شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم3%

شبهات وردود حول القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 578

شبهات وردود حول القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 578 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 297362 / تحميل: 13674
الحجم الحجم الحجم
شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

ببنائه مَلِك واحد، تلك هي العادة في تشييد الأبنية الكبيرة في كلّ زمان... (١)

ويجدر بالذِكر أن نعلم أنّ اسم (شمر يرعش) قد حُكّ على صخر عُثر عليه في أنقاض مدينة مأرب، وليس في أنقاض السدّ، ويرجع تأريخه إلى سنة (٢٧٠) بعد الميلاد (٢) .

ومِن ثَمّ فنوجّه عتابنا اللاّذع إلى الأُستاذ أحمد موسى سالم، في ذهابه إلى الرأي القائل بأنّ ذا القَرنَينِ - المذكور في القرآن والمـُتّسم ببناء سدّ يأجوج ومأجوج - هو المـَلِك الحميري (شمر يرعش) (٣) ... بدافع عصبيّة عنصريّة... وليَحتكر كلّ شخصيّة عظمية لقوميّته العربيّة حتّى ولو خالف الواقع وعارضَه التأريخ.

فقد غضب الأُستاذ (سالم)؛ لأنّهم قالوا بأنّه (ذا القَرنَينِ) فارسي أو يوناني أو رومي، وليس عربيّاً، وأغمض عينه عن كلّ شيء سِوى الميل بكونه عربياً من اليمن.

إنّ هذا إلاّ تعصّب مَقيت يتنافى وعصرنا الحاضر، الذي تَبدَّى فيه كلّ شيء، ولم يَبقَ جانب إبهام على قضايا التأريخ القديم، كما كانت قبل اليوم.

كيف يرضى أُستاذ يعيش في عصر النور، أن يجعل نفسه في غِطاء التعامي عن كلّ مقوّمات التحقيق المعاصر، والتي دلّتنا على أنّ بناء السدّ - أَي سدّ كان: السدّ الحديدي في جبال قوقاز، أو سور الصين، أو سدّ مأرب - الذي يرجع تأريخه إلى قرون قبل الميلاد... ليجعله من بناء مَلِك عاش بعد الميلاد بقرون...! (٤)

فقد صحّ قولهم: (حبّ الشيء يُعمي ويُصمّ)، والعصمة للّه.

____________________

(١) راجع: العرب قبل الإسلام لجرجي زيدان، ص١٦٢ - ١٦٣ و١٦٩ - ١٧٦.

(٢) راجع: تأريخ العرب للدكتور السيد سالم، ص٥٤، (ذو القَرنَينِ لمحمّد خير رمضان، ص١٨١).

(٣) راجع: كتابه (قَصَص القرآن - في مواجهة أدب الرواية والمسرح -)، ص٢٢٠ - ٢٢١، ط ١٩٧٨م. (ذو القَرنَينِ لمـُحمّد خير رمضان، ص٢٣٣).

(٤) كان بناء سدّ مأرب حسب الكتابات المنقوشة في أنقاضه، ما يرجع تأريخه إلى (٦١٠ - ٦٤٠ ق.م)، ومعنى ذلك أنّه كان وقبل (شمر يرعش) بحوالي (٩١٥) سنة.

وقبل (تُبّع الأكبر) بحوالي (٩٦٠) سنة.

وقبل (المـَلِك الصعب - ذي القَرنَينِ عندهم) بحوالي ٩٤٠ سنة.

ومنه يتّضح عدم مشاركة أي واحد من الملوك الثلاثة في بناء سدّ مأرب، مفاهيم جغرافيّة، ص٢١٥.

٥٤١

سور الصين الكبير!

نجح (تشن شيه هوائج) ( Chin Chin Huaung ) سنة ٢٢١ ق.م لأَوّل مرّة في التأريخ في جمع شمال الولايات والإمارات الصينيّة، وبذلك تجمّعت لديه كلّ أسباب القوّة البشريّة والاقتصاديّة، فشرع في بناء سور الصين العظيم، وخُصّص لذلك آلاف المهندسينَ ومئات الأُلوف من العُمّال لنحت الأحجار (١) ، واستمرّ البناء (٢) حتّى تمّ سدّ الحدود الشماليّة بين الصين ومنغوليا، حيث كانت تعيش القبائل الهمجيّة الدائمة الإغارة على سُهول الصين.

ويمتدّ هذا السور من مياه البحر الأصفر (جزء من بحر الصين) حتّى سلاسل جبال (تاين تاغ)، وبلغ طوله (١٥٠٠) ميل، حوالي (٢٤٠٠ كم) (٣) في خطّ ممتدّ من الساحل المواجه لشبه جزيرة (لياو تونج) حتى (تشيايو كوان) آخر الحصون في وسطج آسيا عبر أقاليم (هوبي، وشانسي، وشينسي، وكانسو)، ومساره يَتلوّى ويَلتفّ تابعاً سلاسل الجبال - قِمَمها وحوافّها - ومُنحدراً خلال الوديان العميقة، مغطّياً أكثر من (٣٢٠٠ كم)، ويتراوح ارتفاع السور في الجزء الشرقي منه بين (٥ أمتار) و(١٠ أمتار)، وعرضه من (٨ أمتار) عند القاعدة إلى (٥ أمتار) عند القمّة، حيث يوجد رصيف واسع يسمح بمرور ستّة فرسان جنباً إلى جنب، تحميهم متاريس محصّنة، وعند بناء السور كان له (٢٥٠٠٠) برج (٤) تبلغ مساحة كلّ منها خمسة أمتار مربّعة، وارتفاعه (١٣ متراً)، وتبرز هذه الأبراج قائمة حتى اليوم.

____________________

(١) يقال: استخدم المـَلِك لإنجاز هذا المشروع كلّ إنسان كانت له صلاحية العمل، فمِن كلّ ثلاث نفرات من الصينيّنَ اضطرّ للعمل منهم واحد، ولم يقتصر على الأفراد العاديّينَ بل وحتّى الكُتّاب وأصحاب المِهن، قاموا بقلع الأحجار ونحتها وما إلى ذلك، فرهنك عميد قسم الأعلام، ص٥٥٢.

(٢) يقال : استغرق إنجاز المشروع حوالي (١٨) عاماً، المصدر: ص٥٥٣.

(٣) في الموسوعة الأثريّة العالميّة - إشراف (ليونارد كوتريل) تأليف (٤٨) عالِماً أثريّاً، ترجمة الدكتور مُحمّد عبد القادر مُحمّد، الدكتور زكي اسكندر، مراجعة الدكتور عبد المنعم، الهيئة المصرية العامّة للكتاب، ١٩٧٧م: (أصبح طوله النهائي ١٤٠٠ ميل، حوالي ٢٢٥٠ كم). راجع: ذو القَرنَينِ، مُحمّد خير رمضان، ص٣٤٩، الهامش.

(٤) كان يَفصل كلّ برجٍ عن آخر بـ (١٦٠٠) متر. وكان الجنود الذين يحرسون في تلك الأبراج يبلغ عددهم (٠٠٠/٩٠٠) جنديّاً. فرهنك عميد، قسم الأعلام، ص٥٥٣.

