شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم10%

شبهات وردود حول القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 578

شبهات وردود حول القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 578 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 297360 / تحميل: 13674
الحجم الحجم الحجم
شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

* * *

والّذي جاء في القرآن بهذا الشأن ليس فيه ما يخالف التوراة جوهريّاً، وجاء تفصيل القصّة في القرآن في سورة الشعراء (١) وأوجزها في سائر السور (٢) وجاء التعبير في هذه الآيات بالبحر وباليمّ وهو: لجّةُ الماء ومعظمُهُ.

لكنْ هناك في التفاسير أمور يبدو عليها بعض الإبهام، فقد ذَكر المفسّرون: أنّ الطُرق التي انفلقت لبني إسرائيل للعبور كانت على عدد أسباطهم اثني عشرَ طريقاً، (٣) الأمر الّذي ليست عبارة القرآن نصّاً فيه بل ولا إشارةً إليه.

وأمّا قوله تعالى: ( فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ) (٤) فالمعنى: أنّ البحر انشقّ وتجمّع الماء في كلّ جانبٍ يميناًَ ويساراً كالجبل، والفِرْق - بكسر الفاء - اسم لما انفرق، قال الراغب: الفِرق القطعة المنفصلة، فكلّ جانبٍ من البحر انفصل عن الجانب الآخر وصار كلّ جانب كجبلٍ عظيمٍ.

ولعلّ في قوله تعالى: ( فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً ) (٥) ما يتنافى وقولهم بتعدّد الطرق على عدد الأسباط.

وهكذا نجد أنّ بعض المفسّرين احتمل أنْ يكون المقصود هو نهر النيل؛ بحجّة أنّ العرب تُسمّي الماء العَذِب أيضاً بحراً إذا كثُر، قال الآلوسي: واختلفوا في هذا البحر، فقيل: القُلزم، وكان بين طرفيه أربعة فراسخ!

وقيل: النيل، والعرب تُسمّي الماء المـَلِح والعَذِب بحراً إذا كثُر، ومنه: ( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ) (٦) وقال الطبرسي: وهو نهر النيل ما بين أيلة

____________________

(١) الشعراء ٢٦: ٥٢ - ٦٨.

(٢) راجع: سورة البقرة ٢: ٥٠، والأعراف ٧: ١٣٦ - ١٣٨، ويونس ١٠: ٩٠، والإسراء ١٧: ١٠٣ و ١٠٤، وطه ٢٠: ٧٧، والقصص ٢٨: ٣٩ و ٤٠، والزخرف ٤٣: ٥٥ و ٥٦. والدخان ٤٤: ١٧ - ١٣، والذاريات ٥١: ٣٨ - ٤٠.

(٣) راجع: جامع البيان للطبري، ج ١، ص ٢١٩ تجد فيه العجائب والغرائب بهذا الشأن، وراجع أيضاً: مجمع البيان، ج ٧، ص ١٩١.

(٤) الشعراء ٢٦: ٦٣.

(٥) طه ٢٠: ٧٧.

(٦) الرحمان ٥٥: ١٩.

٦١

ومصر، وقيل هو بحر القُلزم ما بين اليمن ومكّة إلى مصر (١) .

ولقد فات هؤلاء أنّ بني إسرائيل أخذوا في طريقهم إلى أرض فلسطين عِبر وادي سيناء، ولم يعترض طريقهم إلى وادي سيناء سوى البحر الأحمر، أمّا النيل فلا مساس له بذلك ولم يكن على جهة مسيرتهم نحو فلسطين؛ إذ كان النيل على جهة الغرب وفلسطين على جهة الشرق حيث توجّه بنو إسرائيل، وليس في طريقهم ما يحول بينهم وبين فلسطين سوى مضيق السويس في نهاية البحر الأحمر.

قصّة العجل والسامري

تَنسب التوراة صُنْعَ العجل إلى هارون بدلَ السامري الّذي يذكره القرآن.

جاء في سِفر الخروج: أنّ موسى (عليه السلام) لمـّا أبطأ على بني إسرائيل طلبوا من هارون أنْ يصنع لهم آلهةً، فأجابهم هارون إلى ذلك، وأخذ أقراط الذهب وصنع منها عجلاً مسبوكاً، وقال: هذه آلهتك يا إسرائيل التي أَصعَدَتْكَ من أرض مصر. فأصْعَدوا محرّقات وقدّموا ذبائح، وأكلوا وشربوا وقاموا باللعِب حول العجل.

وأخبر الربّ موسى أنّ الشعب قد أفسد، فقد صنعوا عجلاً وسجدوا له... فحميَ غضبُ الربِّ وأراد أنْ يَهلِكَهُم؛ لولا أنّ موسى تشفّع لهم، وكان عندما اقترب إلى المحلّة أبصر العجل والرقص، فحمي غضبُه وطرح اللوحين من يديه وكسرهما، ثُمّ أخذ العجل الذي صنعوا وأحرقه بالنار، وطحنه وذرّاه على الماء وسقاه بني إسرائيل.

وقال لهارون: ماذا صَنَع بك هذا الشعبُ حتّى جلبتَ عليه خطيئةً عظيمةً؟! فاعتذر أنّهم افتقدوك فصنعتُ لهم العجل (٢) .

* * *

ونقرأ في سورة طه:

( وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى * قَالَ

____________________

(١) روح المعاني، ج ١، ص ٢٣٣، وراجع: مجمع البيان، ج ٧، ص ١٩١.

(٢) سِفر الخروج، إصحاح ٣٢ / ١ - ٢٤.

٦٢

فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ * فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي * قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ * أَفَلا يَرَوْنَ أَلاّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً *وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي * قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى * قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلاّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي * قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي * قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ * قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي * قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً ) (١) .

مواضع الاختلاف بين القرآن والتوراة بشأن العجل

١ - ذكرت التوراة: أنّ الّذي صَنَع العجلَ هو هارون أخو موسى (عليه السلام).

وجاء في سورة طه: أنّه السّامري في ثلاثة مواضع (٢) ، وأنّ هارون أراد منعهم من ذلك فلم يستطع: ( قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) (٣) .

٢ - وذكرت: أنّ موسى لمـّا حَمَيَ غضبُه طرح اللوحَينِ من يديه وكسرهما.

وجاء في القرآن: أنّه ألقى الألواح (٤) - لكنّها لم تتكسّر - ومِن ثمّ ( وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ) (٥) .

٣ - وذكرت: أنّ موسى أخذ العجل وأحرقه وطحنه وذرّاه في ماءٍ وسقاه بني إسرائيل.

____________________

(١) طه ٢٠: ٨٣ - ٩٧.

(٢) طه ٢٠: ٨٥ و ٨٧ و ٩٥.

(٣) الأعراف ٧: ١٥٠.

(٤) الأعراف ٧: ١٥٤.

(٥) الأعراف ٧: ١٥٤.

٦٣

وجاء في القرآن: أنّه حرّقه ونسفه في اليمّ نسفاً (١) .

٤ - وجاء في القرآن: أنّهم اتّخذوا ( عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ ) (٢) لكنّه لا يكلّمهم ولا يُرجع إليهم قولاً (٣) .

وقد سكتت التوراة عن ذلك.

٥ - وجاء في القرآن قولةُ السامري: ( قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ) (٤) .

وسكتت التوراة عن ذلك.

* * *

وحَسَبَ الأُستاذ عبد الوهاب النجّار أنّ هناك وجهاً سادساً للفرق بين القرآن والتوراة بشأن قصّة العجل، قال: والّذي يظهر من عبارة سِفر الخروج: أنّ ذهاب الشيوخ السبعين كان قبل عبادة العجل، وأمّا القرآن فإنّه يَذكر أنّه ذهب لتلقّي الألواح قبل عبادتهم العجل، وذهب مع الشيوخ السبعين بعد ذلك، وهذا هو المعقول (٥) .

والّذي أوقع الأُستاذ في هذا الوهم أنّه وجد قوله تعالى: ( وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا ) (٦) ، بعد قصّة العجل في نفس السورة (٧) .

لكنْ الثَبْتُ الموجود في المـُصحف الشريف لا يَصلح دليلاً على الترتيب في الحوادث التي يذكرها القرآن، بل لا دليل فيه على أنّ النزول كان على نفس ترتيب الثَبت، حسبَما نَبّهنا عليه في الجزء الأَوّل من التمهيد.

من ذلك قصّة ذبح البقرة ثبتت في المـُصحف قبل قصّة درءِ القتل في بني إسرائيل (٨) .

____________________

(١) طه ٢٠: ٩٧.

(٢) الأعراف ٧: ١٤٨، طه ٢٠: ٨٨.

(٣) الأعراف ٧: ١٤٨، طه ٢٠: ٨٩.

(٤) طه ٢٠: ٩٦.

(٥) قصص الأنبياء للنجّار، ص ٢٢٦، وراجع: القصّة في التوراة في سِفر الخروج، إصحاح ٣٢ - ٢٤.

(٦) الأعراف ٧: ١٥٥.

(٧) الأعراف ٧: ١٤٨ - ١٥٤.

(٨) البقرة ٢: ٦٧ - ٧٣.

٦٤

على أنّ في القرآن ما يشهد بوقوع مأساة العجل بعد ذهاب الشيوخ السبعين للميقات:

أوّلاً: أنّ ذهاب الشيوخ السبعين كان حسب الوعد للميقات، وقد صرّحت الآيات بأنّ مأساة العجل وقعت بعد هذا الميقات الذي طال أربعين ليلة.

قال تعالى: ( وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ - إلى قوله - وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ ) (١) .

وقال بشأن السبعين رجلاً: ( وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا ) (٢) .

أما فَعْلُ السفهاء الذي يعتذر منه موسى فهو طلبهم الرؤية: ( يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباًٍ مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ) (٣) .

ثانياً: التصريح بذلك في سورة النساء: ( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ ) (٤) .

ومن المعلوم أنّ هؤلاء الشيوخ السبعين إنّما صحبوا موسى للميقات؛ لإبلاغ رسالة القوم في طلب الرؤية، ومِن ثَمّ جاء في سورة طه: ( وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى * قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ ) (٥) .

* * *

وهكذا جاء في سِفر الخروج (١ ص٢٤):

وقال لموسى اصعد إلى الربّ أنت وهارون وناداب وابيهو وسبعون من شيوخ نبي إسرائيل، واسجدوا من بعيد، ويقترب موسى وحده إلى الربّ وهم لا يقتربون، وأمّا الشعب فلا يصعد معه...

____________________

(١) الأعراف ٧: ١٤٢ - ١٤٨.

(٢) الأعراف ٧: ١٥٥.

(٣) النساء ٤: ١٥٣.

(٤) النساء ٤: ١٥٣.

(٥) طه ٢٠: ٨٣ - ٨٥.

٦٥

ثمّ يَذكر بتفصيلٍ ما جرى بين موسى والربّ وآتاه معالم الشريعة، وكان موسى يكتبها في الألواح... وهكذا يستغرق البيانُ عدّة إصحاحات.

ثمّ يقول: ولمـّا رأى الشعب أنّ موسى أبطأ في النزول من الجبل اجتمع الشعب على هارون وقالوا له: قم اصنع لنا آلهةً (١) .

نظرة في قولة السامري

( قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ) (٢) .

زعمت الحشويّة من أَهل الحديث أنّ السامريَّ هذا كان قد وُلِد أيّام فرعون، وكانت أُمّه قد خافت عليه فخلّفته في غارٍ وأطبقت عليه بالحجارة، فوكّل اللّه جبرائيل أنْ يأتيَه فيَغذوه بأصابعه بواحدةٍ لبَناً وبأخرى عسلاً وبثالثةٍ سَمناً، فلم يزل يَكفُله جبرائيل حتّى نشأ وشبّ، وأصبح يعرف جبرائيل بسماته.

