ومن ناحية أُخرى هي جانب بِناء السدّ - الذي ذَكَره القرآن - تَشَكّكوا في كونه عمل كورش بالذات، ولعلّه قام بترميمه نظير ما عَمِله أنوشيروان بعد ألف عام، ومُستند الشكّ أنّه لم يأتِ في التأريخ ذِكر عن بناء هذا السدّ على يد كورش، في حين أنّه لم يكن بذلك البعيد بحيث يُجهل تأريخ حياته ولا سيّما في مِثل هذا العمل الضخم، كما لم يَذكره هو في مَفاخره، حيث ذَكَر مفاخر هي أقلّ شأناً من بِناء هذا السدّ العظيم.

يقول الأُستاذ مُحمّد خير رمضان: لا دليل لاستناد بِناء السدّ إلى كورش، وعُمدة ما يستدلّون به: أنّ القبائل المـَغوليّة كانت لا تَتَكاسل عن الانقضاض على مناطق آسيا الغربيّة خلال القرن السادس قبل الميلاد... وكلّ صفحات التأريخ تَذكر لنا أنّ ثَمّة توقّفاً مُفاجئاً حَدَث في عمليّة تدفّق هذه القبائل البدائيّة المـُتوحّشة... وتُشير أصابع الدقّة التأريخيّة نحو الحُقبة التي ظهر فيها كورش الهخامنشي.

هذا هو الدليل الوحيد الذي استند إليه أصحاب القول بأنّ السدّ من عَمل كورش

____________________

(١) ذو القَرنَينِ، القائد الفاتح والحاكم الصالح لمـُحمّد خير رمضان يوسف، ص ٢٣٦ - ٢٣٨.

٥١٣

الكبير.

ولكن: هل يعني توقّف هذه القبائل: أنّ كورش بنى السدّ؟!

لماذا لا نقول: إنّ السدّ كان مَبنيّاً من قَبل، ولكنّ الحوادث الطبيعيّة أَثّرت في جوانب السدّ، كأَن تكون مياه بحر قزوين قد انحسرت عن شواطئه فكانت القبائل تغزو من الساحل الذي كان مكانه الماء، ثُمّ أُعيد ترميم السدّ في عهد ذلك المـَلِك، وَوَقفت هجمات القبائل المـُتوحّشة على تلك المنطقة بعد هذا؟!

وهذا نظير ما حدث على عهد أنوشيروان بعد ألف عام... أَفَليس من المعقول أنْ يكون كورش قد فعل مِثل صنيع أنوشيروان في ذلك، ويكون السدّ - بطبيعة الحال - قد بُنيَ قبله بزمن طويل؟!

قال: إنّني أرى ما ذكرتَه أَسلم، لأسباب:

١ - لم يَثبت تأريخيّاً قطّ أنّ كورش قد بنى سدّاً هناك...

٢ - لم يَذكر كورش في الوثيقة السابقة التي كَتَبها، أنّه بنى السدّ... رُغم أنّ هذا يُعدّ عَملاً عظيماً جدّاً لا يرتقي إليه أيّ عَمل من أعمال كورش السابقة...

فكيف يَهمل كورش ذِكر هذا السدّ - والذي استغرق بناؤه عشر سنوات كما يقول الأُستاذ خضر - والذي هو أَبلغُ آثاره على مرّ السنين، ثُمّ يَذكر أشياء أُخر أَبسط منه بكثير، والتي يُشارك فيها مُلوك غيره؟!!

٣ - ليس كورش بذلك المـَلِك القديم جدّاً حتّى تخفى أخباره على جزيرة العرب... في حين يجب أنْ لا ننسى أنّ قَصَص الفُرس كانت مُنتشرةً بين العرب، وكان لهم أنصار بينهم، وقد تَأثّروا بأَدبهم ورواياتهم وقَصَصهم الشعبيّة... وتُحدّثنا السيرة النبويّة الشريفة عن النضر بن الحارث، الذي قَدِم من الحيرة وكان قد تَعلّم بها أحاديث مُلوك فارس وأحاديث رستم واسفنديار... وكان يُحدّث بها إثر ما يقوم رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله) من مجلسه حينذاك...

وإذا كان كورش من أعظم مُلوك فارس، فلابدّ أنّه كان له نصيب من بين تلك

٥١٤

الأحاديث...

