شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم10%

شبهات وردود حول القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 578

شبهات وردود حول القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 578 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 297582 / تحميل: 13676
الحجم الحجم الحجم
شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

العذراء - العائشة بكلّ طُهرٍ بدون أدنى ذنبٍ، المـُنزهّة عن اللوم، المثابِرة على الصلاة مع الصوم - يوماً مّا وحدَها وإذا بالمـَلاك جبرائيل قد دخل مَخدعَها وسلّم عليها قائلاً: ليكنْ الله معكِ يا مريم، فارتاعت العذراء من ظهور المـَلاك، ولكنّ المـَلاك سكّن روعَها قائلاً: لا تخافي يا مريم؛ لأنّكِ قد نلتِ نعمةً مِن لدُن اللّه الذي اختاركِ لتكوني أُمَّ نبيٍّ يبعثه إلى شَعب إسرائيل؛ ليسلكوا في شرائعه بإخلاص.

فأجابت العذراء: وكيف أَلِد بنينَ وأنا لا أَعرِف رجلاً؟! فأجاب المـَلاك: يا مريم إنّ اللّه الذي صنع الإنسان من غير إنسان لَقادرٍ أنْ يخلقَ فيكِ إنساناً من غير إنسان؛ لأنّه لا مُحال عنده. فأجابت مريم: إنّي لَعالِمةٌ أنّ الله قديرٌ، فلتكنْ مشيئتُه، فقال المـَلاك: كوني حاملاً بالنبيّ الذي سَتدْعينَه يسوع، فامنعيه الخَمر والمـُسكِر، وكلَّ لحمٍ نجسٍ؛ لأنّ الطفل قُدّوس اللّه، فانحنت مريم بضعةً قائلةً: ها أنا ذا أَمَة اللّه، فليكن بحسب كلمتك (١) .

* * *

قلتُ: ما جاء في إنجيل برنابا أسلم وأوفق بالاعتبار ممّا جاء في إنجيليّ لوقا ومتّى.

أولاً: جاء في إنجيل لوقا: (القدُّوس المولود منكِ يُدعَى ابنُ اللّه) (٢) .

وفيه أيضاً: أنّ مريم لمـّا أتت خالتها (اليصابات) باركتْها ووصفتْها بأنّها أُمُّ ربّها: (وقالت: أنتِ مباركةٌ في النساء، ومباركة هي ثمرةُ بطنك، فمِن أين لي هذا أنْ تأتي أُمُّ ربي إليَّ) (٣) .

وهذا شيءٌ غريب، كيف يكون المولود من امرأةٍ ابناً للّه، بحجّة أنّه لم يولد من أبٍ؟! إذن لكان الأَولى أنْ يكون آدم ابناً للّه؛ حيث لم يلده أبٌ ولا أُمٌّ.

ثم كيف أصبح هذا المولود من غير أبٍ إلهاً من دون اللّه؟! الأمر الذي يرفضه العقل الرشيد.

____________________

(١) راجع: قصص الأنبياء للنجّار، ص٣٧٧.

(٢) إنجيل لوقا، الإصحاح ١/٣٥.

(٣) إنجيل لوقا، الإصحاح ١/٤٢ و٤٣.

٨١

قال صاحب كتاب (الفارق بين المخلوق والخالق): ما جاء في إنجيل لوقا (ص١: ٣٢): (وابن العليّ يُدعَى)، هذه الجملة مُنتزَعة من قول زكريّا (عليه السلام) في ابنه يحيى: (وأنت أيّها الصبّي نبيّ العليّ تُدعَى) (لوقا ١ ص١: ٧٦)، فحُرِّفت في حقّ عيسى (عليه السلام) إلى قول لوقا على لسان المـَلَك: (وابن العليّ يُدعى)؛ ليُوهموا الناس أنّ المسيح إلهٌ ابنُ إله ٍ (١) .

وثانياً: قوله: (هذا يكون عظيماً، وابن العليّ يُدعى، ويُعطيه الربُّ الإلهُ كُرسيّ داود أبيه، ويَملك على بيت يعقوب ولا يكون لمـُلكه نهاية)...

قال الأُستاذ النجّار: إنّ هذه العبارات تفرّد بها لوقا، ولم يذْكرْها أحد من كُتّاب الأناجيل سواه، ونحن لا نقول بأنّ الإلهام قَصَّر معهم - وفيهم أصحاب المسيح المـُشاهِدون لأحواله العالِمون بشأنه - وأفاض على لوقا الذي ليس تلميذاً ولا مِن الإثني عشر، بل رجل دخل في الدين متأخّراً وصار تلميذاً لبولس الذي لم يرَ المسيح ولم يُعاشرْهُ.

فهذه العبارة ممّا جاء به؛ ليُزيّنَ أمرَ المسيح ويُدخِلَ على الناس تعظيمَه، والمسيح ليس في حاجةٍ إلى ذلك.

وقد طعن صاحب كتاب (الفاروق) على هذه الجملة (ويعطيه الإله كرسيّ داود أبيه) بوجهين وجيهين:

الأَوّل: أنّ عيسى (عليه السلام) من أولاد الملِك (يهوياقيم) (٢) ولا يَصلح أنْ يجلس على كرسيّ داود؛ لأنّه لمـّا أحرق الصحيفة التي كتبها (بارخ) من فم النبيّ (أرمياء) نزل الوحي: (قال الربّ عن يهوياقيم (يواقيم) - ملك يهوذا - لا يكون له جالسٌ على كرسيّ داود) (٣) .

الثاني: أنّ المسيح - مع كونه لم يجلس على كرسيّ داود - أمر (بيلاطس) بضربه وإهانته، وسلّمه إلى اليهود - كما يَزعمُه النصارى - ففعلوا به ما فعلوا وصلبوه.

على أنّه يبدو من إنجيل يوحنا (١ ص٦) أنّه كان هارباً من قومِهِ عندما أرادوا أنْ

____________________

(١) راجع: قصص الأنبياء للنجّار، ص٣٧٨.

(٢) في إنجيل متّى: الإصحاح الأَوّل: إنّه من ذرّية (ألياقين)، وقد غيّر فرعون مصر اسمه إلى (يهوياقيم) (قاموس الكتاب المقدّس، ص٩٨٦)، وراجع: سِفر الملوك ٢، إصحاح ٢٣/٣٤.

(٣) كتاب أرمياء، إصحاح ٣٦/٣٠.

٨٢

يجعلوه مَلِكاً ولا يُعقل أنْ يهرب من أمرٍ بعثهُ اللّهُ لأجلهِ، على ما بشّر جبرائيلُ أُمّه العذراء قبل ولادته، ومعلومٌ أنّه لمْ يَملِكْ بيتُ يعقوب ساعةً فضلاً عن الأبد (١) .

يا أُخت هارون

ويقول القاضي عبد الجبار في كتابه (تنزيه القرآن عن المطاعن): وربّما قيل في قوله تعالى: ( يَا أُخْتَ هَارُونَ ) : كيف يصحّ أنْ يقال لها ذلك وبينها وبين هارون أَخي موسى الزمان الطويل؟ وجوابنا أنّه ليس في الظاهر هارون الذي أخو موسى، بل كان لها أخٌ يُسمّى بذلك، واثبات الاسم واللقب لا يَدلّ على أنّ المسمّى واحد، وقد قيل: كانت مِن وِلْدِ هارون، كما يقال للرجل من قريش يا أخا قريش (٢) .

ويشرح المبشّرون هذه الناحية ويقولون: وَرَد في سورة مريم: ( فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً ) (٣) يبدو من هذه الآية أنّ مُحمّداً كان يرى أنّ مريم كانت أُخت هارون أخي موسى. وممّا يزيد هذا الأمر وضوحاً وجلاءً ما ورد في سورة التحريم ونصُّه: ( وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ ) (٤) وفي سورة آل عمران: ( إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً ) (٥) فلا شكّ أنّ مُحمّداً توهّم أنّ مريم أُخت هارون - التي كانت أيضاً ابنة عِمران (عمرام) - هي مريم نفسها التي صارت أُمَّ يسوع (المسيح عيسى) بعد ذلك بنحوِ ألف وخمسمِئة وسبعين سنة، وهذا خطأ جسيم؛ لأنّه لم يقلْ أحد من اليهود أنّ مريم أُخت هارون وابنة عمران بقيتْ على قيد الحياة إلى أَيّام المسيح (٦) .

هكذا وَهِم تسدال ومَن حذا حذوَه مِن المبشّرين! لكنّه وهمٌ فاحش؛ إذ كيف يمكن أنْ يخفى مثلُ هذا الفصل البيّن بين موسى والمسيح (عليهما السلام) على العرب العائشين في

____________________

(١) قصص الأنبياء للنجّار، ص٣٧٧ - ٣٧٨.

(٢) تنزيه القرآن عن المطاعن للقاضي عبد الجبار، ص٢٤٧.

(٣) مريم ١٩: ٢٧ - ٢٨.

(٤) التحريم ٦٦: ١٢.

(٥) آل عمران ٣: ٣٥.

(٦) مصادر الإسلام، ص١٠٢ - ١٠٤، والفنّ القصصي ص٥٧ - ٥٨.

٨٣

جِوار اليهود وبين أظهرهم طيلةَ قرونٍ، وكذا مُراودتهم مع نصارى نجران والأحباش، فضلاً عن نبيّ الإسلام النابه البصير ليَتصوّرَ مِن مريم أُمّ المسيح هي مريم أُخت موسى وهارون!

إذ مَن يعرف أنّ لموسى وهارون أُختاً اسمها مريم، لا يمكنه الجهل بهذا الفصل الزمني بين مَريَمين!

ثُمَّ كيف يَسكت اليهود - وهم ألدُّ أعداء الإسلام - على هذا الخطأ التأريخي الفاحش ولم يأخذوه شنعةً على القرآن والإسلام؟

هذا وقد وقع التساؤل عن هذا التشابه على عهد الرسول (صلّى اللّه عليه وآله) على ما نقله السيّد رضيّ الدين ابن طاووس عن كتاب (غريب القرآن) لعبد الرحمان بن محمد الأَزدي الكوفي - من كبارِ رجال القرن الثالث - بإسناده إلى المغيرة بن شعبة، قال: بعثني رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) إلى أهلِ نَجران، فقالوا: أرأيتَ ما تقرأون (يا أُخت هارون) وهارون أخو موسى، بينه وبين عيسى المسيح بكذا وكذا؟ قال: فرجعتُ وذكرتُ ذلك لرسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) فقال: (أَلا أخبرتَهم (أو قلتَ لهم) أنّهم كانوا يُسمّون بالأنبياء والصالحين قبلهم!) (١)

وهكذا أخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد ومسلم والترمذي والنسائي وابن المـُنذر وابن أبي حاتم وابن حبّان والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن المغيرة بن شعبة... الحديث (٢) .

نعم وهِمَت عائشةُ أنّها أُخت هارون أخي موسى، فنبّهها كعبُ الأحبار بأنّها غيرها، والفصل الزمني بينهما كبير، وإنّما هو من تشابه الأسماء، فرجعتْ عن زعمها (٣) .

وذكر كعبُ أنّ الفصل الزمني بينهما ستمِئة سنة؛ ولعلّه مِن حذف الألف في نقل الرواة.

إذن، لم يكنْ ذلك خافياً على أهل النباهة في ذلك العهد، وهكذا في طول عهد الإسلام،

____________________

(١) سعد السعود، ص٢٢١.

(٢) الدرّ المنثور، ج٥، ص٥٠٧.

(٣) فيما رواه ابن سيرين، راجع: الدر المنثور، ج٥، ص٥٠٧.

٨٤

حتى يأتيَ تسدال وأضرابه مِن أهل السفاسف في مؤخّرة الزمان ليجعلوه شَنعةً على القرآن الكريم!!

والخلاصة، أنّ التسمية باسم الآباء والأُمّهات تشريفاً بهم شيء معروف كما جاء في كلام الرسول (صلّى اللّه عليه وآله) ولا سيّما وهارون كان سيّدَ قومِه مُهاباً عظيماً له شأن في بني إسرائيل، وهو أُوّل رأس الكَهَنَة الذي ترأّس في اللاويين - أكبر قبائل بني إسرائيل - (١) .

أضف إليه أنّ أُمّ مريم - وهي أُخت اليصابات أُمّ يحيى - كانت من سبط لاوي من نسل هارون (٢) ، فهي من جهة الأُمّ منتسبةٌ إلى هارون، فالتعبير بأُختِ هارون، مُعاتَبَةً لها؛ حيث عُلِم أخذها بِحُرمة هذا النسب العالي، وهذا كما للتميمي: يا أخا تميم، وللهاشمي: يا أخا هاشم... رُوي ذلك (انتسابها إلى هارون) عن السدّي (٣) .

وهذا لا ينافي أنْ تكون مريم من جهةِ الأب منتسبةً إلى داود من سبط يهوذا (٤) ؛ لأنّ العقاب إنما يقع بأشرف الأبوين.

