شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم10%

شبهات وردود حول القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 578

شبهات وردود حول القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 578 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 297595 / تحميل: 13676
الحجم الحجم الحجم
شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

( قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) (١) .

شاهدٌ ثالث أخذوه دليلاً على عُموم الطوفان:

قال العلاّمة الطباطبائي: هذا كالنصّ في أنّ الطوفان عمّ البقاع اليابسة من الأرض جميعاً أو مُعظمها الذي هو بمنزلة الجميع، قال: ولو كان الطوفان خاصّاً بصُقع من أصقاع الأرض وناحية من نواحيها - كالعراق على ما قيل - لم يكن أيّ حاجة إلى أنْ يحمل في السفينة من كلّ جنس من أجناس الحيوان زوجين اثنين (٢) .

وهذا المعنى قائم على أساس ما حسبه المفسّرون في سبب حَمل زوجين من كلّ جنس من الحيوان؛ لعلّة استبقاء نسلها لئلاّ تنقرض، قال صاحب المنار: والتقدير - على قراءة حفص [بتنوينِ كلٍّ] -: احمل فيها من كلّ نوعٍ من الأحياء أو الحيوان زوجين اثنين ذكراً وأُنثى؛ لأجل أنْ تبقى بعد غَرق سائر الأحياء، فتتناسل ويبقى نوعها على الأرض (٣) .

وعامّة المفسّرين على ذلك، ولعلّهم متأثّرون بنصّ التوراة وتوارد الإسرائيليّات بهذا المعنى، جاء في سِفر التكوين: ومن جميع البهائم الطاهرة تأخذ معك سبعةً سبعةً ذكراً وأُنثى، ومن البهائم غير الطاهرة اثنين ذكراً وأُنثى، ومن طيور السماء أيضاً سبعةً سبعةً ذكراً وأُنثى؛ لاستبقاء نسلٍ على وجه كلّ الأرض (٤) وهكذا ورد في الإسرائيليّات (٥) .

ولكن ما قَدْر السفينة حتّى يُحمل فيها مثل هذا العدد الجمّ من أنواع الحيوان الأهليّة والوحشيّة والحشار والطيور؛ لئلاّ ينقرض نسل الأحياء، بل وفي هذه الروايات: حَمل الأزواج من أنواع النبات والشجر والأعشاب، وهو من الغرابة بمكان!!

وبحقٍّ قال سيّد قطب: ومرّة أخرى تتفرّق الأقوال حول ( مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) .

وتشيع في الجوّ رائحة الإسرائيليّات قويّة.

وتعقّبه بقوله: أمّا نحن فلا ندع الخيال يلعب بنا ويَشتطّ حول النصّ ( احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) ممّا يملك نوح أنْ يُمسك، وأنْ يَستصحب من الأحياء، وما وراء ذلك خبط عشواء (٦) .

____________________

(١) هود ١١: ٤٠، المؤمنون ٢٤: ٢٧.

(٢) تفسير الميزان، ج ١٠، ص ٢٧٤.

(٣) تفسير المنار، ج ١٢، ص ٧٦.

(٤) سِفر التكوين، إصحاح ٧/ ٢ - ٣.

(٥) راجع: الدرّ المنثور للسيوطي، ج ٤، ص ٤٢٣ فما بعد.

(٦) في ظِلال القرآن، ج ١٢، ص ٦٢، مجلّد ٤، ص ٥٤٨.

٤١

وهذا هو الرأي الصحيح، فقد رخّص الله لنوح أنْ يَحمل معه ما يَملكه من الحيوانات الأهليّة بقَدر ما يحتاج إليه من زادٍ وراحلة، ولا يُثقل حِملَه حتّى تعود الأحوال إلى أوضاعها الأُولى، وأمّا سائر الأحياء الأهليّة والوحش فتتشرّد لوجهها، ولا تبقى في المنطقة المصابة بالحادث، كما هو مألوف، هذا ما يدلّ عليه نصّ القرآن لا أكثر.

والزوجان - في الآية - يراد به المتعدّد في تشاكل، أي من كلّ جنس عدداً يفي لتأمين الحاجة بها.

وهذا نظير قوله تعالى: ( وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا (في الأرض) زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) (١) أي من كلّ نوع في أشكال وألوان متقاربة ومتنوّعة، كالتفّاحة في أشكالها وألوانها، وهكذا الليمون والرّمان، وسائر الفواكه من كلّ نوعٍ فيها أزواج متشابهة، كما قال تعالى: ( وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ) (٢) أي مُتشاكلاً وغير متشاكل.

وجاء في وصف فواكه الجنّة: ( فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ ) (٣) أي صنفان متشاكلان، والمراد المتعدّد في أشكالٍ وأصناف، كما قال: ( وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً ) (٤) أي متشاكلاً.

ومن الواضح أنّ الثمرة - وهي الفاكهة - ليس فيها ذكر ولا أُنثى ولا تزاوج لقاح، وإنّما ذاك في بذور الأزهار لا في الفواكه والثمار.

على أنّها لغةٌ دارجة: أنْ يُراد بالمثنّى الشِّياع في الجنس لا الاثنان عدداً، قال أبو علي: الزوجان في قوله: ( مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) يراد بهما الشِّياع، وليس يراد بهما عدد الاثنين، كما قال الشاعر:

فاعمَد لما يعلو فمالكَ بالذي

لا تستطيعُ مِن الأُمور يَدانِ

يريد: الأيدي والقُوى الكثيرة حتّى يستطيع التغلّب بها على الأمور.

قال: ويُبيّن هذا المعنى أيضاً قول الفرزدق:

وكلُّ رَفيقَي كلِّ رَحلٍ وإنْ هُما

تَعاطى القَنا قوماهُما أَخَوانِ (٥)

____________________

(١) الرعد ١٣: ٣.

(٢) الأنعام ٦: ١٤١.

(٣) الرحمان ٥٥: ٥٢.

(٤) البقرة ٢: ٢٥.

(٥) تعاطى مخفّف تعاطياً، حذف اللام للضرورة، جامع الشواهد، ص ٣٢٤.

٤٢

إذ رفيقان اثنان لا يكونان رفيقي كلّ رحَل، وإنّما يُريد الرفقاء كلّ واحد مع صاحبه يكونان رفيقين.

وأمّا وصف الزوجين بالاثنين؛ فلإرادة التأكيد والتشديد في المتبوع، كما قال تعالى: ( لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ ) (١) خطاباً مع المشركين، نهى عن اتخاذ الآلهة، ومع ذلك جاء تأكيده بالاثنين، زيادةً في المبالغة (٢) ، ومِن ثَمّ عقّبه بقوله: ( إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ) .

وإنّما جاء بالتثنية باعتبار اتخاذ إلهٍ آخر معه سبحانه، أي لا تتّخذوا مع الله إلهاً آخر، والمعنى: النهي عن التعدّد في الآلهة وإن كان في صياغة المثنّى (٣) وقد بحثنا عن إرادة الشِّياع من المثنّى بتفصيل فليُرجع إليه (٤) .

( وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ) (٥)

يقال: إنّه تعريب (جورداي) اليونانيّة، اسم لسلسلة جبال تمتدّ من شماليّ العراق فإلى تركيا، وبلاد أرمينيّة ذات قمّة رفيعة (٥١٧٥ متراً) عُرفت بـ (آراراط) شاع عند الأرامنة - القاطنين في المنطقة - أنّها مَرسى سفينة نوح، وأخذ عنهم العرب من غير تحقيق.

ويرجع هذا الشِّياع إلى عهدٍ متأخّر (منذ القرن العاشر بعد الميلاد) حيث تُرجمت عبارة التوراة: (رست السفينة على جبل الأكراد) بجبل آراراط.

ولم تكن الأرامنة تعرف لذلك الوقت مَرسى متعيّناً للسفينة، حتى شُوّهت عليهم هذه الترجمة الخاطئة، وجَعلت الأوهام تحيك حولها أساطير.

جاء في دائرة المعارف الإسلاميّة: والمـُحَقَّق من كتابات كثير من المؤلّفين الأرمن وغيرهم مِن الكُتّاب أنّ جبل (آراراط) لم يكن له حتّى القرن العاشر صلة مّا بحادث الطوفان.

____________________

(١) النحل ١٦: ٥١.

(٢) راجع: مجمع البيان للطبرسي، ج ٥، ص ١٦١.

(٣) المصدر: ج ٦، ص ٣٦٥.

(٤) فيما يأتي في البحث عن آية ( وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ) فيما توهّم من المخالفة مع العلم.

(٥) هود ١١: ٤٤.

٤٣

فالرواية الأرمنيّة القديمة لا تَعرف - على التحقيق - شيئاً على جبل استقرّت عليه فلُك نوح، فلمـّا أن جاء ذِكرُ جبلٍ في المؤلّفات الأرمنيّة المتأخّرة تبيّن أنّ ذلك كان بتأثير الكتاب المـُقدّس المتزايد في هذه المؤلّفات، والكتاب المـُقدّس هو الذي يقول: إنّ السفينة استقرّت على جبال أراراط، وأعلى هذه الجبال وأشهرها جبل (ماسك) (ماسيس) ومِن ثَمّ فلابدّ أنّ نوحاً قد حطّ بسفينته على هذا الجبل.

أمّا المرحلة الثانية مِن نموّ هذه الرواية الأرمنيّة فَتُرَدُّ إلى الأوربيّين، الّذين أطلقوا اسم آراراط (بالأرمنيّة: إيراراط) وهو اسم ناحية على جبل ماسك، استناداً على تفسيرٍ خاطئ لسِفر التكوين (١) .

وإنّما أخذت الرواية القائلة بأنّ (ماسك) هو الجبل الذي استقرّت عليه السفينة، تجد مكاناً في المؤلّفات الأرمنيّة في القرنَينِ الحادي عشر والثاني عشر، وتذهب التفاسير الدينيّة السابقة على هذا في الزمن، إلى أنّ الجبل المعروف الآن بجبل (الجوديّ) أو جبال (جورديين) (بالسريانيّة: قردو، وبالأرمنيّة: كُردُخ) - كما تقول المصادر النصرانيّة - هو المكان الذي رست عليه سفينة نوح.

والمـُحقَّق أنّ هذا التحديد للمكان الذي استقرّت عليه السفينة - وهو التحديد الذي ذُكِر حتّى في الترغوم (الترجمة الكلدانيّة للعهد القديم) - يُسنَد إلى الرواية البابليّة، وقد نشأ من الاسم البابلي (برسوس).

زد على ذلك أنّ جبل (نصر) الذي ذُكِر في قصّة الطوفان في الكتابات المسماريّة يصحّ أيضاً أنْ يُحدّد مكانه في جبال (جورديين) بالمدلول الواسع لهذا الاسم، وقد أخذ النصارى بالرواية البابليّة اليهوديّة القديمة، وعرفها العرب منهم عندما وصلوا بفتوحاتهم إلى إقليم (بهستان) (بلاد أرمينيّة)، وأطلق العرب اسم الجودي - الوارد في القرآن - في غير تثبّتٍ على جبل (قردو) المعروفة بذلك منذ أقدم الزمن.

____________________

(١) المصدر: ٨ / ٤.

٤٤

وما زالت المنطقة المحيطة بجبل الجودي إلى يومنا هذا حافلة - كالمنطقة المحيطة بجبل آراراط - بالأساطير والذكريات المتّصلة بقصّة الطوفان وحياة نوح بعد إذ غادر السفينة (١) .

* * *

وهكذا نرى الجغرافيّ الكبير ياقوت الحموي (ت ٦٢٦) متأثّراً بتلكُم الأساطير المسطّرة، يقول: الجوديّ جبل مُطلّ على جزيرة (ابن عمر) في الجانب الشرقي من دجلة من أعمال الموصل، عليه استوت سفينة نوح (عليه السلام).