٥٤٢

ويشتمل على عدد من البوّابات الضخمة في مناطق متباعدة يقوم على حراستها جنود أشدّاء.

أمّا خارج السور فثَمّة العديد من أبراج المراقبة فوق قِمم التلال أو على المضايق، وهذه مع أبراج السور كانت تُستخدم للإنذار بالدخان أو الرايات نَهاراً، وبالنيران ليلاً، وهكذا يمكن الإبلاغ عن اقتراب الغزاة في الحال، فتُرسل التعزيزات لأيّ جزء على الحدود.

التركيب المِعماري للسور: يتكوّن قلب السور من التراب والحجر، تُغطّيه واجهةٌ من الطُوب (الآجرّ)، وكلّ ذلك قد أُقيم على أساس من الحجر (١) .

وفي المواضع التي تمرّ فوق التلال، حُفِر خندقان متوازيان أو نُحِتا في الصخر، بينهما (٨ أمتار)، وقد وُضِعت في الخنادق كُتَل ضخمة من الجرانيت (٢) ، يصل ارتفاعها إلى عدّة أمتار، وعلى كلّ من الجانبينِ بُنيت حوائط من الطُوب الأحمر يصل طولها إلى أقلّ من المتر قليلاً عمودية على واجهة السور، وقد ارتبط الطوب مع بعضه بملاط أبيض (لعلّه الصاروج) بلغ من الصلابة بحيث لا يُمكن لأيّ مسمار أن ينفذ فيه.

وكانت المسافة بين حائطَي الطوب تُملأ بالتراب الذي يُدكّ جيّداً، وليفرش بالرصيف من الأحجار، ممرّاً للجنود الفرسان.

وفي شمال (بكن) يتبع السور قِمَم جبال (٣) بالغة الانحدار، والتي لا يمكن حتّى للجِداء أن تتسلّقها، وبعيداً في العرب في (شينسي وكانسو) غالباً ما يتبع السور أسهل الدروب.

وقد بُني من الرواسب الطفليّة أو التربة الصفراء، تغطّيها طبقة رفيعة من الطوب أو الحجر.

____________________

(١) بناية السور تتألّف من جدارينِ بارتفاع ستّة أمتار، وبفاصل (٨ أمتار) على امتداد السور، وقد حُشي بينهما بالتراب؛ ليكون السطح الأعلى رصيفاً في خمسة أمتار، وعلى طرفَي الرصيف حائطانِ بارتفاع مترٍ ونصف؛ ليكون مجموع ارتفاع الجدار سبعة أمتار ونصف. المصدر: ص٥٥٢.

(٢) الجرانيت: حجر صُلب ذو ألوان مختلفة، يُتّخذ منه العُمُد والأساطين.

(٣) بارتفاع (١٦٠٠) متر.

٥٤٣

والسور القائم اليوم يرجع عهده كلّه تقريباً إلى أُسرة (مينج)، لكنّ الكثير من أَساساته يبلغ عُمرها أكثر من ألفي عام (١) ، والخطّ الطويل من الطوب الرمادي يعود إلى تأريخ الصين القديم، إذ يفصل بين طريقينِ للحياة ويحول بين الحياة البَدوية وبين الفلاّحين المـُسالمينَ.

وبذلك يُمثّل حائطاً شاهقاً من الحجارة والطوب والطين، من الشرق (حيث البحر) إلى الغرب (حيث جبال تاين تاغ)، وبذلك يُحكم حصر صحراء (جوبي) تماماً في الشمال، وعزلها عن سهول الصين الخِصبة الكثيرة الأمطار والأنهار والخيرات والعظيمة التحضّر بشعبها العريق، من فجر التأريخ، مُنذ (٤٠٠٠) أربعة آلاف سنة!

ولم يقتصر اهتمام الإمبراطور (تشن شيه هوانج) على حماية بلاده من قبائل المـَغول الهمج في صحراء منغوليا (جوبي) وتوفير الأمن للبلاد، بل تعدّاها إلى سنّ قوانين وتشريعات جديدة لتوحيد نُظم الحُكم والقضاء على الإقطاع.

وبذلك تبيّن أنّ هذا السور العظيم، ليس بذلك السدّ المنيع الذي بناه ذو القَرنَينِ، حسبما جاء في القرآن؛ إذ هذا مبنيّ من الحجر والطوب والصاروج، وذاك مبنيّ من زُبر الحديد المـُفرَغ عليها صهير النُحاس (٢) .

ويقول (وِل ديورانت) في وصفه عن هذا السور العظيم: (إنّ (شيى هونج - دي) لمـّا بلغ الخامسة والعشرين بدأ يفتح البلاد ويضمّ الدويلات التي كانت الصين منقسمة إليها من زمن بعيد، فاستولى على دولة (هان) في عام (٢٣٠) ق.م، وعلى (جو) في عام (٢٢٨) وعلى (ويه) في عام (٢٢٥)، وعلى (تشو) في عام (٢٢٣)، وعلى (ين) في عام (٢٢٢)، واستولى أخيراً على دولة (تشي) المهمّة في عام (٢٢١)، وبهذا خضعت الصين لحكم رجل واحد، لأَوّل مرّة، منذ قرون طوال، أو لعلّ ذلك كان لأَوّل مرّة في التأريخ كلّه. ولقَّب الفاتح نفسَه باسم (شي هونج - دي)، ثُمّ وجّه همّه إلى وضع دستور ثابت دائم

____________________

(١) بُني السور بعد سنة ٢٢١ ق.م، على يد (تشن شيه هوائج) الذي قام بإعادة الأمن إلى بلاده منذ تلك السنة.

(٢) راجع: مفاهيم جغرافية، ص١٢٨ - ١٣٠، وذو القَرنَينِ لمـُحمّد خير رمضان، ص٣٤٩ - ٣٥١.

٥٤٤

لإمبراطوريّته الجديدة.

وكان الرجل قويّ الشكيمة، عنيداً لا يحول عن رأيه، وكان عقد العَزم على أن يُوحّد بلاده بالدم والحديد.

ولمـّا أن وحّد بلاد الصين وجلس على عرشها، كان أَوّل عمل قام به أن حمى بلاده من الهمج البرابرة المجاورينَ لحدودها الشماليّة، وذلك بأن أتمّ الأسوار التي كانت مُقامة من قبل عند حدودها، ووَصَلها كلّها بعضاً ببعض، وقد وجدَ في أعدائه المقيمينَ في داخل البلاد مُورداً سهلاً يَستمدّ منه حاجته من العُمّال لتشييد هذا البناء العظيم الذي يُعدّ رمزاً لمجد الصين ودليلاً على عظيم صبرها، وهو أضخم بناء أقامه الإنسان في جميع عصور التأريخ.

ويقول عنه (ولتير): (إنّ أهرام مصر إذا قيست إليه لم تكن إلاّ كُتَلا حجريّة من عبث الصبيان لا نفع فيها) (١) .