وهناك احتمال: أنّها شُبِّهت بمريم أُخت هارون وموسى؛ لمكان قَداستِها وكانتْ ذات وجاهةً عند قومها، وكانت تُدعى أيضاً بأُخت هارون، ويُعبّر عنها بالنبيّة كهارون أخيها (٥) ، وكانت أكبرَ من موسى بعشرِ سنين، وهي التي قالت لها أُمّها: قُصّيه، عندما قَذفت بتابوت موسى في النيل.

والمعنى: أنّك تماثلين الصدّيقة مريم أُخت موسى وهارون، فكان جديراً بك المحافظة على هذا المقام (٦) .

ابنة عمران

لمْ تذكرْ التوراة عن والدِ مريم شيئاً سِوى أنّها من سبط يهوذا من نسل داود، ولا بُعدَ أنْ يكون اسم والدِها عِمران (عمرام) وكانت التسمية بهذا الاسم شائعةً في بني

____________________

(١) راجع: قاموس الكتاب المقدّس، ص٩١٦.

(٢) المصدر: ص٧٩٥.

(٣) مجمع البيان، ج٦، ص٥١٢.

(٤) المصدر: ص٧٩٤ - ٧٩٥.

(٥) راجع: سِفر الخروج، إصحاح ١٥/٢٠.

(٦) راجع: تفسير نمونه، ج١٣، ص٥١.

٨٥

إسرائيل، وكان في حشد عزرا من كان يُسمّى بهذا الاسم (١) - كما لمْ يُنكر هذا الانتساب مُنذ العهد الأَوّل فإلى الآن - دليلاً على صحّة الانتساب.

وعلى أَيّ حالٍ فلا غَرْوَ أنْ يأتيَ القرآن بحديثٍ لمْ يأتِ مثله في كتب الأقدمين ولا عَرَفه أصحابُ الديانات المعاصرة لنزول القرآن، وقد نبّهنا أنّ القرآن يأتي بالصفو الصحيح من آثارِ الأنبياء والصدّيقين بما أعجب وأبهر، ولذلك يقول سبحانه: بشأن قصص الصدّيقة مريم: ( ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ) (٢) .

إذ جاءت قصّتها في كتب السابقين مشوّهة محرّفة، ولكنّها في القرآن نقيّة زاكية.

تأليه الصدّيقة مريم!

( وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ ) (٣) .

وهذا تعريضٌ بفرقةٍ مِن فِرَقِ النصارى قالوا بأُلوهيّة المسيح وأُمّه... الأمر الّذي أنكرته فِرَقُ النصارى اليوم، بحجّةِ أنّه لم توجدْ فرقة تعتقد أُلوهيّة مريم الغذراء!

لكنّ التأريخ يشهد بوجود فرقة أو فِرَقٍ من المسيحيّين الأَوائل كانوا يعتقدون بأُلوهيّتها إلى جَنب أُلوهيّة المسيح:

يقول عنهم ابن البطريق - الطبيب المؤرِّخ المسيحي (٢٦٣ - ٣٢٨ هـ/٨٧٧ - ٩٤٠م): (٤)

(وكانوا مختلفين في الآراء والأديان، فمنهم من كان يقول: إنّ المسيح وأُمّه إلهان من دون اللّه، وهم (البربرانيّة)... ويُسمَّون (الريمتيّين) (المريمانيّة)، ومنهم من كان يقول: إنّ المسيح مِن الأب بمنزلةِ شُعلة نارٍ انفصلت من شُعلةِ نارٍ، فلم تَنقص الأُولى بانفصال الثانية منها، وهي مقالة (سابليوس) وشيعته، ومنهم من كان يقول: لمْ تحبلْ بهِ مريم تسعةَ

____________________

(١) راجع: عزرا، إصحاح ١٠، عدد ٣٤.

(٢) آل عمران ٣: ٤٤.

(٣) المائدة ٥: ١١٦.

(٤) هو سعيد بن البطريق من أهل مصر، وُلِد بفُسطاطٍ، واُقيم بطريركاً في الإسكندريّة وسُمّي أنتيشيوس ( Entychius ) سنة ٣٢١ هـ ق، له كُتب في الطبّ والتأريخ ولا سيّما تأريخ المسيحيّة، كُتب عن فِرقِ النصارى وما بينهم من شقاقٍ وخلافٍ، راجع: الوافي بالوفيّات للصفدي (٧٦ هـ)، ج١٥، ص١٢٧، رقم ٤٨٥٨، والأعلام للزركلي، ج٣، ص١٤٤.

٨٦

أشهرٍ، وإنّما مرّ في بطنها كما يمرّ الماء في المِيزاب؛ لأنّ الكلمة دخلت في اُذُنِها وخرجت من حيث يخرج الولد من ساعتها، وهي مقالة (إليان) وأشياعه، ومنهم من كان يقول: إنّ المسيح إنسانٌ خُلق مِن اللاهوت كواحدٍ مِنّا في جوهره، وأنّ ابتداء الابن من مريم، وأنّه اصطُفي ليكونَ مُخلِصاً للجوهر الإنسي، صَحِبتهُ النعمةُ الإلهيّة وحلّت فيه بالمحبّة والمشيئة، ولذلك سُمّي (ابن اللّه) ، ويقولون: إنّ اللّه جوهر قديم واحد وأقنوم واحد، ويسمّونه بثلاثة أسماءٍ، ولا يؤمنون بالكلمة ولا بروح القُدُس، وهي مقالة (بولس الشمشاطي) بطريرك أنطاكيّة وأشياعه وهم (البوليقانيّون)، ومنهم من كان يقول إنّهم ثلاثة آلهة لم تزلْ: صالحٌ وطالحٌ وعدل بينهما، وهي مقالة (مرقيون) هو رئيس الحواريّين وأنكروا بطرس، ومنهم من كان يقول بأُلوهيّة المسيح، وهي مقالة (بولس) الرسول ومقالة الثلاثمِئة وثمانية عشر أُسقفاً...

ولتصفية هذه الخلافات اجتمع في عام ٣٢٥ ميلاديّة (مجمع نيقيّة) عند الملك (قسطنطين) وبدعوةٍ منه، فاجتمع ألفان وثمانية وأربعون أُسقفاً، ودارتْ البُحوث، وقد اختار الإمبراطور الروماني (قسطنطين) - الذي كان قد دخل في النصرانيّة من الوثنيّة مُنُذ عهدٍ قريب ولم يكنْ يدري مِن النصرانيّة شيئاً - هذا الرأي الأخير (رأي بولس الرسول) وسلّط أصحابه على مخالفيهم، وشرّد أصحاب سائر المذاهب، وبخاصّة القائلين بألوهيّة الأب وحده، وناسوتيّة المسيح! (١)

وهكذا يقول يقول ابن حزم الأندلسي (٣٨٣ - ٤٥٦هـ) وهو قريبُ عهدٍ بابن البطريق - بعد شرح الخلافات بين طوائف النصارى أيّام قسطنطين وكان أَوّل من تنصّر من مُلوك الروم، فكان ممّا عَدَّ من تلك المذاهب والفِرق: البربرانيّة. قال: (ومنهم البربرانيّة، وهم يقولون إنّ عيسى وأُمّه إلهان من دون اللّه عزّ وجلّ: قال: وهذه الفرقة قد بادت...) (٢) .

____________________

(١) راجع ما كتبه سيد قطب بهذا الشأن (في ظِلال القرآن، ج٦، ص١١٧ - ١٢١، المجلّد الثاني، ص٦٨٥ - ٦٨٩) نقلاً عن كتاب محاضرات في النصرانيّة للشيخ محمد أبو زهره، وعن كتاب الأُمّة القبطيّة وغيره من مراجع.

(٢) الفِصَل في الملل والنحل، ج١، ص٤٨.

٨٧

ويكلّم الناس في المهد وكهلاً

جاء في القرآن في ثلاثة مواضع، تكلّمُ المسيح في المهد:

١ - في سورة آل عمران (الآية: ٤٦): ( وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ ) .

٢ - في سورة المائدة (الآية: ١١٠): ( إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً ) .

٣ - في سورة مريم (الآية: ٢٩): ( فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً ) .

ذكر الرازي أنّ النصارى أنكرت كلام المسيح في المهد، بحجّة أنّه لم يثبتْ عندهم وكانوا هم أَولى بنقله لو كان؛ لأنّه حادث عجيب وبرهان ساطع على صدق نبوّتِه، ولشَهدِه جمّ غفير، ونُقل بالتواتر لتوفّر الدواعي عليه، بما لا يمكن خفاؤه لكي يظهر على يد نبيّ الإسلام فحسب! (١) .

لكن هذا الاعتراض إنّما كان يَرِد لو كان أبناء المسيحيّة قد احتفظوا بمُستَنداتهم الدينيّة طُولَ عهدِ التأريخ ولم يُضيّعوها، ولم يَدَعوها على ذمّة التحريف والخلط والتبديل، على أنّهم مُنذ البدء لم يأخذوا ديانتَهم عن أصلٍ وثيق، ولا عرفوا شيئاً من حياة صاحب الرسالة إلاّ أقاويل وأساطير، فقد ضاعت عنهم كلُّ معالمِ الشريعة والصحيح من سيرة المسيح مُنذ بداية الأمر...

تلك الأناجيل الأربعة، ثلاثة منها (متّى، مرقس، لوقا) لم تحتفظ على معاجز المسيح (الثلاث والثلاثون معجزة) سِوى معجزة واحدة، وإنجيل يوحنّا لم تذكر منها سِوى سبع معاجز (٢) ، فأين الباقي؟

على أنّ هذه الأناجيل بينها اختلاف كبير وهي قريبةُ العهد بالتدوين، والعُمدة أنّها كُتبت في عهدٍ متأخّرٍ (بعد انتهاء أمر المسيح) فخلطتْ الحابلَ بالنابل، وكان فيها الغث والسمين، وبعد أنْ أفاق المسيحيّون من الاضطهادات التي كانت تتوالى عليهم نظروا في

____________________

(١) التفسير الكبير، ج٨، ص٥٢.

(٢) راجع: قاموس الكتاب المقدّس، ص٩٦٧.

٨٨

تلك الأساطير واختارت الكنيسة من بينها تلك التي لا تتعارض مع نزعتها وجعلتها رسميّةً، ولم تَكتَرث لِما بين مضامينها من التخالف والتناقض مادام ذلك لا يخالف المـَنزع العام الذي قصدته الكنيسة، والأناجيل جميعها منقطعة السند، ولا توجد نسخة إنجيل بخطِّ تلميذٍ من تلاميذ ذلك المؤلِّف ولا ما يضمن شُبهة صحّةٍ فيها (١) .

من ذلك الخلط الفاحش، إسناد (لوقا) التكلّم في المـَهد إلى يوحنّا المعمدان (يحيى بن زكريّا) بدلَ المسيح (عيسى بن مريم)، (٢) وسكت عنه سائر الأناجيل.

جاء في إنجيل لوقا: كان في أَيّام هيروديس - مَلِك اليهود - (٤ - ٤٠ - ق م) كاهنٌ اسمه زكريّا وامرأته من بنات هارون واسمها (اليصابات) وكانت عاقراً... فبينما زكريّا يَكهنُ في نوبةٍ فرفته أمام اللّه، إذ ظهر له مَلائكةُ الرّبِّ فبشّروه بيحيى... ولمـّا حبلت اليصابات أخفت نفسَها خمسة أشهرٍ، وفي الشهر السادس أُرسِل جبرائيل إلى مدينةِ ناصرة إلى العذراء مريم ليُبشِّرها بعيسى وقال لها: هاهي خالتك اليصابات أيضاً حُبلى بابنٍ في شيخوختها.

وفي تلك الأيام ذهبت مريم إلى مدينة يهوذا ودخلت على اليصابات وسلّمت عليها، وظلّت عندها ثلاثة أشهر ثم عادت إلى بيتها في الناصرة.

ولما تمّ زمان حمل اليصابات ولدتْ ابناً وسَمع الجيران والأقرباء وفرِحوا بذلك، وفي اليوم الثامن جاؤوا ليَختنوه وسمّوه يحيى - بإشارة من أبيه - وفي الحال انفتح فمُه ولسانُه، وتكلّم وبارك اللّه... فتعجّب الجميع من ذلك الحادث الغريب؟!

____________________

(١) راجع: قصص الأنبياء للنجّار، ص٣٩٩.

(٢) كان لوقا طبيباً من أهل أنطاكيّة، ولم يرَ المسيح أصلاً وقد لُقِّن النصرانيّة عن (بولس)، وبولس هذا كان يهوديّاً متعصّباً على المسيحيّة ولم يرَ المسيح في حياته، وكان يُسيء إلى النصارى إساءات متواصلة، ولمـّا رأى أنّ اضطهاده للنصرانيّة لا يُجدي عَمَدَ من طريق الحيلة إلى الدخول فيها وإظهار الاعتقاد بالمسيحيّة، وادّعى أنّه صُرِع وفي حال صَرعه لمسه المسيح وزجره عن الإساءة إلى متابعيه، ومن ذلك الوقت آمن وأرسله المسيح ليُبشِّر بإنجيله (نظير ما اختلقه كعب الأحبار - الكاهن اليهودي - تعليلاً لإسلامه أيام عمر بن الخطاب) وانطلت حيلتُه على الكنيسة، وهو الذي جعل النصارى يمرقون من واجبات الناموس الذي جاء المسيح لتأييدها، فأباح لهم أكل المِيتة وشرابَ الخمور، وأنّ الإيمان وحده كان في النجاة بدون عمل... قصص الأنبياء للنجّار، ص٤٠٠.

