شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم10%

شبهات وردود حول القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 578

شبهات وردود حول القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 578 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 297548 / تحميل: 13676
الحجم الحجم الحجم
شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

* * *

والّذي جاء في القرآن بهذا الشأن ليس فيه ما يخالف التوراة جوهريّاً، وجاء تفصيل القصّة في القرآن في سورة الشعراء (١) وأوجزها في سائر السور (٢) وجاء التعبير في هذه الآيات بالبحر وباليمّ وهو: لجّةُ الماء ومعظمُهُ.

لكنْ هناك في التفاسير أمور يبدو عليها بعض الإبهام، فقد ذَكر المفسّرون: أنّ الطُرق التي انفلقت لبني إسرائيل للعبور كانت على عدد أسباطهم اثني عشرَ طريقاً، (٣) الأمر الّذي ليست عبارة القرآن نصّاً فيه بل ولا إشارةً إليه.

وأمّا قوله تعالى: ( فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ) (٤) فالمعنى: أنّ البحر انشقّ وتجمّع الماء في كلّ جانبٍ يميناًَ ويساراً كالجبل، والفِرْق - بكسر الفاء - اسم لما انفرق، قال الراغب: الفِرق القطعة المنفصلة، فكلّ جانبٍ من البحر انفصل عن الجانب الآخر وصار كلّ جانب كجبلٍ عظيمٍ.

ولعلّ في قوله تعالى: ( فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً ) (٥) ما يتنافى وقولهم بتعدّد الطرق على عدد الأسباط.

وهكذا نجد أنّ بعض المفسّرين احتمل أنْ يكون المقصود هو نهر النيل؛ بحجّة أنّ العرب تُسمّي الماء العَذِب أيضاً بحراً إذا كثُر، قال الآلوسي: واختلفوا في هذا البحر، فقيل: القُلزم، وكان بين طرفيه أربعة فراسخ!

وقيل: النيل، والعرب تُسمّي الماء المـَلِح والعَذِب بحراً إذا كثُر، ومنه: ( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ) (٦) وقال الطبرسي: وهو نهر النيل ما بين أيلة

____________________

(١) الشعراء ٢٦: ٥٢ - ٦٨.

(٢) راجع: سورة البقرة ٢: ٥٠، والأعراف ٧: ١٣٦ - ١٣٨، ويونس ١٠: ٩٠، والإسراء ١٧: ١٠٣ و ١٠٤، وطه ٢٠: ٧٧، والقصص ٢٨: ٣٩ و ٤٠، والزخرف ٤٣: ٥٥ و ٥٦. والدخان ٤٤: ١٧ - ١٣، والذاريات ٥١: ٣٨ - ٤٠.

(٣) راجع: جامع البيان للطبري، ج ١، ص ٢١٩ تجد فيه العجائب والغرائب بهذا الشأن، وراجع أيضاً: مجمع البيان، ج ٧، ص ١٩١.

(٤) الشعراء ٢٦: ٦٣.

(٥) طه ٢٠: ٧٧.

(٦) الرحمان ٥٥: ١٩.

٦١

ومصر، وقيل هو بحر القُلزم ما بين اليمن ومكّة إلى مصر (١) .

ولقد فات هؤلاء أنّ بني إسرائيل أخذوا في طريقهم إلى أرض فلسطين عِبر وادي سيناء، ولم يعترض طريقهم إلى وادي سيناء سوى البحر الأحمر، أمّا النيل فلا مساس له بذلك ولم يكن على جهة مسيرتهم نحو فلسطين؛ إذ كان النيل على جهة الغرب وفلسطين على جهة الشرق حيث توجّه بنو إسرائيل، وليس في طريقهم ما يحول بينهم وبين فلسطين سوى مضيق السويس في نهاية البحر الأحمر.

قصّة العجل والسامري

تَنسب التوراة صُنْعَ العجل إلى هارون بدلَ السامري الّذي يذكره القرآن.

جاء في سِفر الخروج: أنّ موسى (عليه السلام) لمـّا أبطأ على بني إسرائيل طلبوا من هارون أنْ يصنع لهم آلهةً، فأجابهم هارون إلى ذلك، وأخذ أقراط الذهب وصنع منها عجلاً مسبوكاً، وقال: هذه آلهتك يا إسرائيل التي أَصعَدَتْكَ من أرض مصر. فأصْعَدوا محرّقات وقدّموا ذبائح، وأكلوا وشربوا وقاموا باللعِب حول العجل.

وأخبر الربّ موسى أنّ الشعب قد أفسد، فقد صنعوا عجلاً وسجدوا له... فحميَ غضبُ الربِّ وأراد أنْ يَهلِكَهُم؛ لولا أنّ موسى تشفّع لهم، وكان عندما اقترب إلى المحلّة أبصر العجل والرقص، فحمي غضبُه وطرح اللوحين من يديه وكسرهما، ثُمّ أخذ العجل الذي صنعوا وأحرقه بالنار، وطحنه وذرّاه على الماء وسقاه بني إسرائيل.

وقال لهارون: ماذا صَنَع بك هذا الشعبُ حتّى جلبتَ عليه خطيئةً عظيمةً؟! فاعتذر أنّهم افتقدوك فصنعتُ لهم العجل (٢) .

* * *

ونقرأ في سورة طه:

( وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى * قَالَ

____________________

(١) روح المعاني، ج ١، ص ٢٣٣، وراجع: مجمع البيان، ج ٧، ص ١٩١.

(٢) سِفر الخروج، إصحاح ٣٢ / ١ - ٢٤.

٦٢

فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ * فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي * قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ * أَفَلا يَرَوْنَ أَلاّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً *وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي * قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى * قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلاّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي * قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي * قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ * قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي * قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً ) (١) .

مواضع الاختلاف بين القرآن والتوراة بشأن العجل

١ - ذكرت التوراة: أنّ الّذي صَنَع العجلَ هو هارون أخو موسى (عليه السلام).

وجاء في سورة طه: أنّه السّامري في ثلاثة مواضع (٢) ، وأنّ هارون أراد منعهم من ذلك فلم يستطع: ( قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) (٣) .

٢ - وذكرت: أنّ موسى لمـّا حَمَيَ غضبُه طرح اللوحَينِ من يديه وكسرهما.

وجاء في القرآن: أنّه ألقى الألواح (٤) - لكنّها لم تتكسّر - ومِن ثمّ ( وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ) (٥) .

٣ - وذكرت: أنّ موسى أخذ العجل وأحرقه وطحنه وذرّاه في ماءٍ وسقاه بني إسرائيل.

____________________

(١) طه ٢٠: ٨٣ - ٩٧.

(٢) طه ٢٠: ٨٥ و ٨٧ و ٩٥.

(٣) الأعراف ٧: ١٥٠.

(٤) الأعراف ٧: ١٥٤.

(٥) الأعراف ٧: ١٥٤.

٦٣

وجاء في القرآن: أنّه حرّقه ونسفه في اليمّ نسفاً (١) .

٤ - وجاء في القرآن: أنّهم اتّخذوا ( عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ ) (٢) لكنّه لا يكلّمهم ولا يُرجع إليهم قولاً (٣) .

وقد سكتت التوراة عن ذلك.

٥ - وجاء في القرآن قولةُ السامري: ( قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ) (٤) .

وسكتت التوراة عن ذلك.

* * *

وحَسَبَ الأُستاذ عبد الوهاب النجّار أنّ هناك وجهاً سادساً للفرق بين القرآن والتوراة بشأن قصّة العجل، قال: والّذي يظهر من عبارة سِفر الخروج: أنّ ذهاب الشيوخ السبعين كان قبل عبادة العجل، وأمّا القرآن فإنّه يَذكر أنّه ذهب لتلقّي الألواح قبل عبادتهم العجل، وذهب مع الشيوخ السبعين بعد ذلك، وهذا هو المعقول (٥) .

والّذي أوقع الأُستاذ في هذا الوهم أنّه وجد قوله تعالى: ( وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا ) (٦) ، بعد قصّة العجل في نفس السورة (٧) .

لكنْ الثَبْتُ الموجود في المـُصحف الشريف لا يَصلح دليلاً على الترتيب في الحوادث التي يذكرها القرآن، بل لا دليل فيه على أنّ النزول كان على نفس ترتيب الثَبت، حسبَما نَبّهنا عليه في الجزء الأَوّل من التمهيد.

من ذلك قصّة ذبح البقرة ثبتت في المـُصحف قبل قصّة درءِ القتل في بني إسرائيل (٨) .

____________________

(١) طه ٢٠: ٩٧.

(٢) الأعراف ٧: ١٤٨، طه ٢٠: ٨٨.

(٣) الأعراف ٧: ١٤٨، طه ٢٠: ٨٩.

(٤) طه ٢٠: ٩٦.

(٥) قصص الأنبياء للنجّار، ص ٢٢٦، وراجع: القصّة في التوراة في سِفر الخروج، إصحاح ٣٢ - ٢٤.

(٦) الأعراف ٧: ١٥٥.

(٧) الأعراف ٧: ١٤٨ - ١٥٤.

(٨) البقرة ٢: ٦٧ - ٧٣.

٦٤

على أنّ في القرآن ما يشهد بوقوع مأساة العجل بعد ذهاب الشيوخ السبعين للميقات:

أوّلاً: أنّ ذهاب الشيوخ السبعين كان حسب الوعد للميقات، وقد صرّحت الآيات بأنّ مأساة العجل وقعت بعد هذا الميقات الذي طال أربعين ليلة.

قال تعالى: ( وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ - إلى قوله - وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ ) (١) .

وقال بشأن السبعين رجلاً: ( وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا ) (٢) .

أما فَعْلُ السفهاء الذي يعتذر منه موسى فهو طلبهم الرؤية: ( يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباًٍ مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ) (٣) .

ثانياً: التصريح بذلك في سورة النساء: ( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ ) (٤) .

ومن المعلوم أنّ هؤلاء الشيوخ السبعين إنّما صحبوا موسى للميقات؛ لإبلاغ رسالة القوم في طلب الرؤية، ومِن ثَمّ جاء في سورة طه: ( وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى * قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ ) (٥) .

* * *

وهكذا جاء في سِفر الخروج (١ ص٢٤):

وقال لموسى اصعد إلى الربّ أنت وهارون وناداب وابيهو وسبعون من شيوخ نبي إسرائيل، واسجدوا من بعيد، ويقترب موسى وحده إلى الربّ وهم لا يقتربون، وأمّا الشعب فلا يصعد معه...

____________________

(١) الأعراف ٧: ١٤٢ - ١٤٨.

(٢) الأعراف ٧: ١٥٥.

(٣) النساء ٤: ١٥٣.

(٤) النساء ٤: ١٥٣.

(٥) طه ٢٠: ٨٣ - ٨٥.

٦٥

ثمّ يَذكر بتفصيلٍ ما جرى بين موسى والربّ وآتاه معالم الشريعة، وكان موسى يكتبها في الألواح... وهكذا يستغرق البيانُ عدّة إصحاحات.

ثمّ يقول: ولمـّا رأى الشعب أنّ موسى أبطأ في النزول من الجبل اجتمع الشعب على هارون وقالوا له: قم اصنع لنا آلهةً (١) .

نظرة في قولة السامري

( قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ) (٢) .

زعمت الحشويّة من أَهل الحديث أنّ السامريَّ هذا كان قد وُلِد أيّام فرعون، وكانت أُمّه قد خافت عليه فخلّفته في غارٍ وأطبقت عليه بالحجارة، فوكّل اللّه جبرائيل أنْ يأتيَه فيَغذوه بأصابعه بواحدةٍ لبَناً وبأخرى عسلاً وبثالثةٍ سَمناً، فلم يزل يَكفُله جبرائيل حتّى نشأ وشبّ، وأصبح يعرف جبرائيل بسماته.

ثمّ إنّ فرعون وأصحابه لمـّا هجموا البحر ورأى بني إسرائيل أحجم فرسُه عن الدخول، وعند ذلك تمثّل جبرائيل راكباً فرساً أُنثى في مقدمة فرعون وأصحابه، فلمـّا رآها فرسُ فرعون اقتحم البحر وراءها...

وعند ذلك كان السامريّ قد عرف جبرائيل، ورأى أنّ فرسه كلّما وضع حافره على تراب حصلتْ فيه رجفةٌ وحركةٌ وحياةٌ. فأُلقيَ في رَوعِه: أنّ مِن أثرِ حافر فرس جبرائيل أنْ لا يُقذف في شيء إلاّ حصلت له الحياة؛ ولذلك قبض قبضةً من أثر حافر فرسه وضمّها عنده.

ولمـّا أبطأ موسى في الميقات دعا بني إسرائيل أنْ يأتوا بحُليّهم ليصنع لهم آلهةً، فصاغها عِجلاً وألقى من تلك القبضة فيه، فأصبح ذا حياة يخور كما يخور البقر، وقال: هذا إلهُكم وإله موسى، وأضلّهم عن الطريق.

____________________

(١) سِفر الخروج، إصحاح ٣٢ - ٢٤.