إذن فيمن غريب الأمر ما ذهب إليه بعضهم من أنّ هذا السور هو السدّ الذي بناه ذو القَرنَينِ!

قال الأستاذ محمّد خير رمضان يوسف: ما كنت أظنّ أنّ الخطأ في التحقيق يصل بالبعض إلى هذا الحدّ... فقد خلط بين السدّ والسور، رغم أنّه يعرف الفارق الكبير بينهما، من حيث الطول أو الهيئة أو المكان!

فيذكر الأُستاذ الطبّاخ: أنّه لا ينافي أن يكون السدّ (سور الصين) من آثار ذي القَرنَينِ؛ لأنّ البنّائينَ إنّما هم صينيّون، وهو مقتضى قوله تعالى: ( فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ ) (٢) أي بقوّة فَعَلَةٍ أو بما أتقوّى به من الآلات... وهذا لا ينافي أيضاً أن يُنسب بناؤه إلى مَلِك الصين الذي كان في ذلك الزمن، حيث إنّه كان بطلب منه وعمل على مرأى منه، إلاّ أنّه لمـّا كان ضعيفاً لا يتمكّن من عمله بنفسه ورعيّته، وكان عدوّه قويّاً ليس في الوسع مقاومته وردّ غارته، استنجد بذي القَرنَينِ، لمـّا وصل إليه دَفْعُ ذي القَرنَينِ من الجنود مالا قِبَل لأحد بها، فاضطرّ المغوليّون إلى السكوت وعدم الممانعة، فتمكّن الصينيّون بمعونة ذي القَرنَينِ

____________________

(١) قصّة الحضارة، ج٤، ص٩٧ - ٩٨.

(٢) الكهف ١٨: ٩٥.

٥٤٥

من القيام بعمل هذا السدّ الهائل... (١) .

وأغرب منه ما كتبه الأُستاذ محمّد جميل بيهم مقالاً - في مجلّة الإخاء التي كانت تصدر في طهران في عدد (٣٢) من السنة الثالثة في ١/ج٢/ ١٣٨٢هـ - تشرين الأوّل سنة ١٩٦٢ م - ردّاً على مقال الأُستاذ أبو الكلام آزاد، الذي نُشر في نفس المجلّة - أَوّل آب سنة ١٩٦٢ م -!

قال صاحب المقال (مُحمّد جميل بيهم): كنتُ كتبتُ مقالاً نشرته مجلّة العرفان في أيار سنة ١٩٥٥م برهنت فيه على أنّ السور الصيني الكبير إنّما هو سدّ يأجوج ومأجوج الذي وردَ ذكره في القرآن الكريم، وحاك القصّاصون حوله الخرافات والخزعبلات... ولمـّا أُتيح لي الوصول إلى الصين، وزرت هذا السور، ازددت وثوقاً بما ذهبت إليه في ذلك المقال، خصوصاً وإنّي بأُمّ عيني الصدفينِ (!) أي رأسي الجبلينِ المتقابلين الذين ساوى بينهما ذو القرنين... ورأيت أيضاً زُبر الحديد في الأنقاض، (٢) حيث يقوم عُمّال الحكومة - اليوم - بترميم البناء...! (٣) .

يقول الأستاذ محمّد خير رمضان تعقيباً عليه: وأنا لا أزيد أن أقول: إنّ هذا من أعجب ما قرأت في مغالطة التحقيق... (٤) فيا للّه وللأوهام...!

لمحة عن الإسكندر المقدوني!

ولعلّك تتساءل: ما هو السبب في شيوع القول بأنّ ذا القرنين المذكور في القرآن، هو الإسكندر المقدوني (اليوناني)، وقد شاع وصف سدّ ذي القرنين بالسدّ الإسكندري؟!

قد تكرّرت آراء مَن يرى - من المفسّرين وبعض أهل التأريخ - أنّه الإسكندر في عدّة مراجع:

____________________

(١) راجع ما كتبه بهذا الشأن في كتابه (ذو القرنين) ص٥٥ (محمّد خير رمضان، ص٣٤٧).

(٢) ولعلّ زُبر الحديد التي شاهدها هناك كانت بقايا من معاول ومساحي العمّال الذين كانوا يشتغلون في الحفر عن الأنقاض، فحسبها من بقايا الردم؟!

(٣) انظر: كتاب (أغاليط المؤرّخين) للدكتور أبو اليسر عابدين، ص٣١٧، دمشق ١٣٩١هـ / ١٩٧٢ م.

(٤) ذو القرنين القائد الفاتح والحاكم الصالح، ص٣٤٩.

٥٤٦

وأَوّل من وجدناه ذَكر ذلك من أهل التأريخ، هو أحمد بن داود الدينوري (ت٢٨٢هـ) في كتابه (الأخبار الطوال)، ذكر فتوحاته في الهند والصين، وكرّ راجعاً إلى بلاد يأجوج ومأجوج، وبنائه السدّ، حيث قصّ اللّه خبرهم في القرآن (١) .

وبعده العلاّمة المؤرّخ الجغرافي أبو الحسن علي بن الحسين المسعودي (ت٣٤٥هـ) في كتابه (التنبيه والإشراف). قال فيه: وأخبار الإسكندر وسيره ومسيره في مشارق الأرض ومغاربها وما وطئ من الممالك ولقى من الملوك وبنى المدائن ورأى من العجائب، وأخبار الردم... (٢)

ومن المفسّرين الكِبار الإمام الفخر الرازي (ت٦٠٦هـ) في تفسيره الكبير، استناداً إلى أنّ إنساناً هذا شأنه، قد مَلك المشرق والمغرب وطاف البلاد، لابدّ أن يبقى ذِكره خالداً غير مطموس ولا مغمور، ولا أحد من ملوك العالم - فيما سجّله التأريخ - يعرف بهذا الوصف سِوى الإسكندر اليوناني...

ثُمّ يعترض على هذا الرأي بأنّ الإسكندر هذا كان تلميذ أرسطاطاليس الحكيم وكان على مذهبه، فتعظيم اللّه إيّاه يُوجب الحكم بأنّ مذهب أرسطاطاليس حقّ وصدق... وذلك ممّا لا سبيل إليه... قال: وهو إشكال قوي... (٣)

وتبعه على ذلك المتأثّرون بتفسيره، منهم: نظام الدين الحسن بن محمّد القمي النيسابوري (ت٧٢٨م) في تفسيره (غرائب القرآن)، قال فيه: وأصحّ الأقوال أنّ ذا القرنين هو الإسكندر بن فيلقوس - ولكنّه وصفه بالرومي، خطأً - واستدلّ بما استدلّ به الرازي، وأجاب عن الإشكال بأن ليس كلّ ما ذهب إليه الفلاسفة باطلاً، فلعلّه أخذ منهم ما صفا، وترك ما كدر... (٤)

وعلاّمة بغداد أبو الفضل شهاب الدين السيد محمود الآلوسي (ت١٢٧٠هـ) في

____________________

(١) الأخبار الطوال، ص٣٧.

(٢) التنبيه والإشراف، ص١٠٠ (ط دار الصاوي، القاهرة، ١٣٥٧هـ/١٩٣٨م).