ثمّ إنّ فرعون وأصحابه لمـّا هجموا البحر ورأى بني إسرائيل أحجم فرسُه عن الدخول، وعند ذلك تمثّل جبرائيل راكباً فرساً أُنثى في مقدمة فرعون وأصحابه، فلمـّا رآها فرسُ فرعون اقتحم البحر وراءها...

وعند ذلك كان السامريّ قد عرف جبرائيل، ورأى أنّ فرسه كلّما وضع حافره على تراب حصلتْ فيه رجفةٌ وحركةٌ وحياةٌ. فأُلقيَ في رَوعِه: أنّ مِن أثرِ حافر فرس جبرائيل أنْ لا يُقذف في شيء إلاّ حصلت له الحياة؛ ولذلك قبض قبضةً من أثر حافر فرسه وضمّها عنده.

ولمـّا أبطأ موسى في الميقات دعا بني إسرائيل أنْ يأتوا بحُليّهم ليصنع لهم آلهةً، فصاغها عِجلاً وألقى من تلك القبضة فيه، فأصبح ذا حياة يخور كما يخور البقر، وقال: هذا إلهُكم وإله موسى، وأضلّهم عن الطريق.

____________________

(١) سِفر الخروج، إصحاح ٣٢ - ٢٤.

(٢) طه ٢٠: ٩٦.

٦٦

هكذا رَوى الطبري بأسانيده والسيوطي وغيرهما من أرباب النقل في التفسير (١) وزادوا في الطين بلّةً، أنّهم قالوا: إنّ موسى سألَ ربَّه فقال: يا ربّ، مَن أَخارَ العجلَ؟ فقال اللّه: أنا، قال موسى: فمَن أحياه؟ قال اللّه: أنا وأردتُ فتنتَهم، فقال موسى: يا ربّ، فأنت إذن أظللتهم، إنْ هي إلاّ فتنتك (٢) ، وهذا عندما قال اللّه تعالى لموسى: ( وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ ) (٣) .

* * *

قال أبو مسلم الأصفهاني: ليس في القرآن تصريح بهذا الّذي ذكره المفسّرون، فهاهنا وجهٌ آخر، وهو: أنْ يكون المراد بالرسول هو موسى (عليه السلام)، وبأثَرِهِ سُنّته ورسمه الّذي أَمر به، فقد يقال: فلان يقْفوا أثرَ فلان ويقبض أَثره إذا كان يَمتثلُ رسمَه.

والتقدير: أنّ موسى (عليه السلام) لمـّا أقبل على السامريّ باللوم والسؤال عن الّذي دعاه إلى إضْلال القوم قال السامريّ: أي عرفتُ أنّ الّذي أَنتم عليه ليس بحقٍّ، وقد كُنت قبضتُ قبضةً مِن أَثرك أيّها الرسول، أي شيئاً من سنُّتك ودينِك، فقذفته أي طرحته... وإنّما أُورِد بلفظ الإخبار عن غائب، كما يقول الرجل لرئيسهِ وهو مواجهٌ له: ما يقول الأمير في كذا، وبماذا يأمر الأمير...

وأمّا دعاؤه موسى (عليه السلام) رسولاً مع جَحدِهِ وكُفرِهِ فعلى مثل ما حَكى اللّه عن المشركين: ( يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ) (٤) وإن كانوا لم يؤمنوا بإنزالِ الذِكر عليه.

والإمام الرازي رجّح هذا القول وأيّده بوجوه، قال: إنّ هذا القول الذي ذَكره أبو مسلم ليس فيه إلاّ مخالفة المفسّرين، ولكنّه أقرب إلى التحقيق (٥) .

وهكذا الشيخ المراغي، قال: إنّ موسى لمـّا أقبل على السامريّ باللوم والتعنيف والسؤال عن الأمر الّذي دعاه إلى إضلال القوم ردّ عليه بأنّه كان استنّ بسنّته، واقتفى أثره

____________________

(١) راج: جامع البيان، ج١، ص٢٢٣، والدرّ المنثور، ج٥، ص٥٩٢، وتفسير الصافي للكاشاني، ج١، ص٩٢، وتفسير القمي، ج٢، ص٦٢، وتفسير ابن كثير، ج٣، ص١٦٤، وتفسير البيضاوي، ج٤، ص٢٩.

(٢) راجع: الدرّ المنثور، ج٥، ص٥٩٢، وتفسير الصافي، ج٢، ص٧٥.

(٣) طه ٢٠: ٨٥.

(٤) الحجر ١٥: ٦.

(٥) التفسير الكبير، ج٢٢، ص١١١.

٦٧

وتبع دينه، ثمّ استبان له أنّ ذلك هو الضَلال بعينه، وأنّه ليس من الحقّ في شيءٍ، فطرحه وراءه ظهريّاً وسار على النهج الّذي رأى (١) .

ما كانت صفة العِجل؟

جاء في تفسير ابن كثير وغيره: أنّ السامريّ أُلقي في رَوعِه أنّه لا ينبذ الترابَ الذي أَخذ مِن تحت حافر فرس جبرائيل على شيء، ويقول له كنْ كذا إلاّ كان كما أراد؛ ومِن ثَمّ لمـّا أخذ حُليَّ القوم وألقاها في النار قذف من تلك القبضةِ عليها وقال: كن عِجلاً، فصار عِجلاً ذا لحمٍ وعظمٍ ودمٍ، وجعل يَخور كما يخور وَلدُ البقر (٢) .

وقال بعضهم: إنّه جَعل مؤخّرةَ العِجل على حائط فيه ثُقب، وأقعد هناك مَن يتكلّم مع القوم ليظنّوا أنّ العِجل هُو الّذي يتكلّم معهم (٣) .

كلُّ ذلك مخالف لصريح القرآن؛ حيث إنّه عبّر بالجسد وصفاً للعِجل ( عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ ) ، (٤) وقال: ( أَفَلا يَرَوْنَ أَلاّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً ) (٥) ، وقال: ( أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً ) (٦) .

على أنّ الروايات بهذا الشأن - في المسائل الثلاث - على ما وردت في التفاسير المـُعتمدة على النقل والأثر كلّها متضاربة ومتعارضة بعضها مع البعض، فضلاً عن مخالفةِ أكثرها لفهمِ العقل الرشيد، ومِن ثَمّ فالإعراض عنها أجدر.

نعم، يبدو أنّ السامريُّ كان صاحبَ صنعة وصياغة الحُلّي، فسَبَك لهم مِن حُليّهم صَنماً بصورةِ عِجلٍ، وقال لهم: هذا إلهكم وإله مُوسى، فعبَّأ فيه مَساماتٍ ومنافذَ للهواء، بحيث يََحدثُ من ذلك صوتُ الخُوار، وهو صوت البقر، وهذا أمرٌ بسيط، ربما تُصنع أمثالُ ذلك لِلُعبة الصبيانِ اليوم وقبلَ اليوم، وليس من الأمر العجيب.

____________________

(١) تفسير المراغي، ج٦، ص١٤٥.

(٢) راجع: تفسير ابن كثير، ج٣، ص١٦٤، والدرّ المنثور، ج٥، ص٥٩٣، وتفسير البيضاوي، ج٤، ص٢٩، وتفسير القمي، ج٢، ص٦٢، وجامع البيان، ج١٦، ص١٤٩، وج ١، ص٢٢٣، وتفسير الميزان، ج١٤، ص٢١١.

(٣) راجع: التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري، ص٢٥١، وبحار الأنوار، ج١٣، ص٢٣١.

(٤) طه ٢٠: ٨٨.

(٥) طه ٢٠: ٨٩.

(٦) الأعراف ٧: ١٤٨.

٦٨

مَن هُو السامريّ؟

ربّما تشككَّ بعض الكتّابِ المسيحيّين (١) في (السامريّ) نسبةً إلى السامرة بلدة كانت في أرض فلسطين بناها (عُمري) رابع مُلوك بني إسرائيل المتأخر عن عهد نبيّ اللّه موسى (عليه السلام) بخمسة قرون! فكيف يكون معاصراً له وقد صنع العِجل كما جاء في القرآن؟

جاء في سِفر الملوك: وفي السنة ٣١ لآسامَلِك يهوذا مَلَك عُمري على إسرائيل ١٢ سنة، مَلَك في ترصة ٦ سنين، واشترى جبل السّامرة من شامر بِوزنتَين من الفضّة، وبَنى على الجبل، ودعا اسم المدينة الّتي بناها باسم شامر صاحب الجبل: السامرة.

وكان ذلك بعد خروج بني إسرائيل من أرض مصر بنحو مِن ثلاث وعشرين وخمسمِئة عام (٢) .

لكنْ السامريُّ لفظةٌ معرّبةٌ وليست على أصالتِها العِبريّة، والشين العِبريّة تُبدّل سيناً في العربيّة كما في (موسى) معرّب (موشي) العبريّة، و(السيع) معرّب (اليشوع) (٣) ، وكما في (السامرة) نسبةً الى اسم صاحب الجبل (شامر).

أمّا السامريُّ - في القرآن - فليس منسوباً إلى بلدة السامرة هذه، وإنّما هي نسبةٌ إلى (شمرون) بلدة كانت عامرةً على عهد نبيّ اللّه موسى ووصيّه يوشع بن نون، والنسبة إليها شمروني عُرّبت إلى سامري، ويُجمع على شمرونيم (سامريّين)، وقد فتحها يوشع وجعلها في سبط (زبولون) كما جاء سِفر اليشوع (٤) وكان المـَلِك عليها حين افتتحها يوشع (مرأون) (٥) .

____________________

(١) مصادر الإسلام لتسدال، ص٣٧ فما بعد، وآراء المستشرقين حول القرآن، ج١، ص٣٥٢.

(٢) قاموس الكتاب المـُقدّس، ص٤٥٩، وراجع: سِفر الملوك، إصحاح ١٦/٢٤.

(٣) قاموس الكتاب المـُقدّس، ص٩٥١.

(٤) راجع: سِفر اليشوع، إصحاح ١١/١، و١٢/٢٠، و١٩/١٥.

(٥) المصدر: ١٢/٢٠.

٦٩

هذا ما حقّقه العلاّمة الحجّة البلاغي (١) .

والسين والشين كانا يتبادلان في العبريّة أيضاً، كان سبط يهوذا يَنطقون بالشين، وسبط افرايمي بالسين في مثل (اليسوع) و(اليشوع) (٢) .

قال الأُستاذ عبد الوهاب النجّار: ويغلب أن تكون (الشين) في العبريّة (سيناً) في العربيّة، كما كان ينطق بها أيضاً سبط افرايم بن يوسف، وقد كان رجال سبط يهوذا يختبرون الرجل ليعرف أنّه من سبط يهوذا أو افرايمي، فيأمروه أن ينطق بـ (شبولت) (سُنبلة) فإذا قال (سبولت) عُرف أنّه افرايمي.

واحتمل في السامريّ نسبةً إلى شامر أو سامر بمعنى (حارس) (٣) ونُطقُها في العِبريّة (شومير) مأخوذ من (شمر) أي حرس، فقد جاء في سِفر التكوين: فقال الربّ لقابيل: أين هابيل أخوك؟ فأجاب: لا أعلم، وعقّبه بقوله: هَـ شومير أحي أنو أخي؟ يعني: أحارسُ أنا لأخي؟ (٤) وما ذكره الحجّة البلاغي أقرب في النظر.

مَن هُو قارون؟ (٥)

يقول تعالى عنه: ( إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ ) (٦) .

