شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم10%

شبهات وردود حول القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 578

شبهات وردود حول القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 578 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 297349 / تحميل: 13673
الحجم الحجم الحجم
شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

شُبُهَات وردود

حول القرآن الكريم

تأليف: الأُستاذ محمّد هادي معرفة

تحقيق: مؤسّسة التمهيد - قم المقدّسة

١

٢

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وسلامٌ على عباده الّذين اصطفى مُحمّدٍ وآله الطّاهرين

( ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ )

وبعد، فقد صدق الله وَعدَه إذ قال: ( وَإِنّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) (١) .

كان القرآن مُنذ أوّل يومه ولا يزال موضع عناية ذوي الأحلام الراجحة، والنّفوس الطيّبة، مِن علماء ونُبهاء مُلئت بهم الآفاق، كما كان مطمحُ غواية ذوي الأحقاد الرّديئة والأنفس الخبيثة، لم ترعهم شاكلة القرآن الوضيئة، فطَفِقوا يناوئونه في محاولة مستمرّة لغرض الحطّ مِن كرامته الرّفيعة، أو النّقص من دعائمه القويمة وهيهات ( وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (٢) .

وكان مِن مضاعفات تلكمُ المحاولات الفّاشلة، أنْ تراكمت هنّاك (في غياهب التيه) شُبُهاتٍ، هي ظلماتٌ بعضها فوق بعض ( وَمَن لّمْ يَجْعَلِ اللّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ ) (٣) .

____________________

(١) فصّلت ٤١: ٤١ - ٤٢.                           (٢) التوبة ٩: ٣٢.

(٣) النور ٢٤: ٤٠.

٣

والشّبُهات حول القرآن - في قديمها أو الحديث مِنها - تتنوّع إلى أنحاء:

١ - مِنها ما يعود إلى التشكيك في كونه وحياً مباشريّاً، تلقّاه نبيُّ الإسلام من ملكوت أعلى، إمّا لعدم إمكانه؛ نظراً لعدم التّوائم بين عالمـَينِ أحدهما أعلى لطيف والآخر أسفل كثيف! وقد أجبنا على ذلك (١) بإمكان الاتّصال بالجانب الرّوحانيّ - حقيقة الإنسان الذاتيّة - مِن الإنسان، إذا كان قد بلغ الكمال واستعدّ روحيّاً للاتصال بالملأ الأعلى.

وإمّا لزعم أنّها مُلتقطات التقطها نبيُّ الإسلام من أفواه الرجال - أهل الكتاب -، كان يلتقي برجال من أهل الدّيانات المعروفة في جزيرة العرب، في رحلاته وأسفاره إلى مختلف البلاد، بل وفي مكّة والحجاز مِمَن آوى إليها من المعتنقين للمسيحيّة، وأبناء اليهود. ( قَالُوا أَسَاطِيرُ الأُوّلِينَ أكْتَبتَهَا فَهِيَ تُمْلَى‏ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) (٢) .

أضف إليه ما كان يَستلهم من صميم وعيه المـُطعّم بإيحاءات البيئة الّتي كان يعيشها، كان يَستوحيها من داخل ضميره عندما يختلي بنفسه في غار حِراء، فكان يَستصفي أحسنَ ما تلقّاه، ليُبديه وحْياً من الله، وقرآناً نازلاً من السماء.

هكذا فرضوا فيما زعموا من غير بُرهانٍ أتاهم وسنفصّل الكلام في ذلك.

٢ - ومنها زَعْمُ التأثّر بالبيئة وثقافات جاهليّة كانت ساطيةً حينذاك.

حسبوا أنّ في القرآن الشيء الكثير من رسوم وعادات بائدة، كانت قد تَعارفها العرب، وربّما البشريّة يومذاك، وقد خَضع لها القرآن في كثير مِن تعاليمه وبرامجه، والّتي منها ما يبدو غليظاً أو شديداً، أو متجافياً للحكمة ويتعافاه العقل الرشيد، فيما تقدّمت رَكْبُ البشريّة فيما بعد، وأخذوا من عقوبات الإسلام دليلاً على ذلك فيما وهموا!

٣ - ومنها ما حَسِبوه متهافتاً مِن إيهام التّناقض في القرآن، ولو كان مِن عند الله لم يوجد فيه هذا الاختلاف!، هكذا حسبوا حسابهم لا عن مُداقّة!

٤ - ومنها احتمال وجود اللحن في القرآن، إمّا تأريخيّاً أو أدبيّاً، أو متنافياً مع بداهة العلم، فيما توهّموا عِبر الخيال!

____________________

(١) في الجزء الأَوّل من التمهيد.                                    (٢) الفرقان ٢٥: ٥.

٤

٥ - ومنها احتمال التحريف في نصّه الكريم، والّذي يُذْهِب بحجيّته وإمكان الاستناد إليه، فيما حسبه أهل الظاهر المقلّدة، ممّن كانت تهمّهم الرواية وتُعوزهم الدراية!

إلى غير ذلك من تساويل شيطانيّة، حِيكت حول هذا الكتاب الإلهي العزيز الذي ( لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِه تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) (١) . ومُنذ أمد غير قصير قُمنا بجمع تلك السفاسف والأقاويل، لنأتي عليها بما أوتينا من حول وقوّة ( مَا تَذَرُ مِن شَيْ‏ءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاّ جَعَلَتْهُ كَالرّمِيمِ ) (٢) وهو توفيق ربّاني نَحمده عليه.

ولننظر فيما سطّروه بهذا الصدد تِباعاً حسبَ الترتيب.

____________________

(١) فصّلت ٤١: ٤٢.                                  (٢) الذاريات ٥١: ٤٢.

٥

الباب الأول

هل للقرآن من مصادر؟

( إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى )

سؤالٌ أثارته شاكلة المستشرقين الأجانب

لكنّه رجع قول قد قاله رجال من قبلهم:

( قَالُوا أَسَاطِيرُ الأُوّلِينَ أكَْتَبتَهَا فَهِيَ تُمْلَى‏ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً )

(الفرقان ٢٥: ٥)

٦

الوحي مصدر القرآن الوحيد!

( إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى )

قال تعالى: ( إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرّةٍ فَاسْتَوَى‏ * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى‏ * ثُمّ دَنَا فَتَدَلّى‏ * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى‏ إِلَى‏ عَبْدِهِ مَا أَوْحَى‏ * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى‏ * أَفَتُمارُونَهُ عَلَى‏ مَا يَرَى ) (١) .

كانت الدّلائل على أنّ القرآن كلّه - بلفظه ونَظمه ومحتواه جميعاً - كلام ربّ العالمين، وافرةً وظافرةً، وقد تكفّل عرضها مباحثُ الإعجاز القرآني باستيفاء وإحكام (٢) . كما وأصبحت سفاسف المعاكسين لذلك الاتّجاه الناصع، هباءً منثوراً تذروه عواصف الرياح.

والآن، فلنشهد تَجوالهم الحديث في هذا الميدان الرهيب:

وليُعلم أنّ عمدة مستند القول باستيحاء القرآن تعاليمه الدينيّة من زُبُر الأُوّلين، هو: تواجد التّوافق - نسبيّاً - بين شريعة الإسلام وشرائع سالفة.

لكن هذا لا يجدي نفعاً بعد اعترافنا بوحدة أصول الشرائع، وأنّها جميعاً مُستقاة مِن عينٍ واحدة: ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى‏ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللّه ِ ) (٣) .

____________________

(١) النجم ٥٣: ٤ - ٢١.                             (٢) قد استوفينا البحث عنها في التمهيد، ج ٤ و ٥ و ٦.

(٣) آل عمران ٣: ٦٤.

٧

هذا فضلاً عن وجود التّخالف الفاحش بين أكدار أحاطت بتلك الكتب على أثر التّحريف، وقداسةٍ زاكيةٍ حَظي بها القرآن الكريم، ولا يزال مصوناً في حراسته تعالى: ( إِنّا نَحْنُ نَزّلْنَا الذّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (١)

هذا إجمال الكلام في ذلك ولنَخُض في تفصّيل الحديث:

كتب الكثير مِن الكتّاب المستشرقين عن نبيّ الإسلام والقرآن، حسب أساليبهم في التحقّيق عن سائر الأديان، حيثُ لا يرون لها صلة بوحي السماء، فكان من الطّبيعي في عرفهم، أنْ يلتمسوا من هنا وهناك مصادر، غذّت تلكمُ الشرائع في طول التّأريخ.

وحتّى مَن تظاهر مِنهم بالمسيحيّة يعتنقونها شكليّاً، وليس عن صدق عقيدة.

غير أنّ المسيحيّة - ولو شكليّاً - كانت من الدّوافع الحافزة للبغي على الإسلام، وللنّظر إليه نظرة سوء، وهذا ما يسمّى بالاستشراق الدِّيني الّذي قام به أبناء الفاتيكان، كان أَوّل روّاده من رجال الكنيسة وعلماء اللاّهوت، حيث ظلّوا المشرفين على هذه الحركة، والمـُسيّرين لها طوال القرنَينِ الأخيرَينِ، وكان الهدف من ذلك:

١ - الطعن في الإسلام وتشويه حقائقه.

٢ - حماية النّصارى من خطر الإسلام، بالحيلولة بينهم، وبين رؤية حقائقه الناصعة وآياته البيّنة اللاّئحة.

٣ - محاولة تنصّير المسلمين، ولا أقلّ من تضعّيف العقيدة في نفوسهم.

أضف إلى ذلك دوافع استعماريّة ثقافيّة وسياسيّة وتجاريّة، تحول دون خلوص مهنة الاستشراق - استطلاع تأريخ الثقافة الشرقيّة بسلام - ومِن ثَمّ فقد أُسيء بهم الظنّ، في كثير ما يبدونه من نظر.

جاء في قصّة الحضارة: وكان في بلاد العرب كثيرون من المسيحيّين، وكان منهم عدد قليلٌ في مكّة، وكان مُحمّد على صلة وثيقة بواحد منهم على الأقل، هو ورقة بن نوفل ابن عمّ خديجة، الّذي كان مُطّلعاً على كُتُب اليهود والمسيحيّين المقدّسة. وكثيراً مّا كان مُحمّد يزور المدينة، الّتي مات فيها والده عبد الله، ولعلّه قد التقى هناك ببعض اليهود وكانوا

____________________

(١) الحجر ١٥: ٩.

٨

كثيرين فيها. وتدلّ كثير من آيات القرآن على إعجابه بأخلاق المسيحيّين، وبما في دين اليهود من نزعة إلى التّوحيد، وبما عاد على المسيحيّة واليهوديّة من قوّة كبيرة؛ لأنّ لكلتيهما كتاباً مقدّساً تعتقد أنّه موحى من عند الله.