(٢) طه ٢٠: ٩٦.

٦٦

هكذا رَوى الطبري بأسانيده والسيوطي وغيرهما من أرباب النقل في التفسير (١) وزادوا في الطين بلّةً، أنّهم قالوا: إنّ موسى سألَ ربَّه فقال: يا ربّ، مَن أَخارَ العجلَ؟ فقال اللّه: أنا، قال موسى: فمَن أحياه؟ قال اللّه: أنا وأردتُ فتنتَهم، فقال موسى: يا ربّ، فأنت إذن أظللتهم، إنْ هي إلاّ فتنتك (٢) ، وهذا عندما قال اللّه تعالى لموسى: ( وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ ) (٣) .

* * *

قال أبو مسلم الأصفهاني: ليس في القرآن تصريح بهذا الّذي ذكره المفسّرون، فهاهنا وجهٌ آخر، وهو: أنْ يكون المراد بالرسول هو موسى (عليه السلام)، وبأثَرِهِ سُنّته ورسمه الّذي أَمر به، فقد يقال: فلان يقْفوا أثرَ فلان ويقبض أَثره إذا كان يَمتثلُ رسمَه.

والتقدير: أنّ موسى (عليه السلام) لمـّا أقبل على السامريّ باللوم والسؤال عن الّذي دعاه إلى إضْلال القوم قال السامريّ: أي عرفتُ أنّ الّذي أَنتم عليه ليس بحقٍّ، وقد كُنت قبضتُ قبضةً مِن أَثرك أيّها الرسول، أي شيئاً من سنُّتك ودينِك، فقذفته أي طرحته... وإنّما أُورِد بلفظ الإخبار عن غائب، كما يقول الرجل لرئيسهِ وهو مواجهٌ له: ما يقول الأمير في كذا، وبماذا يأمر الأمير...

وأمّا دعاؤه موسى (عليه السلام) رسولاً مع جَحدِهِ وكُفرِهِ فعلى مثل ما حَكى اللّه عن المشركين: ( يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ) (٤) وإن كانوا لم يؤمنوا بإنزالِ الذِكر عليه.

والإمام الرازي رجّح هذا القول وأيّده بوجوه، قال: إنّ هذا القول الذي ذَكره أبو مسلم ليس فيه إلاّ مخالفة المفسّرين، ولكنّه أقرب إلى التحقيق (٥) .

وهكذا الشيخ المراغي، قال: إنّ موسى لمـّا أقبل على السامريّ باللوم والتعنيف والسؤال عن الأمر الّذي دعاه إلى إضلال القوم ردّ عليه بأنّه كان استنّ بسنّته، واقتفى أثره

____________________

(١) راج: جامع البيان، ج١، ص٢٢٣، والدرّ المنثور، ج٥، ص٥٩٢، وتفسير الصافي للكاشاني، ج١، ص٩٢، وتفسير القمي، ج٢، ص٦٢، وتفسير ابن كثير، ج٣، ص١٦٤، وتفسير البيضاوي، ج٤، ص٢٩.

(٢) راجع: الدرّ المنثور، ج٥، ص٥٩٢، وتفسير الصافي، ج٢، ص٧٥.

(٣) طه ٢٠: ٨٥.

(٤) الحجر ١٥: ٦.

(٥) التفسير الكبير، ج٢٢، ص١١١.

٦٧

وتبع دينه، ثمّ استبان له أنّ ذلك هو الضَلال بعينه، وأنّه ليس من الحقّ في شيءٍ، فطرحه وراءه ظهريّاً وسار على النهج الّذي رأى (١) .

ما كانت صفة العِجل؟

جاء في تفسير ابن كثير وغيره: أنّ السامريّ أُلقي في رَوعِه أنّه لا ينبذ الترابَ الذي أَخذ مِن تحت حافر فرس جبرائيل على شيء، ويقول له كنْ كذا إلاّ كان كما أراد؛ ومِن ثَمّ لمـّا أخذ حُليَّ القوم وألقاها في النار قذف من تلك القبضةِ عليها وقال: كن عِجلاً، فصار عِجلاً ذا لحمٍ وعظمٍ ودمٍ، وجعل يَخور كما يخور وَلدُ البقر (٢) .

وقال بعضهم: إنّه جَعل مؤخّرةَ العِجل على حائط فيه ثُقب، وأقعد هناك مَن يتكلّم مع القوم ليظنّوا أنّ العِجل هُو الّذي يتكلّم معهم (٣) .

كلُّ ذلك مخالف لصريح القرآن؛ حيث إنّه عبّر بالجسد وصفاً للعِجل ( عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ ) ، (٤) وقال: ( أَفَلا يَرَوْنَ أَلاّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً ) (٥) ، وقال: ( أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً ) (٦) .

على أنّ الروايات بهذا الشأن - في المسائل الثلاث - على ما وردت في التفاسير المـُعتمدة على النقل والأثر كلّها متضاربة ومتعارضة بعضها مع البعض، فضلاً عن مخالفةِ أكثرها لفهمِ العقل الرشيد، ومِن ثَمّ فالإعراض عنها أجدر.

نعم، يبدو أنّ السامريُّ كان صاحبَ صنعة وصياغة الحُلّي، فسَبَك لهم مِن حُليّهم صَنماً بصورةِ عِجلٍ، وقال لهم: هذا إلهكم وإله مُوسى، فعبَّأ فيه مَساماتٍ ومنافذَ للهواء، بحيث يََحدثُ من ذلك صوتُ الخُوار، وهو صوت البقر، وهذا أمرٌ بسيط، ربما تُصنع أمثالُ ذلك لِلُعبة الصبيانِ اليوم وقبلَ اليوم، وليس من الأمر العجيب.

____________________

(١) تفسير المراغي، ج٦، ص١٤٥.

(٢) راجع: تفسير ابن كثير، ج٣، ص١٦٤، والدرّ المنثور، ج٥، ص٥٩٣، وتفسير البيضاوي، ج٤، ص٢٩، وتفسير القمي، ج٢، ص٦٢، وجامع البيان، ج١٦، ص١٤٩، وج ١، ص٢٢٣، وتفسير الميزان، ج١٤، ص٢١١.

(٣) راجع: التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري، ص٢٥١، وبحار الأنوار، ج١٣، ص٢٣١.

(٤) طه ٢٠: ٨٨.

(٥) طه ٢٠: ٨٩.

(٦) الأعراف ٧: ١٤٨.

٦٨

مَن هُو السامريّ؟

ربّما تشككَّ بعض الكتّابِ المسيحيّين (١) في (السامريّ) نسبةً إلى السامرة بلدة كانت في أرض فلسطين بناها (عُمري) رابع مُلوك بني إسرائيل المتأخر عن عهد نبيّ اللّه موسى (عليه السلام) بخمسة قرون! فكيف يكون معاصراً له وقد صنع العِجل كما جاء في القرآن؟

جاء في سِفر الملوك: وفي السنة ٣١ لآسامَلِك يهوذا مَلَك عُمري على إسرائيل ١٢ سنة، مَلَك في ترصة ٦ سنين، واشترى جبل السّامرة من شامر بِوزنتَين من الفضّة، وبَنى على الجبل، ودعا اسم المدينة الّتي بناها باسم شامر صاحب الجبل: السامرة.

وكان ذلك بعد خروج بني إسرائيل من أرض مصر بنحو مِن ثلاث وعشرين وخمسمِئة عام (٢) .

لكنْ السامريُّ لفظةٌ معرّبةٌ وليست على أصالتِها العِبريّة، والشين العِبريّة تُبدّل سيناً في العربيّة كما في (موسى) معرّب (موشي) العبريّة، و(السيع) معرّب (اليشوع) (٣) ، وكما في (السامرة) نسبةً الى اسم صاحب الجبل (شامر).

أمّا السامريُّ - في القرآن - فليس منسوباً إلى بلدة السامرة هذه، وإنّما هي نسبةٌ إلى (شمرون) بلدة كانت عامرةً على عهد نبيّ اللّه موسى ووصيّه يوشع بن نون، والنسبة إليها شمروني عُرّبت إلى سامري، ويُجمع على شمرونيم (سامريّين)، وقد فتحها يوشع وجعلها في سبط (زبولون) كما جاء سِفر اليشوع (٤) وكان المـَلِك عليها حين افتتحها يوشع (مرأون) (٥) .

____________________

(١) مصادر الإسلام لتسدال، ص٣٧ فما بعد، وآراء المستشرقين حول القرآن، ج١، ص٣٥٢.

(٢) قاموس الكتاب المـُقدّس، ص٤٥٩، وراجع: سِفر الملوك، إصحاح ١٦/٢٤.

(٣) قاموس الكتاب المـُقدّس، ص٩٥١.

(٤) راجع: سِفر اليشوع، إصحاح ١١/١، و١٢/٢٠، و١٩/١٥.

(٥) المصدر: ١٢/٢٠.

٦٩

هذا ما حقّقه العلاّمة الحجّة البلاغي (١) .

والسين والشين كانا يتبادلان في العبريّة أيضاً، كان سبط يهوذا يَنطقون بالشين، وسبط افرايمي بالسين في مثل (اليسوع) و(اليشوع) (٢) .

قال الأُستاذ عبد الوهاب النجّار: ويغلب أن تكون (الشين) في العبريّة (سيناً) في العربيّة، كما كان ينطق بها أيضاً سبط افرايم بن يوسف، وقد كان رجال سبط يهوذا يختبرون الرجل ليعرف أنّه من سبط يهوذا أو افرايمي، فيأمروه أن ينطق بـ (شبولت) (سُنبلة) فإذا قال (سبولت) عُرف أنّه افرايمي.

واحتمل في السامريّ نسبةً إلى شامر أو سامر بمعنى (حارس) (٣) ونُطقُها في العِبريّة (شومير) مأخوذ من (شمر) أي حرس، فقد جاء في سِفر التكوين: فقال الربّ لقابيل: أين هابيل أخوك؟ فأجاب: لا أعلم، وعقّبه بقوله: هَـ شومير أحي أنو أخي؟ يعني: أحارسُ أنا لأخي؟ (٤) وما ذكره الحجّة البلاغي أقرب في النظر.

مَن هُو قارون؟ (٥)

يقول تعالى عنه: ( إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ ) (٦) .

قارون، هو: قُوْرَح بن يصهار بن قهات بن لاوي من أبناء عمّ موسى وهارون، ثار هو وجماعة من رؤساء بني إسرائيل في مئتين وخمسين شخصاً، وحاولوا مقابلة موسى وهارون؛ لينزعوا زعامة إسرائيل عنهما.

وكان قارون ثريّاً جدّاً ويعتزّ بثَرائه ويَفخر على سائر بني إسرائيل، وكان اُولو

____________________

(١) راجع: كتابه (الهدى إلى دين المصطفى)، ج١، ص١٠٣.

(٢) قاموس الكتاب المقدّس، ص٩٥١.

(٣) ذكر جيمس هاكس في قاموس الكتاب المقدّس، ص٥٣٠، أنّ أحد معنيي (شمرون): كشيكجي (نكهبان) يعني الحارس.

(٤) قصص الأنبياء للنجّار، ص٢٢٤، وراجع: سِفر التكوين، إصحاح ٤.

(٥) من شُبُهات أوردها هاشم العربي في مُلحق ترجمةِ كتاب الإسلام لجرجس سال، ص٣٨١. زاعماً أنّه تناقض في القرآن، فمرّة من قوم موسى وأُخرى مُردِفاً بفرعون وهامان؟!

(٦) القصص ٢٨: ٧٦.

٧٠

البصائر من قومه ينصحونه ويحذّرونه عاقبة ما هو عليه من الخُيَلاء والزهو، فكان يتبجّح ويقول: إنّما أُوتيتهُ على علمٍ عندي، - ويُقال: إنّه كان واقفاً على سرّ الصِناعة أي الكيمياء - (١) فكان يخرج على قومه في زينته مُفتخراً عليهم، ويتحسّره القوم ويقول الضعفاء: ( يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) (٢) ؛ وبذلك كاد أن يتغلّب على موسى وقومه، لولا أنْ خسف اللّه به وبداره الأرض، وبكلّ ما كان يَملكه من كنوزٍ (٣) .

وأمّا قوله تعالى: ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ) (٤) . حيث يبدو أنّه كان مع فرعون ومِن قَومه، فالظاهر إرادة أنّه بالذات كان مقصوداً بالإنذار إلى جنب فرعون وهامان من غير أنْ يستدعي ذلك أن يكون منهم، بل معهم في العتوّ والطغيان؛ ولعلّه كان واقفاً بصفّهم إزاء موسى وهارون، قال تعالى: ( وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ ) (٥) ، فقد كان قارون مقصوداً كما كان فرعون وهامان، لعتّوهم واستكبارهم في الأرض جميعاً.

( مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ)

قال تعالى بشأن ضخامة ثراء قارون: ( وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ ) (٦) .

