شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم10%

شبهات وردود حول القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 578

شبهات وردود حول القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 578 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 297394 / تحميل: 13674
الحجم الحجم الحجم
شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

و الحال أنّه هلكت اُمم الماضون العائشون من قبلي و لم يُحي منهم أحد و لا بُعث.

و هذا على زعمهم حجّة على نفي المعاد و تقريره أنّه لو كان هناك إحياء و بعث لاُحيي بعض من هلك إلى هذا الحين و هم فوق حدّ الإحصاء عدداً في أزمنة طويلة لا أمد لها و لا خبر عنهم و لا أثر و لم يتنبّهوا أنّ القرون السالفة لو عادوا كما يقولون كان ذلك بعثاً لهم و إحياءً في الدنيا و الّذي وعده الله سبحانه هو البعث للحياة الآخرة و القيام لنشأة اُخرى غير الدنيا.

و قوله:( وَ هُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ ) الاستغاثة طلب الغوث من الله أي و الحال أنّ والديه يطلبان من الله أن يغيثهما و يعينهما على إقامة الحجّة و استمالته إلى الإيمان و يقولان له: ويلك آمن بالله و بما جاء به رسوله و منه وعده تعالى بالمعاد إنّ وعد الله بالمعاد من طريق رسله حقّ.

و منه يظهر أنّ مرادهما بقولهما:( آمِنْ ) هو الأمر بالإيمان بالله و رسوله فيما جاء به من عندالله، و قولهما:( إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ ) المراد به المعاد، و تعليل الأمر بالإيمان به لغرض الإنذار و التخويف.

و قوله:( فَيَقُولُ ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) الإشارة بهذا إلى الوعد الّذي ذكراه و أنذراه به أو مجموع ما كانا يدعوانه إليه و المعنى: فيقول هذا الإنسان لوالديه ليس هذا الوعد الّذي تنذرانني به أو ليس هذا الّذي تدعوانني إليه إلّا خرافات الأوّلين و هم الاُمم الأوّليّة الهمجيّة.

قوله تعالى: ( أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ) إلخ، تقدّم بعض الكلام فيه في تفسير الآية 25 من سورة حم السجدة.

قوله تعالى: ( وَ لِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ) إلى آخر الآية أي لكلّ من المذكورين و هم المؤمنون البررة و الكافرون الفجرة منازل و مراتب مختلفة صعوداً و حدوراً فللجنّة درجات و للنار دركات.

و يعود هذا الاختلاف إلى اختلافهم في أنفسهم و إن كان ظهوره في أعمالهم و لذلك قال:( لِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ) فالدرجات لهم و منشأها أعمالهم.

٢٢١

و قوله:( وَ لِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ ) اللّام للغاية و الجملة معطوفة على غاية أو غايات اُخرى محذوفة لم يتعلّق بذكرها غرض، و إنّما جعلت غاية لقوله:( لِكُلٍّ دَرَجاتٌ) لأنّه في معنى و جعلناهم درجات، و المعنى: جعلناهم درجات لكذا و كذا و ليوفّيهم أعمالهم و هم لا يظلمون.

و معنى توفيتهم أعمالهم إعطاؤهم نفس أعمالهم فالآية من الآيات الدالّة على تجسّم الأعمال، و قيل: الكلام على تقدير مضاف و التقدير و ليوفّيهم اُجور أعمالهم.

قوله تعالى: ( وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ ) إلخ، عرض الماء على الدابّة و للدابّة وضعه بمرأى منها بحيث إن شاءت شربته، و عرض المتاع على البيع وضعه موضعاً لا مانع من وقوع البيع عليه.

و قوله:( وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ ) قيل: المراد بعرضهم على النار تعذيبهم فيها من قولهم: عرض فلان على السيف إذا قتل و هو مجاز شائع.

و فيه أنّ قوله في آخر السورة( وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَ لَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى‏ وَ رَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ ) لا يلائمه تلك الملاءمة حيث فرّع ذوق العذاب على العرض فهو غيره.

و قيل: إنّ في الآية قلباً و الأصل عرض النار على الّذين كفروا لأنّ من الواجب في تحقّق معنى العرض أن يكون في المعروض عليه شعور بالمعروض و النار لا شعور لها بالّذين كفروا بل الأمر بالعكس ففي الكلام قلب، و المراد عرض النار على الّذين كفروا.

و وجّهه بعض المفسّرين بأنّ المناسب أن يؤتى بالمعروض إلى المعروض عليه كما في قولنا: عرضت الماء على الدابّة و عرضت الطعام على الضيف، و لمّا كان الأمر في عرض النار على الّذين كفروا بالعكس فإنّهم هم المسيّرون إلى النار فقلب الكلام رعاية لهذا الاعتبار.

و فيه نظر أمّا ما ذكر من أنّ المعروض عليه يجب أن يكون ذا شعور و إدراك بالمعروض حتّى يرغب إليه أو يرغب عنه و النار لا شعور لها ففيه أوّلاً: أنّه

٢٢٢

ممنوع كما يؤيّده قولهم: عرضت المتاع على البيع، و قوله تعالى:( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ ) الأحزاب: 72، و ثانياً: أنّا لا نسلّم خلوّ نار الآخرة عن الشعور، ففي الأخبار الصحيحة أنّ للجنّة و النار شعوراً و يشعر به قوله:( يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ) ق: 30، و غيره من الآيات.

و أمّا ما قيل من أنّ المناسب تحريك المعروض إلى المعروض عليه فلا نسلّم لزومه و لا اطّراده فهو منقوض بقوله:( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) الآية، الأحزاب: 72.

على أنّ في كلامه تعالى ما يدلّ على الإتيان بالنار إلى الّذين كفروا كقوله:( وَ جِي‏ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَ أَنَّى لَهُ الذِّكْرى) الفجر: 23.

فالحقّ أنّ العرض و هو إظهار عدم المانع من تلبّس شي‏ء بشي‏ء معنى له نسبة إلى الجانبين يمكن أخذ كلّ منهما أصلاً معروضاً عليه و الآخر فرعاً معروضاً فتارة تؤخذ النار معروضة على الكافرين بعناية أن لا مانع من عمل صالح أو شفاعة تمنع من دخولهم فيها كقوله تعالى:( وَ عَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً ) الكهف: 100، و تارة يؤخذ الكفّار معروضين للنار بعناية أن لا مانع يمنع النار أن تعذّبهم، كما في قوله:( النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَ عَشِيًّا ) المؤمن: 36، و قوله:( يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ ) الآية.

و على هذا فالأشبه تحقّق عرضين يوم القيامة: عرض جهنّم للكافرين حين تبرز لهم ثمّ عرضهم على جهنّم بعد الحساب و القضاء الفصل بدخولهم فيها حين يساقون إليها، قال تعالى:( وَ سِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى‏ جَهَنَّمَ زُمَراً ) الزمر: 71.

و قوله:( أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَ اسْتَمْتَعْتُمْ بِها ) على تقدير القول أي يقال لهم:( أَذْهَبْتُمْ ) إلخ، و الطيّبات الاُمور الّتي تلائم النفس و توافق الطبع و يستلذ بها الإنسان، و إذهاب الطيّبات إنفادها بالاستيفاء لها، و المراد بالاستمتاع بها استعمالها و الانتفاع بها لنفسها لا للآخرة و التهيّؤ لها.

و المعنى: يقال لهم حين عرضهم على النار: أنفذتم الطيّبات الّتي تلتذّون بها في

٢٢٣

حياتكم الدنيا و استمتعتم بتلك الطيّبات فلم يبق لكم شي‏ء تلتذّون به في الآخرة.

و قوله:( فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ بِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ ) تفريع على إذهابهم الطيّبات، و عذاب الهون العذاب الّذي فيه الهوان و الخزي.

و المعنى: فاليوم تجزون العذاب الّذي فيه الهوان و الخزي قبال استكباركم في الدنيا عن الحقّ و قبال فسقكم و تولّيكم عن الطاعات، و هما ذنبان أحدهما متعلّق بالاعتقاد و هو الاستكبار عن الحقّ و الثاني متعلّق بالعمل و هو الفسق.

( بحث روائي‏)

في الدرّ المنثور، أخرج عبدالرزّاق و عبد بن حميد و ابن المنذر من طريق قتادة عن أبي حرب بن أبي الأسود الدئليّ قال: رفع إلى عمر امرأة ولدت لستّة أشهر فسأل عنها أصحاب النبيّ فقال عليّ: لا رجم عليها أ لا ترى أنّه يقول:( وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ) ، و قال:( وَ فِصالُهُ فِي عامَيْنِ ) ، و كان الحمل ههنا ستّة أشهر فتركها عمر. قال: ثمّ بلغنا أنّها ولدت آخر لستّة أشهر.

أقول: و روى القصّة المفيد في الإرشاد.

و فيه، أخرج ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن بعجة بن عبدالله الجهنيّ قال: تزوّج رجل منّا امرأة من جهينة فولدت له تماماً لستّة أشهر فانطلق زوجها إلى عثمان بن عفّان فأمر برجمها فبلغ ذلك عليّاً فأتاه فقال: ما تصنع؟ قال: ولدت تماماً لستّة أشهر و هل يكون ذلك؟ قال عليّ: أ مّا سمعت الله تعالى يقول:( وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ) و قال:( حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ ) فكم تجده بقي إلّا ستّة أشهر؟.

فقال عثمان: و الله ما فطنت لهذا. عليّ بالمرأة فوجدوها قد فرغ منها، و كان من قولها لاُختها: لا تحزني فو الله ما كشف فرجي أحد قطّ غيره. قال: فشبّ الغلام بعد فاعترف الرجل به و كان أشبه الناس به. قال: فرأيت الرجل بعد يتساقط عضواً عضواً على فراشه.

٢٢٤

و في التهذيب، بإسناده عن عبدالله بن سنان عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سأله أبي و أنا حاضر عن قول الله عزّوجلّ:( حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ ) قال: الاحتلام.

و في الخصال، عن أبي بصير قال: قال أبوعبداللهعليه‌السلام : إذا بلغ العبد ثلاثاً و ثلاثين سنة فقد بلغ أشدّه، و إذا بلغ أربعين سنة فقد بلغ منتهاه، فإذا طعن في إحدى و أربعين فهو في النقصان، و ينبغي لصاحب الخمسين أن يكون كمن كان في النزع.

أقول: لا تخلو الرواية من إشعار بكون بلوغ الأشدّ ممّا يختلف بالمراتب فيكون الاحتلام و هو غالباً في الستّ عشرة أوّل مرتبة منها و الثلاث و الثلاثين و هي بعد مضيّ ستّ عشرة اُخرى المرتبة الثانية، و قد تقدّم في نظيره الآية من سورة يوسف بعض أخبار اُخر.

و اعلم أنّه قد وردت في الآية أخبار تطبّقها على الحسين بن عليّعليه‌السلام و ولادته لستّة أشهر و هي من الجري.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن عبدالله قال: إنّي لفي المسجد حين خطب مروان فقال: إنّ الله قد أرى أميرالمؤمنين في يزيد رأياً حسناً و إن يستخلفه فقد استخلف أبوبكر و عمر، فقال عبدالرحمن بن أبي بكر: أ هرقليّة؟ إنّ أبابكر و الله ما جعلها في أحد من ولده و لا أحد من أهل بيته و لا جعلها معاوية إلّا رحمة و كرامة لولده.

فقال مروان: أ لست الّذي قال لوالديه: اُفّ لكما؟ فقال عبدالرحمن: أ لست ابن اللعين الّذي لعن أباك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟.

قال: و سمعتها عائشة فقالت: يا مروان أنت القائل لعبدالرحمن كذا و كذا؟ كذبت و الله ما فيه نزلت. نزلت في فلان بن فلان.

و فيه، أخرج ابن جرير عن ابن عبّاس: في الّذي قال لوالديه اُفّ لكما الآية، قال: هذا ابن لأبي بكر.