ثُمّ يَذكر نصّ التوراة - مُستشهِداً به -: (... واستقرّت السفينة على الجودي في شهر كذا ويوم كذا... ويقول: هذا تعريب التوراة حرفاً حرفاً) (٢) .

ما ندري ماذا كان الأصل حتّى ترجمه إلى ذلك؛ ولعلّه لُقّن بذلك - وهو روميّ الأصل - من بعض الأرامنة المسيحيّين، وهكذا لقّن أبناء الإسلام بأوهام جاءتهم من قبل أهل الكتاب!

هذا، ومن ورائهم زَرافات من المفسّرين سواء في الغابر والحاضر - مع الأسف - من غير تريّث ولا تحقيق، وكم له من نظائر في مواضع من التفسير، أشهرها وأشنعها تفسيرهم ذا القرنين بالإسكندر الكبير!

ومِن مُضاعفات هذا الزعم - كما نبّه عليه المحقّق الشعراني - (٣) القول بعموم الطوفان المستحيل (٤) إذ لازمه أنْ يكون الماء قد غمر رؤوس الجبال الشامخات، حيث رست السفينة - بعد ما أخذت المياه في النضوب - على قمّة جبلٍ ترتفع خمس كيلو مترات!

وممّا يجدر التنبّه له: أنّ القوم حسبوا من كلمة (الجودي) - باعتبارها اسم جبل - أنّها أعجميّة معرّبة، فراحوا يجوبون البلاد علّهم يعثروا على ذلك الأصل أهو (جورداين) أو (جورداي) أو (قوردو) أو غيرها؟

____________________

(١) راجع: دائرة المعارف الإسلاميّة المـُترجمة إلى العربيّة، ج ٧، ص ١٦١ - ١٦٣ (الجودي).

(٢) معجم البلدان، ج ٢، ص ١٧٩.

(٣) معجم لغات القرآن للشعراني، ج ١١، ص ١٤٤.

(٤) عادةً في الطبيعة، ولا ضرورة تدعو إلى مثل هذا الإعجاز!

٤٥

لكن لا مُبرّر لهذا الحُسبان بعد أن كان لهذه الكلمة أصل عربي خالص، ولها سابق التعبير في جاهليّة العرب.

قال أُميّة بن أبي الصلت:

سبحانه ثُمّ سبحاناً يعود له

وقبله سبّح الجوديُّ والجُمُدُ

الجودي - من الجود -: الرَّبوة من الأرض تجود بنباتها إذا أصابها وابلٌ آتت أكلها ضعفين، والجُمُدُ: الحَزِنة من الأرض تجمُد بنباتها وتبخل سواء أصابها وابلٌ أو طلّ.

قال أبو مسلم الإصبهاني: الجودي اسم لكلّ جبل وأرض صُلبة (١) ، في مقابلة الرَّخوة، أي استقرّت على مرتفع من الأرض غير ذات وحلٍ، وكانت ذات بركة عليه حينما نزل بها.

( قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ ) (٢) فأَوّل مفاتح البركات نزوله بأرضٍ ذات بركةٍ .

وأين هذا من حُسبان نزوله في أعالي جبالٍ شامخاتٍ ترتفع عن الأرض السَّهلة بخمس كيلو مترات؟!

وهل كان نزوله حينذاك بسلام وبركاتٍ أم بشقاء وعناء؟!

( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ) (٣)

هذه العبارة (وفار التّنور) إمّا كناية عن فورة سخطه تعالى بمعنى: وثار غضبُ الربّ، كما يقال: فار فائرة إذا اشتدّ غضبه، وبنو فلان تفور علينا قِدْرهم أي يشتدّ غضبُهم علينا.

قال الشاعر:

تفورُ علينا قِدْرُهم فَنُديمها

ونفثؤها عنّا إذا حَمْيُها غلا (٤)

وهكذا فار تنّورهم أي احتدّ سخطهم وثارت نائرتهم، فمعنى (فار التنّور): حمى

____________________

(١) مجمع البيان، ج ٥، ص ١٦٥.

(٢) هود ١١: ٤٨.

(٣) هود ١١: ٤٠.

(٤) أساس البلاغة للزمخشري، ج ٢، ص ٢١٧. وفثأ القدر - بالثاء المثلّثة -: إذا صبّ عليه ماءاً بارداً ليفتر غليانه.

٤٦

غضبُ الربّ، وإمّا أن نأخذ التعبير على حقيقته ليكون التنّور مَفْجَر الماء.

غير أنّ التنّور - في أصله - اسم لما يخبز فيه، والكلمة فارسيّة واستعملتها العرب بلا تحوير.

قال ابن دريد: التنّور فارسيّ معرّب. لا تعرف العرب له اسماً غير هذا؛ فلذلك جاء في التنزيل؛ لأنّهم خوطبوا بما يعرفون.

وقال ابن قتيبة: رُوي عن ابن عبّاس أنّه قال: التنّور بكلّ لسان، عربيّ وعجمي (١) .

واستعير لمـَفْجَر الماء، والتنانير: ينابيع الماء، حيث تفور كما يفور التنّور بالنار.

قال الفيروز آبادي: التنّور: كلّ مَفْجَر ماء، ومحفل ماء الوادي أي مجتمعه، وتنانير الوادي محافله (مواضع تجتمع فيها المياه) وهي الوِهاد والمستنقعات في البراري.

ومعنى الآية على ذلك: وفارت تنانير الأرض أي فاضت ينابيعها وثارت.

وهكذا جاء التعبير في سورة القمر: ( فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ) (٢) .

( فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاّ خَمْسِينَ عَاماً) (٣)

وهل يعيش إنسان في مثل هذا العمر الطويل؟ الأمر الذي لم يَكد يكون معروفاً وحتّى في القرون الماضية، هؤلاء الفراعنة في مصر نجد أجسامهم كأجسام أهل هذه الأيام وأعمارهم لم تختلف عن أعمارنا، وقد مرّ لهم أربعون قرناً أو أكثر، فكيف يكون ذلك؟

يقول الأستاذ عبد الوهاب النجّار: لا مانع من أنْ يعمِّر آدم ومن قُرب منه أعماراً طويلة؛ لأنّ النوع الإنساني كان في بدء نشأته لم يَحمل هموماً، ولم تَعتوره الأمراض المختلفة، ولم تُنهك قوّته الأطعمةُ التي لا يقدر على هضمها، فكان من المعقول أنْ يعيش طويلاً، وأمّا نحن وأمثالنا - ممّن كانوا قبل أربعين قرناً - فقد جئنا بعد أنْ أنهكت النوع

____________________

(١) المعرَّب لأبي منصور الجواليقي، ص ٢١٣، وراجع: جمهرة اللغة لابن دريد، ج ٣، ص ٥٠٢، وج ٢، ص ١٤، وأدب الكاتب لابن قتيبة، ص ٣٨٤.

(٢) القمر ٥٤: ١١ - ١٣.

(٣) العنكبوت ٢٩: ١٤.

٤٧

الإنساني الأمراضُ وطحنته الأدواء، فالواحد منّا عُصارة لآلاف الأمراض التي انتابت آباءه وأُمّهاته، فلم تعد قُوانا تتحمّل العمر الطويل.

وعند العلماء بالطبّ والأحوال الاجتماعيّة أنّ الإنسان قُواه محدودة والحياة العريضة تستنفدها بسرعة، بخلاف الحياة الضيّقة فإنّها تكون طويلة؛ لقلّة ما يُستنفد من قُوى الأجسام بتلك الحياة، فنحن الآن لا نعيش عيشةَ البساطة التي كان يعيشها آدم ومن قُرب منه، بل نتفنّن في أنواع الطعام ولذائد المعيشة بما يُنهك قُُوانا، فلا غرابة أنْ تكون أعمارنا قصيرةً، وقد اجتمعت عليها الأمراض المـُتوارَثة والتبسيط في العيش.

ويقول بعض الأطبّاء الألمان: إنّ إنسان هذا الزمان يمكن أن يعيش ثلاثمِئة سنة إذا اتّبع نظاماً خاصّاً (١) .

وهكذا ذكر الشيخ مُحمّد عبده في إمكان إطالة الأعمار في عهدٍ كانت الحياة غير موسّعة الأطراف، والمعيشة على بساطتها الأُولى غير معقّدة الجوانب، ولا كانت مُزدَحَم الأمراض والأدواء والشدائد والآلام حيث كانت طبيعة العمران ومعيشة الإنسان الفطريّة أسلم للأبدان (٢) .

( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ) (٣)

دلّت الآية على أنّه لم يبقَ بعد الطوفان سوى نوح وَبنيه وذراريه، وحتّى الذين ركبوا معه في الفُلك ممّن آمن به ونجوا من الغَرَق هلكوا وانقرضوا بلا عَقِب، هكذا جاءت في الروايات الإسلاميّة عن ابن عباس وقتادة، قال الكلبي: (لمـّا خرج نوح من السفينة مات من كان معه من الرجال والنساء إلاّ ولده ونساءهم) (٤) ؛ ومِن ثَمّ كان نوح (عليه السلام) هو الأب الثاني لكافّة البشر بعد آدم (عليه السلام).

لكنّه يتنافي وقوله تعالى خطاباً لبني إسرائيل: ( ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ ) (٥) .

____________________

(١) قصص الأنبياء للنجّار، ص ٤٨.

(٢) تفسير المنار، ج ١٢، ص ١٠٤.

(٣) الصافّات ٣٧: ٧٧.

(٤) مجمع البيان، ج ٧، ص ٤٤٧.

(٥) الإسراء ١٧: ٣.

٤٨

والموصول عامّ يشمل مَن رَكَب مع نوح من المؤمنين، ولا يَخصّ وِلْدَ صُلبه - كما قيل - ؛ إذ لا شاهد عليه في ظاهر تعبير القرآن العامّ.

والقول بتشعّب البشر مِن وِلد نوح الثلاثة (سام، حام، يافث) رواية إسرائيليّة بحتة ذكرتها التوراة: (ومن هؤلاء تشعّب كلّ الأرض) (١) .

غير أنّها ذَكرتْ أيضاً أنّ الذين ركبوا مع نوح هم بَنوه وأزواجهم فحسب (٢) ؛ ليكون غيرهم لم يؤمنوا به إطلاقاً ممّا يبدو غريباً جدّاً، أو كانوا آمنوا ولكنّهم بقوا؛ ليكونوا مع المـُغرَقِينَ، وهذا أبعد وأغرب!

فالصحيح ما ذكره القرآن: ( قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاّ قَلِيلٌ ) (٣) فقد ركب معه من المؤمنين جماعة وإن كانوا في قلّة بالنسبة إلى قومه الأكثرين، وقد ذكر المفسّرون أنّهم كانوا ثمانين نفساً (٤) .

فلابدّ أنّ هؤلاء الذين ركبوا معه ونجوا كانوا معه وهبطوا جميعاً بسلام ( قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (٥) .

والتعبير بالأُمم ممّن معه يُعطي تناسل الأُمم منهم، منهم المؤمنون كآبائهم ومنهم الفاسقون، وهذا أيضاً مطلق شامل لكلّ من ركب معه وهبط إلى الأرض بسلام.

فالخطاب - مع بني إسرائيل - بأنّهم ذُرّيةُ مَن حملنا مع نوح (يعني الذين آمنوا به) يشمل الجميع.

ثمّ لو كان المراد ذُرّية وِلد نوح الذين ركبوا معه لكان التعبير بذريّة نوحٍ أَولى، من غير ضرورة تدعو إلى هذا الالتواء في التعبير الموهم!

والوجه فيما ذكره الكلبي وغيره؛ أنّه تأثّرٌ بروايات إسرائيليّة وينبو عنه ظاهر تعبير القرآن.