قال الطبرسي: (ما) هذه موصولة بمعنى الذي، وَصِلتها: إنّ، مع اسمها وخبرها. أي أعطيناه من الأموال المدّخرة قَدْرَ الذي تُنِيء مفاتحُه العُصبةَ (٧) ، أي يُثْقلُهم حملُه، والعُصبة: الجماعة المـُلتفّة بعضها ببعض، أي المتآزرة على عملٍ ثقيل، أي كان حملُها يُضني بالفئام من أقوياء الناس.

____________________

(١) أي إحالة الفلزّات الخسيسة إلى فلزٍ نفيس هو الذهب، وقد أحاله قوم، لكن الاستمرار في البحث في الذرّة - أو الجوهر الفرد - أصبح أنْ جعله ممكناً، والعلماء جادّون في تفريق أجزاء الذرّة، حتى إذا تَمَّ لهُم ذلك أمكنهم إيجاد أيّ مركّب شاءوا الذهب أو غيره، وحينذاك يكون ما كان يبدو مستحيلاً قد صار جائزاً، قصص الأنبياء للنجّار، ص٢٨٥.

(٢) القصص ٢٨: ٧٩.

(٣) راجع: سِفر الخروج، إصحاح ١٦/١ - ٣٠.

(٤) غافر ٤٠: ٢٣ و٢٤.

(٥) العنكبوت ٢٩: ٣٩.

(٦) القصص ٢٨: ٧٦.

(٧) مجمع البيان، ج٧، ص٢٦٦.

٧١

قال: والمـَفاتح - هنا - الخزائن في قول أكثر المفسّرين، وهو اختيار الزجّاج، كما في قوله سبحانه: ( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ ) (١) ، والمـَفاتح، جمع مَفتَح. والمِفتح بكسر الميم: المِفتاح. وبالفتح: الخُزانة، وكلّ خُزانة لصنفٍ من الأشياء أو الأموال، قال الفرّاء في قوله تعالى: ( إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ ) : يعني خَزائنُه (٢) .

قال الفرّاء: نَوؤُها بالعُصبة أنْ تُثقلَهم. ومَفاتِحه: خزائنُه. والمعنى: ما إنّ مَفاتِح الكنوز أي خزائنها لتُنِيء العُصبةَ أي تُميلُهم من ثقلها، وإذا أدخلت الباء قلت: تنوءُ بهم (٣) .

قال الشاعر:

إلاّ عصا أَرزَنٍ طارت برايتها

تنوءُ ضربتُها بالكفِّ والعضُدِ (٤)

وفي مسائل نافع بن الأزرق سأل ابن عبّاس: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول امرئ القيس إذ يقول:

تمشي فتُثقِلُها عَجيزَتُها

مشيَ الضعيفِ ينوءُ بالوَسْقِ (٥)

والوَسْق: ستّون صاعاً، حِمل بعيرٍ، وكذا وَقْر النخلة.

ومن الغريب ما نجد هنا مِن أجنبيٍ عن اللغة - هو هاشم العربي - يعترض ويرى أنّ الصواب: ( لتنوء بها الْعُصْبَة ) . (٦) هذا في حين أنّ الزمخشري - وهو البطل الفَحل - يقول: يقال: ناء به الحملُ، إذا أَثقَله حتّى أَمالَهُ (٧) فسواء قلت: ناء به الحِملُ أو ناء بالحِمل فالمعنى واحد، فالمعنى على الأَوّل: مالَ به الحِملُ ثقلاً، وعلى الثاني: مال بالحِمل ثقلاً، وعلى الأَوّل هو على الحقيقة كما جاء في القرآن، وعلى الثاني كنايةً كما جاء في البيت.

حادث نُتُوق الجبل فوقَ رؤوسِ بني إسرائيل

وحادث نُتُوق الجبل - وهو زعزعته من الأعالي، وقد ذكره القرآن، وأنكره بعض

____________________

(١) الأنعام ٦: ٥٩. راجع: مجمع البيان، ج٧، ص٢٦٦.

(٢) المصدر: ج٤، ص ٣١٠.

(٣) معاني القرآن للفرّاء، ج٢، ص٣١٠.

(٤) الهدى إلى دين المصطفى، ج١، ص٣٨٩.

(٥) الدرّ المنثور، ج٦، ص٤٣٨.

(٦) ملحق ترجمة كتاب الإسلام، ٤٢٥ - ٤٢٦.

(٧) الكشّاف للزمخشري، ج٣، ص٤٣٠.

٧٢

المستشرقين؛ بحجّة أنّه لم يأتِ ذكرُه في العهد القديم (١) ، عُورِض أيضاً بأنّه من التعنيف على التكليف (٢) .

وجاء ذِكر هذا الحادث في القرآن في موضعين:

١ - سورة البقرة: ( وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) (٣) .

٢ - سورة الأعراف: ( وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (٤) .

ليس في الآيتين سوى اقتلاع جزء عظيم من أعالي الجبل أثناء رجفةٍ أو زلزال، رأَوه بأَعينهم وهم مجتمعون في سَفح الجبل، وانحدر هابطاً ليتوقّف في الأثناء، وكانت وقفته بصورة عموديّة مُطِلاًّ عليهم جانبيّاً فظنّوا أنّه واقع بهم، وصادف ذلك أنْ كان عند أخذ الميثاق منهم على العمل بشريعة التوراة، ولعلّ في هذه المصادفة حِكمةً إلهيةً بالغةً؛ ليُريَهم من آياتٍ كونيّة موجّهة لضمير الإنسان إلى جانب ضَعفِ مقدرته تجاه إرادة اللّه القادر الحكيم.

وهذا من قبيل إراءة المعاجز على أيدي الأنبياء، إيقاظاً للضمير وليس إكراهاً على التسليم.

وفي هذا المقدار من دلالة الآيتَين تَوافق مع ما جاء في العهد القديم.

فقد جاء في سِفر الخروج:

فانحدر موسى من الجبل - الطور - إلى الشّعب، وقَدَّس الشعب وغسلوا ثيابهم، وقال للشعب: كونوا مستعدّين لليوم الثالث، لا تقربوا امرأةً، وحدث في اليوم الثالث لمـّا

____________________

(١) راجع: مصادر الإسلام لتسدال، ص١٤ فما بعد، وآراء المستشرقين حول القرآن، ج١، ص٣٤٨.

(٢) راجع: تفسير المنار، ج١، ص٣٤٠، وتفسير الميزان للطباطبائي، ج١، ص٢٠٠.

(٣) البقرة ٢: ٦٣ و٦٤.

(٤) الأعراف ٧: ١٧١.

٧٣

كان الصباح أنّه صارت رعودٌ وبروقٌ وسَحاب ثقيل على الجبل، وصوتُ بوقٍ شديدٍ جدّاً، فارتعد كلّ الشَّعب الذي في المحلّة، وأخرج موسى الشَّعب مِن المحلّة لملاقاة اللّه، فوقفوا في أسفل الجبل، وكان جبل سَيناء كلّه يُدخّن؛ مِن أجلِ أنّ الربّ نزل عليه بالنار، وصعد دُخانُه كدُخان الأَتون وارتجف كلّ الجبل جدّاً، فكان صوت البوق يزداد اشتداداً جدّاً، موسى يتكلّم واللّه يجيب بصوت (١) .

ثمّ جاء فيه بعد ذلك:

وكان جميع الشعب يَرَون الرعود والبروق وصوتَ البوق، والجبل يُدخّن، ولمـّا رأى الشعب ارتعدوا ووقفوا من بعيد، وقالوا لموسى: تكلّم أنت معنا فنسمع، ولا يتكّلم معنا اللّه؛ لئلاّ نموت (٢) .

* * *

أمّا اقتلاع الجبل من أصله وبرّمته ورفعه في السماء فوق رؤوسهم، فهذا ما لم يَذكُرْه القرآن، ولا جاء في روايةٍ معتمدةٍ عندنا، وإنّما هو شيء جاء في روايات إسرائيليّة عامّية اغترّ بها بعض المفسّرين من غير تحقيق (٣) .

ففي الدّر المنثور: عن قُتادة ( وإذ نَتَقنا الجَبَل... ) قال: انتزعه اللّه من أصله ثم جعله فوق رؤوسهم، ثم قال: لتأخُذُنّ أمري أو لأَرمينّكم به...

قال مُحمّد رشيد رضا: شايَعَ الأُستاذُ الإمامُ [ مُحمّد عبدَه ] المفسّرين على أنّ رَفْعَ الطُورِ كان آيةً كونيّةً، أي أنّه اُنتُزِعَ مِن الأرض وصَار مُعلّقاً فوقَهم في الهواء، وهذا هو المـُتبادر من الآية بمَعونة السياق، وإنْ لم تكنْ ألفاظُها نصّاً فيه.

وقال في وجه عدم نصّية القرآن في ذلك: إنّ أصلَ النَتق - في اللغة - الزعزعة والزَلزلة، وأمّا الظُلّة فكلّ ما أظلّك وأَطلّ عليك سواء كان فوق رأسك أو في جانبك مرتفعاً له ظلّ، فيُحتمل أنّهم كانوا بجانب الطُور رأوه منتوقاً، أي مرتفعاً مُزَعْزَعاً، فظنّوا أنْ سيقع بهم وينقضّ عليهم.

____________________

(١) سِفر الخروج، إصحاح ١٩/١٥ - ١٩.

(٢) المصدر: ٢٠/ ١٨ - ١٩.

(٣) راجع: الدر المنثور، ج١، ص١٨٤، وج٣، ص٥٩٦، وجامع البيان، ج١، ص٧٤، وتفسير ابن كثير، ج١، ص١٠٤ - ١٠٥، وغيرها من تفاسير معروفة، وراجع أيضاً: التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري، ص٤٢٧، والاحتجاج المنسوب إلى الطبرسي، ج٢، ص٦٥.

٧٤

ويجوز أنّ ذلك كان في أثرِ زلزالٍ تَزعزَعَ له الجبل... وإذا صحّ هذا التأويل لا يكون مُنكِرُ ارتفاع الجبل في الهواء مُكذِّباً للقرآن (١) .

* * *

كما ولم يأتِ في شيء من رواياتٍ صحيحةٍ الإسناد إلى أئمّةِ أهل البيت (عليهم السلام) ما يدلّ على أنّ جبل الطُور اُقتُلِعَ من مكانه فرُفِعَ في السماء فوقَ رؤوس القوم، سِوى ما جاء في تفسيرٍ مجهولٍ منسوبٍ إلى الإمام العسكري (عليه السلام) مِن أنّ اللّه أمر جبرائيل فقطعَ بجناحٍ من أجنحتهِ من جبلٍ من جبال فلسطين على قَدرِ مُعسكرِ موسى(عليه السلام) وكان طوله في عرضه فرسخاً في فرسخ، ثم جاء به فوق المعسكر على رؤوسهم، وقال: إمّا أنْ تَقبلوا ما آتاكم به موسى وإمّا وضعتُ عليكم الجبل فَطَحْطَحْتُكُمْ تَحْتَه...

وفي كتاب الاحتجاج (لم يُعرف مؤلّفه) روى مُرسلاً عن أبي بصير قال: سال طاووس اليماني الإمام مُحمّد بن عليّ الباقر(عليه السلام ٍ) عن طائرٍ طار مرّةً ولم يَطرْ قبلها ولا بعدها، ذكره اللّه في القرآن ما هو؟ (فقال سَيناء، أطاره اللّه على بني إسرائيل حينَ أظلّهم بجناحٍ فيه ألوانُ العذاب، حتّى قِبلوا التوراة...) (٢) .

* * *

إذن، فالروايات من طُرق الفريقَين لا أساس لها، و لا يُمكن الاعتماد عليها في تفسير الذِكر الحكيم؛ ولذا فمن الغريب ما نجده من لجنة علماء الأزهر اعتراضهم على الأُستاذ النجّار في رفضه الأخذ بأقوال المفسّرين هنا، قالوا: لم يَسعْ السيّد رشيداً ومؤلّف هذا الكتاب (أي الأُستاذ النجّار) ما وَسع الأُستاذ الإمام في موافقة جميع المفسرّين على أنّ رَفْعَ الطُور آيةً كونيّةً، أي أنّه اُنتُزِع من الأرض وصار مُعلّقاً فوقهم في الهواء، مع اعتراف الأَوّل (أي السيّد رشيد) بأنّه المـُتبادر من الآيتَين بمعونة السياق، بل أَبْدَيا (رشيد والنجّار) احتمالاً مُختَرَعاً في الآيتين أخرجاهما عن إفادة تلك الآية الكونيّة؛ بحجّة أنّ ألفاظهما

____________________

(١) تفسير المنار، ج١، ص٣٤٢ - ٣٤٣.

(٢) راجع: تفسير البرهان للبحراني، ج١، ص٢٣٣ - ٢٣٤، رقم ٩، وج٣، ص٢٣٤، رقم ١.

٧٥

ليست نصّاً فيما أجمع عليه المفسّرون، وتبعهم عليه الأُستاذ الإمام (١) .