أقول: و روي ذلك أيضاً عن قتادة و السدّي، و قصّة رواية مروان و تكذيب عائشة له مشهورة. قال في روح المعاني بعد ردّ رواية مروان: و وافق بعضهم كالسهيلي

٢٢٥

في الأعلام مروان في زعم نزولها في عبدالرحمن، و على تسليم ذلك لا معنى للتعيير لا سيّما من مروان فإنّ الرجل أسلم و كان من أفاضل الصحابة و أبطالهم، و كان له في الإسلام عناء يوم اليمامة و غيره، و الإسلام يجبّ ما قبله فالكافر إذا أسلم لا ينبغي أن يعيّر بما كان يقول. انتهى.

و فيه أنّ الروايات لو صحّت لم يكن مناص عن صريح شهادة الآية عليه بقوله:( أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ - إلى قوله -إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ ) و لم ينفع شي‏ء ممّا دافع عنه به.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا - إلى قوله -وَ اسْتَمْتَعْتُمْ بِها ) قال: أكلتم و شربتم و ركبتم، و هي في بني فلان( فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ ) قال: العطش.

و في المحاسن، بإسناده عن ابن القدّاح عن أبي عبداللهعليه‌السلام عن آبائهعليهم‌السلام قال: اُتي يعني النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بخبيص(1) فأبى أن يأكله- فقيل: أ تحرّمه؟ فقال: لا و لكنّي أكره أن تتوق إليه نفسي ثمّ تلا الآية( أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا ) .

و في المجمع، في الآية و قد روي في الحديث أنّ عمر بن الخطّاب قال: استأذنت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فدخلت عليه في مشربة اُمّ إبراهيم و إنّه لمضطجع على حفصة و إنّ بعضه على التراب و تحت رأسه وسادة محشوّة ليفا فسلّمت عليه ثمّ جلست فقلت: يا رسول الله أنت نبيّ الله و صفوته و خيرته من خلقه و كسرى و قيصر على سرير الذهب و فرش الحرير و الديباج! فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اُولئك قوم عجّلت طيّباتهم و هي وشيكة الانقطاع، و إنّما اُخّرت لنا طيّباتنا.

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، بطرق عنه.

____________________

(1) نوع من الحلواء.

٢٢٦

( سورة الأحقاف الآيات 21 - 28)

وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( 21 ) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( 22 ) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ( 23 ) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا  بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ  رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 24 ) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَىٰ إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ  كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ( 25 ) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( 26 ) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَىٰ وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( 27 ) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللهِ قُرْبَانًا آلِهَةً  بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ  وَذَٰلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ( 28 )

( بيان‏)

لمّا قسّم الناس على قسمين و انتهى الكلام إلى الإنذار عقّب ذلك بالإشارة إلى قصّتين قصّة قوم عاد و هلاكهم و معها الإشارة إلى هلاك القرى الّتي حول مكّة و

٢٢٧

قصّة إيمان قوم من الجنّ صرفهم الله إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاستمعوا القرآن فآمنوا و رجعوا إلى قومهم منذرين و إنّما أورد القصّتين ليعتبر بهما من شاء أن يعتبر منهم، و هذه الآيات المنقولة تتضمّن اُولى القصّتين.

قوله تعالى: ( وَ اذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَ قَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ ) إلخ، أخو القوم هو المنسوب إليهم من جهة الأب، و المراد بأخي عاد هود النبيّعليه‌السلام ، و الأحقاف مسكن قوم عاد و المتيقّن أنّه في جنوب جزيرة العرب و لا أثر اليوم باقياً منهم، و اختلفوا أين هو؟ فقيل: واد بين عمان و مهرة، و قيل رمال بين عمّان إلى حضرموت، و قيل: رمال مشرفة على البحر بالشّحر من أرض اليمن و قيل غير ذلك.

و قوله:( وَ قَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ ) النذر جمع نذير و المراد به الرسول على ما يفيده السياق، و أمّا تعميم بعضهم الندر للرسول و نوّابهم من العلماء ففي غير محلّه.

و فسّروا( مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ) بالّذين كانوا قبله و( مِنْ خَلْفِهِ ) بالّذين جاؤا بعده و يمكن العكس بأن يكون المراد بالنذر بين يديه من كانوا في زمانه، و من خلفه من كان قبله، و الأولى على الأوّل أن يكون المراد بخلو النذر من بين يديه و من خلفه أن يكون كناية عن مجيئه إليهم و إنذاره لهم على فترة من الرسل.

و قوله:( أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ ) تفسير للإنذار و فيه إشارة إلى أنّ أساس دينه الّذي يرجع إليه تفاصيله هو التوحيد.

و قوله:( إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) تعليل لدعوتهم إلى التوحيد، و الظاهر أنّ المراد باليوم العظيم يوم عذاب الاستئصال لا يوم القيامة يدلّ على ذلك ما سيأتي من قولهم:( فَأْتِنا بِما تَعِدُنا ) و قوله:( بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ ) و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( قالُوا أَ جِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا ) إلخ، جواب القوم له قبال إنذاره، و قوله:( لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا ) بتضمين الإفك و هو الكذب و الفرية معنى الصرف و المعنى: قالوا أ جئتنا لتصرفنا عن آلهتنا إفكا و افتراء.

٢٢٨

و قوله:( فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) أمر تعجيزيّ منهم له زعماً منهم أنّهعليه‌السلام كاذب في دعواته آفك في إنذاره.

قوله تعالى: ( قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَ أُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ ) إلخ، جواب هود عن قولهم ردّاً عليهم، فقوله:( إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ ) قصر العلم بنزول العذاب فيه تعالى لأنّه من الغيب الّذي لا يعلم حقيقته إلّا الله جلّ شأنه، و هو كناية عن أنّهعليه‌السلام لا علم له بأنّه ما هو؟ و لا كيف هو؟ و لا متى هو؟ و لذلك عقّبه بقوله:( وَ أُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ ) أي إنّ الّذي حمّلته و اُرسلت به إليكم هو الّذي اُبلّغكموه و لا علم لي بالعذاب الّذي اُمرت بإنذاركم به ما هو؟ و كيف هو؟ و متى هو؟ و لا قدرة لي عليه.

و قوله:( وَ لكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ ) إضراب عمّا يدلّ عليه الكلام من نفيه العلم عن نفسه، و المعنى: لا علم لي بما تستعجلون به من العذاب و لكنّي أراكم قوماً تجهلون فلا تميّزون ما ينفعكم ممّا يضرّكم و خيركم من شرّكم حين تردّون دعوة الله و تكذّبون بآياته و تستهزؤن بما يوعدكم به من العذاب.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا ) إلخ، صفة نزول العذاب إليهم بادئ ظهوره عليهم.

و العارض هو السحاب يعرض في الاُفق ثمّ يطبق السماء و هو صفة العذاب الّذي يرجع إليه ضمير( رَأَوْهُ ) المعلوم من السياق، و قوله:( مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ ) صفة اُخرى له، و الأودية جمع الوادي، و قوله:( قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا ) أي استبشروا ظنّاً منهم أنّه سحاب عارض ممطر لهم فقالوا: هذا الّذي نشاهده سحاب عارض ممطر إيّانا.

و قوله:( بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ ) ردّ لقولهم:( هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا ) بالإضراب عنه إلى بيان الحقيقة فبيّن أوّلاً على طريق التهكّم أنّه العذاب الّذي استعجلتم به حين قلتم:( فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) و زاد في البيان ثانياً بقوله:( رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ ) .

و الكلام من كلامه تعالى و قيل: هو كلام لهود النبيّعليه‌السلام .

٢٢٩

قوله تعالى: ( تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْ‏ءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى‏ إِلَّا مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ) التدمير الإهلاك، و تعلّقه بكلّ شي‏ء و إن كان يفيد عموم التدمير لكنّ السياق يخصّصه بنحو الإنسان و الدوابّ و الأموال، فالمعنى: إنّ تلك الريح ريح تهلك كلّ ما مرّت عليه من إنسان و دوابّ و أموال.

و قوله:( فَأَصْبَحُوا لا يُرى‏ إِلَّا مَساكِنُهُمْ ) بيان لنتيجة نزول العذاب، و قوله:( كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ) إعطاء ضابط كلّيّ في مجازاة المجرمين بتشبيه الكلّيّ بالفرد الممثّل به و التشبيه في الشدّة أي إنّ سنّتنا في جزاء المجرمين على هذا النحو الّذي قصصناه من الشدّة فهو كقوله تعالى:( وَ كَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى‏ وَ هِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ) هود: 102.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ ) إلخ، موعظة لكفّار مكّة مستنتجة من القصّة.

و التمكين إقرار الشي‏ء و إثباته في المكان، و هو كناية عن إعطاء القدرة و الاستطاعة في التصرّف و( ما ) في( فيما ) موصولة أو موصوفة و( إِنْ ) نافية، و المعنى: و لقد جعلنا قوم هود في الّذي - أو في شي‏ء - ما مكّنّاكم معشر كفّار مكّة و من يتلوكم فيه من بسطة الأجسام و قوّة الأبدان و البطش الشديد و القدرة القوميّة.

و قوله:( وَ جَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَ أَبْصاراً وَ أَفْئِدَةً ) أي جهّزناهم بما يدركون به ما ينفعهم و ما يضرّهم و هو السمع و الأبصار و ما يميّزون به ما ينفعهم ممّا يضرّهم فيحتالون لجلب النفع و لدفع الضرّ بما قدروا كما أنّ لكم ذلك.

و قوله:( فَما أَغْنى‏ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَ لا أَبْصارُهُمْ وَ لا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ ) ما في( فَما أَغْنى‏ ) نافية لا استفهاميّة، و( إِذْ ) ظرف متعلّق بالنفي الّذي في قوله:( فَما أَغْنى) .

و محصّل المعنى: أنّهم كانوا من التمكّن على ما ليس لكم ذلك و كان لهم من أدوات الإدراك و التمييز ما يحتال به الإنسان لدفع المكاره و الاتّقاء من الحوادث المهلكة المبيدة لكن لم يغن عنهم و لم ينفعهم هذه المشاعر و الأفئدة شيئاً عند ما جحدوا

٢٣٠

آيات الله فما الّذي يؤمّنكم من عذاب الله و أنتم جاحدون لآيات الله.

و قيل: معنى الآية: و لقد مكّنّاهم في الّذي أو في شي‏ء ما مكّنّاكم فيه من القوّة و الاستطاعة و جعلنا لهم سمعاً و أبصاراً و أفئدة ليستعملوها فيما خلقت له و يسمعوا كلمة الحقّ و يشاهدوا آيات التوحيد و يعتبروا بالتفكّر في العبر، و يستدلّوا بالتعقّل الصحيح على المبدإ و المعاد فما أغنى عنهم سمعهم و لا أبصارهم و لا أفئدتهم من شي‏ء حيث لم يستعملوها فيما يوصل إلى معرفة الله سبحانه، هذا و لعلّ الّذي قدّمناه من المعنى أنسب للسياق.

و قد جوّزوا في مفردات الآية وجوهاً لم نوردها لعدم جدوى فيها.

و قد تقدّم في نظائر قوله:( سَمْعاً وَ أَبْصاراً وَ أَفْئِدَةً ) أنّ إفراد السمع - و المراد منه الجمع - لمكان مصدريّته في الأصل نظير الضيف و القربان و الجنب، قال تعالى:( ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ) الذاريات: 24 و قال:( إِذْ قَرَّبا قُرْباناً ) المائدة: 27، و قال:( وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً ) المائدة: 6.

و قوله:( وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ) عطف على قوله:( فَما أَغْنى‏ عَنْهُمْ ) إلخ.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى) تذكرة إنذارية متفرّعة على العظة الّتي في قوله:( وَ لَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ ) إلخ، فهي معطوفة عليه على ما يفيده السياق لا على قوله:( وَ اذْكُرْ أَخا عادٍ ) .

و قوله:( وَ صَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) أي و صيّرنا الآيات المختلفة من معجزة أيّدنا بها الأنبياء و وحي أنزلناه عليهم و نعم رزقناهموها ليتذكّروا بها و نقم ابتليناهم بها ليتوبوا و ينصرفوا عن ظلمهم لعلّهم يرجعون من عبادة غير الله سبحانه إلى عبادته.