قال: ولعلّه قد بدا له أنّ ما يسود جزيرة العرب من شِرك، ومن عبادة للأوثان، ومن فساد خُلُقي، ومن حروب بين القبائل وتفكّك سياسي، نقول: لعلّه قد بدا له أنّ حالَ بلاد العرب إذا قورنت بما تأمر به المسيحيّة واليهوديّة حالٌ بدائيّة، لا تُشرِّف ساكنيها، ولهذا أحسّ بالحاجة إلى دينٍ جديد. ولعلّه أحسّ بالحاجة إلى دين يؤلّف بين هذه الجماعات المتباغضة المتعادية، ويَخلق منها أُمّةً قويّةً سليمةً، دينٌ يسموا بأخلاقهم عمّا أَلِفه البدو من شريعة العنف والانتقام، ولكنّه قائمٌ على أوامر مُنزَّلة لا يُنازع فيها إنسان. ولعلّ هذه الأفكار نفسها قد طافت بعقل غيره من الناس، فنحن نسمع عن قيام عدد من المتنبّئين في بلاد العرب في بداية القرن السابع، وقد تأثّر كثير من العرب بعقيدة المسيح المنتظر التي يؤمن بها اليهود، وكان هؤلاء أيضاً ينتظرون بفارغ الصّبر مجيء رسولٍ من عند الله. وكانت في البلاد شيعة من العرب تُدعى بالحنفيّة أبت أنْ تقرّ بالإلوهية لأصنام الكعبة، وقامت تنادي بإلهٍ واحد، يجب أنْ يكون البشر جميعاً عبيداً له، وأن يعبدوه راضين (هم: ورقة بن نوفل، وعبيد الله بن جحش، وعثمان بن الحويرث، وزيد بن عمرو بن نفيل)، كانوا قد أيقنوا أنّ ما هم عليه من الوثنيّة ليس بشيء، فتفرّقوا في البلاد يلتمسون الحنيفيّة دين إبراهيم (عليه السلام)...

وكان مُحمّد - كما كان كلّ داعٍ ناجح في دعوته - النّاطق بلسان أهل زمانه والمعبّر عن حاجاتهم وآمالهم... (١) .

ويقول الأسقف يوسف درّة الحدّاد: (٢) استفاد القرآن من مصادر شتّى أهمّها الكتاب المقدّس ولا سيّما كتاب موسى، وذلك بشهادة القرآن ذاته:

____________________

(١) ول ديورانت: قصّة الحضارة ج ١٣، ص ٢٣ و ٢٤، ترجمتها العربية.

(٢) مارس رتبة الكهنوتيّة في الكنيسة اللبنانيّة عام ١٩٣٩ م، ثُمّ انقطع زُهاء عشرين عاماً يبحث عن شؤون الإسلام والقرآن على أسلوبه الكهنوتي، حاول التقارن والتقارب بين القرآن وكُتب العهدَين، ليجعل الأخيرة منابع للقرآن ومصادره في كلّ ما ينسبه إلى وحي السماء. توفي سنة ١٩٧٩ م.

٩

( إِنّ هذَا لَفِي الصّحُفِ الأُولَى‏ * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ) (١) .

( أَمْ لَمْ يُنَبّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى‏ * وَإِبْرَاهِيمَ الّذِي وَفّى‏ * أَلاّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ‏ ) (٢) .

( وَإِنّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوّلِينَ * أَوَلَمْ يَكُن لَهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) (٣) .

قال: فآية مُحمّد الأُولى هي مطابقة قرآنه للكتب السابقة عليه. وآيته الثانية استشهاده بعلماء بني إسرائيل وشهادتهم له بصحّة هذه المطابقة. ولكن ما الصلة بين القرآن وكونه في زُبُر الأوّلين؟! هذا هو سرّ مُحمّد! فيكون مِن ثَمّ أنّه نزل في زُبُر الأوّلين بلُغة أعجميّة يجهلوها، ثُمّ وصل إلى مُحمّد بواسطة علماء بني إسرائيل، فأنذر به مُحمّد بلسان عربيّ مبين.

فأصل القرآن مُنزّلٌ في زُبُر الأوّلين، وهذا يوحي بصلة القرآن بمصدره الكتابيّ زُبُر الأوّلين، أي صُحفهم وكتبهم.

وأيضاً فإنّ شهادة علماء أهل الكتاب بصحّة ما في القرآن، لم تكن إلاّ؛ لأنّهم كانوا شركاء هذا الوحي المولود؛ ذلك لأنّ الوحي التّنزيليّ أمر شخصيّ لا يعرفه غير صاحبه فحسب.

والآية ( وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى‏ إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهذَا كِتَابٌ مُصَدّقٌ لّسَاناً عَرَبِيّاً ) (٤) فيها صراحة بأنّه تتلمذ لدى كتاب موسى وجعله في قالب لسان العرب، الأمر الّذي يجعل من القرآن نُسخة عربيّة مُترجمة عن الكتاب الإمام.

( كِتَابٌ فُصّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً ) (٥) التفصّيل هنا يعنى: النّقل من الأصل الأعجمي إلى العربي، فالقرآن موحى، والتفصّيل العربي للكتاب منزّل؛ لأنّ الأصل وحي منزّل... (٦) .

وعلى هذا الغِرار جرى كلّ من (تسدال) و (ماسيه) و(أندريه) و(لامنز) و(جولد تسيهر) و(نولديكه) (٧) إلى أنّ القرآن استفاد كثيراً مِن زُبُر الأوّلين، وحجّتهم في ذلك

____________________

(١) الأعلى ٨٧: ١٨ و ١٩.                            (٢) النجم ٥٣: ٣٦ - ٣٨.

(٣) الشعراء ٢٦: ١٩٦ و ١٩٧.                      (٤) الأحقاف ٤٦: ١٢.

(٥) فصّلت ٤١: ٣.

(٦) دروس قرآنيّة ليوسف درّة الحدّاد، ج ٢، ص ١٧٣ - ١٨٨ (القرآن والكتاب) بيئة القرآن الكتابيّة، فصل ١١ (هل للقرآن من مصادر؟) منشورات المكتبة البوليسيّة - لبنان ١٩٨٢م.

(٧) آراء المستشرقين حول القرآن الكريم وتفسيره لعمر رضوان، ج١، صفحات ٢٧٢ - ٢٩٠ و٣٣٥.

١٠

محضر التّشابه بين تعاليم القرآن وسائر الصّحف. فالقصص والحِكم في القرآن هي الّتي جاءت في كُتب اليهود، وكذا قضايا جاءت في الأناجيل وحتّى في تعاليم زرادشت والبرهميّة، في مثل حديث المعراج، ونعيم الآخرة والجحيم، والصراط والافتتاح بالبسملة، والصلوات الخمس وأمثالها مِن طُقُوس عباديّة وكذا مسألة شهادة كلّ نبيّ بالآتي بعده، كلّها مأخوذة من كتب سالفة كانت معهودة لدى العرب.

زعموا أنّ القرآن صورة تلموديّة، وصلت إلى نبيّ الإسلام عن طريق علماء اليهود، وسائر أهل الكتاب ممّن كانت لهم صلة قريبة بجزيرة العرب، فكان مُحمّد (صلّى الله عليه وآله) يلتقي بهم قبل أنْ يُعلن نُبوّته، ويأخذ منهم الكثير من أُصول الشّريعة.

يقول (وِل ديورانت): وجديرٌ بالذكر أنّ الشّريعة الإسلاميّة لها شَبه بشريعة اليهود... ثُمّ جَعل يسرد قضايا مشتركة بين القرآن والعَهدَينِ ويَعدّ منها مسألة التوحيد والنبوّة، والإيمان والإنابة، ويوم الحساب والجنّة والنّار، زاعماً أنّها من تأثير اليهوديّة على دين الإسلام. وكذا كلمة التّوحيد - لا إله إلاّ اللّه - مأخوذة من كلمة إسرائيليّة: أَلا فاسمع يا إسرائيل وحدك، والبسمَلَة مأخوذة أيضاً من تلمود، ولفظة (الرحمان) معرّبة من (رحمانا) العِبريّة... إلى غيرها من تعابير جاءت في الإسلام مُنحدرة عن أصل يهودي، الأمر الّذي جعل البعض يتصوّر أنّ مُحمّداً كان عارفاً بمصادر يهوديّة وكانت هي مستقاه في تأليف القرآن... (١)

شرائع إبراهيميّة منحدِرة عن أصل واحد

نحن المسلمون نعتقد في الشرائع الإلهيّة أجمع أنّها مُنحدِرة عن أصلٍ واحد، ومُنبعِثة من مَنهل عَذبٍ فارد، تهدف جميعاً إلى كلمة التّوحيد وتوحّيد الكلمة، والإخلاص في العمل الصّالح والتحلّي بمكارم الأخلاق، من غير اختلافٍ في الجذور ولا في الفروع المتصاعدة. ( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا

____________________

(١) - تاريخ التّمدّن (قصّة الحضارة) الفارسيّة، لمؤلّفه ول ديورانت، مجلّد ٤، ص٢٣٦ - ٢٣٨، عصر الإيمان، الفصل التاسع وراجع قصّة الحضارة، ج١٣، ص ٢٢، فيه إلمامة إلى ذلك.

١١

وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ... ) (١) .

إذنْ، فالدِّين واحد والشّريعة واحدة، والأحكام والتكاليف تهدف إلى غرضٍ واحد وهو كمال الإنسان، ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ ) (٢) ، يعني: أنّ الدِّين كلّه - من آدم فإلى الخاتم - هو الإسلام أي التسلّيم للّه والإخلاص في عبادته محضاً.

( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) (٣) .

الإسلام هو الدّين الشّامل، فمَن حاد عنه فقد حاد عن الجادّة الوسطى، وضلّ الطريق في نهاية المسير، وهكذا تأدّب المسلمون بالإيمان بجميع الأنبياء من غير ما فارق: ( قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) (٤) .

وهذا منطق القرآن يدعو إلى كلمة التّوحيد وتوحيد الكلمة وأنّ لا تفرقة بين الأديان مادام التّسليم للّه ربّ العالمين؛ وبذلك يكون الاهتداء والاتحاد، وفي غيره الضّلال والشّقاق، ( فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ ) (٥) .

وفي ذلك ردّ وتشنّيع بشأن اليهود والنصارى، أولئك الّذين يَدعُون إلى الحياد والانحياز ( وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا ) (٦) ، أي قالت اليهود كونوا منحازين على اليهوديّة لا غيرها حتى تهتدوا! وقالت النصارى كونوا حياداً على النّصرانيّة لا غيرها حتى تهتدوا!

والقرآن يردّ عليهم جميعاً، ويدعو إلى الالتفاف حول الحنيفيّة الإبراهيميّة: ( قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (٧) ، ( صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ) (٨) .

نعم، صِبغة اللّه شاملة وكافلة للإسعاد بالبشريّة جمعاء، الأمر الذي يعتنقه المسلمون أجمع، والحمد للّه.

____________________

(١) الشورى ٤٢: ١٣.                                  (٢) آل عمران ٣: ١٩.

(٣) آل عمران ٣: ٨٥.                                  (٤) البقرة ٢: ١٣٦.

(٥) البقرة ٢: ١٣٧.                                     (٦) البقرة ٢: ١٣٥.

(٧) البقرة ٢: ١٣٥.                                     (٨) البقرة ٢: ١٣٨.

١٢

وحدة المنشأ هو السّبب للتّوافق على المنهج

وبعد، فإنّ ائتلاف الأديان السماويّة واتّحاد كلمتها، لابدّ أنْ يكون عن سببٍ معقول، وهذا يحتمل أحد وجوهٍ ثلاثة:

١ - إمّا لوحدة المنشأ؛ حيثُ الجميع منبعث مِن أصلٍ واحد، فكان التّشابه في الفروع المتصاعدة طبيعيّاً.