(٣) التفسير الكبير، ج٢١، ص١٦٣ - ١٦٥.

(٤) تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان، بهامش جامع البيان، ج١٦، ص١٨.

٥٤٧

تفسيره (روح المعاني) يسرد الأقوال بشأن شخصية ذي القرنين، وينتهي أخيراً بأنّه الإسكندر المقدوني - الموصوف تارةً باليوناني وأُخرى بالرومي - يقول: وكأنّي بك بعد الاطّلاع على الأقوال، ومالها وما عليها، تختار أنّه إسكندر بن فليقوس الذي غلب (دارا) مَلِك فارس وأنّه كان مؤمناً لم يرتكب مُكفّراً من عقد أو قول أو فعل... أمّا تَلمذته على أرسطو فلا تمنع من ذلك، فقد تتلمذ الأشعري على المعتزلة، كما خالف أرسطو أُستاذة أفلاطون في كثير من المسائل... هذا وقد ذكر الفيلسوف صدر الدين الشيرازي أنّ أرسطو كان حكيماً عابداً موحّداً قائلاً بحدوث العالم ودثوره... (١) .

وسبقهم إلى ذلك أصحاب التفسير بالمأثور:

جاء في تفسير مقاتل بن سليمان البلخي (ت١٥٠): ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ ) (٢) يعني: الإسكندر قيصر! ويُسمّى الملك القابض على قاف، وهو جبل محيط بالعالم، وذو القرنين؛ لأنّه أتى قَرنَي الشمس: المشرق والمغرب... (٣) .

وفي تفسير أبي جعفر الطبري (ت٣١٠): (كان شابّاً من الروم، فجاء وبنى مدينة الإسكندريّة)! (٤) .

وفي تفسير الماوردي أبي الحسن علي بن محمّد البصري (ت٤٥٠): (قال معاذ بن جبل: كان روميّاً اسمه الإسكندروس. قال ابن هشام: هو الإسكندر، وهو الذي بنى الإسكندرية) (٥) .

وأخرج ابن عبد الحَكَم في فتوح مصر عن قتادة: الإسكندر هو ذو القرنين.

وعن وهب بن منبّه: كان ذو القرنين رجلاً من الروم، وكان اسمه الإسكندر، وإنّما سُمّي ذا القرنين؛ لأنّ صفحَتي رأسه كانتا من نُحاس!

وأخرج ابن عبد الحكم في فتوح مصر عن السدّي والحسن: كان أنف الإسكندر ثلاثة أذرع، وعن عبيد بن يعلى: كان له قَرنان صغيران تورايهما العمامة! (٦)

____________________

(١) روح المعاني: ج١٦، ص٢٨.

(٢) الكهف ١٨: ٨٣.

(٣) تفسير مقاتل بن سليمان، ج٢، ص٥٩٩.

(٤) جامع البيان، ج١٦، ص٧.

(٥) تفسير الماوردي (النكت والعيون)، ج٣، ص٣٣٧.

(٦) الدرّ المنثور، ج٥، ص٤٣٨ - ٤٣٩.

٥٤٨

وللحافظ إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي (ت٧٧٤) هنا محاولة غريبة: (١) عمد إلى الجمع بين الروايات المختلفة بشأن الإسكندر، وأنّه شخصان، هو في أحدهما روميّ، وفي الآخر يونانيّ مقدونيّ.

أخرج بإسناده إلى إسحاق بن بشر عن سعيد بن بشير عن قتادة، قال: إسكندر هو ذو القرنين، وأبوه أَوّل القياصرة، وكان من وُلد سام بن نوح.

فأمّا ذو القرنين الثاني فهو اسكندر بن فيلبس من ذريّة إسحاق، قال: كذا نَسبه ابن عساكر في تأريخه، المقدوني اليوناني المصري باني الإسكندريّة، وكان متأخّراً عن الأَوّل بدهر طويل، كان هذا قبل المسيح بنحوٍ من ثلاثمِئة سنة، وكان أرسطاطاليس الفيلسوف وزيره، وهو الذي قتل دارا وأَذلّ ملوك الفرس وأوطأ أرضهم.

قال: وإنّما نبّهنا عليه؛ لأنّ كثيراً من الناس يعتقد أنّهما واحد، وأنّ المذكور في القرآن هو الذي كان أرسطاطاليس وزيره، فيقع بسبب ذلك في خِطاءٍ كبير وفساد عريض طويل كثير!!

فإنّ الأَوّل كان عبداً مؤمناً صالحاً ومَلِكاً عادلاً وكان وزيره الخضر، وقد كان نبيّاً على ما قرّرناه قبلُ... وزاد في التفسير: أنّه طاف بالبيت مع إبراهيم الخليل وأَوّل ما بناه وآمن به وأتبعه.

وأمّا الثاني فكان مشركاً وكان وزيره فيلسوفاً، وقد كان بين زمانيهما أزيد من ألفي سنة، فأين هذا من هذا، لا يستويان ولا يشتبهان إلاّ على غبيٍّ لا يعرف حقائق الأُمور!! (٢) .

ولعلكّ أيّها القارئ النبيه، في غنىً عن التدليل على مواضع الضعف من هذه الأوهام والتي هي أشبه بالخيال من الحقيقة! فإنّ التناقض والتهافت فيما تلوناه عليك بادٍ بعيان من غير حاجة إلى البيان.

وللدكتور عبد العليم عبد الرحمان خضر تفصيل وتبيين عن مواضع الإسكندر

____________________

(١) على غِرار ما سبق عن زميله ابن قيّم ابن الجوزيّة (ت٧٥١هـ)، هما رضيعا ثدي واحد (تلميذا ابن تيميّة) وكان هائماً في تخيّلاته، وهكذا أثّر على أعقابه وأتباعه!

(٢) البداية والنهاية، ج٢، ص١٠٥ - ١٠٦؛ وراجع تفسيره أيضاً، ج٣، ص١٠٠.

٥٤٩

المقدوني، والتي لا تدع مجالاً لاحتمال كونه ذ القرنين المذكور في القرآن، ولا احتمال أن يكون هناك إسكندران: روميّ ويونانيّ - كما حسبه البعض - لأنّ القضية تعود إلى وثائق التأريخ وليس هناك عبث في الكلام... (١)

ومن المعاصرين، ذهب الأُستاذ محمّد جمال الدين القاسمي (ت١٣٢٢هـ) إلى أنّ ذا لقرنين الذي جاء ذِكره في القرآن، هو الإسكندر الكبير المقدوني (٢) .

يقول: اتّفق المحقّقون على أنّ اسمه (ذا القرنين) الإسكندر الأكبر ابن فيلبس باني الإسكندريّة بتسعمئة وأربعة وخمسين سنة (٩٥٤) قبل الهجرة، وثلاثمئة واثنين وثلاثين (٣٣٢) سنة قبل ميلاد المسيح (عليه السلام).

وردّ على ابن القيّم ابن الجوزيّة في زَعمه: أنّه سبق هذا الإسكندر بقرون كثيرة...