و الضمير في( لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) راجع إلى القرى و المراد بها أهل القرى.

قوله تعالى: ( فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً ) إلخ، ظاهر السياق أنّ آلهة مفعول ثان لاتّخذوا و مفعوله الأوّل هو الضمير الراجع إلى

٢٣١

الموصول و( قرباناً ) بمعنى ما يتقرّب به، و الكلام مسوق للتهكّم، و المعنى: فلو لا نصرهم الّذين اتّخذوهم آلهة حال كونهم متقرّباً بهم إلى الله كما كانوا يقولون:( ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى‏ ) .

و قوله:( بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ ) أي ضلّ الآلهة عن أهل القرى و انقطعت رابطة الاُلوهيّة و العبوديّة الّتي كانوا يزعمونها و يرجون بذلك أن ينصروهم عند الشدائد و المكاره فالضلال عنهم كناية عن بطلان مزعمتهم.

و قوله:( وَ ذلِكَ إِفْكُهُمْ وَ ما كانُوا يَفْتَرُونَ ) مبتدأ و خبر و الإشارة إلى ضلال آلهتهم، و المراد بالإفك أثر الإفك أو بتقدير مضاف، و( ما ) مصدريّة، و المعنى: و ذلك الضلال أثر إفكهم و افترائهم.

و يمكن أن يكون الكلام على صورته من غير تقدير مضاف أو تجوّز و الإشارة إلى إهلاكهم بعد تصريف الآيات و ضلال آلهتهم عند ذلك، و محصّل المعنى: أنّ هذا الّذي ذكرناه من عاقبة أمرهم هو حقيقة زعمهم أنّ الآلهة يشفعون لهم و يقرّبونهم من الله زعمهم الّذي أفكوه و افتروه، و الكلام مسوق للتهكّم.

٢٣٢

( سورة الأحقاف الآيات 29 - 35)

وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا  فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ ( 29 ) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ ( 30 ) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ( 31 ) وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءُ  أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( 32 ) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَىٰ  بَلَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 33 ) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ  قَالُوا بَلَىٰ وَرَبِّنَا  قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ( 34 ) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ  كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ  بَلَاغٌ  فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ( 35 )

( بيان‏)

هذه هي القصّة الثانية عقّبت بها قصّة عاد ليعتبر بها قومهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن اعتبروا، و فيه تقريع للقوم حيث كفروا بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بكتابه النازل على لغتهم و هم يعلمون أنّها

٢٣٣

آية معجزة و هم مع ذلك يماثلونه في النوعيّة البشريّة و قد آمن الجنّ بالقرآن إذ استمعوا إليه و رجعوا إلى قومهم منذرين.

قوله تعالى: ( وَ إِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ ) إلى آخر الآية الصرف ردّ الشي‏ء من حالة إلى حالة أو من مكان إلى مكان، و النفر - على ما ذكره الراغب - عدّة من الرجال يمكنهم النفر و هو اسم جمع يطلق على ما فوق الثلاثة من الرجال و النساء و الإنسان و على الجنّ كما في الآية و( يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ ) صفة نفر، و المعنى: و اذكر إذ وجّهنا إليك عدّة من الجنّ يستمعون القرآن.

و قوله:( فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا ) ضمير( حَضَرُوهُ ) للقرآن بما يلمح إليه من المعنى الحدثيّ و الإنصات السكوت للاستماع أي فلمّا حضروا قراءة القرآن و تلاوته قالوا أي بعضهم لبعض: اسكتوا حتّى نستمع حقّ الاستماع.

و قوله:( فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى‏ قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ) ضمير( قُضِيَ ) للقرآن باعتبار قراءته و تلاوته، و التولية الانصراف و( مُنْذِرِينَ ) حال من ضمير الجمع في( وَلَّوْا ) أي فلمّا اُتمّت القراءة و فرغ منها انصرفوا إلى قومهم حال كونهم منذرين مخوّفين لهم من عذاب الله.

قوله تعالى: ( قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى‏ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ ) إلخ، حكاية دعوتهم قومهم و إنذارهم لهم، و المراد بالكتاب النازل بعد موسى القرآن، و في الكلام إشعار بل دلالة على كونهم مؤمنين بموسىعليه‌السلام و كتابه، و المراد بتصديق القرآن لما بين يديه تصديقه التوراة أو جميع الكتب السماويّة السابقة.

و قوله:( يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَ إِلى‏ طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ) أي يهدي من اتّبعه إلى صراط الحقّ و إلى طريق مستقيم لا يضلّ سالكوه عن الحقّ في الاعتقاد و العمل.

قوله تعالى: ( يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَ آمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ ) المراد بداعي الله هو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال تعالى:( قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى‏ بَصِيرَةٍ ) يوسف: 108، و قيل: المراد به ما سمعوه من القرآن و هو بعيد.

٢٣٤

و الظاهر أنّ( مِنْ ) في( يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ) للتبعيض، و المراد مغفرة بعض الذنوب و هي الّتي اكتسبوها قبل الإيمان، قال تعالى:( إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ ) الأنفال: 38.

و قيل: المراد بهذا البعض حقوق الله سبحانه فإنّها مغفورة بالتوبة و الإيمان توبة و أمّا حقوق الناس فإنّها غير مغفورة بالتوبة، و ردّ بأنّ الإسلام يجبّ ما قبله.

قوله تعالى: ( وَ مَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَ لَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ ) إلخ، أي و من لم يؤمن بداعي الله فليس بمعجز لله في الأرض بردّ دعوته و ليس له من دون الله أولياء ينصرونه و يمدّونه في ذلك، و المحصّل: أنّ من لم يجب داعي الله في دعوته فإنّما ظلم نفسه و ليس له أن يعجز الله بذلك لا مستقلاً و لا بنصرة من ينصره من الأولياء فليس له أولياء من دون الله، و لذلك أتمّ الكلام بقوله:( أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) .

قوله تعالى: ( أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ لَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ ) إلخ، الآية و ما بعدها إلى آخر السورة متّصلة بما تقدّم من قوله تعالى:( وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ ) إلخ، و فيها تتميم القول فيما به الإنذار في هذه السورة و هو المعاد و الرجوع إلى الله تعالى كما أشرنا إليه في البيان المتقدّم.

و المراد بالرؤية العلم عن بصيرة، و العيّ العجز و التعب، و الأوّل أفصح على ما قيل، و الباء في( بِقادِرٍ ) زائدة لوقوعها موقعاً فيه شائبة حيّز النفي كأنّه قيل: أ ليس الله بقادر.

و المعنى: أ و لم يعلموا أنّ الله الّذي خلق السماوات و الأرض و لم يعجز عن خلقهنّ أو لم يتعب بخلقهنّ قادر على إحياء الموتى - و هو تعالى مبدئ وجود كلّ شي‏ء و حياته - بلى هو قادر لأنّه على كلّ شي‏ء قدير، و قد أوضحنا هذه الحجّة فيما تقدّم غير مرّة.

٢٣٥

قوله تعالى: ( وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَ لَيْسَ هذا بِالْحَقِّ ) إلى آخر الآية، تأييد للحجّة المذكورة في الآية السابقة بالإخبار عمّا سيجري على منكري المعاد يوم القيامة، و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ( فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَ لا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ ) إلى آخر الآية، تفريع على حقّيّة المعاد على ما دلّت عليه الحجّة العقليّة و أخبر به الله سبحانه و نفي الريب عنه.

و المعنى: فاصبر على جحود هؤلاء الكفّار و عدم إيمانهم بذاك اليوم كما صبر اُولوا العزم من الرسل و لا تستعجل لهم بالعذاب فإنّهم سيلاقون اليوم بما فيه من العذاب و ليس اليوم عنهم ببعيد و إن استبعدوه.

و قوله:( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ ) تبيين لقرب اليوم منهم و من حياتهم الدنيا بالإخبار عن حالهم حينما يشاهدون ذلك اليوم فإنّهم إذا رأوا ما يوعدون من اليوم و ما هيّئ لهم فيه من العذاب كان حالهم حال من لم يلبث في الأرض إلّا ساعة من نهار.

و قوله:( بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ ) أي هذا القرآن بما فيه من البيان تبليغ من الله من طريق النبوّة فهل يهلك بهذا الّذي بلّغه الله من الإهلاك إلّا القوم الفاسقون الخارجون عن زيّ العبوديّة.

و قد أمر الله سبحانه في هذه الآية نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يصبر كما صبر اُولوا العزم من الرسل و فيه تلويح إلى أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم فليصبر كصبرهم، و معنى العزم ههنا إمّا الصبر كما قال بعضهم لقوله تعالى:( وَ لَمَنْ صَبَرَ وَ غَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ) الشورى: 43، و إمّا العزم على الوفاء بالميثاق المأخوذ من الأنبياء كما يلوّح إليه قوله:( وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى‏ آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ) طه: 115، و إمّا العزم بمعنى العزيمة و هي الحكم و الشريعة.

و على المعنى الثالث و هو الحقّ الّذي تذكره روايات أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام

٢٣٦

هم خمسة: نوح و إبراهيم و موسى و عيسى و محمّد صلّى الله عليه وآله وعليهم و لقوله تعالى:( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى‏ وَ عِيسى‏ ) الشورى: 13، و قد مرّ تقريب معنى الآية.

و عن بعض المفسّرين أنّ جميع الرسل اُولوا العزم، و قد أخذ( مِنَ الرُّسُلِ ) بياناً لاُولي العزم في قوله:( أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ) و عن بعضهم أنّهم الرسل الثمانية عشر المذكورون في سورة الأنعام (الآية 83- 90) لأنّه تعالى قال بعد ذكرهم:( فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ ) .

و فيه أنّه تعالى قال بعد عدّهم:( وَ مِنْ آبائِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَ إِخْوانِهِمْ ) ثمّ قال:( فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ ) و لم يقل ذلك بعد عدّهم بلا فصل.

و عن بعضهم أنّهم تسعة: نوح و إبراهيم و الذبيح و يعقوب و يوسف و أيّوب و موسى و داود و عيسى، و عن بعضهم أنّهم سبعة: آدم و نوح و إبراهيم و موسى و داود و سليمان و عيسى، و عن بعضهم أنّهم ستّة و هم الّذين اُمروا بالقتال: نوح و هود و صالح و موسى و داود و سليمان، و ذكر بعضهم أنّ الستّة هم نوح و إبراهيم و إسحاق و يعقوب و يوسف و أيّوب، و عن بعضهم أنّهم خمسة و هم: نوح و هود و إبراهيم و شعيب و موسى، و عن بعضهم أنّهم أربعة: نوح و إبراهيم و موسى و عيسى، و ذكر بعضهم أنّ الأربعة هم نوح و إبراهيم و هود و محمّد صلّى الله عليه وآله وسلم وعليهم أجمعين.

و هذه الأقوال بين ما لم يستدلّ عليه بشي‏ء أصلاً و بين ما استدلّ عليه بما لا دلالة فيه، و لذا أغمضنا عن نقلها، و قد تقدّم في أبحاث النبوّة في الجزء الثاني من الكتاب بعض الكلام في اُولي العزم من الرسل فراجعه إن شئت.

٢٣٧

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ إِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ ) الآيات، كان سبب نزول هذه الآيات أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج من مكّة إلى سوق عكاظ، و معه زيد بن حارثة يدعو الناس إلى الإسلام فلم يجبه أحد و لم يجد أحداً يقبله ثمّ رجع إلى مكّة.

فلمّا بلغ موضعاً يقال له: وادي مجنّة(1) تهجّد بالقرآن في جوف الليل فمرّ به‏ نفر من الجنّ فلمّا سمعوا قراءة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استمعوا له فلمّا سمعوا قرآنه قال بعضهم لبعض:( أَنْصِتُوا ) يعني اسكتوا( فَلَمَّا قُضِيَ ) أي فرغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من القرآن( وَلَّوْا إِلى‏ قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قالُوا يا قَوْمَنا ) إلى آخر الآيات.