٢ - أو لأنّ البعض مُتّخذٌ من البعض، فكان التّشاكل نتيجة ذاك التّبادل يداً بيد.

٣ - أو جاء التّماثل عن مصادفةٍ اتفاقيّة وليس عن علّةٍ حكيمة.

ولا شكّ أنّ الأخير مرفوض بعد مُضادّة الصّدفة مع الحِكمة السّاطية في عالم التدبّير.

بقي الوجهان الأوّلان، فلنتساءل القوم: ما بالهم تغافلوا عن الوجه الأَوّل الرّصين، وتواكبوا جميعاً على الوجه الهجين؟! إنّ هذا لشيءٌ مُريب!

هذا، والشّواهد متضافرة، تدعم الشقّة الأُولى لتهدم الأُخرى من أساس:

أوّلاً: صراحة القرآن نفسه بأنّه مُوحى إلى نبيّ الإسلام وحياً مباشريّاً، نزل عليه ليكون للعالمين نذيراً، فكيف الاستشهاد بالقرآن لإثبات خلافه؟! إنّ هذا إلاّ تناقضٌ في الفهم، واجتهاد في مقابلة النصّ الصريح!

ثانياً: معارف فخيمة قدّمها القرآن إلى البشريّة، بحثاً وراء فلسفة الوجود ومعرفة الإنسان ذاته، لم يَكد يدانيها أيّة فكرة عن الحياة كانت البشريّة قد وصل إليها لحدّ ذاك العهد، فكيف بالهزائل الممسوخة الّتي شُحنت بها كُتب العهدَينِ؟!

ثالثاً: تعاليم راقية عرضها القرآن لا تتجانس مع ضآلة الأساطير المـُسطَّرة في كتب العهدَينِ، وهل يكون ذاك الرفيع مستقىً من هذا الوضيع؟!

إلى غيرها من دلائل سوف يوافيك تفصّيلها.

١٣

القرآن يشهد بأنّه مُوحى

وأمّا إنْ كنّا نستنطق القرآن، فإنّه يشهد بكونه مُوحى إلى نبيّ الإسلام مُحمّد (صلّى اللّه عليه وآله)، كما أُوحي إلى النبيّين من قبله: ( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً * وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً * رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئلاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً * لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً ) (١) .

( قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ) (٢) .

والآيات بهذا الشأن كثيرة ناطقة صريحاً بكون القرآن إلى نبيّ الإسلام وحياً مباشريّاً؛ لينذر قومه ومَن بلغ كافّة.

أمّا أنّه (صلّى اللّه عليه وآله) تلقّاه (التقطه) من كُتب السالفِينَ وتعلّمه من علماء بني إسرائيل فهذا شيءٌ غريب، يأباه نسج القرآن الحكيم.

القرآن في زُبُر الأوّلين

وأمّا ما تذرّع به صاحبنا الأسقف درّة، فملامح الوهن عليّه بادية بوضوح:

قوله تعالى: ( إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ) (٣) .

هذا إشارة إلى نصائح تقدّمت الآية ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) ، وذلك تأكيدٌ على أنّ ما جاء به مُحمّد (صلّى اللّه عليه وآله)، لم يكن بِدعاً ممّا جاء به سائر الرسل ( قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ ) (٤) ، فليس الّذي جاء به نبيّ الإسلام جديداً لا سابقة له في رسالات اللّه، الأمر الّذي يستدعيه طبيعة وحي السماء

____________________

(١) - النساء ٤: ١٦٣ - ١٦٦.

(٢) - الأنعام ٦: ١٩.

(٣) - الأعلى ٨٧: ١٨ و١٩.

(٤) - الأحقاف ٤٦: ٩.

١٤

العامّ وفي كلّ الأدوار، مِن آدم فإلى الخاتم، فإنّ شريعة اللّه واحدة، لا يختلف بعضها عن بعض، فالإشارة راجعة إلى محتويات الكتاب، توالى نزولها حسب توالي بعثة الأنبياء، فالنّصائح والإرشادات تكرّرت مع تكرّر الأجيال، هذا ما تعنيه الآية لا ما زعمه صاحبنا الأسقف!

وهكذا قوله تعالى: ( أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ) (١) .

يعود الضمير إلى مَن وقف في وجه الدّعوة مُستهزِئاً، بأنْ سوف يتحمّل آثام الآخرين، إنْ لم يؤمنوا بهذا الحديث، فيردّ عليهم القرآن: ألم يبلغهم أنّ كلّ إنسان سوف يُكافىء حسب عمله، ولا تزرُ وازرةٌ وِزر أُخرى؟ فإنْ لم يَعيروا القرآن اهتماماً فليَعيروا اهتمامهم لما جاء في الصُحُف الأُولى، وَهلاّ بلغهم ذلك وقد شاع وذاع خبره منذ حين؟!، وهكذا سائر الآيات تَروم هذا المعنى لا غير!

( أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ) (٢)

وآية أُخرى على صدق الدعوة المـُحمّديّة: أنّ الراسخين في العلم من أهل الكتاب، يشهدون بصدقها ممّا عرفوا من الحقّ:

( لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ (أي من أهل الكتاب) وَالْمُؤْمِنُونَ (أي من أهل الإسلام) يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِك ) (٣) .

( وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ) (٤) ، وهؤلاء هم القساوسة والرّهبان الّذين لا يستكبرون؛ ومِن ثَمَّ فهم خاضعون للحقّ أين وجدوه، وبالفعل فقد وجدوه في حظيرة الإسلام.

( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ (أيّها الكافرون بالقرآن) وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ (ممّن آمن برسالة الإسلام) عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ ) (٥) .

____________________

(١) النجم ٥٣: ٣٦ و٣٧.

(٢) الشعراء ٢٦: ١٩٧.

(٣) النساء ٤: ١٦٢.

(٤) المائدة ٥: ٨٣.

(٥) الأحقاف ٤٦: ١٠.

١٥

الضمير في قوله (على مثله) يعود إلى القرآن، يعني: أنّ مِنْ علماء بني إسرائيل مَن يشهد بأنّ تعاليم القرآن تماماً مثل تعاليم التّوراة الّتي أنزلها اللّه على موسى؛ ولذا آمن به لِما قد لَمس فيه من الحقّ المتطابق مع شريعة اللّه في الغابرين.

وكثير من علماء أهل الكتاب آمنوا بصدق رسالة الإسلام فور بُلوغ الدعوة إليّهم؛ حيث وجدوا ضالّتهم المنشودة في القرآن فآمنوا به، فكانت شهادة عمليّة إلى جنب تصرّيحهم بذلك علناً على الملأ من بني إسرائيل.

وهذا هو معنى شهادة علماء بني إسرائيل بصدق الدعوة، حيث وجدوها متطابقة مع معايير الحقّ الّذي عندهم، لا ما حسبه صاحبنا الأسقف بعد أربعة عشر قَرناً أنّه مقتبسٌ من كتبهم ومُتلقّى من أفواههم هم!! الأمر الّذي لم يقله أولئك الأنجاب وقد أنصفوا الحقّ الصريح! ( وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ ) (١) ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ ) (٢) .

وهذه المعرفة ناشئة عن لمس الحقيقة في الدعوة ذاتها، وِفقاً لمعايير وافتهم على أيدي الرُسل من قبلُ، وقد لمسها أمثال صاحبنا الأُسقف اليوم أيضاً ولكن ( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً ) (٣) كالذين من قبلهم ( فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ) (٤) ممّن حاول إخفاء الحقيقة - قديماً وحديثاً - فضلّوا وأضلّوا وما كانوا مُهتدين.

مقارنة عابرة بين القرآن وكُتب سالفة مُحرّفة

معارف فخيمة امتاز بها الإسلام

والآن، فلنقارن - شيئاً - بين ما جاء في القرآن من معارف وتعاليم، كانت في قمّة الشّموخ والعَظمة، وبين ما ذكرته سائر الكُتب، أو بلغتها الفكرة البشريّة في قصورٍ بالغ، وليكون برهاناً قاطعاً على أنّ هذا الهزيل، لا يصلح لأنْ يكون مستنداً لذلك الفخيم!

____________________

(١) الأنعام ٦: ١١٤.

(٢) الأنعام ٦: ٢٠.

(٣) النمل ٢٧: ١٤.

(٤) البقرة ٢: ٨٩.

١٦

جلائل صفات اللّه في القرآن

جاء وصفه تعالى في القرآن ما يَفوق الفكر البشري آنذاك، بلْ ولولا القرآن لما تسنّى للبشريّة أنْ تبلغه على مدى الزمان. حيث أدقّ الوصف ما وصف الله نفسه في كلامه العزيز (القرآن الكريم وليس في غيره إطلاقاً).

جاء في سورة الحشر: ( هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (١) .

وفي سورة التوحيد: ( قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ * اللّهُ الصّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ) (٢) .

وفي سورة الرعد: ( عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ ) (٣) .

وفي سورة الشورى: ( فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (٤) .

وفي سورة البقرة: ( اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) (٥) .

إلى غيرها مِن جلائل صفات زَخَر بها القرآن الكريم، واختلى عنها سائر الكتب، اللّهمّ إلاّ النَزر اليسير، فيا تُرى هل يصلح أنْ يكون هذا النَزر اليسير منشأ لذلك الجمّ الغفير؟!

وكلّ واحدة من هذه الصفات تنمّ عن حقيقة ملحوظة في الذات المقدّسة هي منشأ

____________________

(١) الحشر ٥٩: ٢٤ - ٢٢.

(٢) الإخلاص ١١٢.

(٣) الرعد ١٣: ٩.

(٤) الشورى ٤٢: ١١ و ١٢.

(٥) البقرة ٢: ٢٥٥.

١٧

لآثار وبركات فاضت بها سلسلة الوجود، وقد شرحها العلماء الأكابر مِلء موسوعات كبار.

وصْفُه تعالى كما في التوراة

وأدنى مراجعة لكُتب العهدَينِ تكفي للإشراف على مدى الوهن في وصفه تعالى، بما يجعله في مرتبة أخسّ مخلوق، ويتصرّف تصرّفات لا تليق بساحة قُدسه الرفيع.

تلك قصّة بدء الخليقة جاءت في سِفر التكوين مشوّهة شائنة: تجد الإله الخالق المتعالي هناك، إلهاً يخشى منافسة مخلوقٍ له، فيُدبّر له المكائد في خداعٍ فاضح.

جاء فيها: إنّ الرّبّ الإله لمـّا أسكن آدم وزوجه حوّاء في جنّة عدن، رخّص لهما الأكل من جميع شجر الجنّة، وأمّا شجرة معرفة الخير والشرّ فلا يأكُلا منها، وماكرهما في ذلك قائلاً: (لأنّك - خطاباً لآدم - يوم تأكل منها موتاً تموت) (١) .

وهي كِذبة حاول خداعهما بذلك؛ لئلاّ يُصبحا عارفَينِ كالإله ويُنافسا سلطانه، الأمر الّذي صادَقَهما فيه إبليس وقال لهما: (لن تموتا، بل الله عالم أنّه يوم تأكلان منه، تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارفين الخير والشرّ)! (٢)

وحينما أكلا منها تبيّن صدق إبليس وكذب الإله - وحاشاه -، فانفتحت أعينهما وشَعرا بأنّهما عُريانان، فجعلا يَخيطان لأنفسهما مآزر من ورق التّين.