وكذا قَولُ سيّدنا الطباطبائي: هذا التأويل، وَصَرْف الآية عن ظاهرها، والقول بأن بني إسرائيل كانوا في أصل الجبل فزُلزِل وزُعزِع حتّى أطلّ رأسه عليهم فظنّوا أنّه واقع بهم فعبّر عنها برفعه فوقهم أو نتقه فوقهم، مبنيٌ على أصل إنكار المعجزات وخوارق العادات (٢) .

وكلام سيّدنا الطباطبائي هنا يُشعر باعتماده للروايات المأثورة والاستناد إليها في تفسير القرآن بما لا صراحة فيه، بل ولا ظهوراً قويّاً يمكن الاعتماد عليه، وليس ذلك سوى تفسير القرآن بالروايات الضعيفة، الأمر الذي يبدو خلاف مسلكه في التفسير... ولا سيّما إذا لم يكن للروايات أصلٌ معتمد في أحاديث أئمّة أهل البيت (عليهم السلام).

قال - في غير هذا الموضع -: إنّ أخبار الآحاد لا حجّية فيها في غير الأحكام الشرعيّة، فإنّ حقيقة الجعل التشريعي (الحجيّة التعبّديّة لخبر الواحد) معناه: ترتيب أثر الواقع على الحجّة الظاهريّة، وهو متوقّف على وجود أثرٍ عملي للحجّة، كما في الأحكام والتكاليف، وأمّا غير ذلك فلا أثر فيه حتّى يترتّب على جعل الحجيّة، مثلاً: إذا وردت الرواية بأنّ البَسمَلةَ جزءٌ من السورة كان معنى ذلك وجوب الإتيان بها في القراءة في الصلاة.

وأمّا إذا ورد - مثلاً - أنّ السامريُّ كان رجلاً مِن بلدة كذا، وهو خبر ظنّي، كان معنى جعل حجيّته أنْ يُجعل الظنّ بمضمونه قطعاً، وهو حكم تكويني ممتنع وليس من التشريع في شيء (٣) .

قلتُ: والأمر في الآية هنا أيضاً كذلك؛ لأنّ المسألة مسألة فهم المعنى من ظاهر اللفظ، أي إذعان النفس بذلك، الأمر الذي لا مجال للتعبّد فيه، حيث الآية في سورة الأعراف استعملت لفظ النتوق مصحوباً بالتشبيه بالظُلّة ( وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ ) . ثم أردفه بقوله: ( وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ ) .

ونَتَقَ الجِرابَ أي نَفَضَه بمعنى: حرّكه ليزولَ عنه الغُبار ونحوه. ونَتقُ الشيء: فتقُه،

____________________

(١) هامش قصص الأنبياء للنجّار، ص٢٣١.

(٢) الميزان، ج١، ص٢٠٠.

(٣) الميزان، ج١٤، ص٢٢٢.

٧٦

زَعزَعه، رفعَه، بسطَه، ونَتَقت المرأة أو الناقة: كَثُر وِلدُها، فهو يُعطي معنى البسط والكثرة والانتشار والتوسّع وإذ كان هناك بسط وتوسّع في أعالي الجبل كان ذلك رفعاً أي ارتفاعاً بالشيء وتعالياً به، وليس قلعاً من مكانه وانتقالاً له إلى محلٍّ آخر في السماء، كما زُعم.

قال الراغب: نَتَقَ الشيءَ: جَذبه ونَزعه حتّى يَسترخي، كنَتقِ عُرَى الحِمل قال تعالى: ( وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ ) .

وهذا يُعطي معنى: التَزعزُع في قُلَلِ الجبل وانتزاع صخورٍ عظيمة منها وتَدلّيها جانبيّاً مُطلّةً على القوم وهم في أسفل، وكانت كأظلّةٍ مطلّةٍ عليهم، والأظلّةُ كما تصلح من علوٍّ كذلك تصلح من جانب، وفي كلتا الصورتَين تصدق الفوقيّة.

وبذلك اتّضح معنى قوله تعالى: ( وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ ) أي رفعناه جانبيّاً، لا شيء سواه.

قصّة داود وامرأة اُوريّا

جاء في (صموئيل الثاني) الإصحاح ١١:

كان داود أقام في اُرشليم، وكان في وقت المساء، قام وتمشّى على سطح البيت، فرأى امرأةً تستحمُّ، وكانت جميلةً جدّاً، فسأل عنها فقيل له: إنّها بَثْشَبَع بنت أليعام امرأة اُوريّا الحثّى، فأرسل داود إليها وأخذها واضطجع معها فحبلت منه، فكتب داود إلى يوآب قائد معسكره، وأرسله بيد اُوريّا، وكتب فيه أنْ اجعلوا اُوريّا في مقدّمة الجيش ليُقتل، ففعل يوآب ما أمره داود وقُتل اُوريّا.

فلمـّا سمعت امرأة اُوريّا بموت زوجها ناحت عليه، وبعد انقضاء أيّام النياحة أرسل داود فضمّها إلى بيته وجعلها مع نسائه فولدت له ابناً، ومات ذلك الولد... وأمّا الأمر الّذي فعله داود فقَبُح في عينَي الربّ.

وفي الإصحاح ١٢:

وعزّى داود بَثْشَبَع بموت وَلَدها، واضطجع معها ثانيةً فولدت له ابناً فدعا اسمه سليمان، فكان سليمان قد وُلِد مِن امرأةٍ اغتصبها داود من زوجها، وتآمر على قتله!

٧٧

وفي الإصحاح ١٣ و١٤ و١٥:

وجرى بعد ذلك أنّه كان لأبشالوم بن داود أُخت جميلة اسمها ثامار، فعشقها أخوها من غير أُمّها اسمه أمنون بن داود، فاحتال عليها، فتمارَضَ وطلب منها أنْ تُمارضَه، فلمـّا دخلت عليه اضطجع معها، ثُمّ إنّ أخاها أبشالوم تمكنّ بعد سنتين أنْ يَثِبَ على أخيه أمنون فيقلته، وبعد مدّة ثار على أبيه داود، فطارده بجيش عظيم، وفرّ داود من وجهه، ومّما ارتكبه أبشالوم من الشنائع أنْ دَخَلَ على سَراري أبيه أمام جميع بني إسرائيل.

هكذا لعِبت اليهود بقداسة نبيّ اللّه داود (عليه السلام) فوصَمُوه وأهلَ بيته بِأفظع وصَمات منافية للشرفِ والعفّة، فجعلوا منهم أُسرةً تعيثُ في الخطايا والدنَس بكلّ ألوانه!

أمّا القرآن فجاء ليُطهّر ساحة الأنبياء فيصوّر من داود قدّيساً وعبداً منيباً إلى اللّه ( وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ * وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ) (١) .

( وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) (٢) .

( آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ) (٣) .

وقد ذكرنا حديث اختبار داود (عليه السلام) بما يُبرّئ ساحته النزيهة عن أمثال تلك الخرائف الإسرائيليّة عند الكلام عن تنزيه الأنبياء (٤) .

القرآن والأناجيل

زعم (تسدال) أنّ النصرانيّة كانت أحد المصادر التي أخذ منها القرآن، في حين أنّ من هذه المصادر ما لم تكن موثوقة، بل كانت لفِرقٍ شاذّةٍ لها أساطير غريبة اعتمدها القرآن.

وزعم أنّ قصّة مريم وابنها المسيح (عليهما السلام) لم تَرِد في كتب النصرانيّة المعتمدة،

____________________

(١) ص ٣٨: ١٧ - ٢٠.

(٢) ص ٣٨: ٣٠.

(٣) سبأ ٣٤: ١٣.

(٤) في الجزء الثالث من التمهيد.

٧٨

واعتبرها خرافة وهميّة، وحجّته في ذلك عدّة شبَهٍ في ذهنه:

١ - إنّ ولادتها لعيسى، حسبما جاءت في القرآن، أشبه ما يكون بأُسطورة (ميلاد بده) عند الهنود؛ حيث وُلِد (بده) من عذراء لم يمسّها رجال.

٢ - خدمتها للهيكل، مع أنّ هذا لا يجوز للنساء.

٣ - ذَكَر القرآن أنّها أُخت هارون أخي موسى بن عمران - على حدّ فهمه - واعتبر ذلك من الخطأ التأريخي في القرآن.

وهكذا أَنكر كلامَ عيسى في المهد، وكذا المعجزات التي ظهرت على يده ممّا ذكره القرآن، مثل صُنعه من الطين طيراً ثُمّ يكون طيراً بإذن اللّه، وقصّة المائدة التي نزلت من السماء، وصَلْب عيسى(عليه السلام) حيث نفاه القرآن في حين قد أثبته الكتاب المقدّس.

ومثل: نزول عيسى في آخر الزمان، ومسألة التبشير بمَقدَم نبيّ الإسلام حسبما ذكره القرآن، ولم يأتِ في الإنجيل... ونحو ذلك مِن أُمورٍ سردها (تسدال) بهذا الشأن سردَ عاجزٍ سقيمٍ (١) .

الصدّيقة مريم (عليها السلام)

أَنكَر (تسدال) قصّةَ الصّديقة مريم (عليها السلام) أنْ تكون وردت بهذا الشكل في كُتب النصرانيّة المعتمدة، واعتبرها خُرافة.

قال الدكتور رضوان: هذه القصّة من الشهرة والانتشار والبداهة في الوسط المسيحي بمكانٍ، حتّى أنّ فرقة (البربرانيّة) (٢) منهم أَلّهوها وابنها المسيح (عليهما السلام)؛ نظراً لولادتها لابنها بطريقة خارقة للعادة، وقد أشار القرآن الكريم لقضية تأليهِهِم لهما (عليهما السلام) (٣) .

أمّا زعم (تسدال) أنّ القصّة غير موجودة في الكتاب المقدّس فيردّه ما ورد في

____________________

(١) راجع: آراء المستشرقين حول القرآن الكريم، ج١، ص٢٩٠ و٢٩٦.

(٢) جاء في (الفصل في الملل والنحل) لابن حزم، ج١، ص٤٨: ومنهم - طوائف النصارى - البربرانيّة، وهم يقولون: إنّ عيسى وأُمّه إلهان من دون اللّه عزّ وجلّ، وهذه الفرقة قد بادت.

(٣) في قوله تعالى: ( وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) المائدة ٥: ١١٦ .

٧٩

إنجيل (لوقا) ونصّه: (... أُرسِل جبرائيلُ المـَلاكُ من اللّه إلى مدينةٍ من الجليل اسمها ناصرة، إلى عذراءٍ مخطوبةٍ لرجل من بيت داود اسمه يوسف، واسم العذراء مريم، فدخل إليها المـَلاك وقال: سلامٌ لكِ أيّتها المـُنعَم عليها، الربّ معكِ، مباركةٌ أنتِ في النساءِ، فلمـّا رأته اضطربت من كلامه وفكّرت ما عسى أن تكون هذه التحيّة؟!

فقال لها الملاك: لا تخافي يا مريم؛ لأنّكِ قد وجدتِ نعمةً عند اللّهِ، وها أَنتِ سَتَحبلينَ وتَلدينَ ابناً وتُسمّينَه يسوع، هذا يكون عظيماً، وابنَ العليّ يُدعى، ويُعطيه الربّ الإله كرسيَّ داود أبيه، ويَملك على بيت يعقوب إلى الأبد، ولا يكون لمـُلكِه نهايةٌ.

فقالت مريم للمـَلاك، كيف يكون هذا وأَنا لستُ أَعرِف رجلاً؟ فأجاب المـَلاك وقال لها: الروح القُدُس يَحلّ عليكِ، وقوّةُ العليّ تُظلّلُكِ، فلذلك أيضاً القدّوس المولود منكِ يُدعَى ابنَ اللّه.

وهوذا (اليصابات) (١) نَسيبتُكِ هي أيضاً حُبلى بابن في شيخوختها، وهذا هو الشهر السادس لتلك المدعوّة عاقراً، لأنّه ليس شيء غير ممكن لدى اللّه. فقالت مريم: هوذا أنا أَمَة الربّ، ليكن لي كقولكَ. فمضى من عندها المـَلاك (٢) .

وجاء في إنجيل (متّى): (أمّا ولادةُ يسوع المسيح فكانت هكذا: لمـّا كانت مريم أُمُّه مخطوبةً ليوسف قبل أن يجتمعا وُجِدت حُبلى مِن الروح القُدس، فيوسف رَجُلُها إذ كان بارّاً ولم يشأ أنْ يشهرها أراد تخليتها سرّاً، ولكن فيما هو متفكّر في هذه الأُمور إذا ملاك الربّ قد ظهر له في حُلُمٍ قائلاً: يا يوسف بن داود لا تخفْ أنْ تأخذ مريم امرأتك؛ لأنّ الّذي حُبِل به فيها هو مِن الروح القُدُس، فسَتلِد ابناً وتدعو اسمه يسوع؛ لأنّه يُخلص شعبَه من خطاياهم) (٣) .

وفي إنجيل برنابا - في الفصل الأَوّل - ما نصّه: (لقد بعث اللّه في هذه الأيام الأخيرة بالمـَلاك جبرائيل إلى عذراءٍ تُدعى مريم من نسلِ داود من سبط يهوذا، بينما كانت هذه

____________________

(١) هي امرأة زكريّا، حَملت بيحيى على أَثر دعاء زوجها (إنجيل لوقا، الإصحاح ١/١٢ - ٢٥)، وجاء ذلك في القرآن في سورة آل عمران ٣: ٣٨، والأنبياء ٢١: ٨٩.