فجاؤا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أسلموا و آمنوا و علّمهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شرائع الإسلام فأنزل الله عزّوجلّ على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ ) السورة كلّها، فحكى الله قولهم و ولّى عليهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم، و كانوا يعودون إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كلّ وقت فأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أميرالمؤمنينعليه‌السلام أن يعلّمهم و يفقّههم فمنهم مؤمنون و كافرون و ناصبون و يهود و نصارى و مجوس، و هم ولد الجانّ.

أقول: و الروايات في قصّة هؤلاء النفر من الجنّ الّذين استمعوا إلى القرآن كثيرة مختلفة اختلافاً شديداً، و لا سبيل إلى تصحيح متونها بالكتاب أو بقرائن موثوق بها و لذا اكتفينا منها على ما تقدّم من خبر القمّيّ و سيأتي نبذ منها في تفسير سورة الجنّ إن شاء الله تعالى.

و فيه سئل العالمعليه‌السلام عن مؤمني الجنّ أ يدخلون الجنّة؟ فقال: لا، و لكن لله حظائر بين الجنّة و النار يكون فيها مؤمنوا الجنّ و فسّاق الشيعة.

____________________

(1) المجنّة: محلّ الجنّ.

٢٣٨

أقول: و روي مثله في بعض الروايات الموقوفة من طرق أهل السنّة، و رواية القمّيّ مرسلة كالمضمرة فإن قبلت فلتحمل على أدنى مراتب الجنّة و عمومات الكتاب تدلّ على عموم الثواب للمطيعين من الإنس و الجنّ.

و في الكافي، بإسناده عن ابن أبي يعفور قال: سمعت أباعبداللهعليه‌السلام يقول: سادة النبيّين و المرسلين خمسة: و هم اُولوا العزم من الرسل و عليهم دارت الرحى: نوح و إبراهيم و موسى و عيسى و محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم و على جميع الأنبياء.

و فيه، بإسناده عن عبدالرحمن بن كثير عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ أوّل وصيّ كان على وجه الأرض هبة الله بن آدم، و ما من نبيّ مضى إلّا و له وصيّ.

و كان جميع الأنبياء مائة ألف و عشرين ألف نبيّ: منهم خمسة اُولوا العزم: نوح و إبراهيم و موسى و عيسى و محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم وعليهم. الحديث.

أقول: كون اُولي العزم خمسة ممّا استفاضت عليه الروايات عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام فهو مرويّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و عن الباقر و الصادق و الرضاعليهم‌السلام بطرق كثيرة.

و عن روضة الواعظين للمفيد: قيل للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كم بين الدنيا و الآخرة؟ قال: غمضة عين قال الله عزّوجلّ:( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ ) الآية.

٢٣٩

( سورة محمّد مدنيّة و هي ثمان و ثلاثون آية)

( سورة محمّد الآيات 1 - 6)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ( 1 ) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ  كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ( 2 ) ذَٰلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ  كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ ( 3 ) فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا  ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ  وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ( 4 ) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ ( 5 ) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ( 6 )

( بيان‏)

تصف السورة الّذين كفروا بما يخصّهم من الأوصاف الخبيثة و الأعمال السيّئة و تصف الّذين آمنوا بصفاتهم الطيّبة و أعمالهم الحسنة ثمّ تذكر ما يعقّب صفات هؤلاء من النعمة و الكرامة و صفات اُولئك من النقمة و الهوان و على الجملة فيها المقايسة بين الفريقين في صفاتهم و أعمالهم في الدنيا و ما يترتّب عليها في الاُخرى، و فيها بعض ما يتعلّق بالقتال من الأحكام.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

جيشاً قويّاً لا يُقهر، وأنّه استولى على سرديس (سارد) وبابل، وقضى على حكم الساميّين في غربيّ آسيا، فلم تَقُم له بعدئذٍ قائمة مدى ألف عام كاملة، وضمّ إلى الدولة الفارسيّة كلّ البلاد التي كانت من قبلُ تحت سلطة آشور وبابل وليديا وآسيا الصُغرى، حتى أصبحت تلك الإمبراطوريّة أوسع المـُنظّمات السياسيّة في العالَم القديم ومن أَحسنها حُكماً في جميع عصور التأريخ.

ويبدو - على ما نستطيع أن نتصوّره فيما يُحيط به من سُدُم الأساطير - أنّه (كورش) كان أَحبّ الفاتحينَ إلى النُفوس، وأنّه أقام دولته على قواعد من النُبل وكريم السجايا، وأنّ أعداءه كانوا يَعرفون عنه لين الجانب فلم يُحاربوه بتلك القوّة المـُستيئِسة، التي يُحارب بها الرجال حين لا يجدون بُدّاً من أنْ يَقْتُلوا أو يُقْتَلوا...

... وكانت أُولى القواعد السياسيّة التي تقوم عليها دولته: أنْ يَترك للشعوب المختلفة - التي تتألّف دولته منها - حرّيّة العبادة والعقيدة الدينيّة؛ لأنّه كان عَليماً كلّ العِلم بالمبدأ الأَوّل الذي يبني عليه حكم الشعوب، وهو: أنّ الدين أقوى من الدولة، ومن أجل ذلك لا نراه ينهب المـُدن أو يُخرّب المعابد، بل نراه يُبدي كثيراً من الإكبار والمـُجاملة لآلهة الشُعوب المـَغلوبة، ويُسهِم بما له في المحافظة على أَضرحتها... (١)

ويَزيدك نَباهةً بشأن هذا الرجل العظيم، تلك وثائقه بشأن حُقوق الأُمَم:

وثيقة إعلان حقوق الأُمَم

التي أَصدرها كورش الأكبر مُؤسّس الإمبراطوريّة الفارسيّة مُنذ سنة ٢٥٠٠ أي قبل الميلاد بـ ٥٠ عام، وإليك نصّ المنشور الذي أَصدره كورش إثر فتح بابل سنة ٥٣٩ ق. م، وقد نُقش على أُسطوانة من الطين المطبوخ (الفخار) وُجدت سنة ١٦٧٩ م في منطقة (أُور) في مابين النهرين من سهل العراق، وقد كُتبت باللغة البابليّة، والأُسطوانة محفوظة في المتحف البريطاني بلندن:

____________________

(١) المصدر: ص ٤٠٣ - ٤٠٤.

٥٢١

أنا كورش

(أنا كورش مَلِك العالَم، المـَلِك الكبير، المـَلِك المـُقتدر، مَلِك بابل وسومر وأَكد، مَلِك الجوانب الأربعة للعالم، ابن قمبيز (كمبوجيه) المـَلِك الكبير، ملك أنشان (أنزان = خوزستان: عيلام) حفيد مَلِك أنشان الكبير، من أعقاب (جيش بيش) المـَلِك الكبير، مَلِك أنشان، دوحة السلطنة الأبديّة، مَوئل عناية (بعل ونبو) (١) ومَوضع رعايتهما، دخلتُ (تين تير = بابل) بلا حرب ولا مقاومة، فاستَبشَر الناس بي، وارتقيتُ على أَريكة البلاد بسلام، إذ ربط (مَرْدوك) الإله الكبير (٢) قلوب الناس بي، حيث احترمتُ جانبه طيلةَ حياتي... دَخَل جيشي العظيم بابل بكلّ سُهولة، ولم أَسمح لأيّ شخص أنْ يُثير الخوف والرُعب في أَرض (سومر وأكد).

وتأَمّلت الأوضاع وآلمتني مشاهد وَهنِها في بابل، فبذلتُ جهدي في إحياء المـَعابد والهياكل وإصلاح عِمارتها، كما سَعيتُ في الترفيه على أهل بابل ورفع شقاء العيش عنهم، فأصبحوا في ظلّي مُرفَّهينَ ومُتحرِّرينَ من نَير الذلّ الذي كان وَضَعه عليهم سلاطينهم من قبل (يَقصد: نبوكد نصّر وأحفاده). فعَمرتُ البلاد وأصلحتُ شؤون العباد، ومِن ثَمّ ابتهج (مردوك) كبير آلهة بابل بأعمالي وقد أَثنيتُ عليه بكلّ سرور، فغمرني بعنايته الشاملة... أنا كورش الذي أَثنيتُ عليه وكذا ابني قمبيز وكلّ أفراد عسكري، فَشَملنا جميعاً ببركاته.

فملوك العالم، المـُتكّئون على أرائكهم في القصور، كلّهم من البحر الأعلى حتّى البحر الأسفل، ومُلوك المـَغرب الذين يعيشون في الخيام، قَدّموا لي الخَراج والهدايا الكثيرة ولمسوا قَدَميّ وقبّلوهما بكلّ خضوع...

وجَمعتُ شمل الناس وأَحيَيتُ بلادهم وشيّدتُ معابدهم على ما راموا، وأَرجعتُ إليها كلّ ما نُهب منها من مُجوهرات وصور آلهة وأموال، والتي كان (نبونيد) (آخر ملوك بابل، حفيد نبوكد نصّر) قد استلبها ونهبها،

____________________

(١) بعل: اسم للبارئ المـُتعالي عند البابليّين. ونبو: اسم للمـُدبّر الذي يقوم بتدبير العالم عن أمره تعالى.

(٢) اسم لكبير الآلهة في معبد بابل، كان يُمثّل الإله ربّ العالمين.

٥٢٢

فأَعدتُها في أماكنها الآمِنة بكلّ صفاء وخلوص، وبذلك كنتُ قد أرضيتُ خاطر الإله الكبير (مردوك) والذي كان قد غَضَب من أعمال الجبابرة من قبلُ، وأرجو أنْ تبتهل الآلهة التي أرجعتُها إلى أماكنها، إلى الله وملائكته (بعل ونبو) كلّ صباح، ليَدوم عُمُري في عافية. وليقولوا: إنّ كورش ووَلَده قمبيز يُكرِمان من شأن الإله في إكبار وإعظام...) (١) .

وثيقة إعلام تحرير اليهود

التي أَصدرها كورش بشأن بِناء القدس الشريف وإعادة مجدِه وتحرير بني إسرائيل من الأَسر البابلي وتزويدهم بالعدّة والمال، والوثيقة مُسجّلة في سِفر عَزرا، الذي تَزَعَّم اليهود في عودتهم إلى أورشليم وإحياء ما دُرس من آثار الديانة اليهوديّة وصحائفها وكُتبها...

جاء فيه:

(نبّه الربّ روحَ كورش مَلِك فارس، فأَطلق نداءً في كلّ أرجاء مَملكته الواسعة، وكَتَب دستوره العامّ إلى كافّة الشعوب التي تحت حكمه). وهذا هو نصّ المنشور:

(أنا كورش مَلِك فارس، أَرفع ندائي بأنّ الربّ إله السماء، هو الذي مَنحني السلطة على جميع مَمالك الأرض، وأمرني أن أُعيد بِناء بيته في أُورشليم التي في يهوذا، وعليه فأُوجّه ندائي إلى جميع شعوب اليهود الذين يعيشون في ظلّ حكومتي، مَن كان منهم يُريد الهجرة إلى أُورشليم - موطنه الأصل - ويَعمر بيت الإله إله إسرائيل، فالله معه وتحت رعايته، وعلى أولئك الذين يُجاورون أبناء اليهود في أيّ البلاد، عليهم أن يُساعدوا هؤلاء بالزاد والمال وحَمولة الركوب، وهدايا يُقدّمونها إلى بيت الربّ في أُورشليم.

____________________

(١) راجع: الصفحة الأُولى من كتاب (تونس وإيران - قرون من التلاقح الحضاري) تأَليف عدّة أساتذة تونسيّينَ، الدار التونسيّة للنشر، عام ١٩٧١ م (ذو القَرنَينِ القائد الفاتح والحاكم الصالح، ص ٢٣٦ - ٢٣٧)، و (كورش الكبير) (ذو القَرنَينِ)، ص ٥٤ - ٥٥.