قال: هذا ما بدا لي خلال هذا البحث، والقارئ حرّ فيما يَرتئيه، وبخاصّة بعد أنْ بُيّنت له كلّ الأوجه بدقّة وإنصاف... (١)

* * *

إذن: فمن هو ذو القرنين؟

يرى الأُستاذ رمضان: إنّه رجل آخر، عاش في عصور غابِرة، قبل تُبّع، وقبل الإسكندر، وقبل كورش، فقد كان في زمن نبي الله وخليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام (أي قبل كورش هذا بألف عام) كما ذَكَره وصَحّحه ثقات المؤرّخين!!

إذن فذو القرنين رجل آخر ضاعت أخباره على مرّ التاريخ ولم يسلم منها إلاّ ما ذكره الله - عزّ وجلّ - وما ثبت عن الرسول (صلّى اللّه عليه وآله) ونتف أخرى قليلة من التاريخ، اعتمدها بعض الثِقات من المؤرّخينَ (٢) .

وهنا أَورد روايات وحكايات - أسندها إلى السَلف - بشأن ذي القَرنَينِ:

ذو القَرنَينِ في الروايات

قال: وأنا هنا سأَصِل بالقارئ إلى النتيجة، من تلك الروايات إلى ما سَنَستقرّ عليه بعونه تعالى.

فقد ذكر الأزرقي وغيره: أنّ ذا القَرنَينِ أَسلم على يدي إبراهيم الخليل (عليه السلام) وطاف معه بالكعبة المـُكرّمة هو وإسماعيل (عليه السلام).

ورُوي عن عبيد بن عمير وابنه عبد الله وغيرهما: أنّ ذا القَرنَينِ حَجَّ ماشياً، وأنّ إبراهيم لمـّا سَمع بقُدومه تلقّاه، فلمـّا اجتمعا دعا له الخليل ورضّاه وأنّ الله سَخَّر لذي القَرنَينِ السَحاب يحمله حيث أراد.

وقال إسحاق بن بشر عن عثمان بن الساج عن خصيف عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان ذو القَرنَينِ مَلِكاً صالحاً رضيَ الله عملَه وأثنى عليه في كتابه وكان منصوراً وكان

____________________

(١) المصدر: ص ٢٤٢ - ٢٤٤.

(٢) المصدر: ص ٢٤٨.

٥١٥

الخضر وزيره، وذَكَر أنّ الخضر (عليه السلام) كان على مُقدّمة جيشه، وكان عنده بمنزلة المـُشاور... (١)

وروى الفاكهي من طريق عبيد بن عمير - أحد كِبار التابعين -: أنّ ذا القَرنَينِ حجَّ ماشياً فسَمع به إبراهيم فتلقّاه، ومن طريق عطا عن ابن عباس: أنّ ذا القَرنَينِ دَخَل المسجد الحرام فسلّم على إبراهيم وصافحه، ويُقال: إنّه أَوّل من صَافح (٢) .

ومن طريق عثمان بن الساج: أنّ ذا القَرنَينِ سأل إبراهيم أنْ يدعو له. فقال: وكيف وقد أفسدتم بئري! فقال ذو القَرنَينِ: لم يُكن ذلك عن أمري، يعني أنّ بعض الجُند فعل ذلك بغير عِلمه! وذكر ابن هشام - في التيجان -: أنّ إبراهيم تَحاكم إلى ذي القَرنَينِ في شيء فحَكم له! وروى ابن أبي حاتم من طريق علي بن أحمد: أن ذا القَرنَينِ قَدِم مكّة فوجد إبراهيم وإسماعيل يَبنيان الكعبة، فاستفهَمهُما عن ذلك، فقالا: نحن عَبدانِ مَأموران، فقال: مَن يشهد لكما؟ فقامت خمسة أَكبُش فشهدت! فقال: قد صَدَقتُما، قال ابن حجر: فهذه الآثار يَشدّ بعضها بعضاً وتدلّ على قِدَم عهد ذي القَرنَينِ (٣) .

إزاحة شُبُهات

تلك شُبُهات أُثيرت حول الرأي القائل بأنّ ذا القَرنَينِ - الذي جاء وَصْفه في القرآن - هو كورش الهخامنشي المـَلِك الفارسي العظيم!!

لكنّها لم تَحسب حسابها الدقيق، ومِن ثَمّ فإنّ الترجيح مع هذا القول المـُعتَمد على أُصول متينة، أمّا الشُبهات أو الشُكوك فلا مَجال لها بعد إحكام الدليل:

____________________

(١) اُنظر: البداية والنهاية لابن كثير، ج ٢، ص ١٠٣.