وكانت اليصابات خالة مريم. (قصص الأنبياء للنجّار، ص٣٧٥).

(٢) إنجيل لوقا، الإصحاح ١/٢٦ - ٣٨.

(٣) إنجيل متّى، الإصحاح ١/١٨ - ٢١.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

الموقف التاسع:

شروطهعليه‌السلام على المأمون لقبول ولاية العهد، وهي:

((أن لا يولي أحداً، ولا يعزل أحداً، ولا ينقض رسماً، ولا يغير شيئاً مما هو قائم، ويكون في الأمر مشيراً من بعيد)) (١) ، فأجابه المأمون إلى ذلك كله!!!.

وفي ذلك تضييع لجملة من أهداف المأمون.. إذ إن:

١ ـ السلبية تعني الاتهام:

فإن من الطبيعي أن تثير سلبيته هذه الكثير من التساؤلات لدى الناس، ولسوف تكون سبباً في وضع علامات استفهام كبيرة، حول الحكم، والحكام. وكل أعمالهم وتصرفاتهم، إذ إن السلبية إنما تعني: أن نظام الحكم لا يصلح حتى للتعاون معه، بأي نحو من أنحاء التعاون، وإلا فلماذا يرفض ـ حتى ولي العهد ـ التعاون مع نظام هو ولي العهد فيه، ويأبى التأييد لأي من تصرفاته وأعماله؟!.

____________

(١) الفصول المهمة، لابن الصباغ المالكي ص ٢٤١، ونور الأبصار من ص ١٤٣، وعيون أخبار الرضا ج ١ ص ٢٠، و ج ٢ ص ١٨٣، ومواضع أخرى، ومناقب آل أبي طالب ج ٤ ص ٣٦٣، وعلل الشرايع ج ١، ص ٢٣٨، وإعلام الورى ص ٣٢٠، والبحار ج ٤٩ ص ٣٤ و ٣٥، وغيرها، وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٩، وإرشاد المفيد ص ٣١٠، وأمالي الصدوق ص ٤٣، وأصول الكافي ص ٤٨٩، وروضة الواعظين ج ١ ص ٢٦٨، ٢٦٩، ومعادن الحكمة ص ١٨٠، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٦٥.

٣٠١

٢ ـ رفض الاعتراف بشرعية ذلك النظام:

ولقد قدمنا: أن من جملة أهداف المأمون هو أن يحصل من الإمامعليه‌السلام على اعتراف ضمني بشرعية حكمه وخلافته، كما صرح هو نفسه بذلك (وليعترف بالملك، والخلافة لنا).

والإمام.. بشروطه تلك يكون قد رفض الاعتراف بشرعية النظام القائم. بأي نحو من أنحاء الاعتراف، ولم يعد قبوله بولاية العهد يمثل اعترافا بذلك، ولا يدل على أن ذلك الحكم يمثل الحكم الإسلامي الأصيل.

هذا.. وقد عضد شروطه هذه، بسلوكه السلبي مع المأمون، والهيئة الحاكمة، طيلة فترة ولاية العهد، يضاف إلى ذلك تصريحاته المتكررة، التي تحدثنا عنها فيما سبق.

٣ ـ النظام القائم لا يمثل وجهة نظره في الحكم:

والأهم من كل ذلك: أن شروطه هذه كانت بمثابة الرفض القاطع لتحمل المسؤولية عن أي تصرف يصدر من الهيئة الحاكمة. وليس للناس ـ بعد هذا ـ أن ينظروا إلى تصرفات وأعمال المأمون وحزبه، على أنها تحظى برضى الإمامعليه‌السلام وموافقته. ولا يمكن لها ـ من ثم ـ أن تعكس وجهة نظرهعليه‌السلام في الحكم ورأيه في أساليبه، التي هي في الحقيقة وجهة نظر الإسلام الصحيح فيه. الإسلام.. الذي يعتبر الأئمةعليه‌السلام الممثلين الحقيقيين له، في سائر الظروف، ومختلف المجالات..

وانطلاقاً مما تقدم: نراهعليه‌السلام يرفض ما كان يعرضه عليه المأمون، من: كتابة بتولية أو عزل إلى أي إنسان.. ويرفض أيضاً: أن يؤم الناس في الصلاة مرتين.. إلى آخر ما سيأتي بيانه.

وفي كل مرة كان يرفض فيها مطالب المأمون هذه نراه يحتج عليه بشروطه تلك، فلا يجد المأمون الحيلة لما يريده، وتضيع الفرصة من يده، ولا بد من ملاحظة: أنه عندما أصر عليه المأمون بأن يؤم الناس في الصلاة، ورأىعليه‌السلام : أنه لا بد له من قبول ذلك ـ نلاحظ ـ: أنه اشترط عليه أن يخرج كما كان يخرج جده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا كما يخرج الآخرون..

٣٠٢

ولم يكن المأمون يدرك مدى أهمية هذا الشرط، ولا عرف أهداف الإمام من وراء اشتراطه هذا، فقال له ولعله بدون اكتراث: أخرج كيف شئت.. وكانت نتيجة ذلك.. أنهعليه‌السلام قد أفهم الناس جميعاً:

أن سلوكه وأسلوبه، وحتى مفاهيمه، تختلف عن كل أساليب ومفاهيم وسلوك الآخرين. وأن خطه هو خط محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومنهاجه هو منهاج عليعليه‌السلام ، ربيب الوحي، وغذي النبوة، وليس هو خط المأمون وسواه من الحكام، الذين اعتاد الناس عليهم، وعلى تصرفاتهم وأعمالهم.

ولم يعد يستطيع المأمون، أن يفهم الناس: أن الحاكم: من كان، ومهما كان، هذا هو سلوكه، وهذه هي تصرفاته. وأن كل شخصية: من ومهما كانت، وإن كانت قبل أن تصل إلى الحكم تتخذ العدل، والحرية: والمساواة، وغير ذلك شعارات لها، إلا أنها عندما تصل إلى الحكم، لا يمكن إلا أن تكون قاسية ظالمة، مستأثرة بكل شيء، ومستهترة بكل شيء، ولذا فليس من مصلحة الناس أن يتطلعوا إلى حكم أفضل مما هو قائم، حتى ولو كان ذلك هو حكم الإمامعليه‌السلام المعروف بعلمه وتقواه وفضله الخ.. فضلاً عن غيره من العلويين أو من غيرهم ـ لم يعد يستطيع أن يقول ذلك ـ لأن الواقع الخارجي قد أثبت عكس ذلك تماماً، إذ قد رأينا: كيف أن الإمامعليه‌السلام بشروطه تلك، وبسائر مواقفه من المأمون ونظام حكمه.. يضيع على المأمون هذه الفرصة، ولم تجده محاولاته فيما بعد شيئاً، بل إن كثيراً منها كان سوءا ووبالاً عليه، كما سيأتي.

٤ ـ لا مجال بعد للمأمون لتنفيذ مخططاته:

ولعل من الواضح: أن شروطه تلك قد مكنته من أن يقطع الطريق على المأمون، ولا يمكنه من استغلال الظروف لتنفيذ بقية حلقات مؤامرته، إذ لم يعد بإمكانه أن يصر على الإمام أن يقوم بأعمال تنافي وتضر بقضيته هو، وقضية العلويين، ومن ثم تؤثر على الأمة بأسرها.. وعدا عن ذلك فإن هذه الشروط، قد حفظت لهعليه‌السلام حياته في حمام سرخس، حيث كان المأمون قد حاك مؤامرته للتخلص من وزيره وولي عهده مرة واحدة، كما سيأتي بيانه.. مما يعني أن سلبيتهعليه‌السلام مع النظام كانت أمراً لابد منه، إذا أراد أن لا يعرض نفسه إلى مشاكل، وأخطار هو في غنى عنها.. والذي أمن له هذه السلبية ليس إلا شروطه تلك، التي جعلت من لعبة ولاية العهد لعبة باهتة مملة لا حياة فيها، ولا رجاء..

٣٠٣

ولعل الأهم من كل ذلك.. أنها ضيعت على المأمون الكثير من أهدافه من البيعة، التي صرح الإمامعليه‌السلام أنه كان عارفاً بها، ولم يكن له خيار في تحملها، والصبر عليها، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

وعدا عن ذلك كله أن تعاونه مع النظام إنما يعني أن يحاول تصحيح السلوك، وتلافي الأخطاء، التي كان يقع فيها الحكم، والهيئة الحاكمة. وذلك معناه أن ينقلب جهاز الحكم كله ضد الإمام، ويجد المأمون ـ من ثم ـ العذر، والفرصة لتصفيتهعليه‌السلام من أهون سبيل، فشروطه تلك أبعدت عنه الخطر ـ إلى حد ما ـ الذي كان يتهدده من قبل المأمون وأشياعه، وجعلته ـ كما قلنا ـ في منأى ومأمن من كل مؤامراتهم ومخططاتهم.

٥ ـ الإمام.. لا ينفذ إرادات الحكم:

ولعل من الأهمية بمكان.. أن نشير إلى أنهعليه‌السلام كان يريد بشروطه تلك أن يفهم المأمون: أنه ليس على استعداد لتنفيذ إرادات الحكم، والحاكم، ولا على استعداد لأن يقتنع بالتشريفات، والأمور الشكلية، فإنه.. بصفته القائد والمنقذ الحقيقي للأمة، لا يمكن أن يرضى بديلاً عن أن ينقذ الأمة، ويرتفع بها من مستواها الذي أوصلها إليه الطواغيت والظلمة، الذين جلسوا في مكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأوصيائهعليهم‌السلام ، وحكموا بغير ما أنزل الله.

إنه يريد أن يخدم الأمة، ويحقق لها مكاسب تضمن لها الحياة الفضلى، والعيش الكريم، ولا يريد أن يخدم نفسه، ويحقق مكاسب شخصيته على حساب الآخرين، ولذلك فهو لا يستطيع أن يقتنع بالسطحيات والشكليات التي لا تسمن، ولا تغني من جوع..

٦ ـ لا زهد أكثر من هذا:

إنه مضافاً إلى أن مجرد رفض الإمام كلا عرضي المأمون: الخلافة، وولاية العهد، دليل قاطع على زهده فيه. فإن هذه الشروط كان لها عظيم الفائدة، وجليل الأثر في الإظهار لكل أحد أن الإمام ليس رجل دنيا، ولا طالب جاه ومقام. وما أراده المأمون من إظهار الإمام على أنه لم يزهد بالدنيا، وإنما الدنيا هي التي زهدت فيه.. لم يكن إلا هباء اشتدت به الريح في يوم عاصف.. ولم تفلح بعد محاولات المأمون وعمله الدائب، من أجل تشويه الإمام والنيل من كرامته.

٣٠٤

ولقد قدمنا: أن الإمامعليه‌السلام قد واجه نفس المأمون بحقيقة نواياه، وأفهمه أن خداعه لن ينطلي عليه، ولن تخفى عليه مقاصده، ولذا فإن من الأفضل والأسلم له أن يكف عن كل مؤامراته ومخططاته.. وإلا فإنه إذا ما أراد إجبار الإمام على التعاون معه، فلسوف يجد أنهعليه‌السلام على استعداد لفضحه، وكشف حقيقته وواقعه أمام الملأ، وإفهام الناس السبب الذي من أجله يجهد المأمون ليزج بالإمامعليه‌السلام في مجالات لا يرغب، بل واشترط عليه أن لا يزج فيها ـ كما فعل في مناسبات عديدة ـ الأمر الذي لن يكون أبداً في صالح المأمون، ونظام حكمه..

ومن هنا رأيناهعليه‌السلام يجيب الريان عندما سأله عن سر قبوله بولاية العهد، وإظهاره الزهد بالدنيا ـ يجيبه ـ: ببيان أنه مجبر على هذا الأمر، ويذكره بالشروط هذه، التي يعني أنه قد دخل فيه دخول خارج منه، كما تقدم..

وهكذا.. وبعد أن كانعليه‌السلام سلبياً مع النظام، وبعد رفضه لكلا عرضي المأمون، وبعد أن اشترط هذه الشروط للدخول في ولاية العهد، فليس من السهل على المأمون، ولا على أي إنسان آخر أن ينسب إليهعليه‌السلام : أنه رجل دنيا فقط، وأنه ليس زاهدا في الدنيا، وإنما هي التي زهدت فيه.

وعلى كل حال: ورغم كل محاولات المأمون تلك.. فقد استطاع الإمامعليه‌السلام ، بفضل وعيه، ويقظته، وإحكام خطته: أن يبقى القمة الشامخة للزهد، والورع، والنزاهة، والطهر، وكل الفضائل الإنسانية، وإلى الأبد.