وكان تأليف لوقا إنجيله بإيحاءات من شيخه بولس هذا الذي حاول التشويهَ في شريعة المسيح والحطَّ من قداسته، ومن ذلك نسبة الكلام في المـَهد - وهي نفحة قُدسيّة - إلى يحيى قبل أن يأتيَ عيسى المسيح، الأمر الذي اغترّ به أتباع المسيح من غير دراية.

٨٩

وأمّا مريم العذراء فلمـّا تمّ أيامُ حَملِها ولدت ابناً فقمّطتْه وأضجعته في المِذوَدِ... ولمـّا تمّت ثمانيةُ أيّام جاؤوا ليَختنوا الصبّي وسُمّي اليسوع... (١)

ولنَتساءل كاتب الإنجيل: هل كانت هناك ضرورة تدعو إلى تكلّمِ يحيى في اليوم الثامن من ولادته؟ (مع العلم أنّ المعجزات خوارق للعادات لا تظهر على يدِ أولياء اللّه إلاّ حينما تدعو الضرورة إليه!).

والصحيح أنّه من سهوِ الكاتب إنْ لم يكن هناك عَمْدٌ.

* * *

هذا، وليس في القرآن تصريحٌ بأنّ المسيح تكلَّمَ في المـَهد حال رضَاعِه وقبل أوان الكلام؛ ذلك أنّ اللّه امتنّ على المسيح إذ أيّده بروح القُُدُس، ومنحَ له عقلاً وافراً يكلّمُ الناس - بكلامٍ معقولٍ - مُنذ طفولتِه فإلى أوان كهولته، فكان(عليه السلام) مُنذ صِغَره زكيّاً بارعاً وافرَ العقل، ينطقُ كما ينطق الرجل الخبير، وسنذكر مُحاجّتَه مع العلماء في أروشليم مُذ بلغَ من العُمر اثنتي عشرة سنة، بحيث أعجبَ الجميعَ كلامُهُ، فخافت مريمُ عليه وعنّفتْه على ذلك (٢) .

وهذا هو الظاهر من قوله تعالى: ( إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً ) (٣) .

أخرج الطبري بإسناده إلى سعيد بن جبير عن قُتادة قال: يكلّمُهم صغيراً وكبيراً، وهكذا أخرج بإسناده إلى الربيع بن أنس، وعن ابن جُريج قال: كلّمهم صغيراً وكبيراً وكهلاً... (٤)

وهذا كقولهم: (اطلبوا العلمـَ مِن المـَهد إلى اللَحد) أي مُنذ الصِغَر فإلى نهاية الكِبَر، والمـَهد كناية عن حالة الصبّي في نُعومة أظفاره ورخاوة هندامه، فيضطجع فيما مُهِّد له من مضجعٍ ناعم فارهٍ.

____________________

(١) إنجيل لوقا، إصحاح، ١ و٢.

(٢) قصص الأنبياء للنجّار، ص٣٨٧، وسنذكر الحديث بتفصيله.

(٣) المائدة ٥: ١١٠.

(٤) جامع البيان، ج٣، ص١٨٨.

٩٠

مريم تعودُ بابنها وقد جاوزَ سنَّ الرضَاعة

على أنّ مريم لمـّا جاءت بالمسيح كان قد تجاوزَ دَورَ الرضَاعة الأُولى بعد مدّة طويلة مِن ولادتِهِ.

جاء في إنجيل متّى: ولمـّا وُلِد يسوع في بيت لحم في أيام هيروديس المـَلِك، جاءت جماعة من المجوس ليقدّسوه وعَلم المـَلِك بذلك، واستفسر من الكَهَنة عن مولدهِ فأنبأوهُ بمكانِ ولادتِه وكان قد همَّ بقتلِه، وقال للمجوس إذا عِرفتُموه فأخبروني لكي اُقدّسَهُ معكم.

أمّا المجوس فوجدوه في بيت لحم مع أُمّهِ مريم، فخرّوا وسجدوا له وقدّموا هداياهم، ورَجعوا مُنصرفينَ على غير طريق المـَلِك.

وبعد ما انصرفوا إذا مَلائكة الرّبِّ قد ظهروا ليوسف - خطيب مريم - في حُلُمٍ وأمروه أنْ يهربَ بالصبيّ إلى مكان بعيد لا يعرفونه؛ خوفاً على الصبيّ من السلطان، فلمـّا مات المـَلِك أُلهِم يوسف بأنْ يرجع مع الصبيّ إلى أرضِ إسرائيل، وقد كان (أرخيلاوس) مَلِك اليهود، فخاف يوسف وعرَّج على نواحي الجليل وسكن في مدينة يقال لها ناصرة (١) .

وفي أنجيل برنابا نفس العبارة مع شيء مِن التوضيح:

(ولمـّا مات هيروديس ظهر مَلاك الربِّ في حُلُمٍ ليوسف قائلاً: عُد إلى اليهوديّة؛ لأنّه قد مات الذين كانوا يريدون قتل الصبّي، فأخذ يوسف الطفل ومريم - وكان الطفل بالغاً سبع سنين من العمر - وجاء إلى اليهوديّة، حيثُ سَمِع أنّ أرخيلاوس بن هيروديس صار حاكماً فيها، فذهب إلى الجليل لأنّه خاف البقاء في اليهوديّة (أورشليم) فذهبوا ليسكنوا في الناصرة.

وهكذا يبدو من ظاهر تعبير القرآن: قال تعالى: ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً . .....

قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً...

____________________

(١) إنجيل متّى، إصحاح ١ و٢.

٩١

فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلاّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً * فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً...

فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ... ) (١) .

يبدو من هذه الآيات أنّ مريم اختارت لعبادتها أرضاً غير آهِلةٍ بعيدةً عن مساكن أهلها؛ لتختلي بعبادةِ ربِّها دونَ أعين الناظرين، وفي هذا الدور جاءها مَلاك الربّ ليُبشّرها بالمسيح، ولمـّا حملتْ به أخذت تَبتعدُ أكثر خوفَ الفضيحة، وكان هناك (في المكان القصّي) نخل ومعينُ ماء، فوضعتْ حَملَها هناك بعيداً عن الناس كافّة، وأمرها المـَلاك أنْ لا تتكلّم مع أحدٍ يمرُّ عليها أو تمرّ عليه؛ بحجّة أنّها صائمة صومَ صمتٍ، فكانت مختليةً بنفسها وولَدِها، يعيشان في هدوء وفراغة بالٍ بعيداً عن هرج العامّة. ( وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ) (٢) .

وكم عاشا هناك في خَلأ من الناس؟

يبدو أنها لم تَعِش هناك سِوى سنتين أو ثلاث؛ لأنّها حين رجعت إلى قومها كانت تَحمل طفلَها، ولابدَّ أنّ الطفل عندما يبلغ مثلَ هذا السنّ قادر على التكلّم، وليس ذلك بغريب، أمّا قولهم: فلعلّه من جهة أنّهم استغربوا أنّها جاءت بولدٍ وهي غير متزوّجة، فلابدّ أنّها هي المجيبة على ذلك، وليس الطفل - الذي هو نِتاج الحَمل - بِمسؤولٍ ولا قادرٍ على حلّ الإشكال. فالطفل غير عارف بسبب هذا الإنتاج، فلا معنى للسؤال منه!

لكنّهم عندما واجهوا كلام المسيح في رَزانة وتعقّل متين عرفوا أنّ ذلك آية من آيات اللّه، فلا موضع للاستغراب!

____________________

(١) مريم ١٩: ١٦ - ٣٠.

(٢) المؤمنون ٢٣: ٥٠.

٩٢

هذا ولم يتكلّمْ من أصحابِ الأناجيل عن الحَمل بالمسيح وولادته شيئاً يُذكر سِوى ما جاء - باختصارٍ وإجمالٍ - في متّى (١ ص١: ١٨) ولوقا (١ ص١: ٢٧ - ٣٢).

عيسى يحاجّ العلماء في سنٍّ مبكّرٍ

جاء في إنجيل برنابا (١ ص٢: ١ - ١٥): (ولمـّا مات هيروديس ظهر مَلاك الربِّ في حُلُم ليوسف قائلاً: عُد إلى اليهوديّة (أورشليم)؛ لأنّه مات الذين كانوا يريدون موت الصبيّ، فأخذ يوسف الطفل ومريم - وكان الطفل بالغاً سبع سنين من العمر - وجاء إلى اليهوديّة، حيث سمع أنّ أرخيلاوس بن هيروديس كان حاكماً في اليهوديّة، فذهب إلى الجليل؛ لأنّه خاف أن يبقى في اليهوديّة، فذهبوا ليسكنوا في الناصرة. فنما الصبيّ في النعمة والحِكمة أمام اللّه والناس.

ولمـّا بلغ يسوع اثنتي عشرة سنة من العمر صعد مع مريم ويوسف إلى أورشليم؛ ليسجد هناك حسب شريعة الربّ المكتوبة في كتاب موسى، ولمـّا تمّت صلواته انصرفوا بعد أن فقدوا يسوع؛ لأنّهم ظنّوا أنّه عاد إلى الوطن مع أقربائهم ولذلك عادت مريم ويوسف إلى أورشليم ينشدان يسوع بين الأقرباء والجيران.

وفي اليوم الثالث وجدوا الصبيَّ في الهيكل وسطَ العلماء يحاجّهم في أمر الناموس، وأُعجبَ كلّ أحدٍ بأسئلته وأجوبته، قائلاً: كيف أُوتي مثل هذا العلم وهو حَدث ولم يتعلّم القراءة؟ فعنّفته مريم قائلةً: يا بنيّ ماذا فعلت بنا، فقد نشدتُك وأبوك ثلاثة أيّام ونحن حزينان، فأجاب يسوع: أَلا تعلمين أنّ خدمة اللّه يجب أنْ تُقدّم على الأب والأُمّ، ثمّ نزل يسوع مع أُمّه ويوسف إلى الناصرة، وكان مطيعاً لهما بتواضع واحترام... (١)

ولعلّ هذا هو المراد بتكلّمه مع الناس صغيراً وكبيراً ( في المهد وكهلاً ) ... واللّه العالم.

الكُهولة هو تخطّي الثلاثين

قال الراغب: الكَهْلَ مَن وَخَطه الشيبُ، (٢) أي خالطَ سوادَ شَعَره، وهو الذي تخطّى الشبابَ وحانتْ مشيبتُه.

____________________

(١) قصص الأنبياء للنجار، ص٣٨٦ - ٣٨٧.

(٢) المفردات للراغب الإصبهاني، مادة (كَهَل).

٩٣

والمعروف أنّ المسيح (عليه السلام) أُرسِل إلى الناس عندما بلغ ثلاثين سنة، ورُفع إلى السماء بعد ثلاث سنين (١) .

لكنْ الشباب قبل بلوغ ثلاثين عاماً، وعنده يأتي دور الكُهُولة حتّى نهاية الأربعين.

قال الجوهري - في الصحاح -: الكَهْل من الرجال الذي جاوزَ الثلاثين ووَخَطه الشيب، وقال ابن الأثير - في النهاية -: الكَهْل من الرجال مَن زاد على ثلاثين سنة إلى أربعين، فما بين الثلاثين والأربعين هي سنّ الكهولة.

ويبدو من كلام أهل اللغة أنّ الكُهُولة هي السنّ التي تجتمع فيها القِوى، ويكون المـَرء في أجمع قواه ما بين سنّ الثلاثين فإلى أربعين.

قال ابن فارس: الكاف والهاء واللام أصل يدلّ على قوّة في الشيء أو اجتماع جبلّةٍ، من ذلك الكاهل: ما بين الكتفَين، سُمّي بذلك لقوّته، ويقولون للرجل المـُجتمِع إذا وَخَطه الشيب: كَهْلٌ وامرأة كَهْلةٌ (٢) ، قال أبو منصور الثعالبي: يقال للرجل إذا اجتمعت لحيتُه وبلغ غايةَ شبابِهِ: مجتمِع (٣) .

التبشير بِمَقدم رسول الإسلام مُحمّد (صلّى الله عليه وآله)

( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) (٤) .

أنكروا وجود هذه البِشارة في بشائر المسيح (عليه السلام)؛ بحجّةِ خلوّ الأناجيل عنها!!

لكن البِشارة موجودة، والقوم حرّفوها في التراجم تحريفاً.

جاء التبشير بِمَقدم سيّدنا مُحمّد (صلّى الله عليه وآله) في وصايا المسيح (عليه السلام) للحواريّين والذين اتّبعوه بلفظةٍ تدلّ على وصف المـُبَشّر به بأنّه (كثير المـَحمَدَة) المـُنطَبِقة مع لفظةِ (أحمد) وهو أفعل التفضيل من الحَمد.

____________________

(١) تفسير آلاء الرحمان للبلاغي، ج ١، ص ٢٨٤.

(٢) معجم مقاييس اللغة لابن فارس، ج ٥، ص ١٤٤.