(٢) وهكذا روى الشيخ في أماليه (المجلس ٨ والحديث ٢٥ - ترتيب الأمالي، ج ٢، ص ٤٥، رقم ١٠ - ٦٠٣) بإسناده إلى أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (أوّل اثنين تَصافحا على وجه الأرض ذو القَرنَينِ وإبراهيم الخليل، استقبله إبراهيم فصافحه...).

وفي قَصَص الأنبياء للراوندي: وكان ذو القَرنَينِ أَوّل المـُلوك بعد نوح (عليه السلام) مَلَك مابين المشرق والمغرب، بحار الأنوار، ج ١٢، ص ١٧٥.

قال الصدوق: والصحيح الذي أَعتقده في ذي القَرنَينِ أنّه لم يُكن نبيّاً، وإنّما كان عبداً صالحاً أَحبّ الله فأحبّه الله ونصح لله فنصحه، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (وفيكم مِثله) - يعني نفسه الشريفة، بحار الأنوار، ج ١٢، ص ١٨١، رقم ٩.

(٣) اُنظر: فتح الباري بشرح البخاري، ج ٦، ص ٢٧١.

٥١٦

أَوّلاً - ليس في الروايات أو الحكايات التي سَردوها لغرض إثبات قِدَم عهد ذي القَرنَينِ بما يُقارن عهد إبراهيم الخليل، ليس فيها ما يُفيد اليقين؛ لضعف الأَسناد واضطراب المـُتون إلى حدّ بعيد.

يقول الدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي - ردّاً على اختيار الأُستاذ مُحمّد خير رمضان يوسف -: (كم كنتُ أتمنّى على الأُستاذ... أنْ يأتي على رأيه بأدلّة علميّة يقينيّة، وهذه لا تكون إلاّ فيما أُخذ من القرآن والحديث الصحيح، أمّا اعتماده على كلام مؤرّخينَ ومفسّرينَ، لا دليل عليه من المصادر المـُعتَمدة، فهذا لا يُقبل في البحث العلمي المنهجي اليقيني.

ولذلك نحن مُضطرّون أنْ نُخالف الأُستاذ مُحمّد خير في ترجيحه عن ذي القَرنَينِ، من أنّه كان يعيش في زمن إبراهيم (عليه السلام) كما أنّنا مضطرّون إلى تَرك كلّ الأقوال المذكورة في كُتب التأريخ والتفسير عن التقاء ذي القَرنَينِ بإبراهيم (عليه السلام) في فلسطين أو الحجاز؛ لكونها غير مذكورة في حديث واحد صحيح، يُمكن للإنسان أنْ يعتمده ويَطمئنّ به، والله أعلم) (١) .

كورش هو ذلك العبد الصالح؟

جاء في وَصْف القرآن لذي القَرنَينِ ما يَنمّ على صلاح وإيمان واعتقاد باللّه العظيم، وأنّه كان على بصيرة من أَمره ومَوضع عنايته تعالى فيما انتهجه من الحياة السياسيّة الاجتماعيّة، وفي سبيل إحياء كلمة اللّه في الأرض، بما آتاه اللّه من القدرة والحِكمة وحُسن التدبير:

( إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً... )

( قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً... )

____________________

(١) مع قَصَص السابقينَ في القرآن (٢) من كنوز القرآن (٦) - دار القلم - دمشق، ط ٢، ١٤١٦ هـ / ١٩٩٦ م. الدار الشاميّة، بيروت، دار البشير بجدّة، المـَملكة العربيّة السعوديّة.

٥١٧

( قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ... هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي... ) (١)

كان قد مَكّنه اللّه في الأرض وكان قد استخدم سلطانه هذا في سبيل عمارة الأرض وإفشاء السلام فيها، وبذلك وبنعمته تعالى أَصبح عبداً شكوراً!

وهل تَتَصادق صفاتٌ كهذه مع سيرة كورش السياسيّة آنذاك؟

المـُمعِن في سيرة كورش بدقّة يَجده على الوصف الذي جاء في القرآن الكريم:

كان مُؤمناً معتقداً باللّه العظيم وأنْ لا حول ولا قوّة إلاّ به، وأنّه تعالى هو الذي رَعاه وأَلهمه الخير وهَداه إلى سبيل الرشاد، في إصلاح البلاد والعناية بشؤون العباد، الأمر الذي يبدو بوضوح من سيرته الحكيمة مع مختلف شعوب الأرض:

يقول الدكتور خضر: ويَميل كثير من المؤرّخينَ إلى اعتبار أنّ كورش كان مَلِكاً يَتّصف بالعقل والحزم والعزم والرأفة في آن واحد، وأنّه كان يَمضي إلى آخر المـَطاف في أيّ عمل يبدأه، ولا يَترك أيّ عمل دون إتمام. وكان يلجأ إلى العقل أكثر من لجوئه إلى القوّة.