بقي قوله تعالى: ( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) (٦) يظهر منه أنّ البشريّة أصبحت جميعاً

____________________

(١) سِفر التكوين، إصحاح ٩ / ١٨.

(٢) المصدر: ٧ / ٨.

(٣) هود ١١: ٤٠.

(٤) مجمع البيان، ج٥، ص ١٦٤.

(٥) هود ١١: ٤٨.

(٦) الصافّات ٣٧: ٧٧.

٤٩

من ذريّة نوح ولم يُعقّب الآخرون.

لكن في رواية أبي الجارود عن الإمام مُحمّد بن علي الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى:

( وَجَعَلْنَا ذُرّيّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) قال: (الباقون بالحقّ والنبوّة والكتاب والإيمان في عَقِبه، قال: وليس كلّ مَن في الأرض مِن بني آدم، مِن وِلد نوح) واستشهد (عليه السلام) بالآية من سورة هود: ( ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ ) (١) .

وهو تأويل وجيه يَدعمه قوله تعالى: ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ) (٢) وهذا هو معنى البقاء ( وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ ) (٣) . يعني إبراهيم (عليه السلام) وقال تعالى: ( فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ... ) (٤) .

فالبقيّة الباقية في مصطلح القرآن هم الذين وَرِثوا الكتاب والنبوّة والإيمان، يأمرون بالمعروف ويَنهون عن المنكر، هذا هو البقاء وفي غيره الفناء، الأمر الذي تحقّق في ذرّية نوح وإبراهيم (عليهما السلام).

قال الحسن البصري: هلك المتمتّعون في الدنيا؛ لأنّ الجهل يغلب عليهم والغفلة فلا يتفكّرون إلاّ في الدنيا وعمارتها وملاذّها... (٥)

قال الإمام أمير المؤمنين عليه صلوات المصلّين: (هَلكَ خُزّانُ الأموالِ وهُم أحياءٌ والعلماءُ باقونَ ما بقيَ الدهرُ) (٦) .

نوح (عليه السلام) بعد الهبوط

قال تعالى: ( قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (٧) .

دلّت الآية على أنّ نوحاً هبط بسلامٍ وبركات، فقد أسّس أُمّةً وبنى حضارةً من

____________________

(١) تفسير القُمي، ج ٢، ص ٢٢٣.

(٢) الحديد ٥٧: ٢٦.

(٣) الزخرف ٤٣: ٢٨.

(٤) هود ١١: ١١٦.

(٥) مجمع البيان، ج ٥، ص ١٦٨.

(٦) نهج البلاغة، قصار الكلم، رقم ١٤٧، في كلامه (عليه السلام) مع كميل بن زياد النخعي عليه الرحمة، ص ٤٩٦

(٧) هود ١١: ٤٨.

٥٠

جديد وعمّر الأرض وأحيى البلاد، وسعى في إعلاء كلمة الله في الأرض على بنيانٍ مرصوص.

فقد أخذ من تجارب ماضية دليلاً هادياً له إلى تأسيس معالم جديدة تُنير درب الإنسان إلى حيث سعادته الخالدة، وكان التوفيقُ حليفَه في هذا الشَطر من حياته الكريمة، وصار قدوةً لمـَن جاء بعده من الأنبياء، وحتّى أنّ إبراهيم الخليل (عليه السلام) أصبح من شيعته، ( إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) (١) .

قال تعالى: ( وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ * وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) (٢) .

وكم عاشَ نوح بعد الطوفان؟ القرآن ساكت عنه، وفي الروايات اختلاف، خمسين إلى خمسمِئة عام (٣) أو أكثر ممّا لا اعتداد به.

والدُ إبراهيم (عليه السلام) تارَح أو آزر؟

ذكرت التوراة: أنّ والد إبراهيم (عليه السلام) هو (تارَح) بِراءٍ مفتوحةٍ وحاءٍ مهملة (٤) .

وجاء في القرآن: ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ... ) (٥) .

قال الزجّاج: لا خلاف بين النسّابين أنّ اسم والد إبراهيم (عليه السلام) تارَح، ومِن المـُلحِدة مَن جعل هذا طعناً في القرآن، وقال: هذا النسب - الذي جاء في القرآن - خطأ وليس بصواب.

وحاول الإمام الرازي الإجابة عن ذلك، بأنّه من المحتمل أنّ والد إبراهيم كان مسمّىً باسمين، فلعلّ اسمه الأصلي آزر، وجعل تارَح لقباً له، فاشتهر هذا اللقب وخَفي الاسم، والقرآن ذكره بالاسم (٦) .

ويتأيّدُ هذا الاحتمال بأنّ (تارَح) بالعِبريّة يُعطي معنى الكسول المتقاعس في

____________________

(١) الصافّات ٣٧: ٨٤.

(٢) الصافّات ٣٧: ٧٥ - ٨٤.

(٣) راجع: كمال الدين للصدوق، ص ١٣٤، رقم ٣، وبحار الأنوار، ج ١١، ص ٢٨٩.

(٤) سِفر التكوين، إصحاح ١١ / ٢٧.

(٥) الأنعام ٦: ٧٤.

(٦) راجع: التفسير الكبير، ج ١٣، ص ٣٧، وتفسير البيضاوي، ج٢، ص ١٩٤.

٥١

العمل (١) . أمّا (آزر) فهو النشيط في العمل؛ لأنّه من (الأَزر) بمعنى القوّة والنصر والعون. ومنه (الوزير) أي المـُعين، قال تعالى حكايةً عن موسى بشأن هارون: ( اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ) (٢) وهذا المعنى قريب في اللغات الساميّة، ومن ذلك عازر وعُزير في العِبريّة، وجاءت المادّة بنفس المعنى في العربيّة، قال الله تعالى: ( فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصـَرُوهُ ) (٣) ، ومعلوم أنّ العين والهمزة يتعاوران في اللغتين العِبريّة والعربيّة (٤) .

فلعلّ اسمه الأصلي كان (آزر) بمعنى النشيط، لكنّهم رأوا منه كسلاً وفشلاً في العمل والهمّة فلقبّوه بتارح، وكما اشتهر نبيّ الله يعقوب بلقب (إسرائيل).

* * *

أمّا مفسّرو الشيعة الإماميّة فيَرونَ أنّ (آزر) هذا لم يكن والد نبيّ الله إبراهيم (عليه السلام) وإنْ كان إبراهيم يدعوه أباً؛ لأنّ (الأب) أعمّ من الوالد، فيُطلق على الجدّ للأُمّ، وعلى المربّي والمعلّم والمرشد، وعلى العمّ أيضاً، حيث جاء إطلاق الأب عليه في القرآن، فقد حكى الله على أولاد يعقوب قولهم: ( نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ) (٥) ، وإسماعيل كان عمّاً ليعقوب.

قال الشيخ أبو جعفر الطوسي: والذي قاله الزجّاج يُقوّي ما قاله أصحابُنا: أنّ آزر كان جدّ إبراهيم لأُمّه، أو كان عمّه؛ لأنّ أباه كان مؤمناً، لأنّه قد ثبت عندهم أنّ آباء النبي (صلّى الله عليه وآله) إلى آدم كلّهم كانوا مُوحّدين لم يكن فيهم كافر، ولا خلاف بين أصحابنا في هذه المسألة.

قال: وأيضاً رُوي عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: (نَقَلني اللهُ مِن أصلابِ الطّاهرينَ إلى أَرحامِ الطّاهراتِ، لمْ يُدنّسني بِدَنسِ الجاهليّةِ). وهذا خبر لا خلاف في صحّته (٦) ، فبيّنَ النبيُّ (صلّى الله عليه وآله) أنّ

____________________

(١) جاء في قاموس الكتاب المقدّس (بالفارسيّة) ص ٢٤١: (تارح: تنبل) أي الكسلان.

(٢) طه ٢٠: ٣١.                                      (٣) الأعراف ٧: ١٥٧.

(٤) راجع: قصص الأنبياء للنجّار، ص ٧٠.          (٥) البقرة ٢: ١٣٣.

(٦) ورد في تأويل قوله تعالى: ( وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ) ، الشعراء ٢٦: ٢١٩، بطرق الفريقين أحاديث متضافرة أنّه (صلّى الله عليه وآله) قال: (لمْ أَزَلْ أُنقلُ مِن أصلابِ الطّاهرين إلى أرحامِ الطّاهراتِ). راجع: التفسير الكبير، ج ١٣، ص ٣٩، والدرّ المنثور، ج ٦، ص ٣٣٢، مجمع البيان، ج ٧، ص ٢٠٧.

٥٢

الله نقله من أصلاب الطّاهرينَ، فلو كان فيهم كافر لما جاز وصْفُهم بأنّهم طاهرون؛ لأنّ الله وَصف المشركينَ بأنّهم أنجاس: ( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ) (١) .

قال: ولهم في ذلك أدلّة لا نطوّلُ بذكرها الكتابَ؛ لئلاّ يخرج عن الغرض (٢) .

* * *

وللإمام الرازي هنا بحث طويل وحُجج أقامها دعماً لما يقوله مُفسّرو الشيعة، وأخيراً يقول: فثبت بهذه الوجوه أنّ (آزر) ما كان والد إبراهيم (عليه السلام) بل كان عمّاً له، والعمّ قد يُسمّى بالأب، كما سمّى أولادُ يعقوب إسماعيلَ أباً ليعقوب، وقال النبي (صلّى الله عليه وآله) بشأن عمّه العباس حين أُسِر: (ردّوا عليَّ أبي).

قال: وأيضاً يُحتمل أنّ (آزر) كان والد أُمّ إبراهيم، وهذا قد يقال له الأب، والدليل عليه قوله تعالى: ( وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ - إلى قوله - وَعـِيسَى ) (٣) ، فجعل عيسى من ذرّية إبراهيم، مع أنّه (عليه السلام) كان جدّاً لعيسى من قبل الأُمّ (٤) .

* * *

ولسيّدنا الطباطبائي تحقيق بهذا الشأن، استظهر من القرآن ذاته أنّ (آزر) الذي خاطبه إبراهيم بالأُبوّة وجاء ذلك في كثير من الآيات لم يكن والده قطعيّاً.

وذلك أنّ إبراهيم في بداية أمره حين كان بين أَظهُر قومِه من أرض كِلدان، وكان تحت كفالة آزر، وقد حاجّ قومه وحاجّ أَباه كثيراً وفي فترات ومناسبات مؤاتية، وكان أبوه آزر يطارده ويؤنّبُه على جُرأته على آلهة قومه: ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً * إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً * قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي

____________________

(١) التوبة ٩: ٢٨.

(٢) تفسير التبيان للطوسي، ج ٤، ص ١٧٥. وراجع: أيضاً مجمع البيان، ج ٤، ص ٣٢٢.

(٣) الأنعام ٦: ٨٤ و ٨٥.

(٤) التفسير الكبير، ج ١٣، ص ٤٠.

٥٣

حَفِيّاً ) (١) .

فإبراهيم هنا قد وَعَد أباه أنْ يستغفرَ له، وبالفعل وَفيَ بِوعده: ( رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ * وَاغْفِرْ لأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ ) (٢) .

لكن سُرعان ما رجع عمّا كان قد رجا في أبيه خيراً، ومِن ثَمّ تبرّأ منه حين لم يرجُ فيه الصلاح ويئِس منه، قال تعالى: ( وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ) (٣) .

هذا في بداية أمره قبل مغادرة بلادِه وقومِه قاصداً البلاد المقدّسة، والدليل على ذلك أنّه يبدأ الدعاء بقوله: ( رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ... الخ).

* * *

وبعد ذلك يأتي دورُ مغادرتِه إلى الأرض المقدّسة، ويبتهل إلى الله أن يرزقَه أولاداً صالحين. ( فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ * وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ) (٤) .

وهنا يُجيب الله دعاءه: ( وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ ) (٥) .