الموقف العاشر:

موقفهعليه‌السلام في صلاتي العيد.. ففي إحداهما:

(بعث المأمون له يسأله: أن يصلي بالناس صلاة العيد، ويخطب، لتطمئن قلوب الناس، ويعرفوا فضله، وتقر قلوبهم على هذه الدولة المباركة، فبعث إليه الرضاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال:((قد علمت ما كان بيني وبينك من الشرط في دخولي في هذا الأمر، فأعفني من الصلاة بالناس، فقال المأمون: إنما أريد بهذا أن يرسخ في قلوب العامة، والجند، والشاكرية هذا الأمر، فتطمئن قلوبهم، ويقروا بما فضلك الله تعالى به..

٣٠٥

ولم يزل يراده الكلام في ذلك. فلما ألح عليه قال:يا أمير المؤمنين، إن أعفيتني من ذلك، فهو أحب إلي، وإن لم تعفني خرجت كما كان يخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكما خرج أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام )) قال المأمون: أخرج كيف شئت..

وأمر المأمون القواد، والحجاب، والناس: أن يبكروا إلى باب أبي الحسنعليه‌السلام ، فقعد الناس لأبي الحسن في الطرقات، والسطوح: من الرجال، والنساء، والصبيان، وصار جميع القواد، والجند إلى بابهعليه‌السلام ، فوقفوا على دوابهم حتى طلعت الشمس.

فلما طلعت الشمس قام الرضاعليه‌السلام فاغتسل، وتعمم بعمامة بيضاء من قطن، وألقى طرفاً منها على صدره، وطرفاً بين كتفيه، ومس شيئاً من الطيب، وتشمر. ثم قال لجميع مواليه:((افعلوا مثل ما فعلت)) .

ثم أخذ بيده عكازة، وخرج، ونحن بين يديه، وهو حاف قد شمر سراويله إلى نصف الساق، وعليه ثياب مشمرة..

فلما قام، ومشينا بين يديه، رفع رأسه إلى السماء، وكبر أربع تكبيرات، فخيل إلينا: أن الهواء والحيطان تجاوبه، والقواد والناس على الباب، قد تزينوا، ولبسوا السلاح، وتهيئوا بأحسن هيئة..

فلما طلعنا عليهم بهذه الصورة: حفاة، قد تشمرنا. وطلع الرضا وقف وقفة على الباب، وقال:((.. الله أكبر، الله أكبر على ما هدانا، الله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام، والحمد لله على ما أبلانا)) . ورفع بذلك صوته، ورفعنا أصواتنا.

فتزعزعت مرو بالبكاء، فقالها: ثلاث مرات، فلما رآه القواد والجند على تلك الصورة، وسمعوا تكبيره سقطوا كلهم من الدواب إلى الأرض، ورموا بخفافهم، وكان أحسنهم حالاً من كان معه سكين قطع بها شرابة جاجيلته ونزعها، وتحفى.. وصارت مرو ضجة واحدة، ولم يتمالك الناس من البكاء والضجة.

فكان أبو الحسن يمشي، ويقف في كل عشر خطوات وقفة يكبر الله أربع مرات: فيتخيل إلينا: أن السماء، والأرض، والحيطان تجاوبه.

وبلغ المأمون ذلك، فقال له الفضل بن سهل ذو الرئاستين: يا أمير المؤمنين: إن بلغ الرضا المصلى على هذا السبيل افتتن به الناس، وخفنا كلنا على دمائنا، فالرأي أن تسأله أن يرجع..

٣٠٦

فبعث المأمون إلى الإمام يقول له: إنه قد كلفه شططا، وأنه ما كان يحب أن يتعبه، ويطلب منه: أن يصلي بالناس من كان يصلي بهم..

فدعا أبو الحسن بخفه، فلبسه، ورجع.

واختلف أمر الناس في ذلك اليوم، ولم ينتظم في صلاتهم إلخ..)(١) .

ولقد قال البحري يصف هذه الحادثة والظاهر أنه يمين بن معاوية العائشي الشاعر على ما في تاج العروس:

ذكـروا بطلعتك النبي، فهللوا

لما طلعت من الصفوف وكبروا

حتى انتهيت إلى المصلى لابساً

نـور الهدى يبدو عليك فيظهر

ومـشيت مشية خاشع متواضع

لـله، ولا يـزهى، ولا يـتكبر

ولـوان مـشتاقا تكلف غير ما

في وسعه لمشى إليك المنبر(٢)

ومما يلاحظ هنا: أنه في هذه المرة أرسل إليه من يطلب منه أن يرجع. ولكننا في مرة أخرى نراه يسارع بنفسه، ويصلي بالناس، رغم تظاهره بالمرض..

وعلى كل حال.. فإننا وإن كنا قد تحدثنا في هذا الفصل، وفي فصل: ظروف البيعة وسنتحدث فيما يأتي عن بعض ما يتعلق بهذه الرواية، إلا أننا سوف نشير هنا إلى نقطتين فقط.. وهما:

١ ـ الأثر العاطفي، والقاعدة الشعبية:

فنلاحظ: أننا حتى بعد مرور اثني عشر قرنا على هذه الواقعة، لا نملك أنفسنا ونحن نقرأ وقائعها، من الانفعال والتأثر بها، فكيف إذن كانت حال أولئك الذين قدر لهم أن يشهدوا ذلك الموقف العظيم؟!.

____________

(١) قد ذكرنا بعض مصادر هذه الرواية في فصل: ظروف البيعة.. فراجع..

(٢) مناقب آل أبي طالب. لابن شهر آشوب ج ٤ ص ٣٧٢، ولكن هذا الشعر ينسب أيضاً للبحتري في المتوكل عندما خرج لصلاة العيد.. وانتحال الشعر، وكذلك الاستشهاد بشعر الآخرين، في المواضع المناسبة ظاهرة شائعة في تلك الفترة ومن يدري فلعل الشعر للبحتري ونسب للبحري أو لعله للبحري وانتحله أو نسب للبحتري، ولعل البحتري قد صحف وصار: البحري.. ولعل العكس.

٣٠٧

وغني عن البيان هنا: أن شأن هذه الواقعة هو شأن واقعة نيشابور، من حيث دلالتها دلالة قاطعة على كل ما كان للرضا من عظمة وتقدير في نفوس الناس وقلوبهم، وعلى مدى اتساع القاعدة الشعبية لهعليه‌السلام ..

٢ ـ لماذا يجازف المأمون بإرجاعهعليه‌السلام :

وإذا كان هدف المأمون من الإصرار على الإمام بأن يصلي بالناس هو أن يخدع الخراسانيين والجند والشاكرية، ويجعلهم يطمئنون على دولته المباركة فإنه من الواضح أيضاً أن إرجاع المأمون للإمامعليه‌السلام في مثل تلك الحالة، وذلك التجمع الهائل، وتلك الثورة العاطفية في النفوس، كان ينطوي على مجازفة ومخاطرة لم تكن لتخفى على المأمون، وأشياعه، حيث لا بد وأن يثير تصرفه هذا حنق تلك الجماهير التي كانت في قمة الهيجان العاطفي، ويؤكد كراهيتها له.. وعلى الأقل لن تكون مرتاحة لتصرفه هذا على كل حال.

وبعد هذا.. فإنه إذا كان المأمون يخشى من مجرد إقامة الإمام للصلاة.. فلا معنى لأن يلح عليه هو بقبولها.. وكذلك لا معنى لأن يخشى ذلك الهيجان العاطفي، وتلك الحالة الروحية، التي أثارها فعل الإمامعليه‌السلام وتصرفه في هذا الموقف.. فذلك إذن ما لم يكن يخافه ويخشاه.. فمن أي شيء خاف المأمون إذن؟! إنه كان يخشى ما هو أعظم وأبعد أثراً، وأشد خطراً.. إنه خشي من أن الرضا إذا ما صعد المنبر، وخطب الناس، بعد أن هيأهم نفسيا، وأثارهم عاطفيا إلى هذا الحد ـ خشي ـ أن يأتي بمتمم لكلامه الذي أورده في نيشابور:((وأنا من شروطها..)) وأنه ظهر إليهم على الهيئة التي كان يخرج عليها النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ووصيه عليعليه‌السلام وهو أمر جديد عليهم.. ما من شأنه أن يجعل المأمون وأشياعه لا يأمنون بعد على أنفسهم، كما ذكر الفضل بن سهل.. ولسوف يحول الإمام مرواً من معقل للعباسيين والمأمون، وعاصمة، وحصن قوي لهم ضد أعدائهم ـ من العرب وغيرهم ـ سوف يحولها إلى حصن لأعداء العباسيين والمأمون، حصن لأئمة أهل البيت. ففضل المأمون: أن يختار إرجاعهعليه‌السلام عن الصلاة، لأنه رأى أن ذلك هو أهون الشرين، وأقل الضررين..

ولقد جرب المأمون الرضا أكثر من مرة، وأصبح يعرف أنه مستعد لأن يعلن رأيه صراحة في أي موقف تؤاتيه فيه الفرصة، ويقتضي الأمر فيه ذلك. ولم ينس بعد موقفه في نيشابور، ولا ما كتبه في وثيقة العهد، ولا غير ذلك من مواقفهعليه‌السلام وتصريحاته في مختلف الأحوال والظروف..

٣٠٨

الموقف الحادي عشر:

وأخيراً.. فقد كان سلوك الإمامعليه‌السلام العام، سواء بعد عقد ولاية العهد له، أو قبلها. يمثل ضربة لكل خطط المأمون ومؤامراته، ذلك السلوك المثالي، الذي لم يتأثر بزبارج الحكم وبهارجه.. ويكفي أن نذكر هنا ما وضعه به إبراهيم بن العباس، كاتب القوم وعاملهم، حيث قال: (ما رأيت أبا الحسن جفا أحداً بكلامه قط، وما رأيته قطع على أحد كلامه حتى يفرغ منه. وما رد أحداً عن حاجة يقدر عليها، ولا مد رجليه بين يدي جليس له قط. ولا اتكأ بن يدي جليس له قط، ولا شتم أحداً من مواليه ومماليكه قط، ولا رأيته تفل قط، ولا رأيته يقهقه في ضحكه قط، بل كان ضحكه التبسم. وكان إذا خلا، ونصبت مائدته أجلس معه على مائدته مماليكه، حتى البواب والسائس.

وكان قليل النوم بالليل، يحيى أكثر لياليه من أولها إلى الصبح. وكان كثير الصيام، فلا يفوته صيام ثلاثة أيام في الشهر، ويقول:((ذلك صوم الدهر)) . وكان كثير المعروف والصدقة في السر، وأكثر ذلك يكون منه في الليالي المظلمة، فمن زعم أنه رأى مثله في فضله، فلا تصدقوه..)(١) .

وهذه الصفات بلا شك قد أسهمت إسهاماً كبيراً في أن يكون الإمامعليه‌السلام هو الأرضى في الخاصة والعامة، وأن تنفذ كتبه في المشرق والمغرب، إلى غير ذلك مما تقدم..

الحكم ليس امتيازاً وإنما هو مسؤولية:

وقد اعترض عليه بعض أصحابه، عندما رآه يأكل مع خدمه وغلمانه، حتى البواب والسائس، فأجابهعليه‌السلام :((مه، إن الرب تبارك وتعالى واحد، والأم واحدة، والأب واحد، والجزاء بالأعمال..)) (٢) .

وقال له أحدهم: أنت والله خير الناس، فقال له الإمام:((لا تحلف يا هذا، خير مني من كان أتقى لله تعالى. وأطوع له، والله ما

____________

(١) كلام إبراهيم بن العباس هذا معروف ومشهور، تجده في كثير من كتب التاريخ والرواية، ولذا فلا نرى أننا بحاجة إلى تعداد مصادره.

(٢) البحار ج ٤٩ ص ١٠١، والكافي الكليني، ومسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٦.

٣٠٩

نسخت هذه الآية: ( وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ.. ) )) (١) .

وقال لإبراهيم العباسي إنه لا يرى أن قرابته من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تجعله خيراً من عبد أسود، إلا أن يكون له عمل صالح فيفضله به(٢) .

وقال رجل له: ما على وجه الأرض أشرف منك إباء. فقال:((التقوى شرفتهم، وطاعة الله أحظتهم))( ٣) .

وما نريد أن نشير إليه ونؤكد عليه هنا، هو أنهعليه‌السلام يريد بذلك أن يفهم الملأ: أن الحكم لا يعطي للشخص ـ من كان، ومهما كان ـ امتيازاً، ولا يجعل له من الحقوق ما ليس لغيره، وإنما الامتياز ـ فقط ـ بالتقوى والفضائل الأخلاقية.. وكل شخص حتى الحاكم سوف يلقى جزاء أعماله: إن خيراً فخير، وإن شرا فشر، وعليه فما يراه الناس من سلوك الحكام، ليس هو السلوك الذي يريده الله، وتحكم به النواميس الأخلاقية، والإنسانية. والامتيازات التي يجعلونها لأنفسهم، ويستبيحون بها ما ليس من حقهم لا يقرها شرع، ولا يحكم بها قانون..

وبكلمة مختصرة: إن الإمامعليه‌السلام يرى: أن الحكم ليس امتيازاً، وإنما هو مسؤولية.