قال ابن قيّم - في كتابه (إغاثة اللهفان) في الكلام على الفلاسفة -: ومن ملوكهم الإسكندر المقدونيّ وهو ابن فيلبس، وليس بالإسكندر ذي القرنين الذي قصّ اللّه تعالى نَبأه في القرآن، بل بينهما قرون كثيرة، وبينهما في الدين أعظم تباين، فذو القرنين - في القرآن - كان رجلاً صالحاً موحّداً للّه تعالى، يُؤمن باللّه تعالى وملائكته وكُتبه ورسله واليوم الآخر، وكان يغزو عُبّاد الأصنام، وبلغ مشارق الأرض ومغاربها، وبنى السدّ بين الناس وبين يأجوج ومأجوج.

وأمّا هذا المقدونيّ فكان مشركاً يعبد الأصنام هو وأهل مَملكته، وكان بينه وبين المسيح نحو ألف وستمِئة سنة (!!) (٣) والنصارى تؤرّخ له. وكان أرسطاطاليس وزيره وكان مشركاً يعبد الأصنام...

وهنا يأتي القاسمي ليردّ عليه قائلاً: إنّ المرجع هم أئمّة التأريخ، وقد أطبقوا على أنّه (أي ذي القرنين) هو الإسكندر الأكبر ابن فيلبس باني الإسكندرية، وقد أصبح ذلك من الأوّليّات عند علماء الجغرافيا.

... وأمّا ما جاء في وصفه في القرآن، فلعلّه لخصال حسان لا تمسّ جانب عبادته

____________________

(١) راجع ما كتبه بهذا الشأن، في كتابه القيّم (مفاهيم جغرافيّة في القَصص القرآني)، ص٥٠ - ١٣٠. فإنّه جيّد دقيق!

(٢) تفسير القاسمي، ج٥، ص٥٤.

(٣) لقد اشتبه الأمر عليه كثيرة؛ إذ الإسكندر المقدوني كان قبل المسيح بثلاثمئة وثلاثين سنة، نعم ذكروا أنّ الفصل الزماني بين ذي القرنين الذي جاء ذكره في القرآن والذي كان على عهد إبراهيم الخليل - حسبما زعموا - هو نحو هذا العدد (١٦٠٠ سنة)!

٥٥٠

للأوثان... بل لعلّه من المحتمل أنّه خالف شعبه وتبع أُستاذه في التوحيد، كما قيل (١) .

وهكذا ذكر الأُستاذ محمّد فريد وجدي: لا ينافي أن يكون المقصود بذي القرنين هو الإسكندر المقدوني، على ما كان فيه من الشذوذ في بعض الأُمور (٢) .

هذا وإنّا لنستغرب صدور مثل هذا الكلام من مثل القاسمي والوجدي وقد عاشا القرن العشرين ودرسا أساليب النقد التأريخي الصحيح، وعرفا من الإسكندر المقدوني ذلك الطاغية الذي عاش حياته القصيرة في الترف والزهو وقد أَبطرته النعمة وأطغته العظمة، فعلا في الأرض واستكبر وأفسد فيها وأَهلك الحرث والنسل وحاول إبادة الحضارات والثقافات وأُصول الديانات وأحرق المكتبات، وانهمك على اللذّات واللهو العارم، فأنشأ لنفسه سرايا على نسق ملوك الشرق المبطرين، وأحاط نفسه بالنُدمان وأهل الخلاعة، وتغلغل في متاهات الغلوّ، حتّى ادّعى أنّه هو وحده يرجع إليه الفضل في تلك الفتوحات، ثُمّ تنمّر حتّى ادّعى أنّه ابن الإله (جوبة) ودعا إلى عبادته (٣) .

تسع آيات إلى فرعون وقومه! (٤)

وهناك من أصحاب الفكر الإسلامي الحديث - حسب مصطلحهم - من يستنكر على القائل بأنّ تلك الآيات حوادث واقعة، ويراها قَصصاً شعبيّة تسلّمها الخصوم فاستغلّها القرآن جدلاً بالتي هي أحسن!

يقول الأُستاذ خليل عبد الكريم، ردّاً على الأُستاذ محمّد أحمد خلف اللّه، مذهبه في إضفاء الصفة التأريخيّة على هذه الأحداث -: أمّا الأوعر من ذلك فإنّه (الأُستاذ خلف اللّه) يعتبر حكاية موسى وفرعون، وخروج بني إسرائيل من مصر، وضرب ملأ فرعون بالجراد والقُمّل والصفادع والدّم، وتحدّي موسى للسَحَرة، وانقلاب العِصي إلى حيّة أو

____________________

(١) تفسير القاسمي، ج٥، ص٥٨.

(٢) دائرة معارف القرن العشرين، ج١، ص٣٢٥.

(٣) راجع: البحر الزاخر، في تأريخ العالم وأخبار الأوائل والأواخر لمحمود فهمي المهندس، ج٢، ص١٣٦ - ١٣٧ و ١٥٠ - ١٥١. (محمّد خير رمضان، ص١٤٦ - ١٤٧).

(٤) النمل ٢٧: ١٢. الإسراء ١٧: ١٠١: ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْألْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً ) راجع: قصص الأنبياء للأُستاذ النجّار، ص١٩٧ - ١٩٨.

٥٥١

ثعبان أو جانّ... نقول: إنّه يعتبر كلّ هذه الحكايا تأريخاً، مع أنّه لا يوجد في العالم بلدٌ حرص على تدوين تأريخه كتابةً كمصر، وليس في التأريخ المصري شيء من هذا، ومع ذلك فقد عدّها المؤلّف قصصاً تأريخيّاً... (١)

لمـّا أخذت فرعون العزّة بالإثم وعتا عن أمر اللّه تعالى وتمادى في تكذيب موسى وهارون، واستمرّ في إعنات بني إسرائيل وإيقاع ضروب الإذلال والإهانة بهم، أمر اللّه تعالى موسى أن يُعلن فرعون وقومه بوقوع العذاب بهم، فكانوا كلّما وقع بهم عذاب بعد إنباء موسى إيّاهم به وَعَدوه بالإيمان تارة وبإرسال بني إسرائيل أُخرى إن كشف اللّه عنهم العذاب، وكلّما كشف اللّه عنهم عادوا إلى طغيانهم وغدروا بعهدهم وخانوا بوعدهم، وهكذا إلى أن وقعت الآية الكبرى والبطشة العُظمى، وهي إغراق فرعون في اليمّ ونجاة بني إسرائيل.

والآيات - حسبما ذكره المفسرون - هي:

١ - الجدب (أخذناهم بالسنين) بأن قلّ عنهم ماء النيل وقصر عن إرواء أراضيهم.

٢ - النقص من الثمرات بسبب ما أتى عليها من الجوائح والعاهات.

٣ - الطوفان، قيل بطغيان النيل حتّى دخل بيوتهم ومساكنهم فخرّبها، وفاض على مزارعهم فأفسدها في وقت كان الزرع فيها نامياً.

٤ - الجراد، بأن هجمتهم جحافل الجراد فأكل الزرع واجتاح الثمار.