(٣) فقه اللغة وسِرّ العربية للثعالبي، ص ١١١.

(٤) الصفّ ٦١: ٦.

٩٤

وكانت لغةُ المسيح التي بَشّر بها هي العِبرانيّة، وهي لغةُ إنجيل يوحنّا الذي جاء فيه هذا التبشير، لكنّها تُرجِمت إلى اليونانيّة ولم يُعرف المـُترجم ولا سبب التَرجمة إليها... وضاع الأصل ولم يَعد له وجود حتّى الآن.

والتَراجم الموجودة حاليّاً هي تراجم عن النُسَخ اليونانيّة.. والبِشارة في اليونانيّة كانت بلفظة (بير كلوطوس) ومعناها: (الذي له حمدٌ كثير).

لكن القوم حرّفوا اللفظة إلى (باراكلي طوس) لتُتَرجم إلى المـُبشَّر أو المـُسلَّى أو المـُعزَّى (١) وجاء تعريبُها (فار قليطا) كما هو معروف.

* * *

يقول الأستاذ النجّار: كنتُ في سَنة ١٨٩٣ - ١٨٩٤ ميلاديّة طالباً بدار العُلوم في السَنة الأُولى، وكان يجلس بجانبي - في درس اللغة العربيّة - العلاّمة الكبير الدكتور (كارلونلينو) المـُستَشرق التلياني، وكان يحضر درس اللغة العربيّة بتوصيةٍ من الحُكومة الإيتاليّة.

فانعقدت أواصر الصُحبة المتينة بيني وبينه، وكان المرحوم (أحمد بك نجيب) يُعطي محاضراتٍ في الانفتياتر والعمومي، وكنّا نَحضَرُها ونُعطي مَلازِمَ من كتابهِ (الأثر الجليل في قدماء وادي النيل)، ففي ليلةِ السابع والعشرين من شهر رجب سنة ١٣١١ خرجنا بعد المحاظرة وسُرنا في (درب الجماميز)، فقال لي الدكتور (نلينو): هذه الليلة ليلة المِعراج؟ قلت: نعم. فقال: وبعد ثلاثة أيام عيد السيّدة زينب؟ فقلت: نعم...

ثم قلت له - وأنا أعلم أنّه حاصل على شهادة الدكتوراه في آداب اليهود اليونانيّة القديمة -: ما معنى (بيريكلتوس)؟ فأجابني بقوله: إنّ القَسَسَ يقولون: إنّ هذه الكلمة معناها (المـُعَزّى). فقلت: إنّي أسأل الدكتور (كارلونينو) الحاصل على الدكتوراه في آداب اللغة اليونانيّة القديمة ولستُ أسأل قسّيساً! فقال: إنّ معناها: (الذي له حمدٌ كثير)، فقلت:

____________________

(١) جاء في إنجيل يوحنّا، إصحاح ١٥ / ٢٦ و ٢٧: ومتّى جاء المـُعَزّى الذي سأرسله أنا إليكم من الأب روح الحقّ الذي من عند الأب ينبثق فهو يشهد لي وتشهدون أنتم أيضاً؛ لأنّكم معي من الابتداء.

وفي إصحاح، ١٦ / ٧: لكنّي أقول لكم الحقّ، إنّه خير لكم أنْ أنطلق؛ لأنّه إن لم انطلق لا يأتيكم المعزّى، ولكن إنْ ذهبت أرسله إليكم.

وفي النسخة الفارسيّة جاءت عبارة)تسلّى دهنده): أي المـُسلّي.

٩٥

هل ذلك يُوافق أفعل التفضيل مِن حَمَدَ؟ فقال: نعم! فقلت: إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من أسمائه (أحمد)، فقال: يا أخي أنت تحفظُ كثيراً... وقد ازددت بذلك تثبّتاً في معنى قولهِ تعالى حكايةً عن المسيح: ( وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) (١) .

وقال الحجّة البلاغي: الكلمة في الأصل اليوناني (بير كلوطوس) الذي تعريبه (فيرقلوط) بمعنى (كثير المـَحمَدَة) الموافق لاسم (أحمد) و (مُحمّد)، لكنّهم صححّوه - حَسَبَ زعمهم - إلى (بيراكلي طوس) ويعبّرون عنه بـ (فارقليط) كما عن التَراجم المطبوعة بلندن سنة (١٨٢١ و ١٨٣١ و ١٨٤١م) ومطبوعةِ وليم بلندن (١٨٥٧م) على النُسخة الروميّة المطبوعة سنة (١٦٦٤م)، والتَرجمة العبريّة المطبوعة سنة (١٩٠١م)، لكن أبدلهُ بعض المترجمين إلى لفظة (المـُعَزّى) أو (المـُسلَّى) وشاع ذلك (٢) .

* * *

وذكر مُحمّد بن إسحاق المؤرِّخ الإسلامي المعروف صاحب السيرة النبويّة المتوفّى سنة (١٥١هـ) نقلاً عن إنجيل يوحنّا أنّ كلمة البِشارة كانت بالسريانيّة (المـُنْحَمَنّاً)، وهي بالروميّة (البَرَقليطس)، (٣) يعني: مُحمّداً (صلّى الله عليه وآله).

قال: وقد كان فيما بلغني عمّا كان وَضْعُ عيسى بن مريم فيما جاءه من الله في الإنجيل لأهلِ الإنجيل من صفةِ رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ممّا أثبت لهم (يُحنّس) الحواري (٤) لهم حين نُسِخ لهم الإنجيل عن عهد (٥) عيسى بن مريم (عليه السلام) في رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: (من أبغضني فقد أبغض الربَّ، ولولا أنّي صنعتُ بحضرتهم صنائعَ لم يصنعْها أحد قبلي ما كانت لهم خطيئة، ولكن من الآن بَطِروا وظنّوا أنّهم يُعزّونَني، (٦) وأيضاً للربّ، ولكن لابدَّ مِن أنْ تتمَّ الكلمة التي في الناموس: أنّهم أبغضونني مجّاناً (٧) أي باطلاً، لو

____________________

(١) هامش قصص الأنبياء للنجّار، ص ٣٩٧ - ٣٩٨، والآية ٦ من سورة الصفّ.

(٢) راجع: الرحلة المدرسيّة للبلاغي، ج ٢، ص ٣٣.

(٣) ولعلّه يقصد بالروميّة اليونانيّة، حيث اتصال العرب باليونان يومذاك كان عن طريق الروم الشرقيّة.

(٤) ولعلّه محرّف (يوحنّى)؛ حيث البِشارة بذلك موجودة في إنجيل يوحنّا، إصحاح ١٥ / ٢٦.

(٥) ظاهر العبارة أنّ هذا الإنجيل كُتب متأخّراً عن عهد المسيح (عليه السلام) وهو كذلك؛ لأنّ الأساقفة اجتمعوا عند يوحنّا سنة ٩٦ وقيل: ٦٥، والتمسوا منه أنْ يكتب لهم عن المسيح وينادي بإنجيل ممّا لم يكتبه أصحاب الأناجيل الأُخر (راجع: قصص الأنبياء للنجّار، ص ٤٠١).

(٦) أي يغلبونَني.

(٧) وجاءت عينُ العبارة في إنجيل يوحنّا، إصحاح ١٥ / ٢٣ - ٢٥ هكذا: (الذي يَبغضُني يَبغض أبي أيضاً. لو لم أكنْ قد

٩٦

قد جاء (المـُنْحمنّا) هذا الذي يُرسلُه الله إليكم من عند الربّ روح القُدُس، وهذا الذي مِن عند الربّ خرج، فهو شهيد عليَّ وأنتم أيضاً؛ لأنّكم قديماً كنتم معي، في هذا قلت لكم لكيما لا تشكّوا (١) .

وهذه العبارة الأخيرة أيضاً جاءت في إنجيل يوحنّا، هكذا: ومتّى جاء (المـُعَزّى) الذي سأرسلُه أنا إليكم من الأب روح الذي من عند الأب ينبثق، فهو يشهد لي وتشهدون أنتم أيضاً؛ لأنّكم معي في الابتداء (٢) .

قال ابن إسحاق: والمـُنحمنّا بالسريانيّة: مُحمّد، وهو بالروميّة: البرقليطس (صلّى الله عليه وآله).

انظر إلى هذه التطابق مع إنجيل يوحنّا قبل اثني عشر قرناً، وكيف حصل التحريف في لفظهِ إلى (المـُعَزّى) وغيره.

قِصّة الصّلب

جاءت قصّةُ صَلبِ المسيح (عليه السلام) والأسباب التي دعت إلى صَلبه في الأناجيل مختلفةً أشدّ الاختلاف، فلا تكاد جزئية من الجزئيّات في أحدها تتحدّ مع الجزئيّة نفسها في إنجيل آخر.

ولمـّا كانت هذه الأناجيل من تأليف أُناس يدّعي المسيحيّون لهم الإلهام ويعتقدون خلوّها من الخطأ، كان ينبغي أنْ تكون كُتُبهم في مثل هذه الحادثة المهمّة - التي هي مناط النجاة ومدعاة الإيمان في نظرهم - متطابقةً متوافقةً، بحيث لا يكون فيها اختلاف أصلاً؛ إذ النفس لا تطمئنّ إلى الأخذ بروايات جاءت بشأن قضيّةٍ واحدةٍ إذا اختلفت وتضارب بعضها مع البعض، الأمر الذي يُنبئ عن عدم أمانة الراوي كلَّ الأمانة، وتزول الثقة بروايتهِ، فلم يجز التصديق بها في نظر الاعتبار.

____________________

عملتُ بينهم أعمالاً لم يعملْها أحد غيري لم تكن لهم خطيئة، وأمّا الآن فقد رأوا وأبغضوني أنا وأبي، لكن لكي تتمّ الكلمة المكتوبة في ناموسهم: إنّهم أبغضوني بلا سبب...).

(١) راجع: سيرة ابن هشام، ج ١، ص ٢٤٨؛ والروض الأنف، ج ١، ص ٢٦٤.

(٢) إصحاح ١٥ / ٢٦ - ٢٧.

٩٧

وقد فصّل الكلام الأستاذ النجّار عن هذا الاختلاف الفاحش، وأبانَ مواضعَ التناقضِ والتهافتِ بين الأناجيل بشأن قصّةِ الصَلبِ، قال: لم تختلف الأناجيل الأربعة في مسألةٍ من المسائل كاختلافها في تفصيلِ مسألةِ صَلب المسيح وقتلهِ (١) .

قال: إنّ أدنى نظر يَهدي إلى أنّ عبارات هذه الأناجيل الأربعة متخالفة، وشهادتها لا تصلح أنْ تكون مُستنداً يَثبت به أمرٌ له مِن الأهميّة مثل ما لمسألةِ صَلبِ المسيح التي يدّعيها المسيحيّون ويجعلونها أساسَ إيمانهم:

١ - إنّ (متّى) يقول: إنّ يسوع جاء مع تلاميذه إلى قرية (جثيماني). ووافقه (مرقس)، وخالفهما (لوقا) وقال: إلى جبل الزيتون. وقال (يوحنّا): عِبر وادي (قدرون).

٢ - وقال (متّى): ثُمّ أخذ معه (بطرس) وابني (زبدى) وابتدأ يَحزن ويَكتئب، ووافقه (مرقس)، وخالف (لوقا) في ذلك وذكر أنّه انفصل عنهم رمية حجرٍ وصار يُصلّي، وأسقط (يوحنا) هذه العبارة.

٣ - ذكر (متّى) أنّه قال لمن معه: (نفسي حزينة حتّى الموت، امكثوا هاهنا واسهروا معي) ثُمّ راجعهم فوجدهم نياماً وهكذا للمرّة الثانية والثالثة فأنبأهم للمرّة الثالثة أنّ (ابن الإنسان) - يعني نفسه - سُلِّم إلى أيدي خُطاة، ثُمّ قال: قوموا نتطلّق هوذا الذي يُسلمني قد اقترب. وعبارة (مرقس) توافق عبارة (متّى) في المعنى.

وأمّا (لوقا) فزاد: أنّ مَلَكاً من السماء نزل إلى المسيح يُقويه، وأنّه كان يصلّي بأشدِّ لجَاجةٍ وصار عرقُهُ كقطراتِ دمٍ، وأسقط مجيئَه إلى التلاميذ للمرّة الثالثة.

وأمّا (يوحنا) فقد أسقط ذلك كلّه ولم يَذكر شيئاً منه، وهو أحد الثلاثة الذين انفرد بهم يسوع عن سائر التلاميذ، وهو دليل على عدم حصول شيء من ذلك.

٤ - قال (متّى): وفيما هو يتكلّم إذا يهوذا أحد الإثني عشر قد جاء ومعه جمعٌ كثير بسيوف وعصيٍّ من عند رؤساء الكَهَنة وشيوخهم وشيوخ الشعب، والذي سلّمه أعطاهم علامةً قائلاً: هو هو امسكوه، فلِلوقتِ تقدّمٌ إلى يسوع وقال: السلام عليك يا سيّدي وقبّله،

____________________

(١) راجع: قصص الأنبياء للنجّار، ص ٤٣٣ - ٤٥٢.