ثمّ إنّه لمـّا كَبُر ابنه إسماعيل وبنى البيتَ الحرام نراه يدعو لوالديه ويستغفر لهما: ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ ) إلى قوله: ( رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ) (٦) .

قال العلاّمة الطباطبائي: والآية بما لها من السياق والقرائن المـُحتفّة بها خير شاهدةٍ على أنّ والدَهُ الذي دعا له واستغفر له هنا غير أبيه آزر الذي تبرّأ منه في سالف الأيّام، فقد تحصّل أنّ آزر الذي جاء ذِكره في تلك الآيات لم يكنْ والد إبراهيم ولا أباه الحقيقي،

____________________

(١) مريم ١٩: ٤١ - ٤٧.

(٢) الشعراء ٢٦: ٨٣ - ٨٦.

(٣) التوبة ٩: ١١٤.

(٤) الصافّات ٣٧: ٩٨ - ١٠٠.

(٥) الأنبياء ٢١: ٧١ و ٧٢.

(٦) إبراهيم ١٤: ٣٥ - ٤١.

٥٤

وإنّما صحّ إطلاق الأب عليه لوجود عناوين تسوّغ اللغة مثل هذا الإطلاق كالجدّ للأمّ والعمّ، وزوج الأُمّ، وكلّ مَن يتولّى شأن صغير، وكذا كلّ كبير مُطاع، ونحو ذلك، وليس مثل هذا التوسّع في إطلاق لفظ الأب مختصّاً بلغة العرب، بل هو جارٍ في سائر اللغات أيضاً (١) .

الذبيح هو إسماعيل وليس بإسحاق!

جاء في سِفر التكوين، الإصحاح ٢٢:

١ - وحدث بعد هذه الأمور أنّ الله امتحن إبراهيم، فقال له: يا إبراهيم، خذ ابنك وحيدك الذي تحبّه إسحاق واذهب إلى أرض المريّا وأَصعِده هناك.

٩ - فلمـّا أتيا إلى الموضع ورتّب الحطب وربط إسحاق ابنه ووضعه على المـَذبح فوق الحطب.

١٠ - ثمّ مدّ إبراهيم يده وأخذ السكّين ليذبح ابنه.

١١ - فناداه مَلاك الربّ من السماء.

١٢ - فقال: لا تمدّ يدك إلى الغلام ولا تفعل به شيئاً؛ لأنّي الآن علمت أنّك خائف الله، فلم تُمسك ابنك وحيدك عنّي.

١٣ - فرفع إبراهيم عَينَيه ونظر وإذا كبش وراءه مُمسكاً في الغابة بِقرنَيه، فذهب إبراهيم وأخذ الكبش وأصعده مَحرقةً عِوضاً عن ابنه.

١٥ - ونادى مَلاك الربّ إبراهيم ثانيةً من السماء، وقال: بذاتي أقسمتُ يقول الربّ: إنّي من أجل أنّك فعلت هذا الأمر ولم تُمسك ابنك وحيدك، أبارِكُكَ مباركةً، وأُكثِر نسلك تكثيراً كنجوم السماء وكالرمل الذي على شاطئ البحر، ويرث نسلك باب أعدائه، ويتبارك في نسلك جميع أُممِ الأرض؛ من أجل أنّك سمعتَ لقولي.

* * *

بَطلُ هذه القصّة عند اليهود هو إسحاق، ولعلّ لفظ إسحاق حُشِر حشراً في غضون القصّة؛ وذلك حرصاً من بني إسرائيل على أن يكون أبوهم هو الذبيح الذي جاء بنفسه في طاعة ربّه، وبُوركَ للعالمينَ في نسله.

____________________

(١) راجع: تفسير الميزان، ج ٧، ص ١٦٨ - ١٧١.

٥٥

غير أنّ التعبير بـ (ابنك وحيدك) - دليلاً على سخاء نفس إبراهيم بولده الوحيد يذبحه امتثالاً لأمر ربّه - ممّا يتنافى وكون الذبيح هو إسحاق، الذي كان أصغر من أخيه إسماعيل بأربعة عشرة عاماً.

فالابن الوحيد الذي جادت نفس إبراهيم بذبحه ليس سوى إسماعيل.

وقرينة أخرى: إنّ الذي بُورك العالمونَ بنسلهِ وأفاض نسلُهُ بالبركات على العالمينَ هو إسماعيل، دون إسحاق الذي كان ولا يزال نسله (بنو إسرائيل) نكبةً في العالمينَ، ومَفْجَر الفساد بين العباد، والعيث في البلاد.

وفي القرآن إشارة إلى ذلك، حيث يقول تعالى ( فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ ) (١) .

فالتبشير الأَول بغلامٍ حليم يُنبئ عن أنّ إبراهيم لم يكن صاحب وَلَد لحينذاك؛ حيث بشّره بغلام.

والتبشير الثاني جاء تصريحاً باسم إسحاق نبيّاً من الصالحين، فيدلّ على أنّ التبشير الأَوّل كان بغير إسحاق، وهو إسماعيل.

وفي الإصحاح ٢١ من سِفر التكوين:

إنّ الربّ بشّر إبراهيم بنسلٍ في وَلَده إسحاق، وبنسلٍ في وَلَده إسماعيل، ولكن يجعل من نسلِ إسماعيلَ أُمّةً.

جاء في العدد ١٢: لأنّه بإسحاق يُدعى لك نسل.

____________________

(١) الصافّات ٣٧: ١٠١ - ١١٣.

٥٦

وفي العدد ١٣: وابن الجارية أيضاً سأجعله أُمّةً؛ لأنّه نسلك.

ومن ذلك يُعرف أنّ البركة العامّة الشاملة التي جُعِلت في نسل الذبيح خاصّة بوِلد إسماعيل، فقد أصبحوا أُمّةً هيمنت ببركتها ما بين الخافقَينِ.

قصّة لوط مع ابنتَيه كما هي في التوراة

جاء في الإصحاح ١٩ من سِفر التكوين:

٣٠ - وصعد لوط من صُوغَر وسكن في الجبل وابنتاه معه؛ لأنّه خاف أنْ يَسكن في صُوغَر، فسكن في المغارة هو وابنتاه.

٣١ - وقالت البِكر للصغيرة: أبونا قد شاخ وليس في الأرض رجلٌ ليدخلَ علينا كعادة كلّ الأرض.

٣٢ - هلمـّ نَسقي أبانا خمراً ونضطجعُ معه، فنُحيي من أبينا نسلاً.

٣٣ - فَسَقَتا أباهما خمراً في تلك الليلة، ودخلت البِكر واضطجعت مع أبيها، ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها.

٣٤- وحدث في الغد أنّ البكر قالت للصغيرة: إنّي قد اضطجعتُ البارحةَ مع أبي، نَسقيه خمراً الليلةَ أيضاً، فادخلي اضطجعي معه، فنُحيي من أبينا نسلاً.

٣٥ - فَسَقتا أباهما خمراً في تلك الليلة أيضاً، وقامت الصغيرة واضطجعت معه، ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها.

٣٦ - فجعلت ابنتا لوط من أبيهما.

٣٧ - فولدت البِكر ابناً ودعت اسمه مؤاب، وهو أبو المؤابيّين إلى اليوم.

٣٨ - والصغيرة أيضاً ولدت ابنا ودعت اسمه بن عمّي، وهو أبو بني عمّون إلى اليوم.

* * *

هذا، ولكنّ القرآن يأبى أنْ تتلوّث ساحة قُدسِ نبيٍّ من أنبيائه بِمثل هكذا تلوّث فضيع، فقد نزلت بشأنه ورفعةِ مقامِهِ آياتٌ تُتلى؛ ولتكون شهادةً من الله بنزاهةِ ساحةِ قدس أوليائه الكرام:

٥٧

قال تعالى: ( وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ) (١) .

( وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلاّ عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ ) (٢) .

يعقوب ينتهب النبوّة من أخيه عيسو!

لم تتوان اليهود في الحطِّ من كرامة الأنبياء حتّى ولقد مدّوا يد التدنيس إلى حياة أبيهم يعقوب ليجعلوه مُتزوّراً، لبّسَ الأمرَ على أبيه إسحاق لينتهبَ النبوّة من أخيه - عيسو -؛ حيث كان مُرشّحاً لها من قِبل أبيه، فأغفل يعقوب أباه إسحاق واستغلّ عَماه ليتصوّر أنّه عيسو فيبارك له بالنبوّة! في مثل هذا التلاعب الصبياني تذكر التوراة حادث انتقال النبوّة من إسحاق إلى يعقوب، يا لها مِن مهزلة حمقانيّة وإساءة أدب إلى ساحة أنبياء الله العظام! (٣)

____________________

(١) الأنبياء ٢١: ٧٤ و ٧٥.

(٢) الصافّات ٣٧: ١٣٣ - ١٣٥.

(٣) جاء في الإصحاح ٢٧ من سِفر التكوين:

وحَدَث لمـّا شاخ إسحاق وكلّتْ عيناه أنّه دعا عيسو ابنه الأكبر وقال: اخرج إلى البريّة وتصيّد لي صيداً، واصنع لي أطعمةً حتّى تباركَك نفسي قبل أنْ أموت، وكانت رفقة (زوجة إسحاق وأُمّ يعقوب) سامعةً إذ تكلّم إسحاق مع عيسو ابنه، فكلّمت يعقوب ابنها بما قال أبوه، قال: فالآن يا بني اذهب إلى الغنم وخذ جديَّينِ جيّدين مِن المعزى، فاصنعهما أطعمةً لأبيك كما يحبّ، فتُحضرها إليه ليأكلَ و يباركك قبل وفاته، فذهب يعقوب وأخذ وأحضر لأُمّه، فصنعت أطعمةً كما كان يُحبّ أبوه، وأخذت رفقة لباس عيسو الفاخرة وألبستها ابنها يعقوب، وألبست يديه وملاسة عُنقه جلود جديَي المعزى - لأنّ عيسو كان أشعر ويعقوب كان أملس - صنعت ذلك تلبيساً على إسحاق، وأعطت الأطعمة في يد يعقوب، فدخل إلى أبيه وقال: يا أبي فقال: ها أنا ذا، من أنت يا بني؟ فقال يعقوب: أنا عيسو بِكرُك، قد فعلتُ كما كلّمتني، قم اجلس وكل من صيدي لكي تباركَني نفسُك، فقال إسحاق: ما هذا الذي أسرعت؟ فقال: إنّ الربّ إلهك قد يسّر لي. فقال إسحاق: تقدّم لأَجُسّك يا بني، أَأنت هو ابني عيسو أم لا؟ فتقدّم يعقوب، فجَسّه وقال: الصوتُ صوت يعقوب، ولكنّ اليدين يدا عيسو، ولم يعرفه؛ لأنّ يديه كانتا مُشعرتين كَيَدي عيسو أخيه، فباركه وقال: هل أنت هو ابني عيسو؟ فقال: أنا هو؛ فدعا له إسحاق وقال ليُستعبد لك شعوبٌ، وتسجد لك قبائلٌ، كنْ سيّداً لإخوتك وليسجد لك بنو أُمّك، وعندما فرغ إسحاق من بركةِ يعقوب وخرج من عنده جاء عيسو وأتى بالصيد ليبارك له أبوه فارتعد إسحاق ارتعاداً عظيماً جدّاً، واتّضح الأمر، فصرخ عيسو صرخةً عظيمةً ومرّةً جدّاً، وقال لأبيه: باركني أيضاً، فقال: قد جاء أخوك بمَكرٍ وأخذَ بركتَك، ورفع عيسو صوته وبكى، وقال: قد أخذ يعقوب بكورتي وبركتي، وعزم على قتل أخيه؛ لولا فراره من وجهه واختفاؤه عند أخواله بإشارة من أُمّه رفقة، وهكذا أصبح يعقوب نبيّاً وأصبح إخوته عبيداً له.