قارون، هو: قُوْرَح بن يصهار بن قهات بن لاوي من أبناء عمّ موسى وهارون، ثار هو وجماعة من رؤساء بني إسرائيل في مئتين وخمسين شخصاً، وحاولوا مقابلة موسى وهارون؛ لينزعوا زعامة إسرائيل عنهما.

وكان قارون ثريّاً جدّاً ويعتزّ بثَرائه ويَفخر على سائر بني إسرائيل، وكان اُولو

____________________

(١) راجع: كتابه (الهدى إلى دين المصطفى)، ج١، ص١٠٣.

(٢) قاموس الكتاب المقدّس، ص٩٥١.

(٣) ذكر جيمس هاكس في قاموس الكتاب المقدّس، ص٥٣٠، أنّ أحد معنيي (شمرون): كشيكجي (نكهبان) يعني الحارس.

(٤) قصص الأنبياء للنجّار، ص٢٢٤، وراجع: سِفر التكوين، إصحاح ٤.

(٥) من شُبُهات أوردها هاشم العربي في مُلحق ترجمةِ كتاب الإسلام لجرجس سال، ص٣٨١. زاعماً أنّه تناقض في القرآن، فمرّة من قوم موسى وأُخرى مُردِفاً بفرعون وهامان؟!

(٦) القصص ٢٨: ٧٦.

٧٠

البصائر من قومه ينصحونه ويحذّرونه عاقبة ما هو عليه من الخُيَلاء والزهو، فكان يتبجّح ويقول: إنّما أُوتيتهُ على علمٍ عندي، - ويُقال: إنّه كان واقفاً على سرّ الصِناعة أي الكيمياء - (١) فكان يخرج على قومه في زينته مُفتخراً عليهم، ويتحسّره القوم ويقول الضعفاء: ( يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) (٢) ؛ وبذلك كاد أن يتغلّب على موسى وقومه، لولا أنْ خسف اللّه به وبداره الأرض، وبكلّ ما كان يَملكه من كنوزٍ (٣) .

وأمّا قوله تعالى: ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ) (٤) . حيث يبدو أنّه كان مع فرعون ومِن قَومه، فالظاهر إرادة أنّه بالذات كان مقصوداً بالإنذار إلى جنب فرعون وهامان من غير أنْ يستدعي ذلك أن يكون منهم، بل معهم في العتوّ والطغيان؛ ولعلّه كان واقفاً بصفّهم إزاء موسى وهارون، قال تعالى: ( وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ ) (٥) ، فقد كان قارون مقصوداً كما كان فرعون وهامان، لعتّوهم واستكبارهم في الأرض جميعاً.

( مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ)

قال تعالى بشأن ضخامة ثراء قارون: ( وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ ) (٦) .

قال الطبرسي: (ما) هذه موصولة بمعنى الذي، وَصِلتها: إنّ، مع اسمها وخبرها. أي أعطيناه من الأموال المدّخرة قَدْرَ الذي تُنِيء مفاتحُه العُصبةَ (٧) ، أي يُثْقلُهم حملُه، والعُصبة: الجماعة المـُلتفّة بعضها ببعض، أي المتآزرة على عملٍ ثقيل، أي كان حملُها يُضني بالفئام من أقوياء الناس.

____________________

(١) أي إحالة الفلزّات الخسيسة إلى فلزٍ نفيس هو الذهب، وقد أحاله قوم، لكن الاستمرار في البحث في الذرّة - أو الجوهر الفرد - أصبح أنْ جعله ممكناً، والعلماء جادّون في تفريق أجزاء الذرّة، حتى إذا تَمَّ لهُم ذلك أمكنهم إيجاد أيّ مركّب شاءوا الذهب أو غيره، وحينذاك يكون ما كان يبدو مستحيلاً قد صار جائزاً، قصص الأنبياء للنجّار، ص٢٨٥.

(٢) القصص ٢٨: ٧٩.

(٣) راجع: سِفر الخروج، إصحاح ١٦/١ - ٣٠.

(٤) غافر ٤٠: ٢٣ و٢٤.

(٥) العنكبوت ٢٩: ٣٩.

(٦) القصص ٢٨: ٧٦.

(٧) مجمع البيان، ج٧، ص٢٦٦.

٧١

قال: والمـَفاتح - هنا - الخزائن في قول أكثر المفسّرين، وهو اختيار الزجّاج، كما في قوله سبحانه: ( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ ) (١) ، والمـَفاتح، جمع مَفتَح. والمِفتح بكسر الميم: المِفتاح. وبالفتح: الخُزانة، وكلّ خُزانة لصنفٍ من الأشياء أو الأموال، قال الفرّاء في قوله تعالى: ( إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ ) : يعني خَزائنُه (٢) .

قال الفرّاء: نَوؤُها بالعُصبة أنْ تُثقلَهم. ومَفاتِحه: خزائنُه. والمعنى: ما إنّ مَفاتِح الكنوز أي خزائنها لتُنِيء العُصبةَ أي تُميلُهم من ثقلها، وإذا أدخلت الباء قلت: تنوءُ بهم (٣) .

قال الشاعر:

إلاّ عصا أَرزَنٍ طارت برايتها

تنوءُ ضربتُها بالكفِّ والعضُدِ (٤)

وفي مسائل نافع بن الأزرق سأل ابن عبّاس: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول امرئ القيس إذ يقول:

تمشي فتُثقِلُها عَجيزَتُها

مشيَ الضعيفِ ينوءُ بالوَسْقِ (٥)

والوَسْق: ستّون صاعاً، حِمل بعيرٍ، وكذا وَقْر النخلة.

ومن الغريب ما نجد هنا مِن أجنبيٍ عن اللغة - هو هاشم العربي - يعترض ويرى أنّ الصواب: ( لتنوء بها الْعُصْبَة ) . (٦) هذا في حين أنّ الزمخشري - وهو البطل الفَحل - يقول: يقال: ناء به الحملُ، إذا أَثقَله حتّى أَمالَهُ (٧) فسواء قلت: ناء به الحِملُ أو ناء بالحِمل فالمعنى واحد، فالمعنى على الأَوّل: مالَ به الحِملُ ثقلاً، وعلى الثاني: مال بالحِمل ثقلاً، وعلى الأَوّل هو على الحقيقة كما جاء في القرآن، وعلى الثاني كنايةً كما جاء في البيت.

حادث نُتُوق الجبل فوقَ رؤوسِ بني إسرائيل

وحادث نُتُوق الجبل - وهو زعزعته من الأعالي، وقد ذكره القرآن، وأنكره بعض

____________________

(١) الأنعام ٦: ٥٩. راجع: مجمع البيان، ج٧، ص٢٦٦.

(٢) المصدر: ج٤، ص ٣١٠.

(٣) معاني القرآن للفرّاء، ج٢، ص٣١٠.

(٤) الهدى إلى دين المصطفى، ج١، ص٣٨٩.

(٥) الدرّ المنثور، ج٦، ص٤٣٨.

(٦) ملحق ترجمة كتاب الإسلام، ٤٢٥ - ٤٢٦.

(٧) الكشّاف للزمخشري، ج٣، ص٤٣٠.

٧٢

المستشرقين؛ بحجّة أنّه لم يأتِ ذكرُه في العهد القديم (١) ، عُورِض أيضاً بأنّه من التعنيف على التكليف (٢) .

وجاء ذِكر هذا الحادث في القرآن في موضعين:

١ - سورة البقرة: ( وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) (٣) .

٢ - سورة الأعراف: ( وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (٤) .

ليس في الآيتين سوى اقتلاع جزء عظيم من أعالي الجبل أثناء رجفةٍ أو زلزال، رأَوه بأَعينهم وهم مجتمعون في سَفح الجبل، وانحدر هابطاً ليتوقّف في الأثناء، وكانت وقفته بصورة عموديّة مُطِلاًّ عليهم جانبيّاً فظنّوا أنّه واقع بهم، وصادف ذلك أنْ كان عند أخذ الميثاق منهم على العمل بشريعة التوراة، ولعلّ في هذه المصادفة حِكمةً إلهيةً بالغةً؛ ليُريَهم من آياتٍ كونيّة موجّهة لضمير الإنسان إلى جانب ضَعفِ مقدرته تجاه إرادة اللّه القادر الحكيم.

وهذا من قبيل إراءة المعاجز على أيدي الأنبياء، إيقاظاً للضمير وليس إكراهاً على التسليم.

وفي هذا المقدار من دلالة الآيتَين تَوافق مع ما جاء في العهد القديم.

فقد جاء في سِفر الخروج:

فانحدر موسى من الجبل - الطور - إلى الشّعب، وقَدَّس الشعب وغسلوا ثيابهم، وقال للشعب: كونوا مستعدّين لليوم الثالث، لا تقربوا امرأةً، وحدث في اليوم الثالث لمـّا

____________________

(١) راجع: مصادر الإسلام لتسدال، ص١٤ فما بعد، وآراء المستشرقين حول القرآن، ج١، ص٣٤٨.

(٢) راجع: تفسير المنار، ج١، ص٣٤٠، وتفسير الميزان للطباطبائي، ج١، ص٢٠٠.

(٣) البقرة ٢: ٦٣ و٦٤.

(٤) الأعراف ٧: ١٧١.

٧٣

كان الصباح أنّه صارت رعودٌ وبروقٌ وسَحاب ثقيل على الجبل، وصوتُ بوقٍ شديدٍ جدّاً، فارتعد كلّ الشَّعب الذي في المحلّة، وأخرج موسى الشَّعب مِن المحلّة لملاقاة اللّه، فوقفوا في أسفل الجبل، وكان جبل سَيناء كلّه يُدخّن؛ مِن أجلِ أنّ الربّ نزل عليه بالنار، وصعد دُخانُه كدُخان الأَتون وارتجف كلّ الجبل جدّاً، فكان صوت البوق يزداد اشتداداً جدّاً، موسى يتكلّم واللّه يجيب بصوت (١) .

ثمّ جاء فيه بعد ذلك:

وكان جميع الشعب يَرَون الرعود والبروق وصوتَ البوق، والجبل يُدخّن، ولمـّا رأى الشعب ارتعدوا ووقفوا من بعيد، وقالوا لموسى: تكلّم أنت معنا فنسمع، ولا يتكّلم معنا اللّه؛ لئلاّ نموت (٢) .

* * *

أمّا اقتلاع الجبل من أصله وبرّمته ورفعه في السماء فوق رؤوسهم، فهذا ما لم يَذكُرْه القرآن، ولا جاء في روايةٍ معتمدةٍ عندنا، وإنّما هو شيء جاء في روايات إسرائيليّة عامّية اغترّ بها بعض المفسّرين من غير تحقيق (٣) .

ففي الدّر المنثور: عن قُتادة ( وإذ نَتَقنا الجَبَل... ) قال: انتزعه اللّه من أصله ثم جعله فوق رؤوسهم، ثم قال: لتأخُذُنّ أمري أو لأَرمينّكم به...

قال مُحمّد رشيد رضا: شايَعَ الأُستاذُ الإمامُ [ مُحمّد عبدَه ] المفسّرين على أنّ رَفْعَ الطُورِ كان آيةً كونيّةً، أي أنّه اُنتُزِعَ مِن الأرض وصَار مُعلّقاً فوقَهم في الهواء، وهذا هو المـُتبادر من الآية بمَعونة السياق، وإنْ لم تكنْ ألفاظُها نصّاً فيه.

وقال في وجه عدم نصّية القرآن في ذلك: إنّ أصلَ النَتق - في اللغة - الزعزعة والزَلزلة، وأمّا الظُلّة فكلّ ما أظلّك وأَطلّ عليك سواء كان فوق رأسك أو في جانبك مرتفعاً له ظلّ، فيُحتمل أنّهم كانوا بجانب الطُور رأوه منتوقاً، أي مرتفعاً مُزَعْزَعاً، فظنّوا أنْ سيقع بهم وينقضّ عليهم.