٥٢٣

ويقول الأستاذ أبو الكلام آزاد: إنّ أَهمّ شيء في وَصْف ذي القَرنَينِ - حسبما جاء في القرآن الكريم - هو: خُلوص نيّته وطهارة إيمانه بالله، وتمجيده لساحة قُدسه تعالى، وعقيدته بالحياة الأُخرى... فهل هذه الصفات تَتَصادق مع سِمات كورش؟

ولعلّ القرائن والشواهد الراهنة في حياة كورش، تؤيّد جانب الإثبات، وأنّ سِماته نفس السِمات والصفات المذكورة في وصف ذي القَرنَينِ...

وأَولى هذه الشواهد، هي عقيدة اليهود بشأنه، حتّى جَعلوه المـُنجي المنتظر من قِبَل الله، ورفعوه إلى منزلة المسيح، أي الصفوة من أوليائه المـُخلصينَ.

ولا شكّ أنّ اليهود يَصعب عليهم الإيمان برجل هو خارج مَذهبهم في الإيمان بالله تعالى فضلاً عن عابد وَثَن أو ساجد نار...

وأيضاً فمن المقطوع به أنّ كورش كان على دين (زردشت) وهو دين التوحيد والعقيدة بوحي السماء ويوم الجزاء والدعوة إلى الطهارة والقداسة في الحياة... وكان لابدّ أنّ كورش كان يستقي في أخلاقه الكريمة من هذا المـَعين الصافي والضافي بمكارم الأخلاق، والتي منها الدعوة إلى رؤوس الأخلاق الثلاثة:

١ - (هو مت (بندار نيك)): صدق النيّة.

٢ - (هو خت (كفتار نيك)): صدق القول.

٣ - (هو ورشت (كردار نيك)): صدق العمل.

هذا هو أَساس تعاليم زردشت الدينيّة، ومِن مِثل هذه الأخلاق يمكن أن يَتكوّن مَزاج كورش الملكي الفخيم!

قال: فإن كان ذو القَرنَينِ يَدين بدينٍ (مزديسنا) أي بالدِين الزردشتي، ويُثبت له القرآنُ الإيمانَ بالله واليوم الآخر، ليس هذا فحسب، بل يَجعله من المـُلهمين من عند الله، أَفَلا يلزم من هذا أنّ دين زردشت كان ديناً صحيحاً إلهيّاً؟ أجل، يلزم هذا، وليس هنالك ما يحملنا على رفض هذا اللزوم؛ لأنّه قد ثَبت الآن نهائيّاً أنّ دِين وزردشت كان دين

٥٢٤

التوحيد والأخلاق الفاضلة، وأنّ عبادة النار (١) والعقيدة الثنويّة (٢) ليسَتا منه، بل من بقايا مجوسيّة (٣) (مادا) التي اختلطت بالزردشتيّة في العصور التالية (٤) .

ثُمّ يأخذ مولانا أبو الكلام آزاد في الكلام عن ديانة زردشت وأنّها كانت دين توحيد خالص، وكانت دعوتها قائمة على أساس فضيلة الأخلاق والإيمان بيوم الحساب، وكان ازدهار هذه الديانة على عهد الهخامنشيّين كما يبدو من وثائق نَحتها ملوكهم العِظام على صخور الجبال.

تلك وثائق داريوش - الذي تَسنّم الحكم بعد كورش بثمان سنوات - تتجلّى على صفاح الجبال الشامخة قبل ألفين وخمسمِئة عام، جاء في إحداها:

(هو الله العظيم)، (آهورا مزدا)، (٥) خالق السماوات والأرض وخالق الإنسان ومنحه لَذّات الحياة، والذي أكرم داريوش بكرامة المـُلك والسلطنة على مَملكة واسعة الأرجاء، ومَنحه برجال أكفاء وأفراس جياد...).

وجاء في أخرى:

____________________

(١) لم تكن هناك عبادة نار بمعنى قداستها، بل جُعل حريم لها حفاظاً على الإبقاء لإشعالها لغرض استفادة العموم منها في حوائجها اليوميّة، حيث كان إيقاد النار على العامّة صعباً، فجعلوا مكاناً خاصاً لإشعالها ليل نهار في خِدمة الناس؛ ولئلاّ يتعرّض السَفَلة لإطفائها فرضوا لها حريماً وفرضوا حرمتها لذلك محضاً، بلا أن يكون ذلك قداسة أو عبادة.

فلم يكن المجوس يوماً ما يُقدّسون أو يعبدون النار، نعم كانوا يأخذون بجانب حرمتها لغرض الخدمات العامّة تسهيلاً على الناس في حوائجهم... وقد ظلّت هذه العادّة مستمرّة حتى الأيّام التي لم تَعد حاجة إلى ذلك؛ تقليداً لسُنّة السَلف محضاً.

يقول الفردوسي في ذلك:

مكوئي كه آتش برستان بُدَنْد

برستنده نيك يزدان بُدَنْد

(لا تقل إنّهم عَبَدة النار

إنّما هم عَبَدةٌ صالحون لله تعالى)

(٢) لا أساس للعقيدة الثنويّة في مبدء الوجود، وإنّما هو إله واحد (آهورا مزدا) هو خالق كلّ شيء، وبما أنّه خير محض، فكلّ مخلوقاته خير، نعم كانت الشرور بفعل (أهرِيمن) (الشيطان) الذي هو فاعل الشرور بتسويلاته، لا أنّه خالقها.

وقد صرّح زردشت بأن ليس هناك إلهاً هو خالق الشرور، بل هناك مَظهرٌ للشرور سَمّاه (انكره مي نيوش) وتحوّل إلى (آنرومين) وأخيرا إلى (أهرِمَن)، هو الشيطان الرجيم عند المسلمين، ذو القَرنَينِ، ص ٢٥٧ - ٢٦٠.

(٣) مجوس، لفظة عِبرية عربيّة، مُعرّب (موغوش) (موكوش - بالكاف الفارسيّة) أي (مغ) و (موبدان) يُطلق على سَدَنة المعابد وبيوت النار عند المجوس، وراج استعماله على كلّ مَن اعتنق المجوسيّة.

(٤) كورش الكبير (ذو القَرنَينِ)، ص ٢٤٦ - ٢٥٤.

(٥) يعني: الإله الحكيم. راجع: تأريخ جامع أديان، جان بي ناس، ترجمة علي أصغر حكمت، ص ٤٥٦.

٥٢٥

(يقول الملك داريوش: (آهورا مزدا) هو الذي مَنحني بفضله المـُلك وغمرني بتوفيقه لإشادة مَباني العدل وسيادة الصُلح والأَمن في كلّ البلاد وفي كلّ أصقاع الأرض... فيا آهورا مَزدا! أَعنّي وأَهلي وكلّ أهل الأرض الذين جَعلتَهم تحت سلطاني؛ لنكون في حمايتك وحراستك، ربّ كما دعوتك فاستجب لي دعائي...).

وفي ثالثة:

(أيّها الإنسان، أقول لك ما أمرني الإله (آهورا مزدا): كُن على الصراط المستقيم ولا تَحِد عنه شيئاً، ولا تظنّ بأحد ظنَّ سوء، ومِن الأجرام والآثام فاحترز وكُن على حذر...).

يقول الأستاذ آزاد: ولا تنسَ أنّ داريوش هو من بني أعمام كورش، وتَسنّمَ الحكم بعده بثماني سنوات، ومِن ثَمّ فما يقوله داريوش، هو في الحقيقة لسان حال سَلفه كورش، وكلّ ما ذَكره داريوش وتَضرّع إلى الله مُبتهلاً: أنّ توفيقاته على القيام بمهامّ الأمور إنّما هي بفضله ورحمته تعالى... أَفهل لا يكون ذلك مُتصادقاً مع ما ذَكره القرآن الكريم عن لسان ذي القَرنَينِ: ( هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي! ) (١) .

وقد مرّ عليك منشور كورش بشأن الأَسرى اليهود وإعادة بناء الهيكل في أُورشليم: (هكذا قال كورش مَلِك فارس: جميع مَمالك الأرض دفعها لي الربّ إله السماء، وهو أوصاني أن أبني له بيتاً في أورشليم التي في يهوذا...) (٢) .

هنا ملحوظة

إنّ كارثة الإسكندر المقدوني الفظيعة، والتي أُصيبت بها إمبراطوريّة فارس ذاك العهد، هي بعينها ككارثة بخت نصّر الفجيعة، والتي أُصيب بها القدس وجامعة اليهود في حينها... فقد أبادت وكسحت كلّ معالم الحضارة في المنطقة، ومزّقتها شرَّ مُمَزَّق، فلم تبقَ

____________________

(١) الكهف ١٨: ٩٨. راجع: كورش الكبير (ذو القَرنَينِ)، ص ٢٦٢ - ٢٦٣.

(٢) سِفر عَزرا - الإصحاح الأَوّل.

٥٢٦

لها أثراً يُذكر، ليس في المدنيّة فحسب بل وحتّى وثائق الديانة السائدة هناك ذهبت أدراج الرّياح.

يقول الأُستاذ آزاد: في الحقيقة يجب أن لا ننسى الغزو الإسكندري لم يكن ليُبيد دولة الفُرس وحدها، بل وشمل المـُقدّسات الدينيّة فمَزّقها... وفي رواية قديمة جاء: أنّ كتاب زردشت كان يحوي على اثني عشر ألف ورقة مَكتوباً عليها بالذهب (١) ، وهذا وإن كان مُبالغاً فيه، غير أنّ هذا الكتاب بجملته قد احترق حين هجم الإسكندر في ضمن سائر الكُتب والصحائف... على غِرار ما أُصيبت التوراة بحملة بخت نصّر!

ومِن ثمَّ عاملهم نبيّ الإسلام (صلّى اللّه عليه وآله) معاملة أهل الكتاب، وقال: (سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب) (٢) ، وعن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (إنّي أعلم ما عليه المـَجوس، عندهم شريعة يَعملون بها، وكتاب يُؤمنون به، فعامِلوهم مُعاملة أَهل الكتاب...) (٣) .

* * *

بقي هنا سؤال: كيف يُثني رجل التوحيد على آلهة عُبّاد الوثن - كما عرفت في منشور بابل - لو كان كورش ذلك العبد الصالح (ذا القَرنَينِ) الذي يصفه القرآن؟!

لكن يجب أن لا ننسى أنّ رجال الحِكمة يرون الإنسان - على مُختلف شُعوبه - إنّما يَرنو بفطرته الذاتيّة إلى خالقه المـُتعالي، هادفاً ذلك الجمال الأوفى، حتّى ولو اختلفت التعابير وتنوّعت الأساليب:

عباراتُنا شتّى وحُسنك واحد

فكلٌّ إلى ذاك الجمال يُشير

وحتّى الوثني إنّما يهدف الزُلفى إلى الله تعالى، وقد جَعل الوثن رمزاً يهديه إلى ذلك

____________________

(١) جاءت هذه الرواية في (دين كُرْت)، كورش الكبير، ص ٢٦٤، وفي مروج الذهب، ج ١، ص ٢٢٩، أنّ هذا الكتاب في اثني عشر ألف مجلّد بالذهب، فيه وَعد ووعيد وأمر ونهي وغير ذلك من الشرائع والعبادات فلم تَزل المـُلوك تعمل بما في هذا الكتاب إلى عهد الإسكندر فأَحرق بعض هذا الكتاب.

وهكذا ورد في كتاب النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) إلى مشركي قريش بشأن المجوس، راجع: الكافي، ج ٣، ص ٥٦٨، رقم ٤.

(٢) رواه البيهقي في السُنن الكبرى، ج ٩، ص ١٨٩ - ١٩٠.

(٣) روى البيهقي قريباً منه، ج ٩، ص ١٨٨ - ١٨٩، وراجع: كتاب الخراج لأبي يوسف، ص ١٢٩.

٥٢٧

المقصد الأعلى والمطلوب الأوفى، قالوا: ( مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ) ! (١)

ومِن ثَمّ نرى كورش عند ما يتكلّم مع بني جِلدَته وفي أوساط توحيدية خالصة، يَذكر الإله تعالى ويَصفه بأَسمى تمجيد: (آهورا مَزدا) يعني الخالق الحكيم، ربّ العالمين، ربّ السماوات والأرض ومدبّرهما (٢) .