٥٨

يعقوب يصارع الربّ

وكارثةً أُخرى ألصقوها بنبيّ الله يعقوب، وهي أنّه صارع الربّ ليلته كلّها، ولم يتركه حتّى ضربه الربّ على حقّ فخذه أي رأس ورِكه، فباركَه حتّى تركه يعقوب (١) .

أمّا القرآن فإنّه يصف إسحاقَ ويعقوب بأجمل وصف، وأنّهما من عباد الله الصالحينَ: ( وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ * وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الأَخْيَارِ ) (٢) .

( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) (٣) .

والآيات بترفيع شأن إبراهيم وبَنيه إسحاق ويعقوب وإسماعيل كثيرةٌ في القرآن، على العكس ممّا جاء في التوراة اليهوديّة، من الحطّ بكرامة الأنبياء (عليهم السلام).

خروج بني إسرائيل وتجاوزهم البحر

جاء في سِفر الخروج أنّ فرعون اضطرّ إلى إطلاق سراح بني إسرائيل؛ لِما أصاب القبطيّين من الجدب والبلاء، لكنّه فور ما أطلق سراحهم ندم على ذلك فأخذ هو وجنوده

____________________

(١) جاء في الإصحاح ٣٢ من سِفر التكوين رقم ٢٢ - ٢٩:

ثمّ قام في تلك الليلة وأخذ امرأتَيه وجاريتَيه وأولاده الأحد عشر، وعَبَرَ مخاضةَ يبوق، أخذهم وأجازهم الوادي وأجاز ما كان له، فبقى يعقوب وحده. وصارعه إنسان حتّى طلوع الفجر، ولمـّا رأى أنّه لا يقدر عليه ضرب حُقّ فَخِذه، فانخلع حُقّ فَخِذ يعقوب في مصارعته معه، وقال: أَطلقني؛ لأنّه قد طلع الفجر، فقال لا أُطلقك إنْ لم تباركْني. فقال له ما اسمك؟ فقال: يعقوب. فقال: لا يُدعى اسمك في ما بعد يعقوب، بل إسرائيل؛ لأنّك جاهدت مع الله والناس وقدرت، وسأل يعقوب وقال: أَخبرني باسمك. فقال: لماذا تسأل عن اسمي؟ وباركه هناك، فدعا يعقوب اسم المكان فنيئيل، قائلاً: لأنّي نظرت الله وجهاً لوجه.

(٢) ص ٣٨: ٤٥ - ٤٧.

(٣) الأنعام ٦: ٨٣ - ٨٨.

٥٩

يعقّبونهم ليردّوهم إلى الذلّ والعبوديّة الأُولى، غير أنّ بني إسرائيل ضلّوا الطريق إلى فلسطين - وكانت قريبةً - فأخذوا في الطريق البعيد، وتقول التوراة: إنّ الله هو الذي أَضلّهم كي لا يندموا إذا رأَوا حرباً فيرجعوا إلى مصر، فأَدركهم فرعون وهم على ضفّة البحر الأحمر، فلمـّا رأى بنو إسرائيل فرعونَ وجنودَه ذَعَروا وفَزِعوا إلى موسى، فأوحى الله إليه أنّهم ناجون وأنّ فرعون وجنوده سوف يغرقون، وحال بينهم وبين فرعون.

فأَمر الله موسى أنْ يضربْ بعصاه البحر ويشقّه، ففعل فأجرى الله بريحٍ شرقيّةٍ شديدة كلّ اللّيل، وجعل البحر طريقاً يابسةً وانشقّ الماء، فمشى بنو إسرائيل على اليابسة في وسط البحر والماء كالسور عن يمينهم وعن يسارهم وعبروا إلى الضفّة الأُخرى، ورآهم فرعون يسيرون على اليابسة فسار في أَثرهم، فلمـّا توسّط اليمّ وعَبر بنو إسرائيل جميعاً انطبق الماء على فرعون وجنوده فأُغرِقوا جميعاً ولم يبقَ منهم ولا واحد (١) .

ونصّت التوراة أنّ البحر الذي جاوزه بنو إسرائيل هو بحر سُوف (٢) ، والموضع الذي انشقّ منه كان عند فم الحيروث أتام بعل صفون (٣) ، وجاء في قاموس الكتاب المقدّس أنّه (القُلزم) (٤) .

و(فم الحيروث) مَضيق قُرب نهاية خليج السويس على ما جاء في خارطة الأراضي المقدّسة - مُلحق كُتب العهدَين.

وهكذا جاء في المأثور من دعاء (السِّمات) المعروف بدعاء (شبّور): (ويوم فَرَقتَ لبني إسرائيل البحر وفي المـُنبجسات التي صنعت بها العجائب في بحر سُوف...).

وقال العلاّمة المجلسي - في شرح الدعاء -: سمّاه الهروي في الغريبَين (إساف) قال: وهو الذي غَرِق فيه فرعون: قال المجلسي: وهذا البحر هو بحر القُلزم (٥) .

ولعلّ ما جاء في عبارة الدعاء (وفي جبل حوريث) (٦) ، أيضاً إشارة إلى (فم الحيروث).

____________________

(١) سِفر الخروج، إصحاح ١٠ - ١٤.

(٢) المصدر: ١٣ / ١٨، و ١٥ / ٥.

(٣) المصدر: ١٤ / ٩.

(٤) قاموس الكتاب المقدّس لجيمس هاكس، ص ٤٩٦.

(٥) بحار الأنوار، ج ٨٧، ص ١١٢.

(٦) بحار الأنوار، ج ٨٧، ص ١١٢.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ) (1) .

فهنالك الناس ذُهول، وعُميِّت عليهم الأنباء، ولا يسألُ حميمٌ حميماً، ولا يَتساءلون فيما بينهم، وهكذا لا يسأل أحدٌ أحداً عن ذنبه وعن شأنه الذي هو فيه.

أمّا وبعد أن أَخرجت الأرضُ أثقالَها، وَوضَعت الزلزلةُ أوزارها، وعاد الناس على حالتهم العادية وتفرّغوا للحساب فهناك السؤال والمـُؤاخذة، والتساؤل والتعارف، فاختلف الموقفان.

وهناك بعد انقضاء الحساب ودخول أهل الجنّة الجنّة ودخول أهل النار النار، يقع التساؤل والتعارف بينهم.

يقول تعالى عن المجرمين: ( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ * وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ * قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طَاغِينَ * فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ * فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ * فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ) (2) .

ويقول عن الصالحين: ( ...إِلاّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ..... فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ... ) (3) .

( إِلاّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ) (4) .

____________________

(1) الحج 22: 2.

(2) الصافّات 37: 22 - 34.

(3) الصافّات 37: 40 - 50.

(4) المدّثّر 74: 39 - 48.

٢٦١

( لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ)

سؤال:

قال تعالى ( لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ) (1) ، والبَلد هو البَلد الأمين مكّة المكرّمة، وقد أقسم به في سورة التين: ( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ ) (2) ، فكيف التوفيق؟

جواب:

قالوا بزيادة (لا) هنا ليكون معنى الكلام إثباتاً لا نفياً، وأن العرب قد تُدخل (لا) في أثناء كلامها وتُلغي معناها، وأنشدوا في ذلك أبياتاً، ونحن قد فنّدنا ذلك وذَكَرنا أنْ لا شاهد عليه في كلام العرب، فراجع (3) .

والصحيح أنْ يُقال: إنّ مورد الآيتَين مُختلف، فمرّة لا يُقسم ومرّة يُقسم باختلاف الموارد... إذ ليس المعنى في سورة البلد أنّه تعالى لا يُقسم أبداً بهذا البلد، بل لا يُقسم في موردٍ خاصّ - لوضوحه - وهو أنّ الإنسان خُلق في كَبَد... أمّا المعنى في سورة البلد فهو على القسم حيث أهمّية المورد (المـُقسم عليه) وهو أنّ الإنسان خُلق؛ ليكون رفيعاً لكنّه بيديه حطّ من شأن نفسه فارتدّ أسفل سافلين بسوء تدبيره وسوء عمله.

وهنا جواب آخر لعلّه أدقّ وهو: أنْ ليس المراد (في آية البلد) نفي الإقسام على الإطلاق، ليكون متنافياً مع الآية الأُخرى (في سورة التين)، بل هو نوع من القسم على الشكل السلبي، حيث عدم الحاجة إليه بعد وضوح الأمر وظهوره، وهو آكد في إثبات المطلوب بشكلٍ أدبيّ رائع.

والمعنى: إنّي لا أحلف، إذ لا حاجة إليه بعد وضوح الأمر، وهذا يعني أنّ الأمر مُتأكّد الثبوت بذاته واضحاً جليّاً من غير حاجة إلى إقامة حجّة ودليل.

فهو في حقيقته قسم، لكن بصورة سلبية هي آكد من صورة الإيجاب.

____________________

(1) البلد 90: 1 - 2.

(2) التين 95: 1 - 3.

(3) وللعلاّمة البلاغي تحقيق مستوف في ذلك: تفسير آلاء الرحمان، ج1، ص38 - 41.

٢٦٢

( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ)

سؤال:

قال تعالى: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) (1) .

ضَمِنَ تعالى أنْ لا يُعذّب العرب على قيد أحد شرطَين: حضور النبيّ بين أظهُرهم، أو استغفارهم هم؛ ومِن ثَمّ قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (كان في الأرض أمانان مِن عذاب اللّه، وقد رُفع أحدهما، فدونكم الآخر فتمسّكوا به، أمّا الأمان الذي رُفع فهو رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) وأمّا الأمان الباقي فالاستغفار)، ثمّ تلا الآية (2) .

لكن يَتعقّب الآية ما يُنافي ذلك ظاهراً، وقوله: ( وَمَا لَهُمْ أَلاّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاّ الْمُتَّقُونَ ) (3) ، فكيف التوفيق؟

جواب:

إنّ سياق الآيتَين يَدلّنا على اتصالِهما ونزولِهما معاً إحداهما تلو الأُخرى مباشرةً، الأمر الذي يستدعي وِئامَهما طبعاً وعدم تنافيهما؛ حيث المتكلّم النابه - فضلاً عن الحكيم - لا يتناقض في كلامه قيد تكلّمه، فزاعم التناقض واهمٌ في حَدسِه البتة.

على أنّه لا تهافت بين الآيتين حتّى بحسب الظاهر أيضاً، حيث الآية الأُولى إنّما تنفي فعلية العذاب وأنّه لا يقع لوجود المانع، أمّا الآية الثانية فناظرة إلى جهة الاقتضاء وأصل الاستحقاق، فهم مستحقّون للعذاب لتوفّر المقتضي فيهم، بصدّهم عن المسجد الحرام، وليسوا بأوليائه، وإنْ كانوا لا يُعذَّبون فعلاً مادام وجود المانع وهما الشرطان أو أحدهما، فلا مُنافاة بين وجود المقتضي ونفي الفعلية لمكان المانع، كما لا يخفى.

وقد ذكر الطبرسي في جواب المسألة وجوهاً ثلاثة:

أحدها: أنّ المراد بالأَوّل (نفي التعذيب) عذاب الاستئصال والاصطلام، كما وقع

____________________

(1) الأنفال 8: 33.

(2) نهج البلاغة، قصار الحكم، رقم 88، ص483.

(3) الأنفال 8: 34.

٢٦٣

بشأن الأُمَم الماضية، وبالثاني (وقوع التعذيب) عذاب القتل بالسيف والأسر بأيدي المؤمنين - كما في يوم بدر وغيره وأخيراً يوم الفتح - ولكن بعد خروج المؤمنين من بين أظهُرهم.

ثانيها: أنّه أراد: وما لهم أنْ لا يُعذّبهم اللّه في الآخرة، ويُريد بالأَوّل عذاب الدنيا، قاله الجبائي.