____________________

(١) سِفر الخروج، إصحاح ١٩/١٥ - ١٩.

(٢) المصدر: ٢٠/ ١٨ - ١٩.

(٣) راجع: الدر المنثور، ج١، ص١٨٤، وج٣، ص٥٩٦، وجامع البيان، ج١، ص٧٤، وتفسير ابن كثير، ج١، ص١٠٤ - ١٠٥، وغيرها من تفاسير معروفة، وراجع أيضاً: التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري، ص٤٢٧، والاحتجاج المنسوب إلى الطبرسي، ج٢، ص٦٥.

٧٤

ويجوز أنّ ذلك كان في أثرِ زلزالٍ تَزعزَعَ له الجبل... وإذا صحّ هذا التأويل لا يكون مُنكِرُ ارتفاع الجبل في الهواء مُكذِّباً للقرآن (١) .

* * *

كما ولم يأتِ في شيء من رواياتٍ صحيحةٍ الإسناد إلى أئمّةِ أهل البيت (عليهم السلام) ما يدلّ على أنّ جبل الطُور اُقتُلِعَ من مكانه فرُفِعَ في السماء فوقَ رؤوس القوم، سِوى ما جاء في تفسيرٍ مجهولٍ منسوبٍ إلى الإمام العسكري (عليه السلام) مِن أنّ اللّه أمر جبرائيل فقطعَ بجناحٍ من أجنحتهِ من جبلٍ من جبال فلسطين على قَدرِ مُعسكرِ موسى(عليه السلام) وكان طوله في عرضه فرسخاً في فرسخ، ثم جاء به فوق المعسكر على رؤوسهم، وقال: إمّا أنْ تَقبلوا ما آتاكم به موسى وإمّا وضعتُ عليكم الجبل فَطَحْطَحْتُكُمْ تَحْتَه...

وفي كتاب الاحتجاج (لم يُعرف مؤلّفه) روى مُرسلاً عن أبي بصير قال: سال طاووس اليماني الإمام مُحمّد بن عليّ الباقر(عليه السلام ٍ) عن طائرٍ طار مرّةً ولم يَطرْ قبلها ولا بعدها، ذكره اللّه في القرآن ما هو؟ (فقال سَيناء، أطاره اللّه على بني إسرائيل حينَ أظلّهم بجناحٍ فيه ألوانُ العذاب، حتّى قِبلوا التوراة...) (٢) .

* * *

إذن، فالروايات من طُرق الفريقَين لا أساس لها، و لا يُمكن الاعتماد عليها في تفسير الذِكر الحكيم؛ ولذا فمن الغريب ما نجده من لجنة علماء الأزهر اعتراضهم على الأُستاذ النجّار في رفضه الأخذ بأقوال المفسّرين هنا، قالوا: لم يَسعْ السيّد رشيداً ومؤلّف هذا الكتاب (أي الأُستاذ النجّار) ما وَسع الأُستاذ الإمام في موافقة جميع المفسرّين على أنّ رَفْعَ الطُور آيةً كونيّةً، أي أنّه اُنتُزِع من الأرض وصار مُعلّقاً فوقهم في الهواء، مع اعتراف الأَوّل (أي السيّد رشيد) بأنّه المـُتبادر من الآيتَين بمعونة السياق، بل أَبْدَيا (رشيد والنجّار) احتمالاً مُختَرَعاً في الآيتين أخرجاهما عن إفادة تلك الآية الكونيّة؛ بحجّة أنّ ألفاظهما

____________________

(١) تفسير المنار، ج١، ص٣٤٢ - ٣٤٣.

(٢) راجع: تفسير البرهان للبحراني، ج١، ص٢٣٣ - ٢٣٤، رقم ٩، وج٣، ص٢٣٤، رقم ١.

٧٥

ليست نصّاً فيما أجمع عليه المفسّرون، وتبعهم عليه الأُستاذ الإمام (١) .

وكذا قَولُ سيّدنا الطباطبائي: هذا التأويل، وَصَرْف الآية عن ظاهرها، والقول بأن بني إسرائيل كانوا في أصل الجبل فزُلزِل وزُعزِع حتّى أطلّ رأسه عليهم فظنّوا أنّه واقع بهم فعبّر عنها برفعه فوقهم أو نتقه فوقهم، مبنيٌ على أصل إنكار المعجزات وخوارق العادات (٢) .

وكلام سيّدنا الطباطبائي هنا يُشعر باعتماده للروايات المأثورة والاستناد إليها في تفسير القرآن بما لا صراحة فيه، بل ولا ظهوراً قويّاً يمكن الاعتماد عليه، وليس ذلك سوى تفسير القرآن بالروايات الضعيفة، الأمر الذي يبدو خلاف مسلكه في التفسير... ولا سيّما إذا لم يكن للروايات أصلٌ معتمد في أحاديث أئمّة أهل البيت (عليهم السلام).

قال - في غير هذا الموضع -: إنّ أخبار الآحاد لا حجّية فيها في غير الأحكام الشرعيّة، فإنّ حقيقة الجعل التشريعي (الحجيّة التعبّديّة لخبر الواحد) معناه: ترتيب أثر الواقع على الحجّة الظاهريّة، وهو متوقّف على وجود أثرٍ عملي للحجّة، كما في الأحكام والتكاليف، وأمّا غير ذلك فلا أثر فيه حتّى يترتّب على جعل الحجيّة، مثلاً: إذا وردت الرواية بأنّ البَسمَلةَ جزءٌ من السورة كان معنى ذلك وجوب الإتيان بها في القراءة في الصلاة.

وأمّا إذا ورد - مثلاً - أنّ السامريُّ كان رجلاً مِن بلدة كذا، وهو خبر ظنّي، كان معنى جعل حجيّته أنْ يُجعل الظنّ بمضمونه قطعاً، وهو حكم تكويني ممتنع وليس من التشريع في شيء (٣) .

قلتُ: والأمر في الآية هنا أيضاً كذلك؛ لأنّ المسألة مسألة فهم المعنى من ظاهر اللفظ، أي إذعان النفس بذلك، الأمر الذي لا مجال للتعبّد فيه، حيث الآية في سورة الأعراف استعملت لفظ النتوق مصحوباً بالتشبيه بالظُلّة ( وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ ) . ثم أردفه بقوله: ( وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ ) .

ونَتَقَ الجِرابَ أي نَفَضَه بمعنى: حرّكه ليزولَ عنه الغُبار ونحوه. ونَتقُ الشيء: فتقُه،

____________________

(١) هامش قصص الأنبياء للنجّار، ص٢٣١.

(٢) الميزان، ج١، ص٢٠٠.

(٣) الميزان، ج١٤، ص٢٢٢.

٧٦

زَعزَعه، رفعَه، بسطَه، ونَتَقت المرأة أو الناقة: كَثُر وِلدُها، فهو يُعطي معنى البسط والكثرة والانتشار والتوسّع وإذ كان هناك بسط وتوسّع في أعالي الجبل كان ذلك رفعاً أي ارتفاعاً بالشيء وتعالياً به، وليس قلعاً من مكانه وانتقالاً له إلى محلٍّ آخر في السماء، كما زُعم.

قال الراغب: نَتَقَ الشيءَ: جَذبه ونَزعه حتّى يَسترخي، كنَتقِ عُرَى الحِمل قال تعالى: ( وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ ) .

وهذا يُعطي معنى: التَزعزُع في قُلَلِ الجبل وانتزاع صخورٍ عظيمة منها وتَدلّيها جانبيّاً مُطلّةً على القوم وهم في أسفل، وكانت كأظلّةٍ مطلّةٍ عليهم، والأظلّةُ كما تصلح من علوٍّ كذلك تصلح من جانب، وفي كلتا الصورتَين تصدق الفوقيّة.

وبذلك اتّضح معنى قوله تعالى: ( وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ ) أي رفعناه جانبيّاً، لا شيء سواه.

قصّة داود وامرأة اُوريّا

جاء في (صموئيل الثاني) الإصحاح ١١:

كان داود أقام في اُرشليم، وكان في وقت المساء، قام وتمشّى على سطح البيت، فرأى امرأةً تستحمُّ، وكانت جميلةً جدّاً، فسأل عنها فقيل له: إنّها بَثْشَبَع بنت أليعام امرأة اُوريّا الحثّى، فأرسل داود إليها وأخذها واضطجع معها فحبلت منه، فكتب داود إلى يوآب قائد معسكره، وأرسله بيد اُوريّا، وكتب فيه أنْ اجعلوا اُوريّا في مقدّمة الجيش ليُقتل، ففعل يوآب ما أمره داود وقُتل اُوريّا.

فلمـّا سمعت امرأة اُوريّا بموت زوجها ناحت عليه، وبعد انقضاء أيّام النياحة أرسل داود فضمّها إلى بيته وجعلها مع نسائه فولدت له ابناً، ومات ذلك الولد... وأمّا الأمر الّذي فعله داود فقَبُح في عينَي الربّ.

وفي الإصحاح ١٢:

وعزّى داود بَثْشَبَع بموت وَلَدها، واضطجع معها ثانيةً فولدت له ابناً فدعا اسمه سليمان، فكان سليمان قد وُلِد مِن امرأةٍ اغتصبها داود من زوجها، وتآمر على قتله!

٧٧

وفي الإصحاح ١٣ و١٤ و١٥:

وجرى بعد ذلك أنّه كان لأبشالوم بن داود أُخت جميلة اسمها ثامار، فعشقها أخوها من غير أُمّها اسمه أمنون بن داود، فاحتال عليها، فتمارَضَ وطلب منها أنْ تُمارضَه، فلمـّا دخلت عليه اضطجع معها، ثُمّ إنّ أخاها أبشالوم تمكنّ بعد سنتين أنْ يَثِبَ على أخيه أمنون فيقلته، وبعد مدّة ثار على أبيه داود، فطارده بجيش عظيم، وفرّ داود من وجهه، ومّما ارتكبه أبشالوم من الشنائع أنْ دَخَلَ على سَراري أبيه أمام جميع بني إسرائيل.

هكذا لعِبت اليهود بقداسة نبيّ اللّه داود (عليه السلام) فوصَمُوه وأهلَ بيته بِأفظع وصَمات منافية للشرفِ والعفّة، فجعلوا منهم أُسرةً تعيثُ في الخطايا والدنَس بكلّ ألوانه!

أمّا القرآن فجاء ليُطهّر ساحة الأنبياء فيصوّر من داود قدّيساً وعبداً منيباً إلى اللّه ( وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ * وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ) (١) .

( وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) (٢) .

( آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ) (٣) .

وقد ذكرنا حديث اختبار داود (عليه السلام) بما يُبرّئ ساحته النزيهة عن أمثال تلك الخرائف الإسرائيليّة عند الكلام عن تنزيه الأنبياء (٤) .

القرآن والأناجيل

زعم (تسدال) أنّ النصرانيّة كانت أحد المصادر التي أخذ منها القرآن، في حين أنّ من هذه المصادر ما لم تكن موثوقة، بل كانت لفِرقٍ شاذّةٍ لها أساطير غريبة اعتمدها القرآن.

وزعم أنّ قصّة مريم وابنها المسيح (عليهما السلام) لم تَرِد في كتب النصرانيّة المعتمدة،

____________________

(١) ص ٣٨: ١٧ - ٢٠.

(٢) ص ٣٨: ٣٠.

(٣) سبأ ٣٤: ١٣.

(٤) في الجزء الثالث من التمهيد.

٧٨

واعتبرها خرافة وهميّة، وحجّته في ذلك عدّة شبَهٍ في ذهنه:

١ - إنّ ولادتها لعيسى، حسبما جاءت في القرآن، أشبه ما يكون بأُسطورة (ميلاد بده) عند الهنود؛ حيث وُلِد (بده) من عذراء لم يمسّها رجال.