٩٨

فقال يسوع: يا صاحب لماذا جئت؟ حينئذٍ تَقدّموا وألقوا الأيادي على يسوع وأمسكوه.

وافق (مرقس) (متّى) في المعنى، وقال (لوقا): إنّ المسيح قال: يا يهوذا أبِقُبلةٍ تُسلم ابن الإنسان؟! بدل قوله (يا صاحب لماذا جئت). وزاد: إنّ المسيح خرج إليهم وقال: مَن تطلبون؟ قالوا: يسوع الناصري، فقال لهم: أنا هو، فرجعوا إلى الوراء وسقطوا على الأرض. ثم أعاد سؤاله وأعادوا الجواب، ثم قال: فإن كنتم تَطلبونَني فَدَعُوا هؤلاءِ يذهبون.

٥ - ذكر (متّى) أنّهم قبضوا على يسوع، ثُمّ أنّ بطرس استلّ سيفه وضرب عبدَ رئيس الكَهَنة فقطع أُذُنَه، حينئذٍ تركه التلاميذ كلّهم وهربوا، أمّا (مرقس) فلمْ يَذكر هربَ التلاميذ، وأمّا (لوقا) فانفرد عن الجميع بأنّ المسيح لَمَسَ أُذُنَ العبد وأبرأها.

٦ - يقول (متّى): إنّ الذين أمسكوا يسوع مضوا به إلى (قيافا) رئيس الكَهَنة. وأمّا (يوحنّا) فقال: إنّهم أوثقوه وذهبوا إلى (حنّان) حما (قيافا).

٧ - ذكر (متّى) أنّ رؤساء الكَهَنة والشيوخ والجمع كلّه كانوا يَطلبون شهادةَ زُورٍ على يسوع فلمْ يجدوا، ومع أنّه جاء شهودُ زُورٍ كثيرون لم يجدوا.

قال الأُستاذ النجّار: انظروا إلى هذا الكلام الغَلق المتناقض كلَّ التناقض، إذا كانوا طلبوا شهود زُورٍ فلم يجدوا فيكف يقول بعد ذلك: (ومع أنّه جاء شهود زُورٍ كثيرون لم يجدوا)؟!

٨ - المفهوم صراحةً من عبارة (متّى) و (مرقس) أنّ المـُحاكمة كانت ليلاً عَقِب القبض على المسيح ووصوله إلى دار رئيس الكَهَنة، ولكن (لوقا) و (يوحنّا) جعلا المـُحاكمة صباحاً.

٩ - قال (يوحنّا): وكانت واقفات عند صلب المسيح أمّه وأخت أمّه وكلّم المسيح مع أنّه، وقد انفرد (يوحنّا) يذكر هذه العبارة. وأمّا (لوقا) فلم يذكر قرب أحد من معارفه إليه ولم يشر إليهم بكلمة ولم يَذكر (مرقس) أحداً من معارفه نظر حادثة الصَلب من قريب.

٩٩

١٠ - ذكر (متّى) أنّ حجاب الهيكل قد انشقّ إلى نصفين اثنين من فوقٍ إلى أسفلٍ حين أسلم المسيحُ الروحَ، والأرض تزلزلت والصخور تشقّقت والقبور تفتّحت، وقام كثيرٌ من أجساد القدّيسين الأموات، وأمّا (مرقس) فقد أهملَ هذا القول كلّه ولم يذكر منه شيئاً، وقال (لوقا): واظلمت الشمس وانشقّ حجاب الهيكل، ولم يَذكر زلزلةَ الأرض ولا غير ذلك ممّا ذكره (متّى).

وعدّد الأستاذ النجّار أكثرَ من ثلاثينَ موضعاً خالفتْ فيها الأناجيل، وعقّبها بقوله: أراني قد مَلَلتُ جدّاً من إيرادِ الأقوال المتخالفة بهذا الشأن، وأظنّ أنّ القارئ قد سَئِم كما سَئِمتُ، ولو ذهبتُ في هذا الشوط اُعدّد هذا التضادّ بين الأناجيل لأضعت وقتاً ثميناً.

قال: وبعد ذلك فهل يظنّ ظانّ أنّ مُحمّداً (صلّى اللّه عليه وآله) هو الذي ابتدع مسألة نفي صَلب المسيح؟ (١)

وإذا نظرنا إلى مسألة صَلب المسيح وقتلَه لم نجدْها عند المسيحيّين إجماعيّة، بل وُجِد مِن طوائف المسيحييّن مَن ينفي الصَلب والقتل. منهم: (الساطرينوسيون) و(الكاربو كراتيون) و(المركيونيّون) و(البارديسيانيون) و(التاتيانسيون) و(البارسكاليونون) و(البوليسيون)... وهؤلاءِ مع كثيرينَ غيرهم لم يُسلِّموا بوجهٍ من الوجوه: أنّ المسيح سُمِّر فعلاً ومات على الصَليب.

وما ذكرنا هنا مقرّر في تأريخهم الذي يُدرَّس في مدارس اللاهوت الإنجيليّة باسم (موسى هيم). وهناك شهادات من علماء النصرانيّة تفيد المطّلع بصيرةً:

١ - قال الميسو (ارادوار سيوس) الشهير - أحد أعضاء (الانسيتودي فرانسي) في باريس والمشهور بمعارضة المسلمين - في كتابه (عقيدة المسلمين في بعض مسائل النصرانيّة، ص٤٩): إنّ القرآن ينفي قتلَ عيسى وصَلبَه، ويقول بأنّه شبّهه على غيره فغَلطَ اليهودُ فيه وظنّوا أنّهم قتلوه، قال: وما قاله القرآن موجودٌ عند طوائفٍ من المسيحيّين، منهم (الباسيليديون) كانوا يعتقدون أنّ عيسى وهو ذاهب لمحلّ الصلب ألقى الشبه على

____________________

(١) بل لم يكن له غاية من هذا النفي، ولعلّ إثباته أنفع له؛ حيث اليهود الّذين واجههم كانوا يَقتلون الأنبياء بغير حقٍّ. فكانت حادثةُ صَلب المسيح على أيديهم أدلَّ شيء على هذا المدّعى، الأمر الذي يدلّ على أنّ مُحمّداً (صلّى اللّه عليه وآله) كان على وضعِ بيان الحقيقة لا غير.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

فأحرجها قائلة: إلى الله أشكو عقوق أبنائي(٦٦٥) .

[ عبدالله بن حكيم التميمي وطلحة ]

جاء عبدالله بن حكيم يناشد طلحة فيقول له(١) : يا أبا محمد أما هذا كتبك إلينا ؟. قال طلحة: بلى قال: كتبت أمس تدعونا إلى خلع عثمان وقتله، حتى إذا قتلته أتيتنا ثائرا بدمه ! فلعمري ما هذا رأيك، ان تريد إلا هذه الدنيا، فمهلا مهلا. ولم قبلت من علي ما عرض عليك من البيعة، فبايعته طائعا راضيا، ثم نكثت بيعتك، وجئت لتدخلنا في فتنتك ؟ فقال: ان عليا دعاني إلى بيعته بعدما بايعه الناس(٢) ، فعلمت إني لو لم أقبل ما عرضه علي لم يتم لي الأمر، ثم يغري بي من معه(٦٦٦) .

[ حكيم من بني جشم ينصح أهل البصرة ]

لما انتهت عائشة بمن معها إلى المربد - مكان من البصرة - قام الجشمي يخاطب أهل البصرة وقد اجتمعوا هناك فيقول(٣) : أنا فلان بن فلان الجشمي وقد أتاكم هؤلاء القوم، فان أتوكم خائفين، فانما أتوكم من المكان الذي يأمن فيه الطير والوحش والسباع، وان كانوا أتوكم بدم عثمان فغيرنا ولي قتله، فأطيعوني أيها الناس وردوهم من حيث أقبلوا، فانكم ان لم تفعلوا لم تسلموا من الحرب الضروس، والفتنة الصماء، فحصبه من أهل البصرة أشياع الجمل(٦٦٧) .

____________________

(٦٦٥) (١) كما في ص ٥٠٠ من المجلد الثاني من شرح النهج الحميدى (منه قدس).

(٢) كذب هذا الناكث، إذ كان أول مبايع لعلى، نعوذ بالله من سوء الخاتمة (منه قدس).

(٦٦٦) الغدير ج ٩ / ٩٩.

(٣) كما في أواخر ص ٤٩٨ من المجلد الثاني من شرح النهج الحميدى (منه قدس)

(٦٦٧) تاريخ الطبري ج٥ / ١٧٥ (*).

٤٦١

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٤٤١: -

[ خطاب عائشة في أهل البصرة ]

ثم أقبلت عائشة على جملها عسكر، فنادت بصوت مرتفع(١) : أيها الناس أقلوا الكلام واسكتوا، فسكت الناس لها فقالت: أيها الناس ان أمير المؤمنين عثمان كان قد غير وبدل، ثم لم يزل يغسل ذلك بالتوبة حتى قتل مظلوما تائبا، وانما نقموا عليه ضربه بالسوط، وتأميره الشبان، وحمايته موضع الغمامة فقتلوه محرما في حرمة الشهر وحرمة البلد ذبحا كما يذبح الجمل، ألا وان قريشا رمت غرضها بنبالها، وأدمت أفواهها بأيديها، وما نالت بقتلها اياه شيئا، ولا سلكت به سبيلا قاصدا، أما والله ليرونها بلايا عقيمة تنبه القائم، وتقيم الجالس، وليسلطن الله عليهم قوما لا يرحمونهم، يسومونهم سوء العذاب.

أيها الناس انه ما بلغ من ذنب عثمان ما يستحل به دمه، ماصوه كما يماص الثوب الرحيض، ثم عدوا عليه فقتلوه بعد توبته، وخروجه من ذنبه، وبايعوا ابن أبي طالب بغير مشورة من الجماعة ابتزازا وغصبا، أترونني أغضب لكم من سوط عثمان ولسانه، ولا أغضب لعثمان من سيوفكم ! ألا ان عثمان قتل مظلوما فاطلبوا قتلته، فإذا ظفرتم بهم فاقتلوهم ثم اجعلوا الأمر شورى بين الرهط الذين اختارهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ولا يدخل فيهم من شرك في دم عثمان.

____________________

(١) كما في ص ٤٩٩ من المجلد الثاني من شرح النهج الحميدى (منه قدس) (*).

٤٦٢

قال أهل السير والأخبار: فماج الناس واختلفوا. فمن قائل: القول ما قالت أم المؤمنين. ومن قائل يقول: ما هي وهذا الأمر انما هي امرأة مأمورة بلزوم بيتها. وارتفعت الأصوات، وكثر اللغط، حتى تضاربوا بالنعال وتراموا بالحصى، ثم تمايزوا فريقين، فريقا مع عثمان بن حنيف، وفريقا مع عائشة وأصحابها(٦٦٨) .

[ وقوف الفريقين للقتال ]

ثم أصبح الفريقان من غد، فصفا للحرب، وخرج عثمان بن حنيف(١) فناشد عائشة الله والإسلام، وأذكر طلحة والزبير بيعتهما عليا. فقالا: نطلب بدم عثمان فقال لهما: وما أنتما وذاك، أين بنوه ؟ أين بنو أعمامه الذين هم أحق به منكم ؟ كلا ولكنكما حسدتما عليا حيث اجتمع الناس عليه، وكنتما ترجوان هذا الأمر، وتعملان له، وهل كان أحد أشد على عثمان قولا منكما ؟ ! فشتماه شتما قبيحا وذكرا أمه، فقال للزبير: لولا صفية ومكانها من رسول الله، فانها أدنتك إلى الظل، وان الأمر بيني وبينك يا ابن الصعبة يعني طلحة. ثم قال: اللهم اني قد أعذرت.

ثم حمل فاقتتل الناس قتالا شديدا، ثم تحاجزوا واصطلحوا على كيفية خاصة، فصلها المؤرخون، أرجأوا فيها الأمر إلى ما بعد وصول أمير المؤمنين إلى البصرة، وأعطى الفريقان على ما كتبوه

____________________

(٦٦٨) وقريب منه في: الكامل لابن الأثير ج ٣ / ١٠٩.

(١) كما في ص ٥٠٠ من المجلد الثاني من شرح النهج الحميدى (منه قدس) (*).

٤٦٣

من الصلح عهد الله وميثاقه، وأشد ما أخذه على نبي من أنبيائه من عهد وذمة وميثاق، وختم الكتاب من الفريقين(٦٦٩) .

لكن عائشة وطلحة والزبير أجمعوا على مراسلة القبائل واستمالة العرب ووجوه الناس وأهل الرئاسة والشرف، من حيث لا يشعر الأمير ابن حنيف وأصحابه، فلما استوثق لأصحاب الجمل أمرهم، خرجوا في ليلة مظلمة ذات ريح ومطر، وقد لبسوا الدروع وظاهروا فوقها بالثياب، فانتهوا، إلى المسجد وقت صلاة الفجر وقد سبقهم عثمان بن حنيف إليه وأقيمت الصلاة فتقدم عثمان ليصلي، فأخره أصحاب طلحة والزبير وقدموا الزبير، فجاءت الشرطة وحرس بيت المال فأخرجوا الزبير وقدموا عثمان، ثم غلبهم أصحاب الزبير وقدموه، فلم يزالوا كذلك حتى كادت الشمس تطلع، فصاح بهم أهل المسجد: ألا تتقون بالله يا أصحاب محمد ؟ وقد طلعت الشمس، فغلب الزبير وصلى بالناس.