ثالثها: أنّ الأَوّل استدعاءٌ للاستغفار، يُريد أنّه لا يُعذّبهم بعذابٍ دُنياً ولا آخرةً إذا استغفروا وتابوا، فإذا لم يفعلوا عُذّبوا - وفي ذلك ترغيبٌ لهم في التوبة والإنابة - ثمّ إنّه بيّن وجه استحقاقهم للعذاب بصدّ الناس عن المسجد الحرام (1) .

( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ)

سؤال:

قال تعالى: ( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ) (2) .

وقال: ( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ) (3) .

وقال: ( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً ) (4) .

وقال: ( وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ) (5) .

هذا مع قوله تعالى بشأن المؤمنين: ( فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (6) .

____________________

(1) مجمع البيان، ج4، ص540.

(2) الأنبياء 21: 47.

(3) الأعراف 7: 8 و9.

(4) الإنشقاق 84: 7 و8.

(5) البقرة 2: 284.

(6) غافر 40: 40.

٢٦٤

وقوله: ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (1) .

وقوله بشأن الكافرين: ( الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ) (2) .

فكيف التوفيق؟

جواب:

ليس في القرآن ما ينفي المحاسبة وموازنة الأعمال، والآيات المـُستَند إليها إنّما تعني شيئاً آخر وهو: الرزق والأجر بما يَفوق الحساب، وكذا الذي حَبِطت أعماله، لا وزن له عند اللّه ولا مِقدار.

قال الطبرسي - عند قوله تعالى: ( وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (3) -: فيه أقوال:

أحدهما: أنّ معناه يُعطيهم الكثير الواسع الذي لا يَدخله الحساب مِن كثرته.

ثانيهما: أنّه تعالى لا يَرزق الناس في الدنيا على مقابلة أعمالهم وإيمانهم وكفرهم، وكذا في الآخرة لا يُثيبهم على قَدَرِ أعمالهم بل يَزيدهم فضلاً منه وإنعاماً.

ثالثها: أنّه تعالى يُعطي العطاء لا يؤاخذه عليه أحد، ولا يسأله عنه سائل، ولا يطلب عليه جزاءً ولا مُكافأة.

رابعها: أنّه يعطي العدد من الشيء الذي لا يُضبط بالحساب ولا يأتي عليه العَدَد؛ لأنّ ما يَقدر عليه غير متناهٍ ولا محصور، فهو يُعطي الشيء لا مِن عدد أكثر منه فينقص منه، كمَن يُعطي الألف من الألفين، والعشرة من المِئة، قاله قطرب.

خامسها: أنّ معناه يُعطي أهل الجنّة ما لا يَتناهى ولا يأتي عليه الحساب.

ثمّ قال رحمه اللّه: وكلّ هذه الوجوه جائز حسن (4) .

وقال الزمخشري - في تفسير قوله تعالى: ( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ

____________________

(1) الزّمر 39: 10.

(2) الكهف 18: 105.

(3) البقرة 2: 212.

(4) مجمع البيان، ج2، ص305 - 306.

٢٦٥

سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً ) -: (1) (ضلّ سعيهم) ضاع وبطل... وعن أبي سعيد الخدري: يأتي ناس بأعمالٍ يوم القيامة، هي عندهم في العِظَم كجبالِ تَهامة، فإذا وَزَنوها لم تَزن شيئاً، ( فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ) فنزدري بهم ولا يكون لهم عندنا وزن ولا مِقدار (2) .

وقال الطبرسي: أي لا قيمة لهم عندنا ولا كرامة، ولا نعتدّ بهم، بل نستخفّ بهم ونُعاقبهم، تقول العرب: ما لفلانٍ عندنا وزن أي قَدر ومَنزلة، ويُوصف الجاهل بأنّه لا وزن له؛ لخفّته بسرعة بطشه وقلة تثبّته، ورُوي في الصحيح: أنّ النبي (صلّى اللّه عليه وآله) قال: (إنّه ليأتي الرجلُ العظيمُ السَّمين يومَ القيامة لا يَزن جَناح بعوضة) (3) .

قال العلامة الطباطبائي: والوزن هنا هو الثِقل في العمل في مقابلة الخِفّة في العمل، وربّما تبلغ إلى مرتبة فَقْدِ الوزن رأساً.

وقال - في قوله تعالى: ( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ) (4) -: المراد أنّ الوزن الذي تُوزن به الأعمال يومئذٍ إنّما هو الحقّ. فبقَدَر اشتمال العمل على الحقّ يكون اعتباره وقيمته، والحسنات مُشتملة على الحقّ، فلها ثِقل، كما أن السيّئات ليست إلاّ باطلة فلا ثِقل لها، واللّه سبحانه يَزن الأعمال يومئذٍ بالحقّ، فما اشتمل عليه العمل مِن الحقّ فهو وزنه وثِقله (5) .

مواطن القيامة متفاوتة

سؤال:

هناك آيات تنصّ على أنّهم لا يَتكلّمون إلاّ صواباً (6) ونهوا أن يتخاصموا (7) بل وختم

____________________

(1) الكهف 18: 103 - 106.

(2) الكشّاف، ج2، ص749.

(3) مجمع البيان، ج6، ص497.

(4) الأعراف 7: 8.

(5) الميزان للطباطبائي، ج8، ص8 - 9.

(6) وهو قوله تعالى: ( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً ) النبأ 78: 38.

(7) وهو قوله تعالى: ( لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ) ق 50: 28.

٢٦٦

على أفواههم لتتكلّم أيديهم وتشهد أرجُلُهم بما كانوا يكسبون (1) .

الأمر الّذي يتنافى وقوله تعالى فيهم بأنّهم قالوا واللّه ما كنّا مشركين (2) فإنّه قول كَذِب بل ويمين كاذبة وقد أُذنوا بالتكلّم به!

وكذا مع قوله: ( إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ) (3) وقوله: ( ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ) (4) ، فقد تخاصموا لديه تعالى رُغم منعه سبحانه من ذلك! ثُمّ كيف يلتئم ذلك مع الختم على الأفواه؟!

جواب:

أولاً: إنّ مَن يتكلّم بالصواب في الآية الأُولى هم الملائكة أو المؤمنون، والكلام الصواب هنا هي الشفاعة بالحقّ على ما ذَكَره المفسّرون، وفي الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) وقد سُئل عن هذه الآية قال: (نحن واللّه المأذون لهم يوم القيامة، والقائلون صواباً: نُمجّد ربّنا ونُصلّي على نبيّنا ونَشفع لشيعتنا) (5) .

وثانياً: مواطن القيامة متفاوتة ومواقفها متنوّعة، فقوله ( لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ ) (6) خطاب إلى الكَفّار العنيد وقرينه الشيطان الذي أغواه، حيث يقول الشيطان: ( رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ) (7) ، ويحاول الكافر أنْ يَجعل اللّوم على الّذي أغواه، فكان النهي موجّهاً إليهم: لا تختصموا لديَّ بل اجعلوا بأسَكم بينكم فليس منعاً عن التخاصم على الإطلاق.

غير أنّ هذا التخاصم والتشاجر والمنع منه لديه سبحانه إنّما هو بعد الفراغ من الحساب وفي مقام الاعتذار بعد الاعتراف بالاقتراف، أمّا الختم على الأفواه فهو عند الحساب وفي أثنائه حيث يحاولون الإنكار رأساً، فتتكلّم أيديهم وتشهد أرجُلُهم بما

____________________

(1) وهو قوله تعالى: ( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) ، يس 36: 65.

(2) وهو قوله تعالى: ( وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ * ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاّ أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ) ، الأنعام 6: 22 - 23.

(3) ص 38: 64.

(4) العنكبوت 29: 25.

(5) رواه العيّاشي حسبما ذكره الطبرسي في مجمع البيان، ج10، ص427.

(6) ق 50: 28.

(7) ق 50: 27.

٢٦٧

اقترفوه، فالمـَواطن مُختلفة والمواقف متعدّدة:

فالموطن الأَوّل: موطن المـُداقّة في الحساب، (يختم على أفواه أهل الإلحاد والإنكار).

والموطن الثاني: موطن الفراغ من الحساب، (يتخاصم فيه أهل النار).

والموطن الثالث: موطن الشفاعة لأهل الإيمان، (موطن النُطق بالصواب).

ولكلِّ موطن مناسبتُه وشأنُه.

هكذا يُحمل على اختلاف المواطن ما وَرَد من قوله ( وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ) (1) ، مع قوله:) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ) (2) ، وقوله ( فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ ) (3) .

( اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا)

سؤال:

قال تعالى: ( اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ) (4) .

وقال: ( وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ ) (5) .

وقال: ( قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) (6) .

وقال: ( تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ) (7) .

وقال: ( تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ) (8) .

جواب:

اللّه خالق الموت والحياة، ومَلَك الموت هو الآمر الأَوّل، والملائكة أعوانه المباشرون (9) .

____________________

(1) المرسلات 77: 36.

(2) غافر 40: 52.

(3) الروم 30: 57.

(4) الزمر 39: 42.

(5) الأنعام 6: 60.

(6) السجدة 32: 11.

(7) الأنعام 6: 61.

(8) النحل 16: 28.

(9) راجع: البرهان، ج2، ص64.

٢٦٨

( وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً)

سؤال:

قال تعالى: ( يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً ) (1) .

فقد أخبر تعالى عنهم بأنّهم لا يَكتمون لديه حديثاً... وهذا يتنافى ظاهراً وقوله في موضع آخر: ( ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاّ أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ) (2) فقد كتموا إشراكَهم!

الجواب عن ذلك من وجهين:

الأوّل: أنّ قوله ( لا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً ) داخل في التمنّي، أي يَودّون لو كانوا لم يَكتموا حديثاً في الدنيا بشأن الرسالة والإسلام، أو لم يَكتموا في الآخرة كفرَهم في الدنيا، حيث قولهم: ( وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُـشْرِكِينَ ) ، وذلك باختلاف الموقف، ففي الوَهلة الأُولى كَتموا، وفي الثانية تمنّوا لو لم يكتموا...

الثاني: أنّهم لا يَستطيعون الكتمان؛ حيث تشهد عليهم أرجُلُهم وأيديهم بما كانوا يَكسبون.

مضاعفة العذاب

سؤال:

قال تعالى: ( وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ) (3) .

لكنّه في موضع آخر قال: ( يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ ) (4) ...؟!

جواب:

المـُجازاة بالمِثل خاصّة بالدنيا في مثل القِصاص والعقوبات الجزائيّة، والآية الأُولى واردة بهذا الشأن.

____________________

(1) النساء 4: 42.

(2) الأنعام 6: 23.

(3) الشورى 42: 40.

(4) هود 11: 20.

٢٦٩

أمّا مُضاعفة العذاب ففي الآخرة على حسب مراتب الكبيرة التي ارتكبَها أهلُ الكبائر، والآثار التي خلّفتها تلك الكبيرة المـُوبقة في الأوساط الاجتماعيّة حين الارتكاب وبعدها، ومورد الآية هم الذين كانوا يَصدّون عن سبيل اللّه ويبغونها عِوجاً وهم بالآخرة هم كافرون؛ ومِن ثَمّ يُضاعف لهم العذاب.

التكليم من وراء حجاب

سؤال:

قال تعالى: ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ) (1) .

كيف يلتئم وقوله: ( وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً ) (2) ، وقوله: ( وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا ) (3) حيث وقع التكليم مباشرةً؟!

جواب:

لم تنفِ الآية الأُولى التكليم رأساً، وإنّما نَفَته على الطريقة المعهودة بين الناس حيث يقع مشافهةً، نعم تكليمه تعالى يقع على طرائق ثلاث:

1 - إمّا وحياً وهو النَفث في الرَوع، فيتلقّى النبيّ بشخصيّته الباطنة ما يُلقيه إليه وحي السماء، وهو نوع مِن الإلهام خاصّ بالأنبياء والرسل.