٢ - خدمتها للهيكل، مع أنّ هذا لا يجوز للنساء.

٣ - ذَكَر القرآن أنّها أُخت هارون أخي موسى بن عمران - على حدّ فهمه - واعتبر ذلك من الخطأ التأريخي في القرآن.

وهكذا أَنكر كلامَ عيسى في المهد، وكذا المعجزات التي ظهرت على يده ممّا ذكره القرآن، مثل صُنعه من الطين طيراً ثُمّ يكون طيراً بإذن اللّه، وقصّة المائدة التي نزلت من السماء، وصَلْب عيسى(عليه السلام) حيث نفاه القرآن في حين قد أثبته الكتاب المقدّس.

ومثل: نزول عيسى في آخر الزمان، ومسألة التبشير بمَقدَم نبيّ الإسلام حسبما ذكره القرآن، ولم يأتِ في الإنجيل... ونحو ذلك مِن أُمورٍ سردها (تسدال) بهذا الشأن سردَ عاجزٍ سقيمٍ (١) .

الصدّيقة مريم (عليها السلام)

أَنكَر (تسدال) قصّةَ الصّديقة مريم (عليها السلام) أنْ تكون وردت بهذا الشكل في كُتب النصرانيّة المعتمدة، واعتبرها خُرافة.

قال الدكتور رضوان: هذه القصّة من الشهرة والانتشار والبداهة في الوسط المسيحي بمكانٍ، حتّى أنّ فرقة (البربرانيّة) (٢) منهم أَلّهوها وابنها المسيح (عليهما السلام)؛ نظراً لولادتها لابنها بطريقة خارقة للعادة، وقد أشار القرآن الكريم لقضية تأليهِهِم لهما (عليهما السلام) (٣) .

أمّا زعم (تسدال) أنّ القصّة غير موجودة في الكتاب المقدّس فيردّه ما ورد في

____________________

(١) راجع: آراء المستشرقين حول القرآن الكريم، ج١، ص٢٩٠ و٢٩٦.

(٢) جاء في (الفصل في الملل والنحل) لابن حزم، ج١، ص٤٨: ومنهم - طوائف النصارى - البربرانيّة، وهم يقولون: إنّ عيسى وأُمّه إلهان من دون اللّه عزّ وجلّ، وهذه الفرقة قد بادت.

(٣) في قوله تعالى: ( وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) المائدة ٥: ١١٦ .

٧٩

إنجيل (لوقا) ونصّه: (... أُرسِل جبرائيلُ المـَلاكُ من اللّه إلى مدينةٍ من الجليل اسمها ناصرة، إلى عذراءٍ مخطوبةٍ لرجل من بيت داود اسمه يوسف، واسم العذراء مريم، فدخل إليها المـَلاك وقال: سلامٌ لكِ أيّتها المـُنعَم عليها، الربّ معكِ، مباركةٌ أنتِ في النساءِ، فلمـّا رأته اضطربت من كلامه وفكّرت ما عسى أن تكون هذه التحيّة؟!

فقال لها الملاك: لا تخافي يا مريم؛ لأنّكِ قد وجدتِ نعمةً عند اللّهِ، وها أَنتِ سَتَحبلينَ وتَلدينَ ابناً وتُسمّينَه يسوع، هذا يكون عظيماً، وابنَ العليّ يُدعى، ويُعطيه الربّ الإله كرسيَّ داود أبيه، ويَملك على بيت يعقوب إلى الأبد، ولا يكون لمـُلكِه نهايةٌ.

فقالت مريم للمـَلاك، كيف يكون هذا وأَنا لستُ أَعرِف رجلاً؟ فأجاب المـَلاك وقال لها: الروح القُدُس يَحلّ عليكِ، وقوّةُ العليّ تُظلّلُكِ، فلذلك أيضاً القدّوس المولود منكِ يُدعَى ابنَ اللّه.

وهوذا (اليصابات) (١) نَسيبتُكِ هي أيضاً حُبلى بابن في شيخوختها، وهذا هو الشهر السادس لتلك المدعوّة عاقراً، لأنّه ليس شيء غير ممكن لدى اللّه. فقالت مريم: هوذا أنا أَمَة الربّ، ليكن لي كقولكَ. فمضى من عندها المـَلاك (٢) .

وجاء في إنجيل (متّى): (أمّا ولادةُ يسوع المسيح فكانت هكذا: لمـّا كانت مريم أُمُّه مخطوبةً ليوسف قبل أن يجتمعا وُجِدت حُبلى مِن الروح القُدس، فيوسف رَجُلُها إذ كان بارّاً ولم يشأ أنْ يشهرها أراد تخليتها سرّاً، ولكن فيما هو متفكّر في هذه الأُمور إذا ملاك الربّ قد ظهر له في حُلُمٍ قائلاً: يا يوسف بن داود لا تخفْ أنْ تأخذ مريم امرأتك؛ لأنّ الّذي حُبِل به فيها هو مِن الروح القُدُس، فسَتلِد ابناً وتدعو اسمه يسوع؛ لأنّه يُخلص شعبَه من خطاياهم) (٣) .

وفي إنجيل برنابا - في الفصل الأَوّل - ما نصّه: (لقد بعث اللّه في هذه الأيام الأخيرة بالمـَلاك جبرائيل إلى عذراءٍ تُدعى مريم من نسلِ داود من سبط يهوذا، بينما كانت هذه

____________________

(١) هي امرأة زكريّا، حَملت بيحيى على أَثر دعاء زوجها (إنجيل لوقا، الإصحاح ١/١٢ - ٢٥)، وجاء ذلك في القرآن في سورة آل عمران ٣: ٣٨، والأنبياء ٢١: ٨٩.

وكانت اليصابات خالة مريم. (قصص الأنبياء للنجّار، ص٣٧٥).

(٢) إنجيل لوقا، الإصحاح ١/٢٦ - ٣٨.

(٣) إنجيل متّى، الإصحاح ١/١٨ - ٢١.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

قوله تعالى: ( حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ ) قيد للتكذيب، و فسّروا اليقين بالموت لكونه ممّا لا شكّ فيه فالمعنى و كنّا في الدنيا نكذّب بيوم الجزاء حتّى أتانا الموت فانقطعت به الحياة الدنيا أي كنّا نكذّب به ما دامت الحياة.

و قيل: المراد به اليقين الحاصل بحقّيّة يوم الجزاء بمشاهدة آيات الآخرة و معاينة الحياة البرزخيّة حين الموت و بعده، و هو معنى حسن.

قوله تعالى: ( فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ ) تقدّم في بحث الشفاعة أنّ في الآية دلالة على أنّ هناك شافعين يشفعون فيشفّعون لكن لا تنفع هؤلاء شفاعتهم لأنّهم محرومون من نيلها.

و قد أوردنا جملة من أخبار الشفاعة في الجزء الأوّل من الكتاب.

١٨١

( سورة المدّثّر الآيات 49 - 56)

فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ( 49 ) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ ( 50 ) فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ ( 51 ) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَىٰ صُحُفًا مُّنَشَّرَةً ( 52 ) كَلَّا بَل لَّا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ ( 53 ) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ ( 54 ) فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ ( 55 ) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَىٰ وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ( 56 )

( بيان‏)

في معنى الاستنتاج ممّا تقدّم من الوعيد و الوعد اُورد في صورة التعجّب من إعراضهم عن تذكرة القرآن و تنفّرهم عن الحقّ الصريح كأنّه قيل: فإذا كان كذلك فعليهم أن يجيبوا دعوة الحقّ و يتذكّروا بالتذكرة فمن العجب أنهم معرضون عن ذلك كلّا بل لا يؤمنون بالرسالة و يريد كلّ امرئ منهم أن ينزل عليه كتاب من الله. كلّا بل لا يخافون الآخرة فلا يرتدعون عن وعيد.

ثمّ يعرض عليهم التذكرة عرضاً فهم على خيرة من القبول و الردّ فإن شاؤا قبلوا و إن شاؤا ردّوا، لكن عليهم أن يعلموا أنّهم غير مستقلّين في مشيّتهم و ليسوا بمعجزين لله سبحانه فليس لهم أن يذكروا إلّا أن يشاء الله، و حكم القدر جار فيهم البتّة.

قوله تعالى: ( فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ) تفريع على ما تقدّم من التذكرة و الموعظة، و الاستفهام للتعجيب، و( لَهُمْ ) متعلّق بمحذوف و التقدير فما كان لهم: و( مُعْرِضِينَ ) حال من ضمير( لَهُمْ ) و( عَنِ التَّذْكِرَةِ ) متعلّق بمعرضين.

١٨٢

و المعنى: فإذا كان كذلك فأيّ شي‏ء كان - عرض - للمشركين الّذين يكذّبون بتذكرة القرآن حال كونهم معرضين عنها أي كان من الواجب عليهم أن يصدّقوا و يؤمنوا لكنّهم أعرضوا عنها و هو من العجب.

قوله تعالى: ( كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ) تشبيه لهم من حيث حالهم في الإعراض عن التذكرة، و الحمر جمع حمار، و المراد الحمر الوحشيّة و الاستنفار بمعنى النفرة و القسورة الأسد و الصائد، و قد فسّر بكلّ من المعنيين.

و المعنى: معرضين عن التذكرة كأنّهم حمر وحشيّة نفرت من أسد أو من الصائد.

قوله تعالى: ( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى‏ صُحُفاً مُنَشَّرَةً ) المراد بالصحف المنشّرة الكتاب السماويّ المشتمل على الدعوة الحقّة.

و في الكلام إضراب عمّا ذكر من إعراضهم، و المعنى ليس إعراضهم عن التذكرة لمجرّد النفرة بل يريد كلّ امرئ منهم أن ينزّل عليه كتاب من عند الله مشتمل على ما تشتمل عليه دعوة القرآن.

و هذه النسبة إليهم كناية عن استكبارهم على الله سبحانه أنّهم إنّما يقبلون دعوته و لا يردّونها لو دعا كلّ واحد منهم بإنزال كتاب سماويّ إليه مستقلّاً و أمّا الدعوة من طريق الرّسالة فليسوا يستجيبونها و إن كانت حقّة مؤيّدة بالآيات البيّنة.

فالآية في معنى ما حكاه الله سبحانه من قولهم:( لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى‏ مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ ) الأنعام: 124، و في معنى قول الاُمم لرسلهم:( إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا ) على ما قرّرنا من حجّتهم على نفي رسالة الرسل.

و قيل: إنّ الآية في معنى قولهم للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذي حكاه الله في قوله:( وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ ) إسراء: 93.

و يدفعه أنّ مدلول الآية أن ينزل على كلّ واحد منهم صحف منشّرة غير ما ينزل على غيره لا نزول كتاب واحد من السماء على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقرؤه الجميع كما هو مدلول آية الإسراء.

١٨٣

و قيل: المراد نزول كتب من السماء عليهم بأسمائهم أن آمنوا بمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و قيل: المراد أن ينزل عليهم كتب من السماء بالبراءة من العذاب و إسباغ النعمة حتّى يؤمنوا و إلّا بقوا على كفرهم و قيل غير ذلك.

و هي جميعاً معان بعيدة من السياق و التعويل على ما تقدّم.

قوله تعالى: ( كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ ) ردع لهم بما يريدونه من نزول كتاب سماويّ على كلّ واحد منهم فإنّ دعوة الرسالة مؤيّدة بآيات بيّنة و حجج قاطعة لا تدع ريباً لمرتاب فالحجّة تامّة قائمة على الرسول و غيره على حدّ سواء من غير حاجة إلى أن يؤتى كلّ واحد من الناس المدعوّين صحفاً منشّرة.