وفي هذا الأثناء جاء الإله يتمشّى بأرجله في الجنّة، إذ سمعا الصوت فاختبآ وراء شجرة؛ لئلاّ يُفتضح أمرهما، وناداهما الربّ: أين أنتما؟ فقال آدم: ها نحن هنا فخشيت لأنّي عريان فاختبأت!

فهنا عرف الربّ أنّهما أكلا من الشجرة، وأصبحا عارفين للخير والشرّ فقال: هو ذا الإنسان قد صار كواحد منّا، والآن لعلّه يمدّ يده، ويتناول من شجرة الحياة ويحيا إلى الأبد، فطردهما مِن الجنّة وأقام حرساً عليها لئلاّ يقربا منها.

____________________

(١) سِفر التكوين، إصحاح ٢ / ١٧.

(٢) المصدر: ٣ / ٤ و ٥.

١٨

هكذا إله التوراة يخشى منافسة مخلوق صنعه بيده، فيُماكر و يُخاتل كي يصرفه عنها، ويجهل ويكذِّب كِذبةً عارمةً، افتُضِحت لفورها على يد إبليس، منافسه الآخر! الأمر الذي يشفّ عن عجز وضَعف، مضافاً إلى الوهن في التّدبير والعياذ بالله!

* * *

هذا، والقرآن يعلّل المنع (من تناول الشّجرة) بشقاءٍ (عناء في الحياة) سوف ينتظرهما لو أكلا منها، منعاً إرشاديّاً لصالح أنفسهما: ( فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ) (١) ، أي تقع في مَشاقّ الحياة بعد هذا الرّغد في العيش الهنيء.

وإبليس هو الذي ماكَرَهما وكَذّب كِذبته الفاضحة: ( قَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلاّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ) (٢) .

فالّذي كذّب وافتضح هو إبليس، كما جاء في القرآن، على عكس ما جاء في التوراة!

وفارقٌ آخر: كان آدم وحوّاء متلبّسين بلباس يستر سوءاتهما، قبل أنْ يَغويهما الشيطان، لينزع عنهما لباسهما ويريهما سوءاتهما (٣) .

وهذا على عكس التّوراة (المـُصطنعة) تفرضهما عُريانَينِ من غير شُعور بالعَراء، حتّى إذا ذاقا الشجرة، فعند ذلك شعرا بالعَراء وحاولا التستّر بورق الجنّة.

فكان الله قد خلقهما عُريانين من غير أنْ يشعرا بالخجل والحياء كسائر الحيوان، فجاء إبليس ليخرجهما من العَمَه إلى العقل الرشيد!

وفارق ثالث: القرآن يُمجّد الإله برحمته الواسعة على العباد، وحتّى الذين أسرفوا على أنفسهم أنْ لا يقنطوا من رحمة الله ( إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) (٤) .

وبالفعل فقد تاب الله على آدم واجتباه، مع ما فَرَط منه من النسيان ومخالفة وصيّة الله ( ثُمَّ

____________________

(١) طه ٢٠: ١١٧.

(٢) الأعراف ٧: ٢٠ - ٢٢.

(٣) إشارة إلى الآية ٢٧ من سورة الأعراف.

(٤) الزمر ٣٩: ٥٣.

١٩

اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ) ، (١) ووعده الرّحمة المتواصلة، والعناية الشاملة طول حياته، وحياة ذراريه في الأرض ( فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (٢) .

وهذا يُعطي امتداد بركات الله على أهل الأرض أبداً، على خلاف ما ذكرته التوراة بامتداد سخطه تعالى على آدم، وجَعْل الأرض ملعونة عليّه، وعلى زوجه وذراريهما عِبر الحياة أبداً (ملعونةٌ الأرض بسببك) (٣) .

نعم كان الإله - حسب وصف القرآن - غفوراً ودوداً رؤوفاً بعباده، وحسب وصف التوراة: حقوداً عنوداً شديد الانتقام!

فأين ذاك التوافق المزعوم، ليجعل مصطنعات اليهود أصلاً تفرّع منه القرآن؟!

الله يصول ويجول ضدّ بني آدم

ومسرحاً آخر تُرينا التوراة كيف حشّد الإله الربّ، جموعه لمكافحة بني آدم: فرّق شملهم وبلبل ألسنتهم، فلا يجتمعوا ولا يَتوازروا، ولا يتعارف بعضهم إلى بعض، ولا يتعاونوا في حياتهم الاجتماعيّة... لماذا؟؛ لأنّه كان - وحاشاه - يخاف سَطوتهم فيثوروا ضدّ مطامع الإله!!

جاء في سِفر التّكوين: كان بنو الإنسان على لسانٍ واحد متفرّقين على وجه الأرض، فحاولوا التجمّع وبناء مدينة في أرض شنعار - بين دجلة والفرات من أرض العراق - (٤) فنزل الربّ لينظر بناء المدينة والبرج - برج بابل - ولكن هابه ذلك وخاف سطوتهم، فعَمد إلى تدمّير المدينة وتفرّيق الألسن، فلا يستطيع أحدهم أن يجتمع مع الآخر ليتفاوض معه، فبدّدهم الربّ من هناك على وجه الأرض ومنعهم من البنيان (٥) .

____________________

(١) طه ٢٠: ١٢٢.

(٢) البقرة ٢: ٣٨.

(٣) سِفر التكوين، إصحاح ٣ / ١٧.

(٤) عرفت باسم بابل عاصمة الكلدانيّين ممّا يلي الحلّة الفيحاء.

(٥) سِفر التكوين، إصحاح ١١.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

كما أن من الطبيعي أن يثير دهشتهم، ويذهلهم.. بعد أن لم يكن بينهم رجالات كفاة، يدركون ألاعيب السياسة، ودهاء ومكر الرجال. وقد عبر عن دهشتهم هذه نفس الخليفة الذي اختاروه، واستعاضوا به عن المأمون. فلقد قال ابن شكلة معاتبا العباسيين:

فـلا جزيت بنو العباس خيراً

على رغمي ولا اغتبطت بري

أتـوني مـهطعين، وقد أتاهم

بـوار الـدهر بالخبر الجلي

وقد ذهل الحواضن عن بنيها

وصـد الثدي عن فمه الصبي

وحـل عصائب الأملاك منها

فـشدت فـي رقاب بني علي

فضجت أن تشد على رؤوس

تـطالبها بـميراث النبي(١)

ب ـ ولكن دهشتهم وغضبهم لا قيمة لهما، في جانب ذهاب الخلافة عنهم بالكلية، وسفك دمائهم.. وقد أوضح لهم ذلك في رسالة منه إليهم، حيث قال: (.. وأما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى، بعد استحقاق منه لها في نفسه، فما كان ذلك مني إلا أن أكون الحاقن لدمائكم، والذائد عنكم، باستدامة المودة بيننا وبينهم.). والرسالة مذكورة في أواخر هذا الكتاب.

وقريب من ذلك ما جاء في وثيقة العهد، مخاطباً (أهل بيت أمير المؤمنين) حيث قال لهم: (.. راجين عائدته في ذلك (أي في البيعة للرضاعليه‌السلام ) في جمع ألفتكم، وحقن دمائكم، ولم شعثكم، وسد ثغوركم.) فليغضبوا إذن قليلاً، فإنهم سوف يفرحون في نهاية الأمر كثيراً، وذلك عندما يعرفون الأهداف الحقيقية، التي كانت تكمن وراء تلك اللعبة، وأنها لم تكن إلا من أجل الإبقاء عليهم، واستمرار وجودهم في الحكم، والقضاء على أخطر خصومهم، الذين لن يكون الصدام المسلح معهم في صالحهم، إنهم دون شك عندما تؤتي تلك اللعبة ثمارها سوف يشكرونه، ويعترفون له بالجميل، ويعتبرون أنفسهم مدينين له مدى الحياة، ولسوف يذكرون دائما قوله لهم في رسالته المشار إلها آنفاً: (.. فإن تزعموا أني أردت أن يؤول إليهم (يعني للعلويين) عاقبة ومنفعة، فإني في تدبيركم، والنظر لكم، ولعقبكم، ولأبنائكم من بعدكم.).

____________

(١) التنبيه والإشراف ص ٣٠٣، والولاة والقضاة للكندي ص ١٦٨.

١٨١

ومضمون هذه العبارة بعينه ـ تقريباً ـ قد جاء في وثيقة العهد، حيث قال فيها، موجها كلامه للعباسيين، رجاء أن يلتفتوا لما يرمي إليه من لعبته تلك.. فبعد أن طلب منهم بيعة منشرحة لها صدورهم ـ قال ـ: (.. عالمين بما أراد أمير المؤمنين بها، وآثر طاعة الله، والنظر لنفسه، ولكم فيها، شاكرين الله على ما ألهم أمير المؤمنين، من قضاء حقه في رعايتكم، وحرصه على رشدكم، وصلاحكم، راجين عائدته في ذلك في جمع ألفتكم، وحقن دمائكم إلخ. ما قومناه..).

لا شك أنه إذا غضب عليه العباسيون، فإنه يقدر على إرضائهم في المستقبل، (وقد حدث ذلك بالفعل) عندما يطلعهم على حقيقة نواياه، ومخططاته، وأهدافه، ولكنه إذا خسر مركزه، وخلافته، فإنه لا يستطيع ـ فيما بعد ـ أن يستعيدها بسهولة، أو أن يعتاض عنها بشيء ذي بال.

ج ـ: إن من الإنصاف هنا أن نقول: إن اختيار المأمون للرضاعليه‌السلام ولياً للعهد، كان اختياراً موفقاً للغاية، كما سيتضح، وإنه لخير دليل على حنكته ودهائه، وإدراكه للأسباب الحقيقية للمشاكل التي كان يواجهها المأمون، ويعاني منها ما يعاني.

د ـ: إن من الأمور الجديرة بالملاحظة هنا هو أن اختيار المأمون لولي عهده، الذي لم يقبل إلا بعد التهديد بالقتل.. كان ينطوي في بادئ الرأي على مغامرة لا تنسجم مع ما هو معروف عن المأمون من الدهاء والسياسة، إذا ما أخذت مكانة الإمامعليه‌السلام ، ونفوذه بنظر الاعتبار، سيما مع ملاحظة: أنه هو الذي كان يشكل أكبر مصدر للخطر على المأمون، ونظام حكمه، حيث إنه كان يحظى بالاحترام والتقدير، والتأييد الواسع في مختلف الفئات والطبقات في الأمة الإسلامية.

ولكننا إذا دققنا الملاحظة نجد أن المأمون لم يقدم على اختيار الإمام وليا للعهد، إلا وهو على ثقة من استمرار الخلافة في بني أبيه، حيث كان الإمامعليه‌السلام يكبره بـ (٢٢) سنة، وعليه فجعل ولاية العهد لرجل بينه، وبين الخليفة الفعلي هذا الفارق الكبير بالسن، لم يكن يشكل خطراً على الخلافة، إذ لم يكن من المعروف، ولا المألوف أن يعيش ولي العهد ـ وهو بهذه السن المتقدمة ـ لو فرض سلامته من الدسائس والمؤامرات!.. إلى ما بعد الخليفة الفعلي، فإن ذلك من الأمور التي يبعد احتمالها جداً.