وعلى كل حال.. فإن سلوك الإمامعليه‌السلام ، لخير دليل على ما كان يتمتع به من المزايا الأخلاقية، والفضائل النفسية.. ويكفي أنه لم يظهر منهعليه‌السلام طيلة الفترة التي عاشها في الحكم إلا ما ازداد به فضلاً بينهم، ومحلاً في نفوسهم، على حد تعبير أبي الصلت. وعلى حد تعبير شخص آخر: أقام بينهم لا يشركهم في مأثم من مآثم الحكم.. بل لقد كان لوجوده أثر كبير في تصحيح جملة من الأخطاء والانحرافات التي اعتادها الحكام آنئذٍ.. حتى لقد استطاع أن يؤثر على نفس المأمون، ويمنعه من الشراب والغناء، طيلة الفترة التي عاشها معه، إلى آخر ما هنالك، مما لسنا هنا في صدد تتبعه واستقصائه.

____________

(١) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٦، ومسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٦.

(٢) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٧.

(٣) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٦. ومسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٦.

٣١٠

وفي نهاية المطاف نقول:

وحسبنا هنا ما ذكرنا من الأمثلة، التي نحسب أنها تكفي لأن تلقي ضوءاً كاشفاً على الخطة التي اتبعها الإمامعليه‌السلام في مواجهة خطط المأمون ومؤامراته.. تلك الخطة التي كانت تكفي لأن لا تبقى الصورة التي أرادها المأمون في أذهان الناس، ولا مبرر للشكوك لأن تبقى تراود نفوسهم.

ولقد نجحت تلك الخطة نجاحا أذهل المأمون، وأعوانه، وجعلهم يتصرفون بلا روية، ويقعون بالمتناقضات.. حتى لقد أشرف المأمون منه على الهلاك. حسبما صرح به المأمون نفسه. وكانت النتيجة أن دبر فيه المأمون بما يحسم عنه مواد بلائه، كما وعد حميد بن مهران، وجماعة من العباسيين.

القسم الرابع

من خلال الأحداث

١ ـ مع بعض خطط المأمون..

٢ ـ كاد المريب أن يقول خذوني.

٣ ـ ما يقال حول وفاة الإمام..

٤ ـ دعبل والمأمون.

٥ ـ كلمة ختامية.

مع بعض خطط المأمون

التوجيهات الراضية غير مقبولة:

كل ما تقدم يلقي لنا ضوءاً على بعض نوايا المأمون مع الإمامعليه‌السلام ، وعلى كثير من الأحداث التي اكتنفت ذلك الحدث التاريخي الهام.

وإننا حتى لو سلمنا جدلاً، وغضضنا النظر عن كل تلك الأسئلة، وعلامات الاستفهام التي يمكن استخلاصها مما تقدم.. فإننا لا نستطيع ـ مع ذلك ـ أن نعتبر البيعة صادرة عن حسن نية، وسلامة طوية.

٣١١

ولا أن نقبل بالتوجيهات الراضية عن تصرفاته، طيلة فترة ولاية العهد، وبعدها تجاه الإمام، الذي كان يكبر المأمون بـ (٢٢‍) سنة، والذي كان مجبراً على قبول هذا الأمر، ومهددا بالقتل إن لم يقبل. ولم يتركه وشأنه ما دام أنه لا يريد أن يتقلد هذا الشرف الذي تتهافت النفوس عليه، وتزهق الأرواح من أجله.

نعم.. إننا لا نستطيع أن نسلم بذلك، ونحن نرى منه تلك التصرفات والمواقف المشبوهة، بل والمفضوحة تجاه الإمامعليه‌السلام ، والتي لا تبقي مجالاً للشك في حقيقة نواياه وأهدافه من كل ما أقدم وما كان عاقداً العزم على الإقدام عليه..

وهذا الفصل معقود للحديث عن بعض تلك التصرفات، ومن أجل بيان تلك الخطط.

المأمون يفضح نفسه:

وقد تعجب إذا قلنا لك: إن المأمون نفسه يصرح ببعض خططه، التي كانت تصرفاته تدور في فلكها، ويعلن بعض الدوافع، ويبوح ببعض النوايا تجاه الإمام، وبالنسبة لقضية ولاية العهد فإليك ما أجاب به حميد بن مهران، وجمعاً من العباسيين، عندما عاتبوه ولاموه على ما أقدم عليه، من البيعة للرضاعليه‌السلام يقول المأمون:

(.. قد كان هذا الرجل مستتراً عنا، يدعو إلى نفسه، فأردنا أن نجعله ولي عهدنا، ليكون دعاؤه لنا، وليعترف بالملك والخلافة لنا، وليعتقد فيه المفتونون به بأنه ليس مما ادعى في قليل ولا كثير، وأن هذا الأمر لنا دونه.

وقد خشينا إن تركناه على تلك الحال: أن ينفتق علينا منه ما لا نسده، ويأتي علينا ما لا نطيقه..

والآن.. فإذ قد فعلنا به ما فعلنا، وأخطأنا في أمره بما أخطأنا. وأشرفنا من الهلاك بالتنويه باسمه على ما أشرفنا، فليس يجوز التهاون في أمره. ولكننا نحتاج إلى أن نضع منه قليلاً، قليلاً، حتى نصوره عند الرعية بصورة من لا يستحق هذا الأمر، ثم ندبر فيه بما يحسم عنا مواد بلائه..).

ثم طلب منه حميد بن مهران: أن يسمح له بمجادلة الإمامعليه‌السلام ، ليفحمه، وينزله منزلته، ويبين للناس قصوره، وعجزه، فقال المأمون: (لا شيء أحب إلي من هذا).

٣١٢

ثم كانت النتيجة عكس ما كان يتوقعه المأمون والعباسيون، وأشياعهم وباءوا كلهم بالفشل الذريع، والخيبة القاتلة(١) .

والذي يعنينا الحديث عنه هنا:

هو قوله: وقد خشينا إن تركناه على تلك الحال.. إلى آخر ما نقلناه عنه آنفاً، فإنها أوضحت أن المأمون الذي كان يخشى الإمام خشية شديدة، كان يخطط أولاً إلى أخذ زمام المبادرة من الإمام، وتحاشي الاصطدام معه ثم كان يخطط بعد ذلك إلى الوضع منهعليه‌السلام قليلاً قليلاً إلى آخر ما تقدم..

ولا يرد: أن كلام المأمون مع حميد بن مهران ظاهره: أنه لم يكن يريد في بادئ الأمر الحط من الإمامعليه‌السلام ، وإنما بدا له ذلك حين قوي مركز الإمامعليه‌السلام ، واستحكم أمره.. لا يرد ذلك..

لأن كلامه هذا لا ينفي أنه كان يريد من أول الأمر ذلك. بل هو يؤكد ذلك. لأنه يصرح فيه: أنه إنما قدم على ما أقدم عليه، عندما رأى افتتان الناس بهعليه‌السلام ، فأراد أن يعمل عملا يفقد الإمامعليه‌السلام مركزه، ويقضي على كل نشاطاته، ويذهب بماله من القدرة والنفوذ نهائياً، وإلى الأبد.

ولقد تحدثنا فيما سبق عن بعض تصرفاته التي تدور في فلك خطط تلك مثل: فرضه للرقابة على الإمامعليه‌السلام ، والتضييق عليه، فلا يصل إليه إلا من أحب، وعزله عن شيعته ومواليه، وأيضاً تفريقه الناس عنه، عندما أخبر أنه يقوم بمهمة التدريس، وكذلك قضية صلاة العيد، وغير ذلك ما تقدم.

____________

(١) راجع: شرح ميمية أبي فراس ص ١٩٦، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٧٠، والبحار ج ٤٩ ص ١٨٣، ومسند الإمام الرضا ج ٢ ص ٩٦.

٣١٣

نزيد هنا بعض الأمور الأخرى، التي وإن كان قد سبق الحديث عن بعضها، ولكنه كان حديثا من زاوية أخرى، ومن أجل استفادة أمور غير الأمور التي نحاول استفادتها منها هنا. وذلك أمر طبيعي، ولا يكون تكراراً ما دام أن الواقعة الواحدة قد يكون لها دلالات متعددة، وإفادات مختلفة.. ولذا فإننا نقول:

لماذا على البصرة فالأهواز:

إن من جملة الأمور التي كانت من جملة خطط المأمون للتأثير على مكانة الإمامعليه‌السلام وحتى على معنوياته النفسية.. الطريق الذي أمر رجاء ابن أبي الضحاك(١) قرابة الفضل بن سهل، والذي كان من قواد المأمون، وولاته ـ أمره ـ بسلوكه، عندما أرسله ليأتي بالإمامعليه‌السلام من المدينة إلى مرو مهما كلفه الأمر..

فقد أمره: أن يجعل طريقه بالإمام (على البصرة، والأهواز، ففارس. وحذره كثيراً من المرور على طريق الكوفة، والجبل، وقم)(٢) .

____________

(١) وذكر أبو الفرج، والمفيد: أن المرسل هو الجلودي، ولكن الصحيح هو الذي ذكرناه.. إذ من الخطأ أن يرسله المأمون لإحضار الرضاعليه‌السلام ، لأن ذلك يضر بقضيته، ويفسد عليه ما كان دبره، لأنه موجب لسوء ظن الرضاعليه‌السلام ، والعلويين، وسائر الناس، وتنبههم مبكرا لحقيقة الأمر، وواقع القضية.

وذلك لأن الجلودي هو الذي أمره الرشيد: أن يغير على دور آل أبي طالب، ويسلب نساءهم إلخ ما تقدم.. كما أنه كان عدواً متجاهراً للإمامعليه‌السلام ، وقد سجنه المأمون بسبب معارضته للبيعة للرضاعليه‌السلام بولاية العهد! ولعل سر خطأهم هو أن الجلودي كان والياً على المدينة من قبل المأمون، حين استقدام المأمون للإمام إلى مرو، حسبما جاء في كتاب: الإمام الرضا ولي عهد المأمون ص ٣٥.

(٢) تهذيب التهذيب ج ٧ ص ٣٨٧، وتاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ١٧٦، وينابيع المودة ص ٣٨٤، والخرائج والجرائح طبعة حجرية ص ٢٣٦. وإثبات الوصية ص ٢٠٥.

وإعلام الورى ص ٣٢٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٤٩، ١٨٠، والكافي ج ١ ص ٤٨٦، ومسند الإمام الرضا ج ١ ص ٤٠ والبحار ج ٤٩ ص ٩١، ٩٢ ١١٨ و ١٣٤، وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٥، وغير ذلك كثير.

٣١٤

بل لقد ورد: أن المأمون قد كتب إلى الرضا نفسه، يقول له: (لا تأخذ على طريق الجبل وقم. وخذ على طريق البصرة، فالأهواز، ففارس..)(١) .

وسر ذلك واضح، فإن أهل الكوفة، وقم، كانوا معروفين بالتشيع للعلويين(٢) وأهل البيت، ومرور الإمام عليه‌السلام من هذين البلدين، وخصوصاً الكوفة، التي كانت تعتبر من المراكز الحساسة جداً في الدولة.. سوف يكون من نتيجته: أن يستقبله أهلها بما يليق بشأنه: من الإجلال، والإعزاز والتكريم.

____________

(١) أصول الكافي ج ١ ص ٤٨٩، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٤٩ و ١٨٠، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٦٥، ومعادن الحكمة ص ١٨٠، وإثبات الوصية للمسعودي ص ٢٠٤، ومسند الإمام الرضا ج ١ ص ٧٣، والبحار ج ٤٩ ص ١٣٤.

(٢) تشيع أهل الكوفة وقم أشهر من أن يحتاج إلى بيان، أو إقامة برهان.. لكننا نورد ـ مع ذلك ـ بعض الشواهد، تبصرة للقارئ، فنقول: أما الكوفة: فقد تقدم قول محمد بن علي العباسي أنها وسوادها شيعة علي وولده.. وفي الطبري، وابن الأثير، وغيرهما تجد قول عبد الله بن علي للمنصور، عندما استشاره في أمر محمد بن عبد الله بن الحسن: (.. ارتحل الساعة حتى تأتي الكوفة، فاجثم على أكتافهم، فإنهم شيعة أهل هذا البيت، وأنصاره الخ)، وفي قضية وفاة السيد الحميري، التي ذكرها المرزباني في كتابه أخبار السيد الحميري دلالة واضحة على تشيع الكوفيين، وانحراف البصريين..