على أنّ الرسالة تحتاج من طهارة الذات و صلاحيّة النفس إلى ما يفقده نفوس سائر الناس كما هو مدلول جوابه تعالى في سورة الأنعام عن قولهم:( لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى‏ مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ ) بقوله:( اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ) .

و قوله:( بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ ) إضراب عن قوله:( يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ ) إلخ، و المراد أنّ اقتراحهم نزول كتاب على كلّ امرئ منهم قول ظاهريّ منهم يريدون به صرف الدعوة عن أنفسهم، و السبب الحقيقيّ لكفرهم و تكذيبهم بالدعوة أنّهم لا يخافون الآخرة، و لو خافوها لآمنوا و لم يقترحوا آية بعد قيام الحجّة بظهور الآيات البيّنات.

قوله تعالى: ( كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ ) ردع ثان لاقتراحهم نزول كتاب سماويّ لكلّ امرئ منهم، و المعنى لا ننزل كتاباً كذلك إنّ القرآن تذكرة و موعظة نعظهم به لا نريد به أزيد من ذلك، و أثر ذلك ما أعدّ للمطيع و العاصي عندنا من الجزاء.

قوله تعالى: ( فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) أي فمن شاء اتّعظ به فإنّما هي دعوة في ظرف الاختيار من غير إكراه.

قوله تعالى: ( وَ ما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى‏ وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) دفع لما يمكن أن يتوهّموه من قوله تعالى:( فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) أنّ الأمر إليهم و أنّهم

١٨٤

مستقلّون في إرادتهم و ما يترتّب عليها من أفعالهم فإن لم يشاؤا الذكر و لم يذكروا غلبوه تعالى فيما أراد و أعجزوه فيما شاء من ذكرهم.

و المحصّل من الدفع أنّ حكم القدر جاء في أفعالهم كغيرها من الحوادث، و تذكّرهم إن تذكّروا و إن كان فعلاً اختياريّاً صادراً عنهم باختيارهم من غير إكراه فالمشيّة الإلهيّة متعلّقة به بما هو اختياريّ بمعنى أنّ الله تعالى يريد بإرادة تكوينيّة أن يفعل الإنسان الفعل الفلانيّ بإرادته و اختياره فالفعل اختياريّ ممكن بالنسبة إلى الإنسان و هو بعينه متعلّق الإرادة الإلهيّة ضروريّ التحقّق بالنسبة إليها و لولاها لم يتحقّق.

و قوله:( هُوَ أَهْلُ التَّقْوى‏ وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) أي أهل لأن يتّقى منه لأنّ له الولاية المطلقة على كلّ شي‏ء، و بيده سعادة الإنسان و شقاوته، و أهل لأن يغفر لمن اتّقاه لأنّه غفور رحيم.

و الجملة أعني قوله:( هُوَ أَهْلُ التَّقْوى‏ وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) صالحة لتعليل ما تقدّم من الدعوة في قوله:( إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) و هو ظاهر، و لتعليل قوله:( وَ ما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ) فإنّ كونه تعالى أهل التقوى و أهل المغفرة لا يتمّ إلّا بكونه ذا إرادة نافذة فيهم سارية في أعمالهم فليسوا بمخلّين و ما يهوونه و هم معجزون لله بتمرّدهم و استكبارهم.

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله تعالى:( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى‏ صُحُفاً مُنَشَّرَةً ) و ذلك أنّهم قالوا: يا محمّد قد بلغنا أنّ الرجل من بني إسرائيل كان يذنب الذنب فيصبح و ذنبه مكتوب عند رأسه و كفّارته.

فنزل جبرئيل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قال: يسألك قومك سنّة بني إسرائيل

١٨٥

في الذنوب فإن شاؤا فعلنا ذلك بهم و أخذناهم بما كنّا نأخذ بني إسرائيل فزعموا أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كره ذلك لقومه.

أقول: و القصّة لا تلائم لحن الآية و الرواية لا تخلو من إيماء إلى ضعف القصّة.

و في الدرّ المنثور، أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر عن السدّيّ عن أبي صالح قال: قالوا: إن كان محمّد صادقاً فليصبح تحت رأس كلّ رجل منّا صحيفة فيها براءته و أمنته من النار فنزلت:( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى‏ صُحُفاً مُنَشَّرَةً ) .

أقول: سياق الآيات و ما فيها من الردع لا يلائم القصّة.

و فيه، أخرج عبد بن حميد و ابن المنذر عن مجاهد( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى‏ صُحُفاً مُنَشَّرَةً ) قال: إلى فلان بن فلان من ربّ العالمين يصبح عند رأس كلّ رجل صحيفة موضوعة يقرؤها.

أقول: ما في الرواية يقبل الانطباق على الرواية السابقة و على ما قدّمناه من معنى الآية.

و فيه، أخرج عبد بن حميد و ابن المنذر عن قتادة في قوله تعالى:( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى‏ صُحُفاً مُنَشَّرَةً ) قال: قد قال قائلون من الناس لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن سرّك أن نتابعك فأتنا بكتاب خاصّة يأمرنا باتّباعك.

أقول: الرواية قابلة التطبيق لما في تفسير الآية من القول بأنّ الآية في معنى قوله تعالى:( وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ ) الآية و قد تقدّم ما فيه.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( هُوَ أَهْلُ التَّقْوى‏ وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) قال: هو أهل أن يتّقى و أهل أن يغفر.

و في التوحيد، بإسناده إلى أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام في قول الله عزّوجلّ:( هُوَ أَهْلُ التَّقْوى‏ وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) قال: قال الله عزّوجلّ: أنا أهل أن اُتّقى و لا يشرك بي عبدي شيئاً و أنا أهل إن لم يشرك بي عبدي شيئاً أن اُدخله الجنّة.

١٨٦

و قال: إنّ الله تبارك و تعالى أقسم بعزّته و جلاله أن لا يعذّب أهل توحيده بالنار.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن عبدالله بن دينار قال: سمعت أباهريرة و ابن عمر و ابن عبّاس يقولون: سئل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن قول الله:( هُوَ أَهْلُ التَّقْوى‏ وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) قال: يقول الله: أنا أهل أن اُتّقى فلا يُجعل معي شريك فإذا اتّقيت و لم يجعل معي شريك فأنا أهل أن أغفر ما سوى ذلك.

أقول: و في معناه غير واحد من الروايات عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

١٨٧

( سورة القيامة مكّيّة و هي أربعون آية)

( سورة القيامة الآيات 1 - 15)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ( 1 ) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ( 2 ) أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ ( 3 ) بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ ( 4 ) بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ( 5 ) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ( 6 ) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ ( 7 ) وَخَسَفَ الْقَمَرُ ( 8 ) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ( 9 ) يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ( 10 ) كَلَّا لَا وَزَرَ ( 11 ) إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ( 12 ) يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ( 13 ) بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ( 14 ) وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ ( 15 )

( بيان‏)

يطوف بيان السورة حول القيامة الكبرى فتنبئ بوقوع يوم القيامة أوّلاً ثمّ تصفه ببعض أشراطه تارة، و بإجمال ما يجري على الإنسان اُخرى، و ينبئ أنّ المساق إليه يبدأ من يوم الموت، و تختتم بالاحتجاج على القدرة على الإعادة بالقدرة على الابتداء.

و السورة مكّيّة بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: ( لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ ) إقسام بيوم القيامة سواء قيل بكون( لا أُقْسِمُ ) كلمة قسم أو بكون لا زائدة أو نافية على اختلاف الأقوال.

قوله تعالى: ( وَ لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) إقسام ثان على ما يقتضيه السياق و مشاكلة اللفظ فلا يعبأ بما قيل: أنّه نفي الأقسام و ليس بقسم، و المراد اُقسم بيوم

١٨٨

القيامة و لا اُقسم بالنفس اللوّامة.

و المراد بالنفس اللوّامة نفس المؤمن الّتي تلومه في الدنيا على المعصية و التثاقل في الطاعة و تنفعه يوم القيامة.

و قيل: المراد به النفس الإنسانيّة أعمّ من المؤمنة الصالحة و الكافرة الفاجرة فإنّها تلوم الإنسان يوم القيامة أمّا الكافرة فإنّها تلومه على كفره و فجوره، و أمّا المؤمنة فإنّها تلومه على قلّة الطاعة و عدم الاستكثار من الخير.

و قيل. المراد نفس الكافر الّتي تلومه يوم القيامة على ما قدّمت من كفر و معصية قال تعالى:( وَ أَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ ) يونس: 54.

و لكلّ من الأقوال وجه.

و جواب القسم محذوف يدلّ عليه الآيات التالية، و التقدير ليبعثنّ، و إنّما حذف للدلالة على تفخيم اليوم و عظمة أمره قال تعالى:( ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً ) الأعراف: 187 و قال:( إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى‏ كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) طه: 15 و قال:( عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ) النبأ: 1.

قوله تعالى: ( أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ ) الحسبان الظنّ، و جمع العظام كناية عن الإحياء بعد الموت، و الاستفهام للتوبيخ، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( بَلى‏ قادِرِينَ عَلى‏ أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ ) أي بلى نجمعها( و قادِرِينَ ) حال من فاعل مدخول بلى المقدّر، و البنان أطراف الأصابع و قيل: الأصابع و تسوية البنان تصويرها على ما هي عليها من الصور، و المعنى بلى نجمعها و الحال أنّا قادرون على أن نصوّر بنانه على صورها الّتي هي عليها بحسب خلقنا الأوّل.

و تخصيص البنان بالذكر - لعلّه - للإشارة إلى عجيب خلقها بما لها من الصور و خصوصيّات التركيب و العدد تترتّب عليها فوائد جمّة لا تكاد تحصى من أنواع القبض و البسط و الأخذ و الردّ و سائر الحركات اللطيفة و الأعمال الدقيقة و الصنائع الظريفة الّتي يمتاز بها الإنسان من سائر الحيوان مضافاً إلى ما عليها من الهيئات و الخطوط الّتي لا يزال ينكشف للإنسان منها سرّ بعد سرّ.

١٨٩

و قيل: المراد بتسوية البنان جعل أصابع اليدين و الرجلين مستوية شيئاً واحداً من غير تفريق كخفّ البعير و حافر الحمار، و المعنى قادرين على أن نجعلها شيئاً واحداً فلا يقدر الإنسان حينئذ على ما يقدر عليه مع تعدّد الأصابع من فنون الأعمال، و الوجه المتقدّم أرجح.

قوله تعالى: ( بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ) قال الراغب: الفجر شقّ الشي‏ء شقّاً واسعاً. قال: و الفجور شقّ ستر الديانة يقال: فجر فجوراً فهو فاجر و جمعه فجّار و فجرة. انتهى، و أمام ظرف مكان أستعير لمستقبل الزمان، و المراد من فجوره أمامه فجوره مدى عمره و ما دام حيّاً، و ضمير( أَمامَهُ ) للإنسان.

و قوله:( لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ) تعليل سادّ مسدّ معلّله و هو التكذيب بالبعث و الإحياء بعد الموت، و( بَلْ ) إضراب عن حسبانه عدم البعث و الإحياء بعد الموت.

و المعنى: أنّه لا يحسب أن لن نجمع عظامه بل يريد أن يكذّب بالبعث ليفجر مدى عمره إذ لا موجب للإيمان و التقوى لو لم يكن هناك بعث للحساب و الجزاء.

هذا ما يعطيه السياق في معنى الآية، و لهم وجوه اُخر ذكروها في معنى الآية بعيدة لا تلائم السياق أغمضنا عن ذكرها.