١٨٢

ه‍ ـ: ولهذا.. ولأن ما أقدم عليه لم يكن منتظراً من مثله، وهو الذي قتل أخاه من أجل الخلافة والملك، ولأنه من تلك السلالة المعادية لأهل البيتعليهم‌السلام .. احتاج المأمون إلى أن يثبت صدقه، وإخلاصه فيما أقدم عليه، وأن يقنع الناس بصفاء نيته، وسلامة طويته.. فأقدم لذلك. على عدة أعمال:

فأولاً: أقدم على نزع السواد شعار العباسيين، ولبس الخضرة شعار العلويين وكان يقول: إنه لباس أهل الجنة(١) . حتى إذا ما انتهى دور هذه الظاهرة بوفاة الإمام الرضاعليه‌السلام وتمكنه هو من دخول بغداد عاد إلى لبس السواد شعار العباسيين، بعد ثمانية أيام فقط من وصوله، على حد قول أكثر المؤرخين، وقيل: بل بقي ثلاثة أشهر. نزع الخضرة رغم أن العباسيين، تابعوه، وأطاعوه في لبسها، وجعلوا يحرقون كل ملبوس يرونه من السواد، على ما صرح به في مآثر الإنافة، والبداية والنهاية، وغير ذلك.

____________

(١) الإمام الرضا ولي عهد المأمون ص ٦٢ عن ابن الأثير.

١٨٣

وثانياً: ولنفس السبب(١) أيضاً نراه قد ضرب النقود باسم الإمام الرضاعليه‌السلام .

وثالثاً: أقدم للسبب نفسه على تزويج الإمام الرضاعليه‌السلام ابنته، رغم أنها كانت بمثابة حفيدة له، حيث كان يكبرها الإمامعليه‌السلام بحوالي أربعين سنة. كما أنه زوج ابنته الأخرى للإمام الجوادعليه‌السلام الذي كان لا يزال صغيراً، أي ابن سبع سنين(٢) .

ومن يدري: فلعله كان يهدف من تزويجهما أيضاً إلى أن يجعل عليهما رقابة داخلية. وأن يمهد السبيل، لكي تكون الأداة الفعالة، التي

____________

(١) التربية الدينية ص ١٠٠.

(٢) راجع مروج الذهب ج ٣ / ٤٤١، وغيره من كتب التاريخ. وفي الطبري ج ١١ / ١١٠٣، طبع ليدن، والبداية والنهاية ج ١٠ / ٢٦٩: أنهعليه‌السلام لم يدخل بها إلا في سنة ٢١٥ للهجرة، ولكن يظهر من اليعقوبي ج ٢ / ٤٥٤ ط صادر: أنه زوج الجواد ابنته بعد وصوله إلى بغداد، وأمر له بألفي ألف درهم، وقال: إني أحببت أن أكون جداً لامرئ ولده رسول الله، وعلي بن أبي طالب، فلم تلد منه انتهى. وهذا يدل على أنه قد بادر إلى تزويج الجواد بعد قتل أبيه الرضاعليه‌السلام ليبرئ نفسه من الاتهام بقتل الرضاعليه‌السلام ، حيث إن الناس كانوا مقتنعين تقريباً بذلك ومطمئنين إليه، وسيأتي في أواخر الكتاب البحث عن ظروف وملابسات وفاتهعليه‌السلام ويلاحظ: أن كلمة المأمون هذه تشبه إلى حد بعيد كلمة عمر بن الخطاب حينما أراد أن يبرر إصراره غير الطبيعي على الزواج بأم كلثوم بنت عليعليه‌السلام حتى لقد استعمل أسلوباً غير مألوف في التهديد والوعيد من أجل الوصول إلى ما يريد.

١٨٤

يستعملها في القضاء على الإمامعليه‌السلام ، كما كان الحال بالنسبة لولده الإمام الجواد، الذي قتل بالسم الذي دسته إليه ابنة المأمون، بأمر من عمها المعتصم(١) ، فيكون بذلك قد أصاب عدة عصافير بحجر واحد. كما يقولون..

ويجب أن نتذكر هنا: أن المأمون كان قد حاول أن يلعب نفس هذه اللعبة مع وزيره الفضل بن سهل، فألح عليه أن يزوجه ابنته فرفض، وكان الرأي العام معه، فلم يستطع المأمون أن يفعل شيئاً، كما سنشير إليه.. لكن الإمامعليه‌السلام لم يكن له إلى الرفض سبيل، ولم يكن يستطيع أن يصرح بمجبوريته على مثل هكذا زواج. لأن الرأي العام لا يقبل ذلك منه بسهولة.. بل ربما كان ذلك الرفض سبباً في تقليل ثقة الناس بالإمام، حيث يرون حينئذٍ أنه لا مبرر لشكوكه تلك، التي تجاوزت ـ بنظرهم حينئذٍ ـ كل الحدود المألوفة والمعروفة..

وعلى كل حال: فإن كل الشواهد والدلائل تشير إلى أن زواج الإمام من ابنة المأمون كان سياسياً، مفروضاً إلى حد ما.. كما أننا لا نستبعد أن يكون زواج المأمون من بوران بنت الحسن بن سهل سياسياً أيضاً، حيث أراد بذلك أن يوثق علاقاته مع الإيرانيين، ويجعلهم يطمئنون إليه، خصوصاً بعد عودته إلى بغداد، وتركه مروا، وليبرئ نفسه من دم الفضل بن سهل، ويكتسب ثقة أخيه الحسن بن سهل، المعرف بثرائه ونفوذه.

ورابعاً: وللسبب نفسه أيضاً كان يظهر الاحترام والتبجيل للإمامعليه‌السلام ـ وإن كان يضيق عليه في الباطن(٢) ـ وكذلك كانت الحال بالنسبة لإكرامه للعلويين، حيث قد صرح هو نفسه بأن إكرامه لهم ما كان إلا سياسة منه ودهاء، ومن أجل الوصول إلى أهداف سياسية معينة، فقد قال في رسالته للعباسيين، المذكورة في أواخر هذا الكتاب: (.. وأما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى.. فما كان ذلك مني، إلا أن أكون الحاقن لدمائكم، والذائد عنكم، باستدامة المودة بيننا وبينهم. وهي الطريق أسلكها في إكرام آل أبي طالب، ومواساتهم في الفيء، بيسير ما يصيبهم منه.).

____________

(١) ولعله قد استفاد ذلك من سلفه معاوية، وما جرى له مع الإمام الحسن السبطعليه‌السلام .

(٢) وقد سبقه إلى مثل ذلك سليمان عم الرشيد، عندما أرسل غلمانه، فأخذوا جنازة الكاظمعليه‌السلام من غلمان الرشيد، وطردوهم. ثم نادوا عليه بذلك النداء المعروف، اللائق بشأنه، فمدحه الرشيد، واعتذر إليه، ولام نفسه، حيث لم يأخذ في اعتباره ما يترتب على ما أقدم عليه من ردة فعل لدى الشيعة، ومحبي أهل البيتعليهم‌السلام ، والذين قد لا يكون للرشيد القدرة على مواجهتهم. وتبعه أيضاً المتوكل، حيث جاء بالإمام الهاديعليه‌السلام إلى سامراء، فكان يكرمه في ظاهر الحال، ويبغي له الغوائل في باطن الأمر، فلم يقدره الله عليه.. على ما صرح به ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة ص ٢٢٦، والمجلسي في البحار ج ٥٠ / ٢٠٣، والمفيد في الإرشاد ص ٣١٤.

١٨٥

ويذكرني قول المأمون: (ومواساتهم في الفيء إلخ..) بقول إبراهيم بن العباس الصولي ـ وهو كاتب القوم وعاملهم ـ في الرضا عندما قربه المأمون:

يـمن عـليكم بأموالكم

وتعطون من مئة واحدا

و ـ: إن المأمون ـ ولا شك ـ كان يعلم: أن ذلك كله ـ حتى البيعة للإمام ـ لا يضره ما دام مصمما على التخلص من ولي عهده هذا بأساليبه الخاصة. بعد أن ينفذ ما تبقى من خطته الطويلة الأجل، للحط من الإمام قليلاً قليلاً، حتى يصوره للرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر ـ كما صرح هو نفسه(١) ، وكما صرح بذلك أيضاً عبد الله بن موسى في رسالته إلى المأمون، والتي سوف نوردها في أواخر هذا الكتاب إن شاء الله، حيث يقول له فيها: (.. وكنت ألطف حيلة منهم. بما استعملته من الرضا بنا، والتستر لمحننا، تختل واحداً فواحداً منا إلخ.)(٢) .

إلى غير ذلك من الشواهد والدلائل، التي لا تكاد تخفى على أي باحث، أو متتبع..

أهداف المأمون من البيعة:

هذا.. وبعد كل الذي قدمناه، فإننا نستطيع في نهاية المطاف: أن نجمل أهداف المأمون، وما كان يتوخاه من أخذ البيعة للرضاعليه‌السلام بولاية العهد بعده.. على النحو التالي:

الهدف الأول:

أن يأمن الخطر الذي كان يتهدده من قبل تلك الشخصية الفذة، شخصية الإمام الرضاعليه‌السلام الذي كانت كتبه تنفذ في المشرق والمغرب، وكان الأرضى في الخاصة والعامة ـ باعتراف نفس المأمون ـ، حيث لا يعود باستطاعة الإمامعليه‌السلام أن يدعو الناس إلى الثورة ولا أن يأتي بأية حركة ضد الحكم، بعد أن أصبح هو ولي العهد فيه. ولسوف لا ينظر الناس إلى أية بادرة عدائية منه لنظام الحكم القائم إلا على أنها نكران للجميل، لا مبرر لها، ولا منطق يدعمها.

____________

(١) سنتكلم في القسم الرابع من هذا الكتاب، حول تصريحات المأمون، وخططه بنوع من التفصيل إن شاء الله تعالى.

(٢) مقاتل الطالبيين ص ٦٢٩.

١٨٦

وقد أشار المأمون إلى ذلك، عندما صرح بأنه: خشي إن ترك الإمام على حاله: أن ينفتق عليه منه ما لا يسده، ويأتي منه عليه ما لا يطيقه فأراد أن يجعله ولي عهده ليكون دعاؤه له. كما سيأتي بيانه في فصل: مع بعض خطط المأمون إن شاء الله تعالى.

الهدف الثاني:

أن يجعل هذه الشخصية تحت المراقبة الدقيقة، والواعية من قرب، من الداخل والخارج، وليمهد الطريق من ثم إلى القضاء عليها بأساليبه الخاصة. وقد أشرنا فيما سبق، إلى أننا لا نستبعد أن يكون من جملة ما كان يهدف إليه من وراء تزويجه الإمام بابنته، هو: أن يجعل عليه رقيبا داخليا موثوقا عنده هو، ويطمئن إليه الإمام نفسه.