وهو عند ما يَعلن بمشروعه الفخيم بشأن إطلاق سَراح بني إسرائيل والتعبئة، لإعادة بناء القدس الشريف وإحياء معالم دين اليهود المـُتمزّق، نراه يُعبّر عنه سبحانه بـ (يَهُوَه) على حدّ تعبير اليهود أنفسهم، يُريدون ذاته المقدّسة، خالق السماوات والأرض ومدبّرهما (٣) .

وهو كذلك عندما يَصف الإله المـُتعالي بلسان البابليينَ، لكنّه يَصفه وصفاً لا ينطبق إلاّ على اللّه سبحانه، وإن كان التعبير مُنساقاً حسب مصطلح المنطقة، فهو يُعبّر بـ (مردوك) - وِفق تعبير أهل بابل - ولكن يَصفه بعظمة ربّ الأرباب وإله العالمينَ، وهكذا عَبَّر عنه بـ (بَعْل) بمعنى الربّ الأعلى والسيّد المالك إله السماوات.

وقد كان البابليّون يَرون من (مردوك) مُمثّل الإله رب العالمين (٤) .

هذا، مضافاً إلى ما يراه المؤرّخون من أنّ هذا المنشور المـَلكي كان قد نُظّم بمعونة كِبار الكَهَنة وعلى وِفق آداب ومراسيمهم الدينيّة، والذي جاء تعقيباً على منشور سابق كَتبه الكَهَنة أنفسهم ترحيباً بجانب المـَلِك الفاتح النبيل (٥) .

فلا غَرْو أن نجد فيه تعابير تتّفق مع رسوم البابليّينَ محضاً... أمّا المعنى والمـُحتوى فمُحتمل التأويل.

* * *

والسؤال الأخير: حتّى ولو كانت الشواهد وَفيرة على أنّ كورش هو ذو القَرنَينِ

____________________

(١) الزمر ٣٩: ٣.

(٢) تأريخ جامع أديان، ص٤٥٦ - ٤٥٧.

(٣) إيران باستان، كتاب ٢، كورش، لحسن بيرنيا، ج٢، ص٤٠١.

(٤) راجع: دائرة المعارف الإسلاميّة، ج٣، مادة بعل، وإيران باستان، ج١، ص١١٤ و١١٩ وج٢، ص٣٨٦ - ٣٨٧.

(٥) راجع: إيران باستان، ج٢، ص٣٩١.

٥٢٨

المذكور في القرآن، وأنّه هو الذي بنى السدّ الحديدي العظيم... فمِثل هذا المشروع الجَلل، والذي كان - على الفرض - من أَكبر مفاخر الأُسرة الهخامنشيّة ولا سيّما كورش رأس السلسلة... فلما لم يذكره المؤرّخونَ، ولم يَلهج به أبناء الفُرس المـُتعصّبينَ على مفاخرهم في التأريخ، وهلاّ ذَكره كورش في مفاخره ضِمن سائر مفاخره والذي هو أعظمها وأجلّها... ولِمَ لمْ يعرفه العرب عنه ذلك وكانوا مُولعينَ بذِكر تأريخ الفرس وبطولاتهم، ولا ننسى أنّ قَصص الفرس كانت منتشرةً بين العرب، وكان لهم أنصار بينهم، وقد تأثّروا بأدبهم ورواياتهم وقَصصهم الشعبيّة...؟! (١) .

والإجابة على ذلك واضحة لمـَن سَبر تأريخ ذلك العهد وما اعتورته من خُطوب وأحداث كادت تكسح بكلّ آثاره وتذروها ذروَ الريح العقيم. إنّ ما حدث بعد عهد الهخامنشيينَ من هجمات الإسكندر المقدوني العَمياء، لم يدعِ شيئاً من معالم الحضارة قبلها إلاّ طَمسته وعملت في إمحائها عن صفحة الوجود، عملاً مستمّراً طول أَحقاب، بحيث أنست كلّ معالم التأريخ وآثار المدنيّة العظيمة والتي شيّدتها الحُكماء والنُبلاء من ذي قَبل.

وفي العهد الساساني قامت حركة لإحياء التراث القديم، ولكن من غير جدوى وبعد عهد طويل، وإنّما هي مقتطفات من أفواه الرجال وفيها الكثير من التحريف والتحوير، فهي بأن تكون صورة ممسوخة، أشبه منها أن تكون حقائق ناصعة.

تلك كانت مَغبّة أجرام قام بها الإسكندر وأخلافه (السلوكيّون) حوالي قرن، ومِن بعدهم (الأشكانيّون) طيلة خمسة قرون، حتّى جاء دور الساسانيّينَ؛ ليقوموا بإحياء التراث القديم من جديد.

الأمر الذي جعل صفحة التأريخ خِلواً من ذِكر تلكم الآثار الجليلة والتي كان من حقّها الخلود مع الأبد.

وحتى أنّ أبناء الفُرس لم يَكد يعرف منهم شيئاً من جلائل آثار كورش وأعقابه،

____________________

(١) ذو القَرنَينِ القائد الفاتح والحاكم الصالح، ص٢٤٣ - ٢٤٤.

٥٢٩

فضلاً عن غيرهم من عرب الجزيرة.

وأمّا أنّ كورش نفسه، لِمَ لمْ يَذكر ضِمن مفاخره بناء ذلك السدّ العظيم، فالأمر أيضاً واضح، بعد أن عَلِمنا أنّ بناء السّدّ كان من أُخريات أَعماله الضخمة، والذي كان حتفه فيه ولم يُمهله الأَجل لتسجيله، كما سَجّل غيره من أعمال...

والعُمدة في التدليل على عمليّة السدّ على يد كورش، ما ذكره الأُستاذ خضر بهذا الشأن، قال:

(وقد رأينا خلال السرد التأريخي أنّ القبائل المغوليّة كانت لا تَتَكاسل عن الانقضاض على مناطق آسيا الغربيّة خلال القرن السادس قبل الميلاد، وكلّ صفحات التأريخ تذكر لنا أنّ ثَمّة تَوقّف مفاجئ حدث في عمليّة تدفّق هذه القبائل البدائيّة المتوحّشة، وتُشير أصابع الدقّة التأريخيّة نحو الحُقبة التي ظهر فيها كورش الأخميني أو الهخامنشي (١) .

... هذا بعد أنْ لم نَعرف في التأريخ القديم ما يصلح تفسيراً تطبيقيّاً للآية سِوى ما عرفناه بشأن كورش العظيم، فلعلّه هو ذو القَرنَينِ الذي جاء ذِكره في القرآن - حيث الأكثر انطباقاً عليه - واللّه العالم بحقيقة الحال.

سدّ مأرب العظيم!

وحيث جرى الحديث عن سدّ ذي القَرنَينِ، كان المـُناسب التحدّث عن سدّ مأرب وقد اشتبه الأمر على بعضهم فحسبه هو المنسوب إلى ذي القَرنَينِ.

قال الحموي: هو بين ثلاثة جبال يَصبّ ماء السيل إلى موضع واحد، وليس لذلك الماء مَخرج إلاّ من جهة واحدة، فكان الأَوائل قد سدّوا ذلك الموضع بالحجارة الصُلبة والرصاص (الصاروج) فيجتمع فيه ماء عيون هناك، مع ما يفيض من مياه السيول، فيصير خلف السّدّ كالبحر، فكانوا إذا أرادوا سقي زروعهم فتحوا من ذلك السّدّ بقَدَر حاجتهم

____________________

(١) مفاهيم جغرافية، ص٣١٢.

٥٣٠

بأبواب مُحكَمة وحركات مُهندَسة، فيَسقون حسب حاجتهم ثُمّ يسدّونه إذا أرادوا... (١)

وذكر البيروني (٣٦٢ - ٤٤٠) - في الآثار الباقية -: أنّه قيل: هو شمر يرعش الحميري، وسُمّي بذلك لذؤابتينِ كانتا تَنُوسان على عاتقيه، وقد بَلغ مشارق الأرض ومغاربها وجابَ شمالها وجنوبها ودوّخ البلاد وأخضع العباد، وبه يفتخر أحد مَقاول اليمن وهو أبو كرب أسعد بن عمرو الحميري في شعره الذي يقول فيه:

قد كان ذو القَرنَينِ قبلي مُسلماً

مَلِكاً علا في الأرض غير مُعبَّدِ

بَلَغ المشارق والمغارب يبتغي

أسبابَ مُلكٍ من كريم سيِّدِ

فرأى مَغيب الشمس وقتَ غروبها

في عين ذي حماءٍ وثأطٍ حَرمدِ

مِن قبله بلقيسُ كانت عَمَّتي

حتى تَقضَّى مُلكها بالهُدهُدِ (٢)

ورجّح البيروني هذا القول ورآه أقرب الأقاويل، فإنّ الأذواء كانوا من اليَمن، كذي المنار وذي الأذعار وذي الشناتر وذي نؤاس وذي جدن وذي يزن، وأخباره مع هذا تُشبه ما حُكي عنه في القرآن... (٣)

وشمر يرعش هذا هو أَوّل مُلوك حمير من الطبقة الثانية، كانت مدّة مُلكه (٢٧٥ - ٣٠٠ م).

وأسعد أبو كرب هو سابع مُلوكهم من نفس الطبقة (٣٨٥ - ٤٢٠ م) (٤) .

ولعلّ الأمر اشتبه على البيروني؛ إذ الذي يفتخر به أسعد أبو كرب، هو ثاني مُلوك حِميَر من هذه الطبقة، واسمه (الصعب) الملقّب بذي القَرنَينِ عندهم وقد ملك سبأ وريدان وحضرموت (٣٠٠ - ٣٢٠ م). وبه افتخرت العرب الأوائل في أشعارها وخُطَبها، منها خُطبة قُسّ بن ساعِدة الأيادي (٥) المعروفة:

____________________

(١) معجم البلدان، ج٥، ص٣٥.

(٢) في لفظ الأبيات اختلاف مع ما سبق نَقله، والصحيح ما أثبتناه هناك.

(٣) الآثار الباقية عن القرن الخالية، تحقيق وتعليق برويز أذكائي، ص٤٧ - ٤٨، وراجع: البداية والنهاية، ج٢، ص١٠٥.

(٤) العرب قبل الإسلام لجرجي زيدان، ص١٤٣.

(٥) خطيب جاهلي مات حدود (٦٠٠ م) كان يُضرب به المـَثَل في البلاغة وحُسن البيان، يُقال: إنّه كان من نصارى نجران، وكان يَعِظ قومه في سوق عُكاظ.

٥٣١

(يا معشر أياد! أين الصعب ذو القَرنَينِ، مَلَك الخافِقَينِ، وأَذلّ الثَقَلينِ، وعُمِّر أَلفين، ثُمّ كان ذلك كلحظة عين...).

وأنشد ابن هشام للأعشى:

والصَعبُ ذو القَرنَينِ أَصبح ثاوياً

بالحِنوِ في جَدَث أُمَيم مُقيمِ

قوله بالحِنو، يريد: حِنو قراقر، الذي مات فيه ذو القَرنَينِ بالعراق (١) .

وسننبّه: أنّ تلك الأبيات وهذه الخطبة من مختلقات الأَواخر، وليس عليها صِبغة جاهليّة قديمة.

وأغرب منه ما ذَكَره المـُفجَّع في أخبار مُلوك اليمن، قال: لمـّا مات (ياسر يُنعم) (٢٥٠ - ٢٧٥ م) آخر مُلوك حِمير من الطبقة الأُولى، قام مِن بعده (شمر يرعش) (٢٧٥ - ٣٠٠ م) - أَوّل مُلوكهم من الطبقة الثانية - فجمعَ جنوده وسار في (٠٠٠/٥٠٠) خمسمِئة ألف رجل حتّى وَرَد العراق، فأعطاه (يشتاسف) (عامل ملوك الفرس على العراق) الطاعة... فسار لا يَصدّه شيء نحو بلاد الصّين، فلمـّا صار بالصغد تَحصَّن أَهلها بمدينة (سمرقند) فاستنزلهم من غير أمان وقتل منهم مَقتلة عظيمة وأمر بالمدينة فهُدِمت، فسُمّيت: شمركند، فعرّبتها العرب (سمرقند)، ولكنّه مات هو وجنوده في طريقهم إلى الصّين...