و ذكر الإنسان في الآية من وضع الظاهر موضع الضمير و النكتة فيه زيادة التوبيخ و المبالغة في التقريع، و قد كرّر ذلك في الآية و ما يتلوها من الآيات أربع مرّات.

قوله تعالى: ( يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ ) الظاهر أنّه بيان لقوله:( بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ) فيفيد التعليل و أنّ السائل في مقام التكذيب و السؤال سؤال تكذيب إذ من الواجب على من دعي إلى الإيمان و التقوى، و اُنذر بهذا النبإ العظيم مع دلالة الآيات البيّنة و قيام الحجج القاطعة أن يتّخذ حذره و يتجهّز بالإيمان و التقوى و يتهيّأ للقاء اليوم قريباً كان أو بعيداً فكلّ ما هو آت قريب لا أن يسأل متى تقوم الساعة؟ و أيّان يوم القيامة؟ فليس إلّا سؤال مكذّب مستهزئ.

قوله تعالى: ( فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ وَ خَسَفَ الْقَمَرُ وَ جُمِعَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ ) ذكر

١٩٠

جملة من أشراط الساعة، و بريق البصر تحيّره في إبصاره و دهشته، و خسوف القمر زوال نوره.

قوله تعالى: ( يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ) أي أين موضع الفرار، و قوله:( أَيْنَ الْمَفَرُّ ) مع ظهور السلطنة الإلهيّة له و علمه بأن لا مفرّ و لا فرار يومئذ من باب ظهور ملكاته يومئذ فقد كان في الدنيا يسأل عن المفرّ إذا وقع في شدّة أو هدّدته مهلكة و ذلك كإنكارهم الشرك يومئذ و حلفهم كذباً قال تعالى:( ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَ اللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ) الأنعام: 23، و قال:( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ ) المجادلة: 18.

قوله تعالى: ( كَلَّا لا وَزَرَ ) ردع عن طلبهم المفرّ، و الوزر الملجأ من جبل أو حصن أو غيرهما، و هو من كلامه تعالى لا من تمام كلام الإنسان.

قوله تعالى: ( إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ) الخطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و تقديم( إِلى‏ رَبِّكَ‏ ) و هو متعلّق بقوله:( الْمُسْتَقَرُّ ) يفيد الحصر فلا مستقرّ إلى غيره فلا وزر و لا ملجأ يلتجأ إليه فيمنع عنه.

و ذلك أنّ الإنسان سائر إليه تعالى كما قال:( يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى‏ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ ) الانشقاق: 6 و قال:( إِنَّ إِلى‏ رَبِّكَ الرُّجْعى‏ ) العلق: 8 و قال:( وَ أَنَّ إِلى‏ رَبِّكَ الْمُنْتَهى‏ ) النجم: 42، فهو ملاقي ربّه راجع و منته إليه لا حاجب يحجبه عنه و لا مانع يمنعه منه و أمّا الحجاب الّذي يشير إليه قوله:( كَلَّا بَلْ رانَ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ) المطفّفين: 15 فسياق الآيتين يعطي أنّ المراد به حجاب الحرمان من الكرامة لا حجاب الجهل أو الغيبة.

و يمكن أن يكون المراد بكون مستقرّه إليه رجوع أمر ما يستقرّ فيه من سعادة أو شقاوة و جنّة أو نار إلى مشيّته تعالى فمن شاء جعله في الجنّة و هم المتّقون و من شاء جعله في النار و هم المجرمون قال تعالى:( يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ ) المائدة: 40.

١٩١

و يمكن أن يراد به أنّ استقرارهم يومئذ إلى حكمه تعالى فهو النافذ فيهم لا غير قال تعالى:( كُلُّ شَيْ‏ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) القصص: 88.

قوله تعالى: ( يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَ أَخَّرَ ) المراد بما قدّم و أخّر ما عمله من حسنة أو سيّئة في أوّل عمره و آخره أو ما قدّمه على موته من حسنة أو سيّئة و ما أخّر من سنّة حسنة سنّها أو سنّة سيّئة فيثاب بالحسنات و يعاقب على السيّئات.

و قيل: المراد بما قدّم ما عمله من حسنة أو سيّئة فيثاب على الأوّل و يعاقب على الثاني، و بما أخّر ما تركه من حسنة أو سيّئة فيعاقب على الأوّل و يثاب على الثاني، و قيل، المراد ما قدّم من المعاصي و ما أخّر من الطاعات، و قيل، ما قدّم من طاعة الله و أخّر من حقّه فضيّعه، و قيل: ما قدّم من ماله لنفسه و ما ترك لورثته و هي وجوه ضعيفة بعيدة عن الفهم.

قوله تعالى: ( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَ لَوْ أَلْقى‏ مَعاذِيرَهُ‏ ) إضراب عن قوله،( يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ‏ ) إلخ، و البصيرة رؤية القلب و الإدراك الباطنيّ و إطلاقها على الإنسان من باب زيد عدل أو التقدير الإنسان ذو بصيرة على نفسه.

و قيل: المراد بالبصيرة الحجّة كما في قوله تعالى،( ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ بَصائِرَ ) إسراء: 102 و الإنسان نفسه حجّة على نفسه يومئذ حيث يسأل عن سمعه و بصره و فؤاده و يشهد عليه سمعه و بصره و جلده و يتكلّم يداه و رجلاه، قال تعالى:( إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا ) إسراء: 36، و قال( شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ ) حم السجدة: 20. و قال،( وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ ) يس: 65.

و قوله:( وَ لَوْ أَلْقى‏ مَعاذِيرَهُ‏ ) المعاذير جمع معذرة و هي ذكر موانع تقطع عن الفعل المطلوب، و المعنى هو ذو بصيرة على نفسه و لو جادل عن نفسه و اعتذر بالمعاذير لصرف العذاب عنها.

١٩٢

و قيل: المعاذير جمع معذار و هو الستر، و المعنى و إن أرخى الستور ليخفي ما عمل فإنّ نفسه شاهدة عليه و مآل الوجهين واحد.

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) قال: نفس آدم الّتي عصت فلامها الله عزّوجلّ.

أقول: و في انطباقها على الآية خفاء.

و فيه، في قوله:( بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ) قال: يقدّم الذنب و يؤخّر التوبة و يقول: سوف أتوب.

و فيه، في قوله:( فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ ) قال: يبرق البصر فلا يقدر أن يطرف.

و فيه، في قوله تعالى:( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَ لَوْ أَلْقى‏ مَعاذِيرَهُ‏ ) قال: يعلم ما صنع و إن اعتذر.

و في الكافي، بإسناده عن عمر بن يزيد قال: إنّي لأتعشّى مع أبي عبداللهعليه‌السلام و تلا هذه الآية( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَ لَوْ أَلْقى‏ مَعاذِيرَهُ‏ ) ، ثمّ قال: يا أبا حفص ما يصنع الإنسان أن يعتذر إلى الناس بخلاف ما يعلم الله منه؟ إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقول: من أسرّ سريرة ألبسه الله رداها إن خيراً فخير و إن شرّاً فشرّ.

و في المجمع، و روى العيّاشيّ بإسناده عن محمّد بن مسلم عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: ما يصنع أحدكم أن يظهر حسناً و يستر سيّئاً؟ أ ليس إذا رجع إلى نفسه يعلم أنّه ليس كذلك؟ و الله سبحانه يقول:( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ) إنّ السريرة إذا صلحت قويت العلانية.

أقول: و رواه في اُصول الكافي، بإسناده عن فضل أبي العبّاس عنهعليه‌السلام .

و فيه، عن العيّاشيّ عن زرارة قال، سألت أباعبداللهعليه‌السلام ما حدّ المرض الّذي يفطر صاحبه؟ قال،( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ) هو أعلم بما يطيق.

أقول: و رواه في الفقيه، أيضاً.

١٩٣

( سورة القيامة الآيات 16 - 40)

لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ( 16 ) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ( 17 ) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ( 18 ) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ( 19 ) كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ ( 20 ) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ ( 21 ) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ( 22 ) إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ( 23 ) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ( 24 ) تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ( 25 ) كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ ( 26 ) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ ( 27 ) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ ( 28 ) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ( 29 ) إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ( 30 ) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّىٰ ( 31 ) وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ ( 32 ) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَىٰ أَهْلِهِ يَتَمَطَّىٰ ( 33 ) أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ ( 34 ) ثُمَّ أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ ( 35 ) أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى ( 36 ) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ ( 37 ) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ ( 38 ) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ ( 39 ) أَلَيْسَ ذَٰلِكَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَىٰ ( 40 )

( بيان‏)

تتمّة صفة يوم القيامة باعتبار حال الناس فيه و انقسامهم إلى طائفة ناضرة الوجوه مبتهجين و اُخرى باسرة الوجوه عابسين آيسين من النجاة، و الإشارة إلى أنّ هذا

١٩٤

المساق تبتدئ من حين نزول الموت ثمّ الإشارة إلى أنّ الإنسان لا يترك سدىً فالّذي خلقه أوّلاً قادر على أن يحييه ثانياً و به تختتم السورة.

قوله تعالى: ( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ‏ - إلى قوله -ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ) الّذي يعطيه سياق الآيات الأربع بما يحفّها من الآيات المتقدّمة و المتأخّرة الواصفة ليوم القيامة أنّها معترضة متضمّن أدباً إلهيّاً كلّف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتأدّب به حينما يتلقّى ما يوحى إليه من القرآن الكريم فلا يبادر إلى قراءة ما لم يقرأ بعد و لا يحرّك به لسانه و ينصت حتّى يتمّ الوحي.

فالآيات الأربع في معنى قوله تعالى:( وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى‏ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) طه: 114.

فالكلام في هذه الآيات يجري مجرى قول المتكلّم منّا أثناء حديثه لمخاطبه إذا بادر إلى تتميم بعض كلام المتكلّم باللفظة و اللفظتين قبل أن يلفظ بها المتكلم و ذلك يشغله عن التجرّد للإنصات فيقطع المتكلّم حديثه و يعترض و يقول لا تعجل بكلامي و أنصت لتفقه ما أقول لك ثمّ يمضي في حديثه.

فقوله:( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ‏ ) الخطاب فيه للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و الضميران للقرآن الّذي يوحى إليه أو للوحي، و المعنى لا تحرّك بالوحي لسانك لتأخذه عاجلاً فتسبقنا إلى قراءة ما لم نقرأ بعد فهو كما مرّ في معنى قوله:( وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى‏ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) طه: 114.

و قوله:( إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ‏ ) القرآن ههنا مصدر كالفرقان و الرجحان، و الضميران للوحي، و المعنى لا تعجل به إذ علينا أن نجمع ما نوحيه إليك بضمّ بعض أجزائه إلى بعض و قراءته عليك فلا يفوتنا شي‏ء منه حتّى يحتاج إلى أن تسبقنا إلى قراءة ما لم نوحه بعد.

و قيل: المعنى إنّ علينا أن نجمعه في صدرك بحيث لا يذهب عليك شي‏ء من معانيه و أن نثبت قراءته في لسانك بحيث تقرأه متى شئت و لا يخلو من بعد.

و قوله:( فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ‏ ) أي فإذا أتممنا قراءته عليك وحياً فاتّبع

١٩٥

قراءتنا له و اقرأ بعد تمامها.

و قيل: المراد باتّباع قرآنه اتّباعه ذهناً بالإنصات و التوجّه التامّ إليه و هو معنى لا بأس به.

و قيل: المراد فاتّبع في الأوامر و النواهي قرآنه، و قيل: المراد اتّباع قراءته بالتكرار حتّى يرسخ في الذهن و هما معنيان بعيدان.

و قوله:( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ) أي علينا إيضاحه عليك بعد ما كان علينا جمعه و قرآنه فثمّ للتأخير الرتبيّ لأنّ البيان مترتّب على الجمع و القراءة رتبة.