وإذا ما لاحظنا أيضاً، أن: (المأمون كان يدس الوصائف هدية ليطلعنه على أخبار من شاء..)(١) ، وأنه كان: للمأمون على كل واحد صاحب خبر(٢) . (.. فإننا نعرف السر في إرساله بعض جواريه إلى الإمام الرضاعليه‌السلام بعنوان: هدية.. وقد أرجعها الإمامعليه‌السلام إليه مع عدة أبيات من الشعر، عندما رآها اشمأزت من شيبه)(٣) .

ولم يكتف بذلك، بل وضع على الإمامعليه‌السلام عيوناً آخرين، يخبرونه بكل حركة من حركاته، وكل تصرف من تصرفاته.

فقد كان: (هشام بن إبراهيم الراشدي من أخص الناس عند الرضاعليه‌السلام ، وكانت أمور الرضا تجري من عنده، وعلى يده، ولكنه لما حمل إلى مرو اتصل هشام بن إبراهيم بذي الرئاستين، والمأمون،

____________

(١) تاريخ التمدن الإسلامي ج ٥ جلد ٢ ص ٥٤٩، نقلاً عن: العقد الفريد ج ١ / ١٤٨.

(٢) تاريخ التمدن الإسلامي ج ٤ جلد ٢ ص ٤٤١، نقلاً عن: المسعودي ج ٢ / ٢٢٥، وطبقات الأطباء ج ١ / ١٧١، (٣) البحار ج ٤٩ / ١٦٤، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ١٧٨.

١٨٧

فحظي بذلك عندهما. وكان لا يخفي عليهما شيئاً من أخباره، فولاه المأمون حجابة الرضا. وكان لا يصل إلى الرضا إلا من أحب، وضيق على الرضا، فكان من يقصده من مواليه، لا يصل إليه. وكان لا يتكلم الرضا في داره بشيء إلا أورده هشام على المأمون، وذي الرئاستين..)(١) وعن أبي الصلت: أن الرضا (كان يناظر العلماء، فيغلبهم، فكان الناس يقولون: والله، إنه أولى بالخلافة من المأمون، فكان أهل الأخبار يرفعون ذلك إليه..)(٢) وأخيراً.. فإننا نلاحظ: أن جعفر بن محمد بن الأشعث، يطلب من الإمامعليه‌السلام : أن يحرق كتبه إذا قرأها، مخافة أن تقع في يد غيره، ويقول الإمامعليه‌السلام مطمئناً له: «إني إذا قرأت كتبه إلي أحرقتها.)(٣) إلى غير ذلك من الدلائل والشواهد الكثيرة، التي لا نرى أننا بحاجة إلى تتبعها واستقصائها.

الهدف الثالث:

أن يجعل الإمامعليه‌السلام قريباً منه، ليتمكن من عزله عن الحياة الاجتماعية، وإبعاده عن الناس، وإبعاد الناس عنه، حتى لا يؤثر عليهم بما يمتلكه من قوة الشخصية، وبما منحه الله إياه من العلم، والعقل، والحكمة. ويريد أن يحد من ذلك النفوذ له، الذي كان يتزايد باستمرار، سواء في خراسان، أو في غيرها.

وأيضاً.. أن لا يمارس الإمام أي نشاط لا يكون له هو دور رئيس فيه، وخصوصاً بالنسبة لرجال الدولة، إذ قد يتمكن الإمامعليه‌السلام من قلوبهم، ومن ثم من تدبير شيء ضد النظام القائم. دون أن يشعر أحد.

____________

(١) البحار ج ٤٩ / ١٣٩، ومسند الإمام الرضا ج ١ / ٧٧، ٧٨، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ١٥٣.

(٢) شرح ميمية أبي فراس ص ٢٠٤، والبحار ج ٤٩ / ٢٩٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ٢٣٩.

(٣) كشف الغمة ج ٣ / ٩٢، ومسند الإمام الرضا ج ١ / ١٨٧، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ٢١٩.

١٨٨

والأهم من ذلك كله:

أنه كان يريد عزل الإمامعليه‌السلام عن شيعته، ومواليه، وقطع صلاتهم به، وليقطع بذلك آمالهم، ويشتت شملهم، ويمنع الإمام من أن يصدر إليهم من أوامره، ما قد يكون له أثر كبير على مستقبل المأمون، وخلافته.

وبذلك يكون أيضاً قد مهد الطريق للقضاء على الإمامعليه‌السلام نهائياً، والتخلص منه بالطريقة المناسبة، وفي الوقت المناسب.

وقد قال المأمون إنه: (يحتاج لأن يضع من الإمام قليلاً قليلا، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر. ثم يدبر فيه بما يحسم عنه مواد بلائه.) كما سيأتي.

وقد قرأنا آنفاً أنه: (كان لا يصل إلى الرضا إلا من أحب ـ أي هشام بن إبراهيم ـ وضيق على الرضا، فكان من يقصده من مواليه، لا يصل إليه).

كما أن الرضا نفسه قد كتب في رسالته منه إلى أحمد بن محمد البيزنطي، يقول:((وأما ما طلبت من الإذن علي، فإن الدخول إلي صعب، وهؤلاء قد ضيقوا علي في ذلك الآن، فلست تقدر الآن، وسيكون إن شاء الله...)) (١) .

____________

(١) رجال المامقاني ج ١ / ٧٩، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ٢١٢.

١٨٩

كما أننا نرى أنه عندما وصل إلى القادسية، وهو في طريقه إلى مرو، يقول لأحمد بن محمد بن أبي نصر: (إكتر لي حجرة لها بابان: باب إلى الخان، وباب إلى خارج، فإنه أستر عليك..)(١) .

ولعل ذلك هو السبب في طلبه من الإمامعليه‌السلام ، ومن رجاء بن أبي الضحاك: أن يمرا عن طريق البصرة، فالأهواز إلخ.. ما سيأتي: ولا نستبعد أيضاً أن يكون عزل الإمام عن الناس، هو أحد أسباب إرجاع الإمام الرضا عن صلاة العيد مرتين(٢) . وللسبب نفسه أيضاً فرق عنه تلامذته، عندما أخبر أنه يقوم بمهمة التدريس، وحتى لا يظهر علم الإمام، وفضله.. إلى آخر ما هنالك من صفحات تاريخ المأمون السوداء.

الهدف الرابع:

إن المأمون في نفس الوقت الذي يريد فيه أن يتخذ من الإمام مجناً يتقي به سخط الناس على بني العباس، ويحوط نفسه من نقمة الجمهور. يريد أيضاً، أن يستغل عاطفة الناس ومحبتهم لأهل البيت ـ والتي زادت ونمت بعد الحالة التي خلفتها الحرب بينه وبين أخيه ـ ويوظف ذلك في صالحه هو، وصالح الحكم العباسي بشكل عام.

أي أنه كان يهدف من وراء لعبته تلك، والتي كان يحسب أنها سوف تكون رابحة جداً ـ إلى أن يحصل على قاعدة شعبية، واسعة، وقوية. حيث كان يعتقد ويقدر: أن نظام حكمه سوف ينال من التأييد، والقوة، والنفوذ، بمقدار ما كان لتلك الشخصية من التأييد، والنفوذ والقوة.. وإذا ما استطاع في نهاية الأمر أن يقضي عليها، فإنه يكون قد أمن خطراً عظيماً، كان يتهدده من قبلها، بمقدار ما كان لها من العظمة والخطر.

____________

(١) بصائر الدرجات ص ٢٤٦، ومسند الإمام الرضا ج ١ / ١٥٥.

(٢) هذه القضية معروفة ومشهورة، فراجع: الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص ٢٤٦، ٢٤٧، ومطالب السؤول، لمحمد بن طلحة الشافعي، طبعة حجرية ص ٨٥، وإثبات الوصية للمسعودي ص ٢٠٥، ومعادن الحكمة ص، ١٨٠، ١٨١، ونور الأبصار ص ١٤٣، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٦٥، وإعلام الورى ص ٣٢٢، ٣٢٣، وروضة الواعظين ج ١ / ٢٧١، ٢٧٢، وأصول الكافي ج ١ / ٤٨٩، ٤٩٠، والبحار ج ٤٩ / ١٣٥، ١٣٦، ١٧١، ١٧٢، وعيون أخبار الرضا، وإرشاد المفيد، وأعيان الشيعة، وكشف الغمة، وغير ذلك.

ولسوف يأتي فصل: خطة الإمام، وغيره من الفصول، ما يتعلق بذلك إن شاء الله تعالى.

١٩٠

إن المأمون قد اختار لولاية عهده رجلاً يحظى بالاحترام والتقدير من جميع الفئات والطبقات، وله من النفوذ، والكلمة المسموعة، ما لم يكن لكل أحد سواه في ذلك الحين. بل لقد كان الكثيرون يرون: أن الخلافة حق له، وينظرون إلى الهيئة الحاكمة على أنها ظالمة له وغاصبة لذلك الحق:

يقول الدكتور الشيبي، وهو يتحدث عن الرضاعليه‌السلام : (إن المأمون جعله ولي عهده، لمحاولة تألف قلوب الناس ضد قومه العباسيين، الذين حاربوه، ونصروا أخاه..)(١) .

ويقول:. (.. وقد كان الرضا من قوة الشخصية، وسمو المكانة: أن التف حوله المرجئة، وأهل الحديث، والزيدية، ثم عادوا إلى مذاهبهم بعد موته.)(٢) .

وكذلك هو يقول ـ وهو مهم فيما نحن بصدده ـ: (.. إن الرضا لم يكن بعد توليته العهد إمام الشيعة وحدهم، وإنما مر بنا:

____________

(١) الصلة بين التصوف والتشيع ص ٢٢٣، ٢٢٤.. ونحن لا نوافق الدكتور الشيبي على أنه كان يريد التقوي بذلك على العباسيين، كما اتضح، وسيتضح إن شاء الله.

(٢) المصدر السابق ص ٢١٤.

١٩١

أن الناس، حتى أهل السنة، والزيدية، وسائر الطوائف الشيعية المتناحرة.. قد اجتمعت على إمامته، وإتباعه، والالتفاف حوله.)(١) .

وهذا كما ترى تصريح واضح منه بهدف المأمون، الذي نحن بصدد بيانه.

ويقول محمد بن طلحة الشافعي مشيراً إلى ذلك، في معرض حديثه عن الإمام الرضاعليه‌السلام : (.. نما إيمانه، وعلا شأنه، وارتفع مكانه، وكثر أعوانه، وظهر برهانه، حتى أدخله الخليفة المأمون محل مهجته، وأشركه في مملكته.)(٢) .

وتقدم أنهعليه‌السلام كان ـ باعتراف المأمون ـ (الأرضى في الخاصة والعامة) وأن كتبه كانت تنفذ في المشرق والمغرب، حتى إن البيعة له بولاية العهد، لم تزده في النعمة شيئاً.. وأنه كان له من قوة الشخصية ما دفع أحد أعدائه لأن يقول في حقه للمأمون: (هذا الذي بجنبك والله صنم يعبد دون الله) إلى آخر ما هنالك، مما قدمنا (غيضاً من فيض منه).

كما وتقدم أيضاً قول المأمون في رسالته للعباسيين: (.. وإن تزعموا: أني أردت أن يؤول إليهم عاقبة ومنفعة ـ يعني للعلويين ـ، فإني في تدبيركم، والنظر لكم. ولعقبكم، وأبنائكم من بعدكم..)، وأيضاً عبارته التي كتبها المأمون بخط يده في وثيقة العهد، فلا نعيد.