فبقيت سمرقند خراباً إلى أن مَلَك (تُبَّع الأقرن) (ثالث ملوك حمير بعد شمر يرعش - على رواية حمزة الأصفهاني) فتجهّز نحو الصّين، فوَرد العراق، فأعطاه (بهمن بن اسفنديار) الطاعة، حتّى وصل إلى سمرقند فوجدها خراباً فأمر بعِمارتها، وسار حتّى أتى بلاداً واسعة فبنى (التبّت)، ثمّ قصد الصين فقتل وسبى وأَحرق، وعاد إلى اليمن مُظفّراً... وعن الأصمعي: على باب سمرقند نُقوش وكتابات تُعيّن أبعاد البلاد عنها... (٢)

____________________

(١) الروض الأنف للسهيلي، ج٢، ص٥٩.

(٢) أورده ياقوت في معجم البلدان بشأن مدينة سمرقند، ج٣، ص٢٤٧ - ٢٤٨، وراجع: العرب قبل الإسلام، ص١٢٣ و١٤٣ - ١٤٤.

٥٣٢

وهكذا ذَكر ابن خلدون: أنّ شَمَرْ يرعش (٢٧٥ - ٣٠٠ م) - سُمّي بذلك؛ لارتعاشٍ كان به - ويُقال إنّه وطئ أَرض العراق وفارس وخراسان وافتتح مدائنها وخَرّب مدينة الصغد (١) وراء جيحون، فقالت العجم (شَمَركَنْد) أي شمرخرّب، وبنى مدينةً هناك باسمه وعرّبته العرب فصار (سَمَرقَند).

ويقال: إنّه الذي قاتل (قُباذ) (٢) مَلِك الفارس وأَسره! وأنّه الذي حَيّر (الحيرة) (٣) وكان مُلكه (١٦٠) سنة، وذَكر بعض الأخباريّينَ أنّه مَلَك بلاد الروم! وأنّه استعمل عليهم (ماهان قيصر)، ذكر ذلك ولم يُعلّق شيئاً...! (٤) .

لكنّه في المقدّمة يأتي عليها ويذروها ذرواً، ويجعلها أوهاماً خرافيّة هي أشبه بقَصص شعبية أساطيريّة، يقول: ومن الأخبار الواهية ما ينقلونه عن التبابعة مُلوك اليمن وجزيرة العرب، أنّهم كانوا يغزون من قُراهم بجيوش حافلة إلى أقاصي البلاد، ويدوّخون المعمورة كلّها بحملات متتالية، وأنّ ذا الإذعار من ملوكهم غزا المـَغرب ودوّخه، وكذلك ياسر ابنه بَلغ وادي الرمل في بلاد المغرب، وأنّ تُبَّع الآخر وهو أسعد أبو كرب، مَلِك الموصل وآذربيجان ولقى التُرك فهَزَمهم وأَثخن ثُمّ غزاهم ثانية وثالثة، وأغزى بعد ذلك ثلاثةً من بنيه: بلاد فارس، وإلى بلاد الصغد من بلاد أُمَم التُرك وراء النهر، وإلى البلاد الروم، فمَلَك الأوّل البلاد إلى سمرقند وقطع المغازة إلى الصين فوجد أخاه الثاني قد سبقه إليها، فأَثخنها في بلاد الصين ورَجعا جميعاً بالغنائم، وتركوا ببلاد الصين قبائل من حِمير، فهم

____________________

(١) صُغد: منطقة واسعة، قصبتها سمرقند، وهي قُرى متّصلة خلال الأشجار والبساتين من سمرقند إلى بخارى، من أزهى بلاد العالم وأجملها، قال الحموي: هي من أطيب أرض اللّه، كثيرة الأشجار، غزيرة الأنهار، متجاوبة الأطيار... معجم البلدان، ج٣، ص٤٠٩.

(٢) ولعلّه والد أنوشيروان الملك الساساني، كان مدّة (٤٨٧ - ٥٣١ م) وتُوفّي مُوفّقاً في أمره عن عمر جاوز الثمانين، كان قد عَمَر البلاد وأشاد كثيراً من المـُدن في حياته وفوّض المـُلك إلى ابنه أنوشيروان بسلام. تأريخ إيران، ص٢٠٥ - ٢٠٩.

(٣) مدينة كانت عامرةً قرب الكوفة بالعراق، كانت قاعدةَ مُلك الملوك اللخميّين (المناذرة). كان اللخميّون عُمّال الفرس على أطراف العراق، كما كان الغساسنة عُمّال الروم على مشارف الشام، وكان أَوّل من حَكم العراق آل تنوخ ومنهم جذيمة الأبرش وصار الحُكم بعده إلى =

٥٣٣

بها إلى هذا العهد، وبلغ الثالث إلى قسطنطينيّة فَدَرسها (هَدمها ومحى أَثرها نهائيّاً) ودوّخ بلاد الرّوم ورجع...

قال: وهذه الأخبار كلّها بعيدة عن الصحّة، عريقة في الوَهم والغَلط، وأشبه بأحاديث القَصَص المـُوضوعة... ثُمّ أخذ في التدليل على بطلانها بأساليب النقد النزيه... (١)

وهكذا يقول الدكتور السيد سالم - في حديثه عن تأريخ جاهليّة العرب -: (لا شكّ أنّ ما رواه العرب عن فتوحاته لا يعدو قَصصاً خرافيّة. والثابت أنّه (تُبَّع الأكبر - شمر يرعش) انتصر على مناطق من بلاد العرب الجنوبيّة وأنّه تغلّب على قبائل تهامة التي كانت تسكن على ساحل البحر الأحمر...) (٢) .

وهكذا يستبعد الدكتور (هبو) تلك الأخبار عن ملوك التبابعة، يقول: (فعصرُ التبابعة عند العرب من أزهى العصور وأَكثرها لخيالهم الخِصب، إذ يرون القَصص الخياليّة والأساطير عن قوّتهم وعظمتهم، فينسبون إليهم غزو أفريقيا والهند والصين وإخضاع فارس وبلاد ما وراء النهر ومصر والمغرب... ممّا دعا ابن خلدون إلى وصف هذه الروايات بالوهم والغلط...) (٣) .

* * *

تلك أساطير بائدة أو شئت فقل قَصص شعبيّة حاكتها أوهام خيال هي أشبه بطيف أحلام.

إنّ سبأ كانت في أَوّل أمرها إمارة أو مَشيخة صغيرة تَحكم ناحية من اليمن، ثُمّ أخذت تتّسع حتّى شملت اليمن كلّه وحضرموت وتهامة، هذا فحسب ولم تتعدّ حدود اليمن في يوم من الأيّام.

كانت عاصمة سبأ مدينة مأرب حتى نهاية القرن الثالث للميلاد، ثمّ حَلّت محلّها

____________________

= ابن أُخته عمرو بن عديّ وهو من آل نصر فرع من لخم؛ ولذلك فإنّ هذه الدولة تسمّى دولة آل نصر، أو آل لخم، أو آل عمرو بن عديّ، أو مُلوك الحيرة، أو المناذرة - باعتبار خمسة من ملوكهم سُمّوا بالمنذر. وآخرهم المنذر المغرور - وكان المناذرة قد تَنصّروا على مَذهب النساطرة. كانت مدّة مُلكهم ٣٦٠ سنة (٢٦٨ - ٦٢٨ م). وقصبة ملكهم جميعاً الحيرة، على ثلاثة أميال من مكان الكوفة على ضفة الفرات الغربيّة في حدود البادية، وتقع الآن في الجنوب الشرقي من النجف الأشرف، ولم تكن للحيرة وملوكهم أيّ صلة بملوك حِمير اليمنيّين، العرب قبل الإسلام. ص٢٢١ - ٢٢٣.

(٤) تأريخ ابن خلدون، ج٢، ص٥٢.

(١) مقدمة ابن خلدون، ص ١٢ - ١٤.

(٢) راجع: كتابه (تأريخ العرب في عصر الجاهليّة)، ص١٤٠ - ١٥٣، ط ١٩٧١م، وكتابه الآخر (تأريخ العرب قبل الإسلام)، ص٥٥، ودراساته في تأريخ العرب قبل الإسلام، ج١، ص١١٤ - ١٢٧، فهي نفس الأبحاث مكرّرة في الكُتب الثلاثة. (ذو القَرنَينِ لمـُحمّد خير رمضان، ص١٨١، الهامش).

(٣) تأريخ العرب قبل الإسلام الدكتور أحمد ارحيّم هبو، ص١٣٢ - ١٣٣. راجع: مُحمّد خير رمضان، ص١٨٢.

٥٣٤

مدينة ظفار. ولذلك أسباب سياسيّة واقتصاديّة ذَكرها المؤرّخون.

يقول جرجي زيدان: أَخبار اليمن - على ما ترويه العرب - أكثرها مُبالغ فيها، وبعضها أقرب إلى الخرافات منه إلى الحقائق... كغزو شمر يرعش المشرق فدوّخ خراسان وهَدم مدينة الصُّغد وبنى سمرقند... وأنّ أسعد أبو كرب غزا الصين والتُرك، وغير ذلك ممّا يُخالف العقل فضلاً عن نُصوص التأريخ العامّة... (١)

وقد نبّهنا أنّ الأبيات المنسوبة إلى تُبّع أو أسعد أبي كرب، تبدو مُختلقة وأنّها من صُنع بعض أبناء اليمن بعد ظهور الإسلام؛ إذ ملامح الاقتباس من القرآن عليها لائحة، والمنسوب إلى قسّ بن ساعدة، خُرافة مفتعلة لا يعتريها شكّ!

مَن الذي بنى سدّ مأرب؟

أمّا ومَن الذي بنى سدّ مأرب، الذي حطّمه سَيلُ العَرِم، على ما جاء ذِكره في القرآن الكريم؟

مأرب، وتُسمّى أيضاً (سبأ) هي أشهر مُدُن اليمن القديمة، ويَلوح أنّ لفظها آرامي الأصل، مركّب من (ماء) و(رأب) أي الماء الكثير أو السيل الكبير، ويُؤخذ ممّا عُثر عليه من أنقاضها أنّها كانت مستديرة الشكل، قطرها نحو كيلومتر، يُحدق بها سور منيع له بابانِ، أحدهما شرقيّ والآخر غربيّ، وبجانب الباب الغربيّ، كتابة تفسيرها: أنّه من بِناء يثعمر بيين بن سمهعلي ينوف مكرب سبأ، وفي وسطها آثار هيكل يُسمّيه أهل تلك الناحية الآن: هيكل سليمان.

وكان السيل في وادي (أذنة) يجري في شرقيّها، ليَسقي مابين يديها وما حولها، فتصير كأنّها في جنان وغياض، غير ما كان فيها من الأبنية الضخمة من الرخام.

قال الطمحان يذكر مأرب:

أما ترى مأرِباً ما كان أَحصَنَه

وما حواليه من سُور وبُنيانِ

____________________

(١) العرب قبل الإسلام لجرجي زيدان، ص١٢٢ - ١٢٦.

٥٣٥

وقال علقمة يصف بناياتها:

ومنّا الذي دانتْ له الأرضُ كلّها

بمأرب يُبنى بالرُخام دياراً

وبذلك جاء تصديق قوله تعالى: ( لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ... )

( وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ... ) (١) .

* * *

أمّا السّدّ، فقد كثُر في بلاد اليمن بناء الأسداد، وهي جدران ضخمة كانوا يُقيمونها في عرض الأودية لحجز السيول وخزن المياه ورفعها، لريّ الأرضينَ المرتفعة، كما يُفعل اليوم في بناء الخزّانات، وإنّما عَمَد السبأيون إلى بناء الأسداد؛ لقلّة الأنهار ومجاري المياه في بلادهم (بل في الجزيرة كلّها) مع رغبتهم في إحياء زراعتها، فلم يَدعوا وادياً يمكن استثمار جانبيه بالماء إلاّ حجزوا سيله بسدّ، فتكاثرت الأسداد بتكاثر الأودية التي تكثر فيها السيول، حتى تجاوزت المئات، وقد ذَكر الهمداني في (يحصب العلوّ) من مخاليف اليمن وحده ثمانين سدّاً، وكانوا يُسمّون كلّ سدّ باسم خاص به.