فلما فرغ من صلاته صاح بأصحابه المسلحين: أن خذوا عثمان بن حنيف فلما أسر ضرب ضرب الموت ونتفت لحيته وشارباه وحاجباه وأشفار عينيه، وكل شعرة في رأسه ووجهه، وأخذوا الشرطة وحراس بيت المال وهم سبعون رجلا من المؤمنين من شيعة علي فانطلقوا بهم وبعثمان بن حنيف إلى عائشة فقالت لابان بن عثمان: اخرج إليه فاضرب عنقه فان الأنصار قتلوا أباك.

فنادى عثمان بن حنيف: يا عائشة ويا طلحة ويا زبير ان أخي سهلا خليفة علي على المدينة، وأقسم بالله ان لو قتلت ليضعن السيف في نبي أبيكم ورهطكم فلا يبقي ولا يذر. فكفوا عنه.

وأمرت عائشة الزبير أن يقتل الشرطة وحراس بيت المال وقالت له: قد بلغني الذي صنعوا بك، فذبحهم والله الزبير كما

____________________

(٦٦٩) راجع: الكامل ج ٣ / ١١٠، مروج الذهب ج ٢ / ٣٥٨ ط بيروت. (*)

٤٦٤

يذبح الغنم، ولي ذلك منهم ابنه عبدالله وهم سبعون رجلا، وبقيت منهم طائفة مستمسكين بيت المال قالوا: لا ندفعه إليكم حتى يقدم أمير المؤمنين. فسار إليهم الزبير في جيش ليلا فأوقع بهم وأخذ منهم خمسين أسيرا فقتلهم صبرا.

فكان هذا الغدر بعثمان بن حنيف، أول غدر كان في الإسلام، وكان قتل الشرطة وحراس بيت المال أول قوم ضربت أعناقهم من المسلمين صبرا، وكانوا مائة وعشرين رجلا، وقيل كانوا (كما في ٥٠١ من المجلد الثاني من شرح النهج الحميدي) أربعمأة رجل(٦٧٠) .

ثم طردوا عثمان بن حنيف فلحق بعلي، فلما رآه بكى وقال له: فارقتك شيخا وجئتك أمرد. فقال علي: انا لله وانا إليه راجعون. يقولها ثلاثا(٦٧١)

وقد منيعليه‌السلام في هذه المأساة بغصة لا تساغ، كان يشكو بثه فيها وحزنه إلى الله فيقول على المنبر: " اللهم إني أستعديك على قريش ومن أعانهم، فانهم قطعوا رحمي، وصغروا عظيم منزلتي، وأجمعوا على منازعتي أمرا هو لي ثم قالوا: ألا ان في الحق ان تأخذه، وفي الحق أن تتركه "(٦٧٢) (ثم ذكر أصحاب الجمل فقال): " فخرجوا يجرون حرمة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كما تجر الأمة عند شرائها متوجهين بها إلى البصرة، فحبسا نساءهما في بيوتهما، وأبرزا حبيس رسول الله لهما ولغيرهما في جيش ما منهم رجل إلا وقد أعطاني الطاعة وسمح لي بالبيعة طائعا غير مكره فقدموا على عامل بها وخزان بيت مال المسلمين وغيرهم من أهلها، فقتلوا طائفة صبرا وطائفة غدرا. " الخطبة وهي في نهج البلاغة(٦٧٣) .

____________________

(٦٧٠) مروج الذهب ج ٢ / ٣٥٨.

(٦٧١) تاريخ الطبري ج ٥ / ١٨٦.

(٦٧٢) نهج البلاغة الخطبة - ٢١٧ -.

(٦٧٣) نهج البلاغة الخطبة - ١٧٢ - (*).

٤٦٥

[ موقف حكيم بن جبلة(١) ]

لما بلغ حكيم بن جبلة ما صنع القوم بعثمان بن حنيف وخزان بيت مال المسلمين وغيرهم خرج في ثلثمائة من عبدالقيس وكان سيدهم. فخرج القوم إليه وحملوا عائشة على جمل، فسمي ذلك اليوم يوم الجمل الأصغر، ويومها مع علي يوم الجمل الأكبر.

وتجالد الفريقان بالسيوف وأبلى حكيم وأصحابه بلاء حسنا، لكن شد رجل من الأزد من عسكر عائشة على حكيم فضرب رجل فقطعها، ووقع الأزدي عن فرسه، فجثا حكيم فأخذ رجله المقطوعة فضرب بها الأزدي فصرعه ثم دب إليه فقتله خنقا متكئا عليه حتى زهقت نفسه، فمر بحكيم إنسان وهو يجود بنفسه فقال له: من فعل بك هذا ؟ قال: وسادي فنظر فإذا الأزدي تحته.

وكان حكيم من أبطال العرب وشجعان المسلمين المستبصرين في شأن أهل البيت، وقد قتل معه ابنه الأشرف وإخوة له ثلاثة، وقتل معه أصحابه كلهم وهم ثلثمائة من عبدالقيس وكلهم من الاخيار، وربما كان بعض المقتولين يومئذ من بكر بن وائل. فلما صفت البصرة لعائشة وطلحة والزبير بعد قتل حكيم وأصحابه، وطردا ابن حنيف عنها.

اختلف طلحة والزبير في الصلاة، وأراد كل منهما أن يؤم بالناس، وخاف أن تكون صلاته خلف صاحبه تسليما له، ورضي بتقدمه ،

____________________

(١) فصله أهل السير والأخبار فراجعه في ص ٥٠١ من المجلد الثاني من شرح النهج (منه قدس) (*).

٤٦٦

فأصلحت بينهما عائشة بأن جعلت الإمامة يوما لعبد الله بن الزبير، ويوما لمحمد ابن طلحة ولما دخلوا بيت المال في البصرة ورأوا ما فيه من الأموال. قرأ الزبير - وقد استفزه الفرح -:( وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ ) فنحن أحق بها من أهل البصرة(٦٧٤) .

هذا مجمل ما كان في البصرة من الأحداث قبل وصول أمير المؤمنين إليها.

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٤٤٦: -

[ وصول علي إلى البصرة والتقاء الجمعين ]

ثم جاء علي بعدها إلى البصرة بمن معه فنهدت إليه عائشة بمن معها تذوده عنها، وكانت رابطة الجأش، مشيعة القلب فكف يده عنها وعنهم باذلا وسعه في إصلاح ذا البين على ما يرضي الله تعالى ورسوله، وبلغ في ذلك كل مبلغ من قول أو فعل.

حتى روى ابن جرير الطبري(١) وغيره من اثبات أهل السير والأخبار: ان عليا دعا إليه الزبير يومئذ فذكره بكلمة قالها النبي له بمسمع منه وهي قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : " ليقاتلنك ابن عمتك هذا وهو لك ظالم "(٦٧٥) فانصرف عنه الزبير

____________________

(٦٧٤) اختلاف طلحة والزبير في الإمارة: مروج الذهب ج ٢ / ٣٥٧، تاريخ الطبري ج ٥ / ١٨٢.

(١) في خبر وقعة الجمل أواخر ص ٥١٩ من الجزء الثالث من تاريخ الأمم والملوك (منه قدس).

(٦٧٥) يوجد هذا الحديث بهذا اللفظ وقريب منه في كل من: المستدرك للحاكم ج ٣ / ٣٦٦ وصححه هو والذهبي، الأغاني لأبي الفرج ج ١٦ / ١٣١ و ١٣٢، العقد الفريد ج ٢ / ٢٧٩، مروج الذهب ج ٢ / ٣٦٣، الكامل لابن الأثير ج ٢ / ١٢٢، مطالب السئول ص ٤١، الرياض النضرة ج ٢ / ٢٧٣، مجمع الزوائد ج ٧ / ٢٣٥، =>

٤٦٧

وقال: فاني لا أقاتلك ورجع إلى ابنه عبدالله فقال: مالي في هذا الحرب بصيرة، فقال له ابنه: انك قد خرجت على بحيرة ولكنك رأيت رايات ابن أبي طالب وعرفت ان تحتها الموت فجبنت. فأحفظه ولده حتى أرعد وغصب وقال ويحك إني قد حلفت له أن لا أقاتله، فقال ابنه: كفر عن يمينك بعتق غلامك سرجس. فأعتقه وقام في الصف معهم(٦٧٦) .

وقال الطبري: وكان علي قال للزبير: أتطلب مني دم عثمان وأنت قتلته سلط الله على أشدنا عليه اليوم ما يكره(١) ، ودعا علي طلحة فقال: يا طلحة جئت بعرس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تقاتل بها وخبأت عرسك في البيت، أما بايعتني ؟. قال: بايعتك وعلى عنقي اللج، وأصر طلحة على الحرب.

وحينئذ رجع علي إلى أصحابه فقال لهم (فيما حكاه الطبري وغيره): أيكم يعرض عليهم هذا المصحف(٢) وما فيه، فان قطعت يده أخذه بيده الأخرى فان قطعت أيضا أخذه بأسنانه. قال فتى شاب: أنا. فطاف علي على أصحابه يعرض ذلك عليهم، فلم يقبله إلا ذلك الشاب. فقال له علي: أعرض عليهم هذا

____________________

=> فتح الباري لابن حجر ج ١٣ / ٤٦، المواهب اللدنية للقسطلاني ج ٢ / ١٩٥، شرح المواهب للزرقاني ج ٣ / ٣١٨ وج ٧ / ٢١٧، الخصائص الكبرى للسيوطي ج ٢ / ١٣٧، السيرة الحلبية ج ٣ / ٣١٥، شرح الشفا للخفاجي ج ٣ / ١٦٥، الغدير للأميني ج ٣ / ١٩١ وج ٩ / ١٠١، تاريخ الطبري ج ٥ / ٢٠٠ و ٢٠٤، تذكرة الخواص ص ٧٠.

(٦٧٦) تاريخ الطبري ج ٥ / ٢٠٠، الكامل في التاريخ ج ٣ / ١٢٣، مروج الذهب ج ٢ / ٣٦٣، تذكرة الخواص ص ٧٠.

(١) راجع ص ٥٢٠ من الجزء الثالث من تاريخ الأمم والملوك، وقد استجاب الله دعاء على فسلط الله على الزبير عمرو بن جرموز فقتله في ذلك اليوم (منه قدس).

(٢) تنبغي الإشارة إلى ان ابن العاص أخذ حيلة المصاحف في صفين من هذه الواقعة وأساء استخدامها كما لا يخفى (منه قدس).

٤٦٨

وقل هو بيننا وبينكم من أوله إلى آخره، والله الله في دمائنا ودمائكم. فلما جاءهم الفتى حملوا عليه وفي يده المصحف فقطعوا يديه، فأخذه بأسنانه حتى قتل، وعندئذ قال علي لأصحابه: قد طاب لكم الضراب فقاتلوهم.

ورثت أم الغلام المرسل بالمصحف بقولها فيما رواه الطبري(١) :

لاهم ان مسلما دعاهم

يتلو كتاب الله لا يخشاهم

وأمهم قائمة تراهم

يأتمرون الغي لا تناهم

قد خضبت من علق لحاهم(٦٧٧)

وبرزت ربه الجمل والهودج إلى المعركة، وقد عصفت في رأسها النخوة ونزت فيه سورة الانفة، فأدركتها حمية منكرة، وكانت أجرأ من ذي لبدة، قد جمعت ثيابها على أسد، تلهب حماسها في جيشها، فتدفعهم به إلى الموت دون جملها، وقد نظرت عن يسارها فقالت: من القوم عن يساري؟.

فأجابها صبرة بن شيمان (كما في الكامل لابن الأثير وغيره): نحن بنوك الأزد.

فقالت: يا آل غسان حافظوا اليوم على جلادكم الذي كنا نسمع به في قول القائل :

وجالد من غسان أهل حفاظها

وكعب وأوس جالدت وشبيب

فكان الأزد يأخذون بعر الجمل يشمونه ويقولون: بعر جمل أمنا ريحه ريح المسك، وقالت لمن يمينها: من القوم عن يمينى ؟. قالوا: بكر بن وائل. قالت: لكم يقول القائل :

وجاءوا إلينا في الحديد كأنهم

من العزة القعساء بكر بن وائل

____________________

(١) راجع ص ٥٢٢ من الجزء الثالث من تاريخ الأمم والملوك (منه قدس).

(٦٧٧) تاريخ الطبري ج ٥ / ٢٠٤ و ٢٠٦، تذكرة الخواص ص ٧١، مروج الذهب ج ٢ / ٣٦١ (*).