وهكذا.. فما على العباسيين إلا أن ينعموا بالاً، ويقروا عيناً، فإن المأمون كان يدبر الأمر لصالحهم ومن أجلهم.. وليس كما يقوله الدكتور الشيبي، وغيره من أنه أراد أن يحصل على التأييد الواسع، ليقابل العباسيين، ويقف في وجههم.

____________

(١) المصدر السابق ص ٢٥٦.

(٢) مطالب السؤول ص ٨٤، ٨٥. وقريب منه ما في: الإتحاف بحب الأشراف ص ٥٨.

١٩٢

إشارة هامة لا بد منها:

هذا.. ويحسن بنا أن نشير هنا: إلى ما قاله ابن المعتز في الروافض. وإلقاء نظرة فاحصة على السبب الذي جعلهم مستحقين لهذه الحملة الشعواء منه.. فهو يقول:

لـقد قـال الروافض في علي

مـقالاً جـامعاً كـفراً وموقا

زنـادقة أرادت كـسب مـال

مـن الـجهال فـاتخذته سوقا

وأشـهـد أنـه مـنهم بـريّ

وكـان بـأن يـقتلهم خـليقا

كـما كـذبوا عـليه وهو حي

فـأطعم نـاره مـنهم فـريقا

وكـانوا بالرضا شغفوا زماناً

وقـد نفخوا به في الناس بوقا

وقـالـوا: إنـه رب قـديرا

فكم لصق السواد به لصوقا(١)

وهذه الأبيات تعبر عن مدى صدمة ابن المعتز، وخيبة أمله في الروافض، الذين ضايقه جداً امتداد دعوتهم في طول البلاد الإسلامية، وعرضها. وخصوصاً في زمن الرضا. والذي لم يجد شيئاً يستطيع أن ينتقص به إمامهم الرضاعليه‌السلام سوى أنه كان أسود اللون، وأن الروافض قالوا: إنه رب قدير.. وسر حنقه هذا على الروافض ليس هو إلا عقيدتهم في عليعليه‌السلام ـ التي كان يراها خطراً حقيقياً على القضية العباسية ـ والتي تتلخص بأنهعليه‌السلام : يستحق الخلافة بالنص. وهذه العقيدة والمقالة هي التي جعلتهم يستحقون من ابن المعتز أن يجمع لهم بين وصفي الكفر والزندقة، واتهامه لهم، بأنهم يقصدون بذلك كسب المال من الجهال. ثم يتهمهم بأنهم قد قالوا بنفس هذه المقالة في علي الرضاعليه‌السلام ، فقالوا: إنه الإمام الثابت إمامته بالنص، وشهروا بذلك، حتى علم به عامة الناس، ونفخوا به في الناس بوقاً.. وحتى لقد التف حوله أهل الحديث، والزيدية. بل والمرجئة، وأهل السنة، على حد تعبير الشيبي، وقالوا: بإمامة أبيه، ثم بإمامته.

____________

(١) ديوان ابن المعتز ص ٣٠٠، ٣٠١، والأدب في ظل التشيع ص ٢٠٦.

١٩٣

وبديهي.. أن لا يرتاح ابن المعتز، الذي كان في صميم الأسرة العباسية لهذا الامتداد للتشيع، ولمقالة الروافض، حيث إن ذلك يعني أن الأئمة الذين هم بين الرضا، وعلي أمير المؤمنينعليهما‌السلام ، كلهم تثبت إمامتهم بالنص.

ولقد بلغ من حنقه عليهم، بسبب ذلك الامتداد الواسع لعقيدتهم ـ وخصوصاً في زمان الرضا ـ أن دفعه إلى أن يخلط عن عمد، أو عن غير عمد بين عقيدة الروافض هذه، وبين عقيدة الغلاة، حيث أضاف إلى مقالة الروافض تلك مقالة أخرى، هي: القول بإلوهية عليعليه‌السلام .

وإذا كنا واثقين من أن الفرق الشاسع بين عقيدة الروافض، وعقيدة الغلاة، لم يكن ليخفى على مثل ابن المعتز، بل على من هو أقل منه بمراتب، فإننا سوف ندرك بما لا مجال معه للشك: أن يقصد بهذا الخلط المتعمد: التشنيع على الروافض، وتهجين عقيدتهم، إذ أنه يقصد ب‍ـ (الروافض)، ـ حسبما هو صريح كلامه ـ خصوص القائلين بإمامة الرضا، وإمامة علي أمير المؤمنين، ومن بينهما. وهو يعلم وكل أحد يعلم: أنه ليس فيهم من يقول بإلوهية أحدهما، أو إلوهيتهما، أو إلوهية غيرهما من أئمة أهل البيتعليهم‌السلام .

وأخيراً.. فإن قول واعتراف ابن المعتز هذا ـ وهو من نعلم ـ لخير دليل على مدى تحرر الشيعة في زمن الرضا، واتساع نفوذهم، وعلى أن شخصية الرضاعليه‌السلام ، كانت قد استقطبت قطاعاً واسعاً، إن لم نقل: أنه القطاع الأكبر من الأمة الإسلامية، في طول البلاد وعرضها، في تلك الفترة من الزمن، وقد تقدم بعض ما يدل على ذلك، فلا نعيد.

الهدف الخامس:

هذا.. ونستطيع أن نقول أيضاً: إنه كان يريد أن يقوي من دعائم حكمه، حيث قد أصبح الحكم يمتلك شخصية تعنو لها الجباه بالرضا والتسليم، ولقد كان الحكم بأمس الحاجة إلى شخصية من هذا القبيل. في مقابل أولئك المتزلفين القاصرين، الذين كانوا يتجمعون حول الحكم العباسي، طلبا للشهرة، وطمعا بالمال، والذين لم يعد يخفى على أحد حالهم ومآلهم.. وعلى الأخص بعد أن رأى فشلهم في صد حملات علماء الملل الأخرى، والذين كانوا قد ضاعفوا نشاطاتهم، عندما رأوا ضعف الدولة، وتمزقها، وتفرقها إلى جماعات وأحزاب.

نعم.. لقد كان الحكم يحتاج إلى العلماء الأكفاء، والأحرار في تفكيرهم، وفي نظرتهم الواعية للإنسان والحياة، ولم يعد بحاجة إلى المتزلفين، والجامدين، والانهزاميين، ولهذا نراه يستبعد أصحاب الحديث الجامدين، الذين كان أكثرهم في الجهة المناوئة له، يشدون من أزرها، ويقيمون أودها..

١٩٤

ويقرب المعتزلة: كبشر المريسي، وأبي الهذيل العلاف وأضرابهما. ولكن الشخصية العلمية، التي لا يشك أحد في تفوقها على جميع أهل الأرض علماً وزهدا، وورعاً وفضلاً الخ. كانت منحصرة في الإمام الرضاعليه‌السلام ، باعتراف من نفس المأمون، كما قدمنا، ولهذا فقد كان الحكم يحتاج إليها أكثر من احتياجه لأية شخصية أخرى، مهما بلغت.

الهدف السادس:

ولعل من الأهمية بمكان بالنسبة إليه، أنه يكون في تلك الفترة المليئة بالقلاقل والثورات، قد أتى الأمة بمفاجئة مثيرة، من شأنها أن تصرف أنظار الناس عن حقيقة ما يجري، وما يحدث، وعن واقع المشاكل التي كان يعاني الحكم والأمة منها، وما أكثرها.

وقد عبر إبراهيم بن المهدي، عن دهشة بني العباس في أبياته المتقدمة. حتى لقد ذهل ـ على حد قوله ـ الحواضن عن بنيها! وصد الثدي عن فمه الصبي!

وبعد هذا. فلسنا بحاجة إلى كبير عناء، لإدراك مدى دهشة غيرهم: ممن رأوا وسمعوا بمعاملة العباسيين لأبناء عمهم. ولسوف ندرك مدى عظمة دهشتهم تلك إذا ما لاحظنا: أنهم كانوا سياسياً أقل وعيا وتجربة من مثل إبراهيم بن المهدي، الذي عاش في أحضان الخلافة. وكان بمرأى ومسمع من ألاعيب السياسة، ومكر الرجال.

الهدف السابع:

طبيعي بعد هذا: أنه قد أصبح يستطيع أن يدعي، بل لقد ادعى بالفعل ـ على ما في وثيقة العهد ـ: أن جميع تصرفاته، وأعماله، لم يكن يهدف من ورائها، إلا الخير للأمة، ومصلحة المسلمين، وحتى قتله أخاه، لم يكن من أجل الحكم، والرياسة، بقدر ما كان من أجل خير المسلمين، والمصلحة العامة، يدل على ذلك: أنه عندما رأى أن خير الأمة، إنما هو في إخراج الخلافة من بني العباس كلية، وهم الذين ضحوا الكثير في سبيلها، وقدموا من أجلها ما يعلمه كل أحد ـ عندما رأى ذلك ـ وأن ذلك لا يكون إلا بإخراجها إلى ألد أعدائهم، سارع إلى ذلك، بكل رضى نفس، وطيبة خاطر.. وليكون بذلك قد كفر عن جريمته النكراء، والتي كانت أحد أسباب زعزعة ثقة الناس به، ألا وهي: قتله أخاه الأمين، العزيز على العباسيين والعرب. وليكون بذلك، قد ربط الأمة بالخلافة، وكسب ثقتها فيها، وشد قلوب الناس، وأنظارهم إليها، حيث أصبح باستطاعتهم أن ينتظروا منها أن تقيم العدل، وترفع الظلم، وأن تكون معهم، وفي خدمتهم، وتعيش قضاياهم. وليكون لها من ثم من المكانة والتقدير، وما يجعلها في منأى ومأمن من كل من يتحينون بها الفرص، ويبغون لها الغوائل.

١٩٥

ويدل على ذلك ـ عدا عما ورد في وثيقة العهد ـ ما ورد من أن المأمون كتب إلى عبد الجبار بن سعد المساحقي، عامله على المدينة: أن اخطب الناس، وادعهم إلى بيعة الرضا، فقام خطيبا، فقال:

(يا أيها الناس، هذا الأمر الذي كنتم فيه ترغبون، والعدل الذي كنتم تنتظرون، والخير الذي كنتم ترجون، هذا علي بن موسى، بن جعفر، بن محمد، بن علي، بن الحسين، بن علي بن أبي طالب:

ســتـة آبــاؤهـم مــا هــم

من أفضل من يشرب صوب الغمام(١)

وقد أكد ذلك بحسن اختياره، إذ قد اختار هذه الشخصية، التي تمثل ـ في الحقيقة ـ أمل الأمة، ورجاءها، في حاضرها، ومستقبلها، وتكون النتيجة ـ بعد ذلك ـ أنه يكون قد حصل على حماية لكل تصرف يقدم عليه في المستقبل، وكل عمل يقوم به.. مهما كان غريباً، ومهما كان غير معقول، فإن على الأمة أن تعتبره صحيحاً وسليماً، لا بد منه، ولا غنى عنه، وإن لم تعرف ظروفه، ودوافعه الحقيقية. بل وحتى مع علمها بها، فإن عليها أن تؤول ما يقبل التأويل، وإلا. فإن عليها أن تدفن رأسها في التراب، وتتناسى ما تعلم. أو أن تعتبر نفسها قاصرة عن إدراك المصالح الحقيقية الكامنة في تلك التصرفات الغريبة، وأن ما أدركته ـ ولو كان حقاً ـ لا واقع له، ولا حقيقة وراءه. ويدل على ذلك بشكل واضح أبيات ابن المعتز الآتية ص ٣٠٥/٣٠٦ يقول ابن المعتز:

وأعـطاكم الـمأمون حـق خلافة

لـنا حـقها لـكنه جـاد بـالدنيا

لـيعلمكم أن الـتي قـد حرصتموا

عليها وغودرتم على أثرها صرعى

يـسير عـليه فـقدها غـير مكثر

كـما ينبغي للصالحين ذوي التقوى

____________

(١) العقد الفريد ج ٣ / ٣٩٢، طبع مصطفى محمد بمصر سنة ١٩٣٥ و (ما) في البيت زائدة.. ولا يخفى ما في البيت، وقد أثبتناه، كما وجدناه.