ولأجل ذلك نرى المأمون يستقبل وفدا من أهل الكوفة في منتهى الغلظة والجفاء، فراجع مروج الذهب ج ٣ ص ٤٢١. وفي البداية والنهاية ج ١٠ ص ٩٣: أن المنصور قد اعترف بأن لإبراهيم بن عبد الله بن الحسن في الكوفة مئة ألف سيف مغمدة، وأعرب عن مخاوفه من تشيع أهل الكوفة للعلويين، وولائهم لهم.. بل إننا لا نستبعد أن يكون بناء المنصور لبغداد هو من أجل أن يبتعد عن الكوفة، وأهلها، ويأمن على نفسه، قال البلاذري في فتوح البلدان ص ٤٠٥: (أخذ المنصور أهل الكوفة بحفر خندقها. وألزم كل امرئ للنفقة عليه أربعين درهما. وكان ذاما لهم. لميلهم إلى الطالبيين، وإرجافهم بالسلطان..) وقد تقدم أنه عندما ذهب إليهم العباس بن موسى، أخو الإمام الرضاعليه‌السلام يدعوهم للبيعة، لم يجبه إلا البعض منهم، وقال له آخرون: (إن كنت تدعو للمأمون، ثم من بعده لأخيك، فلا حاجة لنا في دعوتك. وإن كنت تدعو إلى أخيك، أو بعض أهل بيتك، أو إلى نفسك أجبناك..).

وعلى كل حال.. فقد كانت الكوفة مصدرا لثورات كثيرة على الأمويين والعباسيين على حد سواء، تلك الثورات التي كانت كلها تقريباً بقيادة علوي، أو داعية إلى علوي..

ولم ينس المأمون بعد ثورة أبي السرايا التي كادت تغير الموازين، وتقلب مجريات الأحداث.. إلى غير ذلك مما لا مجال لتتبعه واستقصائه. =

٣١٥

= وأما تشيع القميين، فذلك أعرف وأشهر. وقضيتهم مع جبة دعبل التي أهداه إياه الإمام لا يكاد يجهلها أحد. وعندما طلب المأمون من الريان أن يحدث بفضائل عليعليه‌السلام ، وأجاب بأنه لا يحسن شيئاً، قال المأمون: (سبحان الله! ما أجد أحداً يعينني على هذا الأمر لقد هممت أن أجعل أهل قم شعاري ودثاري).

ولعل تشيع أهل قم هذا هو الذي دفع بالمأمون لأن يوجه إليهم عامله علي بن هشام، لينكل بهم، ويحاربهم حتى يهزمهم، ويدخل البلد، ويهدم سورها، ويجعل على أهلها مبلغ سبعة ملايين درهم، بدلا من مليونين، وهو ما لم يكن يدفعه أي بلد آخر يضاهي بلدهم في عدد السكان وغير ذلك من المميزات، فكيف بالسبعة.. ومع أنه كان قد خفض الخراج عن السواد، وبعد البلدان الأخرى، فلما سمعوا بذلك طالبوا بتخفيض الخراج عنهم أيضاً، ففعل ذلك.. وكان تخفيضه عنهم بزيادة المليونين إلى سبعة، كما قلنا.. راجع في تفصيل ذلك: الطبري ج ١١ ص ١٠٩٣، والكامل لابن الأثير ج ٥ ص ٢١٢، وتاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ٢٥٥، والنجوم الزاهرة ج ٢ ص، ١٩٠ وتاريخ التمدن الإسلامي مجلد ١ جزء ٢ ص ٣٣٧، وفتوح البلدان للبلاذري ص ٤٤٠، وتجارب الأمم ج ٦ ص ٤٦٠.

٣١٦

ولا شك أن الإمامعليه‌السلام سوف يستطيع أن يستقطب المزيد من الناس، ويؤثر عليهم بما حباه الله من الفضائل والكمالات الأخلاقية، وبما آتاه الله من العلم والحكمة، والورع والتقوى، الذي سار ذكره في الآفاق، حتى لا يكاد يجهله أحد.. وإذا كان أهل نيشابور، بل وحتى أهل مرو، معقل العباسيين والمأمون، قد كان منهم تجاه الإمام ما لا يجهله أحد. حتى إنهم كانوا بين صارخ، وباك ومتمرغ في التراب إلخ.. وحتى لقد خاف المأمون وأشياعه على دمائهم ـ إذا كان هؤلاء هكذا ـ فكيف ترى سوف تكون حالة أهل الكوفة وقم، معقلي العلويين، والمحبين لأهل البيت، والمتفانين فيهم، لو أنهم رأوا الإمامعليه‌السلام بينهم، وبالقرب منهم..

يقول الراوندي في ذلك: (إن المأمون أمر رجاء بن أبي الضحاك: أن لا يمر بالإمام عن طريق الكوفة، لئلا يفتتن به أهلها..)(١) !.

والمأمون لا يريد أن يفتتن الناس بالإمام، وإنما الذي يريده هو عكس ذلك تماماً.. إنه يريد أن يضع من الإمام لا أن يرفع.

أما أهل البصرة: فعثمانية، يدينون بالكف، ويقولون: كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل.. بل لقد كانت البصرة معقلاً مهما للعباسيين، الذين حرق دورهم زيد النار، ابن الإمام الكاظمعليه‌السلام ، كما قدمنا، ولهذا نلاحظ: أن دور البصريين في التشيع لم يكن يضارع دور غيرهم، لا روائياً، ولا كلامياً..

وأما ما ربما يحتمله البعض: من أن المأمون كان يأمل أن يخرج من البصرة، أو غيرها من يخلصه من الإمامعليه‌السلام نهائياً.. فلا أرى أنه يتفق مع أهداف وأغراض المأمون، التي كان يرمي إليها من وراء لعبته تلك..

____________

(١) الخرائج والجرائح، طبعة حجرية ص ٢٣٦.

٣١٧

الإمام يرفض كل مشاركة تعرض عليه:

إنه برغم شروط الإمام على المأمون، والتي أشرنا إليها فيما سبق، فإننا نرى المأمون كل مدة يحاول أن يجري اختبارا للإمام، ليعرف حقيقة نواياه، وأنه هل أصبح له طمع بالخلافة، وطموح لها(١) ، ليعجل عليه بما يحسم عنه مواد بلائه.. أم لا. فكان يأتي كل مدة إليه، يطلب منه أن يولي فلانا، أو أن يعزل فلاناً، أو أن يصلي بالناس.. بل لقد طلب منه بعد مقتل الفضل أن يساعده في إدارة شؤون الخلافة(٢) بحجة أنه يعجز وحده أن يقوم بأعباء الحكم. ويدير دفة السلطان!

هذا.. إن لم نقل: أنه كان يريد من وراء ذلك: أن يجعل ذلك ذريعة للقضاء على الإمام، بحجة أنه نقض الشرط، وليكون بذلك قد قضى على العلويين جميعاً، وإلى الأبد.

أو على الأقل كان يريد بذلك: أن يوجد للإمام أعداء في الأوساط ذات القوة والنفوذ..

وأياً ما كانت نوايا المأمون وأهدافه، فإن الإمامعليه‌السلام كان يرفض ذلك كله بكل عزم وإصرار، ويذكره بالشروط تلك، ويقول له:((إن وفيت لي وفيت لك)) . وهذا تهديد صريح له من الإمامعليه‌السلام . ولا نعجب كثيراً ـ بعد أن اتضحت لنا نوايا المأمون وأهدافه ـ إذا رأينا المأمون يتحمل هذا التهديد، بل ويخضع له، ويقول: (بل أفي لك)!.

وهكذا.. فقد كان الإمامعليه‌السلام يضيع على المأمون ما كان يحسب أنه فرصة مؤاتية له، ولا يمكنه من معرفة ما يريد معرفته، ولا من تنفيذ ما يريد تنفيذه.

____________

(١) وما أشبه الليلة بالبارحة، فقد رأينا الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، يسأل ابن عباس عن عليعليه‌السلام : إن كان لا يزال يطمح إلى الخلافة، ويأمل فيها.. أم لا!.

(٢) الكافي ج ٨ ص ١٥١، وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٨ و ٨٧، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٦٤ و ١٦٦ و ١٦٧ والبحار ج ٤٩ ص ١٤٤ و ١٥٥ و ١٧١، وغير ذلك.

٣١٨

الاختبار لشعبية الإمامعليه‌السلام :

كما أنه كان كل مدة يقوم بعملية اختبار لشعبية الإمامعليه‌السلام ، ولمدى ما يتمتع به من تأييد في الأوساط الشعبية، ليعرف إن كان أصبحعليه‌السلام يشكل خطراً حقيقياً، ليعجل بالقضاء عليه أم لا.. فكان كل مدة يكلفه بأن يؤم الناس بالصلاة للعيد. أو ما شاكل.. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على مدى ما يعتمر قلب المأمون من الخوف والخشية منهعليه‌السلام . (راجع: السبب الثالث من فصل البيعة، والموقف العاشر في فصل: خطة الإمامعليه‌السلام ).

سؤال.. وجوابه:

ولعلك تقول: إذا كان المأمون يخشى الإمامعليه‌السلام إلى هذا الحد، لما يعلمه من نفوذه ومكانته، فلماذا لا يتخلص منه بذلك الأسلوب التقليدي الذي انتهجه أسلافه من الأمويين، والعباسيين، وتبعهم عليه هو فيما بعد، وكذلك من أتى بعده.. وذلك بأن يدس إليه شربة من السم، وهو في المدينة، من دون أن يحتاج إلى اشخاصه إلى مرو، والبيعة له بولاية العهد، وتزويجه ابنته، إلى غير ذلك من الأمور التي من شأنها أن تعزز من مركز الإمام، وترفع من شأنه، وتوجه إليه الأنظار والقلوب، حتى يضطر في نهاية الأمر لأن يعود إلى ما جرت عليه عادة أسلافه، وأتباعه..

ولكن الجواب على هذا قد اتضح مما قدمناه، فإن المأمون لم يكن يريد في بادئ الأمر موت الإمام، ولا كان يستطيع أن يفعل ذلك.

ولو أن ذلك كان قد حدث لوقع المأمون في ورطة، لها أول وليس لها آخر، حيث إنه كان بأمس الحاجة إلى حياة الإمامعليه‌السلام ، وذلك لما قدمناه من الأسباب والظروف التي كانت تحتم على المأمون أن يلعب لعبته تلك، التي وإن كانت تنطوي على مخاطرة جريئة، إلا أنه كان ـ كما قدمنا ـ قد رسم الخطة، وأحكم التدبير للتخلص من الإمامعليه‌السلام بمجرد أن يحقق مآربه، وأهدافه، بالطريقة التي لا تثير شك أحد، ولا توجب تهمة أحد، وقد حدث ذلك بالفعل، كما سيمر علينا..

وأما كتمه لفضائل الإمامعليه‌السلام :

ومن جملة الأمور التي كانت تدور في فلك خطة المأمون، التي لخصها بأنه يريد الوضع من الإمام قليلاً قليلا، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر ـ محاولاته كتم فضائل الإمامعليه‌السلام ومزاياه عن الناس ما استطاع إلى ذلك سبيلاً..

٣١٩

وقد تقدم: أنه عندما سأل رجاء بن أبي الضحاك، الذي تولى إشخاص الرضاعليه‌السلام من المدينة إلى مرو، عن حال الرضاعليه‌السلام في الطريق، فأخبره عما شاهده من عبادتهعليه‌السلام ، وزهده وتقواه، وما ظهر له من الدلائل والبراهين، قال له المأمون: (.. بلى يا ابن أبي الضحاك، هذا خير أهل الأرض، وأعلمهم، وأعبدهم، فلا تخبر أحداً بما شهدت منه، لئلا يظهر فضله إلا على لساني..)!.

وهكذا: فإن المأمون وإن استطاع أن يمرر الكثير، إلا أنه لم يكن يجد بداً في كثير من الأحيان من أن يظهر على حقيقته وواقعه. وهذا هو أحد تلك المواقف التي مرت وسيمر معنا بعضها، والتي اضطر فيها المأمون لأن يكشف عن وجهه الحقيقي،.. وإن كان قد حاول ـ مع ذلك ـ أن يتستر بما لا يسمن ولا يغني من جوع.

ولا أعتقد أن المأمون كان يجهل: أن ما يأتي به لم يكن لينطلي كله على أعين الناس، بل كان يعلم ذلك حق العلم، ولكن كما يقولون: (الغريق يتشبث بالطحلب).

ولكن.. بالرغم من محاولات المأمون تلك.. فإننا نرى أن فضائل الإمام ومزاياه كانت كالعرف الطيب، لم تزل تظهر، وتنتشر وتذاع.. بل ولعل محاولات المأمون تلك التي كانت ترمي للحط من الإمام وإسقاطه، قد أسهمت كثيراً وساعدت على إظهار فضائله، وشيوعها، كما سيتضح.

الشائعات الكاذبة!

وكان بالإضافة إلى ما تقدم يحاول ترويج شائعات كاذبة، من شأنها أن تنفر الناس من العلويين عامة، ومن الإمامعليه‌السلام ، وسائر الأئمةعليهم‌السلام خاصة.

فهذا أبو الصلت يسأل الإمامعليه‌السلام فيقول: (يا ابن رسول الله، ما شيء يحكيه الناس عنكم؟!.

قالعليه‌السلام :((ما هو؟!.

قال: يقولون: إنكم تدعون: أن الناس لكم عبيد!.

قالعليه‌السلام :يا عبد السلام، إذا كان الناس كلهم عبيدنا ـ على ما حكوه ـ فممن نبيعهم)) ؟! إلخ(١) .

____________

(١) مسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٥، والبحار ج ٤٩ ص ١٧٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٨٤.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578