وكان يعامل الشُعوب المـَغلوبة معاملة حَسنة تتّصف بالرأفة والشفقة، بخلاف ما كان عليه الحال عند المـُلوك الآشوريّين والبابليّين، وكان يَعامل المـُلوك المـَهزومينَ مُعاملة طيّبة جدّاً لدرجة أنّهم كانوا يُصبحونَ أصدقاء حميمينَ له، وكانوا يُقدِّمون له العَون إذا تطّلب الأمر.

وكان العدل يُرفرف على جميع الشعوب التي خضعت له من نهر السند حتى بحر إيجه (وهي مَسافة تقرُب من طول الولايات المـُتّحدة الأمريكيّة من الشرق إلى الغرب)... ومن خليج عدن حتى صحراء بحر قزوين، وكان النظام الذي أَرسى الحاكم العظيم كورش دعائمه في هذه الإمبراطوريّة المـُترامية الأطراف عَمَلاً خارقاً يُعدّ من الأعمال الخالدة المجيدة في تأريخ الشرق بل في تأريخ العالَم كلّه...

حقّاً... لقد كان حاكماً رحيماً مُستنيراً يَدعو إلى الخير... وكان يُلقّب بالمـَلِك

____________________

(١) الكهف ١٨: ٨٤ و٨٦ و٩٥ و٩٨.

٥١٨

الأكبر... وظلّ هذا تَقليداً عامّاً لكلّ عاهل فارسي.

ويرى العلاّمة أبو الكلام آزاد: أنّ كورش كان يُطبّق تعاليم الفيلسوف والحكيم المشهور (زرادشت) والتي تدعو إلى الخير وتَعتقد بالحياة الأُخرى وبقاء الروح، كما يرى أبو الكلام آزاد في تعاليم (زرادشت) أنّها مُحور دارت عليه الدعوة إلى طهارة النفس وحُسن العمل، يرى فيها أيضاً تَحريماً لعبادة الأصنام في أيّ شكل من الأشكال.

ومن دلائل تَديُّن الحاكم العظيم كورش ما كَشفه الأُستاذ (هرتزفلد) ( Herzfeld ) مِن بقايا مَعبد قديم، يُعتَقد أنّ كورش هو الذي بَناه في مدينة (باساركاد) ويقوم هذا المـَعبد على مَقربة من قصر المـَلِك، وقبره في تلك المـَنطقة، وهذا المـَعبد يُعبِّر عن مَبلغ أَهميّة هذه الديانة في عهد كورش ومَن بعده، ويراها المـُؤرّخون ديانةً قديمةً كانت ذات أهميّة كبيرة عند أهل فارس القديمة، وأنّها دَعت كلّ إنسان وحثّته على اختيار أحد الطريقَينِ:

إمّا أن يَملأ قلبَه بالخير والنور أو يَنغمس في الشرّ والظُلمة، وعلى كلٍّ فسَيُلاقي جزاءه ويُحاسب على ما آتاه، ويَعتبر المؤرّخون هذه العقيدة أَقدم ديانة ظهرت في آسيا تعتقد بالحِساب بعد البعث.

قال الدكتور خضر: ولعلّنا نجد في قول ذي القَرنَينِ ما يُشير إلى ذلك:

( قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْراً ) .

أي هناك إلهاً، سَيرِد إليه كلّ إنسان يوم البعث للحساب، فإن كان ظالماً في حياته فسوف يعذّبه الله عذاباً شديداً.