١٩٦

وعلى كل حال، فإنه يتفرع على ما ذكرناه:

أولاً: إنه بعد أن أقدم على ما أقدم عليه، فليس من المنطقي بعد للعرب أن يسخطوا عليه، بسبب معاملة أبيه، أو أخيه، وسائر أسلافه لهم، فإن المرء بما كسب هو، لا بما كسب أهله، ولا تزر وازرة وزر أخرى.

وكيف يجوز لهم أن يغضبوا بعد، وهو قد أرجع الخلافة إليهم، بل وإلى أعرق بيت فيهم. وعرفهم عملا: أنه لا يريد لهم، ولغيرهم، إلا الصلاح والخير..

وليس لهم بعد حق في أن ينقموا عليه معاملته القاسية لهم، ولا قتله أخاه، ولا أن يزعجهم، ويخيفهم تقريبه للإيرانيين، ولا جعله مقر حكمه مروا إلى آخر ما هنالك.. ما دام أن الخلافة قد عادت إليهم، على حسب ما يشتهون، وعلى وفق ما يريدون.

ومن هنا.. فلا يجب أن نعجب كثيراً، حين نراهم: قد تلقوا بيعة الرضا بنفوس طيبة، وقلوب رضية. حتى أهل بغداد نرى أنهم قد تقبلوها إلى حد كبير، فقد نص المؤرخون ـ ومنهم الطبري، وابن مسكويه ـ على أن بعضهم وافق، والبعض الآخر ـ وهم أنصار بني العباس ـ رفض. وهذا يدل دلالة واضحة: على أن بغداد، معقل العباسيين الأول، كانت تتعاطف مع العلويين إلى درجة كبيرة..

١٩٧

بل ونص المؤرخون، على أن: إبراهيم بن المهدي، المعروف بابن شكلة، الذي بويع له في بغداد غضبا من تولية الرضا للعهد: لم يستطع أن يسيطر إلا على بغداد، والكوفة والسواد(١) ، بل وحتى الكوفة قد استمرت الحرب قائمة فيها على ساق وقدم أشهراً عديدة بين أنصار المأمون، وعليهم الخضرة، وأنصار العباسيين وعليهم السواد(٢) .

وثانياً: وأما الإيرانيون عامة، والخراسانيون خاصة، والمعروفون بتشيعهم للعلويين، فقد ضمن المأمون استمرار تأييدهم له، وثقتهم به، بعد أن حقق لهم غاية أمانيهم. وأغلى أحلامهم، وأثبت لهم عملاً، حبه لمن يحبون، ووده لمن يودون.. وأن لا ميزة عنده لعباسي على غيره، ولا لعربي على غيره، وأن الذي يسعى إليه، هو ـ فقط خير الأمة، ومصلحتها، بجميع فئاتها، ومختلف طبقاتها، وأجناسها.

ملاحظة هامة:

إن من الجدير بالملاحظة هنا: أن الرضاعليه‌السلام كان قد قدم إلى إيران قبل ذلك. والظاهر أنه قدمها في حدود سنة ١٩٣ ه‍. أي في الوقت المناسب لوفاة الرشيد، فقد ذكر الرضي المعاصر للمجلسي في كتابه: ضيافة الإخوان: أن علياً الرضاعليه‌السلام كان مستخفياً في قزوين في دار داوود بن سليمان الغازي أبي عبد الله، ولداوود نسخة يرويها عن الرضاعليه‌السلام ، وأهل قزوين يروونها عن داوود، كإسحاق بن محمد، وعلي بن مهرويه(٣) .

وقال الرافعي في التدوين: (وقد اشتهر اجتياز علي بن موسى الرضا بقزوين. ويقال: إنه كان مستخفيا في دار داوود بن سليمان الغازي، روى عنه النسخة المعروفة، وروى عنه إسحاق بن محمد، وعلي بن مهرويه، وغيرهما.

____________

(١) راجع البداية والنهاية ج ١٠ / ٢٤٨، وغيره من كتب التاريخ. وزاد أحمد شلبي في كتابه: التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية ج ٣ / ١٠٥ ـ زاد على ذلك: المدائن أيضاً.

(٢) راجع: الكامل لابن الأثير ج ٥ / ١٩٠، والبداية والنهاية ج ١٠ / ٢٤٨، وغير ذلك.

(٣) راجع كتاب: ضيافة الإخوان مخطوط في مكتبة المدرسة الفيضية في قم، في ترجمة أبي عبد الله القزويني، وعلي بن مهرويه القزويني.

١٩٨

قال الخليل: وابنه المدفون في مقبرة قزوين، يقال: إنه كان ابن سنتين، أو أصغر)(١) انتهى كلام الرافعي.

والمراد بالخليل في كلامه، هو الخليل بن عبد الله بن أحمد بن إبراهيم الخليلي، القزويني، وهو الحافظ المشهور، مصنف كتاب الإرشاد، وكتاب تاريخ قزوين، الذي فرغ من تأليفه حوالي سنة أربعمائة هجرية، وكانت وفاته سنة ٤٤٦ ه‍.

الهدف الثامن:

لقد كان من نتائج اختياره الإمام، والبيعة له بولاية العهد ـ التي كان يتوقعها ـ: أن أخمد ثورات العلويين في جميع الولايات والأمصار.

ولعله لم تقم أية ثورة علوية ضد المأمون ـ بعد البيعة للرضا، سوى ثورة عبد الرحمان بن أحمد في اليمن. وكان سببها ـ باتفاق المؤرخين ـ هو فقط: ظلم الولاة وجورهم، وقد رجع إلى الطاعة بمجرد الوعد بتلبية مطالبه.

بل لا بد لنا أن نضيف إلى ذلك:

أ ـ : إنه ليس فقط أخمد ثوراتهم. بل لقد حصل على ثقة الكثيرين منهم، ومن والاهم، وشايعهم. والخراسانيون منهم، ويشير المأمون إلى هذا المعنى في رسالته، التي أرسلها إلى عبد الله بن موسى، حيث يقول:

(.. ما ظننت أحداً من آل أبي طالب يخافني، بعد ما عملته بالرضا) والرسالة مذكورة في أواخر هذا الكتاب.. كما أنه كتب للعباسيين في بغداد في رسالته، التي أشرنا إليها غير مرة، يقول لهم: إنه يريد بذلك أن يحقن دماءهم، ويذود عنهم، باستدامة المودة بنيهم، وبين العلويين.

ب: بل ونزيد هنا على ما تقدم: أنه قد بايعه منهم ومن أشياعهم من لم يكن بعد قد بايعه، وهم قسم كبير جداً، بل لقد بايعه أكثر المسلمين، ودانوا له بالطاعة، بعد أن كانوا مخالفين له ممتنعين عن بيعته، حسبما قدمناه.

وهذه دون شك هي إحدى أمنيات المأمون، بل هي أجل أمنياته وأغلاها.

ج: قال ابن القفطي في معرض حديثه عن عبد الله بن سهل ابن نوبخت:

(.. هذا منجم مأموني، كبير القدر في صناعته، يعلم المأمون قدره في ذلك. وكان لا يقدم إلا عالما مشهودا له، بعد الاختيار..

____________

(١) التدوين قسم ٢ ورقة ٢٣٥ مخطوط في مكتبة دار التبليغ الإسلامي في قم، ترجمة علي الرضا..

١٩٩

وكان المأمون قد رأى آل أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب متخشين، متخفين، من خوف المنصور، ومن جاء بعده من بني العباس. ورأى العوام قد خفيت عنهم أمورهم بالاختفاء، فظنوا ما يظنونه بالأنبياء، ويتفوهون بما يخرجهم عن الشريعة، من التغالي.

فأراد معاقبة العامة على هذا الفعل.

ثم فكر: أنه إذا فعل هذا بالعوام زادهم إغراء به، فنظر نظراً دقيقاً، وقال: لو ظهروا للناس، ورأوا فسق الفاسق منهم، وظلم الظالم، لسقطوا من أعينهم، ولانقلب شكرهم لهم ذماً.

ثم قال: إذا أمرناهم بالظهور خافوا، واستتروا، وظنوا بنا سوءاً، وإنما الرأي: أن نقدم أحدهم، ويظهر لهم إماماً، فإذا رأوا هذا أنسوا، وظهروا، وأظهروا ما عندهم من الحركات الموجودة في الآدميين، فيحقق للعوام حالهم، وما هم عليه، مما خفي بالاختفاء، فإذا تحقق ذلك أزلت من أقمته، ورددت الأمر إلى حالته الأولى. وقوي هذا الرأي عنده، وكتم باطنه عن خواصه.. وأظهر للفضل ابن سهل: أنه يريد أن يقيم إماماً من آل أمير المؤمنين علي (صلوات الله عليه).

وفكر هو وهو: فيمن يصلح، فوقع إجماعهما على الرضا، فأخذ الفضل بن سهل في تقرير ذلك. وترتيبه وهو لا يعلم باطن الأمر. وأخذ في اختيار وقت لبيعة الرضا، فاختار طالع السرطان، وفيه المشتري الخ)(١) .

ثم ذكر أن عبد الله بن سهل أراد اختبار المأمون، فأخبره أن البيعة لا تتم إذا وقعت في ذلك الوقت، فهدده المأمون بالقتل إن لم تقع البيعة في ذلك الوقت بالذات، لأنه سوف يعتبر أنه هو الذي أفسد عليه ما كان دبره الخ..

وابن القفطي هنا، لا يبدو أنه يعتبر الإمام الرضاعليه‌السلام من أولئك الذين يريد المأمون إظهار تفاهاتهم للناس، ولكنه يوجه نظره إلى بقية العلويين في ذلك.. ونحن إن كنا لا نستبعد من المأمون ما ذكره ابن القفطي هنا لكننا لا نستطيع أن نعتبر أن هذا كان من الأسباب الرئيسية لدى المأمون، إذ لا نعتقد أن المأمون كان من السذاجة بحيث يجهل أن بقية العلويين لم يكونوا ـ إجمالاً ـ على الحال التي كان يريد أن يظهرهم عليها للناس، وأنهم كانوا أكثر تديناً والتزاماً من أي فئة أخرى على الإطلاق..

____________

(١) تاريخ الحكماء ص ٢٢١، ٢٢٢.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578