٥ - القُمّل، قيل: هو السوس الذي يُفسد الحبوب. وقيل: القراد، دويبة تتعلّق بالبعير ونحوه وهي كالقُمّل للإنسان تلسعه وتأخذ راحته. وأبدلتها التوراة بالبعوض، كما يأتي.

٦ - الضفادع، كَثُرت عليهم حتّى نغّصت عليهم عِيشتهم بسقوطها على فرشهم وأوانيهم وطعامهم.

٧ - الدم، قال زيد بن أسلم: سلّط اللّه عليهم الرعاف بحيث أزعج عليهم الحياة.

٨ - الطمس على أموالهم، فتوالت عليهم الخسران في مكاسبهم.

٩ - اليد البيضاء، إذ كان يضع يده في جيبه ثُمّ يخرجها بيضاء من غير سوء.

____________________

(١) الفنّ القصصي في القرآن الكريم، مع شرح وتعليق خليل عبد الكريم، ص٤١٥ - ٤١٦.

٥٥٢

والأُستاذ عبد الوهاب النجّار - بعد أن ذَكر كلام المفسّرين - رجّح أن تكون الآيات التسع كما يلي:

١ - السنون، ٢ - نقص الأموال، ٣ - نقص الأنفس، ٤ - نقص الثمرات، ٥ - الطوفان، ٦ - الجراد، ٧ - القُمّل، ٨ - الضفادع، ٩ - الدّم (١) .

* * *

وقد ذَكرت التوراة الآيات التي جاء بها موسى إلى فرعون وملأه، وجعلتها اثنتي عشرة آية:

١ - انقلاب العصي حيّة. (الإصحاح ٧ من سفر الخروج عدد ١٢)

٢ - انقلاب نهر النيل دماً سبعة أيّام وموت السمك فيه ونتن مائه. (أص ٧: ١٧ - ٢٤)

٣ - صعود الضفادع من النهر إلى أرض مصر ومضايقتها للمصريّين حتى غطّت أرض مصر كلّها. (أص ٨: ١ - ١٠)

٤ - كثرة البعوض بأرض مصر على الناس والبهائم. (أص ٨: ١٦ - ١٩)

٥ - كثرة الذباب في أرض مصر وبيوت المصريّين كثرة فاحشة حتى تنغّصت عيشتهم. (أص ٨: ٢٠ - ٢٤)

٦ - تفشّي الوباء في مواشي المصريّين. (أص ٩: ١ - ٧)

٧ - فشوّ الدماميل في الناس والبهائم.

٨ - نزول البرد العظيم فأهلك الحرث والنسل. (أص ٩: ١٣ - ٣٥)

٩ - كثرة الجراد فأفسدت الزرع والثمار. (أص ١٠: ١ - ١٥)

١٠ - إظلام السماء ثلاثة أيّام. (أص ١٠: ٢١ - ٢٣)

١١ - موت كلّ بِكر من الناس والبهائم. (أص ١١: ١ - ٩)

١٢ - اليد البيضاء. (أص ٤: ٦ - ٩)

____________________

(١) قصص الأنبياء، ص١٩٨.

٥٥٣

* * *

رأى فرعون الآيات ولكنّه تمادى في كفره وأصرّ على عناده، وعاد في اضطهاد بني إسرائيل، معتزّاً بما له عليهم من القهر والغلبة والسلطان، فطبيعيّ أن يضجّ بنو إسرائيل بالشكوى إلى موسى ممّا حاق بهم من الحيف والجور، فوصّاهم موسى بالصبر والاستعانة باللّه، ووعدهم بالنصر وحسن العاقبة، فلم يكفكف ذلك دموعهم وقالوا له: ( أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ) ! فمنّاهم هلاك عدوّهم وإخراجهم من الضيق إلى السعة وأن يكونوا خلفاء في الأرض التي وعدوا بها (١) .

وأراد فرعون أن يبطش بموسى متحدّياً إلهه؛ حتّى لا يكون منه تبديل لدين القوم، ولكنّ موسى عاذ باللّه من شرّ هذا المتكبّر العاتي، فكان عياذاً (٢) ، فأُصيب فرعون وقومه بالدمار والهلاك ( فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنْ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ ) (٣) .

انطلق موسى بقومه من أرض مصر، ذاهباً إلى أرض فلسطين، كما قال تعالى: ( وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَساً لاَ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تَخْشَى ‏ ) (٤) .

فهل كان هذا الانطلاق بناءً على أمر صدر له من فرعون، بعد أن أمضّه اللّه وقومه بسوء العذاب، في الآيات التسع؟

تقول التوراة: إنّ ذلك كان بناءً على سماح فرعون لهم بالانطلاق؛ ليخلص من ضروب العذاب التي حاقت بقومه.

جاء في الإصحاح ١٢: ٢٩ - ٣٣ من سِفر الخروج: (فحدث في نصف الليل أنّ الربّ ضرب كلّ بكر في أرض مصر... وكان صراخ عظيم؛ لأنّه لم يكن بيت ليس فيه ميّت... فدعا فرعونُ موسى وهارون وقال: قوموا اخرجوا من بين شعبي، أنتما وبنو إسرائيل جميعاً، واذهبوا اعبدوا الربّ كما تكلّمتم، خذوا غنمكم أيضاً وبقركم كما

____________________

(١) الأعراف ٧: ١٢٩.

(٢) غافر ٤٠: ٢٤ - ٢٧.

(٣) طه ٢٠: ٧٨.

(٤) طه ٢٠: ٧٧.

٥٥٤

تكلّمتم واذهبوا، وباركوني أيضاً، وكذلك ألحّ المصريّون على بني إسرائيل ليخرجوا من أرض مصر، حيث خوفهم من الفناء...

لكن فرعون ندم على سماحه لخروج بني إسرائيل - وقد كان هو وقومه يستعبدونهم - فعزم على اتّباعهم؛ ليردّهم عبيداً أذلاّء... وكان بنو إسرائيل قد بلغوا ساحل البحر الأحمر - على خليج السويس - وأطلع عليهم فرعون مع شروق الشمس، وأيقن بنو إسرائيل بالهلاك وأنّ فرعون باطش بهم.

فسكّن موسى روعَهم وضرب البحر، فكان فلقتَينِ وظهرت اليابسة بينهما، فأمر بني إسرائيل بالعبور، فعبروا من الشاطئ الغربي إلى الشاطئ الشرقي...

وأشرف فرعون في ذلك الحين على الموضع الذي عَبر منه بنو إسرائيل، فرأى طريقاً في البحر لا وعورة فيه، وبنو إسرائيل بين فرقَي الماء لم يمسّهم أذى، فطمع أن يعبر في أثرهم هو وجنوده، فاقتحموا الطريق اليابس في البحر خلف بني إسرائيل.

فلمـّا جاز بنو إسرائيل البحر عن آخرهم وكان فرعون وكان فرعون وجنوده قد توسّطوه انطبق عليهم البحر فكانوا من المغرقين...