وقد ذَكَرت كُتب المؤرّخينَ أنّ كورش لم يَعمل السَلب والنهب في القبائل الأَيونيّة (١) التي أَخضعها، ولم يَسمح بالنهب والقتل فيما آل إليه من مُدُن ومَمالك، وكان بذلك على العكس تماماً من المـُلوك الآشوريّينَ... فإنّهم جعلوا المـُدُن التي فتحوها في مستوى الأرض، وكانوا يتبجّحون بأنّهم تركوها خَراباً يباباً، فلم يَعد يُسمع فيها نُباح كلب

____________________

(١) أيونيّة: منطقة وسيعة في غرب آسيا الصُغرى تشمل السُهول الساحليّة لبحر إيجة والبحر الأسود وجُزر منتشرة هناك، كان يسكنها المهاجرون اليونانيّون القُدامى وأَسّسوا هناك مَملكةً وسيعةً مُقتدرة حالفت ليديا ومَلِكها (كرزوس) العاتي على كورش، لكنّ كورش سامَحَهم بعد الاستيلاء عليهم جميعاً.

٥١٩

أو صياح ديك، وقد وَرد نفسُ الشيء عن مُلوك عيلام.

وحين رأى الناس سُلوك كورش، وقارنوا ذلك بما كان سائداً ومُتَّبعاً آنذاك، كانوا يَعتبرونه حاكماً عادلاً مُنصفاً، طيّب القلب يُحبّ الخير للناس (١) .

ويَعتبره المؤرّخونَ أَوّل مَن أَرسى الأُسس الأخلاقيّة في العالَم القديم، وأدخل أُسلوباً جديداً لمعاملة المـَمالك التابعة والشُعوب المـَغلوبة (٢) .

ويَذكر المؤرّخ اليوناني الكبير (هيرودتس) أنّ كورش - بعد إخضاع بابل - توجّه نحو الشمال الغربي لإعادة الأَمن على البلاد، وإخضاع القبائل الوَحْش (ماساجيت - ماجوج) التي كانت تَشنّ إغارتها على البلاد الآمِنة، يقول: وكان قد تَوجّه لذلك الصَوب بدافع إلهي... أَوّلاً: أَصالة نزعته الإلهيّة... وثانياً: ثقته النفسيّة اعتماداً على ما مكّنه الله تعالى من القوّة والسطوة وقدرته الفائقة على إخضاع كلّ الصِعاب (٣) .

ويقول (ول ديورانت): كان كورش من الحُكّام الذين خُلقوا ليكونوا حُكّاماً، والذين يقول فيهم (إمرسن): كان الناس يَبتَهجون عندما يَرَون هؤلاء يُتوَّجون.

فلقد كان مَلِكاً بحقٍّ في رُوحه وأَعماله، قديراً في الأَعمال الإداريّة والفُتوح الخاطِفة المـُحيّرة، كريماً في معاملة المـَغلوبينَ، مَحبوباً لدى أعدائه السابقينَ، فلا عجب والحالة هذه أنْ يتّخذ اليونان منه مَوضوعاً لعدّة روايات بُطوليّة وأنْ يَصفوه بأنّه أكبر أبطال العالم (٤) .

كان وَسيمَاً بهيّ الطَّلعة - وقد اتّخذه الفُرس نَموذجاً للجمال البشري حتى آخر أيّام فُنونهم القديمة - (٥) وأنّه أَسّس الأُسرة الهخامنشيّة أُسرة المـُلوك العِظام التي حَكَمت بلاد الفُرس في أزهى أَيّامها وأَعظمها شُهرةً، وأنّه نَظَّم قوّات ميديا وفارس الحربيّة، فجَعَل منها

____________________

(١) مفاهيم جغرافيّة، ص ٢٥١ - ٢٥٥.

(٢) تأريخ إيران، ص ٧١ - ٧٢.

(٣) (أَنكيزه هاي مُتعددي داشت، يكى اصل و تبار إزدي وي، ديكر بيروزيهاي بي در بي...). تأريخ هيرودت، ص ٩٩.

(٤) قصة الحضارة، ج ٢، ص ٤٠٣.

(٥) يَبدو مِن وصف (ول ديورانت) عن الشعب الفارسي أنّهم كانوا أَجمل شُعوب الشرق الأدنى في الزمن القديم، فالآثار الباقية مِن عهدهم تُصوِّرهم شعباً معتدل القامات قويّ الأجسام، قد وهبتهم طبيعة البلاد شِدّةً وصَلابةً، ولكن ثروتهم الطائلة رقّقت طِباعهم، وهم ذَوو ملامح متناسبة متناسقة، شُمُّ الأُنوف، تبدو على وجناتهم سِمات النُبل والرَوعة - ثُمّ يأتي في وصف ملابسهم الجميلة ذوات وِقار وإكبار... قصّة الحضارة - تأريخ الشرق القديم، ج ٢، ص ٤١٠.

٥٢٠

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578