و قيل، المعنى ثمّ إنّ علينا بيانه للناس بلسانك نحفظه في ذهنك عن التغيّر و الزوال حتّى تقرأه على الناس.

و قال بعضهم في معنى هذه الآيات إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يحرّك لسانه عند الوحي بما اُلقي إليه من القرآن مخافة أن ينساه فنهي عن ذلك بالآيات و اُمر بالإنصات حتّى يتمّ الوحي فضمير( لا تُحَرِّكْ بِهِ‏ ) للقرآن أو الوحي باعتبار ما قرأ عليه منه لا باعتبار ما لم يقرأ بعد.

و فيه أنّه لا يلائم سياق الآيات، تلك الملاءمة نظراً إلى ما فيها من النهي عن العجل و الأمر باتّباع قرآنه تعالى بعد ما قرأ، و كذا قوله،( إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ‏ ) فذلك كلّه أظهر فيما تقدّم منها في هذا المعنى.

و عن بعضهم في معنى هذه الآيات، الّذي اختاره أنّه لم يرد القرآن، و إنّما أراد قراءة العباد لكتبهم يوم القيامة يدلّ على ذلك ما قبله و ما بعده، و ليس فيه شي‏ء يدلّ على أنّه القرآن و لا شي‏ء من أحكام الدنيا.

و في ذلك تقريع و توبيخ له حين لا تنفعه العجلة يقول: لا تحرّك لسانك بما تقرأه من صحيفتك الّتي فيها أعمالك يعني اقرأ كتابك و لا تعجل فإنّ هذا الّذي هو على نفسه بصيرة إذا رأى سيّئاته ضجر و استعجل فيقال له توبيخاً: لا تعجل و تثبّت لتعلم الحجّة عليك فإنّا نجمعها لك فإذا جمعناه فاتّبع ما جمع عليك بالانقياد

١٩٦

لحكمه و الاستسلام للتبعة فيه فإنّه لا يمكنك إنكاره ثمّ إنّ علينا بيانه لو أنكرت. انتهى.

و يدفعه أنّ المعترضة لا تحتاج في تمام معناها إلى دلالة ممّا قبلها و ما بعدها عليه على أنّ مشاكلة قوله:( وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى‏ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) في سياقه لهذه الآيات تؤيّد مشاكلتها له في المعنى.

و عن بعضهم أنّ الآيات الأربع متّصلة بما تقدّم من حديث يوم القيامة، و خطاب( لا تُحَرِّكْ‏ ) للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و ضمير( بِهِ) ليوم القيامة، و المعنى لا تتفوّه بالسؤال عن وقت القيامة أصلاً و لو كنت غير مكذّب و لا مستهزئ( لِتَعْجَلَ بِهِ‏ ) أي بالعلم به( إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ‏ ) أي من الواجب في الحكمة أن نجمع من نجمعه فيه و نوحي شرح وصفه إليك في القرآن( فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ‏ ) أي إذا قرأنا ما يتعلّق به فاتّبع ذلك بالعمل بما يقتضيه من الاستعداد له( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ) أي إظهار ذلك بالنفخ في الصور انتهى ملخّصاً و هو كما ترى.

و قد تقدّم في تفسير قوله:( وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ ) إنّ هذا النهي عن العجل بالقرآن يؤيّد ما ورد في الروايات أنّ للقرآن نزولاً على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دفعة غير نزوله تدريجاً.

قوله تعالى: ( كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَ تَذَرُونَ الْآخِرَةَ ) خطاب للناس و ليس من تعميم الخطاب السابق في شي‏ء لأنّ خطاب( لا تُحَرِّكْ‏ ) اعتراضيّ غير مرتبط بشي‏ء من طرفيه.

و قوله:( كَلَّا ) ردع عن قوله السابق:( يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ ) و قوله:( بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ ) - أي الحياة العاجلة و هي الحياة الدنيا -( وَ تَذَرُونَ الْآخِرَةَ ) أي تتركون الحياة الآخرة، و ما في الكلام من الإضراب إضراب عن حسبان عدم الإحياء بعد الموت نظير الإضراب في قوله:( بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ) .

قوله تعالى: ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى‏ رَبِّها ناظِرَةٌ ) وصف ليوم القيامة بانقسام الوجوه فيه إلى قسمين: ناضرة و باسرة، و نضرة الوجه و اللون و الشجر و نحوها و نضارتها

١٩٧

حسنها و بهجتها.

و المعنى: نظراً إلى ما يقابله من قوله:( وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ ) إلخ وجوه يوم إذ تقوم القيامة حسنة متهلّلة ظاهرة المسرّة و البشاشة قال تعالى:( تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ) المطفّفين: 24، و قال:( وَ لَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً ) الدهر: 11.

و قوله:( إِلى‏ رَبِّها ناظِرَةٌ ) خبر بعد خبر لوجوه، و( إِلى‏ رَبِّها ) متعلّق بناظرة قدّم عليها لإفادة الحصر أو الأهمّيّة.

و المراد بالنظر إليه تعالى ليس هو النظر الحسّيّ المتعلّق بالعين الجسمانيّة المادّيّة الّتي قامت البراهين القاطعة على استحالته في حقّه تعالى بل المراد النظر القلبيّ و رؤية القلب بحقيقة الإيمان على ما يسوق إليه البرهان و يدلّ عليه الأخبار المأثورة عن أهل العصمةعليهم‌السلام و قد أوردنا شطراً منها في ذيل تفسير قوله تعالى:( قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ) الأعراف: 143، و قوله تعالى:( ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) النجم: 11.

فهؤلاء قلوبهم متوجّهة إلى ربّهم لا يشغلهم عنه سبحانه شاغل من الأسباب لتقطّع الأسباب يومئذ، و لا يقفون موقفاً من مواقف اليوم و لا يقطعون مرحلة من مراحله إلّا و الرحمة الإلهيّة شاملة لهم( وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ) النمل: 89 و لا يشهدون مشهداً من مشاهد الجنّة و لا يتنعّمون بشي‏ء من نعيمها إلّا و هم يشاهدون ربّهم به لأنّهم لا ينظرون إلى شي‏ء و لا يرون شيئاً إلّا من حيث إنّه آية لله سبحانه و النظر إلى الآية من حيث إنّها آية و رؤيتها نظر إلى ذي الآية و رؤية له.

و من هنا يظهر الجواب عمّا اُورد على القول بأنّ تقديم( إِلى‏ رَبِّها ) على( ناظِرَةٌ ) يفيد الحصر و الاختصاص، أنّ من الضروريّ أنّهم ينظرون إلى غيره تعالى كنعم الجنّة.

و الجواب أنّهم لمّا لم يحجبوا عن ربّهم كان نظرهم إلى كلّ ما ينظرون إليه إنّما هو بما أنّه آية، و الآية بما أنّها آية لا تحجب ذا الآية و لا تحول بينه و بين

١٩٨

الناظر إليه فالنظر إلى الآية نظر إلى ذي الآية فهؤلاء لا ينظرون في الحقيقة إلّا إلى ربّهم.

و أمّا ما اُجيب به عنه أنّ تقديم( إِلى‏ رَبِّها ) لرعاية الفواصل و لو سلّم أنّه للاختصاص فالنظر إلى غيره في جنب النظر إليه لا يعدّ نظراً، و لو سلّم فالنظر إليه تعالى في بعض الأحوال لا في جميعها.

فلا يخلو من تكلّف التقييد من غير مقيّد على أنّه أسند النظر إلى الوجوه لا إلى العيون أو الأبصار و وجوه أهل الجنّة إلى ربّهم دائماً من غير أن يواجهوا بها غيره.

قوله تعالى: ( وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ ) فسّر البسور بشدّة العبوس و الظنّ بالعلم و( فاقِرَةٌ ) صفة محذوفة الموصوف أي فعله فاقرة، و الفاقرة من فقره إذا أصاب فقار ظهره، و قيل: من فقرت البعير إذا وسمت أنفه بالنار.

و المعنى: و وجوه يومئذ شديدة العبوس تعلم أنّه يفعل بها فعلة تقصم ظهورها أو تسم اُنوفها بالنار، و احتمل أن يكون تظنّ خطاباً للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما أنّه سامع و الظنّ بمعناه المعروف.

قوله تعالى: ( كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ ) ردع عن حبّهم العاجلة و إيثارها على الآخرة كأنّه قيل: ارتدعوا عن ذلك فليس يدوم عليكم و سينزل عليكم الموت فتساقون إلى ربّكم و فاعل( بَلَغَتِ ) محذوف يدلّ عليه السياق كما في قوله تعالى:( فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ) الواقعة: 83 و التقدير إذا بلغت النفس التراقي.

و التراقي العظام المكتنفة للنحر عن يمين و شمال جمع ترقوة، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ قِيلَ مَنْ راقٍ‏ ) اسم فاعل من الرقى أي قال من حضره من أهله و أصدقائه من يرقيه و يشفيه؟ كلمة يأس، و قيل: المعنى قال بعض الملائكة لبعض: من يرقى بروحه من الملائكة أ ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب.؟

قوله تعالى: ( وَ ظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ ) أي و علم الإنسان المحتضر من مشاهدة هذه

١٩٩

الأحوال أنّه مفارقته للعاجلة الّتي كان يحبّها و يؤثرها على الآخرة.

قوله تعالى: ( وَ الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ) ظاهره أنّ المراد به التفاف ساق المحتضر بساقه ببطلان الحياة السارية في أطراف البدن عند بلوغ الروح التراقي.

و قيل: المراد به التفاف شدّة أمر الآخرة بأمر الدنيا، و قيل: التفاف حال الموت بحال الحياة، و قيل: التفاف ساق الدنيا و هي شدّة كرب الموت بساق الآخرة و هي شدّة هول المطّلع.

و لا دليل من جهة اللفظ على شي‏ء من هذه المعاني نعم من الممكن أن يقال: إنّ المراد بالتفاف الساق بالساق غشيان الشدائد و تعاقبها عليه واحدة بعد اُخرى من حينه ذلك إلى يوم القيامة فينطبق على كلّ من المعاني.

قوله تعالى: ( إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ ) المساق مصدر ميميّ بمعنى السوق، و المراد بكون السوق يومئذ إليه تعالى أنّه الرجوع إليه، و عبّر بالمساق للإشارة إلى أن لا خيرة للإنسان في هذا المسير و لا مناص له عنه فهو مسوق مسيّر من يوم موته و هو قوله:( إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ ) حتّى يرد على ربّه يوم القيامة و هو قوله:( إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ) و لو كان تقديم( إِلى‏ رَبِّكَ ) لإفادة الحصر أفاد انحصار الغاية في الرجوع إليه تعالى.

و قيل: الكلام على تقدير مضاف و تقديم( إِلى‏ رَبِّكَ ) لإفادة الحصر و التقدير إلى حكم ربّك يومئذ المساق أي يساق ليحكم الله و يقضي فيه بحكمه، أو التقدير إلى موعد ربّك و هو الجنّة و النار، و قيل: المراد برجوع المساق إليه تعالى أنّه تعالى هو السائق لا غير، و الوجه ما تقدّم.

قوله تعالى: ( فَلا صَدَّقَ وَ لا صَلَّى وَ لكِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى ثُمَّ ذَهَبَ إِلى‏ أَهْلِهِ يَتَمَطَّى ) الضمائر راجعة إلى الإنسان المذكور في قوله:( أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ ) إلخ، و المراد بالتصديق المنفيّ تصديق الدعوة الحقّة الّتي يتضمّنها القرآن الكريم، و بالتصلية المنفيّة التوجّه العباديّ إليه تعالى بالصلاة الّتي هي عمود الدين.

و التمطّي - على ما في المجمع - تمدّد البدن من الكسل و أصله أن يلوي

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578