لمحة عن حياة بني إسرائيل في مصر

ذكر الأُستاذ أحمد يوسف أحمد - في كتابه: فرعون موسى - قصّة الولادة والرسالة - والخروج -: أنّ يوسف الصديق (عليه السلام) قد دخل مصر في عهد الأُسرة السادسة عشرة، في أيّام أحد مُلوكها المدعوّ (أبابي الأوّل)، وقد وُجِدت لوحة أثريّة عبارة عن شاهد مقبرة ذُكر فيها اسم (فوتي فارع) وهو المذكور في التوراة (فوطيفار - عزيز مصر)، كما استُدِلّ من بعض الآثار عن الأُسرة السابعة عشرة، على حدوث جدب في مصر قبل هذه الأُسرة، وهو ما ذُكر في القرآن والتوراة عن سِنيّ القحط.

إذن فدخول يوسف يمكن تحديده قريباً من سنة (١٦٠٠ ق.م) في عهد الملك أبابي المذكور، ويكون دخول بني إسرائيل بعد ذلك بنحو ما يقرب من (٢٧ عاماً) وهي

٥٥٥

المدّة التي أقامها يوسف في بيت سيّده، مضموماً إليها المدّة التي قضاها في السجن، يضمّ إلى ذلك مدّة الرخاء والخِصب، ثُمّ بعض مدّة الجدب، إلى أن قال لإخوته: ( وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ) (١) .

وإذا اطّلعنا على حياة ملوك الفراعنة، فيما بين هذه الأُسرة والأُسرة التاسعة عشرة، لم نجد أيضاً ذِكراً يثبت أيّ اضطهاد حدث لقوم إسرائيل، ولا أيّ ذِكر لهم أثناء ذلك.

ولكن التوراة تذكر أنّ فرعون مصر الذي اضطهدَ بني إسرائيل، كان يستخدمهم في بناء مدينتَينِ: رعمسيس وفيثوم، وقد ثبت من الحفائر الأثريّة وجود مدينة باسم (فيثوم) أو (بر - توم) ومعناها: بيت الإله توم، ومدينة أُخرى باسم (بررعمسيس) أي بيت أو قصر رعمسيس.

والأُولى: اكتُشفت بواسطة العالم الفرنسي (نافيل) سنة (١٨٨٣ م) وموضعها الآن: تلّ المسخوطة، في مديريّة الشرقيّة. والثانية: اكتُشفت بواسطة العالم المصري الأُستاذ محمود حمزة في سنة (١٩٢٨ م) وموضعها بلدة (قنتير) وتُسمّى بالمصري القديم: (خنت نفر) أو الوسط الجميل، وأيضاً (بررعمسيس) هي التي بناها (رعمسيس) الثاني؛ لتكون عاصمة لملكه في مصر في وسط الوجه البحريّ، ليكون بها قريباً من الحدود المصريّة، لتساعده على صدّ الأعداء، كما أنّه أيضاً بنى مدينة (فيثوم)، واتّضح من وجود بعض آثار الجدران في المدينة أنّها أيضاً كانت حصناً مصريّاً، وتكون التوراة قد أخطأت في حُسبانها مخازن للغِلال.

إذن فرعمسيس الثاني قد يُعتبر الفرعون الذي اضطهد بني إسرائيل، ووُلد موسى (عليه السلام) في زمنه، ويُضاف إلى ذلك عداؤه الشديد للشعوب الآسيويّة التي ظلّ يحاربها متغيّباً عن مصر زُهاء تسع سنوات، وقد يكون كرهه لبني إسرائيل المقيمين في مصر مترتّباً على خشيته من؛ أن يُصبحوا حزباً ممالئاً لأعدائه المواطنين لهم من قبل، ولا سيّما

____________________

(١) يوسف ١٢: ٩٣.

٥٥٦

وقد تكاثروا في عددهم وتناسلوا حتّى كانت لهم جالية كبيرة تشمل جزءً عظيماً من مديريّة الشرقيّة.

وحيث إنّ المـَلِك رعمسيس الثاني قد أشرك معه ابنه المـَلِك (منفتاح) في الحكم قبل وفاته، وكان (منفتاح) الولد الثالث عشر لرعمسيس - وقد بلغ أولاده (١٥٠) - وكان (أي منفتاح) مُسنّاً حين ولايته لعهد، فيكون قد عاصر موسى في بيت أبيه...

وبحقّ قال لموسى: ( أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ) (١) ، ويكون (منفتاح) هو فرعون الخروج، الذي أُرسل إليه موسى وهارون (عليه السلام) لإخراج بني إسرائيل من مصر - وكان موسى حينما بُعث إلى فرعون هذا قد هذا قد بلغ الثمانين، وأخوه هارون أكبر منه بثلاث سنين - (٢) وتكون التوراة على صواب عندما قالت: وفي هذه الأثناء كان مَلِك مصر - تقصد المـَلِك رعمسيس - قد مات...

وقد عَثر العلاّمة (فلندرس بتري) على حجر من الجرانيت القاتم، ورقمه في دار الآثار (٥٩٩) وهو عبارة عن لوحة كبيرة يبلغ ارتفاعها (٣) أمتار و(١٤) سم، وهو منقوش من الوجهينِ، أحدهما للمـَلك (امنحتب) الثالث من الأُسرة (١٨) يذكر فيه كلّ ما عمله لمعبد (آمون).

أمّا الوجه الآخر فقد استُعمل في شأن المـَلِك (منفتاح) ابن رعمسيس الثاني من الأُسرة (١٩)، وذكر فيه عبارات بأُسلوب شعري يفتخر فيها بانتصاره على اللوبيّين، ويُشير إلى سقوط عسقلان وجيزر ويانوعيم في فلسطين.

وجاء في ضمنها عبارة تُشير إلى بني إسرائيل، ونصّها الحرفيّ: (لقد سُحق بنو إسرائيل ولم يبقَ لهم بذر)، وهذا أوّل نصّ رسميّ في الآثار، ذُكر فيه بنو إسرائيل.

وقد عُثر على هذا الحجر في كوم الحيتان بطيبة الأقصر.

وهذا الحجر يبدو منه للمدقّق: أنّ (منفتاح) لم يكتبه في عهده؛ وإلاّ لكانت لهذه الحوادث الخطيرة التي يذكرها فيه شأن عظيم كان يجب أن يُدوّن في أثر خاصّ، لا أن

____________________

(١) الشعراء ٢٦: ١٨.

(٢) سِفر الخروج - إصحاح ٧: عدد ٧.

٥٥٧

يستعمل له حجر كان لغيره من قبل.

ويظهر أنّ الكهنة التابعين لمنفتاح هم الذين استعملوا هذا الحجر ودوّنوا ما به؛ ليشيدوا بذكره فيقوموا بذلك بواجب التخليد، حيث لم يكن مُنتَظراً أن يموت المـَلِك بتلك الصورة المعجّلة التي مات بها، وقد أرادوا أن يُوهموا الناس أنّ فرعون قد سَحق بني إسرائيل، تمويهاً وقلباً لحقائق، حتى يستروا أمام الشعب المصري الذي كان يحترم ديانتهم، خذلانهم وخذلن إلههم أمام موسى، حين كان فرعون يتعقّب بني إسرائيل.