2 - أو بإسماع الصوت من غير أن يُرى شخص المتكلّم، كأنّه يتكلّم من وراء حجاب، وهذا بِخَلقِ التموّج الصوتي في الهواء ليَقرع مسامع النبيّ فيستمع إليه، ولكنّه لا يُرى المتكلّم وإن كان يسمع صوته؛ ومِن ثَمّ وقع التشبيه من وراء حجاب. وهذا هو الذي وقع مع موسى النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله).

3 - أو بإرسال رسول - ملك الوحي - وهو جبرائيل (عليه السلام)، فيُلقي ما تلقّاه وحياً على

____________________

(1) الشورى 42: 51.

(2) النساء 4: 164.

(3) الأعراف 7: 22.

٢٧٠

النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله)، والأكثر ولعلّه الشامل من الوحي القرآني هذا النوع الأخير.

والتكليم والنداء في الآيتَين هُما من النوع الثاني أي التكليم من وراء حجاب، إذن فلا منافاة.

نظرة أو انتظار؟

سؤال:

قال تعالى: ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) (1) ، وقال: ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ) (2) .

قالوا: كيف يلتئم ذلك مع قوله: ( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ) (3) . ( وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ) (4) ، في حين أنّ مَن رأى الشيء وحَدّق النظر إليه فقد أَدركه ببصره وأحاط به علمه؟!

جواب:

هناك فَرق بين نظر رؤية ونظر انتظار وتوقّع، فيومئذٍ تكون الأنظار إليه سبحانه لكنّها نظرة توقّع وانتظار عَميم رحمته، ولا نظر إلاّ إليه (عظمت آلاؤه)، فالنظر إنّما هو إلى ربّهم كيف يُثيبهم؟ وإلى ما وَعَدهم مِن المثوبة في جنّة عدن.

قال الزمخشري: و(الناظرة) مِن نضرة النعيم، ( إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) تنظر إلى ربّها خاصّة ولا تنظر إلى غيره، والمراد: نظر توقّع ورجاء، كقولك: أنا إلى فلان ما يَصنع بي، تُريد معنى التوقّع والرجاء، ومنه قول القائل:

وإذا نظرتُ إليك من مَلِكٍ

والبحرُ دونك زدتني نِعَماً

قال: وسمعت سَرَويَّة مُستجدية بمكّة وقت الظهيرة حين يُغلق الناس أبوابهم ويأوون إلى مقائلهم تقول: عُيَينَتي نُوَيظرة إلى اللّه وإليكم، أي رجائي إلى اللّه وإليكم.

فمعنى الآية: أنّهم لا يتوقّعون النعمة والكرامة إلاّ من ربّهم، كما كانوا في الدّنيا لا يَخشون ولا يرجون إلاّ إيّاه (5) .

____________________

(1) القيامة 75: 22 و23.

(2) النجم 53: 13 و14.

(3) الأنعام 6: 103.

(4) طه 20: 110.

(5) الكشّاف، ج4، ص662 بتصرّف.

٢٧١

وأمّا الآية من سورة النَّجم فالمـُراد: رؤية جبرائيل على صورته الأصليّة؛ حيث وقعت لمـُحمّد (صلّى اللّه عليه وآله) مرّتَين، مرّة عند التبشير بنبوّته، ومرّة أُخرى في المعراج عند سورة المنتهى.

التناسي أو النسيان

سؤال:

قال تعالى: ( فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا ) (1) ، وقال: ( نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ) (2) .

كيف يلتئم ذلك مع قوله: ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً ) (3) ، وقوله: ( لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى ) ؟! (4) .

جواب:

النسيان في الآيتَين الأَوّليتَين هو التناسي والتغافل، أمّا المنفّي في الآيتَين الأخيريتَين فهي الغفلة والنسيان حقيقة.

والنسيان - بمعنى التناسي - في القرآن، كما في قوله تعالى: ( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ) (5) أي تناسى العهد ولم يأخذ بجدٍّ؛ إذ لو كان نَسيَ حقيقةً لكان معذوراً، إذ لا مؤاخذة على التناسي عقلاً ولا لوم عليه.

وقوله: ( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ ) (6) أي تَغافلوا حضورَه تعالى في الحياة؛ ومِن ثَمَّ تغافلوا ولم يأخذوا كرامة الإنسان بجدّ.

فقوله تعالى: ( قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ) (7) يعني نَبَذتَ آياتنا وراء ظهرك ولم تأخذها بجدٍّ، فكذلك اليوم تُنسى ولا تَشملك العناية الإلهيّة.

كما في قوله تعالى: ( فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً ) (8) أي استهانوا بشأن الكتاب واستعاضوا به مَتاع الحياة الدنيا القليل، وهو مِن التغافل في الأمر والتساهل فيه وليست حقيقة الغفلة.

____________________

(1) الأعراف 7: 51.                                   (2) التوبة 9: 67.

(3) مريم 19: 64.                                      (4) طه 20: 52.

(5) طه 20: 115.                                    (6) الحشر 59: 19.

(7) طه 20: 126.                                     (8) آل عمران 3: 187.

٢٧٢

وهكذا جاء في الجواب فيما نُسب إلى الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قال:

(أمّا قوله: ( نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ) فإنّما يعني: نَسوا الله في دار الدنيا، لم يَعملوا بطاعته، فنَسَيهم في الآخرة أي لم يَجعل لهم في ثوابه شيئاً، فصاروا منسيّينَ من الخير، وقد يقول العرب: قد نَسيَنا فلان فلا يَذكُرُنا، أي إنّه لا يَأمر لنا بخير ولا يَذكُرُنا به، وأمّا قوله: ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً ) فإنّ ربّنا تبارك و تعالى ليس بالذي يَنسى ولا يَغفل بل هو الحفيظ العليم) (1) .

كسب التأنيث والتذكير

سؤال:

قال تعالى: ( وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ) (2) .

وقال: ( وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ) (3) .

كيف جاء الوصف وكذا الضمير في الآية الأُولى مُذَكّراً، وفي الآية الثانية مُؤنّثاً في حين وحدة السياق؟!

جواب:

المضاف إلى مؤنّث إن كان يجوز حذفه ولا يُخلّ حذفُه بمَفاد الكلام يجوز في وصفه التذكير والتأنيث، قال ابن مالك:

وربّما أكسبَ ثانٍ أَوَّلاً

تأنيثاً إن كانِ لحذف مُوهَلاَ

فإنّ المضاف المـُذَكّر قد يَكتسب التأنيث من المضاف إليه المؤنّث بشرط جواز حذفه من غير إخلال بمَفاد الكلام، كما قال الأعشى:

وَتَشرِقُ بالقول الذي قد أَذعتَه

كما شَرِقَت صدرُ القناة مِن الدمِ

فتأنيث الفعل (شرقت) المسند إلى (صدر) إنّما هو باعتبار كسبه التأنيث من

____________________

(1) كتاب التوحيد للصدوق، ص259 - 260.

(2) السجدة 32: 20.

(3) سبأ 34: 42.

٢٧٣

المضاف إليه، فلو قُدّر حذفه لم يختلّ مَفاد الكلام.

وجاء عكسه في قول الآخر:

رؤية الفكرِ ما يؤولُ له الأمرُ

مُعينٌ على اجتناب التَواني

وقال غيره:

إنارةُ العقلِ مكسوفٌ بطوعِ هوىً

وعقلُ عاصي الهوى يَزداد تَنويراً

فالضمائر الراجعة إلى المضاف - وهو مؤنّث - في البيتَين، إنّما رُوعي فيها جانب المضاف إليه المـُذَكّر، باعتبار أنّ حذف المضاف في مثل هذا الكلام غير مُخلّ بمفاده.

وهكذا في الآية الكريمة يَجوز في وصف العذاب المضاف إلى النار مُراعاة التذكير على الأصل، كما في الآية من سورة السجدة، وكذا مراعاة التأنيث باعتبار إضافته إلى النار، كما في الآية من سورة سبأ.

وكِلا الأمرَين جائز، كما قال ابن مالك: (وربّما أكسب ثانٍ أوَّلاً تأنيثاً...)، وليس دائماً ولا ضرورة.

* * *

هذا بناءً على كون الوصف نعتاً للمضاف في كلتا الآيتَين؛ نظراً لوحدة السياق فيهما.

وربما فرّقوا بين الآيتَين فجعلوا الوصف نعتاً للمضاف في الآية الأُولى، وللمضاف إليه في الآية الثانية، وعلّلوا ذلك باختلاف الموجب:

قال الزركشي: جاء في سورة السجدة بلفظ (الذي) على وصف العذاب، وفي سورة سبأ بلفظ (التي) على وصف النار. وذلك لوقوع (النار) في سورة السجدة موقع الضمير الذي لا يُوصف، وإنّما وقعت موقع الضمير لتقدّم إضمارها في قوله: ( أَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ ) (1) .

____________________

(1) السجدة 32: 20.

٢٧٤

فحقّ الكلام أنْ يُقال: (وقيل لهم ذوقوا عذابها...) فلمـّا وضعها موضع المضمر الذي لا يقبل الوصف عَدَل إلى وصف العذاب.

وأمّا في (سبأ) فوَصَفَها لعدم المانع مِن وصفِها (1) .

* * *

وربّما ذهبوا إلى أنّه وصفٌ للنار في كلتا الآيتَين، وجاء التذكير في سورة السجدة على معنى (الجحيم) أو (الحريق) (2) .

وهنا وجوه استحسانيّة لا نُطيل بذِكرها فليراجع مظانّها (3) .

فرعون يُقتّل أبناء إسرائيل قبل بعثة موسى أم بعدها؟

جاء في آيات من سورة غافر (4) وسورة الأعراف (5) ما يَدلّ على أنّ فرعون هَمَّ بقتل أبناء إسرائيل واستحياء نسائهم بعد أنْ بُعث موسى (عليه السلام) ودعاه إلى الإيمان.

وفي سورة القصص (6) وسورة طه (7) وإبراهيم (8) والأعراف (9) والبقرة (10) ما يدلّ على أنّ ذبح الأبناء واستحياء النساء كان قد وقع من قبل.

كان فرعون قد أَمر بقتل الذُكور من مواليد بني إسرائيل مِن قبل؛ خوفاً من ظهور نبيّهم موسى (عليه السلام) وقد خاب ظنّه، لكنّه بعد أنْ ظهرت نبوّته وقام في وجهه مُهدّداً له

____________________

(1) البرهان، ج2، ص63 - 64.

(2) إملاء ما مَنَّ به الرحمان لأبي البقاء العكبري، ج2، ص190.

(3) ذكر الزركشي وجوهاً أربعة، وقد ذَكَرنا اثنين منها، راجع: البرهان، ج2، ص63 - 64.

(4) ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ ) . غافر 40: 23 - 25.

(5) ( وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ) . الأعراف 7: 127.

(6) ( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) . القصص 28: 4.

(7) ( أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ ) . طه 20: 39.

(8) ( إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ) .إبراهيم 14: 6.

(9) ( وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ) . الأعراف 7: 141.

(10) ( وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ) . البقرة 2: 49.

٢٧٥

- ولا سيّما بعد أنْ آمن السَحَرة - خاف ازدياد قوّة موسى وقومه والنجدة بالأبناء، فحاول كسر شوكتِهم بالقتل في الأبناء واستعباد النساء، لكنّه لم يُساعده الحظّ؛ حيث أَهلَكَهم اللّه.