٤٦٩

انما بازائكم عبدالقيس. وأقبلت على كتيبة بين يديها فقالت: من القوم ؟ قالوا: بنو ناجية. قالت: بخ بخ سيوف أبطحية قرشية، فجالدوا جلادا يتفادى منه، فكأنما أشعلت فيهم من الحماسة نارا تلظى. وتتابع حملة اللواء على خطام جملها مستميتين يقولون :

يا أمنا يا زوجة النبي

يا زوجة المبارك المهدي

نحن بنو ضبة لا نفر

حتى نرى جما جما تخر

يخر منها العلق المحمر

وما زالت تستفز حميتهم حتى عقر الجمل، بعد ان قتل على خطامه أربعون رجلا وكانت الهزيمة بأذن الله. ولو عناية أمير المؤمنين ساعتئذ في حفظها، ووقوفه بنفسه على صونها، لكان ما كان مما أعاذها الله منه في هذه الفتنة العمياء التي شقت عصا المسلمين إلى يوم الدين، وعلى أسسها كانت صفين والنهروان ومأساة كربلا وما بعدها. حتى نكبة فلسطين، في عصرنا هذا.

لكن أخا النبي وأبا سبطيه، وقف على الجمل بنفسه، حين أطفئت الفتنة بعقره، وما ان هوى بالهودج حتى آواه - وفيه عائشة - إلى وارف من ظله منيع، وجعل معها أخاها محمدا ليقوم بمهامها في نسوة من الصالحات، ومن على محاربيه وتفضل عليهم، وأطلق الأسرى من أعدائه الألداء، واختص عائشة من الكرامة بكل ما يناسب خلقه الكريم. وفضله العميم، وحكمته البالغة وهذا كله معلوم بحكم الضرورة من كتب السير والأخبار.

وتسمى هذه الوقعة وقعة الجمل الأكبر. وكانت يوم الخميس لعشر خلون من جمادي الآخرة سنة ست وثلاثين، وتفصيل الوقعتين في كتب السير والتواريخ فلتراجع.

٤٧٠

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٤٥٠: -

وقد كانت القتلى يوم الجمل

الأكبر ثلاثة عشر ألفا من أبناء عائشة فيهم طلحة والزبير بكل أسف، واستشهد يومئذ من أولياء علي اللهم وال من والاه وعاد من عاداه - ألف أو دونه أو أكثر منه(٦٧٨) .

هذا وقد كانت أم المؤمنين من أعلم الناس بأن عليا أخو رسول الله ووليه ووارثه ووصيه(٦٧٩) وانه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله(٦٨٠) وانه

____________________

(٦٧٨) ولأجل المزيد من الاطلاع حول هذه الواقعة راجع: أحاديث أم المؤمنين عائشة ق ١ / ١٢١ - ٢٠٠، الجمل للشيخ المفيد ط الحيدرية، مروج الذهب ج ٢ / ٣٥٩ - ٣٦٠، أسد الغابة ج ٢ / ١١٤ و ١٧٨ وج ١ / ٣٨٥ وج ٤ / ٤٦ و ١٠٠ وج ٥ / ١٤٣ و ١٤٦ و ٢٨٦، الإصابة ج ١ / ٢٤٨ وج ٢ / ٣٩٥، تاريخ الطبري ج ٥ / ١٦٣، الكامل لابن الأثير ج ٣ / ١٠٥، تاريخ الإسلام للذهبي ج ٢ / ١٤٩.

(٦٧٩) كما تقدم تحت رقم (٥٥١ و ٥٥٢ و ٥٥٣ و ٥٥٤).

(٦٨٠) ترجمة الإمام علي بن أبي طالب من تاريخ دمشق لابن عساكر ج ١ / ١٥٧ ح ٢١٩ و ٢٢٠ و ٢٢١ و ٢٢٢ و ٢٢٧ و ٢٣٢ و ٢٣٨ و ٢٤٠ و ٢٤٢ و ٢٤٣ و ٢٤٤ و ٢٤٥ و ٢٤٦ و ٢٤٧ و ٢٤٨ و ٢٥٢ و ٢٥٣ و ٢٥٤ و ٢٥٥ و ٢٦٠ و ٢٦٢ و ٢٦٣ و ٢٦٤ و ٢٧٠ و ٢٧١ و ٢٧٣ و ٢٧٥ و ٢٧٦ و ٢٧٨ و ٢٧٩ و ٢٨٩ و ٢٩٠ ط ١، المستدرك للحاكم ج ٣ / ٣٨، منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ج ٥ / ٤٥، فرائد السمطين ج ١ / ٢٥٣، مصنف ابن أبى شيبة ج ٦ / ١٥٤، مجمع الزوائد ج ٩ / ١٢٣، الاستيعاب بهامش الإصابة ج ٣ / ٣٦، تاريخ بغداد ج ٨ / ٥، إحقاق الحق ج ٥ / ٤٠٠، أنساب الأشراف للبلاذري ج ٢ / ٩٣، مناقب علي بن أبي طالب لابن المغازلي ص ١٨١ ح ٢١٧ و ٢٢١ ط ١، السنن الكبرى للبيهقي ج ٩ / ١٠٦، خصائص أمير المؤمنين للنسائي ص ٥٥ و ٥٦، ينابيع المودة للقندوزي ص ٤٨ ط اسلامبول، صحيح مسلم في باب مناقب علي بن أبي طالب ج ٧ / ١٢١ ط العامرة بمصر، حلية الأولياء ج ١ / ٦٢، الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ / ١١٠ ط دار صادر، السيرة النبوية لابن هشام، البداية والنهاية ج ٤ / ١٨٦ وج ٧ / ٣٣٦، صحيح البخاري باب مناقب علي بن أبي طالب ج ٥ / ٢٣، الكامل في التاريخ ج ٢ / ١٤٩، أسد الغابة ج ٤ / ٢١، تذكرة الخواص ص ٢٥، التاريخ الكبير للبخاري ج ٤ / ٢٦٢، نزل الأبرار ص ٤٣. راجع بقية المصادر فيما تقدم تحت رق م (٤٧٤).

٤٧١

منه بمنزلة هارون من موسى إلا في النبوة(٦٨١) وقد سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: " اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله "(٦٨٢) ، " رحم الله عليا اللهم أدر الحق معه حيث دار "(٦٨٣) .

____________________

(٦٨١) حديث المنزلة: من الأحاديث المتواترة ولأجل الاطلاع على مصادره راجع كتاب سبيل النجاة في تتمة المراجعات ص ١١٧ تحت رقم (٤٧٥) ففيه الكفاية.

(٦٨٢) حديث المولاة: ترجمة الإمام علي بن أبي طالب من تاريخ دمشق لابن عساكر ج ٢ / ١٣ ح ٥٠٨ و ٥١٣ و ٥١٤ و ٥٢٣ و ٥٤٤ و ٥٦٢ و ٥٦٩، كفاية الطالب ص ٦٣ ط الحيدرية وص ١٧ ط الغرى، كنز العمال ج ٦ / ٤٠٣ ط ١ وج ١٥ / ١١٥ ح ٣٣٢ و ٤٠٢ ط ٢، شواهد التنزيل للحسكاني ج ١ / ١٥٧ ح ٢١١ وص ١٩٢ ح ٢٥٠، مجمع الزوائد ج ٩ / ١٠٥، إسعاف الراغبين بهامش نور الأبصار ص ١٥١ ط السعيدية وص ١٣٧ ط العثمانية، خصائص أمير المؤمنين للنسائي ص ٩٦ ط الحيدرية وص ٢٦ و ٢٧ ط مصر، الملل والنحل للشهرستاني ج ١ / ١٦٣ ط بيروت وبهامش الفصل لابن حزم ج ١ / ٢٢٠، شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد ج ١ / ٢٠٩ و ٢٨٩ ط ١ وج ٢ / ٢٨٩ وج ٣ / ٢٠٨ بتحقيق أبو الفضل، منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ج ٥ / ٣٢ ط الميمنية، أنساب الأشراف للبلاذري ج ٢ / ١١٢، نظم درر السمطين للزرندي ص ١١٢، المناقب للخوارزمي ص ٨٠ و ٩٤ و ١٣٠، ينابيع المودة للقندوزي ص ٢٨٩ ط اسلامبول وص ٢٩٧ ط الحيدرية، فرائد السمطين للحمويني ج ١ / ٦٩ ح ٣٦ و ٣٩ و ٤٠، نزل الأبرار للبدخشاني ص ٥١ - ٥٤، وراجع بقية مصادر الحديث في كتاب سبيل النجاة في تتمة المراجعات ص ١٨٢.

(٦٨٣) حديث: " الحق مع علي ". صحيح الترمذي ج ٥ / ٢٩٧ ح ٣٧٩٨، المستدرك للحاكم ج ٣ / ١٢٤، المناقب للخوارزمي ص ٥٦، ترجمة الإمام علي بن أبي طالب من تاريخ دمشق لابن عساكر ج ٣ / ١١٧ ح ١١٥٩ و ١١٦٠، غاية المرام ص ٥٣٩ (باب) ٤٥، شرح النهج لابن أبى الحديد ج ٢ / ٥٧٢ ط ١ وج ١٠ / ٢٧٠ بتحقيق أبو الفضل، منتخب كنز العمال بهامش =>

٤٧٢

وقد شهدت حجة الوداع مع رسول الله فرأته يوم الموقف يشيد بفضله آمرا أمته بالتمسك بثقليه تارة وبخصوص علي أخرى، منذرا بضلال من لم يأخذ بهما معا(٦٨٤) .

ويوم الغدير رأتهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد رقى منبر الحدائج يعهد إلى علي عهده، ويوليه على الأمة بعده، بمسمع ومنظر من تلك الألوف المؤلفة قافلة من حجة الوداع، حيث تفترق بهم الطرق إلى بلادهم(٦٨٥) .

ورأته وقد نظر إلى علي وفاطمة والحسن والحسين يقول لهم: " أنا حرب لمن حاربكم وسلم لمن سالمكم " أخرجه كل من الإمامين أحمد في مسنده(١) والحاكم في صحيحه المستدرك، والطبراني في الكبير، ورواه الترمذي بسنده الصحيح إلى زيد بن أرقم، كما في ترجمة الزهراء من الإصابة(٦٨٦) .

____________________

=> مسند أحمد ج ٥ / ٦٢، الفتح الكبير للنبهاني ج ٢ / ١٣١، جامع الأصول لابن الأثير ج ٩ / ٤٢٠، إحقاق الحق للتستري ج ٥ / ٦٢٦، فرائد السمطين للحمويني ج ١ / ١٧٦ ح ١٣٨، الغدير ج ٣ / ١٧٩، دلائل الصدق ج ٢ / ٣٠٢، المعيار والموازنة للاسكافي المعتزلي ص ٣٥ و ١١٩، نزل الأبرار للبدخشانى ص ٥٦، راجع بقية المصادر في كتاب سبيل النجاة في تتمة المراجعات ص ١٧٠ ط بيروت.

(٦٨٤) تقدم حديث الثقلين مع مصادره تحت رقم (١٥) وسوف يأتي أيضا.

(٦٨٥) الغدير للأميني ج ١ / ٩، فرائد السمطين للحمويني ج ١ / ٧٣ ح ٣٩. ولأجل المزيد من الاطلاع على هذه الحادثة مع مصادرها راجع: سبيل النجاة في تتمة المراجعات ص ١٧٣ تحت رقم (٦١٥ و ٦١٦ و ٦١٧ و ٦١٨ و ٦١٩ و ٦٢٠ و ٦٢١ و ٦٢٢) ففيها مئات المصادر لهذه الواقعة المباركة. وسوف يأتي بعض منها.

(١) راجع من المسند ص ٤٤٢ من جزئه الثاني بالإسناد إلى أبى هريرة (منه قدس).

(٦٨٦) صحيح الترمذي ج ٥ / ٣٦٠ ح ٣٩٦٢، سنن ابن ماجة ج ١ / ٥٢ ح ١٤٥، =>

٤٧٣

ورأتهصلى‌الله‌عليه‌وآله إذ جللهم بكسائه يقول حينئذ: " أنا حرب لمن حاربهم، وسلم لمن سالمهم وعدو لمن عاداهم "(٦٨٧) إلى كثير من أمثال هذه النصوص الصحيحة التي لم يخف شئ منها على أم المؤمنين فانها عيبة الحديث حتى قيل عنها :

حفظت أربعين ألف حديث

ومن الذكر آية تنساها(٦٨٨)

وحسبها ما قد رواه أبوها أبو بكر إذ قال: رأيت رسول الله خيم

____________________

=> المستدرك للحاكم ج ٣ / ١٤٩، تلخيص المستدرك للذهبي بذيل المستدرك، مناقب علي بن أبي طالب لابن المغازلي ص ٦٤ ح ٩٠ ط ١، أسد الغابة ج ٣ / ١١ وج ٥ / ٥٢٣ ذخائر العقبى ص ٢٥، الصواعق المحرقة ص ١١٢ ط الميمنية وص ١٨٥ ط المحمدية، مجمع الزوائد ج ٩ / ١٦٦ و ١٦٩، كفاية الطالب ص ٣٣٠ و ٣٣١ ط الحيدرية وص ١٨٨ و ١٨٩ ط الغرى، ينابيع المودة للقندوزي ص ٣٥ و ١٦٥ و ١٧٢ و ١٩٤ و ٢٣٠ و ٢٦١ و ٢٩٤ و ٣٠٩ و ٣٧٠ ط اسلامبول، شواهد التنزيل للحسكاني ج ٢ / ٢٧، المناقب للخوارزمي ص ٩١، مقتل الحسين للخوارزمي ج ١ / ٦١ و ٩٩، المعجم الصغير للطبراني ج ٢ / ٣، الفتح الكبير للنبهاني ج ١ / ٢٧١، منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ج ٥ / ٩٢، إحقاق الحق ج ٩ / ١٦١ - ١٧٤، نزل الأبرار ص ٣٥ و ١٠٥، فرائد السمطين للحمويني ج ٢ / ٣٩، سمط النجوم ج ٢ / ٤٨٨. وقد تقدم مع مصادر أخرى تحت رقم (١٢٦).