ويكون العثور على جثّة (منفتاح) ووجودها الآن بالمتحف المصري، مصداقاً لقوله تعالى: ( فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ) (١) .

وقد وُجدت الجثّة مع غيرها من الجُثث في قبر (أمنحتب الثاني) بالأقصر.

وظهر من آثار قبر (منفتاح) أنّه لم يكن مهيّأً كما يجب لدفن مَلِك مِثله؛ لأنّ موته لم يكن مُنتَظراً، فلم يُهيّأ له قبر خاصّ (٢) .

* * *

أمّا موضع العبور فلم يُعرف بالضبط، والتوراة تورد أسماء أمكنة مرّ بها بنو إسرائيل حتى أتوا إلى مكان العبور، وهذه الأمكنة ليست مسمّياتها معروفة اليوم، والبحّارة في البحر الأحمر يُسمّون مكاناً في خليج السويس (بركة فرعون) ويقولون: إنّ العبور كان بها، وهي بعيدة عن السويس كثيراً، تمارّ بها السُفن البخاريّة بعد نصف الليل إذا قامت من السويس في المساء.

قال الأُستاذ النجّار: وإنّي لاستبعد ذلك كثيراً وأعتقد أنّ خليج السويس كان يمتدّ من تلك الأزمان إلى البحيرة المرّة أو يقرب منها، وفي هذا الخليج من تلك الناحية كان عبورهم، وبعبارة أُخرى عبروا مكان شماليّ المكان المعروف بعيون موسى، في البرّ الآسيوي، وهي لا تبعد عن السويس كثيراً.

____________________

(١) يونس ١٠: ٩٢.

(٢) انتهى ما نقله الأُستاذ النجّار عن كتاب أحمد يوسف أحمد، وقد كان تحت الطبع، كما ذكر الأُستاذ، راجع: قصص الأنبياء للنجّار، ص٢٠١ - ٢٠٣.

٥٥٨

وتقول التوراة: إنّ اللّه أرسل ريحاً شرقيّة على البحر فأزالت الماء حتّى ظهرت اليابسة، وعبر بنو إسرائيل فتبعهم فرعون فغرق، والعبارة هكذا: فقال الربّ لموسى... قُل لبني إسرائيل أن يرحلوا، وارفع أنت عصاك ومُدّ يدك على البحر وشقّه، فيدخل بنو إسرائيل في وسط البحر على اليابسة...

ومدّ موسى يده على البحر، فأجرى الربّ البحر بريح شرقيّة شديدة كلّ الليل، وجعل البحر يابسة وانشقّ الماء، فدخل بنو إسرائيل في وسط البحر على اليابسة والماء سور لهم عن يمينهم وعن يسارهم... (١) .

وأخذ بعضهم من ذلك شُبهة أنّ فلق البحر كان بهبوب العواصف، ولم تكن آيةً معجزةً! لكن لم يعهد أن تعمل الريح مهما اشتدّت هذا العمل العجيب في الخليج مرّة أُخرى، بل كلّ الدهر، سواء قبل هذه الحادثة أم بعدها، فلِمَ فعلت ذلك حين أمر موسى بني إسرائيل بعبور البحر، ذلك الحين فقط؟!

قال الأستاذ النجّار: فلم يكن ذلك إلاّ بعناية خاصّة من الله تعالى لإنفاذ ما في عِلمه (٢) .

* * *

وبعد فإذ قد عِلمنا أنّ سجلات التأريخ، غالبيّتها إنّما تُعنى بشؤون السلاطين وإضفاء وابل الثناء عليهم خاصّة، حتّى ولو كان بقلب الحقائق وتبديل سيّئاتهم حسنات وإعفاء ما سواها من شؤون، فيا ترى هل تجد هناك مجالاً لوصف محاسن خصومهم أو الإشادة بذكرهم، ولا سيّما إذا استدعى ذلك مسّاً بكرامة الأسياد أو الحطّ من شأنهم الرفيع!!

لم تكد الوثائق التأريخيّة القديمة تتجاوز رغبات حاشية الملوك والأُمراء، فيما يعود إلى تفخيم شأنهم وتعظيم جانبهم بالذات، وأن لا يُذكر هناك شيء يشينهم أو يضع من شأنهم إطلاقاً، فما هي إلاّ إملاءات تمليها الأسياد، حسب ميولهم واتّجاهاتهم

____________________

(١) سِفر الخروج، أص ١٤: ١٥ - ٢٣.

(٢) قصص الأنبياء للنجّار، ص٢٠٤ - ٢٠٥.

٥٥٩

الخاصّة.

أمّا المحاسن فتُذكر وتُسجّل بتفصيل وتبيين - حتّى ولو كانت مُصطنعة - وأمّا المساوئ فتُعفى، وتُصبح نسياً منسيّاً.

وقد عرفت مدى جهود السلطة المقدونيّة في طَمس مآثر الحكم الهخامنشي الرهيب، بحيث طوى عليها التأريخ فتنوسيت حتّى عن أذهان أبناء الفرس أنفسهم، حيث تداوم العمل المستمرّ في إخماد تأريخ السلف طيلة قرون.

أفلا تعجب من تناسي ذِكر كورش ومآثره وحتّى اسمه ورسمه عند أكبر مؤرّخي الفرس: الحكيم الفردوسي فلم يتحدّث عنه بشيء!!

هذا جانب خطير من مضاعفات سلطة الأجانب على البلاد.

وهكذا الأمر بشأن موسى ومواقفه الرهيبة مع فرعون وملأه... فيا ترى لِمَ لمْ يأتِ له ذِكر في سجلاّت مصر القديمة؟!

فيا فضيلة الأُستاذ خليل عبد الكريم، هل تجد فسحة لإنكار حضور موسى (عليه السلام) نفسه شخصيّاً في مصر ذلك العهد وفي تلك الحقبة من التأريخ القديم، هل يتخالج في فكرك (الإسلامي الحديث!) إنكاره رأساً، بحجّة أنّ سجلاّت مصر قد أهملته؟! أو أنّك تحسب الحديث عن موسى المصري - حسبما جاء في القرآن الكريم - كسائر قضاياه التي حسبتها - أنت وزملاؤك - قصصاً شعبيّة لا واقع لها ؟!

فإن خالجتك نفسُك في إنكار وجود موسى المصري (ولادةً ونشأةً ومبعثاً)... فقد ارتكبت خطأً عظيماً يجب الاستغفار منه!!

وهكذا سائر قضاياه في مصر، قد أغفلتها سجلاّت تأريخ مصر القديمة، لا لشيء إلاّ لكونها مخازي تغضّ من كبرياء فراعين مصر!!

وقد عرفت أنّ أَوّل وثيقة مصريّة سُجَّلت عن بين إسرائيل، هي اللّوحة المرقّمة (٥٩٩) بدار الآثار المصريّة، جاء فيها الحديث عن الملك (منفتاح) ابن رعمسيس الثاني من الأُسرة (١٩) وجاء فيها عَرَضاً، الكلام عن بني إسرائيل باعتبار سحقهم على يد هذا

٥٦٠

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578