قال الطبرسي عند تفسير الآيات من سورة غافر: أُمروا بقتل الذُكور من قوم موسى؛ لئلاّ يكثر قومه ولا يتقوّى بهم، وباستبقاء نسائهم للخِدمَة، وهذا غير القتل الأَوّل؛ لأنّه أمر بالقتل أَوّلاً لئلاّ ينشأ منهم مَن يزول مُلكُه على يده، ثُمَّ ترك ذلك لمـّا أنْ تيقّن ولادة موسى، ولا فائدة في ذبح الأبناء، لكنّه بعد أن ظهرت نبوّة موسى وقام في وجهه مهدِّداً له حاول العَودَ إلى القتل ثانياً؛ حتّى لا تكون فيهم نجدة وقوّة، لكنه تعالى حال دون بلوغ أُمنيّته وأَخذهم بالبلاء والعذاب (1) .

التقدير أَزلاً أم في ليلة القَدر؟

قد يَزعم البعض أنّ في ذلك تناقضاً في القرآن، فتارةً يُرى من تقدير الأُمور مُثبتاً في اللوح المحفوظ ( فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا ) (2) ، وأُخرى تقديرها في ليلة القَدر لكلّ عام ( فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) (3) .

قلت: ليس التقدير ممّا يختلف وإنّما يختلف العلم به، فالّذي يعلم تقدير الأمور ومجاريها أَزلاً وفي اللوح المحفوظ هو اللّه وحده لا شريك له، وأمّا الذي يتنزّل به ويُطلع أولياءه عليه فهو في ليلةٍ مباركةٍ هي ليلة القدر من شهر رمضان من كلّ عام. يتنزّل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كلّ أمر، يتنزّلون بتقادير الأمور على الحجّة القائم مِن أوليائه؛ ليُطلعه على مجاري الأُمور عامّة ذلك، وبذلك تواترت روايات أئمة أهل البيت الصادقين (عليهم السلام) ومِن ثمَّ فإنّ عِلمـَهم الحتم بمجاري الأُمور محدود بعامِهم، دون علم اللّه المحيط الشامل (4) .

____________________

(1) راجع: مجمع البيان، ج4، ص465، وج 8، ص520.

(2) الحديد 57: 22.

(3) الدخان 44: 4، راجع: هاشم العربي في ملحق ترجمة كتاب الإسلام، ص384 - 385.

(4) راجع: الكافي، ج1، ص242 - 253.

٢٧٦

والدليل على ذلك أنّ الوارد في سورَتي الدخان والقَدْر هو النزول والتفريق، وليس أصل التقدير، فتدبّر جيّداً.

فاللّه تبارك وتعالى يعلم تقدير الأُمور حسب مجاريها عِلماً في الأَزل، لكنّه تعالى يُنزل بهذا التقدير في كلّ ليلة قدر بشأن تفريقه طول ذلك العام، الأمر الذي لا يبدو عليه أيّ شبهة تناقض.

متى وقع التقدير؟ وهل لا يتنافى التقدير مع الاختيار؟

جاء في سورة الدخان أنّ التقدير إنّما يقع في كلّ ليلة قَدْرٍ مِن شهر رمضان في كلّ سنة ( فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) (1) . وقد وردت روايات أيضاً بأنّ ما يقع في تلك السنّة إنّما يُقدَّر في ليلة القدر.

هذا، في حين كَثرة الآيات والروايات بأنّ التقدير إنّما وقع في الأَزل، وتجري الأمور حسبما قُدّرت في اللّوح المحفوظ من غير تخلّف ولا تبديل، ( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا ) (2) ، ( وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاّ فِي كِتَابٍ ) (3) .

على أنّ هذه الآيات تَرمي إلى سلب مسؤوليّة الإنسان عمّا يفعله؛ حيث إنّه كان مُقدّراً من قبل، وهذا يتنافى وقوله تعالى: ( وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً ) (4) .

أمّا المسألة الأُولى: فقد سَبَق البحث عنها في مسألة البداء وأنّ هناك تقديرَين، تقديرٌ ظاهري حسب مجاري الأمور الطبيعيّة من عللٍ وأسبابٍ تتفاعل حسب طبيعتها الأُولى، وهي السُنَن الساطية على الكون ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) (5) .

وهذه السُنَن ليست حتميّة، في حين كونها هي الغالبة، حيث احتمال مفاجئة أُمور

____________________

(1) الدخان 44: 4.

(2) الحديد 57: 22.

(3) فاطر 35: 11.

(4) الإسراء 17: 13.

(5) القمر 54: 49.

٢٧٧

طارِئة من خارج مَدارات السُنَن فتُغيّر من اتجاهاتها أحياناً، الأمر الذي لا يَعلمه إلاّ اللّه وكان مُقدّراً أي معلوماً لديه تعالى في الأَزل، خافياً عن أعين الخلائق إلاّ مَن علّمه اللّه، وهذا هو التقدير المكنون في اللوح المحفوظ، ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ ) (1) .

فالأَجل الأَوّل هو الذي تقتضيه مجاري الأمور الطبيعيّة حسب السُنَن الجارية في الخَلق، وهذا ليس بحتم، أمّا الأَجل الآخر الحتمي فهو الذي عَلِمَه اللّه في الأَزل حسب الأسباب الطارئة الخافية عن غيره تعالى، ( لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (2) .

روى الصدوق بإسناده إلى الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (وهل يَمحو اللّه إلاّ ما كان؟ وهل يُثبت إلاّ ما لم يكن؟) (2) .

فهناك تغيير وتبديل على خلاف مجاري الأُمور، لا يَعلمه إلاّ اللّه عِلماً كائناً في الأَزل.

قال الإمام الباقر (عليه السلام): (من الأُمور أُمور موقوفة عند اللّه، يُقدّم منها ما يشاء ويُؤخّر منها ما يشاء ويُثبت منها ما يشاء) (4) ، أي: من الأمور ما هي موقوفة - في جريانها حسب العادة الطبيعيّة - على شرائط، إنْ وُجدت جرت، وإلاّ تخلّفت، فحصول هذه الشرائط في وقتها أو عدم حصولها شيء لا يعلمه إلاّ اللّه.

فالعلم بالتقادير الحتميّة الأَزليّة خاصّ اللّه تعالى، أمّا غيره تعالى من الملائكة المقرّبين والمدبِّرات أمراً وكذا المـُصطَفون من عباد اللّه المـُكرمينَ فلا عِلم لهم بسِوى مُقتضيات السُنَن الطبيعيّة في مجاري الأمور، والتي هي بمَعرض البَداء والتبديل، أمّا حتميّتها فهذا شيءٌ إنّما يعرفونه في كلّ ليلة قدرٍ من كلّ سنةٍ وفي محدودة عامِها فحسب.

قال الإمام الصادق (عليه السلام): (إنّ للّه عِلمـَينِ، عِلمٌ مكنونٌ مخزونٌ لا يَعلمه إلاّ هو، من

____________________

(1) الأنعام 6: 2.

(2) الرعد 13: 38 - 39.

(3) كتاب التوحيد للصدوق، ص333، رقم 4.

(4) بحار الأنوار، ج4، ص116 - 117، رقم 44.

٢٧٨

ذلك يكون البداء، وعِلم علّمه ملائكتَه ورسلَه وأنبياءَه، فنحن نعلمه) (1) ، وقد عنى بهذا العلم الذي تَعلمه الملائكة والأنبياء والأئمّة هو العِلم وِفق مجاري الأمور الطبيعيّة، والتي يُمكن التخلّف فيها؛ ومِن ثَمَّ قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (واللّه لولا آية في كتاب اللّه لحدّثتُكم بما يكون إلى يوم القيامة، وهي قوله تعالى: ( يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) ) (2) .

* * *

وأمّا المسألة الثانية: هل لا يتنافى التقدير مع الاختيار؟ فقد استوفينا الكلام عنها عند البحث عن مسألة الاستطاعة والاختيار، وتَبيّن أنّ التقدير السابق لا يَعدو سوى العِلم بما سيقع وتقديره حسبما يقع، من غير أن يكون العِلم السابق ذا أثرٍ في تحقّق المعلوم، فإنّ للظواهر الكونيّة عِللاً وأسباباً تكوينيّةً هي التي تُؤثّر في الفعل والانفعال التكوينيّينِ، كما أنّ للأفعال الاختياريّة الصادرة من الفاعل المختار (الحيوان والإنسان) سبباً مباشراً هي إرادته بالذات وليس مقهوراً فيها.

فإذا كان اللّه يعلم - أَزلاً - ماذا سيقع وسيتحقّق عِبر الأبد ثُمّ قدّر مجاريها ودبّر من شؤونها بما يتوائم ونظام الكون فهذا لا يعني الإجبار، ولا سيّما فيما يَعود إلى أعمالٍ يقوم بها الإنسان حسب إرادته واختياره، وليس مِن المنطق أن يُفرض العلم بأمرٍ علّةً لوجوده.

والتقدير السابق، إنّما هو العِلم بالأسباب والمسبّبات - كما هي - ثمّ تدبير مجاريها حسب نظام الكون، فلا هناك جَبر ولا سلب للمسؤوليّة فيما يَمسّ أفعال العباد الاختياريّة.

( إِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وَارِدُهَا)

قال تعالى: ( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً ) (3) ، والخطاب عامّ يشمل

____________________

(1) الكافي للكليني، ج1، ص147، رقم 8.

(2) بحار الأنوار، ج4، ص97، رقم 4 و5، والآية 38 من سورة الرعد.

(3) مريم 19: 71.

٢٧٩

المؤمن والكافر، وبدليل ما بعد الآية: ( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً ) (1) ، حيث قوله: ( وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا ) ، أي الجميع يَرِدُونها فيخرج المؤمن ويُترك الظالم بحاله.

الأمر الذي يتنافى وقوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا ) (2) ، فيكف الوئام؟!

وقد ذَكَر المفسّرون هنا وجوهاً، أوجهُها - ما عن ابن مسعود والحسن وقتادة واختاره أبو مسلم - أنّه بمعنى الإشراف عليها ليَشهدوا ذلك العرض الرهيب، فالمؤمنون يَجوزونها ويَدنون منها ويَمرّون بها وهي تتأجّج وتتميّز وتتلمـّظ، ويَرَون العتاة ينزعون فيقذفون فيها.

قال تعالى: ( فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ ) لن يكونوا لوحدِهم بل ( وَالشَّيَاطِينَ ) الذين هم قادتُهم، وبينهما صلة التابع والمتبوع والقائد والمـَقود، ( ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً ) جاثين على رُكَبِهم في ذلّ وفَزَع، ( ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً ) ، فلا يُؤخذ أحدٌ جُزافاً من تلك الجُموع المتكاثفة، ( ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً ) ليكونوا طليعةَ المقذوفينَ فيها.

وبعد، فيأتي دور المؤمنينَ الذين سَبَقت لهم مِن اللّه الحُسنى، فيأتي زَرَافات منهم، يَمرّون بهذا المشهد الرهيب، فيُزَحزَحون عنها وفي منجاةٍ منها يَجوزونه ( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا ) أي نجعلهم في منجاةٍ منه ( وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً ) (3) أي نَدعهم جاثمين على رُكَبِهم على شفا جُرُفٍ هارٍ؛ لينهار بهم في نار جهنّم.

فقد كان المـُراد بالورود هنا هو الإشراف عليها، كما في قوله تعالى: ( وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ ) (4) ، وقوله: ( فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ ) (5) ، إذ ليس المـُراد من الورود هنا الدخول، بل الدنوّ والاقتراب، قال الراغب: الورود، أصله قَصْدُ الماء، ثُمّ يُستعمل في غيره (6) قوله: ( وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ ) أي قَصَدَه واقترب منه. والوارد: الذي

____________________

(1) مريم 19: 72.

(2) الأنبياء 21: 101 - 102.

(3) مريم 19: 68 - 72.

(4) القصص 28: 23.

(5) يوسف 12: 19.

(6) المفردات، ص519.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578