(٦٨٧) نقل ابن حجر الهيثمي في تفسير الآية من آيات فضلهم التي وردت في الفصل الحادي عشر من صواعقه، وقد استفاض قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله حرب علي حربي وسلمه سلمى (منه قدس). الصواعق لابن حجر ص ١٤٢ و ١٨٥ ط المحمدية و ٨٥ و ١١٢ ط الميمنية، الإصابة ج ٤ / ٣٧٨، ينابيع المودة ص ٢٢٩ و ٢٩٤ و ٣٠٩ ط اسلامبول، نظم درر السمطين ص ٢٣٢ و ٢٣٩، مصابيح السنة للبغوي ج ٢ / ٢٨٠، مشكاة المصابيح ج ٣ / ٢٥٨، ذخائر العقبى ص ٢٣، الرياض النضرة ج ٢ / ٢٤٩، وقد تقدم تحت رقم (١٢٨).

(٦٨٨) هذا البيت للشيخ كاظم الأزري راجع الأزرية ص. (*)

٤٧٤

خيمة(١) وهو متكئ على قوس عربية، وفي الخيمة علي وفاطمة والحسن والحسين، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : " معشر الناس أنا سلم لمن سالم أهل الخيمة، حرب لمن حاربهم ولي لمن والاهم، لا يحبهم إلا سعيد الجد طيب المولد. ولا يبغضهم إلا شقي الجد ردئ المولد "(٦٨٩) .

فهل يا ترى كانت أم المؤمنين في هذا الخروج وما إليه تريد الله ورسوله والدار الآخرة، وأنها من المحسنات ؟ تبتغي بذلك الأجر والثواب الذي وعد الله به نساء نبيه إذ يقول:( وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ) (٦٩٠) .

أم كانت ترى أن بينها وبين الله هوادة، تبيح لها ما قد حرمه الله على العالمين ؟ فارتكبت بخروجها - على الإمام - ما أرتكبت آمنة من وعيده إذ يقول:( يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ

____________________

(١) لعل هذه الخيمة هي الكساء الذي جللهم به حين أوحى إليه فيهم: "( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) ". وقد فصلنا ذلك في الفصل الثاني من المطلب الأول من كلمتنا الغراء في تفضيل الزهراء، فليراجعها من أراد الشفاء من كل داء (منه قدس).

(٦٨٩) تجد هذا الحديث منقولا عن أبى بكر الصديق في كتاب عبقرية محمد للأستاذ الكبير عباس محمود العقاد بعين لفظه تحت عنوان - النبي والإمام والصحابة - فراجع (منه قدس).

وأيضا في: فرائد السمطين للحمويني ج ٢ / ٤٠ ح ٣٧٣، المناقب للخوارزمي ص ٢١١، مقتل الحسين للخوارزمي ج ١ / ٤، سمط النجوم ج ٢ / ٤٨٨ راجع بقية المصادر فيما تقدم تحت رقم (١٢٨).

(٦٩٠) سورة الأحزاب: ٢٩ (*).

٤٧٥

وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ) (٦٩١) .

أم أنها يا ترى رأت خروجها ذلك الخروج، عبادة لله وقنوتا منها له ولرسوله وعملا صالحا ؟ فاستأثرت به عملا بقوله تعالى:( وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا ) (٦٩٢) !

أم أنها أرادت أن تمثل التقوى والورع بخروجها دون صواحبها من نساء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لتستأثر من بينهن بالعمل بقوله تعالى:( يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ ) (٦٩٣) .

وهل رأت بيت ابن ضبة بيتها الذي أمرها الله أن تقرأ فيه ؟ ورأت قيادتها لتلك الجيوش سرداقا ضربه طلحة والزبير عليها يصونها عن تبرج الجاهلية الأولى ؟ ويفرغها للصلاة والزكاة وطاعة الله ورسوله ؟(٦٩٤) .

ورأت أنها تكون بذلك كله نصب أمر الله ونهيه إذ يقول عزوجل:( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) (٦٩٥) .

وماذا تقول ؟ أو يقول أولياؤها ؟ في خطاب الله لها ولصاحبتها بقوله:( إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا (١) وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ

____________________

(٦٩١) سورة الأحزاب: ٣٠.

(٦٩٢) سورة الأحزاب: ٣١.

(٦٩٣) سورة الأحزاب: ٣٢.

(٦٩٤) إشارة إلى البيت الذي استقرت فيه في البصرة. راجع: شرح ابن أبى الحديد.

(٦٩٥) سورة الأحزاب: ٣٣.

(١) ثبت بهذه الآية صدور الذنب منهما، ووجوب التوبة عليهما (منه قدس) (*).

٤٧٦

وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (١) * عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا ) (٦٩٦) .

وحسبهما من الله تعالى حجة عليهما، مثله العظيم، الذي ضربه لهما في سورة التحريم، أعني قوله عز من قائل:( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ * وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) (٦٩٧) .

ولله قول من يقول من أبطال أهل البيت علما وعملا :

عائش ما نقول في قتالك

سلكت في مسالك المهالك

وحسبك ما أخرج البخاري

من الصحيح مومئا للدار(٢)

____________________

(١) هذه هي الغاية في الاستعداد لمكافحتهما في نصرته والدفاع عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله بحيث لو تظاهر عليه أهل الأرض في الطول والعرض، ما أعد لمكافحتهم أكثر من هذه القوة كما لا يخفى (منه قدس).

(٦٩٦) سورة التحريم: ٤ و ٥. راجع ما تقدم من مصادر تحت رقم (٦٢٠).

(٦٩٧) سورة التحريم: ٩ و ١٠. راجع: تفسير القرطبي ج ١٨ / ٢٠٢، فتح القدير للشوكاني ج ٥ / ٢٥٥.

(٢) يشير في هذا البيت إلى ما أخرجه البخاري في باب ما جاء في بيوت أزواج النبي من كتاب الجهاد والسير ص ١٢٥ من الجزء الثاني من صحيحه عن عبدالله قال: قام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فأشار إلى مسكن عائشة فقال: ههنا الفتنة ههنا الفتنة حيث يطلع قرن الشيطان، ولفظه عند مسلم: خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من بيت عائشة فقال رأس الكفر من ههنا حيث يطلع قرن الشيطان. فراجعه في كتاب الفتن واشراط الساعة ص ٥٠٣ من الجزء الثاني من صحيحه (منه قدس) (*).

٤٧٧

قد قيل تبت وعلي غمضا

فلم سجدت الشكر لما قبضا "(١)

ولم ركبت البغل في يوم الحسن

تؤججين نار هاتيك الفتن(٦٩٨)

____________________

(١) اشارة إلى ما كان من أم المؤمنين، حين بلغها نعى علىعليه‌السلام من أنها سجدت لله شكرا ثم رفعت رأسها قائلة :

فألقت عصاها واستقر بها النوى

كما قر عينا بالإياب المسافر

ثم سألت: من قتله ؟. فقيل لها: رجل من مراد. فقالت :

فان يك نائيا فلقد نعاه

غلام ليس في فيه التراب

فأنكرت عليها زينب بنت أم سلمة قائلة لها، العلى تقولين هذا يا عائش ؟ !. فأجابت عائش: أنى نسيت، فإذا نسيت فذكروني ! ! (منه قدس).

(٦٩٨) كان الإمام أبو محمد الحسن الزكي سيد شباب أهل الجنة، أنذر الهاشميين قبل وفاته بفتنة يخشاها من بني أمية إذا أراد الهاشميون دفنه عند جده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعهد إلى أخيه سيد الشهداء أن يتدارك الشر إذا هبت عواصفه، بدفنه في البقيع عند جدته فاطمة بنت أسد، وأقسم عليه أن لا يريق في سبيله مل‌ء محجمة من دم. فلما قضى (بأبي وأمي) نحبه، أراد الهاشميون أن يجددوا به العهد بجده رسول الله، أو أنهم أرادوا أن يدفنوه عنده إذا أمنوا الفتنة، فقامت قيامة بني أمية، وأعدوا للحرب عدتها متجهزين بجهازها، وعلى رأسهم مروان بن الحكم وسعيد بن العاص، وكان مروان ينادى يا رب هيجاء هي خير من دعة، أيدفن أمير المؤمنين (عثمان) في أقصى المدينة، ويدفن الحسن مع رسول الله. وجاؤا بعائشة وهي على بغل، تذودهم عن بيتها قائلة: لا تدخلوه بيتي.

ففي ترجمة الحسن من كتاب (مقاتل الطالبيين) لأبي الفرج الاصفهانى المروانى عن على بن طاهر بن زيد يقول: لما أرادوا دفنه، أي الحسن، ركبت عائشة بغلا واستعونت بني أمية ومروان ومن كان هناك منهم ومن حشمهم وهو قول القائل: يوما على بغل، ويوما على جمل. وذكر المسعودي ركوب عائشة البغلة الشهباء، ليومها الثاني من أهل البيت قال: فأتاها القاسم بن محمد بن أبى بكر فقال: يا عمة ما غسلنا رؤوسنا من يوم الجمل الأحمر أتريدين أن يقال: يوم البغلة الشهباء. أه‍. وفى ذلك يقول القائل: =>

٤٧٨

... ..

____________________

=>

تجملت تبغلت ولو عشت تفيلت

لك التسع من الثمن وفى الكل تصرفت

ولنا هنا أن نبحث عن الوجه في كون بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بيتها تدخل فيه من تحب، وتنرود عنه من لا تحب ؟ شأن المالك يتصرف في ملكه المطلق كيف يشاء، فهل يا ترى ملكها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بيته ببيع أو هبة أو نحوهما ؟ كلا. وما أظن ان أحدا قال ذلك أو توهمه.

نعم أسكنها في حجرة من حجرات داره، كما أسكن غيرها من نسائه في حجرات اخر، وكما يسكن كل رجل زوجته في بيته قياما بواجب المرأة على زوجها فان اسكانها من نفقاتها الواجبة لها عليه اجماعا وقولا واحدا. والمرأة انما تسكن في بيت زوجها. فيدها على مسكنها ليست من امارات الملك في شئ، لان المتصرف في مسكنها في الحقيقة، انما هو الرجل، حيث انه هو الذى أسكنها فيه وحيث انه كان يساكنها في نفس البيت، ولو في يومها وليلتها في أقل الفروض.

على انه لو سلمنا ان يد عائشة على حجرتها، امارة تملكها، فلم لم تكن يد الزهراء على فدك امارة على تملكها ؟ ! وشتان بين هاتين اليدين، فان يد البنت على شئ من أملاك أبيها تتصرف فيه على عهده بمنظر منه ومسمع، لمن امارات الملك بلا كلام، ولاسيما إذا كانت نازحة على بيت أبيها إلى بيت زوجها. بخلاف يد الزوجة على حجرة من حجرات دار زوجها، ونحن نحكم العرف البشرى في هذه الفرق بين هاتين اليدين.

ولعل الخليفة يومئذ وهو أبوها، ملكها بيت رسول الله بعد وفاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله بولايته العامة، وهذا ليس بالبعيد، لكنا كنا نأمل منه، أن يعامل بنت رسول الله فيما كان في يدها، معاملة بنته، ولو فعل لكان ذلك أقرب إلى اجتماع الكلمة، ولم شعث الأمة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم (منه قدس). هذه الأبيات. (*)

٤٧٩

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٤٥٩: -

[ الفصل الخامس ] [ تأول خالد بن الوليد ] [ المورد - (٨٦) -: ذلك ما فعله خالد بن الوليد يوم فتح مكة ]

وقد نهاه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يومئذ عن القتل والقتال، كما نص عليه أهل السير والأخبار، ورواه أثبات المحدثين بأسانيدهم الصحيحة، وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله له يومئذ وللزبير: " لا تقاتلا إلا من قاتلكما ".

ولكن خالدا قاتل مع ذلك وقتل نيفا وعشرين رجلا من قريش وأربعة نفر من هذيل فدخل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مكة، فرأى امرأة مقتولة، فسأل حنظلة الكاتب: من قتلها ؟: قال: خالد بن الوليد. فأمره أن يدرك خالدا فينهاه أن يقتل امرأة أو وليدا، أو عسيفا - أي أجيرا -(٦٩٩) إلى آخر ما تجده من هذه القضية في " عبقرية عمر " للأستاذ العقاد ص ٢٦٦.

____________________

(٦٩٩) هذه الحادثة رواها ابن هشام في غزوة حنين في السيرة النبوية ج ١٤ ١٠٠ ولعلها قد تكررت من خالد. (*)

٤٨٠

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578