وإلى ذلك أشار شاعرهم:

وبالبقعةِ الخضراء من أرض يَحصب

ثمانون سدّاً تقذف الماء سائلاً

وأشهر أسداد اليمن (العَرِم) وهو سدّ مأرب الشهير، هو أعظم أسداد بلاد العرب وأشهرها، وقد كثُر ذِكره في أخبار العرب وأشعارهم على سبيل العِبرة؛ لما أصاب مأرب بانفجاره، وإليه أشار القرآن في سورة سبأ.

( فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ

____________________

(١) سبأ ٣٤: ١٥ و١٨.

٥٣٦

( وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ...

فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ) (١) .

أمّا موضع هذا السدّ، ففي الجنوب الغربي من مأرب سلسلة جبال هي شِعاب من جبل السراة الشهير، تمتدّ مئاتٍ من الأميال نحو الشرق الشمالي، وبين هذه الجبال أودية تصبّ في كبير يُعبّر عنه العرب بالميزاب الشرقيّ، وهو أعظم أودية الشرق، تمييزاً له عن ميزاب (مور) أعظم أودية الغرب المنشعبة من جبل السراة المذكور.

وشِعاب الميزاب الشرقيّ كثيرة تتّجه في مصابّها ومنحدراتها نحو الشرقيّ الشماليّ، وأشهر جبالها ومواضعها في ناحية (رداع العرش) و(ردمان) و(قَرَن) والجبال المشرفة على (سويق)، وفي ناحية (ذمار بلد عنس) جميعاً.

فشِعاب هذه المواضع وأوديتها، إذا أمطرت السماء تجّمعت فيها السيول، وانحدرت حتى تنتهي أخيراً إلى وادي (أذنة) وهو يعلو نحو (١١٠٠متر) عن سطح البحر، فتسير فيه المياه نحو الشرق الشمالي، حتى تنتهي إلى مكانٍ قبل مدينة مأرب بثلاث ساعات، هو مضيق بين جبلينِ، يُقال لكل منها: (بلق) (٢) ، يُعبّر عن أحدهما بالأيمن وعن الآخر بالأيسر، والمسافة بينهما (٦٠٠) ستمِئة خُطوة أو (ذراع) ويُسمّيها الهمداني: (مأذمي مأرب) يجري السيل الأكبر بينهما من الغرب الجنوبي إلى الشرقيّ الشماليّ في وادٍ هو وادي أذنة.

واليمن مثل سائر بلاد العرب، ليس فيها أَنهر، وإنّما يَستقي أهلها من السيول التي تجتمع من مياه المطر، فإذا أمطرت السماء فاضت السيول وزادت مياهها عن حاجة الناس، فيذهب معظمها ضياعاً في الرمال، فإذا انقضى فصل المطر ظمئ القوم وجفّت أَغراسهم، فكانوا إمّا في غريق أو حريق، وقلّما ينتفعون حتى أيّام السيول من استثمار البقاع المرتفعة (الهضبات) عن منحدرات الجبال، وكان قد يفيض السيل حتى يسطو على

____________________

(١) سبأ ٣٤: ١٦ و١٩.

(٢) يقال: بَلَق السيل الأحجار بَلْقاً وبلوقاً: جرفها، وقد كانت السيول جَرفت طرفَي سفح الجبلينِ، فسُمّيا: البَلَقين.

٥٣٧

المـُدن والقرى، فينالهم من أذاه أكثر ممّا ينالون من نفعه، فساقتهم الحاجة إلى استنباط الحيلة في اختزان المياه ورفعه إلى مستوى الهضبات وتوزيعه على قَدر الحاجة، فاختار السبأيّون المضيق بين جبلي (بلق) وبنوا في عَرضه سوراً عظيماً عُرف بسدّ مأرب أو سدّ العَرِم؛ لريّ ما يجاور مدينتهم (مأرب) من السهول والهضبات.

والجبلان المذكوران، بعد أن يتقاربا عند مضيق بلق، ينفرجان ويتّسع الوادي بينهما، وعلى ثلاث ساعات منهما نحو الشمال الشرقي من مدينة مأرب أو سبأ، في الجانب الغربي أو الأيسر من وادي أذنة، فإذا جرى السيل حاذى بابها الشرقي، وبين المضيق والمدينة متّسع من الأرض تبلغ مساحة ما يحيط به من سفوح الجبال نحو (٣٠٠) ميل مربّع، كانت جرداء قاحلة، فأصبحت بعد تدبير وإلجام المياه بالسدّ غياضاً وبساتين على سفحي الجبلينِ، وهي المعبّر عنها بالجنّتين بالشمال واليمين أو بالجنّة اليمنى والجنّة اليسرى، على ما جاءت الإشارة إليه في القرآن.

والسدّ المشار إليه عبارة عن حائط ضخم أقاموه في عَرض الوادي، على نحو (١٥٠) ذراعاً نحو الشمال الشرقي من المضيق، سمّوه (العَرِم)، وهو سدّ أصمّ طوله من الشرق إلى الغرب نحو (٨٠٠) ذراع، وعلوه بضعة عشر ذراعاً، وعرضه (١٥٠) ذراعاً، لا يزال ثُلُثه الغربي أو الأيمن باقياً إلى اليوم.

ويظهر ممّا شاهدوه في جزئه الباقي أنّه مبنيّ من التراب والحجارة ينتهي أعلاه بسطحينِ مائِلَينِ على زاوية منفرجة، تكسوهما طبقة من الحصى كالرصيف يمنع انجراف التراب عند تدفّق المياه.

فالعَرِم يقف في طريق السيل كالجبل المـُستعرض ويصدّه عن الجري، فتجتمع مياهه وترتفع ارتفاعاً عالياً يفي بريّ المرتفعات.

وقد جعلوا طرفي السدّ عند الجبلينِ أبنية من حجارة ضخمة متينة، فيها منافذ ينصرف منها الماء إلى إحدى الجنّتين اليمنى أو اليسرى.

فأنشأوا عند قاعدة الجبل الأيمن بناءينِ بشكل المخروط المقطوع، علوّ كلّ منهما

٥٣٨

بضعة عشر ذراعاً، سمّوهما الصَدفينِ، إحداهما قائم على الجبل نفسه، والآخر إلى يساره، وبينهما فُرجة عَرضها خمسة أذرع، وقاعدة الأيمن منهما تعلو قاعدة الأيسر بثلاثة أذرع، والأيسر مبنيّ من حجارة منحوتة، يمتدّ منه نحو الشمال والشرق جدار طوله ٤٠ ذراعاً ينتهي في العرم نفسه ويندغم فيه، وعلوّ الجدار المذكور مثل علوّ الصدف ومثل علوّ العَرِم.

وفي جانب كلّ من الصدَفينِ، عند وجهيهما المتقابلينِ، ميزاب يقابل ميزاباً في الصدف الآخر، والميزابان مُدرّجان، أي في قاع كلّ منهما دَرجات من حجارة كالسُّلَّم، الدرجة فوق الأخرى، ونظراً لشكل الصدَفينِ المخروطَينِ، ولِما يقتضيه شكل الميزاب السُلّمي، أصبحت المسافة بينهما عند القاعدة أقصر منها عند القمّة.

ويظهر من وضع المخروطَينِ أو الصدفَينِ على هذه الصورة، أنّ أصحاب ذلك السدّ كانوا يستخدمون المسافة بينهما مَصرفاً يسيل منه الماء إلى سفح جبل بلق الأيمن فيسقي الجنّة اليمنى، وأنّهم كانوا يقفلون المصرف بعوارض ضخمة من الخشب أو الحديد، تنزل في الميزابَينِ عرضاً، وكلّ عارضة في درجة، فتكون العارضة السفلى أقصرها جميعاً فوقها عارضة أطول منها فأطول إلى العليا وهي أطولها جميعاً.

والظاهر أنّ تلك العوارض كانت مصنوعة على شكل تتراكب فيه أو تتداخل، حتّى يتألّف منها باب متين يسدّ المصرف سدّاً محكماً يمنع الماء مع الانصراف إلاّ عند الحاجة.

فإذا بلغ الماء في علوّه إلى قمّة الصدفينِ رفعوا العارضة العليا، فيجري الماء على ذلك العلوّ إلى سفح الجبل في أقنية مُعدَّة لذلك، ونُقَرٌ أو أحواضٌ لخزن الماء أو توزيعه في سفح ذلك الجبل، فلا يزال الماء ينصرف حتى يهبط سطحه إلى مساواة العارضة الثانية فيقف، فمتى أرادوا ريّاً آخر نزعوا عارضة أُخرى، وهكذا بالتدريج وعلى قدر الحاجة.

وفي الطرف الأيسر من العَرِم - وهو الغربي الذي ينتهي بالجنّة اليسرى - كالحائط - دعوناه السدّ الأيسر - عَرضه عند قاعدته (١٥) ذراعاً، وطوله نحو (٢٠٠) ذراع، وبجانبه من اليمين مخروطانِ أو صَدفانِ أَيمنانِ، أحدهما مُتّصل بالعَرِم نفسه والآخر بينه

٥٣٩

وبين السدّ الأيسر، فيتكوّن من ذلك مَصرفان، مثل المصرف الأيمن، لكلّ منهما ميزابان مُدرّجان متقابلان، تنزل فيهما العوارض وتُنزع حسب الحاجة لصرف الماء إلى الجنّة اليسرى، وينتهي العَرِم من حدّه الغربي بحائط مِنجليّ الشكل مبنيّ بحجارة منحوتة صُلبة، لعلّه الذي وصفه الهمداني: العضاد.

فكان السيل إذا جرى في وادي أذنة حتى تجاوز المضيق بين جبلي بلق، صدّه العَرِم عن الجري فيتعالى ويتحوّل جانب منه نحو اليسار إلى السدّ الأيسر، فإذا أرادوا ريّ الجنّة اليُمنى رفعوا من العوارض بين الصدفينِ الأيمنينِ على قدر الحاجة، وإذا أرادوا ريّ الجنّة اليسرى صرفوا الماء من المصرفينِ بنفس الطريقة، فيجري الماء في أقنية وأحواض في سفح الجبل الأيسر حتّى يأتي مأرب؛ لأنّها واقعة إلى اليسار من السدّ.

* * *

وأمّا مَن هو الذي بنى السدّ (سدّ مأرب العظيم)... ومتى؟

فقد عثر المنقّبون في أنقاض سدّ مأرب على نُقوش كتابية بالحرف المسند (الخطّ الحميري) استدلّوا منها على بانيه، أهمّها نقشانِ، أحدهما على الصَدف الأيمن المـُلاصق للجنّة اليمنى، تفسيره: (أنّ يثعمر بيين بن سمه على ينوف مكرب سبأ، خرق جبل بلق وبنى مصرف رَحِب لتسهيل الرّيّ)، والآخر على الصَدف الآخر، تفسيره: (أنّ سمه على ينوف مكرب سبأ اخترق بلق وبنى مصرف رحب لتسهيل الرّيّ).

(سمه على) هذا هو والد (يثعمر) المذكور، وكلّ منهما بنى صدفاً أو حائطاً، وكلاهما من أهل القرن الثامن قبل الميلاد... فهما مُؤسِّساه، ولم يتمكّنا من إتمامه، فأَتمّه خلفاؤهما، وبنى كُلٌّ منهم جزءً ونُقش اسمه عليه، فعلى المخروط أو الصَدف في اليسار نَقش قرأوا منه: (كرب إيل بيين بن يثعمر مكرب سبأ بنى...)، وعلى جزء آخر من السدّ اسم (ذَمَر على ذَرَح مَلِك سبأ)، وفي محلّ آخر اسم (يَدَع إيل وتار)، وعلى السدّ الأيسر مما يلي الجنّة اليسرى عدّة نُقوش بمِثل هذا المعنى... ممّا يدلّ هذا السدّ لم يَستأثر

٥٤٠

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578